مجلد 9. و10. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
9.
مجلد 9. خزانة الأدب ولب
لباب لسان العرب
عبد القادر بن عمر البغدادي
= وفيه نظر من وجهين : الأول : أنه عمم في أداة الشرط
وسيبويه خصه بإن كما تقدم وتبعه من بعده .
الثاني : أن مجيء المضارع ضرورة لا شاذ سواء كانت الأداة إن أو غيرها كما تقدم عن
سيبويه .
وروي : ولديك إما يستزدك مزيد فلا شاهد فيه . فإما هي إن الشرطية وما الزائدة .
والبيت من أبيات ستة لعبد الله بن عنمة الضبي أوردها أبو تمام في باب المراثي من
الحماسة وهي : ( أأبي لا تبعد وليس بخالد ** حي ومن تصب المنون بعيد ) ( أأبي إن
تصبح رهين قرارة ** زلج الجوانب قعرها ملحود ) ( فلرب مكروب كررت وراءه ** فمنعته
وبنو أبيه شهود ) ( أنفاً ومحمية وأنك ذائد ** إذ لا يكاد أخو الحافظ يذود ) ) (
فلرب عان قد فككت وسائل ** أعطيته فغدا وأنت حميد ) ( يثني عليك وأنت أهل ثنائه **
ولديك إما يستزدك مزيد ) وقوله : أأبي . . . إلخ الهمزة للنداء وأبي : منادى . ولا
تبعد : لا تهلك وأخبر أن ذلك ليس بكائن من أجل أنه لا يبقى على الدهر ذو حياة .
والمنون : المنية . وبعيد : خبر مبتدأ محذوف أي : فهو بعيد .
____________________
وقوله : تصبح رهين . . .
إلخ أي : إن خليت مكانك وصرت رهين قبر رتق الجوانب لا ينعش صريعه ولا يفك رهينه فلرب
مكروب أي : رب مضيق عليه تعطفت عليه وأنقذته .
وقوله : أنفاً ومحمية : مفعول لأجله أي : فعلت ذلك حمية وأنفة ولأن من سجيتك
الذياد أي : المنع حين لا ذائد لشدة الأمر .
والعاني : الأسير من عنا يعنو إذا خضع أي : ورب أسير أطلقته من إساره ورب سائل
أعطيته فأغنيته فانصرف عنك وأنت محمود مشكور وهو يثني عليك ويشكر نعمتك . ولو عاد
إليك لوجد معاداً إذ لا تضجر ولا تسأم من الإفضال والجود .
وعبد الله بن عنمة شاعر إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الخمسين بعد الستمائة
.
وأنشد بعده : أينما الريح تميلها تمل لما تقدم قبله . وتقدم الكلام عليه قريباً
وبعيداً .
____________________
وأنشد بعده : إن منفس
أهلكته هو قطعة من بيت وهو : وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والأربعين
من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد الستمائة ) الطويل ( وللخيل أيام فمن يصطبر لها
** ويعرف لها أيامها الخير تعقب ) على أن الخير مفعول مقدم لتعقب وتعقب مجزوم جواب
الشرط وإنما كسرت الباء لأن القصيدة مجرورة .
وإنما جاز الكسر في المجزوم دون المرفوع والمنصوب لوجهين : أحدهما : أن الجزم في
الأفعال نظير الجر في الأسماء فلما وجب تحريكه للقافية حركوه بحركة النظير .
والثاني : أن الرفع والنصب يدخلان هذا الفعل ولا يدخل الجر فلو حركوه بالضم أو
الفتح لالتبس حركة الإعراب بحركة البناء بخلاف الكسر فإنه ليس فيه لبس .
قال يعقوب بن السكيت في شرح ديوان طفيل : أراد تعقبه الخيل الخير فقدم وأخر . اه .
____________________
وأجاب الدماميني عن
الكوفيين بأن الخير صفة أيامها أي : أيامها الطيبة فلا فصل لأنه ليس بمفعول للجزاء
فجزم تعقب لعدم الفصل .
وفيه نظر من وجهين : أحدهما : أن الأيام هنا عبارة عن الشدائد المتعلقة برياضة
الخيل ومقاساة أهوالها فلا طيب بالشدائد على النفس والقرينة استعمال الصبر .
ثانيهما : أن تعقب فعل متعد فلا بد له من مفعول وليس هنا منزلاً منزلة الفعل
اللازم . فإذا كان الخير صفة أيامها لا يعلم ما الذي تعقبه الخيل .
ويشهد لما قلنا ما أنشده ابن قتيبة في أبيات المعاني وهو قول الشاعر : الطويل وكل
مفداة العلالة صلدم قال : أي : أعقبهم خيلهم هذه خيراً مما قاموا عليها وصنعوها .
والأهوج : الذي يركب رأسه .
والمهرج بكسر الميم : الكثير الجري .
وقوله : مفداة العلالة يقال لها إذا طلب علالتها وهي بقية جريها : ويهاً فداً لك
ومثله قول طفيل : وللخيل أيام البيت )
والعرب لكثرة انتفاعها بالخيل تسميها الخير قال الله تعالى : إني أحببت حب الخير
عن ذكر ربي حتى توارت بالحجاب . ذكروا أنه لها بالخيل وبالنظر إليها حتى فاتته
صلاة العصر .
____________________
وقال أبو ميمون العجلي :
الزجر والخيل والخيرات كالقرينين وقوله : وللخيل أيام مبتدأ وخير وقوله : ويعرف لا
معطوف على يصطبر ولهذا جزم . وتعقب أي : تحدث الخير في العاقبة . والماضي أعقب
بالهمزة وهو متعد لمفعولين كما فهم من ابن السكيت .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها ستة وسبعون بيتاً قالها في غارة أغارها على طيئ
أكثرها في وصف الخيل .
وبعده : الطويل ( وقد كان حيانا عدوين في الذي ** خلا فعلى ما كان في الدهر فارتبي
) ( إلى اليوم لم تحدث إليكم وسيلة ** ولم تجدوها عندنا في التنسب ) ( جزيناهم أمس
العظيمة إننا ** متى ما تكن منا الوسيقة نطلب ) قال ابن السكيت : قوله : فارتبي
يريد : فاثبتي أيتها العداوة .
وقوله : إلى اليوم . . . إلخ يقول : لم تكن بيننا مودة ولا نسب فيستعطف به .
والوسيقة : الطريدة . والعظيمة : الفظيعة .
وطفيل الغنوي شاعر جاهلي وهو طفيل بن عوف بن خلف بن ضبيس ابن مالك بن سعد بن عوف
بن كعب بن جلان بكسر الجيم وتشديد اللام ابن
____________________
غنم بفتح فسكون ابن غني بن
أعصر . كذا في الجمهرة .
قال الصولي في كتاب الكتاب في خلال وصف الحبر : وسموا طفيلاً الغنوي محبراً
لتحسينه شعره .
وقيل سمي بذلك لقوله يصف برداً : الطويل ( سماوته أسمال برد محبر ** وسائره من
أتحمى معصب ) وسماوة البيت : سقفه . والأتحمي : ضرب من البرود . اه .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان طفيل الغنوي من أوصف العرب للخيل فقال عبد
الملك : )
من أراد ركوب الخيل فليرو شعر طفيل . وقال معاوية : دعوا لي طفيلاً وسائر الشعراء
لكم .
اه .
وقال الأصمعي : كان طفيل أحد نعات الخيل وكان أكبر من النابغتين وليس في قيس فحل
أقدم وقد أورد الآمدي في المؤتلف والمختلف أربعة شعراء كل منهم اسمه طفيل أحدهم
هذا .
____________________
وأنشد بعده : الرجز ( يا
أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع ) على أن الكوفيين استدلوا به على
أن رتبة الجزاء التقديم فرفع تصرع مراعاة لأصله ولو كان رتبته التأخير لجزم .
وأجاب الشارح عنه بأنه ضرورة كما بينه .
وهذا مأخوذ من كلام سيبويه وهذا نصه : وقد تقول : إن أتيتني آتيك أي : آتيك إن
أتيتني .
قال زهير : البسيط ( وإن أتاه خليل يوم مسألة ** يقول لا غائب ما لي ولا حرم ) ولا
يحسن إن تأتيني آتيك من قبل أن إن هي العاملة . وقد جاء في الشعر قال جرير بن عبد
الله البجلي : ( يا أقرع بن حابس يا أقرع ** إنك إن يصرع أخوك تصرع
____________________
) أي : إنك تصرع إن يصرع
أخوك .
ومثل ذلك قوله : البسيط أي : والمرء ذئب إن يلق الرشا . قال الأصمعي : هو قديم
أنشدنيه أبو عمرو .
وقال ذو الرمة : الطويل ( وإني متى أشرف على الجانب الذي ** به أنت من بين الجوانب
ناظر ) أي : إني ناظر متى أشرف . فجاز هذا في الشعر وشبهوه بالجزاء إذا كان جوابه
منجزماً لأن المعنى واحد كما شبه الله يشكرها جعله بمنزلة يشكرها الله .
وكما قالوا في اضطرار : إن تأتني أنا صاحبك تريد معنى الفاء فتشبهه ببعض ما يجوز
في الكلام حذفه وأنت تعنيه .
وقد يقال : إن أتيتني آتك وإن لم تأتني أجزك لأن هذا في موضع الفعل المجزوم وكأنه
قال : إن )
تفعل أفعل . وتقول : إن تأتني فأكرمك أي : فأنا أكرمك فلا بد من رفع فأكرمك إذا
سكت عليه لأنه جواب . وإنما ارتفع لأنه مبني على مبتدأ . انتهى كلام سيبويه .
فتخريج الشارح المحقق في البيت خلاف ما خرجه سيبويه فإن الشارح جعل تصرع جواب
الشرط مع مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة والتقدير : فأنت تصرع والجملة الشرطية خير
إن .
وسيبويه جعل تصرع خير إن وجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله .
____________________
والرجز لعمرو بن الخثارم
وتقدم شرحه في الشاهد الحادي والثمانين بعد الخمسمائة . ( الشاهد الحادي والتسعون
بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : البسيط .
من يفعل الحسنات الله يشكرها على أن الفاء الرابطة محذوفة من جواب الشرط ضرورة أي
: فالله يشكرها .
قال النحاس : أبو العباس المبرد يجيز حذف الفاء في الشعر .
ونقل العيني عنه خلافه قال : وعن المبرد أنه منع ذلك حتى في الشعر .
ثم قال النحاس : وقال أبو الحسن : هو عندي جائز في الكلام إذا علم ومنه قول الله
عز وجل : وما أصابكم من مصيبة فيما كسبت أيديكم وقرئ :
____________________
بما كسبت فاستدل بهذا على
أن الفاء محذوفة . ومنه قوله تعالى : إن ترك خيراً الوصية للوالدين .
وكذلك جوزه ابن مالك قال : ومنه حديث اللقطة : فإن جاء صاحبها وإلا استمتع بها .
ثم قال النحاس : قال أبو الحسن : حدثني محمد بن يزيد قال : حدثني المازني أن
الأصمعي قال : هذا البيت غيره النحويون والرواية : من يفعل الخير فالرحمن يشكره
وأبو الحسن قال هذا فيما كتبه على نوادر أبي زيد قال : أخبرنا أبو العباس عن
المازني عن الأصمعي أنه أنشدهم : فالرحمن يشكره . قال : فسألته عن الرواية الأولى
فذكر أن النحويين صنعوها . ولهذا نظائر ليس هذا موضع شرحها . اه .
وهذا مردود لأنه طعن في الرواة العدول .
وأغرب منه ما نقله ابن المستوفي قال : وجدت في بعض نسخ الكتاب في أصله : قال أبو
عثمان المازني : خبر الأصمعي عن يونس قال : نحن عملنا هذا البيت . )
وكذلك نقله الكرماني في الموشح .
والبيت نسبه سيبويه وخدمته لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت رضي الله عنه ورواه جماعة
لكعب بن مالك الأنصاري .
وقبله بيتان وهما : (
____________________
إن يسلم المرء من قتل ومن
هرم ** للذة العيش أفناه الجديدان ) ( فإنما هذه الدنيا وزينتها ** كالزاد لا بد
يوماً أنه فاني ) وترجمه كعب بن مالك تقدمت في الشاهد السادس والستين .
وعبد الرحمن بن حسان يعرف نسبه من ترجمة والده رضي الله عنه وقد تقدمت في الشاهد
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
. ( وأني متى أشرف على الجانب الذي ** به أنت من بين الجوانب ناظر ) على أن قوله :
ناظر جواب الشرط بتقدير مبتدأ محذوف مع الفاء الرابطة أي : فأنا ناظر وتكون الجملة
الشرطية خير أن .
وهذا خلاف ما ذهب إليه سيبويه فإن ناظراً عنده خير إن والجملة دليل جواب الشرط
المحذوف .
قال ابن السراج في الأصول : هذا عند سيبويه على تقديم الجزاء : وإني ناظر متى أشرف
.
وأجاز أيضاً أن يكون على إضمار الفاء . والذي عند أبي العباس وعندي فيه وفي أمثاله
أنه على إضمار الفاء لا غير لأن الجواب في موضعه فلا يجوز أن ينوى به غير موضعه
إذا وجد له تأويل .
ومثله : فهذا على ما ذكرت لك . وكذلك قوله : ( . . . . . . . . . . . . . إنها **
مطبعة من يأتها لا يضيرها ) أراد : لا يضيرها من يأتها وإنك تصرع إن يصرع أخوك وهو
عندنا على إضمار الفاء .
فأما قوله : )
من يفعل الحسنات الله يشكرها فعلى إضمار الفاء في كل قول . اه .
وسيأتي نقل كلام المبرد في الشاهد السادس والثمانين بأبسط من هذا .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة وهذا مطلعها : ( لمية أطلال بحزوى دوائر ** عفتها السوافي
بعدنا والمواطر ) ( كأن فؤادي هاض عرفان ربعها ** به وعي ساق أسلمتها الجبائر ) (
عشية مسعود يقول وقد جرى ** على لحيتي من عبرة العين قاطر ) ( أفي الدار تبكي أن
تفرق أهلها ** وأنت امرؤ قد حلمتك العشائر ) ( فلا ضير أن تستعبر العين إنني **
على ذاك إلا جولة الدمع صابر
____________________
) ( فيا مي هل يجزى بكائي
بمثله ** مراراً وأنفاسي إليك الزوافر ) قوله : لمية أطلال . . . إلخ حزوى : اسم
مكان . والدوائر : التي قد انمحت . وعفتها : محتها .
والسوافي : الرياح التي تسفي التراب .
وقوله : كأن فؤادي . . . إلخ الهيض : الكسر بعد الجبر وضمير به للفؤاد . والوعي :
الجبر .
وأسلمتها : خذلتها . والإسلام : التخلية والخذلان .
والجبارة بالكسر : ما شددت به الكسر من الأعواد . وعرفان فاعل هاض ووعي : مفعوله .
وقوله : عشية مسعود هو أخو ذي الرمة .
وقوله : في الدار . . . إلخ هو مقول مسعود وأن تفرق مجرور باللام المقدرة وأنت
امرؤ . .
إلخ جملة حالية . وحلمتك : وصفتك بالحلم .
وقوله : فلا ضير . . إلخ الضير : الضرر . وصابر : خبر إنني يريد : إنني صابر على
ذلك الوجد إلا جولة الدمع أي : يجول في العين .
وقوله : فيا مي . . . إلخ هو مرخم مية . ويجزى ببناء المفعول يريد : هل تبكين مثل
ما أبكي مراراً . والزفير : إدخال النفس إلى الجوف . والشهيق : إخراجه .
وقوله : وأني متى أشرف . . . إلخ هو بفتح الهمزة معطوف على المستثنى وهو جولة
الدمع .
قال شارح ديوانه : يريد : إنني على ذاك صابر إلا جولة الدمع وأني متى أشرف .
والأقرب أن يكون معطوفاً على بكائي أي : هل يجزى نظري إليك في كل جهة كنت فيها أي
: هل تنظرين )
إلي كذلك . أو المعنى : هل تجزينني على هذه المحبة . والتاء من أنت مكسورة .
____________________
وترجمة ذي الرمة تقدمت في
الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل فأنت طلاق والطلاق ألية على أن جملة : والطلاق ألية اعتراضية
وقعت بين المصدر وهو طلاق وبين عدده وهو ثلاثاً في المصراع الثاني وهو : ثلاثاً
ومن يخرق أعق وأظلم وتقدم الكلام عليه بما لا مزيد عليه في الشاهد الخامس
والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والتسعون بعد الستمائة ) الطويل يرى كل من فيها وحاشاك
فانيا
____________________
وهذا عجز وصدره : وتحتقر
الدنيا احتقار مجرب والبيت فيه من أنواع البديع التكميل وهو أن يأتي الشاعر أو
المتكلم بمعنى من معاني المدح أو غيره من فنون الشعر وأغراضه ثم يرى مدحه
بالاقتصار على ذلك المعنى فقط غير كامل فيكمل بمعنى آخر كمن أراد مدح إنسان
بالشجاعة ورأى مدحه بالاقتصار عليها دون الكرم مثلاً غير كامل فيكمله بذكر الكرم
أو بالبأس دون الحلم وما أشبهه .
قال ابن أبي الإصبع في تحرير التحبير : ومما وهم فيه المؤلفون في هذا الموضع أنهم
خلطوا التكميل بالتتميم إذ ساقوا في باب التتميم شواهد التكميل لأنهم ذكروا قول
عوف : السريع ( إن الثمانين وبلغتها ** قد أحوجت سمعي إلى ترجمان ) من شواهد
التتميم .
ومعنى البيت تام بدون لفظة وبلغتها . وإذا لم يكن المعنى ناقصاً فيكف يسمى هذا
تتميماً وإنما هو تكميل . وما غلطهم إلا من كونهم لم يفرقوا بين تتميم الألفاظ
وتتميم المعاني .
وكذلك أتوا بقول المتنبي : )
وتحتقر الدنيا احتقار مجرب البيت في باب التتميم وهو مثل الأول وإن زاد على الأول
أدنى زيادة لما في لفظة حاشاك بعد ذكر الفناء من حسن الأدب مع الممدوح . وربما
سومح بأن يجعل هذا البيت في شواهد التتميم بهذه اللفظة . وأما الأول فمحض التكميل
ولا مدخل
____________________
له في التتميم . اه .
وقد ذكر التتميم في أول كتابه وقال : سماه ابن المعتز اعتراض كلام في كلام لم يتم
معناه ثم يعود المتكلم فيتمه . وشرح حده : أنه الكلمة التي إذا طرحت من الكلام نقص
حسن معناه أو مبالغته مع أن لفظه يوهم بأنه تام . ومجيئه على وجهين : للمبالغة
والاحتياط . ويجيء في المقاطع كما يجيء في الحشو . هذا كلامه .
ولا يخفى أن هذا الحد منطبق على البيت .
وأما أنا فالبيت عندي من الاحتراس وهو أن يأتي المتكلم بمعنى يتوجه عليه دخل فيفطن
له فيأتي بما يلخصه من ذلك .
قال ابن أبي الإصبع : والفرق بين الثلاثة أن المعنى قبل التكميل صحيح تام ثم يأتي
التكميل زيادة يكمل بها حسنة إما بفن زائد أو بمعنى .
والتتميم يأتي ليتمم نقص المعنى . والاحتراس لاحتمال دخل على المعنى وإن كان تاماً
كاملاً .
والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها كافوراً الإخشيدي . ( وقد تهب الجيش الذي جاء
غازيا ** لسائلك الفرد الذي جاء عافيا ) يقول : إذا غزاك جيش أخذته فوهبته لسائل
واحد أتاك يسألك .
وقوله : وتحتقر الدنيا . . . إلخ هو بالخطاب . وجملة : يرى . . . إلخ صفة لمجرب .
يقول : أنت تحتقر الدنيا احتقار من جربها فعرفها وعلم أن جميع ما فيها يفنى ولا
يبقى أي : فلذلك تهبها ولا تدخرها .
وقوله : وحاشاك استثناء مما يفنى . وذكر هذا الاستثناء تحسيناً للكلام واستعمالاً
____________________
للأدب في مخاطبة الملوك
وهو حسن الموقع .
وترجمه المتنبي تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
. ( فقلت تحمل فوق طوقك إنها ** مطبعة من يأتها لا يضيرها ) على أن التقدير عند
سيبويه : لا يضيرها من يأتها فهو مؤخر من تقديم .
وقال الهذلي : فقلت تحمل فوق طوقك . . . . . . . . . . . . البيت هكذا أنشدناه
يونس كأنه قال : لا يضيرها من كما كان وأني متى أشرف ناظر على القلب .
ولو أريد به حذف الفاء جاز فجعلت كإن . اه .
قال الأعلم : وهذا عند المبرد على إرادة الفاء لأن يضير إذا تقدمت على من ارتفعت
من به .
ويلزم منه أن يبطل عملها من الجزم لأن حرف الشرط لا يعمل فيه ما قبله .
____________________
والحجة لسيبويه أنه يقدر
الضمير في يضير على ما هو عليه في التأخير . ومن مبتدأه على أصلها فلا يلزم أن
يرتفع من به وتبطل من عمل الجزم . هذا كلامه .
وسننقل كلام المبرد في الشاهد الثالث والثمانين .
وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على فاعل يضير على التقديرين فقال : من قدر فيه
التقديم كان فاعل لا يضيرها ضير فأضمر الضير له لدلالة يضير عليها . والضير قد
استعمل استعمال الأسماء في نحو لا ضير كأنه قد صار اسماً لما يكره ولا يراد . ومن
قدر الفاء محذوفة أمكن أن يكون الفاعل عندنا أحد شيئين .
أحدهما : الضير كقول من قدر التقديم . ويجوز أن يكون فاعل يضير ضميراً من الذي
تقدم أراد بما تقدم التحمل فوق الطاقة .
والبيت من قصدية عدتها سبعة عشر بيتاً لأبي ذؤيب الهذلي قالها في ابن أخته خالد بن
زهير وكان خاله أبو ذؤيب في صغره رسولاً من وهب بن جابر إلى امرأة من هذيل كان
يتعشقها وهب وكان أبو ذؤيب جميلاً فرغبت فيه واطرحت وهباً ففشا أمرهما في هذيل
فكان يرسل إليها ابن أخته خالد بن زهير وعاهده على أن لا يخونه فيها فلم تلبث أن
عشقت خالداً وتركت أبا ذؤيب .
فجرى بين أبي ذؤيب وبين خالد أشعار كثيرة منها هذه القصيدة وأجابه خالد بقصيدة على
)
رويها منها : الطويل ( فلا تجزعن من سنة أنت سرتها ** فأول راض سنة من يسيرها
____________________
) وقد شرحنا حالهما وما
لهما في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة وفي الشاهد الستين بعد الستمائة .
وهذه الأبيات من أول قصيدة أبي ذؤيب : ( ما حمل البختي عام غياره ** عليه الوسوق
برها وشعيرها ) ( أتى قرية كانت كثيراً طعامها ** كرفغ التراب كل شيء يميرها ) (
بأكثر مما كنت حملت خالداً ** وبعض أمانات الرجال غرورها ) قوله : ما حمل البختي
عام غياره ما : نافية . والبختي : نائب فاعل حمل وهو واحد البخت وهو نوع من الإبل
.
والغيار بكسر المعجمة مصدر غارهم يغيرهم إذا مارهم أي : أتاهم بالميرة بالكسر وهي
الطعام .
والوسوق : جمع وسق وهو حمل بعير وجملة : عليها الوسوق تفسير لقوله : حمل البختي .
وبرها وشعيرها بدل من الوسوق بدل مفصل من مجمل . وإضافة البر والشعير إلى ضمير
الوسوق لأدنى ملابسة لأنهما يصيران وسوقاً .
واختار البختي على البعير لأنه أشد منه وأقوى على زيادة التحمل . ولهذا قال :
عليها الوسوق . يعني أن هذا البختي حمل أضعاف ما يحمله غيره من الإبل .
____________________
وقوله : أتى قرية . . .
إلخ فاعل أتى ضمير البختي . والجملة حال من البختي .
وقوله : كرفغ التراب أي : ككثرة التراب وأصل الرفغ اللين والسهولة وهو بالفاء
والغين المعجمة .
وقوله : يميرها هو على القلب أي : كل شيء تميره هذا القرية فقلب فجعل الفاعل وهو
ضمير القرية مفعولاً وأسند الفعل إلى ضمير كل شيء . والنكتة فيه أن كل شيء يعطي
هذه القرية وقال القاري في شرحه : قوله : يميرها يريد يمتار من القرية . قال
الباهلي : كل شيء يمير لها .
أقول : الوجه الأول : معنى الكلام قبل القلب والثاني : معناه بعد القلب كما قلنا
فيها .
وقوله : فقلت تحمل . . . إلخ رواية السكري : فقيل تحمل وهي الجيدة أي : وقيل
للبختي تحمل فوق طاقتك وقوله : إنها أي : إن هذه القرية مطبعة أي : مختومة بالطابع
. )
يعني أن هذه القرية مملوءة بالطعام لأن الختم إنما يكون غالباً بعد الملء . وفيه
مبالغة لا تخفى .
وجملة : إنها مطبعة استئناف بياني كأنه سأل البختي هل يدعونني أن أتحمل فوق طاقتي
من هذه القرية .
فهو سؤال عن السبب الخاص للحكم لا عن سبب الحكم مطلقاً فلهذا أكد بإن . والجملة
الشرطية خير ثان لإن . وضاره ضيراً من باب باع : أضر به .
وقوله : بأكثر مما كنت . . . إلخ يقول : ما حمل هذا البختي من الطعام بأكثر مما
كنت حمت خالداً من الأمانة . والغرور بالضم الغفلة والضمير للرجال .
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
____________________
وأنشد بعده : البسيط .
والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب على أن التقدير عند سيبويه : والمرء ذئب فأخر خبر
المبتدأ بعد الشرط وتكون الجملة دليل الجواب المحذوف .
وعند المبرد ذيب هو الجزاء بتقدير المبتدأ مع الفاء أين : فهو ذيب وتكون الجملة
الشرطية خبر المبتدأ .
وهذا عجز وصدره : هذا سراقة للقرآن يدرسه وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني
والثمانين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
على حين من تلبث عليه ذنوبه ** يجد فقدها إذ في المقام تدابر
____________________
) على أن جزم أدوات الشرط
المضاف إلى جملتها ظرف خاص بالشعر كما في البيت فإنه جازى بمن مع إضافة حين إلى
جملة الشرط ضرورة وحكمها أن لا تضاف إلا إلى جملة خبرية وجاز هذا في الشعر تشبيهاً
لجملة الشرط بجملة الابتداء والخبر والفعل والفاعل .
قال سيبويه : وقد يجوز في الشعر أن يجازى بعد هذه الحروف فتقول : أتذكر إذ من
يأتنا نأته فإنا أجازوه لأن إذ لا تغير ما دخلت عليه عن حاله قبل أن تجيء بها ولا
تغير الكلام كأنا قلنا : من يأتنا نأته كما أنا إذا قلنا : إذ عبد الله منطلق
فكأنا قلنا : عبد الله منطلق لأن إذ لم تحدث شيئاً قبل أن تذكرها .
قال لبيد : على حين من تلبث عليه . . . . . . . . . . . . البيت ولو اضطر شاعر
فقال : أتذكر إذ إن تأتنا نأتك جاز له كما جاز في من . وتقول : أتذكر إذ نحن من
يأتنا نأته فنحن فصلت بين إذ ومن .
وتقول : مررت به فإذا من يأتيه يعطيه وإن شئت جزمت لأن الإضمار يحسن هنا .
ألا ترى أنك تقول : مررت به فإذا أجمل الناس ومررنا به فإذا أيما رجل . فإذا أردت
الإضمار فكأنك قلت : فإذا هو من يأته يعطيه فإن لم تضمر فهي بمنزلة إذ لا يجوز
فيها الجزم .
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي وكان له في الجاهلية جار من بني
____________________
القين قد لجأ إليه فضربه
عمه عامر بالسيف فغضب لذلك لبيد وقال هذه القصيدة يعدد على عمه بلاءه وينكر فعله
بجاره .
وقد تقدم شرح أبيات منها في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة .
وقبل هذا البيت : ( ودافعت عنك الصيد من آل دارم ** ومنهم قبيل في السرادق فاخر )
( وذدت معداً والعباد وطيئاً ** وكلباً كما ذيد الخماس البواكر ) )
على حين من تلبث . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت الصيد : الرؤساء
المتكبرون . يقال للسيد المتعاظم أصيد لميله رأسه من الكبر والعظمة تشبيهاً بالجمل
الأصيد وهو الذي به داء يأخذ البعير فيرم أنفه فيشمخ ويميل رأسه لذلك الوجع .
والقبيل : الجماعة من قوم شتى . والسرادق : ما يدار حول الخيمة من شقق بلا سقف
وقيل : هو الفسطاط وقيل : هو كل بيت من قطن .
وفاخر يريد يفخرون عليك .
وقوله : وذدت معداً . . . إلخ الذود الطرد . ومعد : أبو قبيلة أراد من ينسب إليه
من أولاده .
____________________
والعباد : بالكسر : قبائل
شتى من بطون العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة والنسبة إليهم عبادي .
وطيئ بهمزة الآخر على وزن فيعل هو القبيلة المشهورة بلا همز . وكلب أيضاً : قبيلة
.
والخماس بالكسر : الإبل التي لا تشرب أربعة أيام . والبواكر : التي تبكر غداة
الخمس .
وقوله : على حين من تلبث على متعلقة بقوله : ذدت وحين يجوز جرها بالكسرة ويجوز
بناؤها على الفتحة لأن الظروف المضافة إلى الجمل يجوز إعرابها وبناؤها على الفتحة
.
واللبث : البطء .
والذنوب بفتح الذال المعجمة قال صاحب المصباح : هي الدلو العظيمة .
قالوا : ولا تسمى ذنوباً حتى تكون مملوءة ماء . وتذكر وتؤنث . وقال الزجاج : مذكر
لا غير . اه .
ويرد عليه حصره هذا البيت فإن الضمير في فقدها مؤنث وهو عائد إلى الذنوب .
والتدابر : التقاطع . وأصله أن يولي كل واحد من المتقاطعين صاحبه دبره . يقول لعمه
عند قيامه في مقام النعمان بن المنذر ملك الحيرة مع خصومه : أنا دافعت عنك بلساني
في مجمع .
يقول : قمت بفخرك وأيامك على حين من لا يقوم بحجته . وهذا على المثل . يعني أنه
نصره في وقت إن تبطئ فيه الحجة عن المحتج يهلك ولا يمكنه أن يتلافى ما فرط منه .
وقوله : يجد فقدها معناه يؤلمه فقدها كما يقال : وجد فلان فقد فلان إذا انقطع عنه
نفعه فأثر ذلك في حاله .
وروى : تداثر بالمثلثة بدل تدابر بالموحدة وهو التزاحم والتكاثر .
____________________
)
جعل الجمع الذين عند الملك بمنزلة المزدحمين على الماء ليسقوا إبلهم . وأصل الدثر
المال الكثير .
وأراد بالمقام المجلس الذي جمعهم للخصام .
وروي في ديوانه : يجد فقدها وفي الذناب تداثر بالمثلثة . والذناب بالكسر : جمع
ذنوب المذكورة . قال شارح ديوانه : يقول : ذدت عنك في ذلك الوقت . تلبث : تبطئ .
والذنوب : الدلو . يجد فقدها إذا لم تخرج إليه . وإنما هذا مثل ضربه .
وفي الذناب تداثر يقول : وفي ذلك تكاثر . وإنما هذا مثل أراد الألسن التي كثرت
عليه . اه .
وروى سيبويه المصراع الثاني كذا : يرث شربه إذ في المقام تدابر قال الأعلم : وصف
مقاماً فاخر فيه غيره وكثرت المخاصمة والمحاجة فيه . وضرب الذنوب وهي الدلو مملوءة
ماء مثلاً لما نزل به من الحجة . والشرب بالكسر : الحظ من الماء . والريث : وترجمة
لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الستمائة ) الطويل . (
____________________
ولست بحلال التلاع مخافة
** ولكن متى يسترفد القوم أرفد ) على أن وقوع الجملة الشرطية بعد لكن لكونها لا
تغير معنى الجملة .
قال سيبويه : وتقول : ما أنا ببخيل ولكن إن تأتني أعطك . جاز هذا وحسن لأنك قد
تضمر هاهنا كما تضمر في إذا .
ألا ترى أنك تقول : ما رأيتك عاقلاً ولكن أحمق . وإن لم تضمر تركت الجزاء كما فعلت
ذلك في إذا .
قال طرفة : ولست بحلال التلاع مخافة . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه قال
: أنا . ولا يجوز في متى أن يكون الفعل وصلاً لها كما جاز في من . ( وما ذاك أن
كان ابن عمي ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) والقوافي مرفوعة كأنه قال :
ولكن أنفع متى ما أملك الضر ويكون أملك على متى في موضع جزاء وما لغو . ولم تجد
سبيلاً إلى أن تكون بمنزلة من فتوصل ولكنها كمهما . انتهى كلام سيبويه .
فشرط جواز وقوع أداة الشرط بعد لكن تقدير الضمير بينهما وحينئذ لا ضرورة فيه بل هو
حسن للفصل كما قال سيبويه .
ولم يصب الأعلم في قوله : الشاهد في هذا البيت حذف المبتدأ بعد لكن ضرورة
والمجازاة بعدها والتقدير : ولكن أنا متى يسترفد القوم أرفد . اه .
____________________
وإن لم يقدر الضمير فلا
يجوز وقوع الأداة بعد لكن إلا في الشعر .
والشارح المحقق أخل بهذا التفصيل ولم يذكره وقد أخذ به أبو علي في التذكرة القصرية
وقال فيها : قال سيبويه في قوله : ولكن متى يسترفد القوم أرفد تقديره : ولكن أنا .
إن قيل هذا لم يحتج إلى الضمير لأن لكن إنما تشبه الفعل إذا كانت ثقيلة )
فإذا خفت زال عنها شبه الفعل وإذا كان كذلك صلحت للجملتين وإذا صلحت لهما لم تحتج
إلى ضمير قيل : لكن لما فيها من معنى الاستدراك لم يزل عنها معنى الفعل فاحتيج إلى
الضمير فيها .
وهذا عندي إنما يجب إذا دخل حرف العطف عليه نحو : ولكن التي في البيت لأن حرف
العطف إذا دخل عليها خلصت لمعناها وخرجت من العطف . وإذا لم يدخل عليها حرف العطف
كانت للعطف فلم يحتج في وقوع الجزاء بعدها إلى إضمار كما لا يحتاج في حروف العطف
إلى ذلك . اه .
وقد نقل ابن هشام في المغني عن أبي علي خلاف هذا . قال : وزعم سيبويه في قوله :
ولكن متى يسترفد القوم أرفد أن التقدير : ولكن أنا . ووجهوه بأن لكن تشبه الفعل
فلا تدخل عليه . وبيان كونها داخلة عليه أن متى منصوبة بفعل الشرط فالفعل مقدم في
الرتبة عليه .
____________________
ورده الفارسي بأن المشبه
للفعل هو لكن المشددة لا المخففة ولهذا لم تعمل المخففة لعدم اختصاصها بالأسماء .
وقيل : إنما يحتاج إلى التقدير إذا دخل عليها الواو لأنها حينئذ تخلص لمعناها
وتخرج عن العطف . اه .
وقوله : ولست بحلال . . . إلخ الحلال : مبالغة الحال من الحلول وهو النزول .
والأحسن أن يكون فعال للنسبة أي : لست بذي حلول والتلاع : جمع تلعة وهو مجرى الماء
من رؤوس الجبال إلى الأودية .
قال ابن الأنباري : والتلعة من الأضداد تكون ما ارتفع وما انخفض . والمراد هنا
الثاني وهو سيل ماء عظيم . ومخافة : مفعول لأجله . وأرفد بكسر الفاء لأنه مضارع
رفده رفداً من باب ضرب أي : أعطاه أو أعانه . والرفد بالكسر اسم منه . وأرفده
بالألف مثله . وترافدوا : تعاونوا . واسترفدته : طلبت رفده .
قال الزوزني : المعنى إني لست ممن يستتر في التلاع مخافة الضيف أو غدر الأعداء
إياي ولكن أظهر وأعين القوم إذا استعانوا بي إما في قرى الضيف وإما في قتال
الأعداء .
وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد . وقد عابه المرزباني في كتاب الموشح وقال :
المصراع الثاني غير مشاكل للأول . )
وبعده : ( فإن تبغني في حلقة القوم تلقني ** وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد
____________________
) الحلقة بسكون اللام : ما
استدار من الناس ومن الحديد وتجمع على الحَلَق بفتح الحاء واللام يقول : وإن
تطلبني في محفل القوم وجدتني هناك وإن تطلبني في بيوت الخمارين صدتني .
والبغاء هو الطلب والفعل بغى يبغي . يريد أنه يجمع بين الجد والهزل . كذا في شرح
الزوزني .
وقال أبو جعفر النحوي : المعنى إن تطلبني في موضع يجتمع القوم فيه للمشورة وإجالة
الرأي تلقني لما عندي من الرأي لا أتخلف عنهم وإن تطلبت صيدي في حوانيت الخمارين
تجدني أشرب وأسقي من حضرني . والحانوت : بيت الخمار يذكر ويؤنث . اه .
وقال ابن السكيت : يقول : أبداً تجدني في مجلس القوم للمفاخرة وفي بيوت الخمارين
مع الشرب يعني أنه من وجوه قومه لا يبرم أمر إلا بحضرته وأنه صاحب شراب ولهو . اه
.
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
____________________
وما ذاك أن كان ابن عمي
ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) على أن أنفع مرفوع وهو مؤخر لمن تقديم
لضرورة الشعر كما في قوله : والأصل فيهما : ولكن أنفع متى أملك الضر وإنك تصرع إن
يصرع أخوك ويكون هذا المقدم تقديراً دليل الجزاء المحذوف .
قال سيبويه : والذي سمعناهم ينشدون قول العجير السلولي : وما ذاك إن كان ابن عمي
البيت .
والقوافي مرفوعة كأنه قال : ولكن أنفع متى ما أملك الضر . اه .
والضرورة عند المبرد إنما هي في حذف الفاء من أنفع وتصرع وقد رد على سيبويه دعواه
تقدير التقديم في هذا وفيما تقدم ونقله ابن السراج في الأصول فلا بأس علينا إن
نقلناه . وهذا كلامه : قال أبو العباس محمد بن يزيد : أما قوله : آتيك إن أتيتني
فغير منكر ولا مدفوع استغنى عن الجواب بما تقدم ولم تجزم إن شيئاً فتحتاج إلى جواب
مجزوم أو شيء في مكانه . )
وأما قوله : البسيط (
____________________
وإن أتاه
____________________
خليل يوم مسغبة ** يقول لا
غائب ما لي ولا حرم ) يقول على القلب فهو محال وذلك لأن الجواب حده أن يكون بعد إن
وفعلها الأول وإنما يعني بالشيء موضعه إذا كان في غير موضعه نحو : ضرب غلامه زيد
لأن حد الغلام أن يكون بعد زيد . وهذا قد وقع في موضعه من الجزاء فلو جاز أن تعني
به التقديم لجاز أن تقول : ضرب وأما ما ذكره من : من ومتى وسائر الحروف فإنه
يستحيل في الأسماء منها والظروف من وجوه في التقديم والتأخير لأنك إذا قلت : آتي
من أتاني وجب أن تكون من منصوبة بقولك : أتي ونحوه وحروف الجزاء لا يعمل فيها ما
قبلها فليس يجوز هذا إلا أن تريد بها معنى الذي ومتى إذا قلت : آتيك متى أتيتني
فمتى للجزاء وهو ظرف لأتيتني لأن حرف الجزاء لا يعمل فيه ما قبله ولكن الفعل الذي
قبل متى أغنى عن الجواب كما قلت في إن في قولك : أنت ظالم إن فعلت . فأنت ظالم
منقطع من إن وقد سد مسد الجواب .
وكذلك آتيك قد سدت مسد الجواب في متى وإن لم يكن منها في شيء لأن متى منصوبة
بأتيتني لأن حروف الجزاء من الظروف والأسماء إنما يعمل فيهما ما بعدهما وهو الجزاء
الذي يعمل فيه الجزم . والباب كله على هذا لا يجوز غيره .
ولو وضع الكلام في موضعه لكان تقديره : متى أتيتني فأتيتك أي : فأنا آتيك .
وأما قوله : . . . من يأتها لا يضيرها إنما هو من يضيرها لا يأتها فمحال أن ترتفع
من بقولك لا يضيرها ومن مبتدأ كما لا تقول زيد يقوم فترفعه بيقوم . وكل ما كان مثله
فهذا قياسه .
وهذه الأبيات التي أنشدها كلها لا تصلح إلا على إرادة الفاء في الجواب كقوله :
الله يشكرها لا يجوز إلا ذلك . اه .
____________________
والبيت من قصيدة للعجير
السلولي . قال الأصفهاني في الأغاني وابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : قال
ابن الأعرابي : كانت للعجير بنت عم كان يهواها وتهواه فخطبها إلى أبيها فوعده
وقاربه ثم خطبها رجل من بني عامر موسر فخيرها أبوها بينه وبين العجير فاختارت
العامري )
ليساره فقال العجير في ذلك : ( ألما على دار لزينب قد أتى ** لها باللوى ذي المرج
صيف ومربع ) ( وقولا لها : قد طال ما لم تكلمي ** وراعك بالغيب الفؤاد المروع ) (
وقولا لها : قال العجير وخصني ** إليك وإرسال الخليلين ينفع ) ( أأنت الذي أودعتك
السر وانتحى ** بك الخون مزاح من القوم أقرع ) ( إذا مت كان الناس صنفان : شامت **
وآخر مثن بالذي كنت أصنع ) ( ولكن ستبكيني خطوب كثيرة ** وشعث أهينوا في المجالس
جوع ) ( ومستلحم قد صكه القوم صكة ** بعيد الموالي نيل ما كان يمنع ) ( وما ذاك أن
كان ابن عمي ولا أخي ** ولكن متى ما أملك الضر أنفع ) وهي قصيدة طويلة .
والإلمام : النزول وضمنه معنى الإشراف . واللوى : ما التوى من الرمل . والمرج :
الموضع الذي ترعى فيه الدواب . وأراد بالمربع الربيع .
____________________
وراعك : أفزعك . وانتحى :
اعتمد وقصد . والخون : الخيانة .
وقوله : إذا مت كان الناس . . . . إلخ هو من شواهد سيبويه على أن كان فيها ضمير
الشأن وهو اسمها . وجملة الناس صنفان : خيرها .
وروى ابن الأعرابي البيت كذا : ( إذا مت كان الناس صنفين شامت ** ومثن بنيري بعض
ما كنت أصنع ) فكان على أصلها . والنيران : العلمان في الثوب . وإنما يريد أنه
يثنى عليه بحسن فعله الذي هو في أفعال الناس كالعلم في الثوب .
وخطأه أبو محمد الأسود وقال : الصواب الرواية الأولى في المصراع الثاني .
وقوله : ولكن ستبكيني خطوب الخطوب هنا : الأمور العظام . وروى بدله : خصوم جمع خصم
وهو معروف . والشعث : جمع أشعث وشعثاء وهو المتلبد الرأس .
بلى سوف تأتيني خطوب كثيرة ولم يظهر لي وجهه . ورويا : أهينوا حضرة الدار بدل :
أهينوا في المجالس وحضرة : ظرف .
وجوع : جمع جائع . )
وقوله : ومستلحم قد صكه بالرفع معطوف على ما قبله . والمستلحم بكسر الحاء المستلحق
في القرابة وفي الجوار من اللحمة بالضم وهي القرابة .
____________________
والصكة : الضربة . والمولى
هنا الناصر والمعين . وبعيد : حال من المفعول .
ورويا : ذليل الموالي بدل : بعيد الموالي . وقوله : نيل أي أخذ منه ما كان يمنعه .
ورويا المصراع الأول هكذا : ومضطهد قد صكه الخصم صكة والمضطهد بفتح الهاء :
المقهور والمضطر .
وقوله : رددت له ما فرط القيل أي : ما نحاه القيل . قال في الصحاح : قال الخليل :
فرط الله عنه ما يكره أي : نحاه وقلما يستعمل إلا في الشعر . والقيل بفتح القاف :
الملك .
قال ابن خلف : ويحتمل أن يكون القيل هنا شرب نصف النهار . وآبنا : رجع إلينا .
والأضلع بالمعجمة : المطيق للشيء القائم به . ( رددت له ما سلف القوم بالضحى **
وبالأمس حتى اقتاله وهو أخضع ) وقال : سلف القوم ذلاً وهو أخضع أراد أن مفعول سلف
محذوف وجملة : وهو أخضع حال .
واقتاله أي : اقتال عليه أي : تحكم . قال صاحب الصحاح : واقتال عليه : تحكم .
ومادته القول .
وروى أبو محمد الأسود المصراع الثاني كذا : حتى ناله وهو أضلع وقال : أي : أخذ
أكثر من حقه .
____________________
وقوله : وما ذاك أن كان .
. . إلخ اسم الإشارة راجع لما صنعه من الجميل مع المستلحم وهو رد ما أخذ من ماله
إليه قهراً وهو مبتدأ وخبره محذوف أي : صنعته .
وأن مصدرية مجرورة باللام . واسم كان ضمير المستلحم . وابن خبر كان والتقدير : وما
ذاك الجميل فعلته معه لكونه ابن عمي ولكونه أخي ولكن من شأني إذا قدرت على الضرر
والبطش نفعت .
وروى أبو محمد الأسود المصراع الأول كذا : ولست بمولاه ولا بابن عمه )
وأنشد بعده : الخفيف ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن ألمه واعصه في الخطوب ) على
أن ضمير الشأن وهو اسم إن محذوف والجملة الشرطية خبرها .
وتقدم شرح هذا البيت مفصلاً في الشاهد السابع بعد الأربعمائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
الثامن والتسعون بعد الستمائة ) الخفيف ( من يكدني بسيئ كنت منه ** كالشجا بين
حلقه والوريد ) على ن مجيء الشرط مضارعاً مجزوماً والجزاء ماضياً خاص بالشعر عند
بعضهم .
قال ابن مالك : الصحيح الحكم بجوازه لثبوته في كلام أفصح الفصحاء قال صلى الله
عليه وسلم : من يقم ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي النصراني رثى بها ابن أخته اللجلاج .
وقبله : من يكدني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت الدرء
: الدفع . وفي الحديث : ادرؤوا الحدود بالشبهات .
والشغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين : تهييج الشر .
____________________
والمريد : مبالغة المارد .
وقوله : من يكدني يقال : كاده كيداً من باب باع إذا خدعه ومكر به والسيئ : فيعل
وصف من السوء . وكنت بالخطاب .
والشجا : ما يعترض في الحلق كالعظم . والوريد : عرق قيل هو الودج وقي بجنبه .
وقال الفراء : عرق بين الحلقوم والعلباوين وهو ينبض أبداً فهو من الأوردة التي
فيها الحياة ولا يجري فيها دم بل هي مجاري النفس بالحركات .
وهذا مطلع القصيدة : ( إن طول الحياة غير سعود ** وضلال تأميل نيل الخلود ) وعدتها
تسعة وخمسون بيتاً وهي من القصائد الجياد في المراثي وقد جمعها محمد بن العباس )
اليزيدي وعن ابن حبيب وهي عندي بخط محمد بن أسد بن علي القاري وتاريخ خطه سنة ثمان
وستين وثلثمائة .
وأنشد بعده : من يفعل الحسنات الله يشكرها
____________________
وتقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا على أنه قد يستعمل الماضي في الشرط متحقق الوقوع وإن كان
بغير لفظ كان لكنه قليل .
وهو هنا محذوف مفسر بالفعل المذكور والتقدير : إن حزت أذنا قتيبة . فحز أذنيه قد
وقع فيما مضى من الزمان وتحقق معناه .
وقدر المصنف في شرح المفصل بما نقله الشارح عنه ورده . ويشهد لما قاله الشارح
المحقق ما نقله سيبويه عن الخليل قال : سألت الخليل رحمه الله عن قول الفرزدق : (
أتغضب إن أذنا قتيبة حزتا ** جهاراً ولم تغضب لقتل ابن خازم ) فقال : لأنه قبيح أن
تفصل بين أن والفعل كما قبح أن تفصل بين كي والفعل فلما قبح ذلك ولم يجز حملوه على
إن لأنه قد يقدم فيها الأسماء قبل الأفعال . اه .
يريد الخليل أن إن في البيت لا يصح فتح همزتها للقبح المذكور وإنما هي
____________________
إن المكسورة الهمزة لجواز
الفصل بينها وبين الفعل باسم على شريطة التفسير نحو قوله تعالى : وإن أحد من
المشركين استجارك .
وفي المسائل القصرية لأبي علي : اعترض أبو العباس المبرد على إنشاد هذا البيت
بالكسر فقال : قتل قتيبة قد مضى وإن للجزاء والجزاء يكون لما يأتي فلا يستقيم أن
تقول : إن قمت قمت وقد مضى قيامه .
قال أبو علي : إنما يريد : أفتغضب كلما وقع هذا الفعل أي : مثل هذا الفعل وإن كان
التأويل على هذا صح الكسر . اه . )
وأراد بتقدير المثل كون الفعل مستقبلاً .
وظاهر نقل أبي علي أنه لا يجوز الكسر عند المبرد ولكن صريح كلام ابن السيد أن
المبرد يجوزه قال في شرح كامل المبرد : وأجاز أبو العباس فتح أن في هذا البيت
وجعلها أن المخففة من الثقيلة وأضمر اسمها كأنه قال : أنه أذنا قتيبة حزناً .
ومن روى إن بكسر الهمزة وهو رأي سيبويه فوجهه أنه وضع السبب في موضع المسبب كأنه
قال : أتغضب إن افتخر مفتخر بحزه أذني قتيبة كما قال الآخر : الكامل ( إن يقتلوك
فإن قتلك لم يكن ** عاراً عليك ورب قتل عار ) المعنى : إن افتخروا بقتلك . فذكر
القتل الذي هو سبب ذلك . اه .
وقد صرفه ابن هشام في المغني إلى المستقبل بتأويلين : أحدهما : ما ذكره ابن السيد
من إقامة السبب مقام المسبب .
____________________
والثاني : أنه على معنى
التبين أي : أتغضب إن تبين في المستقبل أن أذني قتيبة حزناً فيما مضى .
ثم قوله : وقال الخليل والمبرد : الصواب : أن أذنا بفتح الهمزة أي : لأن أذنا هو
خلاف ما نقله سيبويه عن الخليل وخلاف منا نقله ابن السيد عن المبرد . وذهب
الكوفيون إلى أن أنْ في هذا البيت ليست للشرط لمضيه وإنما هي بمعنى إذ .
قال إمامهم في سورة الزخرف من تفسيره عند قوله تعالى : أفنضرب عنكم الذكر صفحاً إن
كنتم قرأ الأعمش بالكسر وقرأ عاصم والحسن بفتح أن كأنهم أرادوا شيئاً ماضياً .
وأنت تقول في الكلام : أأسبك أنْ تحرمني .
ومثله : لا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم تكسر إنْ وتفتح . ومثله : فلعلك باخع نفسك
على آثارهم إنْ لم يؤمنوا و أن لم يؤمنوا .
والعرب تنشد قول الفرزدق : أتجزع إن أذنا قتيبة حزتا
____________________
وأنشدوني : الطويل ( وتجزع
إن بان الخليط المودع ** وحبل الصفا من عزة المتقطع ) وفي كل واحد من البيتين ما
في صاحبه من الكسر والفتح . انتهى كلامه . )
والبيت من قصيدة طويلة للفرزدق مدح بها سليمان بن عبد الملك وهجا جريراً .
وقبله هذه الأبيات : ( فإن تك قيس في قتيبة أغضبت ** فلا عطست إلا بأجدع راغم ) (
وهل كان إلا باهلياً مجدعاً ** طغى فسقيناه بكأس ابن خازم ) ( لقد شهدت قيس فما
كان نصرها ** قتيبة إلا عضها بالأباهم ) ( فإن تقعدوا تقعد لئام أذلة ** وإن عدتم
عدنا بأبيض صارم ) أتغضب إن أذنا قتيبة . . . . . . . . . . . . . . . البيت تذبذب
في المخلاة تحت بطونها محذفة الأذناب جلح المقادم ( ستعلم أي الواديين له ثرى **
قديماً وأولى بالبحور الخضارم ) ( وما أنت من قيس فتنبح دونها ** ولا من تميم في
الرؤوس الأعاظم ) قوله : فإن تك قيس . . . إلخ قيس : أبو قبيلة وهو قيس بن عيلان
بن مضر .
وقبيلة باهلة : فخذ من قيس بن عيلان . وأراد القبيلة . ولجرير خؤولة في قيس .
وقتيبة : هو ابن مسلم الباهلي وستأتي حكايته . وأغضبت : بالبناء للمفعول .
____________________
وقوله : فلا عطست . . .
إلخ جملة دعائية : وقعت جزاء للشرط فلذا قرنت بالفاء . وأجدع : صفة موصوف محذوف أي
: أنف أجدع أي : مقطوع .
والراغم : الذليل أو الكاره وهو على النسبة أي : ذي الرغام وهو التراب يقال : أرغم
الله أنفه أي : ألصقه بالرغام وهو التراب وهو كناية عن الإذلال .
وقوله : وهل كان إلا باهلياً اسم كان ضمير قتيبة ومجدعاً يدعى عليه بالجدع وهو قطع
الأنف . وباهلة : قبيلة منحطة بين العرب .
ولذا قيل : المتقارب ( وما ينفع الأصل من هاشم ** إذا كانت النفس من باهله ) روي
أن قتيبة هذا مازح أعرابياً جافياً فقال : أيسرك أن تكون باهلياً فقال : لا والله
. قال : فتكون باهلياً خليفة قال : لا والله ولو أن لي ما طلعت عليه الشمس قال :
فيسرك أن تكون باهلياً وتكون في الجنة فأطرق ثم قال : بشرط أن لا يعلم أهل الجنة
أني باهلي فضحك من قوله . )
وقوله : أتغضب إن أذنا قتيبة . . . إلخ فاعل تغضب ضمير قيس المتقدم وأنث فعله لأنه
أراد به القبيلة . والاستفهام للتعجب والتوبيخ . ويجوز أن يكون فاعله مستتراً فيه
تقديره أنت وهو خطاب مع جرير بدليل ما بعده من البيتين .
والحز بالحاء المهملة والزاي المشددة : القطع . وحز الأذنين كناية عن القتل لأن
القتيل قد تقطع أذنه للتشويه .
____________________
وجهاراً أي : حزاً جهاراً
أو غضباً جهاراً . وابن خازم : بالخاء والزاء المعجمتين .
يريد أن قيساً غضبت من أمر يسير ولم تغضب لأمر عظيم . وقد أنكر هذا منها على سبيل
الاستهزاء .
وأما قتيبة بالتصغير فهو قتيبة بن مسلم بن عمرو بن حصين بن ربيعة بن خالد ابن أسيد
الخير بن كعب بن قضاعي بن هلال الباهلي .
نشأ في الدولة المروانية وترقى وتولى الإمارة وفتح الفتوحات العظيمة وعبر ما وراء
النهر مراراً وأبلى في الكفار . وكان شجاعاً جواداً دمث الأخلاق ذا رأي افتتح
بخارى .
وخوارزم وسمرقند وفرغانة والترك . وولي خراسان ثلاث عشرة سنة .
وهذا خير مقتله من تاريخ النويري قال : قتل قتيبة بن مسلم الباهلي في سنة ست
وتسعين في خراسان . وكان سبب ذلك أنه أجاب الوليد إلى خلع سليمان فلما أفضت
الخلافة إلى سليمان خشي قتيبة أن سليمان يستعمل يزيد بن المهلب على خراسان فكتب
قتيبة إلى سليمان كتاباً يهنئه بالخلافة ويذكر بلاءه وطاعته لعبد الملك والوليد
وأنه له على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان .
وكتب إليه كتاباً آخر يعلمه فيه بفتوحه ونكايته وعظيم قدره عند ملوك العجم وهيبته
في صدورهم ويذم آل المهلب ويحلف بالله : لو استعمل يزيد على خراسان ليخلعنه .
وكتب كتاباً ثالثاً فيه خلعه . وبعث الكتب مع رجل من باهلة وقال له : ادفع الكتاب
الأول إليه فإن كان يزيد حاضراً فقرأه ثم ألقاه إليه . فادفع إليه الثاني . فإن
قرأه ودفعه إليه فادفع إليه الثالث . وإن قرأ الأول ولم يدفعه إلى يزيد فاحبس
الكتابين عنه .
____________________
فقدم رسول قتيبة فدخل على
سليمان ، وعنده يزيد بن المهلب ، فدفع إليه الكتاب الأول ، فقرأه ، وألقاه إلى
يزيد ، فدفع إليه الثاني ، فقرأه ، ودفعه إلى يزيد ، فأعطاه الثالث فقرأه ، وتمعر
لونه وختمه ، وأمسكه بيده . فقيل : كان فيه ' إن لم تقرني على ما أنا عليه وتؤمنني
لأخلعنك ، ولأمأنها عليك خيلاً ورجلاً ' . ثم أمر سليمان بإنزال رسول قتيبة ،
وأحضره ليلاً وأعطاه دنانير وعهد قتيبة على خراسان ، وسير معه رسولاً . فلما كانا
بحلوان ، بلغهما خلع قتيبة ، فرجع رسول سليمان . فلما خلعه قتيبة ، دعا الناس إلى
خلعه ، فلم يجبه أحد . فغضب وسبهم طائفة طائفة ، وقبيلة قبيلة ، فغضب الناس
واجتمعوا على خلع قتيبة ، وكان أول من تكلم في ذلك الأزد ، فأتوا حضين بن المنذر ،
فقالوا : إن هذا قد خلع الخليفة ، وفيه فساد الدين والدنيا ، وقد شتمنا فما ترى ؟
فأشار أن يأتوا وكيع بن حسان بن قيس الغداني . وغدانة هو ابن يربوع بن حنظلة بن
مالك بن زيد مناة بن تميم . وكان وكيع مقدماً ، لرياسته على بني تميم ، وكان قتيبة
عزله ، فحقد عليه وكيع فلما أتوه وسألوه أن يلي أمرهم فعل ، فبلغ أمره لقتيبة ،
فأرسل إليه يدعوه . أرسالاً ، واجتمع إلى قتيبة أهل بيته ، وخواص أصحابه ، فكبروا
وهاجوا ، فقتل عبد الرحمن أخو قتيبة ، وجاء الناسحتى بلغوا فسطاط قتيبة ، فقطعوا
أطنابه ، وجرح قتيبة جراحات كثيرة .
____________________
نزل سعد وشق الفسطاط واحتز
رأس قتيبة وقتل معه من أهله وإخوته أحد عشر رجلاً .
فأرسل وكيع إلى سليمان برأسه ورؤوس أهله .
وأما ابن خازم فهو عبد الله بن خازم السلمي . وينتهي نسب سليم إلى قيس عيلان . وهو
أحد غربان العرب في الإسلام . وكان من أشجع الناس وقتلته بنو تميم بخراسان في سنة
اثنتين وسبعين وكان الذي ولي قتله وكيع بن الدورقية القريعي .
وكان ابن خازم أمير خراسان من قبل ابن الزبير وكان أولاً استعمله ابن عامر على
خراسان في أيام عثمان . وكان أحد الأبطال المشهورين وقد حضر مواقف مشهورة وأبلى
فيها .
وهذا خبر مقتله من تاريخ النويري قال : ولما قتل مصعب بن الزبير كان ابن خازم يقتل
بجير بن ورقاء التميمي بنيسابور فكتب عبد الملك بن مروان إلى ابن خازم يدعوه إلى
البيعة ويطعمه خراسان سبع سنين فامتنع وأطعم كتابه لرسوله .
وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج وكان خليفة ابن خازم على مرو وتعهده على خراسان
ووعده ومناه فخلع بكير ابن خازم ودعا إلى عبد الملك فأجابه أهل مرو . )
وبلغ ابن خازم فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور
____________________
فنزل بجيراً وأقبل إلى مرو
فاتبعه بجير فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو فقاتله فقتل ابن خازم وكان الذي
قتله وكيع بن عمرو القريعي اعتوره وكيع وبجير بن ورقاء وعمار بن عبد العزيز فطعنوه
فصرعوه وقعد وكيع على صدره فقتله وبعث بشيراً بقتله إلى عبد الملك ولم يبعث برأسه
وأقبل بكير في أهل مرو فوافاهم حين قتل ابن خازم فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد
الملك فمنعه بجير .
كذا قال النويري . وهو خلاف قول الفرزدق : فما منهما إلا بعثنا برأيه إلى الشام .
. . . . . . . . . . . . البيت والله أعلم .
وكان بين قتل ابن خازم وقتل قتيبة أربع وعشرون سنة .
وقوله : فوق الشاحجات يعني البغال . والرسيم : ضرب من السير وإنما عنى هاهنا بغال
البريد بقوله : محذفة الأذناب جلح القوادم وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد
الثلاثين .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
لم تدر ما جزع عليك فتجزع
وأنشد بعده ( الشاهد الموفي السبعمائة ) وهو من شواهد س : البسيط ( وقال رائدهم
أرسوا نزاولها ** فكل حتف امرئ يجري بمقدار ) على أن قوله : نزاولها استئناف ولهذا
وجب رفعه .
قال سيبويه : وتقول : ائتني آتك فتجزم على ما وصفنا وإن شئت رفعت على أن لا تجعله
معلقاً بالأول ولكنك تبتدئه وتجعل الأول مستغنياً عنه كأنه يقول : ائتني أنا آتيك
.
ومثل ذلك قول الأخطل : وقال رائدهم أرسوا نزاولها البيت
____________________
اه .
وأجاز الشارح المحقق كون نزاولها حالاً .
فإن قلت : الحال قيد لعاملها فكيف يكون الإرساء في حال المُزاوَلة والمزاولة إنما
تكون بعد الإرساء وهذا البيت أورد في علم المعاني مثالاً لكمال الانقطاع باختلاف
الجملتين خبراً وإنشاء لفظاً ومعنى ولهذا لم يتعاطفا . فإن أرسوا إنشاء لفظاً
ومعنى ونزاولها خبر كذلك فوجب ترك العطف .
ولم يجعل نزاولها مجزوماً جواباً للأمر لأن الغرض تعليل الأمر بالإرساء بالمزاولة
والأمر في الجزم بالعكس أعني يصير الإرساء علة المزاولة كما في أسلم تدخل الجنة .
كذا قرره التفتازاني .
وبه يعرف ما في قول الأعلم وتبعه ابن يعيش : ولو أمكنه الجزم على الجواب لجاز من
الضعف .
وتبعه أيضاً ابن المستوفي فقال : ويجوز أن يجزم إذا جعلته علة للأول ومحتاجاً إليه
.
وإنا استشهدوا به لأنه لا يمكن جزم نزاولها .
والرائد : الذي يتقدم القوم ليطلب الماء والكلأ من الرود وهو التردد في طلب الشيء
برفق .
وأرسوا بفتح الهمزة أمر من الإرساء أي : أقيموا من أرسيت السفينة إرساء أي :
حبستها بالمرساة .
ولم يصب العباس في معاهد التنصيص في قوله : وهو من رست السفينة ترسو رسواً إذا
وقفت على الأنجر معرب لنكر وهو مرساة السفينة وهي خشبات
____________________
يفرغ بينها الرصاص المذاب
)
فتصير كصخرة إذا رست رست السفينة .
أو هو من رست أقدامهم في الحرب أي : ثتبت . نزاولها : مضارع زاول الشيء أي : حاوله
وعالجه . والحتف : الهلاك .
قال السعد : الضمير في نزاولها للحرب أي : قال رائد القوم ومقدمهم : أقيموا نقاتل
. فإن موت كل نفس يجري بمقدار الله وقدره لا الجبين ينجيه ولا الإقدام يرديه .
وقيل : الضمير للسفينة وقيل : للخمر . والوجه ما ذكرنا . اه .
ويشهد لما اختار ما أورده الكرماني في الموشح وتبعه العباسي من بيت بعده وهو : (
إما نموت كراماً أو نفوز بها ** لنسلم الدهر من كد وأسفار ) والعجب من الكرماني في
قوله : وصف الشاعر جماعة اللصوص لما رأوا السفينة طمعوا في أخذها فأمر سيد القوم الملاحين
بإرساء السفينة . ويعضد هذا الوجه ما بعده : إما نموت كراماً . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . البيت وقال الأعلم وتبعه ابن يعيش : وصف شرباً قدموا أحدهم
يرتاد لهم حمراً فظفر بها فقال لهم : أسوا أي : انزلوا نشربها . ومعنى نزاولها :
نخاتل صاحبها عنها .
وقوله : فكل حتف . . . إلخ أي : لا بد من الموت فينبغي أن نبادر بإنفاق المال فيها
وفي نحوها إلى اللذات . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثاني بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
متى
____________________
تأته تعشو إلى ضوء ناره **
تجد خطباً جزلاً وناراً تأججا ) على أن جملة : تعشو جاءت حالاً بعد صريح الشرط وهو
تأته وصاحب الحال الضمير المخاطب في الشرط .
والمعنى : متى تأته عاشياً أي : في الظلام .
قال الشارح المحقق : ويجوز في مثله البدل . أراد ما أنشده سيبويه وهذا نصه في باب
ما يرتفع بين الجزمين ونيجزم بينهما : أما ما يرتفع بينهما فقولك : إن تأتني
تسألني أعطك وإن تسألني تمشي أمش معك . وذلك لأنك أردت ن تقول إن تأتني سائلاً يكن
ذلك وإن تأتني ماشياً فعلت .
____________________
وقال زهير : الطويل ( ومن
لا يزل يستحمل الناس نفسه ** ولا يغنها يوماً من الدهر يسأم ) إنما أراد : من لا
يزل مستحملاً يكون من أمره ذلك . ولو رفع يغنها جاز وكان حسناً كأنه قال : من لا
يزل لا يغني نفسه . ومما جاء أيضاً مرتفعاً قول الحطيئة : ( متى تأته تعشو إلى ضوء
ناره ** تجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ) وسألت الخليل رحمه الله عن قوله وهو عبيد
الله بن الحر : الطويل ( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزلاً وناراً
وتأججا ) قال : تلمم بدل من الفعل . ونظيره في الأسماء :
____________________
مررت برجل عبد الله فأراد
أن يفسر الإتيان بالإلمام كما فسر الاسم الأول بالاسم الآخر .
ومثل ذلك قوله أنشدنيهما الأصمعي عن أبي عمرو لبعض بني أسد : مجزوء الكامل ( إن
يبخلوا أو يجبنوا ** أو يغدروا لا يحفلوا ) ( يغدوا عليك مرجلي ** ن كأنهم لم
يفعلوا ) فقوله : يغدوا بدل من لا يحفلوا . وغدوهم مرجلي يفسر أنهم لم يحفلوا .
وسألته رحمه الله : هل يكون إن تأتنا تسألنا نعطك فقال : هذا يجوز على غير أن يكون
مثل الأول لأن الفعل الآخر تفسير له وهو هو . والسؤال لا يكون الإتيان ولكنه يجوز
الغلط )
والنسيان ممن يتدارك كلامه . ونظير ذلك في الأسماء : مررت برجل حمار كأنه نسي ثم
وعلم من هذا أن من أنشده الشارح مركب من بيتين سهواً . فصدره للحطيئة وعجزه لابن
الحر .
ورفع يستحمل الناس في البيت الأول لأنه خبر زال الناقصة .
وقوله : تلمم بنا في البيت الثالث بدل من تأتنا وتفسير له لأن الإلمام إتيان . ولو
أمكنه رفعه على تقدير الحال لجاز .
وقوله : يغدوا عليك في البيت الرابع بدل من قوله : لا يحفلوا لأن غدوهم مرجلين
دليل على أنهم لم يحفلوا بقبيح ما أتوه فهو تفسير له وتبيين . والترجيل : مشط
الشعر وتليينه بالدهن . وحفلت بكذا أي : باليت به .
وقوله : متى تأته تعشو . . . إلخ قال المرزوقي في شرح الفصيح : يقال : عشا يعشو
إذا سار في ظلمة تسمى عشوة مثلثة العين . وأنشد هذا البيت .
وقال ابن يعيش : يقال : عشوته أي : قصدته في الظلام ثم اتسع فقيل لكل قاصد : عاش .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قوله : تعشو إلى ضوء ناره قال الأصمعي : تأتيه
على غير هداية . وقال غيره : تجيء على غير بصر ثابت فتهتدي بناره .
وقال القتبي : يقال : عشوت إلى نارك أعشو عشواً إذا قصدنها بليل ثم سمي كل قاصد
قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ومن يعش عن ذكر الرحمن إذا حصلت الآفة في البصر
قيل : عشي كفرح وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل : عشا يعشو . ونظيره : عرج لمن به
الآفة وعرج لمن مشى مشية العرجان من غير عرج .
قال الحطيئة :
____________________
متى تأته تعشو إلى ضوء
ناره أي : تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود واتساع الضوء .
وهو بين في معنى قول حاتم : السريع ( أعشو إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري جارتي
الخدر ) اه .
وقول العيني : تعشو من عشا إذا أتى ناراً يرجو عندها خيراً أو هدى ليس معناه ما
ذكره . )
وكذلك قول ابن المستوفي : يقال : عشا إلى النار يعشو إذا استدل عليها ليبصر . ضعيف
.
قال عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة : وصفه بأن ناره موقدة بالليل
وهذا عند العرب غاية المدح بالكرم وقرى الضيفان . ثم دل بقوله : تعشو إلى ضوء ناره
أن السابلة تستضيء بها وتقصد نحوها . وهذا صفة النار إذا كانت على نشز ولا يفعل
ذلك إلا السيد وقوله : تجد خير نار عندها خير موقد أي : متى أتيته عاشياً إلى ضوء
ناره وجدت خير نار أي : أنفع نار للدفء والأكل عندها خير موقد يحتمل معنيين .
أحدهما : أن يريد بمن عندها من يوقدها من الغلمان والخول .
ويريد بقوله : خير موقد كثرة كرمهم واحتفالهم بالوارد عليهم وحسن القيام عليه
بجميع ما يحتاج إليه .
____________________
والثاني : يريد به الممدوح
ووصفه بالإيقاد وإن كان سيداً لأنه آمر به فكأنه فاعله . ويريد بقوله : خير موقد
أكرم موقد وأسخى موقد وأفضل موقد .
فعلى هذا يكون قد وصفه في هذا البيت بجماع الفضائل . وعلى التأويل الأول إنما وصفه
بالسخاء فقط لكن ذكره أولاً مفصلاً وهنا مجملاً فاعرف ذلك . اه .
ويروى أن هذا البيت لما أنشد لعمر بن الخطاب قال : كذب تلك نار موسى صلوات الله
عليه وسلامه .
والبيت من قصيدة طويلة للحطيئة مدح بها بغيض بن عامر بن شماس بن لأي بن أنف الناقة
( فما زالت الوجناء تجري ضفورها ** إليك ابن شماس تروح وتغتدي ) ( تزور امرأ يؤتي
على الحمد ماله ** ومن يعط أثمان المحامد يحمد ) ( يرى البخل لا يبقي على المرء
ماله ** ويعلم أن الشح غير مخلد ) ( كسوب ومتلاف إذا ما سألته ** تهلل واهتز
اهتزاز المهند ) متى تأته تعشو . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت (
تزور امرأ إن يعطك اليوم نائلاً ** بكفيه لا يمنعك من نائل الغد ) ( هو الواهب
الكوم الصفايا لجاره ** يروحها العبدان في عازب ندي ) )
وهذا آخر القصيدة .
وقوله : فما زالت الوجناء . . . إلخ الناقة الوجناء : الغليظة . وضفورها : أتساعها
وإنما تجري لأنها قلقت من الضمر . وابن شماس : منادى .
وقوله : تززور امرأً . . . . إلخ قال عبد اللطيف البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة
: فيه صنفان من المدح :
____________________
أحدهما : أنه يؤتي ماله
لاكتسب الحمد فخلص به من رذيلة التبذير الذي هو إنفاق لا لغرض صحيح .
والثاني : أنه ينفق ماله لطلب الحمد لا لعوض آخر فخلص به من رذيلة التقتير وهو أخذ
العوض المحسوس فيما ينفقه فحينئذ تمحض الوسط للفضيلة .
وقوله : ومن يعط . . . إلخ أتى بقضية كلية مشهورة تقتضي استحقاقه للحمد .
وقوله : يرى البخل لا يبقي . . . . إلخ . دل به على أن كرمه ليس لمجرد الطبع فقط
بل عن فكرة وروية واعتقاد صحيح ونظر في العواقب مستقيم .
قال أفلاطون في هذا المعنى : نعم البخل لو كان المال لا يؤتى عليه إلا من جهة
البذل . ولكن لما كان المال معرضاً للتلف بالحوادث الخارجة التي لا يمكن الاحتراس
منها كان إتلافه على يدي مالكه أفضل لأنه يحوز به الحمد .
وقوله : كسوب ومتلاف . . . . إلخ قال عبد اللطيف : وصفه بالشجاعة والسخاء جميعاً .
فبالشجاعة يكتسب وبالسخاء يبذل ويتلف .
ويجوز أن يريد بكسوب أنه يكتسب الحمد وبقوله متلاف البذل فلا يخرج إذن عن وصفه
بالسخاء بل يصح أن يقال إنه وصفه مع السخاء بالعقل لأن السعي في كسب الحمد من
أفعال العقلاء .
وقوله : إذا ما سألته تهلل أي : استبشر واستنار محياه . وهذا إنما يكون عند تناهي
الجود .
وقوله : اهتز اهتزاز المهند وصفه مع البشاشة بالجمال والشهامة واعتدال الحركات فإن
اهتزاز المهند مما يوصف به الشهم الشجاع . وأما اهتزاز القضيب والغصن الرطيب فمما
يوصف به النساء والمترفون .
وقوله : هو الواهب الكوم . . . إلخ الكوم : جمع كوماء وهي الناقة
____________________
العظيمة السنام . والصفايا
: )
جمع صفية وهي الناقة الغزيرة اللبن . والعبدان بالكسر : جمع عبد .
والعازب : النبت البعيد عن الناس فلم يرع فهو أتم له . وهو بالعين المهملة والزاي
المعجمة . وقد حرف العيني هذه الكلمة لفظاً ومعنى فقال : والغارب بالغين المعجمة
والراء : ما بين السنام والعنق .
والحطيئة تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
وأما البيت الآخر وهو : ( متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا ** تجد حطباً جزلاً وناراً
تأججا ) فإن تلمم فيه بدل من تأتنا لأن الثاني من جنس الأول فإنه يقال : ألم الرجل
بالقوم إلماماً : أتاهم فنزل بهم . ومنه قيل : ألم بالمعنى إذا عرفه وألم بالذنب :
فعله . كذا في المصباح .
كما أن تعشو من جنس الإتيان فلولا أنه في شعر لجازم جزمه .
ويدل عليه كلام سيبويه المتقدم وكلام الشارح المحقق فإنه لو كان مراده بالمثلية في
قوله : ويجوز في مثله البدل وقوع المضارع بين الشرط والجزاء فقط لقال : إذا كان
الثاني من جنس الأول ولم يقل لأن الثاني إلخ .
وكذا قال اللخمي في شرح أبيات الجمل قال : ولو كان تعشو في موضع يقوم بالجزم فيه
وزن الفعل لجاز أن يبدل من تأته لأن معناهما واحد لأنه كثر في كلامهم حتى صار كل
قاصد عاشياً . والحطب الجزل بفتح الجيم : الغليظ منه .
يريد أنهم يوقدون الجزل من الحطب لتقوى نارهم فينظر إليها الضيوف على بعد
ويقصدونها .
____________________
والتأجج : توقد النار .
وتأججا في البيت ماض والألف للإطلاق وفاعله ضمير النار .
وقال أبو حنيفة في كتاب النبات : النار تذكر وهو قليل وأنشد هذا البيت .
ويشهد له قول الشمرذل : الطويل ( أناخوا فصالوا بالسيوف وأوقدوا ** بعلياء نار
الحرب حتى تأججا ) وقال بعضهم : النار مؤنثة لا غير وإنما رد الضمير مذكراً لأنه
أراد بها الشهاب وهو مذكر .
وقيل : لأن تأنيث النار غير حقيقي فيكون على طريقة : ولا أرض أبقل وقيل : الضمير
راجع للحطب لأنه أهم إذ النار إنما تكون به . وقيل : ليست الألف للإطلاق )
وإنما هي ضمير الاثنين : الحطب والنار وإنما ذكر الضمير لتغليب الحطب على النار .
____________________
وكذا في قوله : ( من يأتنا
يوماً يقص طريقنا ** يجد حطباً جزلاً وناراً تأججا ) قال أبو علي : قال أبو الحسن
: يعني النار والحطب .
وقال بعضهم : تأججا فعل مضارع محذوف من أوله التاء والألف مبدلة من نون التوكيد
الخفيفة والأصل تتأججن فالضمير المستتر للنار المؤنثة ولهذا أنث الفعل .
والبيت من قصيدة تزيد على ثلاثين بيتاً لعبيد الله بن الحر قالها وهو في حبس مصعب
بن الزبير في الكوفة .
وكان ابن الحر لشهامته لا يطيع أحداً فقال الناس لمصعب : إن عبيد الله بن الحر كان
قد أبى على المختار غير مرة وخالفه وقاتله وفعل مصل ذلك بعبيد الله ابن زياد من
قبل فليس لأحد عليه طاعة ونحن نتخوف أن يثور في السواد فيكسر عليك الخراج كما كان
يفعل وقد أظهر طرفاً من الخلاف فألطف له حتى تحبسه .
فلم يزل مصعب يتلطف به ويعده يمنيه الأماني حتى أتاه فلما أتاه أمر به فحبس فقال
في ذلك قصائد وقال هذه القصيدة وهو في السجن لرجل من أصحابه وكان حبس معه ويقال له
عطية بن عمرو البكري وذلك أن عطية جزع في السجن .
ومطلعها : ( أقول له صبراً عطي فإنما ** هو السجن حتى يجعل الله مخرجاً ) إلى أن
قال : ( ومنزلة يا ابن الزبير كريهة ** شددت لها من آخر الليل أسرجا ) ( لفتيان
صدق فوق جرد كأنها ** قداح براها الماسخي وسحجا ) ( إذا خرجوا من غمرة رجعوا لها
** بأسيافهم والطعن حتى تفرجا
____________________
) متى تأتنا تلمم بنا في
ديارنا . . . . . . . . . . . . . البيت والقصيدة بتمامها في كتاب اللصوص .
وعطي : منادى مرخم عطية . والواو في قوله : ومنزلة واو رب . وابن الزبير هنا مصعب
.
وأسرج : جمع سرج . والجرد : جمع أجرد وهو القصير الشعر من الخيل . )
والقداح : جمع قدح بكسر القاف فيهما وهو عود السهم قبل أن يجعل له نصل . والماسخي
بالخاء المعجمة : الذي يصنع السهام . وسحجا بتشديد الحاء المهملة وقبلها سين مهملة
أي : نحته والغمرة بفتح المعجمة : الشدة . والطعن معطوف على الأسياف وتفرجا أصله
تتفرجن بنون توكيد خفيفة فقلبت ألفاً وحذفت التاء من أوله ومعناه تتكشف . والفرجة
: الثلمة . وفاعله ضمير الغمرة .
وقوله : متى تأتنا فاعله مستتر فيه راجع لفتيان . وكذلك الحال في تلمم وتجد وليست
التاء فيها للخطاب .
ورواه صاحب كتاب اللصوص : ( متى تأتني في منزل قد نزلته ** تجد حطباً جزلاً . . .
البيت ) وترجمة ابن الحر تقدمت مفصلة في الشاهد التاسع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل ( دعني فأذهب جانباً **
يوماً وأكفك جانبا
____________________
) على أنه عطف أكفك
مجزوماً على جواب الأمر المنصوب بأن بعد الفاء السببية . وهو فأذهب قال صاحب
المفصل : وسأل سيبويه الخليل عن قوله تعالى : لولا أخرتني إلى أجل قريب فأصدق وأكن
من الصالحين فقال : هذا كقول ابن معد يكرب : ( دعني فأذهب جانباً ** يوماً وأكفك
جانبا ) وكقوله : الطويل ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى ** ولا سابق شيئاً إذا كان
جائيا ) أي : كما جروا الثاني لأن الأول تدخله الباء فكأنها ثابتة فيه . فكذلك
جزموا لأن الأول يكون مجزوماً ولا فاء فيه فكأنه مجزوم . اه .
أقول : بيت ابن معد يكرب لم يورده سيبويه في كتابه البتة لا هنا ولا في موضع آخر
كما يظهر لك من نقل كلامه بعد هذا .
وقد خبط ابن المستوفي هنا خبط عشواء من وجوه فقال بعد أن نقل عبارة المفصل : الأول
: )
من المسألتين كثير فصحي كقوله تعالى : من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم .
والثاني : لحن لا يأتي إلا في ضرورة شعر لأن لأول محقق فيه الجزم موضعاً لوجود
الفاء و الثاني متوهم فيه الجر لعدم الباء . هذا إذا ثبت أنه روي بفتح الباء في
قوله : فأذهب ولو روي بسكونها كان معطوفاً عليه لفظاً وإذا فتحت الباء كان
____________________
وأكفك معطوفاً على محل
الفاء لأنها أحدها : أن الآية لا مناسبة لإيرادها هنا .
ثانيها : أن بيت زهير لم يقل أحد إنه من قبيل اللحن . وكيف يسوغ تلحين أهل اللسان
لا سيما زهير .
ثالثها : قوله : هذا إذا ثبت أنه روي بفتح الباء . . . إلخ كأنه لم يثبت عنده فتح
الباء مع أنه ثابت عند جميع الرواة .
رابعها : قوله : ولو روى بسكونها . . . إلخ يعني : أنه يكون عطف أمر على أمر .
وفيه أنه يخرج حينئذ عن كونه شعراً .
خامساً : قوله : كان أكفك معطوفاً على محل الفاء . . . إلخ عبارة قلقة وحق التعبير
: على توهم سقوط الفاء وجزم أذهب وهو المسمى عطف التوهم والعطف على المعنى .
هذا : وقال ابن الحاجب في أماليه : يجوز أن يكون المعنى اتركني أتصرف فأذهب إلى
جهة فأكفيك جانباً تحتاج إلى كفايته بتصرفي وذهابي .
ويجوز أن يريد : دعني يوماً وأكفك جانباً يوماً أي : إذا تصرفت لنفسي يوماً كفيتك
جهة تخشاها يوماً آخر . اه .
وقال بعض فضلاء العجم : انتصب جانباً الأول على الظرف والثاني على أنه مفعول ثان
لأكفك كأنه خطاب لمن عذله على السفر والبعد أي : اتركني أذهب في جانب من الأرض
وأكفك جانباً من الجوانب التي تتوجه إليها .
وهذا البيت لم أجده في ديوان عمرو بن معد يكرب فإني تصفحت ديوانه مراراً فلم أره
فيه كما أن غيري تصفح ديوانه فلم يجده فيه . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
الرابع بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل . ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى
** ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا ) على أن قوله : سابق بالجر معطوف على مدرك على
توهم الباء فيه فإنه يجوز زيادة الباء في خبر ليس كقوله تعالى : أليس الله بكاف
عبده .
قال سيبويه في باب الحروف التي تنزل بمنزلة الأمر والنهي لأن فيها معنى الأمر
والنهي : وسألت الخليل عن قول الله عز وجل : فأصدق وأكن فقال : هو كقول زهير :
فإنما جروا هذا لأن الأول تدخله الباء فجاؤوا بالثاني وكأنهم قد أثبتوا في الأول
الباء .
وكذلك هذا لما كان الفعل الذي قبله قد يكون جزماً ولا فاء فيه تكلموا
____________________
بالثاني وكأنهم قد جزموا
قبله . فعلى ذلك توهموا هذا . اه .
وهذا كما ترى ليس فيه البيت السابق . وبيان الآية وأولها : رب لولا أخرتني إلى أجل
قريب فأصدق وأكن من الصالحين . أن لولا معناها الطلب والتحضيض فإذا قلت : لولا
تعطيني معناه أعطني فإذا أتي لها بجواب كان حكمه حكم جواب الأمر إذ كان في معناه
وكان مجزوماً بتقدير حرف الشرط فإذا أجبت بالفاء كان منصوباً بتقدير أن فإذا عطفت
عليه فعلاً آخر جاز فيه وجهان : النصب بالعطف على ما بعد الفاء والجزم على موضع
الفاء لو لم تدخل وتقدير سقوطها .
وقد ذكر سيبويه هذا البيت في ثلاثة مواضع أخر من كتابه .
أحدها : في باب الفاء عند ذكر نواصب الفعل قال فيه بعد أن أنشده : لما كان الأول
يستعمل فيه الباء ولا تغري المعنى وكانت مما يلزم الأول نووها في الحرف الآخر حتى
كأنهم قد تكلموا بها في الأول .
ثانيها : قبيل باب يضمرون فيه الفعل لقبح الكلام أنشده فيه كذلك .
ثالثها : وهو أول موضع وقع في كتابه أنشده في باب اسم الفاعل يعمل عمل فعله بنصب
سابق قال : إذا كان اسم الفاعل منوناً ينصب المفعول به .
وأنكر المبرد رواية الجر وقال : حروف الخفض لا تضمر وتعمل . والرواية عنده : ولا
سابقاً )
بالنصب ولا سابقي شيء بالإضافة إلى الياء ورفع شيء على أنه فاعل سابق .
وروى أيضاً : ولا سابق شيئاً بالرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : ولا أنا
سابق شيئاً .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : وفي هذا البيت شاهد آخر وهو إضافة اسم الفاعل
المعمل وذلك قوله : مدرك ما مضى . والدليل على أنه معمل أنه خبر ليس وليس لا تنفي
ماضياً وإنما تنفي المضارع وعطف سابق عليه .
____________________
وفيه تقدير المصدر على
المعنى إذ لم يكن للفعل الواقع بعدها مصدر فيكون التقدير : بدا لي امتناع إدراك ما
مضى . وإنما قدر المصدر من غير اللفظ لأن ليس لا مصدر لها . بدا : ظهر .
وأني بالفتح . وجملة : لست . . . إلخ في محل خبر أن وأن ومعمولاها في تأويل مصدر
مرفوع فاعل بدا . وما : موصولة ومضى صلتها أو ما نكرة ومضى في محل الصفة .
وإذا : شرطية حذف جوابها ويدل عليه ما قبلها . ولا يصح أن تكون ظرفية لأن الشيء لا
يسبق وقت مجيئه وإنما يسبق قبل مجيئه والعامل في إذا الشرطية هنا خبر كان أو نفس
كان إن قلنا بدلالتها على الحدث .
والبيت نسبه سيبويه تارة إلى زهير بن أبي سلمى وتارة إلى صرمة الأنصاري . وقال ابن
خلف : وهو الصحيح . ويروى لابن رواحة الأنصاري وقد تقدم إنشاده في قصيدة زهير في
الشاهد الخامس والخمسين بعد الستمائة .
____________________
( باب الأمر ) أنشد فيه :
الخفيف لتقم أنت يا ابن خير قريش تقدم شرحه في الجوازم في الحادي والثمانين بعد
الستمائة .
وأنشد بعده : محمد تفد نفسك كل نفس تقدم شرح هذا أيضاً هناك . (
____________________
المتعدي وغير المتعدي ) أنشد
فيه ( الشاهد الخامس بعد السبعمائة ) البسيط ( يقرأن بالسور ) هو قطعة من بيت وهو
: ( تلك الحرائر لا ربات أحمرة ** سود المحاجر لا يقرأن بالسور ) على أن الباء
زائدة في المفعول به .
قال ابن هشام في المغني : وقيل ضمن يقرأن معنى يرقين ويتبركن وأنه يقال : قرأت
بالسورة على هذا المعنى ولا يقال قرأ بكتابك لفوات معنى التبرك . قاله السهيلي .
وقال أيضاً في أول الباب الثامن : قد يعطى النفي حكم ما أشبهه في معناه ومنه إدخال
الباء في لا يقرأن بالسور لما دخله من معنى لا يتقربن بقراءة السور .
ولهذا قال السهيلي : لا يجوز أن تقول : وصل إلي كتابك فقرأت به على حد
____________________
قوله : لا يقرأن بالسور
لأنه عار عن معنى التقرب . اه .
ولا يخفاك أن ما نقله عن السهيلي في الموضعين مختلف وكأنه أشار إلى أن مدار
التضمين لفظ يجوز أن يتعدى بالحرف المذكور أي لفظ كان . وكل من هذه الألفاظ
المذكورة يتعدى بالباء ولكن كلام السهيلي مبني على أن التضمين قياسي .
والبيت وقع في شعرين : أحدهما : للراعي النميري والثاني : للقتال الكلابي . )
أما الأول فهو من قصيدة أولها : ( يا أهل ما بال هذا الليل في صفر ** يزداد طولاً
وما يزداد في قصر ) ( في إثر من قطعت عني قرينته ** يوم الحدالى بأسباب من القدر )
( كأنما شق قلبي يوم فارقهم ** قسمين : بين أخي نجد ومنحدر ) ( هم الأحبة أبكي
اليوم إثرهم ** قد كنت أطرب إثر الجيرة الشطر ) ( فقلت والحرة الرجلاء دونهم **
وبطن لجان لما اعتادني ذكري ) ( صلى على عزة الرحمن وابنتها ** ليلى وصلى على
جاراتها الأخر ) هن الحرائر لا ربات أحمرة . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
قوله : في صفر هو اسم الشهر قالوا : خصه لأن الهم فيه أصابه .
وقيل : كان صفر صيفاً وليل الصيف قصير فقال : كيف طال علي الليل في الصيف وإنما
ذلك لما هو فيه من الغم فلذلك طال عليه الليل . كذا قال ابن المستوفي .
____________________
وقوله : في إثر متعلق
بيزداد وأراد بالقرينة : الحبيبة لأنها تشبه القمر . والحدالى بفتح المهملة والقصر
: موضع .
والجيرة : جمع جار بالجيم . والشطر بضمتين : جمع شطير وهو البعيد .
والحرة الرجلاء : موضع في ديار جذام الأول بالمهملة والثاني بالجيم . ويروى :
والحرة السوداء .
ولجان بفتح اللام وتشديد الجيم : واد قبل حرة بني سليم .
وقوله : صلى على عزة . . . إلخ الصلاة : الرحمة . وعزة بفتح المهملة وتشديد
المعجمة : محبوبة كثير الشاعر .
وقوله : تلك الحرائر . . . إلخ الإشارة بتلك إلى النساء المذكورة . وإيثار اسم
الإشارة لتمييزهن أكمل تمييز وكونه بالبعيد للتعظيم .
وروى : هن الحرائر . وتلك مبتدأ والحرائر خبره وقال بعض أفاضل العجم : الحرائر
صفته .
وقوله : لا ربات هو الخبر . ويبطله رواية هن الحرائر وهو جمع حرة ومعناها الكريمة
والأصيلة قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : والأحمرة : جمع حمار بالحاء المهملة
جمع قلة . وخص الحمير لأنها رذال المال وشره يقال : شر المال ما لا يزكى ولا يُذكى
. اه .
وكذا ضبط هذه الكلمة صاحب كتاب اللصوص وابن المستوفي . وقد
____________________
صحف الدماميني في )
الحاشية الهندية هذه الكلمة بالخاء المعجمة وقال : والأحمرة : جمع خمار وهو ما
تستر به المرأة رأسها .
وفي القاموس : وكل ما ستر شيئاً فهو خمار . هذا كلامه وتبعه من بعده .
وقوله : سود المحاجر صفة ربات لأن إضافة ما بمعنى اسم الفاعل المستمر تخفيفية لا
تفيد تعريفاً كقولهم : ناقة عبر الهواجر أي : عابرة فيها . وكذلك سود المحاجر أي :
مسودة محاجرها وهو جمع محجر كمجلس ومنبر .
قال الجواليقي : هو من الوجه حيث يقع عليه النقاب وما بدا من النقاب أيضاً . اه .
وأراد بهذا الوصف الإماء السود .
قال صاحب أشعار اللصوص : سود المحاجر من سواد الوجوه وخص المحاجر دون الوجه والبدن
كله لأنه أول ما يرى .
ومن هذا قول النابغة : البسيط .
وإنما أراد سواد الجسد كله .
وجملة : لا يقرأن صفة ثانية لربات .
____________________
قال الجواليقي : يقول : هن
خيرات كريمات يتلون القرآن ولسن بإماء سود ذوات حمر يسقينها .
اه .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : إن تلك الحرائر ليست أرباب أحمرة ولا
يتسترن بها سود المحاجر لهزالها أو لكبر أسنانها وجاهلات لا يقرأن القرآن . هذا
كلامه .
وهذا لا يقضى منه العجب .
وعنده أن أحمرة بالمعجمة وهو تصحيف كما مر .
وترجمة الراعي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وأما الشعر الثاني فهو للقتال الكلابي . قال صاحب كتاب اللصوص : أخبرنا أبو سعيد
حدثني أبو زيد حدثني حميد بن مالك أنشدني شداد بن عقبة للقتال في ابنه عبد السلام
: ( عبد السلام تأمل هل ترى ظعناً ** إني كبرت وأنت اليوم ذو بصر ) ( لا يبعد الله
فتياناً أقول لهم ** بالأبرق الفرد لما فاتني نظري ) ) ( صلى على عمرة الرحمن
وابنتها ** ليلى وصلى على جاراتها الأخر ) هن الحرائر . . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وعبد السلام : منادى . وظعن : جمع
ظعينة وهي المرأة في الهودج . والأبرق الفرد : موضع وكذلك عاسم بالمهملتين وفحلين
بإعراب المثنى وذو بقر : أسماء مواضع . وأراد بهذه الظعن نساءه وحريمه .
قال ياقوت في معجم البلدان : فحلين بلفظ التثنية : موضع في جبل أحد .
____________________
وأنشد هذه الأبيات .
والقتال الكلابي اسمه عبد الله بن مجيب بن المضرحي بن عامر بن كعب ابن عبد بن أبي
بكر بن كلاب . وقيل : اسمه عبادة بن المجيب . وقيل : اسمه عبيد بن المجيب وكنيته
أبو المسيب . كذا في كتاب اللصوص .
وهو شاعر إسلامي كان في الدولة المروانية في عصر الراعي والفرزدق وجرير ولقب
بالقتال لتمرده وفتكه . وكان شجاعاً شاعراً . وكان في دناءة النفس كالحطيئة وكانت
عشيرته تبغضه لكثرة جناياته وما يلحقها من أذاه ولا تمنعه من مكروه يلحقه .
وأورد له صاحب كتاب اللصوص جنايات كثيرة وله فيها أشعار .
وأنشد بعده : الطويل على أن دون معطوف على محل الجار والمجرور أعني من دون وكأنه
قال : فإن لم تجد دون عدنان والداً ودون معد .
____________________
وقوله : فلتزعك بفتح الزاي
: أمر من زوعته أزعه وزعاً إذا كففته .
وقد تقدم شرحه مستوفى في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد السبعمائة ) الطويل أشارت كليب بالأكف الأصابع على
أن بقاء عمل حرف الجر بعد حذفه شاذ . وعند ابن عصفور ضرورة والتقدير : أشارت إلى
كليب وكان القياس النصب بعد حذف الجار .
وقد رأيته في ديوانه وفي المناقضات منصوباً . وأنشده أبو علي الفارسي في التذكرة
القصرية بالرفع . وكذا رأيته في شرح المناقضات قال شارحها : أراد : أشارت الأصابع
: هذه كليب .
ويروى : أشرت كليباً أي : رفعت .
إذا قيل أي الناس شر قبيلة والبيت من قصيدة عدتها خمسة وأربعون بيتاً للفرزدق ناقض
بها قصيدة لجرير هجاه بها على هذا الروي وغالب أبياتها في كتب النحو .
____________________
وهذا مطلعها : ( منا الذي
اختير الرجال سماحة ** وخيراً إذا هب الرياح الزعازع ) ( ومنا الذي قاد الجياد على
الوجى ** لنجران حتى صبحتها النزائع ) ( ومنا الذي أعطى الرسول عطية ** أسارى تميم
والعيون دوامع ) ( ومنا الذي يعطي المئين ويشتري ال ** غوالي ويعدو فضله من يدافع
) ( ومنا خطيب لا يعاب وحامل ** أغر إذا التفت عليه المجامع ) ( ومنا الذي أحيا
الوئيد وغالب ** وعمرو ومنا حاجب والأقارع ) ( أولئك آبائي فجئني بمثلهم ** إذا
جمعتنا يا جرير المجامع ) ( بهم أعتلي ما حملتني مجاشع ** وأصرع أقراني الذين
أصارع ) ( فيا عجباً حتى كليب تسبني ** كأن أباها نهشل أو مجاشع ) ( تنح عن
البطحاء إن قديمها ** لنا والجبال الراسيات الفوارع ) ( أتعدل أحساباً لئاماً أدقة
** بأحسابنا إني إلى الله راجع ) ( وكل فطيم ينتهي لفطامه ** وكل كليبي ولو شاب
راضع ) ( تزيد يربوع بهم في عديدهم ** كما زيد في عرض الأديم الأكارع ) ) ( إذا
قيل أي الناس شر قبيلة ** أشارت كليباً بالأكف الأصابع ) وقوله : منا الذي اختبر
الرجال سماحة يأتي شرحه إن شاء الله في بيت بعد هذا .
وقوله : ومنا الذي قاد الجياد . . . إلخ هذا هو الأقرع بن حابس وعمرو ابن كلثوم
كلاهما غزوا نجران .
____________________
وقوله : ومنا الذي أعطى
الرسول . . . إلخ هذا يوم بني عمرو بن جندب حين رد رسول الله صلى الله عليه وسلم
سبيهم .
وقال أبو عبيدة : كلم الأقرع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحاب الحجرات وهم
بنو عمرو بن جندب فرد سبيهم .
وقوله : ومنا خطيب . . . إلخ الخطيب هو عطارد بن حاجب بن زرارة حين وفد إلى النبي
صلى الله عليه وسلم في وفد بني تميم .
والحامل : عبد الله بن حكيم الذي حمل الحمالات يوم المربد يوم قتل مسعود بن عمرو
العتكي وقوله : ومنا الذي أحيا الوئيد هو جده صعصعة بن ناجية كان يشتري البنت ممن
يريد وأدها فأحيا ستاً وتسعين موؤودة إلى زمن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله : فيا عجباً حتى كليب البيت يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حتى الجارة .
وقوله : إذا قيل أي الناس . . . إلخ إنما بنى قيل بالبناء للمفعول لأنه أراد
التعميم أي : إذا قال قائل . وجملة : أي الناس شر قبيلة من المبتدأ والخبر نائب
الفاعل ونيابة الجملة المختصة بالقول نحو : ثم يقال هذا الذي كنتم به تكذبون لأن
الجملة التي يراد بها لفظها تنزل منزلة الأسماء المفردة .
وشر أفعل تفضيل حذفت منها الهمزة . وأشارت : جواب إذا .
وروى أبو علي في تذكرته : أشرت بدله وقال : يريد أشارت إليها بأنها شر الناس يقال
: لا تشر فلاناً أي : لا تشر إليه بشر . وإنما قال أشارت
____________________
للإيماء إلى أن حال هذه
القبيلة في الشر قد صار أمراً محسوسً يشار إليه . والأصابع : فاعل أشارت وإنا جمع
للتنبيه على كثرة المشيرين كل واحد منهم يشير إليهم بإصبع واحدة كما هو المعتاد .
قال الدماميني : وبالأكف حال من الأصابع أي : أشارت الأصابع في حالة كونها مع
الأكف .
يعني أن الإشارة وقعت بالمجموع . قال : وفيه مزيد ذم لهذه القبيلة فالباء على هذا
للمصاحبة . )
وقيل هذا من قبيل القلب المقبول لتضمنه معنى لطيفاً وهو المبالغة في هجو هذه
القبيلة لإيهام أنه صار يشار إليها حال السؤال عن حالها على خلاف المعتاد لمزيد
شرها . والأصل : أشارت الأكف إلى كليب بالأصابع فالباء للاستعانة .
قال ابن الحنبلي : ويقوي الأول أنه يقال : فلان يشار إليه بالأصابع ولا يقال بالكف
فلتكن الأصابع هنا هي المشيرة ظاهراً وباطناً على التجوز في الإسناد من دون قلب .
ورد ابن الملا على شيخه بأنه : إنما يقال ذلك حيث يطوى ذكر الفاعل وما في البيت
ليس كذلك على أن ما يقال إنما يقوي وجه القلب لدخول الباء فيه على الأصابع .
والناس : اسم جمع لإنسان أصله أناس حذفت همزته تخفيفاً . وفي القاموس : الناس يكون
من الإنس ومن الجن .
والقبيلة : واحدة قبائل العرب وهي الطبقة الثانية من الطبقات الست التي عليها
العرب وهي الشعب بالفتح والقبيلة والعمارة والبطن والفخذ والفصيلة . فالشعب يجمع
القبائل وهي تجمع العمائر والعمارة تجمع البطون والبطن يجمع
____________________
الأفخاذ والفخذ يجمع
الفصائل . وإنما قيل لها قبيلة أخذاً من قبيلة الرأس وقبائله : القطع المشعوب
بعضها إلى بعض وذلك لتقابلها وتناظرها في الشعب كما قيل له شعب لتشعب القبائل إليه
أو منه .
ورد عليه جرير في مناقضته بميل هذا البيت فقال : ( إذا قيل أي الناس شر قبيلة **
وأعظم عاراً قيل : تلك مجاشع ) وقبيلة في البيتين بالنصب على التمييز .
وتقدمت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد السبعمائة ) الوافر تمرون الديار ولم تعوجوا على
أن حذف الجار منه على سبيل الشذوذ والجار المحذوف إما الباء وإما على فإن المرور
يتعدى بهما .
____________________
قال ابن هشام في المغني :
وعن الأخفش في مررت بزيد أن المعنى مررت على زيد بدليل : لتمرون عليهم . وأقول :
إن كلاً من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقاً إذا كان مقضياً إلى نفس المجرور
كأمسكت بزيد وصعدت على السطح . فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازي وكقوله : الطويل
وبات على النار الندى والمحلق فإذا استوى التقديران في المجازية فالأكثر استعمالاً
أولى بالتخريج عليه كمررت به ومررت عليه وإن كان قد جاء كما في : لتمرون عليهم
يمرون عليها .
ولقد أمر على اللئيم يسبني
____________________
إلا أن مررت به أكثر فكان
أولى بتقديره أصلاً . ويتخرج على هذا الخلاف خلاف في المقدر في قوله : تمرون
الديار ولم تعوجوا أهو الباء أو على . اه .
يعني : فمن ساوى بين التقديرين قدر أيهما شاء لصحة المعنى بهما . ومن رجح الباء
لكثرة الاستعمال قدرها لأنه متى أمكن المصير إلى الأصل لم يتجاوز عنه .
وعد ابن عصفور حذف الجار وإيصال الفعل إليه ضرورة . والصحيح ما ذهب إليه الشارح
المحقق بدليل ما أورده من الآيات .
وقول الشارح المحقق : والأخفش الأصغر يجيز حذف الجار مع غيرهما أيضاً قياساً إذا
تعين والأخفش الأصغر هو تلميذ أبي العباس وهو أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش .
وليس ما نسبه إليه مذهبه وإنما مذهبه أن يكون الفعل متعدياً بنفسه إلى مفعول واحد
وإلى آخر بحرف جر فحينئذ يجوز حذفه . )
وهذا كلامه فيما كتبه على كامل المبرد قال : فأما قوله : الطويل وأخفي الذي لولا
الأسى لقضاني
____________________
فإنما يريد : لقضى علي
الموت كما قال الله تعالى : فلما قضينا عليه الموت فالموت في النية وهو معلوم
بمنزلة ما نطقت به . ومثله : واختار موسى قومه . أي : لقومه .
وكذلك قوله تعالى : وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون والمعنى : إذا كالوا لهم أو
وزنوا لهم أي : كالوا لهم الشيء ووزنوه لهم . والمكيل والموزون معلوم بمنزلة ما
ذكر في اللفظ .
ولا يجوز مررت زيداً وأنت تريد بزيد لأنه لا يتعدى إلا بحرف وذلك أنه فعل الفاعل
في نفسه وليس فيه دليل على مفعول وليس هذا بمنزلة ما يتعدى إلى مفعولين فيتعدى إلى
أحدهما بحرف الجر وإلى الآخر بنفسه لأن قولك : اخترت الرجال زيداً قد علم بذكرك
زيداً أن حرف الجر محذوف من الأول . فأما قول جرير وإنشاد أهل الكوفة له وهو قوله
: ورواية بعضهم له : أتمضون الديار ولم تحيا فليستا بشيء لما ذكرت لك . والسماع
الصحيح والقياس المطرد لا تعترض عليه الرواية الشاذة . أخبرنا أبو العباس محمد بن
يزيد قال : قرأت على عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير : مررتم بالديار ولم تعوجوا
____________________
فهذا يدلك على أن الرواية
مغيرة . اه .
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الأخطل النصراني . وهذا مطلعها : ( متى كان الخيام
بذي طلوح ** سقيت الغيث أيتها الخيام ) ( تنكر من معالمها ومالت ** دعائمها وقد
بلي الثمام ) ( أقول لصحبتي لما ارتحلنا ** ودمع العين منهمر سجام ) ( تمرون
الديار ولم تعوجوا ** كلامكم علي إذاً حرام ) ومنها : ( لقد ولد الأخيطل أم سوء **
على باب استها صلب وشام ) قوله : متى كان الخيام . . . . إلخ . أورد ابن هشام عجزه
في المغني على أنه قد تولدت واو من )
والخيمة عند العرب : كل بيت يبنى من عيدان الشجر . وذو طلوح بمهملتين : مكان .
والطلح : شجر عظيم له شوك .
والمعالم : جمع معلم كمقعد : مظنة الشيء وما يستدل به . والدعامة بالكسر : عماد
البيت .
والثمام بضم المثلثة : نبت ضعيف له خوص ربما حشي به الوسائد ويسد به خصاص البيوت .
والمنهمر : المنسكب . والسجام بالكسر : مصدر سجم الدمع إذا سال .
وقوله : ولم تعوجوا يقال : عاج رأس البعير إذا عطفه بالزمام . وكلامكم مبتدأ وهو
مصدر مضاف إلى مفعوله الفاعل محذوف أي : كلامي إياكم . وحرام : خيره وعلي متعلق
بالخبر .
وقوله : لقد ولد الأخيطل أورده صاحب الكشاف شاهداً لقراءة إبراهيم
____________________
النخعي : ولم يكن له صاحبة
بالمثناة التحتية على أنه لم يؤنث الفعل المسند إلى المؤنث الحقيقي للفصل .
والأخيطل : مصغر الأخطل صغره تحقيراً له . والصلب : جمع صليب .
وشام : جمع شامة وهي العلامة . يريد أن أمه فعلت فعل الموشمات نقشت صورة الصليب في
ذلك الموضع .
وفي القاموس أن الأخطل كان يلقب بذي صليب .
والشام : النقوش . وفي بعض حواشي المفصل : صلب وشام : نبتان يصفها بخشونة ذلك
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل .
ومنا الذي اختير الرجال سماحة على أن الرجال منصوب بنزع الخافض والأصل : من الرجال
وهو المفعول الثاني المقيد بحرف الجر لاختار فإنه يتعدى إلى الأول بنفسه وإلى
الثاني
____________________
بحرف الجر . والمفعول
الأول هنا نائب الفاعل وهو الضمير العائد إلى الذي في اختير .
وهذا الحذف كثير الاستعمال ولهذا قال الشارح المحقق : وكذا يحذف من المفعول الثاني
.
والإشارة لقوله سابقاً .
وأما كثرة الاستعمال قال سيبويه في باب الفاعل الذي يتعداه فعله إلى مفعولين : إن
شئت اقتصرت على المفعول الأول وإن شئت تعدى إلى الثاني ومن ذلك : اخترت الرجال عبد
الله .
ومثل ذلك قوله تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً وسميته زيداً .
أستغفر الله ذنباً لست محصيه وقال عمرو بن معد يكرب : البسيط
____________________
أمرتك الخير فافعل ما أمرت
به وهذه أفعال توصل بحروف الإضافة فتقول : اخترت من الرجال وسميته بفلان كما تقول
: عرفته بهذه العلامة وأستغفر الله من ذلك . فلما حذفوا حرف الجر عمل الفعل .
وليس أستغفر الله ذنباً وأمرتك الخير أكثر في كلامهم جميعاً وإنما يتكلم به بعضهم
.
فهذه الحروف كان أصلها في الاستعمال أن توصل بحروف الإضافة . ومنه قول الفرزدق : (
منا الذي اختير الرجال سماحة ** وجوداً إذا هب الرياح الزعازع ) اه .
والبيت مطلع قصيدة للفرزدق تقدم أبيات منها قبل هذا بشاهد . قال صاحب المصباح :
سمح بكذا يسمح بفتحتين سموحاً وسماحاً وسماحة : جاد وأعطى أو وافق على ما أريد منه
.
والجود : الكرم . وروى بدله : وخيراً بكسر المعجمة وهو الكرم .
والزعازع : جمع زعزع كجعفر وهي الريح التي تهب بشدة . وعنى بذلك الشتاء وفيه تقل
الألبان وتعدم الأزواد ويبخل الجواد . )
فيقول : هو جواد في مثل هذا الوقت الذي يقل فيه الجود . وسماحة وجوداً مصدران
منصوبان على المفعول لأجله كأنه قيل : اختير من الرجال لسماحته وجوده .
ويجوز أن يكونا تمييزين أو حالين أي : سمحاً وجواداً . قاله ابن خلف ولم يذكر ابن
المستوفي غير الأخيرين .
وقال ابن السيد في أبيات المعاني : ونصب سماحة على المصدر مما دل عليه اختبر لأنه
لا يختار إلا الكرام .
____________________
وأرد بقوله : ومنا الذي
اختير أباه غالباً وكان جواداً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع بعد السبعمائة ) الطويل ( خرجت إلى إقطاعه في ثيابه **
على طرفه من داره بحسامه ) على أنه يجوز أن يجتمع على فعل واحد عدة من حروف الجر
إذا كانت مختلفة فإن الفعل الواحد قد يتعدى بعدة من حروف الجر على مقدار المعنى
المراد من وقوع الفعل لأن هذه المعاني كامنة في الفعل وإنما يظهرها حروف الجر فإنك
إذا قلت : خرجت فأردت أن تبين ابتداء خروجك قلت : خرجت من الدار .
فإن أردت أن تبين انتهاءه قلت : إلى المسجد : وإن أردت أن تبين ظرفه قلت : في
ثيابي . وإن أردت أن تبين أنه مقارن للاستعلاء قلت : على الفرس . وإن أردت أن تبين
الملابسة والصحبة قلت : بحسامي . ويجوز أن يكون بعض هذه المجرورات في موضع الحال .
وهذا البيت يوجد في بعض النسخ قبل قوله : وإلى اثنين كأعطى وعلم بسطر بعد قوله :
خرجت من الكوفة إلى البصرة لإكرامك .
والبيت من مقطوعة عدتها ستة أبيات للمتنبي قالها ودع سيف الدولة ابن حمدان وأراد
التوجه إلى إقطاعه التي أقطعه إياها .
قال ياقوت الحموي في معجم البلدان : السبعين هو بلفظ العدد : قرية
____________________
بباب حلب كانت إقطاعاً
للمتنبي من سيف الدولة .
وإياها عنى بقوله : )
أسير إلى إقطاعه . . . . . . . . . . . . البيت وأوله الثابت في جميع نسخ ديوانه
هو كما أنشده ياقوت بلفظ : أسير . ( أيا رامياً يصمي فؤاد مرامه ** تربي عداه
ريشها لسهامه ) الإصماء : إصابة المقتل في الرمي .
والمعنى أنه إذا طلب شيئاً أصاب خالص ما طلبه كالرامي يصيب فؤاد ما يطلبه برميه .
وقوله : تربي عداه مثل وذلك أن السهام إنما تنفذ بريشها وأعداؤه يجمعون العدد
والأموال له لأنه يأخذها فيتقوى بها على قتالهم فكأنهم يربون الريش لسهامه حيث
يجمعون المال له .
فالريش مثل الأموال والسهام مثل له .
أسير إلى إقطاعه في ثيابه البيت يريد أن جميع ما يتصرف فيه من ضروب مملوكاته إنما
هو من جهته وإنعامه . وكأن هذا تفصيل ما أجمله النابغة في قوله : الوافر ( وما
أغفلت شكري فانتصحني ** وكيف ومن عطائك جل مالي ) وقد فصله النابغة أيضاً فقال :
الطويل (
____________________
وإن تلادي إن نظرت وشكتي
** ومهري وما ضمت إليه الأنامل ) ( حباؤك والعيس العتاق كأنها ** هجان المها تردي
عليها الرحائل ) وهذا كما قال أبو نواس : الرجز ( وما مطر تنيه من البيض والقنا **
وروم العبدى هاطلات غمامه ) الروم : جمع رومي كما يقال : زنج وزنجي . والعبدى :
العبيد . يعني وما أنعم علي من أنواع نعمه من الأسلحة والعبيد الرومية . ( فتى يهب
الإقليم بالمال والقرى ** ومن فيه من فرسانه وكرامه ) ( ويجعل ما خولته من نواله
** جزاء لما خولته من كلامه ) أي : يجازيني بنواله إذا مدحته بما استفدته من الأدب
من كلامه . ( فلا زالت الشمس التي في سمائه ** مطالعة الشمس التي في لثامه ) أي :
لا زالت شمس السماء تطالع وجهه الذي هو كالشمس . وأضاف السماء إليه مبالغة في
المدح كما قال الفرزدق : الطويل
____________________
)
لنا قمراها والنجوم الطوالع وقال ابن جني : أضف السماء إليه لإشرافها عليه كما قال
الآخر : الطويل ( إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ** سهيل أذاعت غزلها في القرائب )
أضاف الكوكب إليها لجدها في عملها عند طلوعه .
تم الجزء الثالث ويله الجزء الرابع أوله أفعال القلوب . (
____________________
أفعال القلوب ) أنشد فيها
( الشاهد العاشر بعد السبعمائة ) الوافر تعلم أن بعد الغي رشداً على أن تعلم التي
بمعنى اعلم أمراً لا تنصب المفعولين بل ترد الاسمية مصدرة ب أن السادة مع معموليها
مسد المفعولين . ويقل نصبها للمفعولين كقول زياد بن سيار الجاهلي : الطويل ( تعلم
شفاء النفس قهر عدوها ** فبالغ بلطف في التحيل والمكر ) وهذا المصراع من قصيدة
طويلة جداً للقطامي .
وقبله : ( وأما يوم قلت لعبد قيس ** كلاماً لا أريد به خداعا ) ( تعلم أن بعد الغي
رشداً ** وأن لهذه الغبر انقشاعا
____________________
) ( ولو تستخبر العلماء
عنا ** ومن شهد الملاحم والوقاعا ) وتقدم في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة
ما تقدم من أول القصيدة إلى هذه الأبيات مع ترجمته .
وتقدم أيضاً إيراد أبيات بعد هذه الأبيات في الشاهد التاسع والتسعين بعد الخمسمائة
.
وقوله : وأما يوم قلت لعبد قيس هو أخو القطامي .
وقوله : تعلم أن بعد الغي . . . . إلخ الغبر : جمع غبرة وهي القتمة يريد ما أظل من
الأمور الشداد المظلمة . والانقشاع : الانكشاف .
وأورد اللبلي المصراع الثاني في شرح الفصيح : الانكشاف . )
وأورد اللبلي المصراع الثاني في شرح الفصيح برواية : وأن لتالك الغبر انقشاعاً
وقال : تالك بكسر اللام لغة في تلك في الإشارة إلى المؤنثة البعيدة . ويريد
القطامي بهذا تسلية أخيه فإن بني أسد كانوا أوقعوا ببني تغلب في نواحي الجزيرة
والقطامي منهم فأسره بنو أسد وأرادوا قتله فحال زفر بن الحارث الكلابي بينه وبينهم
وحماه وكساه وأعطاه مائة ناقة كما تقدم .
وقوله : ولو تستخبر العلماء . . . . إلخ هو بالبناء للمفعول . والملاحم : جمع
ملحمة وهي وقوله : بتغلب أي : عن تغلب كقوله : البسيط
____________________
واسأل بمصقلة البكري ما
فعلا أي : عن مصقلة . وتغلب : قبيلة القطامي وهو تغلب بن وائل .
ثم أخذ بعد هذا يذكر مآثر قومه في الجاهلية .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي عشر بعد السبعمائة ) المنسرح ( الله موف للناس ما زعما
) على أن زعم قد يستعمل في التحقيق .
رأيت في شرح الكتاب للسيرافي : الزعم قول يقترن به اعتقاد وقد يصح ذلك أو لا يصح .
فأما قول الجعدي : ( تودي قم واركبن بأهلك إ ** ن الله موف للناس ما زعما ) فقيل :
الزعم هاهنا بمعنى القول وقيل : بمعنى الضمان . ومنه قول عمرو بن شأس : الطويل قيل
معناه كما ضمن وقيل كما قال .
____________________
وشاهد الزعم بمعنى القول
قول أبي زبيد : البسيط ( يا لهف نفسي إن كان الذي زعموا ** حقاً وماذا يرد اليوم
تلهيفي ) أي : الذي قالوه . وذلك أنه سمع من يقول : حمل عثمان على النعش إلى قبره
. وهذا ليس فيه معنى ظن ولا ضمان . اه . )
وقال ابن بري في حاشية الصحاح : الزعم يأتي في كلام العرب على أربعة أوجه : يكون
بمعنى الكفالة والضمان شاهد قول عمر بن أبي ربيعة : الرمل ( قلت : كفي لك رهن
بالرضا ** وزعمي يا هند قالت : قد وجب ) وقال النابغة يصف نوحاً : نودي قم واركبن
بأهلك . . . . . . . . . البيت زعم هنا فسر بمعنى ضمن وبمعنى قال وبمعنى وعد .
ويكون بمعنى الوعد قال عمرو بن شأس : الطويل ( وعاذلة تخشى الردى أن يصيبني **
تروح وتغدو بالملامة والقسم ) تقول هلكنا إن هلكت . . . . . . . . . . . البيت قال
أبو زبيد الطائي : يا لهف نفسي إن كان الذي زعموا . . . . . . . . . . . . البيت
المعنى : إن كان الذي قالوه حقاً لأنه سمع من يقول : حمل عثمان على النعش إلى قبره
.
____________________
وقال المثقب العبدي :
الرمل ( وكلام سيئ قد وقرت ** أذني عنه وما بي من صمم ) ( فتصاممت لكي ما لا يرى
** جاهل أني كما كان زعم ) ويكون بمعنى الظن قال عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن
مسعود : الطويل . ( فذق هجرها إن كنت تزعم أنه ** رشاد ألا يا ربما كذب الزعم )
فهذا البيت لا يحتمل سوى الظن وبيت عمر لا يحتمل سوى الضمان وبيت أبي زبيد لا
يحتمل سوى القول وما سوى ذلك على ما فسر .
وبيت النابغة روي لأمية بن أبي الصلت وبيت عمرو بن شأس روي لمضرس . اه .
وما أورده الشارح قطعة من قوله : ( نودي قم واركبن بأهلك إ ** ن الله . . . . . .
. . . البيت ) وزعم فيه على ما فسروه متعد إلى مفعول واحد وهو الضمير المحذوف
العائد إلى ما والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي الصحابي أولها : ( الحمد لله لا
شريك له ** من لم يقلها فنفسه ظلما ) )
فالألف في قوله : زعما للإطلاق .
قال ابن خالويه في كتاب ليس : قال بعض المفسرين : إن الزعم زاملة
____________________
الكذب . وليس في كلام
العرب وأشعارهم زعم محموداً إلا في بيتين قال أمية بن أبي الصلت وقيل للنابغة
الجعدي في قصيدة أولها : نودي قم واركبن . . . . . . . . . . . البيت فهذا على
الحق . وسمعت الزاهد يقول : زعم في هذا البيت بمعنى قال ووعد كما يقال : زعم
الشافعي أي : قال . اه .
والقصيدة التي هي لأمية بن أبي الصلت طويلة ذكر فيها صنع الله وعظم قدرته .
وقبله : ( عرفت أن لن يفوت الله ذو قدم ** وأنه من أمير السوء ينتقم ) ( المسبح
الخشب فوق الماء سخرها ** خلال جريتها كأنها عوم ) ( تجري سفينة نوح في جوانبه **
بكل موج مع الأرواح تقتحم ) ( مشحونة ودخان الموج يرفعها ** ملأى وقد صرعت من
حولها الأمم ) ( حتى تسوت على الجودي راسية ** بكل ما استودعت كأنها أطم ) قال
شارح ديوانه : يقال : سبح الرجل وأسبحه الله . والعوم : جمع العومة كأنها حية تكون
بعمان . والعامة : شبه الطوف إلا أنه أصغر منه يركب فيه البحر . في جوانبه : جوانب
الماء .
ومشحونة : مملوءة يقال : اشحن سفينتك أي : املأها . والجودي فيها
____________________
سوق يقال له : سوق
الثمانين لثمانين رجلاً كانوا مع نوح في السفينة . والأطم بضمتين : القصر والجمع
آطام .
وترجمة أمية تقدمت في الشاهد السادس والثلاثين .
قال ابن خالويه : وقصدية النابغة : ( يا مالك الأرض والسماء ومن ** يفرق من الله
لا يخف أثما ) ( إنني امرؤ قد ظلمت نفسي وإ ** لا تعف عني أغلى دماً كثما ) ( أطرح
بالكافرين في الدرك ا ** لأسفل يا رب أصطلي الضرما ) ( يا أيها الناس هل ترون إلى
** فارس بادت وخر من دعما ) ( أمسوا عبيداً يرعون شاءكم ** كأنما كان ملكهم حلما )
) ( أو سبا الحاضرين مأرب إذ ** يبنون من دون سيله العرما
____________________
) وأنشد بعده : الكامل (
ولقد نزلت فلا تظني غيره ** مني بمنزلة المحب المكرم ) على أن ظن يقل فيها نصب
المفعول الواحد فإن معناه هنا لا تظني شيئاً غير نزولك . وصحة هذا المعنى لا تقتضي
تقدير مفعول آخر .
وفيه رد للنحويين فإنهم قالوا : المفعول الثاني لظن محذوف اختصاراً لا اقتصاراً .
وبه استشهد شراح الألفية وقالوا : تقديره : فلا تظني غيره واقعاً أو حقاً . وجملة
: فلا تظني غيره معترضة بين نزلت وبين متعلقة وهو مني .
وهذا البيت من معلقة عنترة وتقدم شرحه في الشاهد الموفي المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد السبعمائة ) الطويل ( بأي كتاب أم بأية سنة **
ترى حبهم غاراً علي وتحسب
____________________
) على أنه قد حذف مفعولا
تحسب للقرينة والتقدير : وتحسب حبهم عاراً علي . ( فلما جنة الفردوس هاجرت تبتغي
** ولكن دعاك الخبز أحسب والتمر ) نصب جنة الفردوس بتبتغي وهي حال من التاء في
هاجرت . وجاز تقديم ما انتصب بتبتغي لجواز تقديم الفعل نفسه حتى كأنه قال : فما
مبتغياً جنة الفردوس هاجرت على حد قوله تعالى : خشعاً أبصارهم يخرجون من الأجداث .
ولم يعمل أحسب على اللفظ وأراد مفعوليها فحذفهما كبيت الكميت : بأي كتاب . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . البيت أي : وتحسب ذاك كذلك . ولا يحسن أن تجعلها
هنا لغواً من قبل أنها لم تقع بين المبتدأ وخبره ولا بعدهما نحو : زيد قائم أحسب
وإنما كان اعتبار عملها أو إلغائها هناك لأنها لو كانت عاملة لعملت فيهما وأما
هاهنا فلا سبيل إلى الخبز والتمر ونحوهما . اه .
وقوله : بأي كتاب متعلق بقوله ترى .
والبيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد الأسدي مدح بها آل النبي صلى الله عليه وسلم
. )
وبعده : ( إذا الخيل واراها العجاج وتحته ** غبار أثارته السنابك أصهب
____________________
) ( فما لي إلا آل أحمد
شيعة ** وما لي إلا مشعب الحق مشعب ) وتقدمت مع ترجمته في الشاهد الثاني بعد
الثلثمائة .
وأنشد بعده : الخفيف ( لا تخلنا على غرائك إنا ** طالما قد وشى بنا الأعداء ) على
أنه قد حذف المفعول الثاني من تخلنا وتقديره كما قال الشارح المحقق : لا تخلنا
أذلة على إغرائك الملك بنا .
والبيت من معلقة ابن حلزة تقدم شرحه مع ترجمته في الشاهد الثامن والأربعين من
أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد السبعمائة ) البسيط (
____________________
كذاك أدبت حتى صار من خلقي
** إني وجدت ملاك الشيمة الأدب ) على أن وجدت قد ألغي عن العمل مع تقدمه وهو ضعيف
وقبيح .
وخرجه الشارح المحقق تبعاً لسيبويه على تقدير لام الابتداء أو على تقدير ضمير
الشأن تبعاً أما على الأول فتكون معلقة عن العمل في اللفظ بلام الابتداء المقدرة
ويكون ما بعدها من المبتدأ والخير في محل نصب على أنهما سادان مسد مفعولي وجد .
وأما على الثاني فيكون ضمير الشأن المحذوف هو المفعول الأول والجملة بعده في محل
المفعول الثاني .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : أراد : وجدته ملاك الشيمة الأدب كقولك : ظننته زيد
منطلق أي : ظننت الأمر والشأن زيد منطلق إلا أنه حذف الضمير في وجدت للضرورة كما
حذف أيضاً في بيت الكتاب : الخفيف ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن . . . . . . .
. . . . البيت ) أراد : إنه من لام . ألا ترى أن من هنا شرط فلا ينصبها ما قبلها
كالاستفهام . وعلى هذا )
تقول : ظننت أبوك أخوك أي : ظننته . فاعرفه . اه .
والفرق بين الإلغاء والتعليق أن الأول : إبطال العمل لفظاً ومحلاً والثاني :
إبطاله لفظاً لا محلاً لمجيء ما له صدر الكلام . وكأن العيني لم يفرق بينهما لقوله
:
____________________
ألغي عمل وجدت لكون لام
الابتداء مقدرة والصواب علق وجدت عن العمل لفظاً لكون لام الابتداء مقدرة .
ولا يخفى أن هذا التخريج على كلام ابن جني يكون من باب غسل الدم بالدم . والصحيح
أن حذف ضمير الشأن لا يختص بالشعر . ومنه الحديث : إن من أشد الناس عذاباً يوم
القيامة المصورون وحكاية الخيل : إن بك زيد مأخوذ .
ولم يورد ابن عصفور هذا في كتاب الضرائر .
والبيت أورده أبو تمام في الحماسة مع بيت قبله ونسبه إلى بعض الفزاريين وهو : (
أكنيه حين أناديه لأكرمه ** ولا ألقبه والسوءة اللقب ) لكن روايته بنصب القافيتين
ولا تحتاج إلى ما ذكر من التوجيه ويكون اللقب على روايته مفعول ألقبه . والسوءة
منصوبة أيضاً .
قال ابن جني : نصب السوءة لأنه جعلها مفعولاً معه أي : لا ألقبه مع السوءة اللقبا
مقترناً بالسوءة .
ألا ترى أنك تجد هذا المعنى في المفعول معه تقول : قمت وزيداً فتجد معناه قمت
مقترناً بزيد . اه .
قال ابن الناظم تقديم المفعول معه على مصحوبه اتفق الجمهور على منعه وأجازه أبو
الفتح في الخصائص واستدل بقوله : الطويل
____________________
جمعت وفحشاً غيبة ونميمة
ولا ألقبه والسوءة اللقبا على رواية نصب السوءة واللقب أراد : ولا ألقبه اللقب
والسوءة أي : مع السوءة لأن من اللقب ما يكون لغير سوءة كتلقيب الصديق عتيقاً
لعتاقة وجهه فلهذا قال الشاعر : ولا ألقبه اللقب مع السوءة أي : إن لقبته لقبته
بغير سوءة .
قال الشيخ يعني والده ولا حجة لابن جني في البيتين لإمكان جعل الواو فيهما عاطفة
قدمت هي ومعطوفها وذلك في البيت الأول ظاهر وأما في البيت الثاني فعلى أن يكون
أصله ولا ألقبه )
اللقب وأسوؤه السوءة ثم حذف ناصب السوءة كما حذف ناصب العيون من قوله : الوافر
فزججن الحواجب والعيونا ثم قدم العاطف ومعمول الفعل المحذوف . اه .
وأما على رواية رفع القافية فالسوءة مرفوعة على الابتداء واللقب الخبر والجملة حال
من الهاء . والسوءة بالفتح : اللفظة القبيحة .
____________________
وقال العيني على رواية نصب
القافيتين : ويجوز أن يكون انتصاب السوءة على المعنى يعمل فيه معنى لا ألقبه فيكون
على هذا من باب : مجزوء الكامل ( يا ليت بعلك قد غدا ** متقلداً سيفاً ورمحا ) وإن
رفع فارتفاعه يجوز أن يكون بالابتداء ويكون الخبر مضمراً كأنه قال : والسوءة ذاك .
يعني إن لقبته والفحش فيه .
ويجوز أن يكون مبتدأ وخبره اللقبا يكون مصدراً كالجمزى . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ
محذوف كأنه قال : لا ألقبه اللقبا وهو السوءة . اه .
وهذه الاحتمالات لا فائدة فيها سوى تسويد الورق . على أن اللقبا بالألف مقصوراً
غير موجود .
وقوله : أكنيه حين أناديه العرب إذا أرادت تعظيم المخاطب خاطبته بالكنية وعدلت عن
التصريح باسمه . وصف الشاعر نفسه بحسن العشرة مع صاحبه .
وقوله : كذاك أدبت هو بالبناء للمفعول والكاف هنا اسم مفعول مطلق أي : أدبت
تأديباً مثل ذلك والإشارة إلى البيت الأول . وحتى ابتدائية كقوله تعالى : حتى عفوا
واسم صار الضمير المستتر فيها العائد إلى الأدب المفهوم من أدبت . ومن خلقي خبر
صار .
وقوله : إني وجدت بكسر الهمزة استئناف أرسله مثلاً . وقال العيني : الكاف للتشبيه
أي : كمثل الأدب المذكور . وحتى للغاية بمعنى إلى . ومن متعلق بصار .
وقوله : أني وجدت بفتح الهمزة فاعل صار . هذا كلامه وفيه خلل من وجوه .
____________________
قال الجوهري : ملاك الأمر
وملاكه أي : بالكسر والفتح : ما يقوم به . والشيمة بالكسر : الخلق .
والأدب الذي تعرفه العرب هو ما يحسن من الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه وبذلك
المجهود وحسن اللقاء . )
والنصب والرفع في قافيتي البيتين رواهما ابن جني والطبرسي من شراح الحماسة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة ) البسيط ( أرجو وآمل أن تدنو مودتها
** وما إخال لدينا منك تنويل ) على أنه قد ألفى إخال عن العمل مع تقدمه .
وقال ابن هشام في شرح بانت سعاد : وجه إلغاء إخال هنا عدم تصدرها فإن حرف النفي
لما تقدمها أزال عنها التصدر المحض فسهل إلغاءها كما سهل إلغاء ظننت تقدم متى وإني
في : متى ظننت زيد منطلق وقول الحماسي : إني وجدت ملاك الشيمة الأدب أو يكون
الإلغاء على تقدير حرف النفي داخلاً على الجملة الاسمية وتقدير إخال معترضاً
بينهما . اه .
ويجوز أن يخرج أيضاً كالذي قبله إما على تقدير لام الابتداء أو على تقدير ضمير
الشأن فيكون على الأول معلقاً عن العمل في اللفظ ويكون جملة : لدينا منك تنويل في
موضع المفعولين .
____________________
وعلى الثاني تكون عاملة
لفظاً ويكون مفعولها ضمير الشأن المحذوف أي : ما إخاله وجملة : لدينا منك تنويل في
موضع المفعول الثاني .
وقد تقدم الفرق بين الإلغاء والتعليق . ويظهر كون التعليق هو العمل في محل الجملة
من عطف شيء على الجملة المعلقة فإنه يعرب بإعرابها المحلي كقول كثير : الطويل (
وما كنت أدري قبل عزة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتى تولت ) فعطف موجعات بالنصب
على محل ما البكا وهذا على تقدير اسمية ما . فإن كانت حرفاً زائداً فأدري بمعنى
أعرف والبكا : مفعوله ولا يكون مما نحن فيه .
قال ابن هشام في المغني : رأيت بخط الإمام بهاء الدين بن النحاس : أقمت مدة أقول :
القياس جواز العطف على محل الجملة المعلق عنها بالنصب . ثم رأيته منصوصاً . اه .
وممن نص عليه ابن مالك ولا وجه للتوقف فيه مع قولهم إن المعلق عامل في المحل . اه
.
حكاه عنه أحمد بن محمد بن الحداد البجلي البغدادي في شرح قصيدة بانت سعاد وكان )
تاريخ شرحه في بغداد سنة أربع وعشرين وسبعمائة .
قال في شرحه : وقال ابن إياز الرومي : يجوز فيه وجه آخر وهو أن تكون ما موصولة
وموضعها رفع بالابتداء ومفعول إخال الأول محذوف
____________________
وهو العائد إلى ما ومنك
المفعول الثاني وتنويل : خبر المبتدأ . انتهى كلامه .
قلت : ولدينا في هذا الوجه والذي قبله وهو تقدير ضمير الشأن : ظرف لأخال .
ومعنى البيت على هذا الوجه : إن الذي أظنه وإخاله من وصالها المقدر يجري عندي مجرى
الوصل المحقق من فرط المحبة .
وقد أبان التهامي عن هذا المعنى فبالغ وأحسن بقوله : البسيط ( أهتز عند تمني وصلها
طرباً ** ورب أمنية أحلى من الظفر ) وابن الخياط الدمشقي عكس هذا المعنى ورده على
معتقده بقوله : الوافر ( أمني النفس وصلاً من سعاد ** وأين من المنى درك المراد )
وهذا قول من لا يقنع بدون الوصال ولا يسوف نفسه بالمحال . وأين هو من قناعة الآخر
بالنير حين بالغ بقوله : الطويل انتهى كلام البغدادي .
وهذا البيت من قصيدة بانت سعاد المشهورة في مدح رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد أورد الشارح بيتاً آخر منها في حروف الشرط في أواخر الكتاب . وقد اعتنى بشرحها
أجلة العلماء والذي يحضرني من شروحها الآن شرح أبي العباس الأحول مع شرح جميع
ديوانه وهو عني بخطه .
وشرح أبي عبد الله نفطويه النحوي . وشرح أبي بكر بن الأنباري وهو شرح صغير قليل
الجدوى . وشرح البغدادي المذكور وشرح ابن هشم الأنصاري وهما
____________________
أجل الشروح .
لكن شرح البغدادي أكثر استنباطاً لمعاني الشعر وأدق تفتيشاً للمزايا والنكت . وشرح
ابن هشم أوعى منه للمسائل النحوية وتفسير الألفاظ اللغوية وكل منهما في حجم الآخر
وعصر تأليفهما متقارب .
وهذا البيت لم يرد في رواية نفطويه ورواه أبو العباس الأحول كذا . ( أرجو وآمل أن
يعجلن في أبد ** وما لهن طوال الدهر تعجيل ) )
وعليه لا شاهد فيه . قال الأحول : في أبد : في دهر .
ويروى : أي : لا يعجلن وصلنا في الرواية الأولى . يقول : آمل وأرجو وما أظن ذلك
يكون أبداً . انتهى كلامه .
وضبط بخطه يعجلن بفتح الياء والجيم على أنه مبني للفاعل . وطوال بفتح الطاء على
أنه ظرف بمعنى طول الدهر ولكن لم يتقدم لضمير جمع المؤنث مرجع .
فإن قلنا : إن المرجع سعاد وإن جمع الضمير للتعظيم ورد أن إرجاع ضمير الجمع إلى
الواحد إنما هو في التكلم والخطاب وقد ورد تعظيم الغائب قليلاً .
قال البيضاوي في تفسير قوله تعالى : من فرعون وملئهم من سورة يونس : والضمير
لفرعون وجمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء . لكن استشكله شراحه .
قال سعدي : أي قدر لفرعون عند لله حتى يعبر عنه بصيغة التعظيم . نعم لو
____________________
كن هذا من كلام من يعظم
فرعون لكان له وجه .
وكذا قال الكازروني .
وأورد البغدادي هذه الرواية وقال : الضمير في يعجلن ولهن لمواعيدها في البيت الذي
قبله وهو : ( كانت مواعيد عرقوب لها مثلاً ** وما مواعيدها إلا الأباطيل ) ويعجلن
من العجلة وهو خلاف البطء يقال : عاجله وأعجله إذا سبقه . وعجل هو يعجل من باب فرح
. والأبد : الدهر .
يقول : أرجو أن تسبق مواعيدها ويسرع إنجازها في دهر من الدهور ولا يحصل ذلك .
والرواية الأولى أشهر . اه .
ورواه ابن سيد الناس في سيرته تبعاً لسيرة ابن هشام : ( أرجو وآمل أن يعجلن في أمد
** وما لهن إخال الدهر تعجيل ) وقوله : أرجو وآمل . . . إلخ أرجو مع فاعله المستتر
جملة استئنافية لا تعلق لها بما قبلها وهو البيت الذي نقلناه .
وآمل معطوف عله وهو بمعناه وحسن العطف لتغاير اللفظين وعطف المترادفين لا يكون إلا
)
بالواو .
وقال البغدادي : وبعضهم فرق بينهما بأن الرجاء توقع حصول مطلوب في المستقبل مع خوف
عدم وقوعه . والأمل : طلب حصول ما يغلب وقوعه في ظن الطالب لتعلقه به وإن لم
يقارنه خوف عدم الوقوع .
____________________
وقال صاحب المصباح : أملته
أملاً من باب طلب وهو ضد اليأس . وأكثر ما يستعمل الأمل قال : أرجو وآمل أن تدنو
مودتها ومن عزم على سفر إلى بلد بعيد يقول : أملت الوصل ولا يقول : طمعت إلا إذا
قرب منها فإن الطمع لا يكون إلا فيما قرب حصوله . وقد يكون الأمل بمعنى الطمع .
والرجاء بين الأمل والطمع فإن الراجي قد يخاف أن لا يحصل مأموله فلهذا يستعمل
بمعنى الخوف .
فإن قوي الخوف استعمل استعمال الأمل وعليه بيت كعب وإلا استعمل بمعنى الطمع فأنا
آمل وهو مأمول . وأملته تأميلاً مبالغة وتكثير وهو أكثر استعمالاً من المخفف . اه
.
وفي المجلس الثامن والخمسين من أمالي ابن الشجري البغدادي أنه استفتي عن مسائل
منها : هل يأمل ومأمول وما تصرف منها جائز فأجاب عنها أولاً الحسن بن صافي المكنى
أبا نزار المتلقب بملك النحاة بأن أمل يأمل لا يجوز لأن الفعل المضارع إذا كان على
يفعل بضم العين كان بابه أن ماضيه على فعل بفتح العين وأمل لم أسمعه فعلاً ماضياً
.
فإن قيل : فقدر أن يأمل مضارع ولم يأت ماضيه كما أن يذر ويدع كذلك .
قلت : قد علم أن يذر ويدع على هذا القضية قد جاءا شاذين فلو كان معهما كلم أخرى
شاذة لنقلت نقلهما ولم يجز أن لا تنقل .
وما سمعنا أن ذلك ملحق بما ذكرنا فلا يجوز يأمل ولا مأمول إلا أن يسمعني الثقة أمل
خفيفة الميم . كتبه أبو نزار النحوي .
____________________
قال ابن الشجري : وأجاب
عنه الشيخ أبو منصور موهوب بن أحمد : وأما أمل يأمل فهو آمل والمفعول مأمول . فلا
ريب في جوازه عند العلماء وقد حكاه الثقات منهم الخليل وغيره والشاهد عليه كثير .
قال بعض المعمرين : مجزوء الكامل ) ( المرء يأمل أن يعي ** ش وطول عيش قد يضره )
وقال الآخر : المنسرح ( ها أنا ذا آمل الخلود وقد ** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) وقال
كعب بن زهير : والعفو عند رسول الله مأمول وقال المتنبي وهو من العلماء بالعربية :
حرموا الذي أملوا كتبه موهوب بن أحمد .
وكتب على هامش الأمالي هنا أبو اليمن الكندي البغدادي : قد جاء أمل مخففاً ماضياً
في شعر ذي الرمة وهو قوله : الطويل ( إذا الصيف أجلى عن تشاء من النوى ** أملت
اجتماع الحي في صيف قابل ) ولا غرو أن لا يحضر الشاهد للإنسان وقت طلبه .
____________________
وهذا البيت ذكره أبو حنيفة
الدينوري في كتابه في الأنواء وذكره ابن جني في الخاطريات . وهو في ديوان ذي الرمة
مشهور . اه .
وأجاب ابن الشجري بقوله : وأما قوله في أمل وآمل أنهما لا يجوزان عنده لأنه لم
يسمع في الماضي منهما أمل خفيف الميم فليت شعري ما الذي سمع من اللغة ووعاه حتى
أنكر أن يفوته هذا الحرف وإنما ينكر مثل هذا من أنعم النظر في كتب اللغة كلها ووقف
على تركيب أ م ل في كتاب العين للخليل وكتاب الجمهرة لابن دريد والمجمل لابن فارس
وديوان الأدب للفارابي وكتاب الصحاح للجوهري وغير ذلك من كتاب اللغة .
فإذا وقف على أمهات كتب هذا العلم التي استوعب كل كتاب منها اللغة أو معظمها فرأى
أن هذا الحرف قد فات أولئك الأعيان ثم سمع قول كعب بن زهير : سلم لكعب وأذعن له
صاغراً فكيف يقول : من لم يتولج سمعه عشرة أسطر من هذه الكتب التي ذكرتها : لم
أسمع أمل ولم أسلم أن يقال : مأمول .
وأما قوله : إنه لا يجوز يأمل ولا مأمول إلا أن يسمعني الثقة أمل فقول من لم يعلم
بأنهم قالوا : )
فقير ولم يقولوا في ماضيه فقر ولم يأت فعله إلا بالزيادة أفتراه ينكر أن يقال :
فقير لأن الثقة لم يسمعه فقر ولعله يجحد أن يكونوا نطقوا بفقير وقد ورد به القرآن
في قوله جل ثناؤه :
____________________
إني لما أنزلت إلي من خير
فقير . وهل إنكار فقير إلا كإنكار مأمول بل إنكار فقير عنده أوجب لأنهم لم يقولوا
في ماضيه إلا افتقر ومأمول قد نطقوا بماضيه بغير زيادة . انتهى كلام ابن الشجري .
وقد نقل ابن هشام في شرح هذه القصيدة السؤال والجوابين باختصار ثم قال : ومن
الغريب أن هذين الإمامين لم يستدلاً على مجيء آمل بالبيتين في هذه القصيدة أحدهما
البيت الشاهد وثانيهما قوله : وقال كل خليل كنت آمله بل تكلف ابن الجواليقي وأنشد
قول شاعر آخر .
وقول ابن الشجري إنه لم يسمع فقر اعتمد فيه على كلام سيبويه والأكثرين . وذكر ابن
مالك أن جماعة من أئمة اللغة نقلوا مجيء فقُر وفَقِر بالضم والكسر وأن قولهم في
التعجب ما أفقره مبني على ذلك وليس بشاذ كما زعموا . اه .
وقوله : أن تدنو سكنت الواو للضرورة أو أهملت أن حملاً على ما المصدرية وهي مع
مدخولها في تأويل مفرد منصوب تنازعه الفعلان فأعمل الثاني وحذف مفعول الأول كما هو
الأولى عند البصريين . ومودتها : فاعل تدنو والضمير لسعاد . والمودة : مراعاة
الصحبة .
وقوله : وما إخال الواو للاستئناف وكسر همزة إخال فصيح استعمالاً شاذ قياساً وفتحها
لغة أسد .
وقوله : لدينا منك تنويل قال البغدادي : تنويل مبتدأ ولدينا خبره ومنك : حال من
تنويل وكان صفته فلما تقدمه صار حالاً منه .
ومن فيه لابتداء الغاية . ولدى ظرف مكان غير متمكن بمنزلة عند لا يجر إلا بمن .
وتنويل : تفعيل من النوال وهو العطاء وكأنه كنى به عن وصلها . وفي
____________________
منك التفات من الغيبة إلى
الخطاب . اه .
وجوز ابن هشام ارتفاع تنويل بأحد الظرفين لاعتماده على النفي وتكون جملة إخال :
معترضة كقوله : المنسرح )
ولم يبين ما موضع الظرف الآخر من الإعراب وجوز أيضاً أن يكون كل منهما أو كلاهما
خبراً عن تنويل والمسوغ إما تقدم النفي أو تقدم الخبر . وإذا قدر الظرفان خبرين
قدر لكل منهما متعلق يخصه .
وإذا قدر الخبر الأول فالظرف الثاني إما متعلق به أو بمتعلقه المحذوف على الخلاف
المشهور في أن العمل للظرف أو للاستقرار . وإما حال فيتعلق بمحذوف وصاحب الحال إما
الضمير المستتر في الظرف الأول لأن الصحيح أن الظرف يتحمل ضميراً منتقلاً إليه من
الاستقرار المحذوف .
وإما نفس التنويل وعامله على هذا الاستقرار المقدر لا الابتداء لأن الحال إنما
يعمل فيها الفعل أو شبهه أو معناه .
وإذا قدر الخبر الظرف الثاني كان الظرف الأول متعلقاً به وجاز تقديمه عليه للاتساع
في الظرف .
وكعب بن زهير صحابي تقدم نسبه في ترجمة والده في الشاهد الثامن والثلاثين بعد
المائة .
وقال ابن عبد البر في الاستيعاب : كان كعب بن زهير شاعراً مجوداً كثير الشعر
مقدماً في طبقته هو وأخوه بجير وكعب أشعرهما وأبوهما زهير فوقهما .
____________________
قال خلف الأحمر : لولا
قصائد لزهير ما فضلته على ابنه كعب . ولكعب ابن شاعر اسمه عقبة ولقبه المضرب لأنه
شبب بامرأة فضربه أخوها بالسيف ضربات كثيرة فلم يمت . وله ابن أيضاً يقال له
العوام شاعر .
ومما يستجاد لكعب قوله : البسيط ( لو كنت أعجب من شيء لأعجبني ** سعي الفتى وهو
مخبوء له القدر ) ( يسعى الفتى لأمور ليس يدركها ** فالنفس واحدة والهم منتشر ) (
والمرء ما عاش ممدود له أمل ** لا تنتهي العين حتى ينتهي الأثر ) ومما يستجاد له
أيضاً : السريع ( إن كنت لا ترهب ذمي لما ** تعرف من صفحي عن الجاهل ) ( فاخش
سكوتي إذ أنا منصت ** فيك لمسموع خنا القائل ) ( والسامع الذم شريك له ** ومطعم
المأكول كالآكل ) مقالة السوء إلى أهلها أسرع من منحدر سائل ) ( ومن دعا الناس إلى
ذمه ** ذموه بالحق وبالباطل ) وسبب إسلام كعب وخبر هذه القصيدة مذكور في كتب السير
والأخبار لا سيما في شرحيهما للبغدادي وابن هشام .
وملخصه على ما نقله البغدادي عن أبي عمرو بن العلاء : أن زهيراً قال لبنيه :
____________________
إني رأيت في منامي سبباً
دلي من السماء إلى الأرض فمددت يدي لأتناوله ففاتني فأولته بالنبي الذي يبعث في
هذا الزمان وني لا أدركه فمن أدركه منكم فليؤمن به .
فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم آمن بجير بن زهير وأقام كعب على الكفر
والتشبيب بنساء المسلمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لئن وقع كعب بن زهير
في يدي لأقطعن لسانه .
وكتب كعب أبياتاً أرسلها إلى بجير يوبخه على إسلامه فكتب بجير إلى كعب : إن رسول
الله صلى الله عليه وسلم قد أهدر دمك فإن أسلمت ولقيته مسلماً طمعت لك في النجاة
وإلا فإني أحسبك لا تنجو فأسلم كعب وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنشده
هذه القصيدة فأمنه النبي صلى الله عليه وسلم وأجازه بردته الشريفة التي بيعت
بالثمن الجزيل حتى بيعت في أيام المنصور الخليفة بمبلغ أربعين ألف درهم .
وبقيت في خزائن بني العباس إلى أن وصل المغول وجرى ما جرى . والله أعلم بحقيقة
الحال .
وأنشد بعده الخفيف على
____________________
أن اسم إن ضمير الشأن حذف
لضرورة الشعر والتقدير : إنه من يدخل إلخ .
وهذا البيت قد تقدم شرحه في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد السبعمائة ) الوافر ( ولستم فاعلين إخال حتى
** ينال أقاصي الحطب الوقود ) على أن إخال الملغاة وقعت معترضاً بها بين اسم
الفاعل وهو فاعلين وبين معموله وهو حتى فإنها جارة بمعنى إلى متعلقة به . وينال
منصوب بأن مضمرة بعدها .
والبيت من أبيات ستة لعقيل بن علفة أوردها أبو تمام في الحماسة وهي : ( تناهوا
واسألوا ابن أبي لبيد ** أأعتبه الضبارمة النجيد ) ( ولستم فاعلين إخال حتى ** ينال
أقاصي الحطب الوقود ) ( وأبغض من وضعت إلي فيه ** لساني معشر عنهم أذود ) ( ولست
بسائل جارات بيتي ** أغياب رجالك أم شهود ) ( ولا ملق لذي الودعات سوطي ** ألاعبه
وريبته أريد
____________________
) في شرح التبريزي :
البيتان الأخيران لابن أبي نمير القتالي من بني مرة جاء بهما أبو تمام ضلة في هذه
الأبيات وليستا منها . وكذا قال أبو عبيد البكري في اللآلي شرح أمالي القالي نقلاً
عن أبي الفضل الرياش .
قوله : تناهوا واسألوا . . . إلخ كلاهما فعل أمر من النهي والسؤال . والضبارمة بضم
المعجمة بعدها موحدة هو الجريء على الأعداء . ويسمى الأسد ضبارمة . ويقال : هو
الأسد الوثيق الخلق الكثير اللحم .
والنجيد : ذو النجدة وهو البأس والشدة . وأعتبه بمعنى أرضاه . وليس يريد الرضا
ولكن يريد : هل جازيته بما فعل لي لأنه لما جنى عليه فكأنه استدعى شره كما يستدعي
الرجل العتبي من صاحبه .
يقول : كفوا عما أنتم عليه من تهييج الشر واسألوا هذا الرجل هل أرضاه الأسد القوي
الشديد لما تحكك به وهل وفاه ما استحقه عليه كابن أبي لبيد كان أجدر منهم بأن ينال
البغية منه لشدة شكيمته وقوته فأخفق . يقول : سلوه عن وتره عنده هل نقضه ثم لينهكم
ذلك عن الجراءة على مثلي .
وقوله : ولستم فاعلين . . . إلخ حذف مفعول فاعلين وهو ما دل عليه في البيت قبله
تناهوا )
كأنه قال : ولستم فاعلين التناهي . والوقود بالضم : إيقاد النار وبالفتح : الحطب .
والأقصى : الأبعد . وهذا مثل تمثل به في انتهاء الشر .
يقول : لستم متناهين عما أكرهه منكم حتى يعمكم الشر ويبلغ البلاء أقصى المبلغ
فيتعدى من الأقارب إلى الأباعد ومن السقيم إلى البريء . وذكر الحطب والوقود هنا
مثلاً لتفاقم الشر واتساع المكروه .
____________________
وقوله : وأبغض من وضعت . .
. إلخ فيه تقديم وتأخير وأصله : وأبغض من وضعت لساني فيه إلى معشر أذود عنهم أي :
أبغض الأشياء إلي أن أهجو معشري الذين يلزمني الذب عنهم فمن هنا نكرة موصوفة وصفته
الجملة التي هي وضعت لساني فيه وقد فصل بينهما بقوله : إلي وهو أجنبي منها . وهذا
في الصفة أقرب منه في الصلة .
وقوله : ولست بسائل . . . . إلخ كنى في البيت عن عفته . يقول : لا أكلم جارتي لأني
أصونها عن الكلام . ويجوز أن يكون تعرضاً للذي يهجوه أي : لا أغتنم الخلوة لجارات
بيتي فأتطلب غيبة رجالهن عنهن .
وقوله : ولست بصادر . . . إلخ يقول : إذا دعاني الجار إلى بيته يكرمني ببره لا
أصدر عن بيته والطمع في ماله بحاله كما يصدر العير عن الماء وقد غمره الورود .
والتغمير كالتصريد وهو شرب دون الري ومنه الغمر للقدح الصغير . وقيل : في غمره إنه
بمعنى أرواه من الغمر وهو الماء الكثير .
فيكون المعنى : لا أتهالك على طعامه كالمنهوم الخسيس الهمة لكنني آكل آكلاً كريماً
. والمعنى الأول أوجه . وقيل : معناه إني لا أصدر عن بيته ونفسي تدعوني إلى صاحبة
البيت لأني رجعت مسرعاً حين علمت بمكان جاري عنه كما يفعل العير إذا أحس بالقانص .
وقوله : ولا ملق لذي الودعات . . . إلخ الودعة : الخرزة تعلق في عنق الصبي أي : لا
أشغل الصبي ذا الودعات بسوطي وأنا أريد ريبته أي : ريبة أمه .
ويروى : وربته أريد وعلى هذا فالمراد أمه لأنها تربه وتملك أمره . ويجوز أن يريد
بذي الودعات : ابن أمة ويريد بربته مولاته . وجملة : ألاعبه حال .
____________________
وعقيل بن علفة شاعر إسلامي
في الدولة الإسلامية المروانية تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والعشرين بعد
الثلثمائة . )
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( ولقد علمت لتأتين منيتي ** إن المنايا
لا تطيش سهامها ) على أن علم نزل منزلة القسم فيكون جملة لتأتين جواب القسم الذي
هو علمت وحينئذ تخرج عما نحن فيه فلا تقتضي معمولاً ولا تتصف بعمل لوا تعليق ولا
إلغاء .
وهذا مأخوذ من كلام سيبويه فإنه أورد هذا البيت في باب أفعال القسم وقال : كأنه
قال : والله لتأتين منيتي كما قال : قد علمت لعبد الله خير منك . اه .
ويجوز أن تبقى علم هنا على بابها وتكون معلقة بلام القسم فيكون جملة : لتأتين
منيتي
____________________
جواباً لقسم محذوف تقديره
: ولقد علمت والله لتأتين منيتي .
وجملتا القسم والجواب في موقع نصب بعلمت المعلق .
وإلى هذا ذهب ابن الناظم في شرح الألفية قال : ومنها أي : من المعلقات لام
الابتداء والقسم كقوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه ماله في الآخرة من خلاق
وكقول الشاعر : ولقد علمت لتأتين منيتي . . . . . . . . . . . . . البيت وقرره ابن
هشام في شرح شواهده وجوز الوجه الأول أيضاً فيه ثم قال : ويأتي الوجهان في الآية
الكريمة أيضاً .
والسابق إلى تجويز الوجهين في الآية والبيت ابن جني في سر الصناعة قال فيه : وأما
قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه الآية . فاللام في لقد لام القسم وهو محذوف
والتقدير : والله لقد علموا .
واللام في لمن اشتراه لام الابتداء ومن بمنزلة الذي مبتدأ وصلته اشتراه وما له في
الآخرة خبره والجملة في موضع نصب بعلموا كما تقول : قد علمت لزيد أفضل منك فلام
الابتداء وهمزة الاستفهام في التعليق سواء . وهذا مذهب سيبويه .
وذهب غيره إلى جعل من شرطاً وجعل اللام فيه كالتي تعترض زائدة بين القسم والمقسم
عليه فالتقدير : والله لقد علموا لئن أحد اشتراه ما له في الآخرة من خلاق . وفي
جعل من للشرط بعض الضعف وذلك أن علموا تقتضي مفعولها فإذا أوقعت القسم بعدها صار
التقدير : ولقد علموا أحلف بالله لئن اشتراه أحد . )
وإذا تأدى الأمر إلى هذا قبح أن تلي علمت فعل القسم لأنها وأخواتها إنما يدخلن على
المبتدأ والخبر .
فإن قلت : فعلام تجيز كون من شرطاً وقد قدمت قبح ذلك فالجواب أن جواز ذلك على أن
تجعل علموا نفسها قسماً . وقد استعملتها العرب بمعنى القسم . ومن أبيات الكتاب :
____________________
فكأنه قال : والله لتأتين
منيتي .
فإن قلت : فإذا جعلت علموا جارياً مجرى القسم وعندك أن اللام في لقد دالة على
القسم المحذوف فكأنه عندك : والله لقد علموا وقولك : لقد علموا جار مجرى القسم
فكيف يجوز على هذا دخول القسم على القسم أولا ترى أن الخليل وسيبويه ذهبا في قوله
تعالى : والشمس وضحاها والقمر إذا تلاها أن جميع ما بعد الواو الأولى من الواوات
إنما هو حرف عطف لئلا يدخل قسم على قسم فيبقى الأول منهما غير مجاب .
فالجواب : أن ذلك إنما جاز في علموا من حيث كان إنما هو في معنى القسم وليس قسماً
صريحاً وإنما هو بمنزلة اشهد لقد كان كذا . فلأجل هذا جاز أن تكون من في لمن
اشتراه شرطاً واللام في أولها مؤكدة للشرط . فاعرف ذلك . اه .
والبيت نسبه سيبويه في كتابه للبيد والموجود في معلقته إنما هو المصرع الثاني
وصدره : صادفن منها غرة فأصبنه والنون من صادفن ضمير الذئاب وضمير منها ضمير
البقرة الوحشية والهاء في أصبنه ضمير ولد البقر .
ولم
____________________
يوجد للبيد في ديوانه شعر
على هذا الوزن والروي غير المعلقة . والله أعلم .
وأنشد بعده : الكامل ( . . . . . . . . . . . وإنني ** قسماً إليك مع الصدود لأميل
) على أن لقد علمت في البيت السابق منزل منزلة القسم فصار كقوله : قسماً في هذا
البيت وهو بتقدير أقسم قسماً .
وقوله : لأميل خبر مبتدأ محذوف أي : لأنا أميل والجملة جواب القسم .
وقد تقدم مشروحاً في الشاهد التسعين . )
وأصله : ( إني لأمنحك الصدود وإنني ** قسماً إليك . . . . . . . . . . البيت )
وأنشده بعده ( الشاهد السابع عشر بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز
____________________
لقد علمت أي يوم عقبتي قال
سيبويه في باب ما لا يعلم فيه ما قبله من الفعل الذي يتعدى : وتقول : عرفت أي يوم
الجمعة فتنصب على أنه ظرف لا على عرفت . وإن لم تجعله ظرفاً رفعت . وبعض العرب
يقول : لقد علمت أي يوم عقبتي . وبعضهم يقول : أي يوم عقبتي . اه .
وظاهر سياقه إن هذا كلام لا شعر ولهذا لم يشرحه أكثر شراح شواهده ولم يورده أحد
منهم في الأبيات إلا أبو جعفر النحاس وقال بعده : لا أنشده قال بعضهم : أي حين إذا
رفع فلان الاستفهام لا يفعل فيه ما قبله فيكون مبتدأ وخبره عقبتي . فإذا نصبت
جعلته ظرفاً ولم يعلم فيه علمت . اه .
يعني أن أياً اكتسبت الظرفية من حين لإضافتها إليه .
وأورده أيضاً ابن السيرافي في شرح أبياته وقال : هو من رجز الراجز وهو : ( أأنت يا
بسيطة التي التي ** هيبنيك في المقيل صحبتي
____________________
) ( لقد علمت أي حين عقبتي
** هي التي عند الهجير قالت ) إذا النجوم في السماء ولت وبسيطة : اسم أرض بين
الكوفة وحزمن بني يربوع .
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : وفيها يقول عدي بن عمرو الطائي : البسيط .
وخطأ ابن السيرافي في قوله : البسيطة : الأرض المنبسطة الممتدة .
ثم رأيت ابن خلف أورد هذا الرجز وقال في مثال سيبويه : أما نصبه فعلى قولك : في أي
الأوقات الاجتماع للصلاة ورفعه جيد كأنه قال : أي الأيام يوم الجمعة والسبت مثل
الجمعة .
وإنما جاز النصب في ذلك لأن الجمعة فيها معنى الاجتماع والأصل في السبت الراحة وهو
فعل واقع في اليوم . ولو قلت : اليوم الأحد والاثنان إلى الخميس لم يجز إلا الرفع
. وليس للأحد )
معنى يقع في اليوم .
ثم قال سيبويه : وبعض يقول : لقد علمت أي يوم عقبتي أنشده نصباً وهذا البيت من
الشعر وقد خلط بالكلام في الكتاب .
والشاهد فيه نصب أي على الظرف . وعقبتي مبتدأ وأي حين : خبره كأنه قال : أي
الأحيان اعتقابي يريد ركوب عقبته . ورفعه جائز على ما قدمته . والبسيطة : الأرض
المنبسطة الممتدة .
____________________
هيبنيك صحبتي : هيبوني من
ركوبك والسير فيك . والهجير : الهاجرة . وولت النجوم : يعني النجوم التي كانت في
أول الليل مرتفعة ولت انحطت لتغيب .
يريد أنه له عقبتين : عقبة بالليل وعقبة بالنهار . انتهى كلامه .
وذهب بالبسيطة إلى معناها اللغوي . وقد رده أبو محمد الأعرابي وقال : إنها علم
لأرض بعينها وعلمت بالبناء للمعلوم والتكلم . والعقبة بضم العين المهملة وسكون
القاف وهو مضاف إلى الياء .
قال صاحب العباب : العقبة بالضم : النوبة بالنون . تقول : تمت عقبتك أي : نوبتك .
ولم أقف عليه بأكثر من هذا والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن عشر بعد السبعمائة ) الكامل غادرته جزر السباع وهو
قطعة من بيت وهو : ( غادرته جزر السباع ينشنه ** ما بين قلة رأسه والمعتصم ) على
أن غدر ملحق بصير في العمل والمعنى إذا كان ثاني المنصوبين معرفة كما في البيت .
والمشهور في روايته : وتركته جزر السباع .
____________________
وقد استشهد به في
التفسيرين على أن ترك في قوله : وتركهم في ظلمات لا يبصرون كما في البيت .
وترك في الأصل يتعدى إلى مفعول واحد لأنه بمعنى طرح وخلى ثم ضمن معنى صار إلا أن
ما في البيت متعد قطعاً إلى مفعولين لكون الثاني معرفة بخلاف الآية فإن ترك فيها
يحتمل أن تكون بمعنى الأصل متعدية إلى مفعول واحد ويكون في ظلمات لا يبصرون حالين
مترادفتين كما قاله ابن الحاجب : ( ومدجج كرة الكماة نزاله ** لا ممعن هرباً ولا
مستسلم ) ( جادت يداي له بعاجل طعنة ** بمثقف صدق الكعوب مقوم ) ( فشككت بالرمح
الطويل ثيابه ** ليس الكريم على القنا بمحرم ) وتركته جزر السباع . . . . . . . .
. . . . . . البيت وقوله : ومدجج أي : رب مدجج وهو التام السلاح بكسر الجيم وفتحها
. والكماة : الشجعان . والنزال : المنازلة في الحرب .
وقوله : لا ممعن إلخ صفة ثانية لمدجج والإمعان : المبالغة ومعناه لا يمعن هرباً
فيبعد ولا هو مستسلم فيؤسر ولكنه يقاتل . ويقال : معناه لا يفر فراراً بعيداً إنما
هو منحرف لرجعة أو كرة وأراد وصفه بالحزم في الحرب . وأراد أنه وإن كان بهذه الصفة
وكان ممن
____________________
تكره منازلته فإني لم أجبن
عنه ولا هبته ولكني أقدمت عليه .
وقوله : جادت يداي . . . . إلخ أي : سبقته بالطعن لأني كنت أحذق منه . والمثقف :
الرمح المقوم . والصدق بالفتح : الصلب . وما بين كل أنبوبتين كعب . )
وقوله : فشككت بالرمح . . . إلخ أي : انتظمت ثيابه بالرمح يريد أن الرماح مولعة
بالكرام لحرصهم على الإقدام . وقيل : معناه كرمه لا يخلصه من القتل المقدر له .
وقوله : وتركته جزر السباع . . . إلخ الجزر : جمع جزرة بفتح الجيم والزاي وهي
الشاة أو الناقة تنحر وتذبح . أي : تركته لحماً للسباع . والنوش : التناول .
وقلة رأسه : أعلاه . والمعصم : موضع السوار من الذراع . وكان الوجه أن يقول : ما
بين قلة رأسه والقدم فلم يمكنه للقافية . ويحتمل أنه استعار المعصم لما فوق القدم
من الساق لتقاربهما في الخلقة .
وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الوافر ( سمعت الناس ينتجعون غيشاً ** فقلت لصيدح انتجعي بلالاً
____________________
) على أن الفعل التالي
لاسم العين بعد سمع يجوز أن لا يكون بمعنى النطق كما في البيت فإن الانتجاع التردد
في طلب العشب والماء وليس قولاً والمسموع مطلق الصوت سواء كان قولاً أو حركة فإن
المشي فيه صوت تحريك الأقدام .
وكذا الانتجاع هو طلاب النجعة وهي مكان المطر إذا أجدبوا . والطلب إما بالسؤال وهو
قول أو بالتردد ذهاباً ومجيئاً وفيه حركات مسموعة .
والشارح المحقق مسبوق بهذا الاختيار .
وقال ابن مالك في التسهيل : ألحقوا برأي العلمية الحلمية وسمع المعلقة يعين ولا
يخبر بعدها إلا بفعل دال على صوت . اه .
وهذا مخالف لصريح كلام الرضي . وقوله في أماليه إن قياس سمعتك تمشي على سمعت أنك
تمشي قياس مع الفارق لأنه بتقدير الباء وليس من هذا القبيل الذي يدخل على المبتدأ
والخبر .
أقول : مراده أن سمع في المثالين متعلقه مطلق الصوت سواء كان من استعمال واحد أو
من استعمالين . فإن سمع في أكثر استعمالاته متعلقة الصوت ولا يستعمل في غير مسموع
إن اللفظة موضوعة له ولا يلزم الدلالة على الصوت وضعاً بل يكفي الدلالة عليه ولو
التزاماً . )
وقول الشارح المحقق : بنصب الناس فيه رد على الحريري بإنكاره النصب فإنه قال في
درة الغواص : ومن أوهامهم في هذا المعنى أنهم ينشدون بيت ذي الرمة : سمعت الناس
ينتجعون غيثاً
____________________
فينصبون لفظ الناس على
المفعول ولا يجوز ذلك لأن النصب بجعل الانتجاع مما يسمع وما هو كذلك . إنما الصواب
أن ينشد بالرفع على وجه الحكاية . اه .
وقد تبع في هذا المبرد فإنه قال في الكامل : قوله سمعت الناس ينتجعون غيثاً حكاية
والمعنى إذا حقق إنما هو : سمعت هذه اللفظة أي : قائلاً يقول : الناس ينتجعون
غيثاً ومثل هذا قوله : الوافر ( وجدنا في كتاب بني تميم ** أحق الخيل بالركض
المعار ) فمعناه وجدنا هذه اللفظة مكتوبة .
فقوله : أحق الخيل ابتداء والمعار : خبره . وكذلك الناس ابتداء وينتجعون خبره .
ومثل هذا في الكلام : قرأت الحمد لله رب العالمين إنما حكيت ما قرأت وكذلك : قرأت
على وقد روى النصب في البيت جماعة ثقات منهم ابن السيد في أبيات المعاني ومنهم
الفارقي في شرح أبيات الإيضاح ومنهم الزمخشري وغيره .
وقد أورده بالرفع الزمخشري أيضاً في أول سورة البقرة على أن جملة : الناس ينتجعون
محكي والحكاية إما بقول مقدر على مذهب من اشترط في الحكاية القول أو بسمعت على
خلاف .
وتقديره كثير .
واعلم أن نحو : سمعت زيداً يقول كذا اختلف فيه : فعند الأخفش وأبي علي
____________________
الفارسي في الإيضاح وابن
مالك وصاحب الهادي وجم غفير أنه يتعدى إلى مفعولين : الأول : الذات والثاني :
الجملة المذكورة بعد .
قال البعلي في شرح الجمل : وأما سمع فإن وليه ما يسمع تعدى إلى مفعول واحد تقول :
سمعت الحديث وسمعت الكلام . وإن وليه ما لا يسمع تعدى إلى مفعولين كقولك : سمعت
زيداً يقول كذا .
ولم يجز بعضهم سمعت زيداً قائلاً إلا أن يعلقه بشيء آخر لأن قائلاً من صفات الذات
والذات لا تسمع . )
وأما قوله تعالى : هل يسمعونكم إذ تدعون فعلى حذف المضاف تقديره : هل يسمعون قال
في شرح الهادي : وفيه نظر فإن الثاني من قولنا : سمعت زيداً يقول : جملة والجملة
لا تقع مفعولاً إلا فغي الأفعال الداخلة على المبتدأ والخبر نحو : ظننت وسمعت ليس
منها بل الحق أنه مما يتعدى إلى مفعول واحد ولا يكون إلا مما يسمع .
فإن عديته إلى غير مسموع فلا بد من قرينة بعده تدل على أن المراد ما يسمع فيه .
فإن قلت : سمعت زيداً يقول : فزيداً مفعول على تقدير مضاف أي : سمعت قول زيد ويقول
في موضع الحال . اه .
وهذا النظر غير وارد وفي كلامهم ما يدفعه . كذا في التسهيل وقد نقلنا عبارته .
فعلم أن من قال بنصبها مفعولين جعلها مما يدخل على المبتدأ والخبر لأن الحواس
الظاهرة لما أفادت الإدراك والعلم إذ كانت طريقاً له أجروها مجرى رأى وعلم لذلك
فأعلموا عملها .
____________________
وذهب بعضهم إلى جعل الجملة
حالاً بعد المعرفة وصفة بعد النكرة . قال القاضي في تفسير : سمعنا فتى يذكرهم .
صفة مصححة لأن يتعلق به السمع وهو أبلغ في نسبة الذكر إليه .
ووجه كونه أبلغ إيقاع الفعل على المسموع منه وجعله بمنزلة المسموع مبالغة في عدم
الواسطة بينهما ليفيد التركيب أنه سمعه منه بالذات . وضمير هو راجع إلى التعلق .
وهذا معنى قوله في تفسير : سمعنا منادياً ينادي للإيمان حيث قال : أوقع الفعل على
المسمع وقال الفاضل في حواشي الكشاف : في مثل هذا يجعل ما يسمع صفة للنكرة وحالاً
للمعرفة فأغنى عن ذكر المسموع . لكن لا يخفى أنه لا يصح إيقاع فعل السماع على
الرجل إلا بإضمار أو مجاز أي : سمعت كلامه .
وأن الأوفق بالمعنى فيما جعل وصفاً أو حالاً أن يجعل بدلاً بتأويل الفعل على ما
يراه بعض النحاة لكنه قليل في الاستعمال فلذا آثر الوصفية والحالية . اه .
وإنما كان البدل أوفق لأنه يستغني عن التجوز والإضمار إذ هو حينئذ بدل اشتمال ولا
يلزم فيه قصد تعلق الفعل بالمبدل منه حتى يحتاج إلى إضمار أو تجوز كما في : سلب
زيد ثوبه إذ ليس زيد مسلوباً . ولم يؤوله أحد لأنه غير مقصود بالنسبة بل توطئة لما
بعده .
وإبدال الجملة من المفرد جائز نحو : وأسروا النجوى الذين ظلموا هل هذا إلا بشر
مثلكم .
وفي شرح المغني : المحققون على أنها متعدية إلى مفعول واحد وأن الجملة الواقعة
بعده حال .
____________________
)
وقال التفتازاني : أو بدل أو بيان بتقدير المصدر . ويلزم عليه حذف أن ورفع الفعل
وجعله بمعنى المصدر بدون سابك وليس مثله بمقيس . وهذا ليس بوارد لأنه إشارة إلى أن
بدل الجملة من المفرد باعتبار محصل المعنى لأنه سبك وتقدير .
بقي لسمع استعمالات غير ما تقدم وهي ثلاثة : أحدها : أن تتعدى إلى مسموع . وقد حقق
السهيلي أن جميع الحواس الظاهرة لا تتعدى إلا مفعول واحد نحو : سمعت الخبر وأبصرت
الأثر ومسست الحجر ودقت العسل وشممت الطيب .
ثانيها : تعديتها بإلى أو اللام وهي حينئذ بمعنى الإصغاء والظاهر أنه حقيقة لا
تضمين قال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : لا يسمعون إلى الملاء الأعلى . فإن قلت
: أي فرق بين سمعت فلاناً يتحدث وسمعت إليه يتحدث وسمعت حديثه وإلى حديثه قلت :
المعدى بنفسه يفيد الإدراك والمعدى بإلى يفيد الإصغاء مع الإدراك .
قال الجوهري : استمعت له أي : أصغيت وتسمعت إليه وسمعت إليه وسمعت له .
وأما قوله : سمع الله لمن حمده فإنه مجاز عن المقبول .
ثالثها : تعديتها بالباء وهو معروف في كلام العرب ومعناه الإخبار ونقل ذلك إلى
السامع .
ويدخل حينئذ على غير المسموع وليست الباء فيه زائدة تقول : ما سمعت بأفضل منه .
وفي المثل : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه قابله بالرؤية لأنه بمعنى الإخبار عنه
المتضمن للغيبة .
____________________
وقال الحماسي : الكامل
وقال آخر : الخفيف ( صاح هل ريت أو سمعت براع ** رد في الضرع ما قرى في العلاب )
وقال ربيعة بن مقروم : البسيط ( وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ** أسمع بمثلك لا حلماً
ولا جوداً ) وإنما أطلت الكلام في هذه الكلمة لأن الشارح المحقق أوجز فيها كل
الإيجاز .
والبيت من قصيدة لذي الرمة مدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى الأشعري .
وبعده : ) ( تناخي عند خير فتى يمان ** إذا النكباء ناوحت الشمالا ) ( ندى وتكرماً
ولبات لب ** إذا الأشياء حصلت الرجالا ) ( وأبعدهم مسافة غور عقل ** إذا ما الأمر
ذو الشبهات عالا
____________________
) وهي قصيدة طويلة جداً
وسيأتي إن شاء الله بيت منها أيضاً في أفعال المدح والذم .
وقوله : سمعت الناس . . . . إلخ الغيث : المطر وأراد به ما يحصل بسببه من الكلإ
والخصب .
وصيدح بإهمال الطرفين : اسم ناقة ذي الرمة . وبلال هو الممدوح وتقدمت ترجمته في
الشاهد الستين بعد المائة .
قال المبرد في الكامل : وكان بلال داهية لقناً أديباً . ولما سمع قوله : سمعت
الناس البيت قال لغلامه : مر لها بقت ونوى . أراد أن ذا الرمة لا يحسن المدح . اه
.
فلما خرج ذو الرمة قال له أبو عمرو وكان حاضراً : هلا قلت له إنما عنيت بانتجاع
الناقة صاحبها كما قال الله عز وجل : واسأل القرية التي كنا فيها يريد أهلها .
وهلا أنشدته قول الحارثي : الوافر ( وقفت على الديار فكلمتني ** فما ملكت مدامعها
القلوص ) يريد صاحبها .
____________________
فقال له ذو الرمة : يا أبا
عمرو أنت مفرد في عملك وأنا في عملي وشعري ذو أشباه . اه .
وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : ولما أنشد هذا الشعر بلالاً قال : يا غلام مر
لصيدح بقت وعلف فإنما هي انتجعتنا . وهذا من التعنت الذي لا إنصاف معه لأنه قوله :
انتجعي إنما أراد نفسه . ومثله في كتاب الله تعالى : واسأل القرية التي كنا فيها
والعير التي أقبلنا فيها وإنما أراد أهل القرية وأهل العير .
وقوله : إذا النكباء إلخ قال المبرد في الكامل : النكباء : الريح التي تأتي من بين
ريحين فتكون بين الشمال والصبا أو الشمال والدبور أو الجنوب والدبور أو الجنوب
والصبا .
فإذا كانت النكباء تناوح الشمال فهي آية الشتاء . ومعنى تناوح تقابل يقال : تناوح
الشجر إذا قابل بعضه بعضاً . وزعم الأصمعي أن النائحة بهذا سميت لأنها تقابل
صاحبتها . اه .
ويريد ذو الرمة أنه يعطي في هذا الوقت الذي هو الجدب والقحط ويبس وجه الأرض .
وقوله : ندى وتكرماً تمييز لقوله : خير فتى . وحصلت بمعنى ميزت الشريف من الوضيع .
)
والمسافة : الغاية . وعال : غلب . وذو الشبهات : ما اشبته ولا يهتدى له .
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
العشرون بعد السبعمائة ) المتقارب إذا أقبلت قلت دباءة على أن دباءة ليست وحدها
محكية بالقول بل هي خبر مبتدأ محذوف أي : هي دباءة والمجموع هو المحكي .
وهذا صدر وعجزه : والبيت من قصيدة لامرئ القيس في وصف فرس .
وقبله : ( لها حافر مثل قعب الولي ** د ركب فيه وظيف عجر ) ( لها ثنن كخوافي العقا
** ب سود يفين إذا تزبئر ) ( لها ذنب مثل ذيل العروس ** تسد به فرجها من دبر ) (
لها متنتان خظاتا كما ** أكب على ساعديه النمر
____________________
) ( لها كفل كصفاة المسي **
ل أبرز عنها حجاف مضر ) ( لها منخر كوجار السباع ** فمنه تريح إذا تنبهر ) ( وعين
لها حدرة بدرة ** وشقت مآقيهما من أخر ) ( وإن أدبرت قلت أثفية ** ململمة ليس فيها
أثر ) ( وإن أعرضت قلت سرعوفة ** لها ذنب خلفها مسبطر ) قوله : مثل قعب الوليد . .
. إلخ العقب بفتح القاف : قدح من خشب مقعر . وحافر مقعب مشبه به . والوليد : الصبي
. يريد أن جوف حافرها واسع . وبينه عوف بن عطية بقوله : المتقارب والمغار : بالفتح
المسكن . والوظيف من الحيوان : ما فوق الرسغ إلى الساق وبعضهم يقول : مقدم الساق .
)
وعجر بفتح المهلة وكسر الجيم قال في الصحاح : ووظيف عجر بكسر الجيم وضمها أي :
غليظ .
____________________
وقوله : لها ثنن . . . .
إلخ هو جمع ثنة بضم المثلثة وتشديد النون وهي الشعرات التي في مؤخر رسغ الدابة .
ويفين غير مهموز أي : يكثرن . يقال : وفي شعره إذا كثر . يقول : ليست بمنجردة لا
شعر عليها . وتزبئر : تنتفش . والخوافي : ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح .
وقوله : لها ذنب مثل ذيل . . . . إلخ دبر كل شيء : خلفه وهو هنا حشو بغني عنه ذكر
الفرج .
وقال الآمدي عند قول البحتري : الكامل ( ذنب كما سحب الرداء يذب عن ** عرف وعرف
كالقناع المسبل ) هذا خطأ من الوصف لأن ذنب الفرس إذا مس الأرض كان عيباً فكيف إذا
سحبه . وإنما الممدوح من الأذناب ما قرب من الأرض ولم يمسها كما قال امرؤ القيس :
الطويل ( كميت إذا استدبرته سد فرجه ** بضاف فويق الأرض ليس بأعزل ) والأعزل من
الخيل : الذي يقع ذنبه في جانب وهو عادة لا خلقة وقد عيب قول امرئ القيس : وما أرى
العيب يلحقه لأن العروس وإن كانت تسحب أذيالها وكان ذنب الفرس إذا مس الأرض عيباً
فليس بمنكر أن يشبه به الذنب وإن لم يبلغ إلى أن يمس الأرض لأن الشيء إنما يشبه
الشيء إذا قاربه فإذا أشبهه في أكثر أحواله فقد صح التشبيه .
وامرؤ القيس لم يقصد أن يشبه طول الذنب بطول ذيل العروس فقط وإنما أراد السبوغ
والكثرة والكثافة .
____________________
ألا ترى أنه قال : تسد به
فرجها من دبر . وقد يكون الذنب طويلاً يكاد يمس الأرض ولا يكون كثيفاً فلا يسد فرج
الفرس . فلما قال تسد به فرجها علمنا أنه أراد الكثافة والسبوغ مع الطول .
فإذا أشبه الذنب الذيل من هذه الجهة وكان في الطول قريباً منه فالتشبيه صحيح وليس
ذلك بموجب للعيب وإنما العيب في قول البحتري : ذنب كما سحب الرداء . فأفصح بأن
الفرس يسحب ذنبه .
ومثل قول امرئ القيس قول خداش بن زهير : المتقارب ( لها ذنب مثل ذيل الهدي ** إلى
جؤجؤ أيد الزافر ) والهدي : العروس التي تهدى إلى زوجها . والأيد : الشديد .
والزافر : الصدر لأنها تزفر منه )
فشبه الذنب الطويل السابغ بذيل الهدي وإن لم يبلغ في الطول إلى أن يمس الأرض . اه
. ( ومتنان خظاتان ** كزحلوف من الهضب ) يقال : لحمه خظا بظا إذا كن كثير اللحم
صلبه . والزحلوف : الحجر الأملس .
قال امرؤ القيس : لها متنتان خظاتا البيت . يقال : هو خاظي البضيع إذا كان كثير
اللحم مكتنزه . وقوله : خظاتا فيه قولان : أحدهما : أنه أراد خظاتان كما قال أبو
دواد فحذف نون التثنية . يقال : متن خظاة ومتنة خظاة .
والآخر : أنه أراد خظتا أي : ارتفعتا فاضطر فزاد ألفاً . والقول الأول أجود .
____________________
وقوله : كما أكب على
ساعديه النمر أراد : كأن فوق متنها نمراً باركاً لكثرة لحم المتن . اه .
ولا يخفى أن هذا لا وجه له والصواب ما قاله ثعلب أي : في صلابة ساعد النمر إذا
اعتمد على يده .
وقوله : لها كفل . . . إلخ الصفاة بالفتح : الصخرة الملساء . والمسيل : مجرى السيل
شبه كفلها في ملاسته بصفاة في مسيل أبرزها السيل وكشف ما كان عليها من التراب .
والجحاف بضم الجيم بعدها مهملة : السيل الشديد . والمضر : الذي يضر بكل شيء يمر
عليه أي : يهدمه ويقلعه .
وقوله : لها منخر كوجار . . . إلخ الوجار بفتح الواو وكسرها بعدها جيم : جحر الضب
شبه به منخرها لسعته .
وتريح : تسنتشق الريح تارة وترسلها من أراح . والبهر بالضم : ضيق النفس عند الجري
والتعب .
وقوله : وعين لها حدرة . . . إلخ بفتح الحاء وسكون الدال المهملتين في الصحاح :
وعين حدرة أي : مكتنزة صلبة . وعين بدرة أي : تبدر النظر ويقال : تامة كالبدر .
وآخر بضمتين في الصحاح : وشق ثوبه أخراً ومن أخر أي : من مؤخره . وأنشد البيت .
وقوله : إذا أقبلت قلت دباءة هي بضم الدال وتشديد الموحدة بعدها ألف ممدودة .
قال أبو حنيفة في كتاب النبات : الدباء : القرع واحده دباءة وقرعة . وأنشد البيت
ثم قال : وإنما شبهها بالدباءة لدقة مقدمها وفعامة مؤخرها . )
وقيل كذلك خلق الإناث من الخيل . وهذا في الإناث والذكور سواء يستحب
____________________
من الخيل أن تطول وتكون
مآخيرها أعظم من مقاديمها . وامرؤ القيس وإن كان وصف فرساً أنثى هذا الوصف فقد وصف
ابن مقبل ذكراً من الخيل . اه .
وقال المرزوقي في شرح الفصيح : يشبهون إناث الخيل بالدباء وهي القرع والسلاء وهو
الشوك وأنشد البيت ثم قال : ويستحب من الذكور غلظ المقدم ودقة المؤخر ولهذا
يشبهونها بالذئاب لكونها زلاً جمع أزل . اه .
وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني : يقول : كأنها من بريقها قرعة وليس يريد أنها
مغموسة في الماء ولكنه أراد أنها في ري فهو أشد لملاستها . وهذا كقولك : فلان
مغموس في الخير .
وقال بعضهم : إناث الخيل تكون في الخلقة كالقرعة يدق مقدمها ويعظم مؤخرها . اه .
وقال العسكري في كتاب التصحيف عند قول امرئ القيس : الطويل مداك عروس أو صراية
حنظل رواه الأصمعي : صراية الصاد مفتوحة غير معجمة وتحت الياء نقطتان وهي الحنظلة
الخضراء وقيل : هي التي اصفرت لأنها إذا اصفرت برقت وهي قبل أن تصفر مغيرة . قال :
ومثله : إذا أقبلت قلت دباءة
____________________
أي : من بريقها كأنها قرعة
. اه .
والأثفية : الحجر الذي ينصب عليه القدر . والسرعوفة بضم المهملتين قال الصاغاني في
العباب : هي الجرادة ويشبه بها الفرس . وأنشد هذا البيت .
وقد أورد ابن رشيق في العمدة هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة في باب التقسيم قال :
زعم الحاتمي أن أصح تقسيم وقع لشاعر قول الأسعر الجعفي يصف فرساً : الكامل ( أما
إذا استقبلته فكأنه ** باز يكفكف أن يطير وقد رأى ) ( أما إذا استدبرته فتسوقه **
ساق قموص الوقع عارية النسا ) ( أما إذا استعرضته متمطراً ** فتقول : هذا مثل
سرحان الغضا ) واختاره أيضاً قدامة وليس عندي بأفضل من قول امرئ القيس إلا بشرف
الصفات :
____________________
إذا أقبلت قلت دباءة . . .
. . . . . . الأبيات الثلاث )
ولو لم يكن إلا بنسق هذا الكلام بعضه على بعض وانقطاع ذلك بعضه من بعض . اه .
وتقدمت ترجمة امرئ القيس في الشاهد التاسع والأربعين من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والعشرون بعد السبعمائة ) مجزوء الوافر ( تنادوا
بالرحيل غداً ** وفي ترحالهم نفسي ) على أن جملة الرحيل غداً من المبتدأ والخبر
محكية بقول محذوف عند البصريين والتقدير : تنادوا بقولهم : الرحيل غداً . وعند
الكوفيين محكية بتنادوا فإنه يجوز عندهم الحكاية بما في معنى القول فإن تنادوا
معناه نادى على كل منهم الآخر ورفع صوته بهذا اللفظ وهو الرحيل غداً .
وهذا البيت أنشده ابن جني في سر الصناعة وقال : أجاز أبو علي في الرحيل ثلاثة أوجه
: الجر والرفع والنصب على الحكاية . فكأنهم قالوا : الرحيل غداً أو نرحل الرحيل
غداً أو نجعل الرحيل غداً أو أجمعوا الرحيل غداً . فتحكى المرفوع والمنصوب . اه .
ونقله القاسم بن علي الحريري في درة الغواص عن ابن جني ولم يزده شيئاً .
____________________
والترحال : مصدر جاء على
التفعال بالفتح بمعنى الترحل . والنفس بسكون الفاء .
ولم أقف على هذا البيت بأكثر من هذا . والله أعلم .
ومثله ما أنشده الزمخشري في الكاشف قول الشاعر : الرجز ( رجلان من ضبة أخبرانا **
إنا رأينا رجلاً عريانا ) قال : إن بالكسر بتقدير القول عندنا وعندهم يتعلق بفعل
الإخبار .
وأنشد بعده : الرجز جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط على أن جملة : هل رأيت الذئب قط
محكية بقول محذوف تقديره بمذق مقول فيه : هل رأيت . . إلخ .
____________________
وقد تقدم شرحه في الشاهد
السادس والتسعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
أجهالاً تقول بني لؤي ** لعمر أبيك أم متجاهلينا ) على أنه فصل بالمفعول الثاني
بين الهمزة وبين تقول .
قال سيبويه : واعلم أن قلت إنما وقعت في كلام العرب على أن يحكى بها وإنما يحكى
بعد القول ما كان كلاماً لا قولاً نحو : قلت زيد منطلق لأنه يحسن أن تقول :
____________________
زيد منطلق وتقولك قال زيد
إن عمراً خير الناس .
وكذلك ما تصرف من فعله إلا تقول في الاستفهام شبهوها بتظن ولم يجعلوها كيظن وأظن
في الاستفهام لأنه لا يكاد يستفهم المخاطب عن ظن غيره ولا يستفهم هو إلا عن ظنه .
فإنما جعلت كتظن كما أن ما كليس في لغة أهل الحجاز ما دامت في معناها فإذا تغيرت
عن ذلك أو قدم الخبر رجعت إلى القيس وصارت اللغات فيها كلغة بني تميم . ولم تجعل
قلت كظننت لأنها إنما عندهم أن يكون ما بعدها محكياً فلم تدخل في باب ظننت بأكثر
من هذا .
وذاك قولك : متى تقول زيداً منطلقاً وأتقول عمراً ذاهباً وأكل يوم تقول عمراً
منطلقاً لا تفصل بها كما لم تفصل في أكل يوم زيداً تضربه .
وتقول : أأنت تقول زيد منطلق رفعت لأنه فصل بينه وبين حرف الاستفهام كما فصل في
قولك : أأنت زيداً مررت به فصارت بمنزلة أخواتها وصارت على الأصل كما قال الكميت :
أجهالاً تقول بني لؤي . . . . . . . . . . . . البيت وقال عمر بن أبي ربيعة :
الكامل ( أما الرحيل فدون بعد غد ** فمتى تقول الدار تجمعنا ) وإن شئت رفعت بما
نصبت فجعلته حكاية . وزعم أبو الخطاب وسألته عنه غير مرة . أن ناساً يوثق بعربيتهم
وهم بنو سليم يجعلون باب قلت أجمع مثل ظننت . انتهى كلام سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد فيه على أنه أعمل تقول عمل تظن لأنها بمعناها ولم يرد قول
اللسان وإنما أراد الاعتقاد بالقلب .
والتقدير : أتقول بني لؤي جهالاً أي : أتظنهم كذلك وتعتقده فيهم فبني لؤي المفعول
الأول ومتجاهلينا المفعول الثاني . وأراد ببني لؤي جمهور قريش كلها )
وهذا البيت من قصيدة يفخر فيها على اليمن ويذكر فضل مضر عليهم فيقول : أتظن قريشاً
جاهلين أو متجاهلين حين استعملوا اليمانيين في ولاياتهم وآثروهم على المضربين مع
فضلهم عليهم . والمتجاهل : الذي يستعمل الجهل وإن
____________________
لم يكن من أهله . اه .
وقال ابن المستوفي : أنشده سيبويه للكميت ولم أراه في ديوانه . والذي في ديوانه
شعره : الوافر ( أنواماً تقول بني لؤي ** لعمر أبيك أم متناومينا ) ( عن الرامي
الكنانة لم يردها ** ولكن كاد غير مكايدينا ) يقول : أتظن أن قريشاً تغفل عن هجاء
شعراء نزار لأنهم إن هجوا مضر والقبائل التي منها هؤلاء الشعراء فقد تعرضوا لسب
قريش فهم بمنزلة من رمى رجلاً فقيل : لم رميته فقال : إنما رميت كنانته ولم أرمه
وكان غرضه أن يصيب الرجل . فيقول : من هجا بني كنانة وبني أسد ومن قرب نسبه من
قريش فقد تعرض لسب قريش . يحرض الخلفاء عليهم والسلطان . اه .
وقول سيبويه : وإن شئت رفعت بما نصبت فجعلته حكاية قال المازني : غلط سيبويه فيه
وأجيب بأن مراده : وإن شئت رفعت في الموضع الذي نصبت أو أن الباء زائدة في المفعول
.
وأقول : هذه القصيدة تقدم أبيات منها في عدة مواضع وأول ما مر في الشاهد السادس
عشر من أوائل الكتاب مع ترجمة الكميت وتقدم هناك سبب نظمها . وهجا فيها الأعور الكلبي
فإنه هجا مضر ومدح أهل اليمن .
وتقدم بيت منها في الشاهد الرابع والعشرين .
وقوله : لعمر أبيك مبتدأ مضاف وخبره محذوف أي : قسمي وجواب القسم محذوف أيضاً
والتقدير : أجهالاً تقول بني لؤي أو متجاهلين .
لعمر أبيك لتخبرني .
____________________
إلا أن قدم القسم واعترض
به بين الفعل ومفعوله وحذف الجواب لدلالة الاستفهام عليه إذ معلوم أن المستفهم
يطلب من المستفهم منه أن يخبره عما استفهمه عنه .
____________________
( الأفعال الناقصة ) أنشد
فيها ( الشاهد الثالث والعشرون بعد السبعمائة ) ( فصرنا إلى الحسنى ورق كلامنا **
ورضت فذلت صعبة أي إذلال ) على أن صار تامة ونا : فاعلها أي : رجعنا وانتقلنا .
يقال : صار الأمر إلى كذا أي : رجع .
والحسنى إما اسم مصدر بمعنى الإحسان وإما صيغة مؤنث أحسن أي : إلى الحالة الحسنى .
ورق بمعنى لطف .
ورضت فعل وفاعل من رضت الدابة رياضة : ذللتها . وصعبة مفعول رضت . وذلت من ذلت
الدابة ذلاً بالكسر : سهلت وانقادت فهي ذلول . وذللتها بالتثقيل في التعدية وكذل
أذللته بالهمزة . وقوله : أي إذلال مفعول مطلق عامله رضت .
قال الزجاج عند تفسير قوله تعالى : كتاب الله عليكم منصوب على التوكيد محمول على
المعنى لأن معنى حرمت عليكم أمهاتكم : كتب الله عليكم هذا كتاباً كما قال الشاعر :
ورضت فذلت صعبة أي إذلال .
____________________
لأن معنى رضت : أذللت . اه
.
وهذا البيت من قصدية لامرئ القيس تقدم بعض منها في الشاهد الثالث من أول الكتاب
وبعض منها في التاسع والأربعين .
وقبله : وتنازعنا : تجاذبنا . وأسمحت : وافقت على ما أريد منها . وهصرت : جذبت
وأملت . والباء في بغصن زائدة في المفعول . وأراد بالغصن قامتها .
والشماريخ إما جموع شمراخ بالكسر وإما جمع شمروخ كعصفور فإنهما يجمعان على شماريخ
وهو ما يكون في الرطب .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرين بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل ( أيقنت أني لا
محا ** لة حيث صار القوم صائر ) على أن صار فيه تامة أي : أيقنت أني منتقل حيث
انتقل القوم . فصائر خبر أن وصار بمعنى انثقل والقوم فاعله .
____________________
ولا محالة بفتح الميم : لا تغيير ولا تبديل وأني بفتح الهمزة وأيقنت جواب لما في
البيت قبله وهو : ( لما رأيت موارداً ** للموت ليس لها مصادر ) ( ورأيت قومي نحوها
** يمضي الأصاغر والأكابر ) ( لا يرجع الماضي إل ** ي ولا من الباقين غابر ) (
أيقنت أني . . . . . . . . ** . . . . . . . . . . . . البيت ) والقرون : جمع قرن
بالفتح قال الزجاج : هو أهل كل مدة كان فيها نبي أو طبقة من أهل العلم سواء قلت
السنون أو كثرت . والموارد : جمع مورد وهو محل الورود أي : الإيتان .
والمصادر : جمع مصدر وهو موضع الصدور أي : الانصراف والرجوع . وغابر بالمعجمة :
اسم فاعل من غير بمعنى مكث وبقي وبمعنى مضى أيضاً فهو ضد .
وهذه الأبيات لقس بن ساعدة . روى أهل السير والأخبار بسند متصل إلى ابن عباس أنه
قال : قدم وفد إياد على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : أيكم يعرف القس بن
ساعدة الإيادي قالوا : كلنا نعرفه يا رسول الله . قال : فما فعل قالوا : هلك .
قال : ما أنساه بعكاظ على جمل أحمر وهو يقول : أيها الناس اجتمعوا واسمعوا وعوا .
من عاش مات ومن مات فات وكل ما هو آت آت . وإن في السماء لخبراً وإن في الأرض
لعبراً .
مهاد موضع وسقف مرفوع ونجوم تمور وبحار لا تغور . أقسم قس قسماً حتما لئن كان في
الأمر رضاً ليكونن سخطاً . إن لله لدينا هو أحب إلي من دينكم الذي أنتم عليه .
مالي أرى الناس يذهبون ولا يرجعون أرضوا بالمقام فأقاموا أم تركوا فناموا .
____________________
ثم قال : أيكم يروي شعره
فأنشدوه : ( في الذاهبين الأولي ** ن من القرون لنا بصائر ) )
إلى آخر الأبيات الخمسة .
وتقدمت ترجمة قس في الشاهد الثاني والتسعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد السبعمائة ) الطويل غدا طاوياً يعارض
الريح هافياً على أن ابن مالك قال : غدا فعل تام يكتفي بفاعله والمنصوب بعده حال
كما في البيت .
قال في التسهيل : والأصح أن لا يلحق بها غدا وراح .
قال شارحه ابن عقيل : خلافاً للزمخشري وأبي البقاء فالمنصوب بعدهما حال لا خير
لالتزام وهذا صدر وعجزه : يخوت بأذناب الشعاب ويعسل
____________________
والبيت من القصيدة
المشهورة بلامية العرب للشنفري وقد تقدم شرح أبيات من أولها مع ترجمته في باب
الاستثناء وفي باب الجمع .
وقبله : ( أديم مطال الجوع حتى أميته ** وأضرب عنه الذكر صفحاً فأذهل ) ( وأستف
ترب الأرض كي لا يرى له ** علي من الطول امرؤ متطول ) ( ولولا اجتناب الذام لم يلف
مشرب ** يعاش به إلا لدي ومأكل ) ( ولكن نفساً مرة لا تقيم بي ** على الذام إلا
ريثما أتحول ) ( وأطوي على الخمص الحوايا كما انطوت ** خيوطة ماري تغار وتفتل ) (
وأغدو على القوت الزهيد كما غدا ** أزل تهاداه التنائف أطحل ) غدا طاوياً . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : أديم مطال
الجوع . . . إلخ المطال : مصدر ماطله بمعنى مطله يمطله مطلاً من باب قتل إذا سوفه
بوعد الوفاء مرة بعد مرة . وضرب عن كذا وأضرب عنه أيضاً : أعرض عنه تركاً أو وذهل عن
الشيء يذهل بفتحتين ذهولاً بمعنى غفل وقد يتعدى بنفسه فيقال : ذهلته والأكثر أن
يتعدى بالألف فيقال : أذهلني فلان عن الشيء . )
وقال الزمخشري : ذهل عن الأمر : تناساه عمداً وشغل عنه . وفي لغة : ذهل يذهل من
باب تعب . وجملة : أديم مستأنفة وحتى بمعنى إلى متعلقة بأديم . وأضرب معطوفة على
أديم وأذهل معطوف على أضرب لا على أديم لأن الفاء للترتيب والتعقيب . والذكر مفعول
أضرب وصفحاً تمييز أو مصدر في موضع الحال أي : معرضاً .
يقول : أقوى على رد نفسي عما تهوى وأغلبها وأذهل عن الجوع حتى أنساه .
____________________
وقوله : وأستف ترب . . .
إلخ يقال : سففت الدواء وغيره من كل شيء يابس أسفه من باب تعب سفاً هو أكله غير
ملتوت . وهو سفوف مثل رسول . واستففت الدواء مثل سففته .
والطول : مصدر طال على القوم يطول من باب قال إذا أفضل عليهم . وتطول : تفضل .
وكي إما بمعنى اللام حرف جر وأن مضمرة أو بمعنى أن واللام مقدرة . وفاعل يرى امرؤ
وله متعلقة بيرى ومفعول يرى محذوف أي : شيئاً ومن الطويل بيان له وقيل نعت له .
وعند الأخفش المفعول هو الطول ومن زائدة وعلي متعلق بيرى . ولا يجوز أن يتعلق
بالطول لأن المصدر لا يتقدم معموله عليه . ويجوز عند الشارح المحقق تعلقه به لأنه
ظرف .
وقوله : ولولا اجتناب الذام . . . إلخ الذام : العيب يهمز ولا يهمز . ويلف : يوجد
يتعدى إلى مفعولين أصلهما المبتدأ والخبر . ومشرب نائب الفاعل وهو المفعول الأول
في الأصل ويعاش به صفته .
ولدي ظرف بمعنى عندي وهو متعلق بمحذوف على أنه المفعول الثاني ووقع الحصر فيه .
ومأكل معطوف على مشرب أي : لم يوجد مشرب يعاش به ومأكل كذلك إلا حاصلين لدي .
وأخطأ معرب هذه القصيدة في قوله : ويعاش به نعت لمشرب والتقدير : إلا هو لدي محذوف
المبتدأ للعلم به ولدي خبره ومأكل معطوف على هو . اه .
____________________
وخطؤه من وجهين ظاهرين
للمتأمل .
وقوله : ولكن نفساً . . . إلخ لكن هنا للتأكيد فإن ما بعدها مؤكد لما قبلها من
الصفات وخبرها محذوف تقديره لي . ومرة صفة نفس بمعنى أبية كالمرة في أن كلا منهما
ممتنع على متناوله . وروى : حرة بدل مرة . وجملة : لا تقيم بي صفة ثانية لنفس أو
استئنافية جواب سؤال مقدر .
وزعم معرب هذه القصيدة أن الجملة خبر لكن . وتقيم من الإقامة في المكان وهو اللبث
فيه )
والباء في بي للمصاحبة على أنها في موضع الحال . وقال معرب هذه القصيدة : بي متعلق
بتقيم وهذا لا وجه له . وعلى متعلقة بتقيم . والاستعلاء هنا معنوي نحو : لهم علي
ذنب ويجوز أن تكون للمصاحبة . وريث في الأصل مصدر راث أي : أبطأ استعمل هنا للظرف
الزماني أي : إلا بمقدار تحولي . فما مصدرية وقيل : ما زائدة . وقيل : كافة . وقيل
: نصب ريث على الحال .
وقوله : وأطوي على الخمص . . . إلخ الخمص بالضم : مصدر خمص الرجل خمصاً فهو خميص
إذا جاع مثل قرب قرباً فهو قريب . كذا في المصباح .
وقيل : الخمص بالضم : الضمر وبالفتح : الجوع . وعلى هنا للمصاحبة متعلق بأطوي .
والحوايا مفعول أطوي جمع حوية وهي فعيلة بمعنى مفعولة وهي الأمعاء في الجوف .
والخيوطة : جمع خيط والتاء لكثرة الجمع نحو : حجار وحجارة .
وقال التبريزي : أتى بالهاء للتأنيث إذ كان بمعنى الجماعة . والماري : القتال وهو
الذي يفتل الحبال .
وتغار : يحكم فتلها . يقال : أغار الفتل أي : أبرمه وأحكمه . ومراده تفتل وتغار .
ولا يضر التأخير فإن الواو لا تدل على الترتيب .
____________________
وقوله : كما انطوت الكاف
نعت لمصدر محذوف وما مصدرية . ومصدر انطوت الانطواء وليس بمصدر أطوي وإنما المعنى
أطوي الحوايا فتنطوي كانطواء خيوط الفتال .
وقوله : وأغدو على القوت . . . إلخ . غدا غدواً من باب قعد : ذهب غدوة وهي ما بين
صلاة الصبح وطلوع الشمس هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب أي وقت كان . كذا في
المصباح .
والغداة والغدوة واحد كما في القاموس . وعلى هنا للتعليل بمعنى اللام كقوله تعالى
: ولتكبروا الله على ما هداكم . والزهيد : القليل الذي يزهد فيه . والكاف نعت لمصر
محذوف أي : غدوا كغدو الأزل والأزل : الذئب الأرسح بالمهملات أي : القليل لحم
الفخذين . والأزل لا ينصرف للوصف ووزن الفعل وكذلك أطحل . الذئب الأزل : الخفيف
الوركين وهذه صفة لازمة له .
قال التبريزي : الأزل : الأرسح وبه يوصف الذئب .
ومن أمثالهم : لا أنس في الذئب الأزل الجائع )
وقال بعضهم : قلت لأعرابي : ما الأرسح فقال : الذي لا است له . ووصف رجل فارساً
فقال : قاتله الله أقبل بزبرة الأسد وأدبر بعجز ذئب .
وذلك أنه يحمد من الفارس أن يكون أشعر الصدر وأن يكون ممسوح الاست كالذئب .
والتنائف : جمع تنوفة وهي الفلاة . ومعنى تهاداه : تتخذه هدية كلما خرج من تنوفة
ودخل في أخرى . وهو مضارع محذوف من أوله التاء وأصله تتهاداه . ويجوز أن يكون
ماضياً وإنما لم يقل تهادته بالتأنيث لأن التنائف مؤنث مجازي وجملة : تهاداه صفة
أزل وكذلك أطحل . وذئب أطحل وشاة
____________________
طحلاء . والطحلة بالضم :
لون بين الغبرة والسواد ببياض قليل . وقال التبريزي : الأطحل : الذي لونه لون
الطحال .
وقوله : غدا طاوياً . . . إلخ غدا : يحتمل أن يكون بمعنى ذهب غدوة ويحتمل أن يكون
بمعنى دخل في الغدوة ويحتمل أن يكون بمعنى ذهب أي وقت كان مجازاً من باب استعمال
المقيد في المطلق . فغدا على هذه الوجوه تكون تامة وطاوياً يكون حالاً من ضمير غدا
الراجع إلى أزل .
ويحتمل أن يكون بمعنى يكون في الغدوة فيكون غدا من الإفعال الناقصة وطاوياً يكون
خبرها وغدا مع فاعلها المستتر استئنافية منقطعة عما قبلها ويجوز أن تكون الجملة
صفة أخرى لأزل أو حالاً منه بتقدير قد . وطاوياً يحتمل أن يكون من طوى المتعدية
المتقدمة أي : طاوياً أحشاءه على الجوع فالمفعول محذوف بقرينة ما قبله يقال : طوى
الشيء طياً فهو طاو .
ويحتمل أن يكون من طوي يطوى طوى من باب فرح أي : جاع فهو طاو وطوٍ وطيان والأنثى
طياً وطاوية .
وبهذا يضمحل قول المعرب : وليس من قولك طوي يطوى إذا جاع لأن الاسم منه طوٍ مثل عم
وشج مع أنه قال قبل هذا : وطاوياً يجوز أن يكون من طوى المتعدية . فنقض بكلامه
الأخير ما قدمه .
وقال التبريزي : يقول غدا طاوياً وطواه من الجوع كأنه طوى أمعاءه عليه يقال : رجل
طاو وطيان والأنثى طاوية وطياً والمصدر الطوى وهو خمص البطن من أي شيء كان .
هذا كلامه ولا يخفى أنه تخليط بين المعنيين .
ويعارض الريح أي : يستقبلها في عرضها ويصادمها ومنه المعارضة بمعنى المخالفة .
وهافيا يحتمل أن يكون من هفا الطائر بجناحه يهفو أي : خفق وطار . ويحتمل أن يكون
من )
هفا الظبي يهفو إذا اشتد عدوه ومصدره الهفو على فعول .
____________________
ويحتمل أن يكون من الهفو
وهو الجوع يقال : رجل هاف أي : جائع .
وقال التبريزي : هافياً : يذهب يميناً وشمالاً من شدة الجوع . ويخوت بالخاء المعجمة
والتاء المثناة أي : يختل ويختلس يقال : خات البازي واختات أي : انقض على الصيد
ليأخذه .
وقال الفراء : يقال ما زال الذئب يختال الشاة بعد الشاة أي : يختلها فيسرقها .
وإنهم يختاتون الليل أي : يسيرون ويقطعون الطريق . فجملة : يعارض ويخوت وهافياً
أخبار أخر لغدا إن كانت ناقصة أو أحوال من ضمير طاوياً أو أحوال متداخلة أو
الجملتان صفتان للنكرة قبلهما .
وتجوز هذه الأوجه كلها ما عدا الأول إن كانت غدا تامة ويجوز حينئذ أيضاً أن يكون
طاوياً مع ما بعده أحوالاً من الضمير في غدا .
والباء في قوله : بأذناب بمعنى في . وأذناب : جمع ذنب بفتحتين وذنب كل شيء : مؤخره
. وذنابة الوادي بالكسر : الموضع الذي ينتهي إليه سيله وكذلك ذنبه وذنابته أكثر من
ذنبه .
والشعاب بالكسر : إما جمع شعب بالكسر أيضاً وهو الطريق في الجبل وإما جمع شعبة
بالضم وهو المسيل الصغير .
وقال التبريزي : الشعاب : مسايل صغار . وأذنابها : أواخرها . ويعسل معطوف على يخوت
بكسر السين من باب فرح . في الصحاح : والعسل والعسلان : الخبب . يقال : عسل الذئب
يعسل عسلاً وعسلاناً إذا أعنق وأسرع . وكذلك الإنسان . والذئب عاسل والجمع العسل
والعواسل . وعسل الرمح عسلاناً : اهتز واضطرب والرمح عسال .
وقال التبريزي : ويعسل إذا مر مراً سهلاً في استقامة . ومن ذلك يقال للرمح
____________________
عسال إذا تتابع عند الهز
ولم يكن كزاً . ومتعلق يعسل محذوف يدل عليه ما قبله .
وأنشد بعده الطويل يروح ويغدو داهناً يتكحل على أن يروح ويغدو ون كانا بمعنى يدخل
في الرواح والغداة فهما تامان والمنصوب حال . وإن كانا بمعنى يكون في الرواح
والغداة فهما ناقصان . )
وقد تقدم الكلام على يغدو . وأما الرواح فقد قال صاحب الصحاح : والرواح : نقيض
الصباح وهو اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل . وقد يكون مصدر قولك : راح يروح
رواحاً وهو نقيض قولك : غدا يغدوا غدواً . اه .
قال أبو سهل الهروي : الصواب الرواح : نقيض الغدو .
وقال صاحب المصباح : راح يروح رواحاً وتروح مثله يكون بمعنى الغدو وبمعنى الرجوع .
وقد طابق بينهما في قوله تعالى : غدوها شهر ورواحها شهر أي : ذهابها ورجوعها .
وقد يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس كذلك بل الرواح
والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقت كان من ليل أو نهار . قاله الأزهري
وغيره . وعليه قوله عليه السلام : من راح إلى الجمعة أول النهار فله كذا أي : من
ذهب . اه .
____________________
فقوله يروح إن كان بمعنى
يرجع في الرواح أو يرجع مطلقاً أي : في أي وقت كان من باب وإن كان بمعنى يكون في
الرواح فالفعل ناقص لقوله يروح ويغدو . وإنك كانا تامين فداهناً حال من فاعل
أحدهما وهو ضمير مستتر وتكون حال الآخر محذوفة . والأولى أن يكون حالاً من فاعل
يغدو . ولا يقدر ليروح حال .
وداهن : اسم فاعل من الدهن يقال : دهنت الشعر وغيره دهناً من باب قتل . والدهن :
استعمال الدهن بالضم وهو ما يدهن به من زيت أو طيب . وجملة : يتكحل حال أيضاً إما
من فاعل يغدو وإما من فاعل داهناً . ويجوز أن يكون صفة لداهناً .
وإن كانا ناقصين فداهناً خبر يغدو ويكون خبر يروح محذوفاً وجملة : يتكحل إما خبر
بعد خبر أو حال من ضمير داهن أو صفة له . ويجوز أن يكون داهناً خبر يروح وجملة :
يتكحل خبر يغدو فلا حذف . وهذا أولى على تقدير النقص .
ويجوز أن يكون أحد الفعلين تاماً والآخر ناقصاً . فتأمل .
وهذا المصراع عجز وصدره : ولا خالف دارية متغزل وهذا البيت أيضاً من لامية العرب .
وقبله : (
____________________
ولا جبإ أكهى مرب بعرسه **
يطالعها في شأنها كيف يفعل ) ) ( ولا خرق هيق كن فؤاده ** يظل به المكاء يعلو
ويسفل ) ( ولا خالف دارية متغزل ** يروح ويغدو داهناً يتكحل ) قوله : ولست بمهياف
. . . إلخ قال التبريزي : المهياف الذي يبعد بإبله طلب الرعي على غير علم فيعطشها
ويسيء بها .
وفي العباب : قال الأصمعي : رجل مهياف : سريع العطش . وأنشد هذا البيت .
وفيه أيضاً : وقال الليث : المهياف الذي قد هافت إبله . ويعشي سوامه : يطعمها
عشاءها والعشاء : الطعام بعينه وهو خلاف الغداء وكلاهما بالفتح والمد . والسوام :
المال الراعي اسم جمع لسائمة .
ومجدعة بالجيم والدال المهملة : اسم مفعول من جدعت الصبي تجديعاً إذا أسأت غذاءه .
ويقال : جدعته بالتخفيف من باب منع . وفيه لغة أخرى أجدعت الصبي إجداعاً . وجدع
الصبي من باب فرح إذا ساء غذاؤه . وقيل المجدعة هنا : المقطعة أطراف الآذان ليصرف
عنها العين .
وقال التبريزي : والمجدع : السيئ الغذاء والأصل فيه أن يطرح الراعي ولد الناقة على
الضرع والسقبان بالكسر : جمع سقب بالفتح . في الصحاح : السقب : الذكر من ولد
الناقة ولا يقال للأنثى سقبة ولكن حائل . والضمير المؤنث يرجع إلى السوام .
قال التبريزي : وروى ثعلب : سقباتها بجمع المؤنث السالم . والمحفوظ الأول .
____________________
وبهل : جمع باهل . في
العباب : وناقة باهل : لا صرار عليها . وأنشد هذا البيت . وقال التبريزي : البهل :
جمع باهلة وباهل وهي المخلاة لا يتعهدها راعيها . ويقال : بهل الرجل إذا مضى لا
قيم عليه . وأبهلته إذا تركته مخلى . والباهلة أيضاً : التي لا صرار عليها لترضعها
أولادها فتكون أسمن وأحسن .
والباء في قوله : بمهياف زائدة في خبر ليس . ويعشي صفة له وسوامه مفعول يعشي
ومجدعة : حال سببية لسوامه . وسقبانها نائب فاعل مجدعة وجملة : وهي بهل حال من
سوامه .
وصف السنفري نفسه بالجلادة وحسن التعهد لماله وجودة القيام عليه .
وقوله : ولا جبإ أكهى . . . إلخ الجبأ بضم الجيم وفتح الموحدة المشددة بعدها همزة
على وزن سكر : هو الجبان والخائف . )
والأكهى بالقسر قال التبريزي : هو الكدر الأخلاق الذي لا خير فيه . وقال ثعلب : هو
البليد مثل الكهام . والمرب : اسم فاعل من أرب بالمكان أي : لزمه وأقام فيه والعرس
بالكسر : يقول : لست أسيء الرعية ولا أجبن ولا أقيم مع النساء وأشاورهن في أموري .
وجبإ بالجر معطوف على مهياف ولو عطف بالنصب على موضعه لجاز . وأكهى ومرب وصفان
لجبإ .
قال المعرب : الباء في بعرسه بمعنى في أي : مقيم ي بيت عرسه . ويجوز أن تكون بمعنى
على أي : مقيم على عرسه . وجملة : يطالعها حال من الضمير في مرب وفي شأنه متعلق
بيطالعها .
وقوله : ولا خرق هيق . . . إلخ هذا أيضاً بالجر معطوف على مهياف . والخرق بفتح
المعجمة وكسر المهملة بعدها قاف قال الزمخشري : هو المدهوش من الخوف . والهيق بفتح
الهاء وسكون المثناة التحتية هو الظليم أي : النعام في نفاره عند حدوث مروع .
والمكاء بالضم والتشديد والمد : طائر أي : كأن فؤاده على جناح طائر . وهذا تحقيق
لجبنه وتحيره .
وقوله : ولا خالف دارية هذا أيضاً بالجر للعطف على مهياف . والخالف بالخاء المعجمة
: من لا خير فيه . ودارية بالجر صفة لخالف وهو المقيم في داره لا
____________________
يفارقه . والتاء زائدة
للمبالغة .
والداري أيضاً : العطار منسوب إلى دارين : فرضة بالبحرين فيها سوق كان يحمل إليها
مسك من ناحية الهند .
قال الزمخشري : ويحتملهما كلامه لأن العطار يكتسب من ريح عطره فيصير بمنزلة
المتعطر فالمعنى لست ممن يتشاغل بتطييب بدنه وثوبه أو يلازم زوجته فيكتسب من طيبها
. والمتغزل : في الصحاح : مغازلة النساء : محادثتهن ومراودتهن . تقول : غازلتها
وغازلتني والاسم الغزل .
وتغزل أي : تكلف الغزل . وجملة : يروح صفة متغزل أو حال من ضميره .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد السبعمائة ) الطويل ( بتيهاء قفر والمطي
كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها ) على أن كان فيه بمعنى صار .
والتيهاء : المفازة التي لا يهتدى فيها فعلاء من التيه وهو التحير . يقال : تاه في
الأرض يتيه تيهاً وتيهاناً أي : ذهب متحيراً .
والقفر : المكان الخالي يصف المطي بسرعة السير كأنها بمنزلة قطاً تركت بيوضاً صارت
أفراخاً فهي تمشي بسرعة إلى أفراخها .
ومعنى كانت : صارت لأن البيوض صارت أفراخاً لا أنها كانت فراخاً . والقطا : طائر
سريع الطيران .
____________________
والحزن بفتح المهملة وسكون
المعجمة : ما غلظ من الأرض وهو ضد السهل وأضاف القطا إليه لأنه يكون قليل الماء
فتكون قطاه أكثر عطشاً فإذا أراد الماء كان سريع الطيران .
قال الأصمعي ونقله ابن قتيبة في كتاب أبيات المعاني : أراد أنها شربت من الغدر في
الربيع فإذا فرخت ودخلت في الصيف احتاجت إلى طلب الماء على بعد فيكون أسرع
لطيرانها .
وإنما تفرخ بيضها إذا جاء الحر . فأراد أن يخبر عن سرعة طيرانها عند حاجتها إلى
الماء .
ووجب تقدير كان بصار هنا ليصح المعنى ولو قدر بكان لفسد لكونه محالاً .
ومثله قول شمعلة بن أخضر من شعراء الحماسة : الوافر ( فخر على الألاءة لم يوسد **
وقد كان الماء له خمارا ) قال ابن جني في إعرابه للحماسة : كان هنا بمنزلة صار .
أنشد أبو علي : بتيهاء قفر والمطي . . . . . . . . . . . البيت أي : صارت .
وهذا وجه من وجوه كان خفي . اه .
ومثله قول رؤبة : الرجز والرأس قد كان له قتير
____________________
وبقي وجه آخر لم يرتضه
الشارح المحقق ولهذا لم يذكره وهو أن تكون كان على بابها )
ويدعى القلب في الكلام ويكون الأصل : قد كانت فراخها بيوضاً كقول الآخر : الكامل (
. . . . . . . . . . . . . كما ** كان الزناء فريضة الرجم ) أراد : كما كان الرجم
فريضة الزنى .
وما اختاره الشارح المحقق هو مذهب ثعلب وأبي علي وابن جني وهو الجيد لأن القلب لا
يصار إليه إذا وجد وجه آخر .
وأما قوله : بيوضها فقد رواه ثعلب بضم الباء . ومشى عليه في الإيضاح مستشهداً به
على أنه جمع بيض كبيت وبيوت وخالفه في التذكرة وجزم بأن بيوضها بفتح الباء بمعنى
ذات البيض واستبعد رواية الضم وقال : فإن قلت ما تنكر أن يكون بيوضها بضم الباء
فالقول في ذلك أنه يبعد وإن كانوا قد قالوا التمور لاختلاف الجنس لأن البيض هنا
ضرب واحد وليس بمختلف فلا يجوز أن يجمع .
وهذا الاستبعاد مبني على أن يكون جمع بيض والصحيح أنه جمع بيضة كما أن مؤوناً جمع
مأنة وهي السرة وما حولها لا أنه جمع بيض لعدم الاختلاف المسوغ للجمع . وهذا أولى
من الطعن في رواية ثعلب . ( يضل القطا الكدري فيها بيوضه ** ويعوي بها من خيفة
الهلك ذيبها ) وقول الجعدي :
____________________
____________________
____________________
لهن أداحي به وبيوض فإن
قال قائل : هذا جعل بيوضاً جمع بيضة كما جعل سخالاً جمع سخلة ومؤوناً جمع مأنة .
فالجواب أن نقول : إنما جعل سخالاً جمع سخلة لا سخل وإن كان باب كل واحد منهما أن
لا يكسر لأن امتناع التكسر في أسماء الأجناس أقوى .
ألا ترى أن أسماء الأجناس كلها لا يجوز تكسير شيء منها بقياس . وقد نص على ذلك
سيبويه في باب جمع الجمع . والآحاد المخلوقة كلها يجوز تكسيرها بقياس فيما عدا هذا
الباب فكان جعل سخال جمع سخلى أولى من جعلها جمع سخل لذلك .
وأما بيوض فالذي أوجب عليه أن يجعلها جمع بيض لا بيضة أنه رأى أن فعولاً في جمع
فعل مقيس نحو : فلس وفلوس وفعول في جمع فعله نحو : بدرة وبدور غير مقيس فيرجح عنده
جعل بيوض جمع بيض لذلك . ومن صخور وتمور وأشباهه . )
وليس كذلك فعال فإنه جمع لفعلة وفعل بقياس نحو : جنان وكلاب . وجعل مؤوناً جمع
مأنة لما لم يسمع مأن .
وأما على قول أبي علي فلا بد من تقدير مضاف والتقدير : كانت بيوضها ذات أفراخ ولا
قلب في الكلام حينئذ كما في صورة جعل كان بمعنى صار مع رواية الباء وإنما يدعى
القلب في صورة جعل كان على بابها مع رواية ضم الباء .
والقطا : ضرب من الطير وهو نوعان : كدري وجوني . فالكدري غبر الألوان رقش الظهور
والبطون صفر الحلوق قصار الأذناب . والجوني سود البطون سود بطون الأجنحة والقوادم
بيض الصدور غبر الظهور وفي عنق كل واحد منها طوقان : أصفر وأسود .
وقوله : بتيهاء قفر الجدار يتعلق بقوله : والعيس تجري غروضها في بيت قبله .
والبيت من أبات لابن أحمر وهي : ( لعمري لئن حلت قتيبة بلدة ** شديداً بمال
المقحمين عضيضها ) ( فلله عيناً أم فرع وعبرة ** ترقرقها في عينها أو تفيضها ) (
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة ** صحيح السرى والعيس تجري غروضها ) ( بتيهاء قفر
والمطي كأنها ** قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها ) وفي شرحها : قتيبة : بطن من
باهلة . والمقحمون : الذين أقحمتهم السنة وهي القحمة بالضم أي : القحط .
وعضيضها : عضها . وصحيح السرى أي : غير جائر عن القصد فيكون أسرع لقصده لصحة سراه
. فتمنى أن يصح سراه ويستقيم ليعجل إلى مقصده .
وغروضها : اتساعها . أي : إنها قد أضمرت حتى قد كانت أي : قد صارت . بيوضها : جمع
البيض . انتهى .
ومعنى البيت أن المطي براها السير وحملها على المتاعب حتى صارت كالفراخ في الضعف
والهزال بعد ما كانت قوية سماناً كالدجاج البيوض بإضافة الفراخ إليها . انتهى .
وهذا كلام من لم يقف على الرواية . والتي في عامة نسخ شعره : ( أريهم سهيلاً
والمطي كأنها ** قطا الحزن . . . . . . . البيت ) قال شارحه : قوله أريهم سهيلاً
يعني أصحابه وإن لم يجر له ذكرن لدلالة الحال عليه أي : )
يريهم مطلعه الذي ببلاد أحبابه التي يقصدها فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده
ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه التي يقصدها فهو يتمنى أن يصح سراه إلى مقصده
ليريهم مطلع سهيل ببلاد أحبابه وتكون المطي على الحال التي وصفها من قلق غروضها
وأتساعها . لحثه إياها على السرى الذي أهزلها
____________________
فقلقت أنساعها . وشبهها
بسرعة القطا التي فارقت فراخها لتحمل إليها الماء فتسقيها فهو أسرع لطيرانها .
ودل كلام الشاعر على أنه أراد : يريهم سهيلاً من آخر الليل لأن القطا إنما تصير
كما ذكر في الصيف . وطلوع سهيل بالحجاز يكون عند فتور الحر في عشري آب من شهور
الروم .
وقوله : والمطي كأنها حال من فاعل تجري في البيت المتقدم على الرواية الأولى وصاحب
الحال في الرواية الثانية ضمير الجمع في أريهم سهيلاً . والعامل أرى كقولك : جئتك
والشمس طالعة .
وقوله : قد كانت . . . إلخ حال من القطا والعامل ما في كان من معنى التشبيه .
وفراخاً خبر مقدم لكان وبيوضها اسمها المؤخر .
وابن أحمر شاعر إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد السبعمائة ) الوافر ( سراة بني أبي بكر
تسامى ** على كان المسومة العراب
____________________
) على أن كان فيه زائدة بين
الجار والمجرور .
وزيادتها عند الشارح قسمان : أحدهما : زيادة حقيقية تزاد غير مفيدة لشيء إلا محض
التوكيد يكون وجودها في الكلام وعدمها سواء لا تعمل ولا تدل على معنى .
ثانيهما : زيادة مجازية تدل على معنى ولا تعمل .
ومثل للأول بهذا البيت وبالآية الشريفة وبقولهم : لم يوجد كان مثلهم . ومثل للثاني
بما كان أحسن زيداً وبقولهم : إن من أفضلهم كان زيداً وبالبيت أيضاً فجعله متردداً
بينهما .
وما ذكره أحد مذاهب ثلاثة : الأول : مذهب ابن السراح واختاره ابن يعيش قال : والذي
أراه أن تكون زائدة دخولها كخروجها لا عمل لها في اسم ولا خبر ولا هي لوقوع شيء .
وإليه ذهب ابن السراج قال في أصوله : وحق الزائد أن لا يكون عملاً ولا معمولاً ولا
يحدث معنى سوى التأكيد .
ويؤيد ذلك قوله تعالى : كيف نكلم من كان في المهد صبياً أن كان في الآية زائدة
وليست الناقصة إذ لو كانت الناقصة لأفادت الزمان ولو أفادت الزمان لم يكن لعيسى
عليه السلام في ذلك معجزة لأن الناس كلهم في ذلك سواء فلو كانت الزائدة تفيد معنى
الزمان لكانت كالناقصة فلم يكن للعدول إلى جعلها زائدة فائدة .
ومن مواضع زيادتها قولهم : إن من أفضلهم كان زيداً فكان مزيدة لضرب من التأكيد إذ
المعنى أنه في الحال أفضلهم وليس المراد أنه كان فيما مضى إذ لا مدح في ذلك .
ولأنك لو جعلت لها اسماً وخبراً لكان التقدير : إن زيداً كان من أفضلها وكنت قد
قدمت الخبر على اسم إن وليس بظرف وذلك لا يجوز .
____________________
وقول الشاعر : على كان
المسومة العراب البيت كان فيه زائدة . وعند هذا القائل دلالتها على الزمان يستدعي
كونها ناقصة . )
الثاني : مذهب السيرافي قال : لسنا نعني أن دخولها كخروجها في كل معنى وإننا نعني
بذلك أنها ليس لها عمل ولا هي لوقوع شيء مذكور ولكنها دالة على الزمان الماضي
وفاعلها مصدرها وذلك كقولك : زيد كان قائم تريد كان ذلك الكون وقد دلت على الزمان
الماضي ولو خلا منها الكلام لوجب أن يكون ذلك في الحال .
وقول الشاعر : على كان المسومة العراب كان ذلك الكون . وإذا قد هذا التقدير كانت
كان واقعة لوقوع شيء مذكور وهو ذلك الكون .
أحدهما : أن تلغى عن العمل مع بقاء معناها والآخر : أن تلغى عن العمل والمعنى معاً
. وإنما تدخل لضرب من التأكيد .
والأول نحو قولهم : ما كان أحسن زيداً المراد أن ذلك كان فيما مضى مع إلغائها عن
العمل ومعناه ما أحسن زيداً أمس فهي في ذلك بمنزلة ظننت إذا ألغيت بطل عملها لا
غير نحو قولك : زيد ظننت منطلق . ألا ترى أن المراد : في ظني .
وأما الثاني فنحو قوله : على كان المسومة العراب ومنه قوله تعالى : كيف نكلم من
كان في المهد صبياً . ولو أريد فيها المضي
____________________
لم يكن لعيسى عليه السلام
في ذلك معجزة لأنه لا اختصاص له بذلك الحكم دون سائر الناس .
وقوله : سراة بني أبي بكر . . . إلخ قيل : هو جمع سري وقيل : اسم جمع له وهو
الشريف .
قيل : ويحتمل أن يكون بالضم جمع سار كقضاة جمع قاض . وتسامى أصله تتسامى بتاءين من
السمو وهو العلو .
والمسومة : الخيل التي جعلت عليه سومة بالضم وهي العلامة وتركت في المرعى .
والعِراب : الخيل العربية وهي خلاف البراذين . والمعنى أن سادات بني أبي بكر
يركبون الخيول وروى : المطهمة بدل المسومة وهو التام الخلقة من كل حيوان . وروى :
جياد بني أبي بكر . . .
إلخ وهو جمع جواد وهو الفرس السريع العدو . والمعنى على هذه الرواية أن خيل هؤلاء
تفضل على خيول غيرهم . )
وقال ابن هشام في شرح الشواهد : السري : ذو السخاء والمروءة وروى : جياد فإن كان
جمع جيد فهما متقاربان أو جواد فالممدوح خيلهم والمعنى حينئذ : على المسومة
العِراب من جياد غيرهم .
وهذه الرواية وهذا التفسير أظهر إذ ليس بمعروف تفضيل الناس على الخيل وكأنه فهم أن
تسامى بمعنى التفاضل وليس كذلك كما ذكرنا .
ثم قال : وتسامى إما مضارع أو ماض على حد : الركب سار . ويؤيده أنه روى : تساموا .
وروى الفراء : المطهمة الصلاب أي : ذوات الصلابة أي : الشدة .
وهذا البيت مع شهرته وتداوله لم أقف على خبر له . والله أعلم . ( تتمة ) ذهب ابن
عصفور في كتاب الضرائر إلى أن زيادة كان في الشعر وأنها تكون دالة على المضي
دائماً . وكلاهما خلاف المرضي . قال : ومنها زيادة كان للدلالة
____________________
على الزمان الماضي نحو قول
الفرزدق : الكامل في الجاهلية كان والإسلام وقول الآخر أنشده الفارسي : البسيط (
في غرف الجنة العليا التي وجبت ** لهم هناك بسعيٍ كان مشكور ) يريد : بسعي مشكور
وقوله الآخر أنشده الفراء : على كان المسومة العِرابِ وقول غيلان بن حريث : الرجز
إلى كناس كان مستعيده يريد : إلى كناس مستعيده . وقول امرئ القيس في الصحيح من
القولين : الطويل ( أرى أم عمرو دمعها قد تحدرا ** بكاء على عمرو وما كان أصبرا )
يريد : وما أصبر أي : وما أصبرها وقد تزاد في سعة الكلام ومنه قول قيس بن غالب
البدري : ولدت فاطمة بنت الخرشب الكملة من عبس لم يوجد كان مثلهم . إلا أن ذلك لا
يحسن إلا في الشعر .
وإنما أوردت زيادتها في فعل دون زيادة الجملة لأنها في حال زيادتها غير مسندة
____________________
إلى شيء . )
وسبب ذلك أنها لما زيدت للدلالة على الزمان الماضي أشبهت أمس فحكم لها بحكم أمس .
هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد السبعمائة ) الكامل ( في لجة غمرت أباك
بحورها ** في الجاهلية كان والإسلام ) على أن كان زائدة بين المتعاطفين لا عمل لها
ولا دلالة على مضي .
أما الأول فظاهر . وأما الثاني فلأن المعنى أن الغمر ثابت في زمن الجاهلية وفي زمن
الإسلام لا أنه كان في الجاهلية وانقطع لأن المعطوف يأبى هذا المعنى .
وكذا كان في قولهم : لم يوجد كان مثلهم فإنها لو كانت دالة على المضي لاقتضى أنه
يوجد مثلهم الآن . وهذا خلاف المقصود .
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً . وقبله يخاطبه : ( وحسبت بحر بني كليب
مصدراً ** فغرقت حين وقعت في القمقام ) في حومة غمرت أباك بحورها . . . . . . . .
. . . . . . . إلخ قوله : أشبهت أمك . . . إلخ يريد : أشبه عقلك عقل أمك حين تفاخر
بكليب دارماً . وكليب : رهط جرير ودارم : فخذ شريف من قبيلة تميم .
____________________
وأدقة : جمع دقيق يريد به
الضعيف الضئيل .
والمتقاعس : المتأخر عن المجد والشرف . ولئام : جمع لئيم .
وقوله : وحسبت بحر . . . إلخ ويروى : وحسبت حبل بني كليب يقول : ظننت أن بني كليب
ينجونك مما قد وقعت فيه حين تعرضت لي . ومصدر : اسم فاعل من أصدرته بمعنى رجعته .
والقمقام : البحر .
وقوله : في جلة غمرت . . . إلخ اللجة : معظم الماء . وروى بدله : في حومة بمعناه .
قال شارح المناقضات : حومة الماء : مجتمعه ومعظمه وهو بدل من القمقام . وغمرت :
غطت .
والغمر : الماء الكثير . وقد غمره الماء يغمره أي : علاه .
والبحر : الماء الكثير وكل نهر عظيم . والجاهلية : الزمان الذي كثر فيه الجهال وهي
ما قبل الإسلام . وقيل : أيام الفترة . وقد تطلق على زمن الكفر مطلقاً وعلى ما قبل
الفتح . )
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . ( الشاهد الثلاثون بعد
السبعمائة ) الطويل بدا لك في تلك القلوص بداء
____________________
على أن بداء فاعل بدا وهو
مصدر بمعنى اسم الفاعل والتقدير : بدا لك رأي باد ولما كان ظاهر هذا الشعر على طبق
ثبت الثبوت بجعل المصدر فاعلاً لفعله وهو مما لا معنى له أجاب عنه بما ذكره .
ولا يخفى أنه تكلف . والجيد ما قاله أبو علي في كتاب الشعر قال : أضمر البداء في
قوله تعالى : ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه لأن البداء الذي هو المصدر
قد صار بمنزلة العلم والرأي . ألا ترى أن الشاعر قد أظهره في قوله : ( لعلك
والموعود حق لقاؤه ** بدا لك في تلك القلوص بداء ) وكذلك صنع ابن الشجري في الآية
والبيت وقال : ألسن العرب متداولة في قولهم : بدا لي في هذا الأمر بداء أي : تغير
رأيي عما كان عليه . ويقال : فلان ذو بدوات ذا بدا له الرأي بعد الرأي . انتهى .
وقد وقع هذا التركيب في سيرة ابن هشام ونصه : قال ابن إسحاق : ظن رسول الله صلى
الله عليه وسلم أن قد بدا لعمه بداء .
قال السهيلي في الروض : أي : ظهر له رأي فسمي بداء لأنه شيء يبدو بعدما خفى
والمصدر البدو والاسم البداء . ولا يقال في المصدر : بدا له بدو كما لا يقال : ظهر
له ظهور بالرفع لأن الذي يظهر ويبدو هاهنا هو الاسم نحو البداء .
ومن أجل أن البدو هو الظهور كان البداء في وصف الباري سبحانه محالاً لأنه لا يبدو
له شيء كان غائباً عنه . والنسخ للحكم ليس ببدو كما توهمه جماعة من الرافضة
واليهود وإنما هو تبديل حكم بحكم بقدر قدره وعلم قديم علمه .
وقد يجوز أن يقال : بدا له أن يفعل كذا ويكون معناه أراد . وهذا من المجاز الذي لا
سبيل إلى إطلاقه إلا بإذن من صاحب الشرع .
وقد صح في ذلك ما خرجه البخاري في حديث الثلاثة : الأعمى والأقرع والأبرص وأنه
عليه )
السلام قال : بدا لله أن يبتليهم . فبدا هاهنا بمعنى : أراد .
وابن أعين ومن اتبعه يجيزون البداء على الله ويجعلونه والنسخ شيئاً واحداً واليهود
لا تجيز النسخ يحسبونه بداء . ومنهم من أجاز البداء .
وروى الأصبهاني في الأغاني أن رجلاً وعد محمد بن بشير الخارجي بقلوص وهي الناقة
الشابة ومطله فقاله فيه يذمه ويمدح زيد بن الحسن بن علي ابن أبي طالب : الطويل . (
لعلك والموعود حق لقاؤه ** بدا لك في تلك القلوص بداء ) ( فإن الذي ألقى إذا قال
قائل ** من الناس : هل أحسستها لعناء ) ( أول الذي يبدي الشمات وإنها ** علي
وإشماتُ العدو سواء ) ( دعوت وقد أخلفتني الوعد دعوة ** بزيد فلم يضلل هناك دعاء )
____________________
( بأبيض مثل البدر عظم حقه
** رجال من آل المصطفى ونساء ) فبلغت هذه الأبيات زيد بن الحسن فبعث إليه بقلوص من
جياد إبله فقال يمدحه : الطويل ( إذا نزل ابن المصطفى بطن تلعة ** نفى جدبها واخضر
بالنبت عودها ) ( وزيد ربيع الناس في كل شتوة ** إذا أخلفت أنواؤها ورعودها ) (
حمول لأشتات الديات كأنه ** سراج الدجى إذا قارنته سعودها ) انتهى .
وقوله : لعلك والموعود . . . إلخ أورده ابن هشام في المغني في الجملة المعترضة من
الباب الثاني على أن قوله : والموعود حق لقاؤه جملة اعتراضية بين ما أصله المبتدأ
وبين خبره .
وأحسستها : استفدتها . وأحسست الشيء : وجدت حسه . وقوله : لعناء خبر إن الذي ألقى
.
يقول : إن قلت للسائل الشامت إني أفدتها فقد كذبت وكذبي وإشمات العود سواء .
وقوله : بزيد الباء زائدة أي : ناديته مرة . وجملة : وقد أخلفتني الوعد اعتراضية .
وقائل هذه الأبيات محمد بن بشير بن عبد الله بن عقيل الخارجي من بني خارجة بن
عدوان بن عمرو بن قيس بن عيلان بن مضر ويكنى أبا سليمان . وهو شاعر فصيح حجاي من
شعراء الدولة الأموية وكان منقطعاً إلى أبي
____________________
عبيدة بن عبد الله بن
ربيعة القرشي أحد بني أسد بن عبد العزى . وله ترجمة طويلة في الأغاني . )
وانشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
فكيف إذا مررت بدار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام ) على أن كان فيه ناقصة كما ذهب
إليه المبرد الواو اسمها ولنا : خبرها وليست زائدة كما وشبهه بقول الشاعر : ( فكيف
إذا رأيت ديار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام ) اه .
قال الأعلم : الشاهد فيه إلغاء كان وزيادتها توكيداً وتبييناً لمعنى المضي
____________________
والتقدير : وجيران لنا
كرام كانوا كذلك .
وقد رد المبرد هذا التأويل وجعل قوله : لنا خبراً لها والصحيح ما ذهب إليه الخليل
وسيبويه من زيادتها لأن قوله : لنا من صلة الجيران ولا يجوز أن تكون خبراً لكان
إلا أن تردي معنى الملك ولا يصح الملك هاهنا لأنهم لم يكونوا لهم ملكاً إنما كانوا
لهم جيرة . انتهى .
ولا يخفى أن هذا تعسف منه ولا فرق بين قولك : جيران لنا وبين كانوا لنا فإن الواو
في كانوا ضمير الجيران واللام للاختصاص لا للملك .
وقد نسب الزجاج في تفسيره زيادة كان في البيت إلى المبرد ونقل عنه غلطة لم يغلطها
أصاغر الطلبة قال عند قوله تعالى : إنه كان فاحشة ومقتاً . قال محمد بن يزيد :
جائز أن تكون كان زائدة فالمعنى على هذا إنه فاحشة ومقت .
وأنشد في ذلك قول الشاعر : وهذا غلط من أبي العباس لأن كان لو كانت زائدة لم تنصب
خبرها . انتهى .
وهذا نقل شاذ وكلهم أجمعوا على أن زيادة كان في البيت إنما قال به سيبويه . لكن
الزجاج تلميذ المبرد وهو أدرى بمذهب شيخه . والله أعلم .
وتجويز المبرد زيادة كان في الآية مع نصب خبرها خطأ ظاهر .
قال ابن السيد في أبيات المعاني : وكان أبو العباس محمد بن يزيد المبرد يمتنع
____________________
من زيادة كان في البيت
ويقول : إنما تلغى إذا كانت مجردة لا اسم لها ولا خبر وأما في البيت فالواو اسمها
ولنا : )
الخبر وكرام : صفة لجيران .
وقد رد الناس هذا وقالوا : يجوز أن تكون الواو حرفاً دالاً على الجمع يؤكد به
الجيران كالواو في أكلوني البراغيث . وهذا مذهب كثير من البصريين وبعض الكوفيين .
ولأنه يقدر بلنا التأخير وهو صفة لجيران وقد حل محله من حيث تبع الموصوف ولا حاجة
تدعو إلى انتزاعه من موضعه وتقديره مؤخراً . وهذا حجة أبي علي . انتهى .
أقول : هذا التوجيه ضعيف جداً فإن القول بحرفية واو الجمع إنما هو إذا كان بعدها
جمع مرفوع كما في المثال وأما إذا لم يأت بعدها جمع مرفوع فلم يقل أحد إنها تأتي
حرفاً دالاً على الجمع .
والصواب ما وجه به الشارح المحقق وهو أن كان زيدت مع الفاعل لأنه كالجزء منها
لأنهم قالوا : والفاعل كالجزء من الفعل .
واستدل صاحب اللباب على أنهما كالكلمة الواحدة باثني عشر وجهاً منها زيادة الفعل
مع الفاعل في نحو هذا البيت . قال شارحه الفالي : تقريره أنهم حكموا بأن كانوا
زائدة وإن كان الفعل وهو كان وحده زائداً ولكن لما كان الفاعل كالجزء لم يفكوه عن
الفعل فحكموا بزيادتهما جميعاً . انتهى .
وأبو علي لم يجعل الواو فاعل كان وإنما جعلها ضميراً مؤكداً للضمير المستتر في
الظرف الواقع صفة لجيران أعني قوله : لنا قال : لنا في موضع الصفة لجيران وفيه
ضميرهم مستتر على ما عهد من حكم الجار والمجرور إذا وقع صفة والضمير المتصل بكان
تأكيد له ولم يكن بد من اتصاله لأنه لا يقوم بنفسه .
واستدل على ذلك بقول الشاعر : المنسرح
____________________
( نحن بغرس الودي أعلمنا
** منا بطعن الكماة في السدف ) قال : ف نا من أعلمنا لا حاجة إليه لأن أعلم أفعل
وأفعل إما أن يضاف وإما أن يتصل بمن ويمنع من إضافته . وإذا كان كذلك فلا بد من
تخريج يصح عليه الإعراب وذلك أنه تأكيد ولقوة تناوله قدموه ليدلوا على شدة اتصاله
. وإذا جاز ذلك في أعلم مع ما بعده كان في كان أولى وأحسن .
هذا كلامه ونقله عنه اللخمي في شرح أبيات الجمل . )
وقد جمع ابن هشام في شرح الشواهد جميع ما للعلماء من التخاريج في هذا البيت قال :
لنا قيل : خبر مقدم ثم اختلف على قولين : أحدهما : أنه خبر مبتدأ والأصل لنا هم ثم
زيدت كان بينهما فصار لنا كان هم ثم وصل الضمير إصلاحاً للفظ لأنه لا يصح وقوعه
منفصلاً إلى جانب فعل غير مشتغل بمعمول .
والثاني : أنه خبر لكان وأنها ناقصة وهو قول المبرد وجماعة وعليه فالجملة صفة
لجيران وتقدمت على الصفة المفردة والأكثر في الكلام تقديم المفردة .
وقيل : لنا صفة لجيران ثم اختلف على قولين أيضاً : أحدهما : أن كان تامة والضمير
فاعل أي : وجد . ورد بأنه لا فائدة في الكلام على هذا القول .
والثاني : أنها زئدة ثم اختلف في الاعتذار عن الضمير على قولين : أحدهما : أن
الزيادة لا تمنع العمل في الضمير كما لم يمنع إلغاء ظن عملها في الفاعل مطلقاً .
قاله ابن السيد وابن مالك . وفيه نظر لأن الفعل الملغى لم ينزل
____________________
منزلة الحروف حتى لا يليق
الإسناد إلى الفاعل وإنما هو فعل صحيح وضع لقصد الإسناد .
والثاني : أن الأصل : كان هم على أن الضمير توكيد للضمير المستتر في لنا ثم زيدت
كان بينهما ووصل الضمير للإصلاح . انتهى .
____________________
وقد لخصه في المغني في بحث لعل .
وقوله : على تقدير كونها تامة مع فاعلها أنه لا فائدة في الكلام ممنوع فإنها صفة
لجيران بمعنى ثبتوا وحصلوا . وما أورده أولاً من أن الأصل لنا هم ثم زيدت كان
بينهما فاتصل بها الضمير هو قول صاحب الكشاف قال في قوله تعال : وإن كانت لكبيرة :
وقرأ اليزيدي : لكبيرة بالرفع ووجهها أن تكون كان مزيدة كما في قوله : وجيران لنا
كانوا كرام . الأصل : وإن هي لكبيرة كقولك : إن زيد لمنطلق ثم وإن كانت لكبيرة .
انتهى .
قال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي في كتاب التنبيه على أغلاط أبي زياد
الكلابي في نوادره : روى أبو أحمد عبد العزيز بن يحيى بن أحمد بن عيسى بن يزيد
الجلودي في أخبار الفرزدق بإسناد متصل ذكره أن الفرزدق حضر عند الحسن البصري
فأنشده : )
فقال له الحسن : كراماً يا أبا فراس . فقال الفرزدق : ما ولدتني إلا ميسانية إن
جاز ما تقول يا أبا سعيد قال : وأم الحسن من ميسان . فهذا رد الفرزدق عن نفسه .
وقد أصاب وتقدر قوله : وجيران كرام كانوا لنا . انتهى .
وميسان : قرية من قرى العراق . يريد : إني لم أكن من العرب العرباء بل من المولدين
إن صح ما لحنتني فيه .
والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها هشام بن عبد الملك ويهجو جريراً وأولها : (
ألستم عائجين بنا لعنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام ) ( فقالوا إن عرضت فأغن عنا
** دموعاً غير راقئة السجام ) ( فكيف إذا مررت بدار قوم ** وجيران لنا كانوا كرام
) ( أكفكف عبرة العينين مني ** وما بعد المدامع من لمام ) قوله : ألستم عائجين . .
. . . إلخ الهمزة للاستفهام التقريري وروى : هل أنتم بدله .
وعائجون : جمع عائج اسم فاعل من عدت البعير أعوجه عوجاً : إذا عطفت رأسه بالزمام .
والباء في بنا بمعنى مع . وروى العيني فقط : عالجون باللام وقال : أي : داخلون في
عالج وهو اسم موضع . ولم أره لغيره . وليس في الصحاح عالج بمعنى دخل في عالج .
ولعنا أي : لعلنا . ولعن لغة في لعل . وعرصة الدار : ساحتها وهي البقعة الواسعة
التي ليس فيها بناء وسميت عرصة لأن الصبيان يعرصون فيها أي : يلعبون ويمرحون .
____________________
وقوله : إن عرضت كذا رواه محمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب : قال
صاحب الصحاح : وعرض الرجل إذا أتى الروض وهي مكة والمدينة وما حولهما .
قال : الطويل فيا راكباً إما عرضت فبلغن وقول الكميت : الطويل فأبلغ يزيد إن عرضت
ومنذراً يعني إن مررت به . انتهى .
وما هنا يحتمل كلا منهما . وروى أيضاً : إن فعلت بدله أي : فعلت العوج وهو عطف رأس
الناقة بالزمام . )
____________________
وقوله : فأغن عنا هو أمر من قولهم : أغنيت عنك أي : أجزأت مجزأة . يريد أن أصحابه
لم يرفقوه على عطف الزمام .
وقوله : دموعاً أصله بدموع فلما حذفت الباء نصب . وراقئة بالهمزة من رقأ الدمع
رقئاً وقوله : فكيف إذا مررت . . . إلخ كيف : استفهام وفيها معنى التعجب وهي هنا
ظرف والعامل فيها محذوف دل عليه الكلام وهو أكون وهو مقدر بعدها لأن الاستفهام لا
يعمل فيه ما قبله .
والتقدير : على أي حال أكون إذا مررت بدار قوم إلخ وجواب إذا محذوف لدلالة ما تقدم
عليه وهو العامل فيها . كذا قال اللخمي .
وقال ابن هشام : كيف : ظرف لأكفكف . وفيه نظر . والتاء في مررت للمكلم بدليل لنا
وأكفكف . وروى بدله : رأيت . وقوله : أكفكف : أحبس .
والعبرة بالفتح : الدمعة . واللمام بكسر اللام بعدها ميم . كذا في منتهى الطلب
والمشهور من ملام .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر
____________________
على أن أبا البقاء جوز
زيادة يكون بلفظ المضارع وادعى أنها هنا زائدة على رواية رفع مزاجها على المبتدأ
وعسل خبرها .
وكذلك قال ابن السيد في أبيات المعاني : تكون زائدة لا اسم لها ولا خبر فيكون قوله
: مزاجها عسل جملة من مبتدأ وخبر . وقد عطف ماء على الخبر فرفع .
وذهب ابن الناظم أيضاً في شرح الألفية إلى أن زيادتها بلفظ المضارع نادر كقول أم
عقيل رضي الله عنه : الرجز ( أنت تكون ماجد نبيل ** إذا تهب شمأل بليل ) وارتضاه
ابن هشام في شرح شواهده لكنه أنكر زيادتها في المغني قال : ويروى برفعهن أي : برفع
مزاجها عسل وماء على إضمار الشأن . وأما قول ابن السيد : إن كان زائدة فخطأ لأنها
لا تزاد بلفظ المضارع بقياس ولا ضرورة لدعوى ذلك هنا . انتهى .
وهذا التخريج مشهور وذكره ابن خلف وغيره فيكون اسمها ضمير الشأن والأمر وجملة :
مزاجها عسل من المبتدأ والخبر خبرها . وذكر ابن هشام
____________________
اللخمي تخريجاً آخر بعد
ذلك قال : اسم يكون ضمير سبيئة وجملة : مزاجها عسل في موضع الخبر أو إن خبرها مقدم
عليها وهو قوله من بيت رأس وجملة : تكون من بيت رأس صفة لسبيئة وجملة : مزاجها عسل
صفة ثانية قال : وعلى هذين القولين يقال : تكون بالتاء . والسابق إلى هذا التخريج
ابن السيد في أبيات المعاني .
ثم قال : والأحسن أن تقول على هذا الوجه : تكون بالتاء لأن السلافة مؤنثة ولو قلت
بالياء جاز لأن التأنيث غير حقيقي وليس بالجيد .
أقول : إذا أسند الفعل إلى ضمير المؤنث المجازي فالتأنيث واجب إلا في الضرورة
وإنما جواز التأنيث في الإسناد إلى ظاهره .
وأما بيت أم عقيل فلم أر من خرجه . وأقول بعن الله تعالى : إن اسم تكون ضمير
المخاطب المستتر فيها وخبرها محذوف وماجد : خبر أنت والتقدير : أنت ماجد نبيل
تكونه أو تكون ذاك والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر . )
وأم عقيل هي أم علي بن أبي طالب رضي الله عنهما واسمها فاطمة بنت أسد ابن هاشم بن
عبد مناف .
وهذا الرجز كانت ترقص به عقيلاً لما كان طفلاً . وقبله : الرجز ( إن عقيلاً كاسمه
عقيل ** وبيبي الملفف المحمول ) وآخره : وعقيل كل شيء : أفضله . وبيبي : بأبي أي :
يفدى بأبي أو مفدى به .
ورواه الأزدي في كتاب الترقيص : الزجر
____________________
( أنت تكون السيد النبيل
** إذا تهب الشمأل البليل ) ورواية سيبويه في البيت المتقدم بنصب مزاجها على أنه
خبر مقدم ورفع عسل على أنه اسم مؤخر . وإن شاء الله يأتي الكلام عليها في آخر
الباب .
وروى أيضاً برفع مزاجها ونصب عسل على الاسم والخبر ويكون ارتفاع ماء بفعل محذوف
تقديره : ومازجها ماء لأن الشيء إذا خالط شيئاً فقد خالطه ذلك الشيء أيضاً . وهذه
رواية أبي عثمان المازني ومختاره نقله عنه ابن السيد وابن خلف وغيرهما .
وخبر كأن المشددة في بيت يليه وهو : الوافر ( على أنيابها أو طعم غض ** من التفاح
هصرة اجتناء ) فقوله : على أنيابها هو الخبر . والأنياب أربعة أسنان : ثنتان من
يمين الثنايا : واحدة من فوق وواحدة من أسفل وثنتان من شمالها كذلك . شبه طعم
ريقها بطعم خمر قد مزجت بعسل وماء أو بطعم تفاح غض قد اجتني . فطعم بالنصب معطوف
على سبيئة .
وهصره : أماله . والاجتناء : أخذ التمر من الشجر . ويروى بدله : جناء بكسر الجيم
وهو الثمر والبيت الثاني ثابت في ديوان حسان وهو عندي نسخة قديمة تاريخ كتابته سنة
أربع وثلاثين وثلثمائة .
وكذا رواه من تكلم في شعره . وقد أنكره السهيلي في الروض وقال : قوله : كأن سبيئة
خبر كأن في هذا البيت محذوف تقديره : كأن في فيها . ومثله في النكرات حسن كقوله :
المنسرح
____________________
إن محلاً وإن مرتحلاً أي :
إن لنا محلاً . )
وكقول الآخر : ولكن زنجياً طويلاً مشافره وزعم بعضهم أن بعده بيتاً فيه الخبر وهو
على أنيابها البيت . وهو مصنوع لا يشبه شعر حسان ولا لفظه . انتهى .
والسبيئة : فعيلة بمعنى مفعولة . وهي الخمر التي تسبأ أي : تشترى بالهمزة .
قال المبرد في الكامل وأنشد البيت . يقال : سبأت الخمر سبئاً إذا اشتريتها .
والسابيء : الخمار .
قال ابن السيد : إنما السابيء مبتاع الخمر لا بائعها . وهذا منه غلط .
وفي القاموس : سبأ الخمر كجعل سبئاً وسباءً ومسبأً : شراها كاستبأها وبياعها
السباء .
والسبيئة ككريمة : الخمر .
ثم قال في المعتل : سبى العدو : أسره . والخمر سبياً وسباء ووهم الجوهري :
____________________
حملها من بلد إلى بلد .
انتهى .
والجوهري قيد السبء بشرائها للشرب . قال : فأما إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر
قلت : سبيت الخمر . فشراؤها للتجارة يكون عنده بالياء .
ورد عله الصفدي في نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم . قال : هذا تحكم منه
ودعوى بلا بدليل .
وقول ابن هرمة : المنسرح ( خود تعاطيك بعد رقدتها ** إذا تلاها العيون مهدؤها ) (
كأساً بفيها صهباء معرقة ** يغلو بأيدي التجار مسبؤها ) يشهد بخلاف هذا الفرق الذي
أبداه . ولا يجوز سبيت الخمر بالياء إلا على قول من يرى تحويل الهمزة . انتهى .
وروى : كأن سلافة والسلافة : الخمر وقيل : خلاصة الخمر وقيل : ما سال من العنب قبل
وروى أيضاً : كأن خبيئة وهي الخمر المخبأة المصونة المضنون بها .
وقوله : من بيت رأس متعلق بمحذوف على أنه صفة أولى لسبيئة وجملة : يكون إلخ صفة
ثانية لها كأنه قال : سبيئة مشتراة من بيت رأس ممزوجة بعسل وماء . )
وبيت رأس : موضع قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد :
____________________
قال عبيد الله بن عبد الله
بن خرداذبه : بيت رأس : اسم قرية بالشام من ناحية الأردن كانت الخمور تباع فيها
وبه ماتت حبابة جارية يزيد بن عبد الملك فمات يزيد بعد بضع عشرة جزعاً عليها .
انتهى .
وقيل : بيتُ : موضع الخمر ورأس : اسم للخمار . وقصد إلى بيت هذا الخمار لأن خمره
أطيب الخمر . وقيل : الرأس هنا بمعنى الرئيس أي : من بيت رئيس . قال اللخمي : وهذا
أحسن الأقوال لأن الرؤساء إنما تشرب الخمر ممزوجة .
وإنما اشترط أن يمزجها لأنها خمر شامية صليبة فإن لم تمزج قتلت شاربها . وخص العسل
والماء لأن العسل أحلى ما يخالطها وأنه يذهب بمرارتها وأما الماء فيبردها ويلينها
.
وقيل : إنما عنى شراب الرؤساء والملوك على قول من جعل رأساً : بمعنى رئيس لأنها
إذا مزجت لا يشربها إلا الرؤساء وأشراف الناس كراهية أن تخرجهم عن عقولهم .
لا ترى إلى قول عدي بن زيد : الرمل وقد عابت على جذيمة الأبرش أخته شرب الخمر
صرفاً لأمر لحقها من ذلك فقالت له : الخفيف ( ذاك من شربك المدامة صرفاً **
وتماديك في الصبا والمجون )
____________________
وقد مدح الله خمر الجنة
لما لم يكن الشارب يؤوي وجهه لها فقال عزمن قائل : وأنهار من خمر لذة للشاربين أي
: ن الشارب إذا شربها لم يقطب وجهه ولم تخرجه عن عقله .
وبيت حسان مع ما بعده مأخوذ من قول امرئ القيس وإن كان في قول امرئ القيس زيادة
أحسن فيها ما شاء وأتبع دلوه في الإجادة الرشاء فقال : المتقارب ( كأن المدام وصوب
الغمام ** وريح الخزامى ونشر القطر ) ( يعل به برد أنيابها ** إذا طرب الطائر
المستحر ) والزيادة التي زادها قوله : إذا طرب الطائر المستحر يعني عند تغير
الأفواه . فشبه حسان ريق هذه المرأة بخمر ممزوجة بعسل وماء أو بطعم غض من التفاح .
والبيت من قصيدة لحسان بن ثابت قالها قبل فتح مكة مدح بها النبي صلى الله عليه
وسلم وهجا أبا سفيان وكان هجا النبي صلى الله عليه وسلم قبل إسلامه وهي هذه : (
عفت ذات الأصابع فالجواء ** إلى عذراء منزلها خلاء ) ) ( وكانت لا يزال بها أنيس
** خلال مروجها نعم وشاء )
____________________
( فدع هذا ولكن من لطيف **
يؤرقني إذا ذهب العشاء ) ( لشعثاء التي قد تيمته ** فليس لقلبه منها شفاء ) ( كأن
خبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء ) ( إذا ما الأشربات ذكرن يوماً ** فهن
لطيب الراح الفداء ) ( نوليها الملامة إن ألمنا ** إذا ما كان مغث أو لحاء ) (
ونشربها فتتركنا ملوكاً ** وأسداً ما ينهنهنا اللقاء ) ( عدمنا خيلنا إن لم تروها
** تثير النقع موعدها كداء ) ( يبارين الأسنة مصغيات ** على أكتافها الأسل الظلماء
) ( تظل جيادنا متمطرات ** تلطمهن بالخمر النساء ) ( فإما تعرضوا عنا اعتمرنا **
وكان الفتح وانكشف الغطاء ) ( وإلا فاصبروا لجلاد يوم ** يعين الله فيه من يشاء )
( وقال الله : قد يسرت جنداً ** هم الأنصار عرضتها اللقاء ) ( لنا في كل يوم من
معد ** قتال أو سباب أو هجاء )
____________________
( وقال الله : قد أرسلت عبداً
** يقول الحق إن نفع البلاء ) ( شهدت به وقومي صدقوه ** فقلتم ما نجيب وما نشاء )
( وجبريل أمين الله فينا ** وروح القدس ليس له كفاء ) ( ألا أبلغ أبا سفيان عني **
مغلغلة فقد برح الخفاء ) ( بأن سيوفنا تركتك عبداً ** وعبد الدار سادتها الإماء )
( هجوت محمداً فأجبت عنه ** وعند الله في ذاك الجزاء ) ( أتهجوه ولست له بكفء **
فشركما لخيركما الفداء ) ( هجوت مباركاً براً حنيفاً ** أمين الله شيمته الوفاء )
( أمن يهجو رسول الله منكم ** ويمدحه وينصره سواء ) ( فإن أبي ووالده وعرضي **
لعرض محمد منكم وقاء ) ( لساني صارم لا عيب فيه ** وبحري لا تكدره الدلاء )
____________________
)
وهذه رواية ابن هشام في السيرة . وفي الديوان ثلاثة أبيات أخر من آخر زيادة على
هذا .
قال ابن هشام : قالها حسان قبل يوم الفتح . ويروى : لساني صارم لا عتب فيه بالتاء
. وبلغني عن الزهري أنه قال : لما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء يلطمن
الخيل بالخمر تبسم وقوله : عفت ذات الأصابع . . . إلخ عفت : بمعنى : درست . وذات
الأصابع : موضع بالشام .
والجواء بكسر الجيم كذلك . قال السهيلي : وبالجواء كان منزل الحارث ابن أبي شمر .
وكان حسان كثيراً ما يرد على ملوك غسان بالشام يمدحهم فلذلك يذكر هذه المنازل .
وعذراء قال السكري في شرح ديوانه : قرية على بريد من دمشق وبها قتل معاوية حجر بن
عدي وأصحابه .
وقوله : ديار من بني الحسحاس بمهملات قال السكري : الحسحاس بن مالك بن عدي بن
النجار .
وقال السهيلي : بنو الحسحاس حب من بني أسد . قال السكري : والروامس : الرياح التي
ترمس الآثار وتغطيها .
وقال السهيلي : يعني بالسماء المطر . والسماء لفظ مشترك يقع على المطر وعلى السماء
التي هي السقف . ولم تعلم ذلك من هذا البيت ونحوه ولا من قوله : الوافر ( إذا سقط
السماء بأرض قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا ) لأنه يحتمل أن يريد مطر السماء فحذف
المضاف ولكن إنما عرفناه من قولهم في جمعه : سمي وأسمية وهم يقولون في جمع السماء
سماوات فعلمنا أنه اسم مشترك بين شيئين .
وقوله : وكانت لا يزال بها . . إلخ خلال ظرف بمعنى بين خبر مقدم . ونعم : مبتدأ مؤخر
. قال السهيلي : النعم : الإبل فإذا قيل : الأنعام دخل فيها البقر والغنم .
____________________
والشاء والشوي : اسم
للجميع كالضأن والضئين والإبل والأبيل والمعز والمعيز . فأما الشاة فليست من لفظ
الشاء لام الفعل منها تاء .
وقوله : فدع هذا . . . إلخ الطيف : الخيار . ويؤرقني : يسهرني .
فإن قيل : كيف يسهره الطيف والطيف حلم في المنام فالجواب أن الذي يؤرقه لوعة يجدها
عند زواله كما قال الطائي : البسيط ( ظبي تقنصته لما نصبت له ** من آخر الليل
أشراكاً من الحلم ) ) ( ثم انثنى وبنا من ذكره سقم ** باق وإن كان معسولاً من
السقم ) وقوله : لشعثاء التي . . . إلخ شعثاء : بنت سلام بن مشكم اليهودي . وبيت :
على أنيابها أو طعم غض إلخ لم يورده ابن هشام في السيرة ولهذا أنكره السهيلي .
وقوله : نوليها الملامة . . . إلخ يقال : ألام إذا أتى بما يلام عليه . يعني إن
أتينا بما نلام عليه صرفنا اللوم إلى الخمر واعتذرنا بالسكر . والمغث بفتح الميم
وسكون الغين المعجمة بعدها واللحاء : الملاحاة باللسان يروى أن حسان مر بفتية
يشربون الخمر في الإسلام فنهاهم فقالوا : والله لقد هممنا بتركها فزينها لنا قولك
: ونشربها فتتركنا ملوكاً . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : والله لقد
قلتها في الجاهلية وما شربتها منذ أسلمت .
ولذلك قيل : إن بعض هذه القصيدة قالها في الجاهلية وقال آخرها في الإسلام .
____________________
وقوله : عدمنا خيلنا . . . إلخ النقع : الغبار . وكداء بالفتح والمد : الثنية التي
في أصلها مقبرة مكة ومنها دخل الزبير يومئذ ودخل النبي صلى الله عليه وسلم من شعب
أذاخر .
وقوله : يبارين الأسنة . . . إلخ مباراتها الأسنة : أن يضجع الرجل رمحه فكان الفرس
يركض ليسبق السنان .
والمصغيات : الموائل المنحرفات المطعن . والأسل : الرماح . ورواية ابن هشام :
ينازعن الأعنة مصغيات .
وقوله : تظل جيادنا . . . إلخ المتمطرات : الخوارج من جمهور الخيل . قال ابن دريد
في الجمهرة : كان الخليل يروي : يطلمهن بالخمر النساء وينكر يلطمهن ويجعله بمعنى
ينفضن النساء بخمرهن ما عليهن من غبار أو نحو ذلك . قال : والظلم : ضربك خبزة
الملة بيدك لتنفض ما عليها من وقوله : فنحكم بالقوافي أحكمه : كفه ومنعه . ومنه
سمي القاضي حاكماً لأنه يمنع الناس من الظلم .
قال جرير : الكامل ( أبني حنيفة أحكموا سفهاءكم ** إني أخاف عليكم أن أغضبا )
وقوله : ألا أبلغ أبا سفيان عني . . . إلخ المغلغلة : الرسالة الذاهبة إلى كل بلد
من تغلغل إذا )
ذهب .
وروى غير ابن هشام مصراعه الثاني كذا : فأنت مجوف نخب هواء
____________________
والنخب بفتح النون وكسر
المعجمة : الجبان . . .
وقوله : هجوت محمداً قال اللخمي : قال ابن دريد : أخبرنا السكن بن سعيد عن عباد بن
عباد عن أبيه قال : لما انتهى حسان إلى هذا البيت قال له النبي صلى الله عليه وسلم
: جزاؤك على الله الجنة يا حسان .
ولما انتهى إلى قوله : أتهجوه ولست له بكفء ولما انتهى إلى قوله : فإن أبي ووالده
وعرضي قال صلى الله عليه وسلم : وقاك الله يا حسان حر النار .
وقوله : فشركما لخيركما الفداء قال السهيلي : في ظاهر هذا اللفظ شناعة لأن المعروف
أن لا يقال : هو شرهما إلا وفي كليهما شر . وكذلك شر منك ولكن سيبويه قال : تقول :
مررت برجل شر منك إذا نقص عن أن يكون مثله . وهذا يدفع الشناعة عن الكلام الأول .
ونحو منه قوله عليه السلام : شر صفوف الرجال آخرها يريد : نقصان حظهم عن حظ الصف
الأول كما قال سيبويه . ولا يجوز أن يريد التفضيل في الشر . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل على أن قد فصل
بالجار والمجرور أعني الجملة القسمية وهو وأبي دهماء بين لا النافية وبين زالت .
وهذا الفصل شاذ . وإليه ذهب ابن هشام في المغني إلا أنه لم يقيده بالشذوذ ولا
بالقلة . وكأنه مطرد عنده . قال في بحث الجملة المعترضة : ويفصل بني حرف النفي
ومنفيه كقوله : المنسرح ولا أراها تزال ظالمة وقوله : فلا وأبي دهماء زالت عزيزة
قال شارحه ابن الملا الحلبي : ويجوز أن تكون لا رداً وحرف النفي محذوفاً ولا
اعتراض .
انتهى .
____________________
وقد رد الشارح المحقق هذا الجواز فقال : وليس مما حذف منه حرف النفي إلخ .
ومراده الرد على الفراء فإنه ذهب في موضعين من تفسيره إلى أن حرف النفي منه محذوف
: الأول في سورة يوسف عند قوله تعالى : تالله تفتؤ تذكر يوسف قال : أي لا تزال
تذكر يوسف . ولا قد تضمر مع الأيمان لأنها إذا كانت خبراً لا يضمر فيها لا لم تكن
إلا بلام .
ألا ترى أنك تقول : والله لآتينك . ولا يجوز : والله آتيك إلا أن تكون تريد لا .
فلما تبين قال امرؤ القيس : الطويل فقلت يمين الله أبرح قاعداً . . . . . . . . .
. . . البيت وأنشدني بعضهم : ( فلا وأبي دهماء زالت عزيزة ** على قومها ما فتل
الزند قادح ) يريد : لا زالت .
والموضع الثاني في سورة الكهف عند قوله تعالى : وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح .
____________________
قال : لا يكون تزال وأبرح وأفتأ إلا بجحد ظاهر أو مضمر . فأما الظاهر فقد تراه في
القرآن : ولا يزالون مختلفين . والمضمر فيه الجحد قول الله تعالى : تفتؤ معناه لا
تفتؤ .
ومثله قول الشاعر : )
فلا وأبي دهماء زالت عزيزة . . . . . . . . . . . . . البيت وكذلك قول امرئ القيس
: فقلت يمين الله أبرح قاعداً . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وقد جعله ابن عصفور من باب حذف النافي وهو ما لكن روى صدره على خلاف هذا ( لعمر
أبي دهماء زالت عزيزة ** على قومها ما فتل الزند قادح ) يريد : ما زالت عزيزة .
انتهى .
وكذا رواه المرادي في شرح التسهيل وخرجه . إلا أنه قال : أي لا زالت عزيزة . انتهى
.
وقوله : فلا وأبي دهماء . . . إلخ الفاء في التقدير داخلة على واو القسم أي : فو
أبي دهماء لا زالت عزيزة .
أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة . فأبى مضاف إلى دهماء وهي اسم امرأة واسم زالت
الضمير الراجع إلى دهماء وعزيزة خبرها وهي من العزة بالعين المهملة وبالزاء
المعجمة وجملة : لا زالت جواب القسم وعلى قومها متعلق بعزيزة وما مصدرية ظرفية .
وفتل بالفاء بعدها مثناة فوقية روى بشدها وتخفيفها وهو فعل ماض والزند مفعوله
وقادح فاعله .
____________________
وقد ذكر أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات صفة الزند والزندة وكيفية الفتل فلا
بأس بإيراده هنا قال : أفضل ما اتخذت منه الزناد شجرتا المرخ والعفاء بفتح العين
المهلمة بعدها فاء فتكون الأنثى وهي الزندة السفلى مرخاً ويكون الذكر وهو الزند
الأعلى عفاراً . أخبرني بعض علماء الأعراب وأما المرخ فقد رأيته ينبت قضباناً سمحة
طوالاً لا ورق لها . ولفضل هاتين الشجرتين في سرعة الوري وكثرة النار سار قول
العرب فيهما مثلاً فقالوا : في كل الشجر نار واستمجد المرخ والعفار أي : ذهبا
بالمجد فكان الفضل لهما .
ولذلك قال الأعشى : المتقارب ( زنادك خير زناد الملو ** ك خالط فيهن مرخ عفارا )
ويختار أن تكون الزندة من المرخ والزند من العفار . )
ومن فضيلة المرخ في كثرة النار وسرعة الوري ما ذكر أبو زياد الكلابي فإنه قال :
ليس في الشجر كله أورى زناداً من المرخ قال : وربما كان المرخ مجتمعاً ملتفاً وهبت
الريح فحك بعضه بعضاً فأورى فاحترق الوادي كله . ولم نر ذلك في شيء من الشجر .
ثم بعد أن ذكر الأشجار التي تتخذ منها الزناد قال : وصفة الزندة : عود مربع في طول
الشبر أو أكثر وفي عرض إصبع أو أشف وفي صفحاتها فرض وهي
____________________
نقر الواحدة منها فرضة
وتجمع فراضاً أيضاً . والزند الأعلى نحوها غير أنه مستدير وطرفه أدق من سائره .
فأما وصف الاقتداح بها فإن المقتدح إذا أراد أن يقتدح بالزناد وضع الزندة ذات
القراض بالأرض ووضع رجليه على طرفيها ثم وضع طرف الزند الأعلى في فرضة من فراض
الزندة وقد تقدم فهيأ في الفرضة مجرى للنار إلى جهة الأرض يحز وقد حزه بالسكين في
جانب الفرضة ثم فتل الزند بكفه كما يفتل المثقب وقد ألقى في الفرضة شيئاً من
التراب يسيراً يبتغي بذلك الخشنة ليكون الزند أعمل في الزندة وقد جعل إلى جانب
الفرضة عند مفضى الحز رية تأخذ فيها النار فإذا فتل الزند لم يلبث الدخان أن يظهر
ثم تتبعه النار فتنحدر في الحز وتأخذ في الربة . وتلك النار هي السقط . انتهى
كلامه باختصار كثير .
وقد صحف بعضهم قوله : ما فتل الزند قادح وروى : ما قيل للزند قادح على أنه فعل ماض
مجهول من القول . وجر الزند باللام .
وهذا البيت لم أقف له على تتمة ولا قائل . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد السبعمائة ) مجزوء الكامل
____________________
( تنفك تسمع ما حيي ** ت
بها لك حتى تكونه ) على أن حرف النفي محذوف والتقدير : لا تنفك .
وظاهره أن حذف النافي أي حرف نفي كان يجوز حذفه من هذه الأفعال سواء وقعت جواب قسم
كالآية والبيت الذي بعده أم لا كهذا البيت فإنه لم يتقدمه شيء . وهو الظاهر أيضاً
من كلام الزمخشري في المفصل ومن كلام ابن هشام في شرح الشواهد .
لكن ابن يعيش قيد حرف النفي بكونه لا وأنه لا يحذف من هذه الأفعال إلا إذا وقعت
جواب قسم . قال : إن حرف النفي قد يحذف في بعض المواضع وإنما يسوغ حذفه إذا وقع في
جواب القسم وذلك لأمن اللبس كقوله : تزال حبال مبرمات أعدها . . . . . . . . . . .
. . . . البيت ولا يجوز أن يحذف من هذه الحروف غير لا لأنه لا يجوز حذف لم وما لأن
لم عاملة فيما بعدها ولا يجوز أن تحذف وتعمل وكذلك ما قد تكون عاملة في لغة أهل
الحجاز . انتهى .
ويؤخذ منه أنه لا يجوز حذف إن أيضاً لأنها قد تعمل عمل ليس .
وفي كلامه نظر : أما أولاً : فلأنه قد مثل بهذا البيت تبعاً لصاحب المفصل وتنفك
فيه ليس جواب قسم .
وأما ثانياً : فلأن الكلام في حروف النفي الداخلة على الأفعال وما الحجازية داخلة
على المبتدأ والخبر فأين هذا من ذاك وهل هو إلا اشتباه .
وقد تبعه المرادي في شرح التسهيل في الثاني قال : وينقاس الحذف في المضارع جواب قسم
وشذ في الماضي جواب قسم كقوله : لعمر أبي دهماء زالت عزيزة
____________________
أي : لا زالت . وشد في
المضارع غير جواب كقوله : الوافر ( وأبرح ما أدام الله قومي ** بحمد الله منتطقاً
مجيداً ) أي : لا أبرح وقيل : لا حذف .
والمعنى : أزول عن أن أكون منتطقاً مجيداً أي : صاحب نطاق وجواد ما أدام الله قومي
)
فإنهم يكفونني ذلك . انتهى .
ودعوى عدم الحذف تعسف وقع في أشد مما فر منه .
وأغرب من قول المرادي ما ذهب إليه ابن عصفور من أنه ضرورة قال : ومنه إضمار لا
النافية في غير جواب القسم كقوله : تنفك تسمع ما حييت . . . . . . . . . . . .
البيت انتهى .
فلله در الشارح المحقق ما أجود اختياره وما أرصن سبكه .
وقوله : تنفك تسمع . . . إلخ جملة : تسمع مع فاعله الضمير خبر لا تنفك وما :
مصدرية ظرفية .
وحييت بالخطاب أي : مدة حياتك . ولا وجه لقول بعض أفاضيل العجم في شرح أبيات المفصل
: وقوله : ما حييت بيان لقوله : تنفك تسمع وتأكيد له . انتهى .
وبهالك متعلق بتسمع على تقدير مضاف أي : بخبر هالك . وسمع هنا ليست مما يتعدى
لمفعولين وتعديها بالباء أحد استعمالاتها كما تقدم كقولهم : تسمع بالمعيدي .
ويجوز أن تكون الباء زائدة فتكون متعدية إلى مفعول واحد كقولك : سمعت
____________________
الخبر . وهذا أيضاً أحد
استعمالاتها .
وحتى حرف جر بمعنى إلى والهاء في تكونه ضمير الهالك . والأكثر في خبر كان إذا كان
ضميراً أن يكون منفصلاً . وهذا من القليل .
وقد استشهد صاحب اللباب لقلته بهذا البيت .
قال ابن هشام : أي لا تزال تسمع : مات فلان حتى تكون الهالك . والخطاب لغير معين
مثله في : بشر مال البخيل بحادث أو وارث . وتسمع خبر والباء وحتى متعلقان به وما
ظرف له والهاء من تكونه راجعة للهالك باعتبار لفظه دون معناه لأن السامع غير
المسموع .
ومثله مسألة التنازع : ظنني وظننت زيداً قائماً إياه . وقد غمض هذا المعنى على ابن
الطراوة فمنع المسألة وخالف الأئمة .
وبعده : ( والمرء قد يرجو الرجا ** ء مؤملاً والموت دونه ) )
وكان أبو بكر الصديق رضي الله عنه كثيراً ما يتمثل بهما . انتهى .
وكذا رواه العيني .
والذي رواه ابن المستوفي وغيره : والمرء قد يرجو الحياة ومؤملاً : حال من ضمير
يرجو . وقال العيني : مؤمل إن كان اسم فاعل فهو حال من المرء وإن كان اسم مفعول
فهو مفعول ليرجو . هذا كلامه . فتأمله .
ودون هنا بمعنى أمام أو خلف لأنه من الأضداد . وجملة : والموت دونه حال إما من ضمير
مؤمل أو من ضمير يرجو .
والبيتان نسبهما أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأمثال لخليفة
____________________
بن براز وهو جاهلي . وقد
أخذ البيت بعضهم فقال : الطويل وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد
السبعمائة ) الطويل ( تزال حبال مبرمات أعدها ** لها ما مشى يوماً على خفه جمل )
على أن تزال جواب قسم وحذف منه حرف النفي أي : لا تزال . والقسم في بيت قبله وهو :
( حلفت يميناً يا ابن قحفان بالذي ** تكفل بالأرزاق في السهل والجبل ) تزال حبال
مبرمات . . . . . . . . . . . . البيت ( فأعط ولا تبخل إذا جاء سائل ** فعندي لها
عقل وقد زاحت العلل ) وروى أيضاً : وتقسم ليلى يا ابن حفان بالذي إلخ . فجلمة : لا
تزال بتقدير لا جواب القسم الذي هو تقسم ليلى . ومبرمات : محكمات .
وأعدها : أهيئها . وضمير لها للإبل في شعر قبل هذا يأتي آنفاً .
____________________
وما مصدرية ظرفية . وجمل فاعل مشى وسكن للقافية . وعقل : جمع عقال وهو ما يربط به
وكان من حديث هذه الأبيات ما رواه أبو تمام في الحماسة : أن سالم بن قحفان جاء
إليه أخو امرأته زائراً فأعطاه بعيراً من إبله وقال لامرأته : هاتي حبلاً يقرن به
ما أعطيناه إلى بعير . ثم )
أعطاه بعيراً آخر وقال : مثل ذلك ثم أعطاه مثل ذلك فقالت : ما بقي عندي حبل فقال :
علي الجمال وعليك الحبال .
وأنشأ يقول : ( لقد بكرت أم الوليد تلومني ** ولم أجترم جرماً فقلت لها مهلا ) (
فلا تعذليني بالعطاء ويسري ** لكل بعير جاء طالبه حبلا ) ( فإني لا تبكي علي
إفالها ** إذا شبعت من روض أوطانها بقلا ) ( فلم أر مثل الإبل مالاً لمقتن ** ولا
مثل أيام الحقوق لها سبلا ) فرمت إليه خمارها وقالت : صيره حبلاً لبعضها . وأنشأت
تقول : حلفت يميناً يا ابن قحفان . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات الثلاثة
انتهى .
ولم يتكلم الخطيب التبيريزي بشيء في شرحه على هذه الأبيات .
والإفال : أولاد الإبل . قال ابن المستوفي في قوله : قولين : أحدهما : أن الإبل
بهائم لا تهتم بي إذا مت بل تربع وتشبع والثاني : موتي عندها وأنا أنحرها أحب
إليها فلعله يأخذها من لا ينحرها
____________________
ولا يغمهما موتى لأني جواد
. انتهى وقال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : إن هذا مأخوذ من قول
ضمرة بن ضمرة : الكامل ( أرأيت إن صرخت بليل هامتي ** وخرجت منها بالياً أثوابي )
( هل تخمشن إبلي علي وجوهها ** وتعصبن رؤوسها بسلاب ) والسلاب : عصائب سود . يقال
: امرأة مسلبة إذا لبست السواد حداداً .
وسالم بن قحفان بضم القاف وسكون المهملة بعدها فاء لم أقف له على خبر ولا على
زوجته ليلى . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل ( خراجيج ما تنفك إلا مناخة ** على الخسف أو نرمي بها بلداً قفرا ) على أنه
خطئ ذو الرمة فيه لأن ما تنفك وأخواته بمعنى الإيجاب من حيث المعنى لا يتصل
الاستثناء بخبرها كما بينه الشارح المحقق .
وذكر عنه جوابين :
____________________
أحدهما : أن تنفك تامة
ومناخة حال وعلى الخسف متعلق بمناخة ونرمي معطوف على مناخة .
وثانيهما : أنها ناقصة وعلى الخسف : خبرها ومناخة حال . وذكر ما ورد على هذا
الجواب .
والمخطئ هو أبو عمرو بن العلاء .
قال المرزباني في كتاب الموشح : أخبرني محمد بن يحيى حدثنا الفضل ابن الحباب حدثنا
بكر بن محمد المازني حدثنا الأصمعي سمعت أبا عمرو بن العلاء يقول : أخطأ ذو الرمة
في قوله : حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . البيت في إدخاله إلا
بعد قوله : ما تنفك . . . قال الصولي : وحدثنا محمد بن سعيد الأصم وأحمد بن يزيد
قالا : حدثنا يزيد المهلبي عن إسحاق الموصلي أنه كان ينشد هذا البيت لذي الرمة :
حراجيج ما تنفك آلا مناخة ( فلم تهبط على سفوان حتى ** طرحن سخالهن وصرن آلا )
وعلى هذا يكون آل : خبر تنفك ومناخة : صفته وأنت الصفة لأن الشخص مما يؤنث ويذكر .
فرواية : إلا بالتشديد غلط من الراوي لا من القائل .
____________________
ويرد عليه أن ذا الرمة لما قرأ البيت عند ابن العلاء غلطه فيه بما ذكره النحويون .
وقال ابن عصفور في كتاب الضرائر : إن ذا الرمة لما عيب عليه قوله ما تنفك إلا
مناخة فطن له فقال : إنما قلت : آلا مناخة أي : شخصاً . وكذا قال ابن هشام في شرح
الشواهد قال ابن الأنباري في الإنصاف : ألال : الشخص . يقال : هذا آل قد بدا أي :
شخص . وبه سمي الآل لأنه يرفع الشخوص أول النهار وآخره . )
وبه يضمحل توقف ابن الملا الحلبي في شرح المغني في قوله بقي شيء وهو أن صاحب
القاموس على تبحره لم يذكر مجيء الآل بمعنى الشخص . انتهى .
وخرجه المازني كما قال ابن يعيش على زيادة إلا وتبعه أبو علي في القصريات وقال :
إلا هاهنا زائدة لولا ذلك لم يجز هذا البيت لأن تنفك في معنى تزال ولا يزال لا
يتكلم به إلا منفياً عنها . انتهى .
ونسب ابن هشام في المغني هذا التخريج إلى الأصمعي وابن جني قال : وحمل عليه ابن
مالك أرى الدهر إلا منجنوناً بأهله
____________________
وإنما المحفوظ : وما الدهر
إلا . ثم إن ثبتت رايته فتتخرج على أن أرى جواب لقسم مقدر وحذفت لا كحذفها في :
تالله تفتؤ ودل على ذلك الاستثناء المفرغ . انتهى .
ولم يذكر ابن عصفور غيره وغير احتمال التمام لكنه جعله من الضرائر . قال : ومنها
زيادة إلا في قوله : أرى الدهر إلا منجنوناً . . . . . . . . . . . . البيت هكذا
رواه المازني يريد : يرى الدهر منجوناً . وكذلك جعلها في قول الآخر : البسيط ( ما
زال مذ وجفت في كل هاجرة ** بالأشعث الورد إلا وهو مهموم ) يريد : هو مهموم فزاد
إلا والواو في خبر زال .
وفي قول الآخر : الطويل ( وكلهم حاشاك إلا وجدته ** كعين الكذوب جحدها واحتفالها )
يريد : وكلهم حاشاك وجدته .
وفي قول ذي الرمة : حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
ويحتمل أن يجعل زال وتنفك
تامتين وتكون إلا داخلة على الحال . وكذلك تجعل إلا في قوله : وكلهم حاشاك إلا
وجدته إيجاباً للنفي الذي يعطيه معنى الكلام أي : ما منهم أحد حاشاك إلا وجدته .
وعليه حمله الفراء . وأما أرى الدهر إلا منجنوناً فلا تكون إلا فيه إلا زائدة .
انتهى .
وقد رأيت تخريج ابن هشام بيت المنجون . )
وأول من ذهب إلى أن تنفك في بيت ذي الرمة تامة هو الفراء في تفسيره عند قوله : لم
يكن الذين كفروا من أهل الكتاب والمشركين منفكين حتى تأتيهم البينة : قد يكون
الانفكاك على جهة يزال ويكون على الانفكاك الذي تعرفه .
فإذا كانت على جهة يزال فلا بد لها من فعل وأن يكون معها جحد فتقول : ما انفككت
أذكرك تريد : ما زلت أذكرك . فإذا كانت على غير معنى يزال قلت : قد انفككت منك
وانفك الشيء من الشيء فيكون بلا جحد وبلا فعل .
وقد قال ذو الرمة : قلائص لا تنفك إلا مناخة . . . . . . . . . . . . البيت فلم
يدخل فيها إلا إلا وهو ينوي بها التمام وخلاف يزال لأنك لا تقول : ما زلت إلا
قائماً .
ونسبه ابن الأنباري في الإنصاف إلى الكسائي قال : وهذا الوجه رواه هشام عن الكسائي
.
وبما ذكرنا يعلم أن قول المرادي في شرح التسهيل : وخرجه قوم منهم على أنها ناقصة
خلاف الواقع . وتنفك على هذا مطاوع فكه إذا خلصه أو فصله .
____________________
قال الزمخشري في حواشي المفصل : وفي تصحيح البيت وجيه وهو أن يريد لا تنفك عن
أوطائها أي : لا تنفصل عنها إلا ولها بعد الانفصال هاتان الحالتان : إما الإناخة
على الخسف في المراحل أو السير في البلد القفر . انتهى .
وبهذا يظهر قول الشارح المحقق : مناخة حال ونرمي معطوف عليه .
وقال ابن عقيل والمرادي في شرحيهما للتسهيل : كأنه قال : ما تتخلص أو ما تنفصل علن
السير إلا في حال إناختها على الخسف وهو حبسها على غير علف .
يريد أنها تناخ معدة للسير عليها فلا ترسل من أجل ذلك في المرعى . و أو بمعنى إلى
وسكن الياء للضرورة . انتهى .
والوجه الأول أوجه . والخسف بفتح المعجمة : النقيصة يقال : رضي بالخسف أي :
بالنقيصة .
وبات على الخسف أي : جائعاً . ورطبت الدابة على الخسف أي : على غير علف . وعلى
بمعنى مع .
تحية بينهم ضرب وجيع يريد أن الإناخة إنما تكون على العلف فجعل الخسف بدلاً منه
كما جعل الضرب الوجيع بدلاً )
من التحية . ونرمي بالنون مع البناء للمعلوم ويروى : يرمى بالمثناة التحتية مع
البناء للمفعول .
وبها : نائب الفاعل وبلداً ظرف للرمي وهو بمعنى المكان والأرض لا بمعنى المدينة .
والحرجوج كعصفور : الناقة الضامر قاله أبو زيد . وقد روى مُناخة بالرفع أيضاً .
قال ابن المستوفي : قال أبو البقاء : روي مناخة بالرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف
وموضع الجملة حال وبالنصب على الحال وتكون تنفك تامة .
____________________
وكذا رواه ابن الأنباري في الإنصاف .
وأم التخريج الثاني من التخريجين اللذين ذكرهما الشارح المحقق فهو للأخفش أبي
الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي قال في كتاب المعاياة : أراد : لا تنفك على الخسف أو
نرمي بها بلداً قفراً إلا وهي مناخة لأنه لا يجوز لا تنفك إلا مناخة كما لا تقولك
لا تزال إلا مناخة . انتهى .
وقد تبعه على هذا جماعة منهم الزجاج . قال ابن جني في بعض أجزائه : وقد قال فيه
بعض أصحابنا قولاً أراه أبا إسحاق ورأيت أبا علي قد أخذ به وهو ن يجعل خبر ما تنفك
الظرف كأنه قال : ما تنفك على الخسف ونصب مناخة على الحال وقدم إلا عن موضعها .
وقد جاء في القرآن والشعر نقل إلا عن موضعها . انتهى .
ومنهم أبو البقاء قال : يجوز أن تكون تنفك الناقصة ويكون على الخسف الخبر أي : ما
تنفك على الخسف إلا إذا أنيخت . وعليه المعنى . انتهى .
وقد رده جماعة منهم صاحب اللباب وهو محمد بن محمد بن أحمد الأسفرايني المعروف
بالفضل قال فيه : وخطئ ذو الرمة في قوله : حراجيج لا تنفك إلا مناخة والاعتذار
بجعله حالاً وعلى الخسف خبراً ضعيف لما أن الاستثناء المفرغ قلما يجيء في الإثبات
ويقدر المستثني منه بعده . وتقدير التمام في تنفك أحسن منه . والله أعلم . انتهى .
قال شارحه الفالي : معناه أن الاستثناء المفرغ في الإثبات قليل . وبعد تسليمه إنما
يأتي إذا قدر المستثنى منه قبله لفظاً وهاهنا يقدر بعده لأن قوله إلا مناخة مستثنى
من أحوال الضمير المستتر في على الخسف أي : ما تنفك مهانة مظلومة في جميع الأحوال
إلا في حال الإناخة .
____________________
وذلك غير معهود في الاستثناء المفرغ فإن أعم العام في الاستثناء المفرغ يقدر قبله
لا بعده )
فإنك إذا قلت : ما ضربت إلا راكباً فالتقدير : ما ضربت في حال من الأحوال إلا في
حال ولذا جاز في الإثبات نحو : قرأت إلا يوم كذا التقدير : قرأت في جميع الأيام
إلا يوم كذا .
فالمستثنى منه يقدر قبل الاستثناء لا بعده . انتهى .
ومنهم الشارح المحقق كما حرره .
ومنهم ابن هشام في المغني قال فيه : قال جماعة كثيرة : هي ناقصة والخبر على الخسف
ومناخة : حال . وهذا فاسد لبقاء الإشكال إذ لا يقال : جاء زيد إلا راكباً . انتهى
.
وقول أبي البقاء : وعليه المعنى مردود فإن الحالية سواء نصبت مناخة أو رفعتها كما
روي بتقدير مبتدأ محذوف والجملة حال يكون التقدير فيها : هي مستمرة على الخسف في
كل حال إلا حال الإناخة فإنها تكون حينئذ ذات راحة . وهذا غير مراد الشاعر إذ مراده
وصف هذه الإبل بأنها لا تتخلص من تعب إلا إلى مثله فليس لها حال راحة أصلاً .
وسيبويه قد أورد هذا البيت في باب أو التي ينتصب بعدها المضارع بإضمار أن قال :
ولو رفعت لكان عربياً جائزاً على وجهين : على أن تشرك بين الأول والآخر وعلى أن
يكون مقطوعاً من الأول . قال تعالى : ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو
يسلمون إن شئت كان على الإشراك وإن شئت كان على : أو وهم يسلمون .
وقال ذو الرمة : فإن شئت كان على لا تنفك ترمي أو على الابتداء . انتهى .
يريد بالأول العطف على خبر تنفك وبالثاني القطع .
قال النحاس : سألت عنه علياً يعني الأخفش الصغير فقال : لك أن تجعل
____________________
نرمي معطوفاً ولك أن تقطعه
ولك أن تقدر أو بمعنى إلى أن وتسكن الياء في موضع نصب .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة يقال لها : أحجية العرب . وأولها : ( لقد جشأت
نفسي عشية مشرف ** ويوم لوى حزوى فقلت لها : صبرا ) ( نحن إلى مي كما حن نازع **
دعاه الهوى فارتاد من قيده قصرا ) جشأت : نهضت . ومشرف وحزوى : موضعان . واللوى :
منقطع الرمل . وصبرا : اصبري .
والنازع : البعير يحن إلى وطنه . فارتاد من قيده قصراً أي : طلب السعة فوجده
مقصوراً .
ويقال : ارتاد جدباً وارتاد خبراً أي : طلب الخصب فوقع على جدب . إلى أن قال : ) (
فيا مي ما أدراك أين مناخنا ** معرقة الألحي يمانية سجرا ) ( قد اكتفلت بالحزن
واعوج دونها ** ضوارب من خفان مجتابة سدرا ) حراجيج ما تنفك إلا مناخة . . . . . .
. . . . . . . . . البيت ( أنخن لتعريس قليل فصارف ** يغني بنابيه مطلحة صعرا )
معرقة الألحي : قليلة لحم الألحي جمع لحي . وإذا كثر لحم لحيها فهو عيب . يقال :
ناقة سجراء : تضرب إلى الحمرة .
وقوله : قد اكتفلت بالحزن أي : صيرت الناقة الحزن خلفها كالرجل الذي يركب الكفل
فإنما يركب على أقصى الكفل كما تقول : اكتفلت الناقة أي : ركبت موضع الكفل من
الناقة .
والحزن : ما غلظ من الأرض . والضارب : منخفض كالوادي . وخفان :
____________________
موضع . ومجتابة سدراً أي :
لابسة سدراً . واعوج يعني : الضوارب ليست على جهة الناقة .
والحراجيج : الضمر . والخسف : الجوع وهو ن تبيت على غير علف والتعريس : النزول في
آخر الليل . وصارف أي : فبعضها صارف يصرف بنابيه من الضجر والجهد . ومطلحة : معيية
.
وصعر : فيها ميل من الجهد والهزال .
وهذا نقلته من شرح ديوانه .
وترجمته تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثلاثون بعد السبعمائة ) تحية بينهم ضرب وجيع على أن
جعل الضرب الوجيع كالتحية كما جعل الخسف كالأرض التي يناخ عليها .
يريد أن الخسف جعل بدلاً من الأرض كما أن الضرب جعل بدلاً من التحية
____________________
ولا يريد أنهما من باب
التشبيه فإنه غير صحيح فيهما فإن الأول ليس فيه من أركان التشبيه غير الخسف ولا
يقال لمثله إلا استعارة وإن كان أصله التشبيه . فإن كان المشبه به مذكوراً والمشبه
غير مذكور فهو استعارة تصريحية وإن كان بالعكس فهو استعالة بالكناية .
والخسف وإن أمكن أن يجعل من الاستعارة بالكناية لكنه لما شبه بما بعده علم أن
مراده أنه من باب التنويع كما يأتي بيانه .
وأم الثاني فهو ليس من التشبيه قطعاً إذ المعهود في مثله أن يشبه الأول بالثاني لا
العكس إذ لا يقال في زيد أسد : إن أسداً مشبه بزيد . ولم يجيزوا أيضاً أن تشبه
التحية بالضرب لأنه من باب التنويع وهو من خلاف مقتضى الظاهر وهو ادعاء أن مسمى
اللفظ نوعان : متعارف وغير متعارف . على طريق التخييل بأن ينزل ما يقع في موقع شيء
بدلاً عنه . منزلته بدون تشبيه ولا استعارة سواء كان بطريق الحمل كقوله : تحية
بينهم ضرب وجيع ( وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس ) على معنى
أنيسها اليعافير . أي : إن كان يعد أنيساً فلا أنيس إلا هو . أو بدونهما كقوله :
الكامل
____________________
( غضبت حنيفة أن تقتل عامر
** يوم النسار فأعقبوا بالصيلم ) أي : إنهم لما طلبوا إلينا العتبى وضعنا لهم
السلاح مكانها . وهذا تهكم . والصيلم : الداهية .
وحيث أطلق التنويع فالمراد به هذا كما تراهم يقولون : من باب : تحية بينهم ضرب
وجيع فيجعلون المثال أساساً وقاعدة وليس من المجاز في شيء لأن طرفيه مستعملان في
حقيقتهما ولا تشبيهاً كما صرحوا به بل التشبيه يعكس معناه ويفسده .
قال الشيخ في دلائل الإعجاز : اعلم أنه لا يجوز أن يكون سبيل قوله : الطويل )
لعاب الأفاعي القاتلات لعابه سبيل قولهم : عتابه السيف . وذلك لأن المعنى في بيت
أبي تمام على أنك تشبه شيئاً بشيء لجامع بينهما في وصف . وليس المعنى في عتابك
السيف على أنك تشبه عتابه بالسيف بدلاً من العتاب .
ألا ترى أنه يصح أن تقول : مداد قلمه قاتل كسم الأفاعي ولا يصح أن تقول : عتابك
كالسيف اللهم إلا أن تخرج إلى باب آخر وشيء ليس هو غرضهم بهذا الكلام فتريد أنه قد
عاتب عتاباً خشناً مؤلماً .
ثم إنك إذا قلت السيف عتابك خرجت به إلى معنى ثالث وهو أن تزعم
____________________
أن عتابه قد بلغ في إيلامه
وشدة تأثيره مبلغاً صار له السيف كأنه ليس بسيف . انتهى .
وليس هذا من قبيل التشبيه الذي ذكر معه ما يحل دخول أداة التشبيه كقوله : الكامل
أسد دم الأسد الهزبر خضابه فإنه لا سبيل إلى التصريح بأداة التشبيه لدلالة التشبيه
على أنه دون الأسد ودلالة الوصف على أنه فوقه . فالوصف مانع . وأما هنا فالتشبيه
يعكس المعنى المراد . وأيضاً فإن المقصود نفي ما صدر به يعني لا تحية بينهم .
والتشبيه لا يفيد هذا المعنى .
وليس الشيخ أبا عذرة هذا بل صرح به النحاة منهم سيبويه وقد فصله في باب الاستثناء
من كتابه ونقله ابن عصفور وابن الطراوة قالوا : إذا كان المبتدأ والخبر معرفتين
إما أن تكون إحداهما قائمة مقام الأخرى أو مشبهة بها أو هي نفسها .
فإن كانت قائمة مقامها كان الخبر ما تريد إثباته نحو قول عبد الملك بن مروان : كان
عقوبتك ولو قلت : كان عزلك عقوبتك كان معاقباً لا معزولاً ولو قلت : كان زهير
زيداً أثبت التشبيه لزهير بزيد .
قال ابن الطراوة : وقد غلط في هذا أجلة من الشعراء منهم المتنبي في قوله : الطويل
____________________
( ثياب كريم ما يصون
حسانها ** إذا نشرت كان الهبات صوانها ) فذمه وهو يرى أنه مدحه . ألا ترى أنه أثبت
الصون ونفى الهبات كأنه قال : الذي يقوم لها مقام الهبات أن تصان . وقد أجيب عن
المتنبي .
فإذا لم يكن في شيء من أطرافه تجوز ولم يقصد التشبيه فهو حقيقة يجعل بدل الشيء
القائم )
مقامه فرداً منه ادعاء . فالتصرف في النسبة .
ألا ترى لو قلت إن كان الضرب تحية فهو تحيتهم كان حقيقة قطعاً . فجعل الغرض المقدر
كالظاهر وهو نوع على حجة من خلاف مقتضى الظاهر .
وأما وجه بلاغته وعلى ماذا يدل فقد حققه صاحب الكشاف في مواضع : منها انه قال في
تفسير قوله تعالى : يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية . هو من باب : تحية بينهم ضرب
وجيع وما ثوابه إلا السيف . وبيانه أن يقال : هل لزيد مال وبنون فتقول : ماله
وبنوه سلامة قلبه . تريد وقال في موضع آخر : إنه يدل على إثبات النفي فمعنى : ليس
بها أنيس إلا اليعافير أي : إنه لا أنيس بها قطعاً . لأنه جعل أنيسها اليعافير دون
غيرها . وهي ليست بأنيس قطعاً . فدل على أنه لا أنيس بها .
وهو قريب مما لو قلت : إن كانت اليعافير أنيساً فإنها أنيس . ووجه دلالته على
إثبات النفي أنه استعملته العرب مراداً به الحصر فإن الكلام قد يدل عليه نحو :
الجواد زيد والكرم في العرب وشر أهر ذا ناب . ولذا ذكره النحاة في باب الاستثناء .
والحصر الملاحظ فيه جار على نهج الاستثناء المنقطع لأنه من التنويع عند
____________________
الخليل . فعلى هذا وضح
إفادته ثبات النفي وظهر عدم التجوز في مفرداته وأنه لا يتصور فيه التشبيه .
وأما قوله في المائدة في تفسير : بشر من ذلك مثوبة فإن قلت : المثوبة مختصة
بالإحسان فكيف جاءت في الإساءة قلت : وضعت المثوبة موضع العقوبة على طريقة قوله :
تحية بينهم ضرب وجيع ومنه : فبشرهم بعذاب أليم . انتهى .
فمراده أن الآية من باب الإيجاز وأن في الكلام تنويعاً مقدراً . وهذا تفريع مبني
عليه .
والتقدير : إن نقمتم منهم وادعيتم لهم العقوبة فعقوبتهم المثوبة . وقد صرح في سورة
مريم وقال في تفسير قوله تعالى : والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً فإن قل :
كيف قيل خير ثواباً كأن لمفاخراتهم ثواباً حتى يجعل ثواب الصالحات خيراً منه قلت :
كأنه قيل : ثوباهم النار على طريقة قوله : فأعتبوا بالصيلم )
وقوله : تحية بينهم ضرب وجيع ثم بني عليه خير ثواباً . وفيه ضرب من التهكم الذي هو
أغيظ للمتهدد من أن يقال له : عقابك النار . انتهى .
____________________
والمراد أن بعض التنويع قد يستعمل في مقام التهكم . وقد صرح به ابن فارس في فقه
اللغة للصاحبي في باب ما يجري مجرى التهكم والهزء فقال : ومن هذا الباب أتاني
فقريته جفاء وأعطيته حرماً .
وقول الفرزدق : قريناهم المأثورة البيض انتهى .
وقد يستعمل بدونه كما في قوله : يوم لا ينفع مال ولا بنون الآية . وفي الحديث : من
كان له إمام فقراءة الإمام قراءة له وقد فسر بهذا المعنى ولا يمكن فيه التهكم .
وهذا المصراع عجز وصدره : ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** تحية بينهم ضرب وجيع )
والخيل : اسم جمع الفرس لا واحد له من لفظه والمراد به الفرسان كما في قوله صلى
الله عليه وسلم : يا خيل الله اركبي . وأراد بالخيل الأول خيل الأعداء وبالثاني
خيله والضمير في بنهم للخيلين .
ودلفت : دنوت وزحفت من دلف الشيخ من باب ضرب إذا مشى مشياً ليناً . والباء للتعدية
أي : جعلتها دالفة إليها . فاللام بمعنى إلى . وتحية مضاف
____________________
وبينهم مضاف إليه مجرور
بكسر النون لأنه ظرف متصرف ولو فتح كان مبنياً لإضافته للمبني .
وزعم ميربادشاه في حاشية البيضاوي أن معناه إن ضربهم الوجيع كتحية بينهم على
التشبيه البليغ المقلوب . وقد بينا بطلانه .
ووصف الضرب بالوجيع مجازاً . ويجوز أن يكون وجيع بمعنى موجع والمعنى رب خيل
للأعداء أقبلت عليهم بخيل أخرى كان التحية بينهم ضرباً وجيعاً أي : كان مكان
التحية هذا وقد أورده سيبويه في باب الاستثناء وقال : جعلوا الضرب تحية كما جعلوا
اتباع الظن علمهم . )
وأورده ثانياً في باب أو وقال : العرب تقول : تحيتك الضرب وعتابك السيف وكلامك
القتل .
قال الأعلم : الشاهد فيه جعل الضرب تحية على الاتساع المقدم ذكره . وإنما ذكر هذا
تقوية لجواز البدل فيما لم يكن من جنس الأول . يقول : إذا تلاقوا في الحرب جعلوا
بدلاً من تحية بعضهم لبعض الضرب الوجيع .
وهذا البيت نسبه شراح أبيات الكتاب وغيرهم إلى عمرو بن معد يكرب الصحابي ولم أره
في شعره .
والعجب من شيخنا الشهاب الخفاجي أنه نسبه إليه في حاشية البيضاوي وقال : هو من
قصيدة مسطورة له في المفضليات مع أنه غير موجود شعره في المفضليات لا من كثيره ولا
من قليله .
قال ابن رشيق في العمدة في باب السرقات الشعرية : ومما يعد سرقاً وليس بسرق اشتراك
اللفظ المتعارف كقول عنترة : الوافر ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** عليها الأسد تهتصر
اهتصارا )
____________________
وقول عمرو بن معد يكرب :
الوافر وقول الخنساء ترثي أخاها صخراً : الوافر وخيل قد دلفت لها بخيل فدارت بين
كبشيها رحاها وقول الأعرابي : الوافر ( وخيل قد دلفت لها بخيل ** ترى فرسانها مثل
الأسود ) وأمثال هذا كثير . انتهى .
وإن يكن البيت لعمرو بن معد يكرب فقد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد
المائة .
وأنشد بعده : الرجز
____________________
إذ ذهب القوم الكرام ليسي
على أن ليس لنقصان فعليتها جاز ترك نون الوقاية معها .
وصدره : عددت قومي كعديد الطيس )
وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والتسعين بعد الثلمائة .
وأنشد بعده : الطويل وهذا صدر وعجزه : ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم على أن جملة :
والطلاق ألية من المبتدأ والخبر اعتراضية .
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الخامس والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد السبعمائة ) الوافر
____________________
وكوني بالمكارم ذكريني على
أنه جاء خبر كان جملة طلبية . وهذا مختص بالشعر .
والمعنى : كوني مذكرة بالمكارم وليس يريد كوني بالمكارم . يقوي ذلك قوله قبله : (
ألا يا أم فارع لا تلومي ** على شيء رفعت به سماعي ) ( وكوني بالمكارم ذكريني **
ودلي دل ماجدة صناع ) فالمعنى : لا تلوميني على شيء رفعت به صيتي وذكري وذكريني به
.
قال ابن عصفور في كتاب الضرورة : جعل ذكريني في موضع مذكرة وهو قبيح لأن فعل الأمر
لا يقوم مقام الخبر في باب كان وإنما فعل ذلك لأن كوني أمر في اللفظ ومحصول الأمر
منه لها إنما وقع على التذكير فلما كان في المعنى أمراً لها بتذكيره استعمل فيه
لفظ الأمر . انتهى .
وقال السكري فيما كتب على نوادر أبي زيد : المعنى : وصيري مذكرة لي بالمكارم .
وتقديره في العربية رديء لو قلت : يا فلان كن بغلام بشرني لم يجز . وهو يريد يا أم
فارعة فحذف الهاء استخفافاً وذلك شاذ لأنه ليس بمنادى إنما المنادى الأم .
والصناع بفتح الصاد : الرفيقة الكف . والماجدة : الكريمة . يقول :
____________________
اضبطي دلالك بمنفعة وصنعة
ولا تكوني خرقاء لا تنفع أهلها . انتهى .
وقال أبو زيد : قوله : سماعي أي ذكري وحسن الثناء علي . ودلي بفتح الدال من دلت
تدل ودللت أنا أدل مثل خجلت أخجل . انتهى . )
قال ابن عقيل : الدل قريب المعنى من الهدي وهما من السكينة والوقار في الهيئة
والمنظر والشمائل وغير ذلك . قاله أبو عبيدة . والصناع : الماهرة الحاذقة بعمل
اليدين .
وقال الأخفش في حواشيه على النوادر : قوله : كوني بالمكارم ذكريني تقديره : كوني
ممن أقول له ذكرني إذا سهوت فجرى هذا على الحكاية كما قال : أراد : سمعت قائلاً
يقول : الناس ينتجعون غيثاً فحكى . هذا كلامه .
وقال ابن هشام في المغني : جملة : ذكريني مؤولة بالجملة الخبرية أي : وكوني
تذكرينني . انتهى .
وإنما أوله لما عرف من أن شرط خبر كان إذا كانت جملة أن تكون خبرية . وقال السخاوي
: يجوز أن يكون الخبر محذوفاً وذكريني أمراً مستأنفاً أي : كوني بالمكارم مذكرة
ذكريني .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد السبعمائة ) الطويل
____________________
( قنافذ هداجون حول بيوتهم
** بما كان إياهم عطية عودا ) على أن كان في البيت عند البصريين إما شأنية وإما
زائدة فيكون عطية في الأول : مبتدأ وعوداً : فعل ماض وألفه للإطلاق وفاعله ضمير
عطية ومفعوله إياهم المتقدم على المبتدأ والأصل عودهم فلما تقدم انفصل وجملة :
عودهم خبر المبتدأ والجملة الكبرى أعني عطية عودهم في محل نصب خبر كان واسمها ضمير
الشأن .
قال ابن هشام في شرح الشواهد : ويجوز أن يكون اسم كان ضميراً مستتراً فيها عائداً
على ما الموصولة أي : بسبب الأمر الذي كان هو عطية عودهم إياه وجملة : عطية عودهم
خبر كان وحذف العائد لأنه ضمير منصوب .
ويجوز أيضاً أن يكون عطية اسم كان وتقديم معمول الخبر للضرورة . وهذا الجواب عندي
أولى لاطراده في نحو قوله : البسيط ( باتت فؤادي ذات الخال سالبة ** فالعيش إن حم
لي عيش من العجب ) إذ الأصل : باتت ذات الخال سالبة فؤادي . ولا يجوز تقدير ذات
مبتدأ لنصب سالبة .
واعترض على هذه الأوجه بأن الخبر الفعلي لا يسبق المبتدأ فكذا معموله . والجواب :
أن المانع من تقديم الفعل خشية التباس الاسمية بالفعلية وذلك مأمون مع تقدم
المعمول . انتهى . )
وأوضحه في المغني بقوله : ولانتفاء الأمرين وهما تهيئة العامل للعمل مع قطعه
وإعمال الضعيف مع إمكان القوي جاز عند البصريين وهشام تقديم معمول
____________________
الخبر على المبتدأ في نحو
: زيد ضرب عمراً وإن لم يجز تقديم الخبر .
وقال البصريون في نحو قوله : بما كان إياهم عطية عودا إن عطية مبتدأ وإياهم مفعول
عود والجملة خبر كان واسمها ضمير الشأن .
وقد خفيت هذه النكتة على ابن عصفور فقال : هربوا من محذور وهو أن يفصلوا بين كان
واسمها بمعمول خبرها فوقعوا في محذور آخر وهو تقديم معمول الخبر حين لا يتقدم
الخبر . وقد بينا أن امتناع تقدم الخبر في ذلك لمعنى مفقود في تقدم معموله . انتهى
.
وبهذه الأجوبة يرد على الكوفيين قولهم : يجوز أن يلي كان أو إحدى أخواتها معمول
خبرها غير الظرف . واحتجوا بهذين البيتين . قال ابن الناظم وبقوله : البسيط (
فأصبحوا والنوى عالي معرسهم ** وليس كل النوى يلقي المساكين ) وقد خطأه ابن هشام
فيه بأنه لو كان المساكين اسماً لكان يجب أن يقال : يلقون أو تلقي وإنما كان فيه
عند الفريقين مسندة إلى ضمير الشأن .
والبيت من قصيدة للفرزدق مذكورة في النقائض هجا بها جريراً .
____________________
وقوله : قنافذ هداجون : جمع قنفذ بالذال المعجمة المهملة وهو حيوان معروف يضرب به
المثل في سرى الليل يقال : أسرى من قنفذ . وهو خبر مبتدأ محذوف أي : هم قنافذ .
وهذا تشبيه بليغ كما حققه السعد التفتازاني لا استعارة بالكناية كما توهم العيني
مع اعتراضه بأنه خبر مبتدأ كما ذكرنا .
وهداجون : فعالون من الهدج بالإسكان والهدجان بالتحريك وهو السير السريع . وفعله
كضرب . ويروى : دراجون من درج الصبي والشيخ وفعله كدخل ومعناه تقارب الخطو بمنزلة
مشي الصبي .
وعطية : أبو جرير . يقول : إن رهط جرير كالقنافذ لمشيهم في الليل للسرقة والفجور
وإن أبا جرير هو الذي عودهم ذلك .
وقد هجاه الأخطل بمثل هذا أيضاً قال من قصيدة : البسيط ) ( أما كليب بن يربوع فليس
لها ** عند التفاخر إيراد ولا صدر ) ( مخلفون ويقضي الناس أمرهم ** وهم بغيب وفي
عمياء ما شعروا ) ( مثل القنافذ هداجون قد بلغت ** نجران أو بلغت سوءاتهم هجر )
____________________
وترجمة الفرزدق قد تقدمت
في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز ما دام
فيهن فصيل حياً على أنه يجوز في باب كان الإخبار عن النكرة المحضة إذا حصلت
الفائدة كما هنا فإن قوله : فصيل اسم دام . وحياً خبرها وحصلت الفائدة من تقديم
فيهن وهو متعلق بالخبر ولو حذفت فيهن انقلب المعنى لأنك إذا قلت : ما دام فصيل
حياً فالمراد أبداً كما تقول : ما طلعت شمس وما ناح قمري . فلما لم تتم الفائدة
إلا به حسن تقديمه لمضارعته الخبر في الفائدة .
ومثله قوله تعالى : ولم يكن له كفواً أحد فإن قوله : له وإن لم يكن خبراً فإنه به
يتم المعنى لأن سقوطها يبطل معنى الكلام إلى ذكر له صار بمنزلة الخبر الذي لا
يستغنى عنه وإن لم يكن خبراً .
ولم يكن بمنزلة قوله : ما كان فيها أحد خيراً منك لأنك لو حذفت فيها كان كلاماً
صحيحاً .
وهذا البيت أورده سيبويه في باب الإخبار عن النكرة بالنكرة وأمثلته في كان
____________________
وأخواتها قال فيه : وتقول
: ما كان فيها أحد خيراً منك وما كان أحد مثلك فيها وليس أحد فيها خير منك إذا
جعلت فيها مستقراً ولم تجعله على قولك : فيها زيد قائم أجريت الصفة على الاسم .
فإن جعلته على قولك : فيها زيد قائم نصبتها تقول : ما كان فيها أحد خيراً منك وما
كان أحد خيراً منك فيها إلا أنك إذا أردت الإلغاء فكلما أخرت الذي تلغيه كان أحسن
.
وإذا أردت أن يكون مستقراً مكتفى به فكلما قدمته كان أحسن لأنه إذا كان عاملاً في
شيء قدمته كما تقدم أظن وأحسب . وإذا ألغيته أخرته كما تؤخرهما لأنهما ليسا يعملان
شيئاً .
والتقديم هاهنا والتأخير والإلغاء والاستقرار عربي جيد كثير . فمن ذلك قوله عز وجل
: ولم )
يكن له كفواً أحد .
وأهل الجفاء يقولون : ولم يكن كفؤاً له أحد كأنهم أخروها حيث كانت غير مستقرة .
قال الشاعر : الرجز ( لتقربن قرباً جلذياً ** ما دام فيهن فصيل حيا ) وقد دجا
الليل فهيا هيا انتهى كلام سيبويه .
قال ابن يعيش : سيبويه يسمي الظرف الواقع خبراً : مستقراً لأنه يقدر باستقر وإن لم
يكن خبراً سماه لغواً . وتقديم الظرف وتأخيره إذا كان مستقراً جائز عنده وإنما
يختار تقديمه .
فإن قيل : فما تصنع بقوله سبحانه : ولم يكن له كفواً أحد قدم الظرف
____________________
. مع أنه لغو قيل : لما
كانت الحاجة ماسة والكلام غير مستغن عنه كأنه خبر مقدم لذلك .
ألا ترى أن قوله تعالى : الله الصمد مبتدأ وخبر . وقوله : ولم يكن له كفواً أحد
معطوف عليه وما عطف على الخبر كان في حكم الخبر فلذلك لم يكن من العائد في قوله :
له بد لأن الجملة إذا وقعت خبراً افتقرت إلى العائد . قال : وأهل الجفاء يقولون :
ولم يكن كفؤاً له أحد . أراد بأهل الجفاء الأعراب الذين لم يبالوا بخط المصحف ولم
يعلموا كيف هو .
فأما قوله : ما دام فيهن فصيل حياً فإنه قدم الظرف هاهنا وإن لم يكن مستقراً فإنه
متعلق بالخبر وذلك لجواز التقديم عنده مع أنه قد تدعو الحاجة إليه ولا يسوغ حذفه
إذ حذفه يغير المعنى ويصير بمعنى الأبد كقولك : ما طلعت الشمس . فلما كان المعنى
متعلقاً به صار كالمستقر فقدمه لذلك . انتهى .
وقد أورد الشارح المحقق هذا الكلام في آخر البحث في الحروف المشبهة بالفعل وقال :
يجوز الإخبار عن النكرة في باب إن وفي باب كن بالنكرة والمعرفة .
وجوزه أبو حيان في الأول دون الثاني قال في تذكرته : نصب إن وأخواتها للنكرات لا
ينحصر وقد أخبر بالمعرفة وهذا غريب ولا يجوز في الابتداء ولا في كان . حكى سيبويه
: إن قريباً منك زيد وإن بعيداً منك زيد .
____________________
وأنشد سيبويه : الطويل )
وحكى : إن ألفاً في دراهمك بيض وإن بالطريق أسداً رابض .
وجاز عندي أن يكون المعرفة خبراً عن النكرة هنا لما كان المعنى واحداً وأنه لما
كان فضلة فكأنه غير مسند إليه فجاز تنكيره ولما كان الخبر مرفوعاً صار كأنه مسند
إليه فكان معرفة .
وذكر الجرمي هذه المسألة في الفرخ وقال : إنه يبتدأ بالنكرة ويخبر بالمعرفة عنها
في هذا الباب .
وقال : جائز ذلك لأنهم لا يقدمون خبر إن كما يتسعون في ذلك فأعطوا إن ما منعوا في
كان .
وقد منعوا خبر كان ومنعوا أن يكون خبرها معرفة واسمها نكرة فأعطوا كل واحد منهما
ما منعه صاحبه . انتهى .
والشارح تابع في ذلك لابن مالك . وكثرة السماع يشهد لصحة قولهما .
وهذه الأبيات الثلاثة نسبها ابن السيرافي وابن خلف لابن ميادة . وتقدمت ترجمته في
الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب .
وقوله : لتقربن قال ابن السيرافي : هو جواب قسم محذوف وهو بضم الراء وكسر الباء .
قال الجوهري : قربت أقرب قرابة مثل كتبت أكتب كتابة إذا سرت إلى الماء وبينك وبينه
ليلة .
والاسم القرب بفتحتين .
وقال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب قال : سير الليل لورد الغد . قلت : ما
الطلق قال : سير الليل لورد الغب . وقال : أقرب القوم فهم قاربون ولا يقال :
مقربون . قال أبو عبيد : هذا الحرف شاذ .
أقول : قد سمع ثلاثية فلا شذوذ . وقال أبو الحسن الأخفش : لتقربن : لتردن . وليلة
القرب : ليلة الورد . وهذا خطاب لناقته .
____________________
يقول : لتسيرن إلى الماء سيراً حثيثاً . والجلذي بضم الجيم وسكون اللام بعدها ذال
معجمة ومعناه السريع الشديد فهو وصف القرب . وقيل . منادى مرخم . وجلذية : اسم
ناقته .
والضمير في فيهن عائد على الإبل ودل عليه سياق الكلام وذكر الناقة فأضمر وإن لم
يجر لها ذكر .
والفصيل : ولد الناقة وغنما ذكره لأنه ناقته من جملة الإبل يسوقها إلى الماء سوقاً
حثيثاً .
فيقول : لا أعذرك ما دام فيهن فصيل يطيق السير . ودجا الليل : أظلم . وهيا هيا زجر
لها )
وتصويت حتى تسير أي : مبادرة . وليس منه فعل وهي مكسورة الأول . وقد حكيت بالفتح .
قاله ابن خلف .
وقوله : وليس منه فعل يناقضه قول الجواليقي في شرح أدب الكاتب : يقال : هوى يهوي
هياً ومقتضاه أنه بالفتح لا بالكسر وأنه مصدر لا اسم فعل إلا أن يكون هذا هو الأصل
ثم نقل إلى اسم الفعل .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
وإن شفاء عبرة مهراقة على
أنه يجوز أن يخبر في باب إن أيضاً عن النكرة كما هنا فإن شفاءً وقع اسم منكراً
وأخبر عنه ب عبرة .
قال الشارح المحقق : وكذا أنشده سيبويه .
أقول : هذا نصه في باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة إن وأخواتها قال
: وتقول : إن قريباً منك زيداً إذا جعلت قريباً منك موضعاً . وإن جعلت الأول هو
الآخر قلت : إن قريباً منك زيد وتقول : إن بعيداً منك زيد . والوجه إذا أردت هذا
أن تقول : إن زيداً قريب أو بعيد منك لأنه اجتمع معرفة ونكرة . ( وإن شفاء عبرة
مهراقة ** فهل عند رسم دارس من معول ) فهذا أحسن لأنه نكرة . وإن شئت قلت : إن
بعيداً منك زيداً . وقلما يكون بعيداً منك ظرفاً لأنك لا تقول : إن بعدك وتقول :
إن قربك فالدنو أشد تمكيناً في الظرف من البعد . انتهى كلامه .
والرواية المشهورة في البيت : وإن شفائي بالإضافة إلى ياء المتكلم . وهذا هو
المشهور المعروف .
والبيت من أول معلقة امرئ القيس ولم يذكر شراحها تلك الرواية إلا أن الخطيب
التبريزي قال : روى سيبويه هذا البيت وإن شفاء عبرة واحتج فيه بأن النكرة يخبر
عنها بالنكرة .
ويروى : )
وإن شفائي عبرة لو سفحتها
____________________
أي : صببتها . ولو :
للتمني لا جواب لها . والعبرة بالفتح : الدمعة وجمعها عبر كبدرة وبدر .
ومهراقة بفتح الهاء أي : مصبوبة .
قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : قد ذكر ابن قتيبة في باب فعلت وأفعلت هرقت
الماء وأهرقته . وقد قال مثله بعض اللغويين ممن لا يحسن التصريف وتوهم أن هذه
الهاء في هذه الكلمة أصل . وهو غلط والصحيح أن هرقت وأهرقت فعلان رباعيان معتلان
أصهلما أرقت .
فمن قال : هرقت فالهاء عنده بدل من همزة أفعلت كما قالوا : أرحت الماشية وهرحتها
وأنرت الثوب وهنرته .
ومن قال : أهرقت فالهاء عنده عوض من ذهاب حركة عين الفعل عنها ونقلها إلى الفاء
لأن الأصل أريقت أو أروقت بالياء أو بالواو على الاختلاف في ذلك ثم نقلت حركة
الواو أو الياء إلى الراء فانقلب حرف العلة ألفاً لانفتاح ما قبلها ثم حذف لسكونه
وسكون القاف .
والساقط من أرقت يحتمل أن يكون واواً فيكون مشتقاً من راق الشيء يروق ويحتمل ن
يكون ياء لأن الكسائي حكى : راق الماء يريق إذا انصب .
والدليل على أن الهاء في هرقت وأهرقت ليست فاء الفعل على ما توهم من ظنها كذلك
أنها لو كانت كذلك للزم أن يجرى هرقت في تصريفه مجرى ضربت فيقال : هرقت أهرق هرقاً
كما تقول : ضربت أضرب ضرباً أو مجرى غيره من الأفعال الثلاثية التي يجيء مضارعها
بضم العين وتجيء مصادرها مختلفة .
وكان يلزم أن يجرى أهرقت في تصريفه مجرى أكرمت ونحوه من الأفعال الرباعية المصححة
____________________
ولم تقل العرب شيئاً من
ذلك وإنما يقولون في تصريف هرقت أهريق يفتحون الهاء وكذلك يفتحونها في اسم الفاعل
فيقولون : مهريق وفي سم المفعول مهراق لأنها بدل من همزة لو ثبتت في تصريف الفعل
لكانت مفتوحة .
ألا ترى أنك لو صرفت أرقت على ما ينبغي من التصريف ولم تحذف الهمزة منه لقلت في
مضارعه يؤريق وفي اسم فاعله مؤريق وفي اسم مفعوله مؤريق . وقالوا في المصدر :
هراقة كما قالوا إراقة . )
وإذا صرفوا أهرقت قالوا في المضارع أهريق وفي المصدر إهراقة وفي اسم الفاعل مهريق
وفي اسم المفعول مهراق فأسكنوا الهاء في جميع تصريف الكلمة . فهذا يدل على أنه
رباعي معتل وليس بفعل صحيح وأن الهاء فيه بدل من همزة . أرقت أو عوض كما قلنا .
قال العديل بن الفرخ : الطويل ( فكنت كمهريق الذي في سقائه ** لرقراق آل فوق رابية
صلد ) وقال ذو الرمة : الطويل فلما دنت إهراقة الماء أنصتت وقال الأعشى في أراك :
الخفيف
____________________
انتهى كلامه ولجودته سقناه
بتمامه .
وقوله : فهل عند رسم . . . . إلخ الرسم : الأثر . والدارس : المنطمس . والفاء في
جواب شرط مقدر قال ابن جني في سر الصناعة : ومن ذلك قول امرئ القيس : وإن شقائي
عبرة . . . . . . . . . . . . . البيت ففي قوله معول مذهبان : أحدهما : أنه مصدر
عولت بمعنى : أعولت أي : بكيت . أي : فهل عند رسم دارس من إعوال وبكاءٍ .
والآخر : أنه مصدر عولت على كذا أي : اعتمدت عليه كقولهم : إنما عليك معولي أي :
اتكالي .
وعلى أي الأمرين حملت المعول فدخول الفاء على : فهل عند رسم حسن جميل أما على
الأول فكأنه قال : إن شفائي أن أسفح عبرتي . ثم خاطب نفسه أو صاحبيه فقال : إذا
كان الأمر على ما قدمت من أن في البكاء شفاء وجدي فهل من بكاء أشفي به غليلي فهذا
ظاهره استفهام لنفسه ومعناه التحضيض لها على البكاء كما تقول : قد أحسنت إلي فهل
أشكرك أي : فلأشكرنك . وقد زرتني فهل أكافئك أي : فلأكافئنك .
وإذا خاطب صاحبيه فكأنه قال : قد عرفتكما سبب شفائي وهو البكاء والإعوال فهل
تعولان وتبكيان معي لأشفي وجدي ببكائكما . فهذا التفسير على قول من قال : إن معولي
بمنزلة إعوالي . )
والفاء عقدت آخر الكلام بأوله لأنه كأنه قال : إن كنتما قد عرفتما ما أوثره من
البكاء فابكيا معي .
____________________
كما أنه إذا استفهم نفسه فكأنه قال : إذا كنت قد علمت أن في الإعوال راحة لي فلا
عذر لي في ترك البكاء .
وأما من جعل معولي بمعنى تعويل على كذا أي : اعتمادي واتكالي عليه فوجه دخول الفاء
على فهل في قوله : أنه لما قال : إن شفائي عبرة مهراقة فكأنه قال : إنما راحتي في
البكاء فما معنى اتكالي في شفاء غليلي على رسم دارس لا غناء عنده عني . فسبيلي أن
أقبل على بكائي ولا أعول في برد غليلي على ما لا غناء عنده .
وهذا أيضاً معنى يحتاج معه إلى الفاء لتربط آخر الكلام بأوله فكأنه قال : إذا كان
شفائي إنما هو في فيض دمعي فسبيلي أن لا أعول على رسم دارس في دفع حزني وينبغي أن
أجد في البكاء الذي هو سبب الشفاء . انتهى كلامه .
ووقع في رواية ابن هشام وهل بالواو قال في المغني في بحث هل وفي عطف الإنشاء على
الخبر من الباب الرابع : إن هل فيه للنفي ولذا صح العطف إذ لا يعطف الإنشاء على
الخبر .
وقد تقدم في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائة عن الباقلاني في إعجاز القرآن أن
هذا البيت مناقض لما قبله فراجعه .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده : الوافر
____________________
يكون مزاجها عسل وماء على
أنه يجوز أن يخبر في بابي كان وإن بمعرفة عن نكرة في الاختيار كما هنا فإن مزاجها
روي بالنصب على أنه خبر مقدم وهو معرفة وعسل اسم كان مؤخر وهو نكرة .
وقال الزمخشري : لا يجوز هذا إلا في ضرورة الشعر .
وهذا مذهب ابن جني قال في المحتسب : روي عن عاصم أنه قرأ : وما كان صلاتَهم عند
البيت نصباً إلا مكاءٌ وتصديةٌ رفعاً . ولحنه الأعمش . وقد روي هذا الحرف أيضاً عن
أبان بن تغلب أنه قرأه كذلك .
ولسنا ندفع أن جعل اسم كان نكرة وخبرها معرفة قبيح فإنما جاءت منه أبيات شاذة وهو
في )
ضرورة الشعر أعذر والوجه اختيار الأفصح الأعرب ولكن وراء ذلك ما أذكره . اعلم أن
نكرة الجنس تفيد مفاد معرفته .
ألا ترى أنك تقول : خرجت فإذا أسد بالباب فتجد معناه معنى قولك : خرجت فإذا الأسد
بالباب لا فرق بينها . وذلك أنك في الموضعين لا تريد أسداً واحداً معيناً وإنما
تريد خرجت فإذا بالباب واحد من هذا الجنس .
وإذا كان كذلك جاز هنا الرفع في مكاء وتصدية جوازاً قريباً حتى كأنه قال : وما كان
صلاتهم عند البيت إلا مكاءُ والتصديةُ أي : إلا هذا الجنس من الفعل .
وإذا كان كذلك لم يجر هذا مجرى قولك : كان قائم أخاك وكان جالس أباك لأنه ليس في
جالس وقائم من معنى الجنسية التي تلاقي معنيا نكرتها ومعرفتها .
____________________
وأيضاً فإنه يجوز مع النفي من جعل اسم كان وأخواتها نكرة ما لا يجوز مع الإيجاب
فكذلك هذه القراءة لما دخلها النفي قوي وحسن جعل اسم كان نكرة . هذا إلى ما ذكرنا
من مشابهة نكرة اسم الجنس لمعرفته .
ولهذا ذهب بعضهم في قول حسان : ( كأن سبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء )
أنه إنما جاز ذلك من حيث كان عسل ومكاء جنسين فكأنه قال : يكون مزاجها العسل
والماء . فبهذا تسهل هذه القراءة ولا تكون من القبح واللحن الذي ذهب إليه الأعمش .
انتهى .
وإليه أيضاً ذهب ابن السيد في أبيات المعاني قال : هذا لا يجوز إلا في ضرورة الشعر
فأما في الكلام فلا يجوز .
وقال اللخمي : حسن ذلك أن مزاجاً مضاف إلى ضمير نكرة . قال السيرافي عندما أنشد
سيبويه : الوافر أظبي كان أمك أم حمار إن ضمير النكرة لا تستفيد منه إلا نكرة .
ألا ترى إذا قلت : مررت برجل فكلمته لم تكن الهاء بموجبة تعريفاً لشخص بعينه وإن
كانت معرفة من حيث علم المخاطب أنها ترجع إلى ذلك المنكور . انتهى .
وقال ابن خلف : في هذا أربعة أقوال : قيل هو على وجه الضرورة وقيل : أراد
____________________
مزاجاً لها فنوى )
بالإضافة الانفصال فأخبر بنكرة عن نكرة .
وقال أبو علي : نصب مزاجها على الظرف الساد مسد الخبر كأنه قال : يكون مستقراً في
مزاجها . فإذا كان ظرفاً تعلق بمحذوف يكون الناصب له وقدم على عسل وماء كعادتهم في
ثم نقل توجيه ابن جني . وكذلك نقل اللخمي عنه قال : وعن أبي علي أن مزاجها ينتصب
على الظرف تقديره على المعنى : يكون مكان مزاجها عسل وماء .
قال ابن هشام في المغني : وتأويله الفارسي على أن انتصاب المزاج على الظرفية
المجازية .
وزعم شارحه ابن الملا أن كان على تأويل أبي علي تكون تامة .
وذهب الزمخشري في المفصل إلى أن هذا ونحوه من القلب الذي شجع عليه أمن الإلباس .
وإليه جنح ابن هشام في المغني قال في الباب الثامن : من فنون كلامهم القلب وأكثر
وقوعه في الشعر . وأنشد البيت . وقال في الباب الرابع منه : إنه ضرورة . ولم يذكر
القلب .
وروي في البيت رفع مزاجها ونصب عسل ورفع ماء وبرفع الجميع .
وقد تقدم كله مشروحاً مع القصيدة في الشاهد الثاني والثلاثين بعد السبعمائة .
____________________
وأنشد بعده : الوافر ولا يك موقف منك الوداعا لما تقدم قبله من أنه يجوز في
الاختيار أن يخبر عن نكرة بمعرفة في ذينك البابين .
قال ابن مالك في التسهيل : وقد يخبر هنا وفي باب إن بمعرفة عن نكرة اختياراً .
وقال في شرحه : لما كان المرفوع هنا مشبهاً بالفاعل والمنصوب مشبهاً بالمفعول جاز
أن يغني هنا تعريف المنصوب عن تعريف المرفوع كما جاز في باب الفاعل لكن بشرط
الفائدة وكون النكرة غير محضة .
من ذلك قول حسان : يكون مزاجها عسل وماء وليس بمضطر إذ يمكنه أن يقول : مزاجها
بالرفع فيجعل اسم يكون ضمير الشأن .
وقول القطامي : ولا يك موقف منك الوداعا وليس بمضطر إذ له ن يقول : ولا يك موقفي .
والمحسن لهذا شبه المرفوع بالفاعل والمنصوب )
بالمفعول . وقد حمل هذا الشبه في باب إن كقول الفرزدق : الطويل ( وإن حراماً أن
أسب مجاشعاً ** بآبائي الشم الكرام الخضارم )
____________________
انتهى .
وهذا مبني على تفسير الضرورة بما لا مندوحة للشاعر عنه . وهذا فاسد من وجوه تقدم
بيانها في شرح أول شاهد . وعند الجمهور هو من الضرورة ومعناها ما وقع في الشعر
سواء كان عنه مندوحة أو لا .
قال اللخمي : جعل موقفاً وهو نكرة اسم يك والوداع وهو معرفة الخبر ضرورة لإقامة
الوزن . وحسن الضرورة فيه ثلاثة أوجه : أحدها : أن النكرة قد قربت من المعرفة
بالصفة .
والثاني : أن المصدر جنس فمفاد نكرته ومعرفته واحد .
والثالث : أن الخبر هو المبتدأ في المعنى .
وقال صاحب اللباب : وهما أي : المرفوع والمنصوب بكان على شرائطهما في باب الابتداء
.
وزعم بعض المنتمين إلى هذه الصنعة أن بناء الكلام على بعضهما من غير تقدير دخول
على المبتدأ والخبر سائغ بدليل قوله : ولا يك موقف منك الوداعا وليس بمحمول على
الضرورة إذ لا يتم المعنى المقصود إلا هكذا إذ لو عرفهما لم يؤد أنه لم يرخص أن
يكون ما سوى ذلك من المواقف وداعاً . ولو نكرهما لم يؤد أن الوداع قد كره إليه حتى
صار نصب عينيه . ولو عرف الأول ونكر الثاني لجمع بين الهجنتين .
والجواب بعد تسليم جميع ما ذكره أنه لو أراد إيراد هذا المعنى بطريق النفي دون
النهي لا بد أن يقول : ما موقف منك الوداع بعين ما ذكره . على أن المقصود أن لا
يكون الوداع موقفاً منها يكون مزاجها عسل وماء
____________________
انتهى .
أراد بالهجنتين ترخيص كون ما سوى هذا الموقف المعين موقف وداع وفوات النكتة
المستفادة من تعريف الوداع . وحاصله أنه لما اختار أو وجود شرائط المبتدأ والخبر
في هذه الأفعال لازم ذهب إلى أن البيت محمول على الضرورة لأنها دعت إلى القلب . )
وأجاب عن استدلال المخالف بوجهين : الأول : أن يقال : لا نسلم أنهما إن كانا
معرفتين يلزم قبح لأن مبناه أن اللام في الموقف للعهد وهو ممنوع لجواز أن تكون
للجنس أي : لا يك جنس الموقف الوداع .
وفيه عموم سلمناه لكن لا نسلم أنهما إن كانا منكرين يلزم قبح لأنه مبني على أن
اللام في الوداع للعهد إلى الشيء المكره عنده وهو ممنوع لجواز كونه للجنس .
سلمناه لكنه منقوض بنقض إجمالي وتوجيهه لو صح ما ذكرت لكان الواجب أن يقال عند
إرادة هذا المعنى بطريق النفي دون النهي : ما موقف منك الوداع بعين ما ذكرت . لكن
التالي باطل لأن تنكير المبتدأ وتعريف الخبر بعد النفي ليس حد الكلام الذي يجب أن
يكون عليه الاتفاق .
وعلى هذا كان الوداع اسم كان والموقف خبره فقلب بأن جعل الاسم خبراً والخبر اسماً
والقلب مما يشجع عليه عند أمن الالتباس .
وهذا المصراع عجز وصدره : قفي قبل التفرق يا ضباعا
____________________
والبيت مطلع قصيدة للقطامي
تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
أسكران كان ابن المراغة إذ هجا ** تميماً بجوف الشام أم متساكر ) على أن سيبويه
مثل به للإخبار عن النكرة بالمعرفة .
وهذا نصه : اعلم أنه إذا وقع في الباب نكرة ومعرفة فالذي تشغل به كان المعرفة لأنه
حد الكلام ولأنهما شيء واحد وليس بمنزلة قولك : ضرب رجل زيداً لأنهما شيئان
مختلفان وهما في كان بمنزلتهما في الابتداء .
فإذا قلت : كان زيد فقد ابتدأت بما هو معروف عنده مثله عندك وإنما ينتظر الخبر .
فإذا قلت : حليماً فقد أعلمته مثل ما علمت . فإذا قلت : كان حليماً فإنما ينتظر أن
تعرفه صاحب الصفة فهو مبدوء به في الفعل وإن كان مؤخراً في اللفظ . فإن قلت : كان
حليم أو رجل فقد بدأت بنكرة فلا يستقيم أن تخبر المخاطب عن المنكور . ولا يبدأ بما
فيه يكون اللبس وهو النكرة .
ألا ترى أنك لو قلت : كان حليماً أو كان رجل منطلقاً كنت تلبس لأنه لا يستنكر أن
يكون إنسان هكذا . فكرهوا أن يبدؤوا باللبس ويجعلوا المعرفة خبراً
____________________
لما يكون في هذا اللبس .
وقد يجوز في الشعر في ضعف من الكلام . حملهم على ذلك أنه فعل بمنزلة ضرب وأنه قد
يعلم إذا ذكرت زيداً وجعلته خبراً أنه صاحب الصفة على ضعف من الكلام .
وذلك قول خداش بن زهير : الوافر ( فإنك لا تبالي بعد حول ** أظبي كان أمك أم حمار
) وقال حسان : الوافر ( كأن سبيئة من بيت رأس ** يكون مزاجها عسل وماء ) وقال أبو
قيس بن الأسلت الأنصاري : الوافر وقال الفرزدق : ( أسكران كان ابن المراغة إذ هجا
** تميماً بجوف الشام أم متساكر ) فهذا إنشاد بعضهم .
وأكثرهم ينصب بالسكران ويرفع الآخر على قطع وابتداء . انتهى كلام سيبويه . )
وقوله : وأكثرهم ينصب السكران أي : ويرفع ابن المراغة على أنه اسم كان ويكون الخبر
مقدماً وهو سكران . وعلى هذا لا قبح .
وقوله : ويرفع الآخر هو متساكر ويكون رفعه على القطع بجعله خبر مبتدأ محذوف أي :
أم هو متساكر فتكون أم منقطعة .
وإذا رفع سكران ونصب ابن المراغة وهذه مسألتنا ففيه قبح لضرورة الشعر لأنه جعل اسم
كان ضمير سكران وهو نكرة ويكون ابن المراغة خبر كان فيكون قد أخبر بمعرفة عن نكرة
ويرتفع سكران حينئذ بكان محذوفة كما يأتي بيانه
____________________
ويكون متساكر معطوفاً عليه
وعلى هذا أم متصلة ويكون العطف من عطف مفرد على مفرد والجملة واحدة . وعلى الأول
جملتان .
وإنما قال الشارح المحقق : وأورد سيبويه للتمثيل بالإخبار عن النكرة بالمعرفة ولم
يقل : استشهد للإخبار لأن سيبويه لم يذهب إلى أن هذا جائز في الاختيار حتى يستشهد
له وإنما هو قبيح خاص بالشعر لم يرتضه في الكلام . فأورد هذه الأبيات أمثلة لما
استقبحه في الشعر .
وقد روي رفع ابن المراغة مع رفع سكران فيكون المعرف على هذا مبتدأ والمنكر خبراً
وكان زائدة .
وجوز ابن خلف أن يضمر في كان ضمير الشأن . وهذا خطأ تبع فيه يوسف بن السيرافي في
شرحه لشواهد سيبويه .
قال ابن هشام : وضمير الشأن يعود على ما بعده لزوماً ولا يجوز للجملة المفسرة له
أن تتقدم هي ولا شيء منها عليه .
وقد غلظ يوسف بن السيرافي إذ قال في قوله : أسكران كان ابن المراغة إذ هجا البيت
فيمن رفع سكران وابن المراغة : إن كان شأنية وابن المراغة وسكران مبتدأ وخبره
والجملة خبر كان . والصواب أن كان زائدة .
والأشهر في إنشاده نصب سكران ورفع ابن المراغة فارتفاع متساكر على نه خبر لهو
محذوفاً . ويروى بالعكس فاسم كان مستتر فيها . انتهى .
قوله : أسكران رفع بفعل مضمر تكون كان تفسيراً له ودليلاً عليه . وحسن الرفع في
هذا )
لموضع لأن التقدير : أكان سكران ابن المراغة فاستفهم عن سكره لا عنه في نفسه .
وإذا كان كذلك كان الأولى أن يرفع لأن النكرة لما دخلها هذا
____________________
المعنى من أن القصد إنما
وقع إليها وجب أن يكون الرفع فترفع بكان . وكذلك قول الآخر : أظبي كان أمك أم حمار
انتهى .
ومثله لابن جني في الخصائص قال : وقد حذف خبر كان في قوله : أسكران كان ابن
المراغة البيت ألا ترى أن تقديره : أكان سكران ابن المراغة فلما حذف الفعل فسره
بالثاني وابن المراغة المذكور خبر كان الظاهرة وخبر كان المضمرة محذوف معها لأن
كان الثانية دلت على الأولى .
وكذلك الخبر الثاني الظاهر دل على الخبر الأول المحذوف . انتهى .
وزعم ابن الملا الحلبي في شرح المغني أن سكران مبتدأ . قال : وصحت ابتدائيته مع
نكارته لوقوعه في حيز الاستفهام وأن جملة كان ابن المراغة خبره . هذا كلامه .
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً . وأراد بابن المراغة جريراً وكان الفرزدق
قد لقب أمه بالمراغة ونسبها إلى أنها راعية حمير . والمراغة : الأتان التي لا
تمتنع من الفحول . وإذ : ظرف يتعلق بكان وفاعل هجا ضمير ابن المراغة .
وأراد بتميم هاهنا : بني دارم بن مالك بن حنظلة وهم رهط الفرزدق وجرير من رهط كليب
بن يربوع بن حنظلة .
____________________
فلم يعتد الفرزدق برهط جرير في تميم احتقاراً لهم . وأراد بجوف الشام : داخلها .
وروى أبو علي وابن جني وغيرهما : ببطن الشام وهو بمعناه . وروي : بجو الشام وهذا
تحريف .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وانشد بعده : الوافر ( فإنك لا تبالي بعد حول ** أظبي كان أمك أم حمار ) لما تقدم
قبله .
فاسم كان ضمير ظبي وهو نكرة وأمك بالنصب خبرها وهو معرفة . وظبي اسم لكان )
المضمرة المدلول علها بكان المذكورة وهو نكرة أيضاً وخبر المحذوفة محذوف أيضاً
مدلول عليه بخبر المذكورة كما تقدم عن ابن جني .
قال ابن هشام في المغني الأول أولى لأن همزة الاستفهام بالجمل الفعلية أولى منها
بالاسمية .
وعليهما فاسم كان ضمير راجع إليه .
وقول سيبويه إنه أخبر عن النكرة بالمعرفة واضح على الأول لأن ظبياً المذكور
____________________
اسم كان وخبره أمك وأما
على الثاني فخبر ظبي إنما هو الجملة والجمل نكرات ولكن يكون محل الاستشهاد قوله :
كان أمك على أن ضمير النكرة عنده نكرة . انتهى .
وذهب صاحب المفتاح إلى أن تنكير المسند إليه غير موجود بالاستقراء . وأما هذا
البيت ونحوه فتنكير المسند إليه إنما هو في ظبي إذا ارتفع بالمضمر لا في ضمير كان
العائد عليه . وهو وراد على القلب والأصل : أظبياً كان أمك أم حماراً قال : إن كون
المسند إليه نكرة والمسند معرفة سواء قلنا : يمتنع عقلاً أو يصح عقلاً ليس في كلام
العرب وأما ما جاء من نحو قوله : ولا يك موقف منك الوداعا وقوله : يكون مزاجها عسل
وماء أظبي كان أمك أم حمار فمحمول على منوال : عرضت الناقة على الحوض . وأصل
الاستعمال : ولا بك موقفاً منك الوداع ويكون مزاجها عسلاً وماءً وأظبياً كان أمك
أم حماراً .
ولا تظنن بيت الكتاب خارجاً عما نحن فيه ذهاباً إلى أن اسم كان هو الضمير والضمير
معرفة فليس المراد كان أمك وإنما المراد ظبي بناء على أن ارتفاعه
____________________
بالفعل المفسر لا
بالابتداء .
ولذلك قدرنا الأصل على ما ترى . انتهى .
واختار السعد في المطول هذا الأخير فليس فيه قلب لفظي وإنما يكون فيه قلب معنوي .
قال : قيل : إنه قلب من جهة اللفظ بناء على أن ظبي مرفوع بكان المقدرة لا
بالابتداء فصار الاسم نكرة والخبر معرفة . )
والحق أن ظبي مبتدأ وكان أمك خبره فحينئذ لا قلب فيه من جهة اللفظ لأن اسم كان
ضمير والضمير معرفة . نعم فيه قلب من جهة المعنى لأن المخبر عنه في الأصل هو الأم
.
انتهى .
ويشهد للقلب ما رواه ابن خلف في شرح شواهد سيبويه قال : وقد ينشد : أظبياً كأن أمك
أم حمار على أنه جعل اسم كان معرفة وخبرها نكرة فهذا جيد إلا أنه كان يجب أن ينصب
حمار لأنه معطوف على ظبي . فيجوز رفعه على إضمار مبتدأ .
قال المبرد في كتابه الجامع : والأجود في هذه الأبيات نصب الأخبار المقدمة ورفع
المعارف ورفع القوافي على قطع وابتداء . انتهى .
والبيت من أبيات لثروان بن فزارة العامري الصحابي وقد تقدم الكلام عليها مفصلاً في
الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
ألا من مبلغ حسان عني ** أطب كان سحرك أم جنون )
____________________
لما تقدم قبله والكلام فيه
كما تقدم .
والطب بالكسر قال الأعلم : هو هنا العلة والسبب أي : أسحرت فكان ذلك سبب هجائك أم
جننت . وسحر هنا مصدر سحر المبني للمفعول وهو مضاف للمفعول .
والبيت لأبي قيس بن الأسلت الأنصاري . وقد اختلف في إسلامه . وحسان هو ابن ثابت
شاعر النبي صلى الله عليه وسلم . وكان أبو قيس من الأوس وحسان من الخزرج وكانا
يتهاجيان فقال أبو قيس لحسان : أذهب عنك عقلك بسحر حتى اجترأت على هجائي أم أصابك
جنون فلم تدر ما صنعت . يعظم في نفس حسان ما يأتي من هجاء الأوس وشعرائها ويتوعده
بالمقارضة .
ورواه ابن دريد في الجمهرة كذا : أطيب كان داءك أم جنون )
وقال : الطب هنا : السحر .
وروي أيضاً : أطب كان شأنك أم جنون وهما أحسن من الرواية الأولى .
وبعده : ( فلست بزائل أبداً تمنى ** بصدرك من وحاوحه فنون ) والوحاوح بواوين
ومهملتين : الحزازات .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرمل
إنما يجزي الفتى ليس الجمل هذا عجز وصدره : وإذا أقرضت قرضاً فاجزه على أن ليس
يجوز حذف خبرها كثيراً كهذا البيت أي : ليس الجمل جازياً أو يجزي . وقيل : إن
الجمل هو الخبر وسكن للقافية واسمها ضمير اسم الفاعل المفهوم من يجزي أي : ليس
الجازي الجمل فلا حذف فيه . وقيل : إن
____________________
ليس فيه عاطفة وقد ذكره
الشارح في لا العاطفة وسيأتي الكلام عليه هناك إن شاء الله .
هذا ورواية البيت عند سيبويه : إنما يجزي الفتى غير الجمل وكذا رواه الطوسي في شرح
ديوان لبيد .
وأنشده سيبويه على أن الفتى هو معرفة قد نعت بغير وهي نكرة والذي سوغه أن التعريف
باللام يكون للجنس ولا يخص وأحداً بعينه فهو مقارب للنكرة وأن غيراً مضاف إلى
معرفة فقاربت المعارف لذلك .
وكذا أورده ابن السراج في الأصول قال : إن غيراً لا تدخل في الاستثناء إلا في
الموضع الذي ضارعت فيه إلا . )
ألا ترى أنك تقول : مررت برجل غيرك ولا تقع إلا في مكانها لا يجوز أن تقول : جاءني
رجل إلا زيد تريد غير زيد على الوصف . فالاستثناء هنا محال .
ولكن تقول : ما يحسن بالرجل إلا زيد أن يفعل كذا لأن الرجل جنس ومعناه : بالرجل
الذي هو غير زيد كما قال : إنما يجزي الفتى غير الجمل انتهى .
وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي وقد تقدم بعضها في الشاهد
الثامن والعشرين بعد المائتين . وهذه أبيات منها : الرمل ( اعقلي ن كنت لما تعقلي
** ولقد أفلح من كان عقل )
____________________
( فلقد أعوص بالخصم وقد **
أملأ الجفنة من شحم القلل ) ( ولقد تحمد لما فارقت ** جارتي والحمد من خير الخول )
( وغلام أرسلته أمه ** بألوك فبذلنا ما سأل ) ( أو نهته فأتاه رزقه ** فاشتوى ليلة
ريح واجتمل ) ( من شواء ليس من عارضة ** بيدي كل هضوم ذي نزل ) ( فإذا جوزيت قرضاً
فاجزه ** إنما يجزي الفتى ليس الجمل ) ( أعمل العيس على علاتها ** إنما ينجح أصحاب
العمل ) ( وإذا رمت رحيلاً فارتحل ** واعص ما يأمر توصيم الكسل ) ( واكذب النفس
إذا حدثتها ** إن صدق النفس يزري بالأمل ) ( غير أن لا تكذبنها في التقى ** واخزها
بالبر لله الأجل )
____________________
قوله : اعقلي إن كنت . . .
إلخ أعوص بالخصم إذا لوى عليه أمره .
وقال الطوسي : أعوص : أركب به الأمر العويص أي : الشديد . ويقال : أعوص به أي :
آتيه بالعويص . ويقال : أعوص به أي : أحمله على العوصاء وهي الشدة . والجفنة بفتح
الجيم : القصعة .
وأراد بالقلل الأسنمة : جمع سنام والواحد قلة . وقلة كل شيء : أعلاه وأرفعه . يقول
: إني وإن شبت فإني أنفع وأضر . )
وقوله : ولقد تحمد . . . . إلخ جارتي فاعل تحمد . والخول بفتح الخاء المعجمة :
العطية .
وقوله : وغلام أرسلته . . . إلخ الواو واو رب . والألوك بفتح الهمزة : الرسالة
ومنه ألكني السلام إلى فلان أي : أبلغ عني السلام .
وقوله : أو نهته فأتاه . . . إلخ معطوف على أرسلته أي : رب غلام نهته أمه عن
السؤال منا حياء أو قنوعاً فبعثنا إليه بما اشتوى واجتمل .
يريد : إننا ننعم على الفقير على كل حال سواء جاء يطلب أو منع من الطلب .
يقال : شويت اللحم واشتويته . وإذا شويته فنضج قلت : قد انشوى بالنون لا غير .
واجتمل : اتخذ الجميل بفتح الجيم وهو الشحم المذاب . يقال : اجتمل
____________________
أي : أذاب الشحم . وفي
الحديث : لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها .
وقال الطوسي : ويقال : اجتمل اللحم أي : طبخه بالشحم ليس معه ماء وذلك إذا قلاه به
.
وقوله : ليلة ريح أي : ليلة برد من الشتاء . وهذا غاية الكرم فإن شدة العرب وبؤسهم
في الشتاء لعد النبات .
وهذا البيت استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ولهم ما يدعون على أن يدعون
افتعال من الدعاء أي : يدعون لأنفسهم كما في اشتوى واجتمل أي : شوى لنفسه وجمل
لنفسه . ومثله في الصحاح قال : اشتويت : اتخذت شواء . وأنشد هذا البيت .
وقوله : من شواء . . . إلخ من متعلقة باشتوى في البيت المتقدم . قال صاحب الصحاح :
شويت اللحم شياً والاسم الشواء . والعارضة : الناقة التي أصابها كسر أو عرض فنحرت
.
والهضوم بفتح الهاء وضم المعجمة : الفتى الذي يهتضم ماله يقطع منه ويكسر . والنزل
بفتح النون والزاي : المعروف والخير .
وقوله : فإذا أقرضت . . . إلخ بالبناء للمفعول يقال : أقرضني فلان أي : أعطاني
قرضاً .
والقرض : ما تعطيه من المال لتقضاه . والقرض هنا : ما سلف من إحسان أو إساءة .
قال أمية بن أبي الصلت : البسيط
____________________
( لا تخلطن خبيثات بطيبة
** واخلع ثيابك منها وانج عريانا ) ( كل امرئ سوف يجزى قرضه حسناً ** أو سيئاً
ومدينا كالذي دانا ) وزعم العيني أن قرضاً هنا مفعول مطلق . )
وقال الزجاج عند تفسير قوله تعالى : من ذا الذي يقرض الله قرضاً حسناً : معنى
القرض في اللغة : البلاء السيئ والبلاء الحسن . العرب تقول : لك عندي قرض حسن وقرض
سيئ . وأصل القرض ما يعطيه الرجل ليجازى عليه . وأنشد بيت لبيد وبيت أمية .
وقوله : فاجزه أمر من الجزاء . قال صاحب المصباح : جزى يجزي مثل قضى يقضي وزناً
ومعنى . وفي الدعاء : جزاه الله خيراً أي : قضاه له وأثابه عليه وجزيت الدين :
قضيته .
وروي : فإذا جوزيت قرضاً فاجزه قال العيني : هما بمعنى واحد . وليس كذلك لأن
الجزاء لا يكون إلا بعد الإقراض لا على الجزاء .
وقوله : إنما يجزي الفتى . . . إلخ بالبناء للمعلوم والفتى فاعله . وزعم العيني
أنه بالبناء للمجهول والفتى نائب الفاعل . وكأنه لم يتصور المعنى . ومعناه أن الذي
يجزي بما يعامل به من حسن أو قبيح هو الإنسان لا البهيمة .
قال الزمخشري في المستقصى وقيل : الفتى السيد اللبيب . والعرب تقول للجاهل : يا
جمل . أي : إنما يجزي اللبيب من الناس لا الجاهل . يضرب في الحث على مجازاة الخير
والشر . انتهى .
وعلى هذا فيكون للجمل هنا موقع لا أنه جاء للقافية فقط كما زعم الطوسي . والجمل
كنيته عند العرب أبو أيوب . قال ابن الأثير في المرصع كني الجمل به
____________________
لصبره على المسير والأحمال
تشبيهاً بصبر أيوب عليه السلام .
وإلى هذا لمح علي بن العباس الشهير بابن الرومي في شعر لبيد وقد ضمنه في شعره
هاجياً وزير المعتضد أبا أيوب سليمان بن عبد الله فقال : الرمل ( يا أبا أيوب هذي
كنية ** من كنى الأنعام قدماً لم تزل ) ( ولقد وفق من كناكها ** وأصاب الحق فيها
وعدل ) ( أنت شبه للذي تكنى به ** ولبعض الخلق من بعض مثل ) ( لست ألحاك على ما
سمتني ** من قبيح الرد أو منع النفل ) ( قد قضى قول لبيد بيننا ** إنما يجزي الفتى
ليس الجمل ) ( كم حدوناك لترقى في العلا ** وأبى الله فلا تعل هبل ) )
ولم أر ذكر أيوب واشتقاقه في كتب اللغو المدونة كالقاموس والعباب والصحاح مع كثرة
دورانه في الألسنة ولا في مفردات القرآن مع أنه مذكور فيه .
وفي المعربات للجواليقي : قال أبو علي : وقياس همزة أيوب أن تكون أصلاً زائدة لأنه
لا يخلو أن يكون فيعولاً أو فعلولا .
فإن جعلته فيعولاً كان قياسه لو كان عربياً أن يكون من الأوب مثل قيوم ويمكن أن
يكون فعولاً مثل سفود وكلوب وإن لم يعلم في الأمثلة هذا لأنه لا ينكر أن يجيء
العجمي على مثال لا يكون في العربي . ولا يكون من
____________________
الأوب وقد قلبت الواو فيه
إلى الياء لأن من يقول : صيم في صوم لا يقلب إذا تباعدت من الطرف فلا يقول : إلا
صوام . وكذلك هذه العين إذا تباعدت من الطرف وحجز الواو بينه وبين الآخر لم يجز
فيه القلب . انتهى .
فأجاز أن يكون من مادة أوب ومن مادة أيب والمادتان مذكورتان في القاموس وفي غيره
الأولى فقط .
وقوله : أعمل العيس . . . إلخ أعمل : أمر من الإعمال وهو الإشغال .
والعيس : الإبل البيض . وروى : العنس بالنون وهي الناقة الشديدة . والعلات بالكسر
: الحالات جمع علة بمعنى الحالة .
وقوله : وإذا رمت رحيلاً . . . إلخ توصيم : فاعل يأمر والمفعول محذوف أي : يأمره .
والتوصيم بالصاد المهملة هو في الجسد كالتكسير والفترة ووصمته الحمى بالتشديد إذا
أحدثت فيه فترة وتكسيراً . وهو من الوصم وهو الصدع في العود من غير بينونة .
والوصم أيضاً : العيب والعار .
قال الزمخشري في المستقصى : هذا المصراع مثل يضرب في الحث على الجسارة أي : حدثها
بالظرف وبلوغ الأمر إذا هممت بأمر لتنشطها للإقدام ولا تنازعها بالخيبة فتثبطها .
انتهى .
وقوله : إن صدق . . . إلخ يعني إذا حدثت نفسك بالموت لم تعمر شيئاً ولم تؤثل مالاً
وفسد عليك عيشك فأزرى ذلك بأملك . والإزراء بتقديم المعجمة على المهملة : النقص .
____________________
قال بعضهم : الكامل ( وإذا صدقت النفس لم تترك لها ** أملاً ويأمل ما اشتهى
المكذوب ) وأورد هذا البيت صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ونعلم ما توسوس به نفسه
على أن ما )
مصدرية فإنه يقال : حدث نفسه بكذا كما يقولون : حدثته به نفسه .
وقوله : غير أن لا تكذبنها هو استثناء من قوله : اكذب النفس . واخزها بالمعجمتين :
أمر من خزاه يخزوه خزواً إذا ساسه وقهره . والباء متعلقة به ولله متعلق بالبر .
والأجل : أفعل تفضيل .
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد السبعمائة ) ( لم يك الحق على أن هاجه
** رسم دار قد تعفى بالسرر ) على أن حذف نون يكن المجزوم الملاقى للساكن جائز عند
يونس . وقال السيرافي : هذا شاذ .
والبيت أنشده أبو زيد في نوادره مع بيت آخر بعده وهو :
____________________
( غير الجدة من عرفانه **
خرق الريح وطوفان المطر ) وقال بعدهما : لا أعرف بيتاً حذفت منه النون من يكن مع
الألف واللام غير هذا البيت .
وهذا الحصر غير صحيح فقد سمع في غيره قال ابن صخر الأسدي : الطويل ( فإن لا تك
المرآة أبدت وسامة ** فقد أبدت المرآة جبهة ضيغم ) قال ابن السراج في الأصول :
قالوا : لم يكن الرجل لأن هذا موضع تحرك فيه النون والنون إذا وليها الألف واللام
للتعريف لم تحذف إلا أن يضطر إليه شاعر فيجوز ذك على قبح واضطرار .
وأنشد هذين البيتين .
وكذلك ذهب إلى أنه ضرورة أبو علي في كتاب الشعر وابن عصفور في الضرائر .
وقال ابن جني في سر الصناعة : أنشد قطرب وقرأناه على بعض أصحابنا برفعه إليه : لم
يك الحق سوى أن هاجه البيت أي : لم يكن الحق . وكان حكمه إذا وقعت النون موقعاً
تحرك فيه فتقوى بالحركة أن لا يحذفها وحذف النون من يكن أقبح من حذف التنوين ونون
التثنية والجمع لأن النون في يكن أصل وهي لام الفعل والتنوين والنون زائدتان
فالحذف فيهما أسهل منه في لام الفعل . وحذف النون من يكن أيضاً أقبح من حذف نون من
في قوله : المنسرح
____________________
غير الذي قد يقال م الكذب
أي : من الكذب فلأن يكن أصله يكون حذفت منه الواو لالتقاء الساكنين فإذا حذفت منه
)
النون أيضاً لالتقاء الساكنين أجحفت به لتوالي الحذفين لا سيما من وجه واحد عليه .
هذا قول أصحابنا في هذا البيت .
وأرى أنا شيئاً آخر غير ذلك وهو أن يكون جاء بالحق بعد ما حذق النون من يكن فصار
يك مثل قوله : ولم تك شيئاً فلما قدره يك جاء بالحق بعد ما جاز الحذف في النون وهي
ساكنة تخفيفاً فبقي محذوفاً بحاله فقال : لم يك الحق . ولو كان قدره يكن ثم جاء
بالحق لوجب أن يكسر نونه لالتقاء الساكنين .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن تعليه يقتضي قياس هذا الحذف . وهذا الذي ادعاه لنفسه هو لشيخه أبي علي
في المسائل العسكرية قال في آخرها بعد إنشاد البيت : إن قلت فيه إن الجزم لحقه قبل
لحاق ونظير هذا إنشاد من أنشد : الوافر فغض الطرف إنك من نمير
____________________
حرك الساكن الأول فلحق
الساكن الثاني وقد مضى الحذف بالفتح للساكن الأول فكذلك لحق الساكن وقد مضى الحذف
في الحرف . وإن شئت قلت : إن الحركة هنا كانت لالتقاء الساكنين لم يعتد بها وكان
الحرف في نية سكون فكما كان يحذفها ساكنة كذلك يحذفها إذا كانت في نية السكون .
انتهى كلامه .
وقوله : على أن هاجه ظرف مستقر في موضع الخبر لكان . والحق يطلق على معان منها وهو
المراد هنا : الموجود بحسب مقتضى الحكمة أي : ليس بلائق بالعاشق أن يهيج حزنه
الرسم الدائر .
وهاج هنا متعد بمعنى أثار والهاء : مفعول مقدم ضمير العاشق في بيت قبله وهو على
حذف مضاف أي : هاج حزنه ووجده . ورسم : فاعل هاج وهو أثر الدار وجملة : قد تعفى في
موضع الصفة لرسم . وتعفى : مبالغة عفا الرسم أي : دثر ودرس وقوله : بالسرر ظرف
مستقر في موضع الصفة لدار فقد وصف المضاف والمضاف إليه .
والسرر هنا ضبطه أبو حاتم بفتح السين والراء المهملتين وقد يكسر الأول وكل منهما
اسم قال ياقوت في معجم البلدان : قال نصر : السرر بالتحريك : واد يدفع من اليمامة
إلى أرض حضرموت . والسرر بكسر أوله قال السكري في قول أبي ذؤيب : المتقارب . ) (
بآية ما وقفت والركا ** ب بين الحجون وبين السرر ) هو موضع على أربعة أميال من مكة
حرسها الله تعالى عن يمين الجبل بطريق منى .
____________________
وكان عبد الصمد بن علي اتخذ عنده مسجداً كان به شجرة ذكر أنه سر تحتها سبعون نبياً
أي : قطعت سررهم . انتهى .
وكذا قال ياقوت ناقلاً عن الأزهري : عن ابن عمر أنه سر تحتها سبعون نبياً سمي
سرراً لذلك .
ثم قال ياقوت : وروى المغاربة : السرر : واد على أربعة أميال من مكة عن يمين الجبل
قالوا : هو بضم السين وفتح الراء الأولى قالوا : كذا رواه المحدثون بلا خلاف .
قال الرياشي : المحدثون يضمونه وهو إنما هو السرر بالفتح . وهذا الوادي هو الذي سر
فيه سبعون نبياً أي : قطعت سررهم بالكسر وهو الأصح . انتهى .
وروى : ودثر بدل قوله : بالسرر أي : درس ولم يبق منه شيء . وعلى هذا يكون معطوفاً
على تعفى فيكون صفة لرسم أيضاً .
وقوله : غير الجدة . . . إلخ هذه الجملة صفة لرسم أيضاً . والجدة بكسر الجيم :
مصدر جد الشيء يجد بالكسر جدة هو خلاف القديم . والعرفان بالكسر : مصدر عرفته عرفة
بالكسر وعرفاناً إذا علمته بحاسة من الحواس الخمس فهو مصدر مضاف لمفعوله والهاء
ضمير الرسم وفاعله محذوف . وخرق : فاعل غير وهو بكسر الخاء المعجمة وفتح الراء
المهملة أي : القطع من الريح جمع خرقة .
وروى الأصمعي : خرق بضمتين جمع خريق وهي الريح التي تنخرق في الجبال وغيرها .
وطوفان المطر : كثرته . كذا قال أبو حاتم فيما كتبه على النوادر . يقول : غيرت
كثرة الريح والأمطار ما استجددناه من معرفتنا لهذا الرسم .
والبيتان نسبهما أبو زيد لحسيل بن عرفطة قال : وهو شاعر جاهلي . وحسيل : مصغر حسل
بكسر الحاء وسكون السين المهملة بعدهما لام وهو ولد الضب .
____________________
قال أبو العباس : هو حسيل بفتح الحاء وكسر السين وقال أبو حاتم : وحسين : مصغر حسن
بالنون . وغلطه الأخفش فيه . والله أعلم .
____________________
( أفعال المقاربة ) أنشد
فيه ( الشاهد السادس والأربعون بعد السبعمائة ) الطويل ( إذا غير النأي المجين لم
يكد ** رسيس الهوى من حب مية يبرح ) على أن بعضهم قال : إن النفي إذا دخل على كاد
تكون في الماضي للإثبات وفي المستقبل كالأفعال مستمسكاً بالآية وهذا البيت .
وهذا الفصل في كاد هنا و بعينه عبارة اللباب بتغيير كلمه . قال صاحب اللباب : وإذا
دخل النفي على كاد فهو كسائر الأفعال على الصحيح وقيل : يكون للإثبات وقيل : يكون
في الماضي دون المستقبل تمسكاً بقوله تعالى : وما كادوا يفعلون وبقول ذي الرمة :
إذا غير الهجر المحبين لم يكد إلخ والجواب نه لنفي مقاربة الذبح وحصول الذبح بعد
لا ينافيها ولم يؤخذ من لفظ : وما كادوا بل من لفظ : فذبحوها . انتهى .
قال شارحه الفالي : قوله : وإذا دخل النفي . . . إلخ معناه نفي ما دخل عليه
إدراجاً له في الأمر العام المعلوم من اللغة وهو أنه إذا دخل النفي على فعل أفاد
نفي مضمونه .
وقيل : يكون للإثبات أي : لإثبات الفعل الذي دخل عليه كاد في الماضي وفي المستقبل
.
____________________
أما في الماضي فلقوله تعالى : وما كادوا يفعلون والمراد أنهم قد فعلوا الذبح .
وأما في المضارع فلأن الشعراء خطؤوا ذا الرمة في قوله : ( . . . . . . . . . . . .
. . . . لم يكد ** رسيس الهوى من حب مية يبرح ) وهو أنه يؤدي إلى أن المعنى : إن
رسيس الهوى يبرح ويزول وإن كان بعد طول عهد . فلولا أنهم فهموا في اللغة أن النفي
إذا دخل على المضارع من كاد أفاد إثبات الفعل الواقع بعده لم يكن لتخطئتهم وجه .
وقيل : يكون في الماضي للإثبات دون المستقبل تمسكاً بقوله تعالى : وما كادوا
يفعلون إذ المعنى قد فعلوا كما ذكرنا .
وبقول ذي الرمة : )
إذا غير الهجر البيت إذ المعنى : وما برح حبها من قلبي .
فهذا القائل تمسك بقول ذي الرمة والقائل الأول تمسك بتخطئة الشعراء ذا الرمة .
والجواب أنه لنفي مقاربة الذبح وحصول الذبح بعد أي : بعد أن نفى مقاربة الذبح لا
ينافيها . ولم يؤخذ من لفظ : كادوا بل من لفظ : فذبحوها .
وهذا جواب عن القولين المذكورين فإنا لا نسلم أن النفي الداخل على كاد يفيد
الإثبات لا في الماضي ولا في المستقبل بل هو باق على وضعه وهو نفي المقاربة . وليس
ما تمسكوا به بشيء أما في الآية فهو أن معناه أن بني إسرائيل ما قاربوا أن يفعلوا
للإطناب في السؤالات ولما سبق في قولهم : أتتخذنا هزواً وهذا التعنت دليل على أنهم
كانوا لا يقاربون فعله فضلاً عن نفس الفعل .
ونفي المقاربة قد يترتب عليه الفعل وقد لا يترتب وهو قوله : وحصول الذبح بعد لا
ينافيها .
وأما إثبات الذبح فمأخوذ من الخارج وهو قوله :
____________________
فذبحوها وأما البيت فكذلك
معناه لأن حبها لم يقارب أن يزول فضلاً عن أن يزول . وهو مبالغة في نفي الزوال
فإنك إذا قلت : ما كاد زيد يسافر فمعناه أبلغ من : ما يسافر زيد أي : لم يسافر ولم
يقرب من أن يسافر أيضاً . فالبيت مستقيم ولا وجه لتخطئة الشعراء إياه . انتهى .
وقد بين الشارح المحقق فساد هذين القولين في آخر الباب . وقوله كغيره : إن الشعراء
خطؤوا ذا قال المرزباني في الموشح : حدثني أحمد بن محمد الجوهري وأحمد بن إبراهيم
الجمال قالا : حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال : حدثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن
المغيرة بن حبيب بن المهلب بن أبي صفرة قال : حدثنا عبد الصمد ابن المعذل عن أبيه
عن جده غيلان بن الحكم قال : قدم علينا ذو الرمة الكوفة فوقف على راحلته بالكناسة
ينشدنا قصيدته الحائية فلما بلغ إلى هذا البيت : إذا غير النأي المحبين . . . . .
. . . . . . إلخ فقال له ابن شبرمة : يا ذا الرمة أراه قد برح . ففكر ساعة ثم قال
: ( إذا غير النأي المحبين لم أجد ** رسيس الهوى . . . . . . . . . إلخ ) )
قال : فرجعت إلى أبي الحكم بن البختري بن المختار فأخبرته الخبر فقال : أخطأ ابن
شبرمة حيث أنكر عليه وأخطأ ذو الرمة حيث رجع إلى قوله . إنما هذا كقول الله عز وجل
: إذا أخرج يده لم يكد يراها أي : لم يراها ولم يكد . انتهى .
وقال السيد المرتضى في أماليه : روى عبد الصمد بن المعذل عن غيلان
____________________
عن أبيه عن جده غيلان قال
: قدم علينا ذو الرمة الكوفة فأنشدنا بالكناسة وهو على راحلته قصيده الحائية إذا
غير النأي المحبين إلخ فقال له عبد الله بن شبرمة : قد برح يا ذا الرمة . ففكر
ساعة ثم قال : إذا غير النأي المحبين لم أجد إلخ قال : فأخبرت أبي بما كان من قول
ذي الرمة واعتراض ابن شبرمة عليه فقال : أخطأ ذو الرمة في رجوعه عن قوله الأول
وأخطأ ابن شبرمة في اعتراضه عليه . وهذا كقول الله تعالى : إذا أخرج يده لم يكد
يراها . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة مطلعها : ( أمنزلتي مي سلام عليكما ** على النأي
والنائي يود وينصح ) وبعده : ( فلا القرب يبدي من هواها ملالة ** ولا حبها إن تنزح
الدار ينزح ) ( أتقرح أكباد المحبين كلهم ** كما كبدي من ذكر مية تقرح ) وقوله :
إذا غير النأي . . . إلخ النأي فاعل غير ومعناه البعد . ورسيس الهوى : مسه . ويبرح
: يزول وهو فعل تام لازم . ومية : اسم معشوقته .
يقول : إن العشاق إذا بعدوا عمن يحبون دب السلو إليهم وزال عنهم ما كانوا يقاسون
وأما أنا
____________________
وزاد على هذا المعنى قوله
في هذه القصيدة : ( أرى الحب بالهجران يمحى فينمحي ** وحبك مياً يستجد ويربح ) أي
: يزيد الحب كما يزيد الربح .
وقوله : فلا القرب يبدي . . . إلخ نزحت الدار : بعدت . يقول : حبها إن بعدت الدار
لم يتغير هو لازم ثابت .
وقوله : أتقرح القرح : الجرح . )
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد السبعمائة ) : الكامل ( ظني بهم كعسى
وهم بتنوفة ** يتنازعون جوائز الأمثال ) على أن أبا عبيدة قال : إن عسى تأتي بمعنى
اليقين كما في البيت .
ونقله عنه عبد الواحد أبو الطيب اللغوي في كتاب الأضداد قال فيه : قال أبو حاتم
وقطرب : عسى تكون شكاً مرة ويقيناً أخرى كما قال تعالى : عسى ربكم أن يرحمكم وعسى
في القرآن واجبة .
قال ابن عباس رضي الله عنهما : هي واجبة من الله . وكل ما في القرآن من ذلك فهو
واجب من الله .
____________________
قال أبو عبيدة : ومنه قول ابن مقبل : ظني بهم كعسى البيت أي : ظني بهم كيقين .
انتهى .
واعترض عليه الشارح المحقق بأنه لا يعرف عسى في غير كلام الله لليقين ويجوز أن
يكون معنى : ظني بهم كعسى أي : رجاء مع طمع .
ويؤيد توقفه ما ذهب إليه ابن السكيت في كتاب الأضداد قال فيه : الظن يقين والظن شك
ومن اليقين قول ابن مقبل : ( ظن بهم كعسى وهم بتنوفة ** يتنازعون جوائز الأمثال )
ويروى : جوائب أي : تجوب البلاد . يقول : اليقين منهم كعسى وعسى شك . انتهى .
فجعل اليقين للظن وعسى للشك على أصلها . والرواية عنده : ظن بهم كعسى بتنوين ظن من
غير إضافة إلى الياء . والباء متعلقة بمحذوف على أنه صفة لظن وهو مبتدأ وخبره كعسى
أو خبره محذوف أي : للناس ظن بهم فالياء متعلقة بظن والكاف اسم صفة لظن وجملة :
وهم والتنوفة : الفلاة . ويتنازعون : يتجاذبون . وجوائز الأمثال أي : الأمثال
السائرة في البلاد .
وبمعناه جوائب الأمثال من جاب الوادي أو المكان يجوبه جوباً إذا سلكه وقطعه . وأما
على رواية ظني بالإضافة فهو مبتدأ وخبره كعسى أي : يقيني بهم كشك في حال كونهم في
الفلاة إذ ليست أعلم الغيب . )
يريد أنه لا يقين له بهم . وبهذه الرواية فسر أبو حاتم الظن في البيت باليقين نقله
عنه عبد الواحد المذكور قال في كتابه الأضداد : قال أبو حاتم : وأما قوله تعالى :
وظن أنه الفراق فأظنه يستيقن .
____________________
قال الشاعر في الظن بمعنى اليقين .
ظني بهم كعسى البيت والجوائز : التي تجوز البلاد أي : تقطعها . يقول : يقيني بهم
كعسى . انتهى .
ولم أقف على تتمة هذا البيت وهو لابن مقبل وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد
الثاني والثلاثين .
ثم رأيت في كتاب الأضداد لأبي بكر محمد بن القاسم بن بشار الأنباري قال : عسى لها
معنيان متضادان : أحدهما : الشك والطمع والآخر : اليقين . قال تعالى : وعسى أن
تكرهوا وقال بعض المفسرين : عسى في جميع كتاب الله واجبة . وقال غيره : عسى في
القرآن واجبة إلا في موضعين في سورة بني إسرائيل : عسى ربكم أن يرحمكم يعني بني
النضير فما رحمهم ربهم بل قاتلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأوقع العقوبة بهم
.
وفي سورة التحريم : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً فما أبدله الله بهن أزواجاً
ولا بن منه حتى قبض عليه السلام . وقال تميم بن أبي بن مقبل في كون عسى إيجاباً :
____________________
( ظن بهم كعسى وهم بتنوفة
** يتنازعون جوائز الأمثال ) أراد : ظن بهم كيقين . ويروى : سوائر الأمثال . ويروى
: جوائب الأمثال .
وأنشدنا أبو العباس : الوافر عسى الكرب الذي أمسيت فيه البيت فعسى في هذا الباب
على معنى الشك . انتهى كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد السبعمائة ) الرجز
____________________
على أن المتأخرين استدلوا
بهذا وبالمثل وهو : عسى الغوير أبؤساً بوقوع المفرد منصوباً بعد مرفوع على أن أنْ
والفعل في قولهم : عسى زيد أن يفعل في موضع نصب على أنه خبر لعسى وهي تعمل عمل كان
.
قال ابن هشام في شرح أبيات الناظم : طعن في هذا البيت عبد الواحد الطراح في كتابه
بغية الآمل ومنية السائل . فقال : هو بيت مجهول لم ينسبه الشراح إلى أحد فسقط
الاحتجاج به .
ولو صح ما قاله لسقط الاحتجاج بخمسين بيتاً من كتاب سيبويه فإن فيه ألف بيت قد عرف
قائلوها وخمسين بيتاً مجهولة القائلين . انتهى .
أقول : الشاهد الذي جهل قائله إن أنشده ثقة كسيبويه وابن السراج والمبرد ونحوهم
فهو مقبل يعتمد عليه ولا يضر جهل قائله فإن الثقة لو لم يعلم أنه من شعر من يصح
الاستدلال بكلامه لما أنشده .
ومراد عبد الواحد أنه لم ينسبه الشراح إلى أحد ممن أنشده من الثقات أو إلى قائل
معين يحتج بكلامه .
ثم قال ابن هشام : وقد حرف ابن الشجري هذا الرجز فأنشده : الرجز ( قم قائماً قم
قائماً ** إني عسيت صائماً )
____________________
وإنما قم قائماً صدر رجز
آخر يأتي في باب الحال ولا يتركب قوله : إني عسيت صائماً عليه بل أصله : ( أكثرت
في العذل ملحاً دائماً ** لا تكثرن إني عسيت صائماً ) فإن معناه : أيها العاذل
الملح في عذله إنه لا يمكن مقابلة كلامك بما يناسبه من السب فإنني صائم . وهو مقتبس
من الحديث : فليقل إني صائم . ويروى : لا تلحني مكان لا تكثرن وهو بفتح التاء .
يقال : لحيته ألحاه لحياً إذا لمته .
والشاهد في قوله : صائماً فإنه اسم مفرد جيء به خبراً عسى .
كذا قالوا والحق خلافه وإن عسى هنا فعل تام خبري لا فعل ناقص إنشائي . يدلك على
أنه خبري وقوعه خبراً لإن ولا يجوز بالاتفاق : إن زيداً هل قام وأن هذا الكلام
يقبل التصديق )
والتكذيب وعلى هذا فالمعنى : إني رجوت أن أكون صائماً . فصائماً خبر لكان وأن
والفعل مفعول لعسى . وسيبويه يجيز حذف أن والفعل إذا قويت الدلالة على المحذوف .
ألا ترى أنه قدر في قوله : من لد شولاً
____________________
ومن وقوع عسى فعلاً خبرياً
قوله تعالى : قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا ألا ترى أن الاستفهام
طلب فلا يدخل على الجملة الإنشائية وأن المعنى قد طمعتم أن لا تقاتلوا إن كتب
عليكم القتال .
ومما يحتاج إلى النظر قول القائل : عسى زيد أن يقوم فإنك قد قدرت عسى فيه فعلاً
إنشائياً كما قاله النحويون أشكل إذ لا يسند فعل الإنشاء إلا إلى منشئه وهو
المتكلم كبعت واشتريت وأقسمت وقبلت وحررتك . وأيضاً فمن المعلوم أن زيداً لم يترج
وإنما المترجي المتكلم .
وإن قدرته خبراً كما في البيت والآية فليس المعنى على الإخبار ولهذا لا يصح تصديق
قائله ولا تكذيبه .
فإن قلت : يخلص من هذا الإشكال أنهم نصوا على أن كان وما أشبهها أفعال جارية مجرى
الأدوات فلا يلزم فيها حكم سائر الأفعال .
قلت : قد اعترفوا مع ذلك بأنها مسندة إذ لا ينفك الفعل المركب عن الإسناد إلا إن
كان زائداً أو مؤكداً على خلف في هذين أيضاً . وقالوا : إن كان مسندة إلى مضمون
الجملة .
وقد بينا أن الفعل الإنشائي لا يمكن إسناده لغير المتكلم . وإنما الذي يخلص من
الإشكال أن يدعى أنها هنا حرف بمنزلة لعل كما قال سيبويه والسيرافي بحرفيتها في
نحو : عسى وعساك وعساه .
وقد ذهب أبو كبر وجماعة إلى أنها حرف دائماً . وإذا حملناها على الحرفية زال
الإشكال إذ الجملة الإنشائية حينئذ اسمية لا فعلية كما تقول : لعل زيداً يقوم .
فاعرف الحق ودع التقليد واستفت نفسك وإن أفناك الناس .
هذا كلام ابن هشام وهو خلاف مسلك الشارح المحقق . )
وقال ابن هشام في شرح المثل : إن عسى للإشفاق والغوير : ماء لكلب
____________________
معروف . قال ابن الكلبي .
وهو في الأصل مصغر غور أو غار . والأبؤس : جمع بؤس وهو الشدة .
وأصل المثل أن الزباء لما قتلت جذيمة جاء قصير إلى عمرو بن عدين فقال : ألا تأخذ
ثأر خالك فقال : كيف السبيل إلى ذلك .
فعمد قصير إلى أنفه فجدعها فقيل : لأمر ما جدع قصير أنفه وأتى الزباء وزعم أنه فر
إليها وأنهم آذوه بسببها وأقام في خدمتها مدة يتجر لها ثم إنه أبطأ عنها في السفر
فسألت عنه فقيل : أخذ في طريق الغوير فقالت : عسى الغوير أبؤساً .
ثم لم يلبث أن جاء بالجمال عليها صناديق في جوفها الرجال فلما دخلوا البلد خرجوا
من الصناديق وانضاف إليهم الرجال الموكلون بالصناديق فقتلوا في الناس قتلاً ذريعاً
وقتلوا أهل الزباء وأسروها وفقؤوا عينها وأتوا بها عمراً فقتلها .
وقيل : إنها امتصت خاتماً كان معها مسموماً . ومعنى المثل : لعل الشر يأتي من قبل
الغوير .
يضرب للرجل يتوقع الشر من جهة بعينها .
وجاء رجل إلى عمر رضي الله عنه يحمل لقيطاً فقال له عمر : عسى الغوير أبؤساً . قال
ابن الأعرابي : عرض به أي : لعلك صاحب اللقيط .
ووهم ابن الخباز في أصل المثل فقال : قالته الزباء حين ألجأها قصير إلى غارها .
انتهى .
وفي الصحاح : قال الأصمعي : أصله أنه كان غار فيه ناس فانهار عليهم أو أتاهم فيه
عدو فقتلهم فصار مثلاً لكل شيء يخاف أن يأتي منه شر .
قلت : وتكون الزباء تكلمت به تمثلاً . وهذا حسن لأن الزباء فيما زعموا رومية فكيف
يحتج بكلامها وقد يقال : وجه الحجة أن العرب تمثلت به بعدها .
واختلف في ناصب أبؤساً فعند سيبويه وأبي علي أنه عسى وأن ذلك من مراجعة الأصول .
____________________
وقال ابن الأعرابي : يصير محذوفة . وقال الكوفيون : التقدير : أن يكون أبؤساً
كقوله : الوافر لعمر أبيك إلا الفرقدان ومنع سيبويه أن يكون إضمار فيه لأن فيه
إضمار الموصول وقدر إلا صفة . وقيل التقدير : يكون أبؤساً وفيه مجيء الفعل بعد عسى
بغير أن وإضمار كان غير واقعة بعد أداة تطلب الفعل . وقيل التقدير : عسى الغوير يأتي
بأبؤس وفيه ترك أن وإسقاط الجار توسعاً . )
ولكن يشهد له قول الكميت : البسيط ( قالوا أساء بنو بكر فقلت لهم ** عسى الغوير
بإبآس وإغوار ) وتلخص : أن أبؤساً خبر لعسى أو لكان أو لصار أو مفعول به . وأحسن
من ذلك كله أن يقدر يبأس أبؤساً فيكون مفعولاً مطلقاً ويكون مثل قوله تعالى : فطفق
مسحاً أي : يمسح مسحاً وقول أبي دهبل الجمحي : الطويل
____________________
( لأوشك صرف الدهر تفريق
بيننا ** ولا يستقيم الدهر والدهر أعوج ) أي : لأوشك يفرق بيننا تفريقاً ثم حذف
الفعل وأقيم المصدر مقامه وأضيف إلى ظرفه .
انتهى كلام ابن هشام وهذا خلاف ما اختاره في المغني قال فيه : الصواب أنهما أي :
البيت والمثل مما حذف فيه الخبر أي : يكون أبؤساً وأكون صائماً لأن في ذلك إبقاء
لهما على الاستعمال الأصلي ولأن المرجو كونه صائماً لا نفس الصائم . انتهى .
واعترض عليه بأنه إنما يكون ذلك إبقاء على الاستعمال الأصلي أن لو جعل التقدير أن
يكون وقد ذكر جميع أوجه عسى في الاستعمال ومذاهب النحويين فيها في مغني اللبيب .
وقول الشاعر : أكثرت في العذل . . . . إلخ يجوز أن يكون بيتاً مصرعاً من تام الرجز
من ضربه الأول وأن يكون بيتين من مشطوره . وقد نسب إلى رؤبة بن العجاج ولم أجده في
ديوان رجزه .
والله أعلم .
وأنشد بعده : لعمر أبيك إلا الفرقدان هذا عجز وصدره : وكل أخ مفارقه أخوه
____________________
وتقدم شرحه مفصلاً في
الشاهد الأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد السبعمائة ) الطويل ( هممت ولم أفعل
وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله ) كذا قدره أبو علي في كتاب الشعر
وأورد له نظيراً . والمراد : هممت بقتله ولم أفعله وكدت أقتله .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ولقد همت به وهم بها على أن الهم القصد من هم
بالأمر : قصده وعزم عليه كما في البيت . ومنه الهمام للملك لأنه إذا قصد شيئاً
أمضاه .
والحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة . والمعنى : قصدت قتل عثمان بن عفان رضي الله عنه
ولم أفعل ما قصدته وقاربته وليتني تركت زوجاته يبكين عليه .
والبيت من أبيات سبعة لضابئ البرجمي قالها في الحبس ومات فيه أوردها أبو تمام في
كتاب مختار أشعار القبائل وهي :
____________________
( من قافل أدنى الإله
ركابه ** يبلغ عني الشعر إذ مات قائله ) ( فلا يقبلن بعدي امرؤ سيم خطة ** حذار
لقاء الموت والموت نائله ) ( ولا تتبعيني إن هلكت ملامة ** فليس بعار قتل من لا
تقاتله ) ( فإني وإياكم وشوقاً إليكم ** كقابض ماء لم تطعه أنامله ) ( هممت ولم
أفعل وكدت وليتني ** تركت على عثمان تبكي حلائله ) ( وقائلة لا يبعدن ذلك الفتى **
إذا احمر من برد الشتاء أصائله ) وقوله : من قافل استفهام أي : من راجع وجملة :
أدنى الإله ركابه دعائية أي : قرب الله إبله إلى وطنه .
وقوله : سيم خطة أي : كلف أمراً . ومفعول يقبلن محذوف .
وقوله : ولا تتبعيني خطاب لامرأته . وقوله : فليس بعار . . . إلخ أي : قتل من لا
تقدر على مقاتلته لأن مات في حبس الإمام .
وقوله : وقائلة أي : رب قائله . ولا يبعدن أي : لا يهلكن من بعد من باب فرح إذا
هلك .
وقوله : إذا احمر من برد . . . إلخ يريد أنه مضياف في الشتاء وهو زمن القحط عند
العرب لعدم نبات الأرض . )
وقوله : لا يبعد الله من أبعده أي : أهلكه . وضابئ آخره همزة بعد موحدة وأوله ضاد
معجمة وهو قائل الشعر . والكبش : السيد الشجاع .
وضابئ هذا هو ضابئ بن الحارث بن أرطاة من بني غالب بن حنظلة التميمي البرجمي بضم
الموحدة وسكون المهملة وضم الجيم نسبة إلى البراجم
____________________
وهم ست بطون من أولاد
حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهم : قيس وعمرو وغالب وكلفة والظليم ومكاشر
لقبوا بالبراجم لأن رجلاً منهم اسمه حارثة بن عامر قال لهم : تعالوا فلنجتمع مثل
براجم يدي هذه وضابئ أدرك النبي صلى الله عليه وسلم وكن يقنص الوحش فاستعار من بعض
بني جرول بن نهشل كلباً اسمه قرحان بضم القاف وسكون المهملة بعدها حاء مهملة وكان
يصيد به البقر والظباء والضباع فطال مكثه عنده فطلبوه فامتنع فركبوا يطلبون كلبهم
فقال لامرأته : اخلطي لهم في قدرك من لحوم البقر والظباء والضباع فإن عافوا بعضاً
وأكلوا بعضاً تركوا كلبك لك وإن هم لم يفرقوا فلا كلب لك .
فلما أطعمهم أكلوه ثم أخذوا كلبهم فغضب ضابئ ورمى أمهم بالكلب وقال : الطويل (
تجشم نحوي وفد قرحان سربخاً ** تظل به الوجناء وهي حسير ) ( فأردفتهم كلباً فراحوا
كأنما ** حباهم بتاج الهرمزان أمير ) ( وقلدتهم ما لو رميت متالعاً ** به وهو مغبر
لكاد يطير ) ( فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** أمامة مني والأمور تدور ) ( فأمكم لا
تتركوها وكلبكم ** فإن عقوق الوالدات كبير
____________________
) ( فإنك كلب قد ضريت بما
ترى ** سميع بما فوق الفراش بصير ) ( إذا عثنت من آخر الليل دخنة ** يبيت له فوق
الفراش هرير ) فلما بلغهم الشعر وأنه رمى أمهم بالكلب استعدوا عليه عثمان بن عفان
رضي الله عنه فقال له عثمان رضي الله عنه : ما أعرف في العرب أفحش ولا ألأم منك
فإني ما رأيت أحداً رمى أحداً بكلب غيرك وإني لأظنك لو كنت في زمن النبي صلى الله
عليه وسلم لنزل فيك وحي فحبسه في السجن فقال في الحبس أبياتاً منها : الطويل ( ومن
يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب ) وسيأتي إن شاء الله مع الأبيات
في إن المشددة . )
فلما سمعها أخرجه من الحبس فأخذ سكيناً فجعلها في أسفل نعله ليفتك بعثمان فأعلم
بذلك فضربه ورده إلى الحبس إلى أن مات فيه . وفي ذلك قال الأبيات التي منها : هممت
ولم فعل وكدت وليتني . . . . . . . . . . . . . . البيت ولم يزل في الحبس حتى
أصابته الدبيلة فأنتن فمات في الحبس . ولما قتل عثمان جاء عمير بن ضابئ فرفسه
برجله فكسر ضلعين من أضلاعه وقال : حبست أبي حتى مات ولما كان زمن الحجاج واستعرض
أهل الكوفة ليوجههم إلى المهلب عرض عليه فيهم عمير بن ضابئ وهو شيخ كبير يرعش
كبراً فقال : أيها الأمير إني من الضعف على ما ترى ولي ابن أقوى على الأسفار مني
أفتقبله بديلاً قال : نعم . فلما ولى قال قائل : أتدري من هذا أيها الأمير قال :
لا قال : هذا عمير ابن
____________________
ضابئ البرجمي الذي يقول
أبوه : وحكى القصة فقال الحجاج : ردوه علي . فلما رد قال : أيها الشيخ هلا بعثت
إلى عثمان بديلاً يوم الدار إن في قتلك لصلاحاً للمسلمين يا حرسي اضرب عنقه وسمع
ضوضاة فقال : ما هذا قالوا : البراجم جاءت لتنصر عميراً . قال : أتحفوهم برأسه
فولوا هاربين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( عسى
الكرب الذي أمسيت فيه ** يكون وراءه فرج قريب ) على أنه حذف أن من خبر عسى وهو
قليل والتقدير : أن يكون وراءه . . . . إلخ .
____________________
وكذا قال ابن هشام في المغني وهو ظاهر كلام سيبويه قال سيبويه : واعلم أن من العرب
من يقول : عسى يفعل يشبهها بكاد يفعل فيفعل حينئذ في موضع الاسم المنصوب في قوله
عسى الغوير أبؤساً . فهذا مثل من أمثال العرب أجروا فيه عسى مجرى كان .
قال هدبة : وقال : الطويل ( عسى الله يغني عن بلاد ابن قادر ** بمنهمر جون الرباب
سكوب ) وقال : الوافر ( فما كيس فنجا ولكن ** عسى يغتر بي حمق لئيم ) اه .
قال الأعلم : الشاهد في هذه الأبيات إسقاط أن ضرورة ورفع الفعل . والمستعمل في
الكلام أن يكون كما قال تعالى : عسى أن يبعثك ربك و عسى الله أن يأتي بالفتح .
والمنهمر : السائل . والجون : الأسود . والرباب : السحاب . والحمق بكسر الميم :
الأحمق .
____________________
وكذا قال ابن عصفور في كتاب الضرائر وبعد أن أورد هذه الأبيات وغيرها قال : وما
ذكرته من أن استعمال الفعل الواقع في موضع خبر عسى بغير أن ضرورة هو مذهب الفارسي
وجمهور البصريين .
وظاهر كلام سيبويه يعطي أنه جائز في الكلام لأنه قال : واعلم أن من العرب من يقولك
عسى يفعل تشبيهاً بكاد . فأطلق القول ولم يقيد ذلك بالشعر . إلا أنه ينبغي أن لا
يحمل كلامه على عمومه لما ذكره أبو علي من أنها لا تكاد تجيء بغير أن إلا في ضرورة
.
وأيضاً فإن القياس يقتضي أن لا يجوز ذلك إلا في الشعر ولأن استعمالها بغير أن إنما
هو بالحمل على كاد لشبهها بها من حيث جمعتهما المقاربة .
وكاد محمولة في استعمالها بغير أن على الأفعال التي هي للأخذ في الشروع من جهة
أنها لمقاربة )
ذات الفعل فقربت لذلك من الأفعال التي هي للأخذ في الفعل وليست عسى كذلك لأن فيها
تراخياً .
ألا ترى أنك تقول : عسى زيد أن يحج العام وإنما عدت في أفعال المقاربة مع ما فيها
من التراخي من جهة أنها تدخل على الفعل المرجو والفعل المرجو قريب بالنظر إلى ما
ليس بمرجو . فلما كانت محمولة في استعمالها بغير أن على ما هو محمول على غيره ضعف
الحمل فلم تجيء إلا في الضرورة . انتهى .
والبيت من قصيدة لهدبة بن خشرم قالها في الحبس وهي : ( طربت وأنت أحياناً طروب **
وكيف وقد تعلاك المشيب ) ( يجد النأي ذكرك في فؤادي ** إذا ذهلت على النأي القلوب
) ( يؤرقني اكتئاب أبي نمير ** فقلبي من كآبته كئيب )
____________________
( فقلت له : هداك الله
مهلاً ** وخير القول ذو اللب المصيب ) ( فيأمن خائف ويفك عان ** ويأتي أهله الرجل
الغريب ) ( ألا ليت الرياح مسخرات ** بحاجتنا تباكر أو تؤوب ) ( فتخبرنا الشمال
إذا أتتنا ** وتخبر أهلنا عنا الجنوب ) ( فإنا قد حللنا دار بلوى ** فتخطئنا
المنايا أو تصيب ) ( إن يك صدر هذا اليوم ولى ** فإن غداً لناظره قريب ) ( وقد
علمت سليمى أن عودي ** على الحدثان ذو أيد صليب ) ( وأن خليقتي كرم وأني ** إذا
أبدت نواجذها الحروب ) ( أعين على مكارمها وأغشى ** مكارهها إذا كع الهيوب ) ( وقد
أبقى الحوادث منك ركناً ** صليباً ما تؤيسه الخطوب ) ( على أن المنية قد توافي **
لوقت والنوائب قد تنوب ) هذا ما أورده القالي في أماليه وزاد بعده الشريف الحسيني
في حماسته : الوافر ( وإني في العظائم ذو غناء ** وأدعى للفعال فأستجيب ) ( وإني
لا يخاف الغدر جاري ** ولا يخشى غوائلي القريب ) ( وكمن من صاحب قد بان عني **
رميت بفقده وهو الحبيب ) ) ( مخافة أن يراني مستكيناً ** عدو أو يساء به قريب ) (
ويشمت كاشح ويظن أني ** جزوع عند نائبة تنوب ) ( فبعدك سدت الأعداء طرقاً ** إلي
ورابني دهر يريب ) ( وأنكرت الزمان وكل أهلي ** وهرتني لغيبتك الكليب ) ( وكنت
تقطع الأبصار دوني ** وإن وغرت من الغيظ القلوب ) الطرب : خفة تصيب الإنسان لفرح
أو حزن . والنأي : البعد . ويؤرقني
____________________
: يسهرني . والاكتئاب :
افتعال من الكآبة وهي الحزن . وأبو نمير قال اللخمي : هو ابن عمه وكان مسجوناً معه
.
وقال ابن هشام في شرح شواهده : هو رجل كان مسجوناً معه فجالسه يوماً وأظهر له
التألم .
وقال العيني : هو رجل من قرابته زار هدبة أيام حبسه فأظهر الحزن . والكآبة . وقوله
: وخير القول ذو اللب أي : قول ذي اللب .
ورواه ابن المستوفي : وخير القول ذو العيج المصيب بالمثناة التحتية والجيم وقال :
وهو مأخوذ من قولهم : ما عجت به أي : لم أرض به .
وإن روى : العنج بالنون فهو الاسم من عنجت البعير أعنجه عنجاً وهو أن يجذب الراكب
قال ابن السيرافي : والعيج من القول : ما ينتفع به وهو مأخوذ من قولهم : ما عدت
بكلامه أي : ما انتفعت . كذا وجدته : العيج بفتح العين والياء .
وقوله : عسى الكرب الذي أمسيت فيه . . . . إلخ الكرب : الهم .
قال ابن المستوفي : روي بفتح التاء وضمها من أمسيت . والنحويون إنما يروونه بالضم
والفتح عندي أولى لأنه يخاطب ابن عمه أبا نمير وكان معه في السجن .
وقوله هذا لابن عمه ليسليه به لما رآه من خوفه أجود من أن يكون يريد به نفسه لأن
في قوله لابن عمه زجراً له : مهلاً أي : امهل يدل على ما ذكرته . ولا يجوز أن يقال
: إن اكتئاب ابن عمه إنما كان حذراً على هدبة لأنه لو كان كذلك لما قال له : مهلاً
ولأن الإنسان أكثر عناية بنفسه من عنايته بغيره .
ولا يمتنع ضم التاء على أن يريد به : لا يضق صدرك بشيء فإن الكرب الذي أمسيت فيه
يكون له فرج قريب فيزول ما عندك . انتهى . )
____________________
وعين اللخمي فتح التاء قال : الرواية عن أبي القاسم الزجاجي ضم التاء وإنما هي تاء
المخاطب لأن ما قبل البيت يدل عليها لأنه يخاطب أبا نمير وهو ابن عمه وكان مسجوناً
معه .
وقال ابن هشام : وراء ظرف مؤنث تصغيره على وريئة وظهور الهمزة في تصغيره دليل على
أنه ليس من واريت كما قال بعضهم . والأظهر أنه بمعنى أمام كقوله تعالى : من ورائه
جهنم وكان وراءهم ملك يأخذ كل سفينة غصباً .
والفرج : انكشاف الهم . وفي يكون ضمير الكرب ويجوز أن تكون ناقصة وتامة وعلى الأول
يكون فرج : مبتدأ وقريب : صفته والظرف : خبر والجملة الاسمية خبر يكون . وعلى
الثاني تكون الجملة حالاً .
ويجوز على الوجهين أن يكون فرج فاعلاً بالظرف على أنه خبر الناقصة وحال من فاعل
التامة . وهذا أرجح من تقديره مبتدأ . وإنما لم أقدر فرج اسم يكون على أنها
الناقصة ووراءه الخبر أو فاعلاً ليكون على أنها التامة ووراءه متعلق بيكون كما فعل
بعضهم لأن فاعل الفعل الواقع في باب كاد لا يكون إلا ضميراً راجعاً للاسم السابق
فلا يجوز كاد زيد يموت أبوه .
وما خرج عن ذلك نادر فلا يحمل عليه مع وجود مندوحة عنه . وكذلك لا يكون اسم يكون
ضمير الشأن كما قدره جماعة لما ذكرنا . انتهى كلامه .
وعان : أسير . وأراد بدار بلوى : السجن . والناظر هنا : المنتظر . والأيد : القوة
. وكع : جبن وخاف . وما تؤيسه : ما تذلله وما تؤثر به بالموحدة بعد الهمزة . وباقي
ألفاظ القصيدة ظاهرة .
وهدبة هو هدبة بن خشرم بن كرز بن أبي حية بن الكاهن وهو سلمة
____________________
ابن أسحم بن عامر بن ثعلبة
بن عبد الله بن ذبيان بن الحارث بن سعد بن هذيم وسعد : ابن أسلم بن الحاف بن قضاعة
ويقال : بل هو سعد بن أسلم بن هذيم وهذيم عبد لأبيه رباه فقيل : سعد بن هذيم يعني
سعداً هذا .
وهدبة شاعر فصيح متقدم من بادية الحجاز وكان شاعراً راوية وكان يروي للحطيئة
والحطيئة يروي لكعب بن زهير . وكان جميل راوية هدبة وكثير راوية جميل .
وكان لهدبة ثلاثة أخوة كلهم شاعر وأمه كانت شاعرة أيضاً . كذا في الأغاني .
وهدبة بضم الهاء وسكون الدال بعدها موحدة . وخشرم بفتح الخاء وسكون الشين )
المعجمتين . وكرز بضم الكاف وسكون المهملة . وأبو حية بفتح المهملة وتشديد المثناة
التحتية .
وسبب حبسه على ما رواه الأصبهاني بسنده في الأغاني : أن هدبة بن خشرم وزيادة بن
زيد بن مالك بن عامر بن قرة بن حنيش بن عمرو بن ثعلبة بن عبد الله ابن ذبيان بن
الحارث بن سعد بن هذيم المذكور اصطحبا وهما مقبلان من الشام في ركب من قومهما
فكانا يتعاقبان السوق بالإبل وكان مع هدبة أخته فاطمة فنزل زيادة فارتجز فقال :
الرجز
____________________
( ألا ترين الدمع مني
ساجما ** حذار دار منك أن تلائما ) ( فعرجت مطرداً عراهما ** فعماً يبذ القطف
الرواسما ) ( كأن في المثناة منه عائما ** إنك والله لأن تباغما ) ( خوداً كأن
البوص والماكما ** منها نقاً مخالط صرائما ) ( خير من استقبالك السمائما ** ومن
مناد يبتغي معاكما ) وقوله : ما بين أن يرى البعير أي : ما بين مناخ البعير إلى
قيامه . ومطرد : متتابع السير وعراهم : شديد .
وفعم : ضخم . والرسيم : سير فوق العنق . والرواسم : الإبل التي تسير هذا السير .
والمثناة الزمام وعائم : سابح . وتباغم : تكلم . والبوص : العجز . والمأكمتان : ما
عن يمين العجز وشماله .
والنقا : ما عظم من الرمل . والصرائم : دونه . ومعاكماً أي : يعينك على عكمك حتى
تشده .
فغضب هدبة حين سمع زيادة يرجز بأخته فنزل فرجز بأخت زيادة وكانت تدعى أم خازم وقيل
: أم قاسم فقال : الرجز ( لقد أراني والغلام الحازما ** نزجي المطي ضمراً سواهما )
____________________
( يبلغن أم خازم وخازما **
إذا هبطن مستحيراً قاتما ) ( ورفع الحادي لها الهماهما ** ألا ترين الحزن مني
دائما ) ( حذار دار منك أن تلائما ** والله لا يشفي الفؤاد الهائما ) ( تمساحك
اللبات والماكما ** ولا اللمام دون أن تلازما ) ( ولا اللئام قبل أن تفاقما **
وتعلو القوائم القوائما ) )
وقوله : تقول القلص . . . إلخ أورده النحويون شاهداً على إعمال القول إعمال الظن .
والعياهم : الشداد .
قال : فشتمه زيادة وشتمه هدبة وتسابا طويلاً فصاح بهما القوم : اركبا لا حملكما
الله فإنا قوم حجاج . وخشوا أن يقع بينهما شر فوعظوهما حتى
____________________
أمسك كل واحد منهما على ما
في نفسه وهدبة أشدهما حنقاً لأنه رأى أن زيادة قد ضامه إذ رجز بأخته وهي تسمع قوله
ورجز هو بأخته وكانت أخت زيادة غائبة لا تسمع قوله فمضيا ولم يتحاورا بكلمة حتى
قضيا حجهما ورجعا إلى عشائرهما .
وجعل هدبة وزيادة يتهاديان الأشعار . ولم يزل هدبة يطلب غرة زيادة حتى أصابها
فقتله وهرب وعلى المدينة يومئذ سعيد بن العاص فأرسل إلى عم هدبة وأهله فحبسهم
بالمدينة فلما بلغ هدبة ذلك أقبل حتى أمكن من نفسه وتخلص عمه وأهله فلم يزل
محبوساً حتى شخص عبد الرحمن بن زيد أخو زيادة إلى معاوية فأورد كتابه إلى سعيد بأن
يقيده منه إذا قامت البينة .
فكره سعيد الحكم بينهما فحملهما إلى معاوية فلما صاروا بين يديه قال له معاوية :
قل يا هدبة .
فقال : إن هذا الرجل سجاعة فإن شئت أن أقص عليك قصتنا كلاماً أو شعراً فعلت . قال
: بل شعراً .
فقل هدبة هذه القصدية ارتجالاً : الطويل ( ألا يا لقومي للنوائب والدهر ** وللمرء
يردي نفسه وهو لا يدري ) ( وللأرض كم من صالح قد تأكمت ** عليه فوارته بلماعة قفر
)
____________________
( فلا تتقي ذا هيبة لجلاله
** ولا ذا ضياع هن يتركن للفقر ) حتى قال : ( رمينا فرامينا فصادف رمينا ** منايا
رجال في كتاب وفي قدر ) ( وأنت أمير المؤمنين فما لنا ** وراءك من معدى ولا عنك من
قصر ) وهذا البيت الأخير من شواهد النحويين . وتأكمت : صارت أكمة . وروى بدله : قد
توأدت قد تلمأت وتلأمت أي : وارته . )
فقال له معاوية : أراك يا هدبة قد أقررت بقتل صاحبهم . ثم قال لعبد الرحمن : هل
لزيادة ولد فقال : نعم المسور وهو غلام صغير لم يبلغ وأنا عمه وولي دم أبيه .
فقال : إنك لا تؤمن على أخذ الدية أو قتل الرجل بغير حق والمسور أحق بدم أبيه .
فرده إلى المدينة فحبس ثلاث سنين حتى بلغ المسور .
وذهب عبد الرحمن بالمسور وقد بلغ إلى والي المدينة وهو سعيد بن العاص وقيل : مروان
بن الحكم فأخرج هدبة فلما مضي به من السجن للقتل والتفت فرأى امرأته وكانت من أجمل
النساء فقال : الطويل ( أقلي علي اللوم يا أم بوزعا ** ولا تعجبي مما أصاب فأوجعا
) ( ولا تنكحي إن فرق الدهر بيننا ** أغم القفا والوجه ليس بأنزعا )
____________________
( كليلاً سوى ما كان من حد
ضرسه ** أعيبد مبطان العشيات أروعا ) ( ضروباً بلحييه على عظم زوره ** إذا الناس
هشوا للفعال تقنعا ) ( وحلي بذي أكرومة وحمية ** وصبر إذا ما الدهر عض فأسرعا )
فمالت زوجته إلى جزار وأخذت شفرته فجدعت به أنفها وجاءته تدمي مجدوعة فقالت :
أتخاف أن يكون بعد هذا نكاح قال : فرسف في قيوده وقال : الآن طاب الموت فإذا هو بأبويه
يتوقعان الثكل فهما بسوء حال فقبل عليهما وقال : الرمل ( أبلياني اليوم صبراً
منكما ** إن حزناً إن بدا بادئ شر ) ( لا أراني اليوم إلا ميتاً ** إن بعد الموت
دار المستقر ) ( اصبرا اليوم فإني صابر ** كل حي لقضاء وقدر ) قال النوفلي : حدثني
أبي عن رجل من عذرة عن أبيه قال : إني لفي بلادنا يوماً في بعض المياه فإذا أنا
بامرأة تمشي أمامي وهي مدبرة ولها خلق عجيب من عجز وهيئة وتمام جسم وتمام قامة
وإذا صبيان قد اكتنفاها يمشيان قد ترعرعا فتقدمتها والتفت إليها وإذا هي أقبح منظر
وإذ هي مجدوعة
____________________
الأنف مقطوعة الشفتين
فسألت عنها فقيل لي : هذه امرأة هدبة تزوجت بعده رجلاً أولدها هذين الصبيين .
قال ابن قتيبة في حديثه : فسأل سعيد بن العاص أخا زيادة أن يقبل الدية عنه فقال :
أعطيك ما لم يعطه أحد من )
العرب : أعطك مائة ناقة حمراء ليس فيها ذات داء . فقال له : والله لو نقبت لي قبتك
هذه ثم ولم يزل سعيد يسأله حتى عرض عليه ست ديات فأبى فدفعه إليه حينئذ لقتله
بأخيه فاستأذن هدبة في أن يصلي ركعتين فأذن له فصلاهما وخفف ثم التفت إلى من حضر
فقال : لولا أن يظن بي الجزع لأطلتهما فقد كنت محتاجاً إلى إطالتهما .
ثم قال لأهله : إنه بلغني أن القتيل يعقل ساعة بعد سقوط رأسه فإن عقلت فني قابض
رجلي وباسطها ثلاثاً ففعل ذلك حين قتل .
وقال قبل أن يقتل : الطويل ( إن تقتلوني في الحديد فإنني ** قتلت أخاكم مطلقاً لم
يقيد ) فقال عبد الرحمن أخو زيادة : والله لا قتلته إلا مطلقاً من وثاقه . فأطلق
له وتولى قتله ابنه المسور دفع إليه عمه السيف وقال : قم فاقتل قاتل أبيك . فقام
فضربه ضربتين قتله فيهما .
وهدبة أول من سن ركعتين عند القتل . هذا ما اختصرته من الأغاني .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والخمسون بعد السبعمائة ) الطويل على أن السين في قوله
: ستطفئ قائمة عند المتأخرين مقام أن لكونهما للاستقبال .
قال الزمخشري في المفصل : ولما انحرف الشاعر في هذا البيت عما عليه الاستعمال جاء
بالسين التي هي نظيرة أن يعني لما لم يأت الشاعر بما حقه أن يجيء به مع عسى في
الخبر وهو أن أتى بما يقوم مقامه في الدلالة على الاستقبال وهو السين . وعلى أن
ذلك شاذ .
وكما دخل أن في خبر لعل حملاً على عسى دخل السين في خبر عسى حملاً على لعل .
والبيت آخر أبيات أربعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة وعزاها لقسام
بن رواحة السنبسي . وقبله :
____________________
( لبئس نصيب القوم من
أخويهم ** طراد الحواشي واستراق النواضح ) ( وما زال من قتلى رزاح بعالج ** دم
ناقع أو جاسد غير ماصح ) ( دعا الطير حتى أقبلت من ضرية ** دواعي دم مهراقة غير
بارح ) عسى طيئ من طيئ . . . . . . . . . . . . . . البيت )
يريد بأخويهم : صاحبيهم يقال : يا أخا بكر يراد : يا واحداً منهم . والحاشية :
صغار الإبل ورذالها . والنواضح : جمع ناضح وهي الإبل التي يستسقى عليها الماء جعلت
كأنها تنضح الزرع والنخل . وطراد وما عطف عليه بدل من نصيب يقول : إنهم لا يقدمون
على القوم يعني : بلغ من جبنهم أن لا يتعرضوا للرعاة إلا سرقة يسرقون النواضح
ويطردون الحواشي فيرضون بذلك من طلب الثأر فبئس العوض ذلك من دم أخويهم يهزأ بهم .
وهذا تعريض بمن وجب عليه طلب الدم فاقتصر على الغارة وسرقة الإبل . وفيه بعث على
طلب الدم . وأكد ذلك بقوله : وما زال من قتلى رزاح . . . . إلخ وهو براء مفتوحة
وزاي وحاء مهملة : قبيلة من خولان . وقتلى : جمع قتيل .
وعالج بالجيم : موضع بالبادية فيه رمل . والدم الناقع بالنون والقاف قيل : الثابت
وقيل : الطري . والدم الجاسد بالجيم قيل : القديم وقيل : اليابس . والماصح بالصاد
المهملة من مصح كمنع مصوحاً : ذهب وانقطع .
يقول : لا يزال من مقتولي هذه القبيلة بهذا المكان دم طري ويابس غير زائل . يعني :
أن دماءهم باقية بحالها ما لم يثاروا بها لأن غسل تلك الدماء إنما يكون بما يصب من
دماء أعداءهم . ولم يكتف بهذا الإغراء حتى قال : دعا الطير . . . . إلخ
____________________
يقول : دعا دواعي دمائهم
طيور الأماكن البعيدة والجبال المطلة حتى أتت سباعهم وطيورها وقعت عليها تأكل منها
.
ومهراقة : الهاء ضمير الدم يعني : أنه مصبوب في موضعه لم يزل ولم يحل . قال
الطبرسي : ويجوز أن يريد بالمهراق الموضع المصبوب فيه الدم . وفيه حث على طلب
الثأر .
وضرية : اسم بلاد تشتمل على بلاد سميت باسم ضرية بنت ربيعة بن نزار كما قيل للماء
الذي بين البصرة ومكة الحوءب كجعفر بالحاء المهملة سمي بالحوءب بنت كلب بن وبرة .
وقوله : عسى طيئ . . . إلخ قال المرزوقي : عسى لفظة وضعت للترجي والتأميل إلا أنها
تؤذن بأن الفعل مستقبل مطموع فيه . ووضع السين بدل أن في خبر عسى لاشتراكهما في
الدلالة على الاستقبال مع أن السين أشهر فيها .
ومعنى عسى طيئ : لعل البطن المغلوب من هذه القبيلة في القتال ينتصف من البطن
الغالب منها فيه .
وقوله : بعد هذه إشارة إلى الحالة الحاضرة بالتذكير الجامعة لكل ما ذكره . )
والغلات : جمع غلة بالضم : حرارة الجوف . والمعنى : المرجو من أولياء الدم أن
يطلبوا الثأر في المستقبل وإن كانوا أخروه إلى هذه الغاية فتسكن نفوس وتبرد قلوب .
وكانت القبيلتان معاً من طيئ لأن طيئاً قبائل يكون أبداً بينهم قتال . وطيئ
بالهمزة على وزن السيد وقد تحذف الهمزة فيبقى كحي .
والكلى : جمع كلية أو كلوة . والجوانح : الضلوع جمع جانحة . قال بعضهم : الغلة
إنما تكون في القلب ولكنه أراد المبالغة أي : تجاوز القلب والكبد إلى الكلية .
____________________
وقال الخوارزمي : إن سئل أي غلة للكلى حتى أضيفت إليها أجيب بأن المزاج عند ورود
الهموم والأحزان عليه مما ينفعل ويسخن فإذا سخن المزاج حمي البول واحتد والبول
ممره على الكلى فكأنه قال : ستطفئ الغلل التي يظهر أثرها في البول . هذا كلامه .
وقائل هذه الأبيات شاعر جاهلي وهو في بعض نسخ الحماسة : قسام بن رواحة وفي بعض آخر
منها : قسامة بن رواحة بزيادة الهاء . وهو بفتح القاف وتخفيف السين المهملة . وفي
كل منهما روي ابن رواحة السنبسي والعنبسي .
وقد أورده الآمدي في المؤتلف والمختلف فيمن يقال له ابن رواحة قال : ومنهم قسام بن
رواحة العنبسي ليس له عندي في شعراء طيئ ذكر . وأنشد له الطائي في الحماسة : لبئس
نصيب القوم الأبيات الأربعة . هذا ما ذكره ولم يرفع نسبه .
وهذا نسبه من جمهرة الأنساب وقال : قسامة الشاعر ابن رواحة بن جل بضم الجيم وتشديد
اللام ابن حق بكسر الحاء المهملة وتشديد القاف ابن ربيعة ابن عبد رضى بضم الراء
المهملة وفتح الضاد المعجمة بعدها ألف مقصورة ابن ود بفتح الواو وتشديد الدال ابن
ود بضبط ما قبله أيضاً ابن معن بن عتود بفتح المهملة بعدها مثناة فوقية مضمومة ابن
عنين بضم المهملة وبين النونين مثناة تحتية ابن سلامان ابن ثعل بضم المثلثة وفتح
العين المهملة ابن عمرو بن ولم أر في نسبه لا سنبسا ولا عنبسا والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( فعادى بين هاديتين
منها ** وأولى أن يزيد على الثلاث ) على أن أولى من مرادفات كاد ولا تستعمل إلا مع
أن .
كذا قال ابن مالك في التسهيل ومثل له شراحه بهذا البيت .
قال ابن عقيل : عادى من العداء بكسر العين وهو الموالاة بين الصيدين بصرع أحدهما
على أثر الآخر في طلق واحد ومنه قول امرئ القيس : الطويل ( فعاد عداء بين ثور
ونعجة ** داركاً ولم ينضح بماء فيغسل ) والهادية : أول الوحش ومنه قول امرئ القيس
: ( كأن دماء الهاديات بنحره ** عصارة حناء بشيب مرجل ) وقال صاحب الصحاح : أنشد
الأصمعي هذا البيت وقال : أي قارب أن يزيد . قال ثعلب : ولم واستظهر الشارح المحقق
أن يكون أولى المستعمل مع أن فعلاً تاماً متعدياً وأن مع منصوبه مفعولاً لأولى
فإنه بمعنى قارب وهو فعل متعد . وإنما استظهره للزوم أن مع الفعل وهذا خلاف شأن
أفعال المقاربة .
وأما أولى المستعمل مع اللام في قولهم : أولى لك وأولى له وأولى لي فهو اسم للوعيد
غير منصرف للعلمية ووزن الفعل . لا أفعل تفضيل لأفعل بدليل
____________________
قولهم : أولاة الآن . وهو
من الولي وهو القرب . قال المبرد في الكامل عند إنشاد قول الخنساء : المتقارب (
هممت بنفسي كل الهموم ** فأولى لنفسي أولى لها ) يقول الرجل إذا حاول شيئاً فأفلته
من بعد ما كاد يصيبه : أولى له . وإذا أفلت من عظيمة قال : أولى لي .
ويروى عن ابن الحنفية رحمة الله عليه أنه كان يقول : إذا مات ميت في جواره أو في
داره : أولى لي كدت أكون السواد المخترم . وأنشد لرجل يقتنص الصيد فإذا أفلته
الصيد قال : أولى لك .
فكثر ذلك منه فقال : الطويل ( فلو كان أولى يطعم القوم صدتهم ** ولكن أولى يترق
القوم جوعا ) اه . )
وقال الفارسي في كتاب الشعر : أولى : اسم مبتدأ ولك : الخبر . ولا يجوز أن يكون
أفعل من كذا لأن أبا زيد حكى أنهم يقولون : أولاة الآن إذا أوعدوا .
فدخول علامة التأنيث على أفعل يدلك على أنه ليس بأفعل من كذا وأنه مثل أرملة
وأضحاة في أنه على أفعل لا يراد به اتصال الجار به إلا أنهم جعلوا المؤنث فيه
أيضاً معرفة كما جعلوا المذكر كذلك فصار بمنزلة شيء سمي بأضحاة فلم ينصرف .
____________________
فأما في قوله : أولى فأولى يا امرئ القيس فالخبر منه محذوف للعلم به . ألا ترى أن
الكلمة استعملت كثيراً في الوعيد حتى صارت علماً له فحذف الخبر لذلك .
فإن قلت : أيجوز أن يكون أولى اسماً للفعل وفيه ضمير المخاطب كأف ووشكان ويكون لك
في أولى لك لا يكون الخبر ولكنه بمنزلة قولهم لك في : هلم لك للتبيين وفي سقياً لك
ونحو ذلك ويكون امتناع التنوين من الدخول عليه كامتناعه على وشكان ونحوه لا كما
امتنع من الدخول على غير المنصرف فالجواب ما قدمناه من أن موضع أولى رفع بالابتداء
. ويدل على صحة ذلك أن أبا زيد حكى أنهم يقولون : أولاة الآن بالرفع وهذا تأنيث
أولى ولو كان اسماً للفعل لم يرفع .
ألا ترى أنك لا تجد فيما سمي به الفعل شيئاً مرفوعاً فيجعل أولى مثله . والآن في
قولهم : أولاة وأنشد بعده : الطويل وما كدت آيباً على أنه استعمل كاد في الضرورة
مثل كان فجاء خبرها مفرداً في قوله : وما كدت آيباً كما يجيء خبر كان مفرداً .
وهذا قطعة من بيت وهو :
____________________
( فأبت إلى فهم وما كدت
آيباً ** وكم مثل فارقتها وهي تصفر ) وتقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد السابع
والثلاثين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والخمسون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز قد
كاد من طول البلى أن يمصحا على أنه جاز اقتران خبر كاد ب أن لما ذكره .
قال سيبويه : وقد جاء في الشعر كاد أن يفعل شبهوه بعسى .
قد كاد من طول البلى أن يمصحا وقد يجوز في الشعر أيضاً لعلي أن أفعل بمنزلة عسيت
أن أفعل . اه .
ومثله لابن عصفور في الضرائر قال : ومن ذلك عند بعض النحويين دخول أن في خبر كاد
نحو قول رؤبة : قد كاد من طول البلى أن يمصحا وقول الآخر : الخفيف
____________________
( كادت النفس أن تفيظ عليه
** إذ ثوى حشو ريطة وبرود ) والصحيح أن دخولها في خبر كاد ضرورة غلا أنها ليست مع
ذلك بزائدة لعملها النصب والزائدة لا تعمل بل هي مع الفعل الذي نصبته بتأويل مصدر
وذلك المصدر في موضع خبر كاد على حد قولهم : زيد إقبال وإدبار . اه .
قال علي بن حمزة البصري فيما كتبه على نوادر أبي عمرو الشيباني وكان أبو عمرو
والأصمعي يقولان : لا يقول عربي : كاد أن وإنما يقولون : كاد يفعل . وهذا مذهب
جماعة النحويين والجماعة مخطؤون وقد جاء في الشعر الفصيح منه ما في بعضه مقنع .
فممن ذلك ما أنشده ابن الأعرابي : الرجز وأنشد هو وغيره : الرجز
____________________
( حتى تراه وبه إكداره **
يكاد أن ينطحه أمجاره ) لو لم ينفس كربه هراره وأنشد أبو زيد وغيره في صفة كلب :
الرجز ( يرثم أنف الأرض في ذهابه ** يكاد أن ينسل من إهابه ) وقال بعض الرجاز : )
يكاد من طول البلى أن يمصحا وقال ذو الرمة : الطويل ( وجدت فؤادي كاد أن يستخفه **
رجيع الهوى من بعض ما يتذكر ) اه .
أقولك مرادهما بقولهما : لا يقول عربي كاد أن : أنه لا يقول ذلك في الكلام وأما
الشعر فهو محل الضرورة . فلا خطأ في قولهما .
وأما ما ورد في صحيح البخاري : وكاد أمية بن أبي الصلت أن يسلم وجاء في الحديث
أيضاً : كاد الفقر أن يكون كفراً فنادر .
وقبله : ربع عفا من بعد ما قد انمحى وأنشده ابن يعيش :
____________________
ربع عفاه الدهر طولاً
فامحى ورواه اللخمي : ربع عفاه الدهر دأباً وامتحى ولم أر هذا الرجز في ديوان رؤبة
.
وكذلك قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب واللخمي في شرح أبيات الجمل بأنهما
لم يرياه في ديوانه .
والربع : المنزل حيث كان . وروى بدله : رسم . والرسم : أثر الدار . وعفا يكون
لازماً كالرواية الأولى يقال : عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد
أي : درس .
ويكون متعدياً كالرواية الثانية . يقال : عفته الريح أي : محته وامحى أصله انمحى
مطاوع محوته محواً أي : أزلته فامحى أي : زال وذهب أثره . ويقال : محيته محياً
بالياء من باب نفع .
وزعم العيني أن من في قوله : من بعد زائدة وما مصدرية واسم كاد ضمير راجع إلى ربع
.
ومن تعليلية متعلقة بكاد لا بيمصح لأنه صلة أن . والبلى بالكسر والقصر : مصدر بلي
الثوب يبلى إذا أخلق . وبلي المنزل إذا درس . فإن فتحت الباء مددته .
ويمصح بفتح الياء والصاد : مضارع مصح بفتح الصاد أيضاً . قال الجوهري : مصح الشيء
)
مصوحاً : ذهب وانقطع . قال : ومصح الثوب : أخلق . ولله در القائل : الكامل ( يا
بدر إنك قد كسيت مشابهاً ** من وجه أم محمد ابنه صالح ) ( وأراك تمصح في المحاق
وحسنها ** باق على الأيام ليس بماصح ) وهو في الأشهر فعل لازم ولم يذكروه متعدياً
. وفي كثير من كتب اللغة ما يخالفه . فقد ذكره الهروي وابن شميل والصاغاني متعدياً
. وفي القاموس :
____________________
مصح الله مرضك أي : أذهبه
كمسحه . وفي الذيل والصلة للصاغاني : يقال للمريض : مصح الله ما بك ومسح والصاد
أعلى .
وقال ابن بري فيما كتبه على درة الغواص : هذا غلط لأن مسح لا يتعدى إلا بالباء
يقال : مسحت بالشيء أي : ذهبت به . فلو كان بالصاد قيل : مصح الله بما بك أي :
أذهبه فتعديه بالباء أو بالهمزة فيقال : أمصح الله ما بك إذ لا يقال مصحه بدون باء
. اه .
وهذا مأخوذ من الجواليقي قال في تكملة إصلاح المنطق : ما تغلط فيه العامة .
ويقولون في الدعاء للمريض : مسح الله ما بك . وكان النضر بن شميل يقول : مصح الله
ما بك أي : أذهبه وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : سئل أبو بكر الزبيدي عن قول
القائل : مصح الله عنك بيمينه الشافية أبالسين يكتب أم بالصاد فقال : الذي أقوله
وأعتقده وأرويه أنه بالسين لا بالصاد فإن من كتبه بالصاد فإنما ذهب إلى قولهم :
مصح الظل إذا ذهب . وهو قول النضر بن شميل . ولا يلتفت إليه لأن الصاد إنما
استعملت في الظل خاصة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( وقد جعلت قلوص ابني
زياد ** من الأكوار مرتعها قريب )
____________________
على أنه قد جاء نادراً خبر
جعل جملة اسمية وهو قوله : مرتعها قريب .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : أوقع الجملة من المبتدأ والخبر موقع الجملة من
الفعل والفاعل أراد : وقد جعلت قلوص ابني سهيل يقرب مرتعها من الأكوار كما قال :
الطويل ( فقد جعلت نفسي على النأي تنطوي ** وعيني على فقد الحبيب تنام ) اه .
أقول : الصواب في التقدير : تقرب من المرتع بإسناد الفعل إلى ضمير القلوص فإن جميع
أفعال المقاربة لا يكون فاعل خبرها الفعلي إلا ضمير اسمها كما نص عليه الشارح
المحقق .
وقال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة : وقد جعلت قلوص ابني سهيل يقرب مرتعها من
الأكوار أي : لم تتباعد في الرعي لما حط رحلها لما بها من الإعياء فبركت مكانها .
وجعلت هاهنا بمعنى طفقت وأقبلت ولذلك لا يتعدى . ومرتعها قريب في موضع الحال . أي
: أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم .
وهذه غفلة من الخطيب فإنه بعد أن قال : إن جعلت بمعنى طفقت كيف يسوغ له أن يجعل
الجلمة حالية .
وسبقه إلى جعل الجملة حالية الإمام المرزوقي وتبعهما خضر الموصلي في شرح شواهد
التفسيرين .
ثم قال الخطيب : قال أبو العلاء : ويروى : فقد جعلت قلوص ابني سهيل بنصب قلوص
وكثير من الناس يرفع القلوص وهو وجه رديء لأن القائل
____________________
إذا قال : جعلت وهو يريد
المقاربة لم يكن بد من إتيانه بالفعل كما قال : الطويل ( جعلت وما بي من جفاء ولا
قلى ** أزوركم يوماً وأهجركم شهرا ) وعلى ذلك جميع ما يرد فإذا قال القائل : جعل
زيد فعله جميل ولم يأت بلفظ الفعل فإنما يحمله على المعنى كأنه قال : جعل زيد يجمل
.
وأحسن من هذه الرواية أن تنصب قلوصاً ويكون في جعلت ضمير يعود على المرأة المذكورة
)
وليست جعلت في هذا القول في معنى المقاربة وإنما هي بمعنى صيرت فلا تفتقر إلى فعل
ويكون قوله : مرتعها قريب جملة في موضع المفعول الثاني كما يقال : جعلت أخاك ماله
كثير . اه .
وذكر الشلوبين فيما كتب على الحماسة أن بعض الناس أجاز أن يكون جعل بمعنى صير وحذف
من جعلت ضمير الشأن والتقدير : وقد جعلته أي : جعلت الأمر والشأن مرتعها قريب من
الأكوار . وأن آخر أجاز أن يكون على إلغاء جعلت مع تقدمها على حد إجازة أبي الحسن
: ظننت عبد الله منطلق . اه .
فإن أراد ببعض الناس أبا العلاء فلا يصح نسبة حذف ضمير الشأن إليه فإنه روى بنصب
القلوص على أنه مفعول أول لجعل بمعنى صير والفاعل ضمير المرأة . ويرد على القول
الآخر أن الإلغاء لا يكون في أفعال التصيير وإنما يجوز في أفعال القلوب .
وقد أخطأ العيني في هذه الكلمة من وجهين : الأول : أنه قال : جعل هنا من أفعال
المقاربة وإنما هي من أفعال الشروع .
____________________
والثاني : أنه قال : وجعلت هنا على صيغة المجهول أسندت إلى قلوص . وإنما جعلت
بالبناء للمعلوم وقلوص اسمها وجملة : مرتعها قريب من الأكوار في محل نصب على أنه
خبرها .
والقلوص : الناقة الشابة .
ويروى : ابني سهيل بدل ابني زياد . والأكوار : جمع كور بالضم وهو الرحل بأداته .
والمرتع : موضع الرتوع وهو أكل الماشية ما شاءت . تقول : رتعت الماشية رتوعاً .
وهذا البيت أحد أبيات ثلاثة في الحماسة تقدمت مشروحة في الشاهد الثاني والخمسين
بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد السبعمائة ) البسيط ( وقد جعلت إذا ما
قمت يشقلني ** ثوبي فأنهض نهض الشارب الثمل ) على أنه قد يجيء خبر جعل جملة شرطية
مصدرة بإذا . فجملة : إذا ما قمت يثقلني ثوبي في محل نصب على أنه خبر جعل .
____________________
( وقد جعلت إذا ما حاجة
عرضت ** بباب دارك أدلوها بأقوام ) أي : أوصلها إليك بأقوام . وكقول عبد الله بن
عباس رضي الله عنهما : فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يخرج أرسل رسولاً .
وعلى هذا يكون ثوبي فاعل يثقلني ويكون وقوع الجملة الشرطية خبراً لجعل موقع الفعل
المضارع نادراً .
وقد تبع الشارح المحقق في هذا ابن مالك في التسهيل قال فيه : وربما جاء خبر جعل
جملة اسمية وفعلية مصدرة بإذا . ولا يخفى أنه إذا جاز تخريجها على ما ثبت لها لا
ينبغي العدول عنه إلى ادعاء الندرة فإنه لا مانع من جعل يثقلني خبراً لها ويكون
ثوبي بدل اشتمال من التاء في جعلت وذلك بتقدير إذا ظرفية لا شرطية .
وكذا الحال في البيت الثاني وفي الأثر ولكن فيه شذوذ وهو مجيء الماضي خبراً فلا
يخرج هذا عن قوله سابقاً : ويتعين في جميع أخبار أفعال المقاربة ن يكون فاعل
أخبارها ضميراً عائداً إلى اسمها .
واليه ذهب ابن هشام في المغني قال : اشترطوا الإضمار في بعض المعمولات . ومن ذلك
مرفوع خبر كاد وأخواتها إلا عسى . ومن الوهم قول جماعة في قول هدبة
____________________
: إن فرج قريب اسم يكون .
والصواب أنه مبتدأ خبره الظرف والجملة خبر يكون واسمها ضمير الكرب وأما قوله : (
وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ** ثوبي . . . . . . . . . . . . . البيت ) فثوبي بدل
اشتمال من تاء جعلت لا فاعل يثقلني . اه .
إلا أن ما استثناه ابن هشام في عسى لم يذكره الشارح المحقق . قال ابن هشم : تقول :
كاد زيد يموت ولا تقول : يموت أبوه . ويجوز عسى زيد أن يقوم أبوه فترفع السبي .
ولا يجوز رفعها )
الأجنبي نحو : عسى زيد أن يقوم عمرو عنده . اه .
وما استثناه الشارح المحقق في كاد نحو : كاد زيد تخرج نفسه لم يذكره ابن هشام .
فأفاد كل منهما فائدة ليست عند الآخر .
ولقد صدق القائل في قوله : ( ما حوى العلم جميعاً أحد ** لا ولو مارسه ألف سنة )
لكن ابن مالك جوز بقلة في خبر جميع هذه الأفعال أن يرفع غير ضمير الاسم قال في
التسهيل : ويتعين عود الضمير من الخبر إلى الاسم . وكون الفاعل غيره قليل . اه .
وقع في بعض نسخ التسهيل : وربما جاء خبر جعل جملة اسمية وفعلية مصدرة بإذا أو كلما
وندر إسنادها إلى ضمير الشأن ودخول النفي عليها . اه .
قال شارحه المرادي : ولم يتعرض المصنف لهذه الزيادة في شرحه . ومثال تصدره بكلما :
جعل زيد كلما جاء عمرو ضربه . ويحتاج إلى سماع إلا أن في صحيح
____________________
البخاري : فجعل كلما جاء
ليخرج رمى في فيه بحجر .
ويمكن تمثيل المسألة الثانية بما حكاه الزاهد غلام ثعلب : أنه يقال : عسى زيد قائم
برفع المبتدأ والخبر بعد عسى . فيتخرج على أن في عسى ضمير الشأن . هذا إن جعلنا
الضمير في إسنادها إلى أفعال الباب . وإن جعلناه عائداً إلى جعل احتاج إلى سماع .
ومثال المسألة الثالثة : ما جعل زيد يتكلم وقول أنس : فما جعل يشير بيده إلى ناحية
من السماء إلا انفرجت . ولا ينبغي أن يعود الضمير إلى أفعال الباب إذ لم يندر دخول
النفي عليها .
اه .
والبيت من أبيات خمسة لعمرو بن أحمر الباهلي إلا أن قافيتها رائية لا لامية كما
وقع في إنشاد النحويين .
والأبيات رواها لعمرو المذكور المرزباني في الموشح ورأيتها كذلك بخط ابن نباتة
السعدي البغدادي صاحب الخطب النباتية كتبها في آخر ديوان محمد ابن بشير الخارجي
ورواها عن أبي سعيد السكري عن ابن حبيب عن ابن الأعرابي وقد أقوى في بيتين منها نص
عليهما المرزباني وهي : البسيط ( ما للكواعب يا عيساء قد جعلت ** تزور عني وتطوى دوني
الحجر ) ) ( قد كنت فراج أبواب مغلقة ** ذب الرياد إذا ما خولس النظر )
____________________
( فقد جعلت أرى الشخصين
أربعة ** والواحد اثنين مما بورك النظر ) ( وكنت أمشي على رجلين معتدلاً ** فصرت
أمشي على رجل من الشجر ) ( وقد جعلت إذا ما قمت يثقلني ** ثوبي فأنهض نهض الشارب
السكر ) قوله : ما للكواعب استفهام إنكاري أنكر إعراض الكواعب عنه وهي جمع كاعب
ويه الشابة التي نتأ ثديها وظهر . وعيساء : اسم امرأة . وازور عن الشيء وتزاور عنه
: مال عنه .
وتطوى بالبناء للمفعول . ودوني : أمامي . والحجر بضم ففتح : جمع حجرة . يريد أنهن
لا يقبلن علي ويسددن أبواب الحجر أمامي .
وفراج : مبالغة فارج من فرجت الباب من باب ضرب إذا فتحته . وذب الرياد بالنصب :
خبر آخر لكان وهو بالذال المعجمة أي : كثير الحركة والدخول والخروج . يقال : فلان
ذب الرياد : وخولس : مجهول خالس الشيء : فاعل من خلست الشيء إذا اختطفته بسرعة على
غفلة .
يريد أن النساء كن يتسارقن النظر إلي لحسني وشبابي عندما كنت خفيف الحركة . وجعلت
من أفعال الشروع . وإنما رأى الشخصين أربعة لضعف بصره من شيخوخته وسنه .
وقوله : مما بورك النظر تهكم واستهزاء ببصره جعل ضعف بصره بركة لأنه يريه الشيء
مضاعفاً .
وقوله : على رجل من الشجر أراد العصا فإن الشيوخ يعتمدون عليها في المشي .
ويروى : على أخرى من الشجر أي : على رجل أخرى من الشجر .
____________________
وقوله : إذا ما قمت ما : زائدة وزيادتها بعد أداة الشرط جازماً أو غير جازم مطردة
حتى نظمها بعضهم بقوله : ( خذ لك ذي الفائده ** ما بعد إذا زائده ) وزعم العيني أن
ما مصدرية وأن التقدير حين قيامي . وقوله : يثقلني من أثقله الشيء : إذا أجهده
وأتبعه بجعله ثقيلاً .
وقوله : فأنهض معطوف على يثقلني فهو خبر بعد خبر لا على جعلت كما زعم العيني
لوجهين : وثانيهما : تناسب المتعاطفين في المضارعية وفي السببية : فإن كلاً منهما
سبب للآخر . )
وزعم العيني أن التحقيق فيه أنه أقام السبب وهو الإثقال مقام المسبب وهو النهوض
نهض الشارب . هذا كلامه .
وأنهض : أقوم وله مصدران أحدهما ما في البيت . والثاني النهوض . ونهض الشارب : صفة
مفعول مطلق نائب عنه أي : فأنهض نهضاً كنهض الشارب .
وقال العيني : نهض الشارب منصوب على الإطلاق وهذا لا معنى له وكأنه يريد على
المفعول المطلق . والسكر بكسر الكاف : صفة مشبهة من السكر . وكذلك الثمل بكسر
الميم صفة مشبهة وهو الذي أخذ منه الشراب قواه .
وقافية هذا البيت والذي قبله فيهما إقواء بخلاف ما قبلهما فإن قافيته مرفوعة .
وعمرو بن أحمر الباهلي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة
.
____________________
وقال العيني : قائل البيت الشاهد أبو حية النميري . وقد نسب للحكم بن عبدل الأعرج
الأسدي . وليس بصحيح لأنه لا يوجد في ديوانه .
ويروى الشطر الثاني : فقمت قيام الشارب السكر وممن رواه هكذا الجاحظ في باب
العرجان من كتاب الحيوان له ونسبه لأبي حية النميري هكذا : ( وقد جعلت إذا ما قمت
يوجعني ** ظهري فقمت قيام الشارب ) السكر ( وكنت أمشي على رجلي معتدلاً ** فصرت
أمشي على أخرى من الشجر )
____________________
( فعل التعجب ) أنشد فيه :
البسيط يا ما أميلح غزلاناً شدن لنا تمامه : من هؤليائكن الضال والسمر وتقدم
الكلام عليه في خواص الاسم من أول الكتاب .
قيل إن هذا البيت من أبيات لعلي بن محمد المغربي . وهو متأخر له قصيدة في مدح علي
بن عيسى وزير المقتدر . وقتل المقتدر في شوال سنة عشرين وثلثمائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد السبعمائة ) الوافر ( ونأخذ بعده بذناب
عيش ** أجب الظهر ليس له سنام ) على أن نصب الظهر على التشبيه بالمفعول به .
أقول : روى ابن الناظم وغيره الظهر في هذا البيت على ثلاثة أوجه : الأول : بالنصب
وهو ضعيف كما قال الشارح المحقق .
وقال ابن الجاجب في أماليه : ونصب الظهر كنصب الوجه في : مررت برجل حسن الوجه وهي
لغة فصيحة على التشبيه بالمفعول . ومنهم من جعله نصباً على التمييز ولا حاجة إليه
لكونه معرفة والتمييز المنصوب إنما يكون بالنكرة .
وفيه رد على من قال إنه تمييز كالبيضاوي فإنه استشهد به عند قوله تعالى : إلا من
سفه نفسه قال : نفسه منصوب على التمييز كالظهر في البيت .
الثاني : رفع الظهر على الفاعلية .
وأم أجب فهو مجرور لا غير . قال ابن الجاجب : أوجب مخفوض علامة خفضه الفتحة صفة
لذنابٍ أو عيش . والفتح إنما هو على رفع الظهر ونصبه وأما على جره فأجب مجرور
بالكسرة للإضافة .
وأما قطعه إلى الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو إلى النصب بتقدير : أعني
____________________
فلا يجوز لأن )
قطع النكرة غير الموصوفة نادر .
وقد خلط العيني ونسب إلى ابن الناظم ما لم يقله . قال : الاستشهاد في قوله : أجب
الظهر فإنه يجوز فيه ثلاثة أوجه : الأول : أجب الظهر برفع أجب ونصب الظهر . وهذا
من أقسام الضعيف وهو على تقدير : هو أجب .
الثاني : نصب أجب على الحالية ورفع الظهر .
والثالث : جر أجب على الصفة لعيش وجر الظهر على الإضافة .
هذا كلامه .
وتبعه على هذا خضر الموصلي في شرح أبيات التفسيرين .
وأنشده سيبويه بنصب الظهر ب أجب على أن في أجب تنويناً مقدراً ولم يظهر لأنه لا
والبيت من أبيات للنابغة الذبياني وهي : ( ألم أقسم عليك لتخبرني ** أمحمول على
النعش الهمام ) ( فإني لا ألومك في دخول ** ولكن ما وراءك يا عصام ) ( فإن يهلك
أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام ) ( ونأخذ بعده بذناب عيش ** أجب
الظهر ليس له سنام ) ومن حديث هذه الأبيات أن النابغة كان عند النعمان ملك العرب
بالحية كبيراً عنده خاصاً به وكان من ندمائه وأهل أنسه فحسد على منزلته منه
فاتهموه بأمر ذكرناه في مواضع من هذا الكتاب فغضب عليه النعمان وأراد البطش به .
____________________
وكان للنعمان بواب يقال له : عصام بن شهير الجرمي قال للنابغة : إن النعمان موقع
بك فانطلق فهرب النابغة إلى ملوك غسان ملوك الشام فكان يمدحهم وترك النعمان فاشتد
ذلك عليه وعرف أن الذي بلغه كذب . فبعث إليه : إنك لم تعتذر من سخطة إن كانت بلغتك
ولكنا تغيرنا لك عن شيء مما كنا عليه ولقد كان في قومك ممتنع وحصن فتركته ثم
انطلقت إلى قوم قتلوا جدي وبيني وبينهم ما قد علمت .
وكان النعمان وأبوه وجده قد أكرموا النابغة وشرفوه وأعطوه مالاً عظيماً . وبلغ
النابغة أن النعمان ثقيل من مرض أصابه حتى أشفق عليه منه فأتاه النابغة فألقاه
محمولاً على رجلين ينقل )
ما بين الغمر وقصوره التي بين الحيرة فقال لبوابه عصام : ألم أقسم عليك لتخبرني .
. . . . . . . . . . . . الأبيات المذكورة قال أبو عبيدة : كانت ملوك العرب إذا
مرض أحدهم حملته الرجال على أكتافها يتعاقبونه لأنه عندهم أوطأ من الأرض . فعافاه
الله وعفا عن النابغة .
قال حسان بن ثابت : وفدت إلى النعمان فحسدت النابغة على ثلاث لا أدري على أيتهن
كنت أحسد : أعلى إدناء النعمان له بعد المباعدة ومسايرته له وإصغائه إليه أو على
جودة شعره أو على مائه بعير من عصافيره أمر له بها قال أبو عبيدة : قيل لأبي عمرو
: أمن مخافته امتدحه وأتاه بعد هربه منه أم لغير ذلك قال : لا لعمر الله ما
لمخافته فعل إن كان إلا آمناً من أن يوجه إليه النعمان جيشاً . وما كان النابغة
يأكل ويشرب إلا في آنية الذهب والفضة من عطايا النعمان وأبيه وجده ولا يستعمل غير
ذلك .
وقوله : ألم أقسم عليك . . . إلخ هو استفهام تقريري وقوله : لتخبرني جواب القسم .
وقوله : أمحمول . . . . إلخ خبر مقدم والهمام مبتدأ مؤخر والجملة في موضع المفعول
لتخبرني .
والتحقيق أن الواقع مفعولاً محذوف مضاف إلى هذا
____________________
الاستفهام والتقدير : جواب
هذا الاستفهام .
وقال العيني : وقيل معنى أمحمول على النعش أي : هل مات فحمل على النعش أم لا انتهى
.
أقول : هذا كلام من لم يصل إلى العنقود .
والهمام : الملك العظيم الهمة .
وقوله : فإني لا ألومك . . . إلخ لا ألومك في تركك الإذن لي في الانتهاء إلى الملك
ولكن أخبرني بكنه أمره .
ورواه العيني : فإني لا ألام على دخول وقال : أي لا ألام على ترك الدخول عليه لأني
محجوب لا أصل إليه لغضبه علي . وهذا خلاف ما رواه الناس .
وقوله : ما وراءك يا عصام صار مثلاً عند العرب وأورده الزمخشري في أمثاله قال فيه
: هو من قول النابغة يضرب في الاستخبار عن الشيء وهو عصام بن شهبر الباهلي حاجب
النعمان . )
ومن شعر عصام هذا : الرجز ( نفس عصام سودت عصاما ** وعلمته الكر والإقداما )
والبيت الأول من هذا مثل أيضاً يضرب لمن شرف بنفسه لا بآبائه .
____________________
وفي الأمثال أيضاً : كن عصامياً ولا تكن عظامياً أي : افتخر بنفسك لا بعظام آبائك
البالية .
قال الزمخشري : وهو عصام الخارجي وإنما سمته العرب خارجياً لأنه خرج عن غير أولية
كانت له .
ويحكى أن الحجاج ذكر عنده رجل بالجهل فأراد اختباره فقال : أعظامي أم عصامي أراد :
أشرفت بآبائك الذين صاروا عظاماً أم بنفسك فقال الرجل : أنا عصامي عظامي .
فقال الحجاج : هذا أفضل الناس فقضى حوائجه ومكث عنده ثم فتشه فوجده أجهل الناس
فقال له : تصدقني أو لأقتلنك كيف أجبتني بما أجبتني حين سألتك عما سألتك قال : لم
أعلم أعصامي خير أم عظامي فخشيت أن أقول أحدهما فقلت : كليهما فإن ضرني أحدهما
نفعني الآخر . فقال الحجاج عند ذلك : المقادير تصير العيي خطيباً .
وقوله : فأن يهلك أبو قابوس . . . إلخ هو كنية النعمان وقابوس : معرب كاووس كطاووس
اسم أحد ملوك الفرس .
وقوله : ربيع الناس إلخ يريد أنه كان كالربيع في الخصب لمجتديه وكالشهر الحرام
لجاره أي : لا يوصل إلى من أجاره كما لا يوصل في الشهر الحرام إلى أحد .
والمعنى : إن يمت النعمان يذهب خير الدنيا عنها كانت تعمر به وبجوده وعدله ونفعه
للناس . ومن كان في ذمته وسلطانه فهو آمن على نفسه محقون الدم كما يأمن الناس في
الشهر الحرام على دمائهم وأموالهم .
وروى بدله : والنعم الركام بالضم أي : المتراكمة .
____________________
وقوله : ونأخذ بعده . . . إلخ الذناب والذنابة بكسرهما والذنابى بالضم والقصر :
الذنب .
قال الشنتمري : المستعمل للبعير ونحوه الذنب وللطائر الذنابي وللعين ونحوها
الذنابة ولمالا خير فيه . والأجب بالجيم : الجمل المقطوع السنام والسنام : حدبة
البعير .
يقول : إن مات بقينا في طرف عيش قد مضى صدره ومعظمه وخبره وقد بقي منه ذنبه ويكون
العيش كبعير قد جب سنامه . )
يريد : صار الناس بعده في أسوإ حال وأضيق عيش وذلك وتمسكوا منه بمثل ذنب بعير أجب
الظهر . والسنام يستعار كثيراً للعز حتى كأنه غلب فيه .
وقد أورد أبو القاسم الزجاجي هذه الأبيات الثلاثة في أماليه الصغرى والوسطى وقال
فيهما : أما عصام فحاجب النعمان .
يقول : لا ألومك إن منعتني من الوصول إليه ولكن عرفني خبره . وكان الملك إذا مرض
يجعل في وأما قوله : ونأخذ بعده فيجوز فيه الرفع والنصب والجزم . وأما الجزم فعلى
العطف على قوله : يهلك ربيع الناس . والرفع على القطع والابتداء والنصب بالصرف على
إضمار أن . وكذلك كل معطوف بعد جواب الجزاء من الأفعال المستقبلة تجوز فيه هذه
الأوجه الثلاثة .
وقوله : أجب الظهر يعني مقطوع الظهر . وهذا تمثيل وتشبيه . ويروى : أجب الظهر
بخفضهما جميعاً على إضافة أجب إلى الظهر ويروى : أجب الظهر بفتح أجب ونصب الظهر
على أن يكون موضع أجب خفضاً ولكنه لا ينصرف وبنصب الظهر على التشبيه بالمفعول به
ويضمر في أجب الفاعل كأنه قال : أجب الظهر بالتنوين ثم منعه من التنوين لأنه لا ينصرف
وهو في تقدير
____________________
قولك : مررت برجل حسن
الوجه وكثير المال وطيب العيش .
ويروى : أجب الظهر على أنه في موضع خفض ورفع الظهر به كأنه قال : أجب ظهره فأهل
الكوفة يجعلون الألف واللام عقيب الإضافة وأهل البصرة يضمرون ما يعلق الذكر بالأول
وتقديره عندهم : أجب الظهر منه . انتهى .
وتقدمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الطويل ولله عينا حبتر أيما فتى على أنه قد يستفاد من
الاستفهام معنى التعجب كما هنا فإن فيه معنى التعجب من الفتوة كما تقول : أي رجل
زيد وقد تضمنت أي معنى المدح والتعجب الذي تضمنته نعم وحبذا .
وأي : إذا أضيفت إلى مشتق من صفة يمكن المدح بها كانت للمدح بالوصف الذي اشتق منه
الاسم الذي أضيفت إليه . فإذا قلت : مررت بفارس أي فارس فقد أثنيت عليه بالفروسية
خاصة . )
وإن أضيفت إلى غير مشتق فهي للثناء عليه بكل صفة يمكن أن يثنى عليه بها
____________________
فإذا قلت : مررت برجل ، أي
رجل ، فقد أتيت عليه ثناء عاماً في كل ما يمدح به الرجل . قال سيبويه : وسألته -
يعني الخليل - عن قوله : ( فأومأت إيماء خفياً لحبتر ** ولله عينا حبتر أيما فتى )
فقال : أيما تكون صفة للنكرة ، وحالاً للمعرفة ، وتكون استفهاماً مبنياً عليها ،
ومبنية على غيرها ، ولا تكون لتبيين العدد ، ولا في الاستثناء نحو قولك : أتوني
إلا زيداً . ألا ترى أنك لا تقول له : عشرون أيما رجل ولا أتوني إلا أيما رجل .
والنصب في مثله رجلاً كالنصب في عشرين رجلاً . فأيما لا تكون في الاستثناء ، ولا
يختص بها نوع من الأنواع ، ولا يفسر بها عدد . وأيما فتى استفهام . ألا ترى أنك
تقول سبحان الله من هو وما هو ؟ فهذا استفهام فيه معنى التعجب . ولو كان خبراً لم
يجز ذلك ، لأنه لا يجوز في الخبر أن تقول : من هو ، وتسكت . انتهى . قال النحاس :
قد فسر الخليل أيما بقوله تكون صفة للنكرة ، كقولك : مررت برجل أيما رجل ، وحالاً
للمعرفة ، أي : إن شئت ، رويت : ( فلله عينا حبتر أيما فتى ** ) بالنصب ، أي :
كاملاً ن ومبنياً عليها ، كقولك : أيما رجل ، مبنية على غيرها ، نحو : زيد أيما رجل
، ولا تكون لتبيين العدد ، ولا في الاستثناء ، لأنها لم تقو في الصفات . على أن
الأخفش قد أجاز ذلك . انتهى . وقال الأعلم : رفع : ' أيما ' بالابتداء والخبر
محذوف ، والتقدير : أي فتى هو ، وما زائدة مؤكدة . وفي أي معنى المدح والتعجب .
وصف أنه أمر ابن أخت له يقال له : حبتر ، بنحر ناقة من أصحابه ، لأنه كان في غير
محله ، ليخلفها عليه إذا لحق بأهله . وأومأ إليه بذلك حتى لا يشعر به أحد ، ففهم
عنه وعرف إشارته لذكائه ، وحدة بصره . والإيماء : الإشارة بعين أو يد . انتهى .
____________________
وروى المبرد في الكامل الرفع والنصب في أيما فتى في البيت قال عند الكلام على قول
ليلى الأخيلية : الطويل قولها : أي نظرة ناظر يصلح فيه الرفع والنصب على قوله :
نظرت أي نظرة وأية نظرة وأيتما نظرة وأيما نظرة كما تقول : مررت برجل أيما رجل .
وتأويله : برجل كامل . فأيما في موضع : كامل .
وتقول : مررت بزيد أيما رجل على الحال . ومن قال أي نظرة هي فعلى القطع والابتداء
)
والمخرج مخرج استفهام وتقديره أي نظرة هي كما تقول : سبحان الله أي رجل زيد .
وهذا البيت ينشد على وجهين : فأومأت إيماء خفياً لحبتر ولله عينا حبترٍ أيما فتى
وأيما إن شئت على ما فسرنا . انتهى كلامه .
وقد أنشده ابن مالك في باب الموصول من شرح التسهيل بنصب أيما على أنه حال من حبتر
.
وأنكره أبو حيان في شرحه وقال : أصحابنا أنشدوه بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ
وقدروه : أي فتى . ولم يذكر أصحابنا كون أي تقع حالاً وإنما ذكروا لها خمسة أقسام
: موصولة وشرطية واستفهامية وصفة لنكرة ومنادى .
هذا كلامه على ما ذكره العيني وما نقلناه من كلام الأئمة يرد عليه .
وقول المرادي في شرحه تبعاً لأول كلام أبي حيان : أنشده المصنف بنصب أي على الحال
ولا أكاد أقضي العجب من قول العيني : الاستشهاد فيه أن أياً فيه صفة وقد علم
وروى المبرد في الكامل الرفع والنصب في أيما فتى في البيت قال عند الكلام على قول
ليلى الأخيلية : الطويل قولها : أي نظرة ناظر يصلح فيه الرفع والنصب على قوله :
نظرت أي نظرة وأية نظرة وأيتما نظرة وأيما نظرة كما تقول : مررت برجل أيما رجل .
وتأويله : برجل كامل . فأيما في موضع : كامل .
وتقول : مررت بزيد أيما رجل على الحال . ومن قال أي نظرة هي فعلى القطع والابتداء
)
والمخرج مخرج استفهام وتقديره أي نظرة هي كما تقول : سبحان الله أي رجل زيد .
وهذا البيت ينشد على وجهين : فأومأت إيماء خفياً لحبتر ولله عينا حبترٍ أيما فتى
وأيما إن شئت على ما فسرنا . انتهى كلامه .
وقد أنشده ابن مالك في باب الموصول من شرح التسهيل بنصب أيما على أنه حال من حبتر
.
وأنكره أبو حيان في شرحه وقال : أصحابنا أنشدوه بالرفع على أنه مبتدأ أو خبر مبتدأ
وقدروه : أي فتى . ولم يذكر أصحابنا كون أي تقع حالاً وإنما ذكروا لها خمسة أقسام
: موصولة وشرطية واستفهامية وصفة لنكرة ومنادى .
هذا كلامه على ما ذكره العيني وما نقلناه من كلام الأئمة يرد عليه .
وقول المرادي في شرحه تبعاً لأول كلام أبي حيان : أنشده المصنف بنصب أي على الحال
ولا أكاد أقضي العجب من قول العيني : الاستشهاد فيه أن أياً فيه صفة وقد علم
____________________
أنه صفة لمعرفة وحال من
نكرة ولا يضاف إلا إلى نكرة . انتهى .
وهذا من نمط اختراع الخراع الذي صنعه الصفدي وقصد به التحميض .
والبيت من قصيدة للراعي النميري وأورد منها أبو تمام في الحماسة ثلاثة عشر بيتاً
وكان نزل بالراعي رجل من بني كلاب في ركب معه ليلاً في سنة مجدبة وقد عزبت عن
الراعي إبله فأشار إلى حبتر بخفية فنحر لهم ناقة وأحلهم وصبحت الراعي إبله فأعطى
رب الناقة ناقة مثلها وزاده ناقة ثنية فقال هذه القصيدة في هذه القضية .
وهجاه بعضهم في نحر ناقة ضيفه بأبيات وأجاب عنها الراعي بقصيدة والجمع مذكور في
باب الهجاء من الحماسة .
قال الطبرسي في شرح الحماسة : حبتر بفتح الحاء المهملة وسكون الموحدة وفتح المثناة
من فوق هو ابن أخي الراعي ومعناه في اللغة القصير من الناس وإنما رسم له عرقبتها في
السر بعد أن اختارها مخافة أن يمتنع صاحبها بما هم به فيها .
وقوله : ولله عينا حبتر اعتراض . وإذا عظموا الشيء نسبوا ملكه إلى الله تعالى .
وأيما فتى ينشد بالرفع والنصب فالرفع على تقدير أيما فتى هو والنصب على الحال .
انتهى .
____________________
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن والخمسون بعد السبعمائة ) البسيط ( وقد وجدت مكان
القول ذا سعة ** فإن وجدت لساناً قائلاً فقل ) لما ذكره من معنى أحسن أي : صفة
بالحسن كيف شئت . فإن فيه منه كل ما يمكن أن يكون في شخص كالبيت فإن معناه وجدت
مكاناً للقول بكثرة ما فيه من المناقب فإن كان لك لسان قائل فقل ما شئت أي : فلست
تحتاج في شيء غائب إلى مدحه .
والبيت من قصيدة للمتنبي مدح بها سيف الدولة .
وقبله : ( والمدح لابن أبي الهيجاء تنجده ** بالجاهلية عين العي والخطل ) تنجده :
تعينه . والخطل : اضطراب القول . وهذا تعريض بأبي العباس النامي فإنه مدح سيف
الدولة بقصيدة ذكر فيها آباء الذين كانوا في الجاهلية . يقول : إذا مدحت وأعنته
بكر آبائه الجاهليين كان ذلك عين العي ثم وضح هذا المعنى وتممه بقوله :
____________________
أي : ليت ما مدح به من
الشعر استوفى ذكر مناقبه ومتى يتفرغ الشعر لذكر كليب وأهل الدهور السابقة . ( خذ
ما تراه ودع شيئاً سمعت به ** في طلعة الشمس ما يغنيك عن زحل ) يقول : امدحه بما
تشاهده واترك ما سمعت فإن الشمس تغنيك عن زحل . وجعله كالشمس وآباءه كزحل .
والمعنى : فيما قرب منك عوض عما بعد عنك ولا سيما إذا كان القريب أفضل من البعيد .
وقد وجدت مكان القول ذا سعة . . . . . . . . . . . . . البيت وترجمة المتنبي تقدمت
في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة . وهذا البيت إنما أورده لتنظير معنى بمعنى
.
____________________
( أفعال المدح والذم )
أنشد فيه ( الشاهد التاسع والخمسون بعد السبعمائة ) الرمل على أن طرفة استعمل نعم
على الأصل بفتح النون وكسر العين .
قال ابن جني في المحتسب عند قراءة يحيى بن وثاب : فنعم عقبي الدار : أصل قولنا :
نعم الرجل زيد : نعم كعلم . وكل ما كان على فعل وثانيه حرف حلقي فلهم فيه أربع
لغات وذلك نحو : فخذ ونغر بفتح الأول وكسر الثاني على الأصل .
وإن شئت أسكنت الثاني وأقررت الأول على فتحه . وإن شئت أسكنت ونقلت الكسرة إلى
الأول . وإن شئت أتبعت الكسرَ الكسر . وكذلك الفعل نحو : ضَحِك وإن شئت ضَحْك وإن
شئت ضِحْكَ . وإن شئت ضِحِك .
فعلى هذا القول نَعِم الرجل وإن شئت نَعْم وإن شئت نِعْم وإن شئت نِعِم . فعليه
جاء : فنعم عُقبى الدار وأنشدنا أبو علي لطرفة :
____________________
( ففداء لبني قيس على **
ما أصاب الناس من سر وضر ) ( ما أقلت قدمي إنهم ** نِعَم الساعون في الأمر المبر )
وروينا عن قطرب : نَعٍ مَ الرجل زيد بإشباع كسرة العين وإنشاء ياء بعدها المطافيل
والمساجيد . ولا بد من أن يكون الأمر على ما ذكرنا لأنه ليس في أمثلة الأفعال
فَعِيلَ البتة .
انتهى .
وقد بسط القول على نعم وبئس ابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن الشجري في المجلس
الستين من أماليه وقيد قراءة يحيى بن وثاب بفتح الفاء وسكون العين .
وقوله : ففداء لبني قيس . . . إلخ قال شراح أبيات المفصل وغيره : أي : أنا فداء
لهذه القبيلة .
والسر والضر بضمهما : السراء والضراء . وما : دوامية . والإقلال : الرفع . وقدمي :
فاعل أقلت .
وروي : قدمايَ بالتثنية . وعليهما فمفعول أقلت محذوف التقدير : أقلتني . وإنهم
تعليل لقوله ففداء .
وروي أيضاً : )
ما أقلت قدم ناعلها والناعل : لابس النعل أي : ساتر القدم بالنعل .
وروي أيضاً : ثم نادوا أنهم في قومهم أي قالوا : هؤلاء القوم هم الذين قال الناس
في حقهم : نعم الساعون هم في الأمر المبر .
فالمخصوص بالمدح محذوف . والمبر : اسم فاعل من أبر فلان على أصحابه أي : غلبهم .
أي : هم نعم الساعون في الأمر الغالب الذي عجز الناس عن دفعه . هذا ما قالوا ،
والمروي في ديوان طرفة في عدة نسخ البيت الأول كما رواه ابن جني
____________________
والبيت الثاني كذا : ( خالتي والنفس قدماً إنهم ** نعم الساعون في القوم الشطر )
قال شارح ديوانه الأعلم الشنتمري : يقول : نفسي فداء لبني قيس على ما أصاب الناس
من أمر يسرهم أو يضرهم . والسر والضر : السراء والضراء .
وقوله : في القوم الشطر يعني البعداء من الناس الغرباء . وواحد الشطر شطير . وأصل
الشطير : الناحية . وكل من بعد عن أهله فقد أخذ في ناحية من الأرض . يقول : سعيهم
في الغرباء أحسن سعي . انتهى .
وفهم من كلامه أن قوله : خالتي مبتدأ والنفس معطوف عليه .
وقوله : فداء خبر لهما مقدم . لكن ينظر : ما وجه ذكر الخالة هاهنا وقدماً بالكسر :
ظرف متعلق بنعم ولا يمنع منه ذكر إن المكسورة لأنه ظرف اغتفر فيه التقدم .
وقيس : أبو قبيلة الشاعر وإنما جعل نفسه فداء لبنيه لأنهم يتبادرون في إغاثة
الملهوف .
وهذا نسب طرفة الشاعر : طرفة بن العبد بن سفيان بن سعد بن مالك بن ضبيعة ابن قيس
بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .
والبيتان من قصيدة طويلة لطرفة تقدم بعض أبيات منها في باب اسم الفاعل في
____________________
الشاهد السابع بعد
الستمائة . وهذه أبيات قبل البيت الشاهد : ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ** لا ترى
الآدب فينا ينتقر ) ( حين قال الناس في مجلسهم ** أقتار ذاك أم ريح قطر ) ) (
بجفان تعتري نادينا ** من سديف حين هاج الصنبر ) ( كالجوابي لا تني مترعة ** لقرى
الأضياف أو للمحتضر ) ( ولقد تعلم بكر أننا ** آفة الجزر مساميح يسر ) ( ولقد تعلم
بكر أننا ** فاضلو الرأي وفي الروع وقر ) ( يكشفون الضر عن ذي ضرهم ** ويبرون على
الآبي المبر ) ( فضل أحلامهم عن جارهم ** رحب الأذرع بالخير أمر ) ( ذلق في غارة
مسفوحة ** ولدى البأس حماة ما نفر ) ( نمسك الخيل على مكروهها ** حين لا يمسكها
إلا الصبر ) ( حين نادى الحي لما فزعوا ** ودعا الداعي وقد لج الذعر ) ( أيها الفتيان
في مجلسنا ** جردوا منها وراداً وشقر )
____________________
ثم وصف الخيل بأبيات تسعة
، وقال : ( ففداء لبني قيس على ** ما أصاب الناس من سر وضر ) ( خالتي والنفس قدماً
إنهم ** نعم الساعون في القوم الشطر ) قوله : نحن في المشتاة . . . إلخ قال شارحه
الأعلم الشنتمري : يريد زمن الشتاء والبرد وذلك أشد الزمان .
والجفلى : أن يعم بدعوته إلى الطعام ولا يخص واحداً دون آخر . والآدب : الذي يدعو
إلى المأدبة وهي كل طعام يدعى إليه .
والانتقار : أن يدعو النقرى وهو أن يخصهم ولا يعمهم . يقول : لا يخص الأغنياء ومن
يطمعون في مكافاته ولكنهم يعمون طلباً للحمد ولاكتساب المجد .
وقوله : حين قال الناس . . . إلخ القتار بالضم : رائحة اللحم إذا شوي .
والقطر بضمتين : العود الذي يتبخر به . يقول : نحن نطعم في شدة الزمان إذا كان ريح
القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود لما فيه من الجهد والحاجة إلى الطعام .
وقوله : يجفان تعتري . . . إلخ أي : ندعوهم إلى الجفان . ومعنى تعتري : تلم به
وتأتيه .
والنادي : مجلس القوم ومتحدثهم . والسديف : قطع السنام . والصنبر أشد ما يكون من
البرد .
قال ابن جني في الخصائص الصنبر بنون مشددة وباء ساكنة . وكان حقه إذا نقلت الحركة
أن تكون الباء مضمومة لأن الراء مرفوعة ولكنه قدر الإضافة إلى الفعل يعني المصدر
كأنه قال : )
حين هيج الصنبر . يعني : أنه نقل الكسرة في الوقف إلى الباء الساكنة وسكنت الراء .
____________________
قال الدماميني في الحاشية الهندية بعد أن نقل الكلام : وهذا من الغرائب فإن الصنبر
لا شك في كونه فاعلاً بهاج لكنه أعربه بالكسرة نظراً إلى أن الفعل في معنى المصدر
المضاف إلى هذا الفاعل ثم نقل الكسرة . وقد نظمته لغزاً فقلت : الطويل ( أيا علماء
الهند إني سائل ** فمنوا بتحقيق به يظهر السر ) ( أرى فاعلاً بالفعل أعرب لفظه **
بجر ولا حرف يكون به الجر ) ( وليس بمحكي ولا بمجاور ** لذي الخفض والإنسان للبحث
يضطر ) فهل من جواب منكم أستفيده فمن بحركم ما زال يستخر الدر وقد استشهد الجوهري
ببيت طرفة على أن الصنبر بكسر الباء : شدة البرد فجعل الكسرة أصلية وجوز أن تكون الباء
ساكنة في الأصل ولكن حركت بالكسر للضرورة . وعلى هذا لا يلغز . انتهى كلامه .
قال الشمني : وقد سبق الدماميني إلى اللغز في ذلك بأبي سعيد فرج المعروف بابن لب
النحوي الأندلسي في منظومته النونية في الألغاز النحوية فقال : وفي شرحها : يعني
الصِّنَبِر من قول طرفة . اه .
وقوله : كالجوابي لاتني . . . . إلخ الجوابي : جمع جابية وهو الحوض العظيم يجبى
فيه الماء أي : يجمع . شبه الجفان بها في سعتها وعظمها . والمترعة : المملوءة .
قوله : لا تني أي : لا تفتر ولا تزال . والقرى : القيام بالضيف . والمحتضر :
النازل على الماء اسم فاعل من احتضر . والمحاضر : المياه واحدها محضر كجعفر .
يقول : لا تزال جفاتنا مترعة لم جاءنا ضيفاً أو لمن كان حاضراً معنا نازلاً على
مائنا .
وقوله : ولقد تعلم بكر . . . إلخ الجزر : جمع جزور . والمساميح : الأسخياء .
____________________
واليسر : الداخلون في اليسر . يريد : تفضل اراؤنا وسياستنا رأي غيرنا ولا نخف عند
الروع بل نثبت ونتوقر .
وقوله : ويبرون أي : يغلبون ويظهرون . على الآبي أي : الممتنع . أيك نحن نغلب
الآبي الغالب .
وقوله : فضل أحلامهم يقول : إن جهل جارهم حلموا عنه حلماً فاضلاً ولم يكافئوه على
جهله . )
وقوله : رحب الأذرع أي : واسعو الصدر بالمعروف . وأمر : جمع أمور وهو الكثير الأمر
.
وقوله : ذلق في غارة أي : مسرعون إلى الغارة متقدمون فيها . وأصله من ذلك السيف
إذا كان والمسفوحة : المصبوبة ويقال : هي الكثيرة . والحماة : جمع حام وهو الذي
يحمي حريمه وعشيرته .
وقوله : نمسك الخيل يقول : نصبر على ارتباط الخيل والقيام عليها .
وقوله : على مكروهها أي : نمسكها على شدة الزمان وجوع الناس ونؤثرها على أنفسنا .
ويحتمل أن يريد نمسك الخيل على ما نلقاه من شدة الحرب وجهدها ولا ننهزم .
وإنما ذكر مكروه الخيل لأنه إذا أصابها مكروه في الحرب فهم أجدر أن يصيبهم .
والبيت الذي بعده يدل على هذا التفسير الثاني .
وقوله : وقد لج الذعر أي : دام الذعر في القلب واشتد . والذُّعر : الفزع وحرك
العين إتباعاً لحركة الذال .
وقوله : أيها الفتيان . . . إلخ جردوا منها وراداً أي : ألقوا عنها جلالها
وأسرجوها للقاء .
وقيل : الجريدة من الخيل وهي التي تختار فتجرد أي : تكمش في مهم الأمور .
____________________
والوراد : جمع ورد . وشقر : جمع أشقر وحرك الثاني إبتاعاً للأول .
وتقدمت ترجمة طرفة بن العبد في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده : الكامل تقدم شرحه مستوفي عليه الكلام في الشاهد الحادي والثمانين بعد
المائتين .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
فمضيت ثمت قلت لا يعنيني
على أن ثم إذا لحقتها التاء اختصت بعطف قصة على قصة .
تقدم هذا من الشارح المحقق في باب المذكر والمؤنث أيضاً وهو المشهور . وقد وقع في
شعر رؤبة عطف المفرد بها قال : الرجز ( فإن تكن سوائق الحمام ** ساقتهم للبلد
الشآم ) فبالسلام ثمت السلام وقول الشارح المحقق : وقد جوزه ابن الأنباري ولا أدري
ما صحته أقول : تجويزه مأخوذ من )
شعر رؤبة . وحينئذ صحته واضحة .
والمذكور عجز وصدره : ولقد أمر على اللئيم يسبني وتقدم الكلام عليه مراراً وأول ما
ذكر في الشاهد الخامس والخمسين .
وأنشد بعده السريع ( ماوي يا ربتما غارة ** شعواء كاللذعة بالميسم ) على أن التاء
لحقت رب للإيذان بأن مجرورها مؤنث وما زائدة بين رب ومجورها كما قاله الشارح
المحقق في رب من حروف الجر .
____________________
والبيت أول أبيات أربعة لضمرة بن ضمرة النهشلي أوردها أبو زيد في نوادره .
وبعده : ( ناهبتها الغنم على طيع ** أجرد كالقدح من الساسم ) ( ماوي بل لست
برعديدة ** أبلخ وجاد على المعدم ) ( لا وألت نفسك خليتها ** للعامريين ولم تكلم )
وماويَّ : منادى مرخم ماوية اسم امرأة . ويا في قوله : يا ربتما للتنبيه لا للنداء
.
وفي رواية أبي زيد : ماوي بل ربتما قال أبو زيد : الشعواء : الغارة المنتشرة وهي
بالعين المهملة . والذعة بالذال المعجمة والعين المهملة من لذعته النار إذا أحرقته
.
هذا ما رواه أبو زيد قال العيني : وإنما اللدغة بالدال المهلمة والغين المعجمة :
المكوى . اه .
وهذا معارضة النقل بالرأي . قال أبو زيد : والميسم : ما يوسم به البعير بالنار .
وقوله : ناهبتها جواب رب أي : نهبت بالغارة الغنم بالضم وهي الغنيمة . والغارة :
اسم من أغار القوم إغارة أي : أسرعوا في السير .
وقوله : على طيع أي : فرس طيع وهو فيعل من الطوع وهو الانقياد .
____________________
قال أبو زيد : طيع : فرس لين العنان طوع . وأجرد بالجيم والراء قال أبو زيد : هو
قصير الشعر . وهو صلب كأنه قدح من خشب الساسم الآبنوس وهو الساسم .
والقدح بكسر القاف : السهم قبل أن يراش وينصل . والساسم بسينين مهملتين مفتوحتين
قال )
أبو الحسن الأخفش فيما كتبه هنا : وأنشدت عن ابن الأعرابي : ناهبتها الغنم على
صُنْتُع وزعم أنه الصلب الشديد وهو بضم الصاد المهملة وسكون النون وضم المثناة من
فوق بعدها عين مهملة .
قال أبو زيد : رجل رعديد ورعديدة إذا كان يرعد عند القتال . والأبلخ بالموحدة
والخاء المعجمة صفة رعديدة قال أبو زيد : المتكبر الفخور . ووجاد بتشديد الجيم صفة
ثانية لرعديدة .
قال أبو زيد : وجاد : كثير الغضب وهو مبالغة فاعل من الوجد وهو الغضب . ويقال :
الموجدة أيضاً . والمعدم : الفقير وهو اسم فاعل من أعدم فلان إذا افتقر .
وقوله : لا وألت نفسك . . . . إلخ هذا دعاء على رجل استأسر لأعدائه دون أن يجرح .
قال أبو زيد : وألت : نجت . والموئل : المنجى . وتكلم : تجرح بالبناء للمفعول من
الكلم وهو الجرح .
وضمرة بن ضمرة شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثمانين .
____________________
وأنشد بعده : الرجز ( يا صاحبا ربت إنسان حسن ** يسأل عنك اليوم أو يسأل عن ) على
أنه جاء مجرور ربت مذكراً على خلاف القياس .
وقد تقدم الكلام عليه في باب المذكر والمؤنث في الشاهد الواحد والخمسين بعد
الخمسمائة .
وأنشد بعده : البسيط والمؤمن العائذات الطير على أن العائذات كان في الأصل صفة
للطير فقدم عليه وصار الطير بدلاً من العائذات .
والعائذات مفعول به للمؤمن والمؤمن معطوف على مقسم به متقدم .
وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده الطويل لنعم السيدان وجدتما هو قطعة من بيت وهو :
____________________
761 - لنعم السيدان وجدتما هو قطعة من بيت ، وهو : ( يميناً لنعم السيدان وجدتما
** على كل حال من سحيل ومبرم ) )
على أنه قد يدخل الفعل الناسخ على المخصوص بالمدح أو الذم سواء تقدم المخصوص كما
في المثال أو تأخر كما في هذا البيت . وأصله لنعم السيدان أنتما فدخل عليه الناسخ
فصار وجدتما فضمير التثنية نائب الفاعل لوجد وهو المفعول الأول له .
وقوله : لنعم السيدان جواب القسم والقسم وجوابه في موضع المفعول الثاني لوجد .
وكذا إعرابه على مقتضى مختار الشارح المحقق في جعل المخصوص مبتدأ وجملة المدح أو
الذم خبره .
والسحيل بالمهملتين : الخيط الذي لم يحكم فتله . والمبرم : الخيط الذي أحكم فتله .
وأراد بالأول : الأمر السهل وبالثاني : الأمر الشديد .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى وقد شرحناه مع أبيات منها في الشاهد السادس
والخمسين بعد المائة من باب الاشتغال .
وقوله : فيدخله عوامل المبتدأ يشمل باب كان وظن وإن وأخواتها . والأولان جائزان
والثالث لا يجوز فإنه لا يقال : نعم الرجل إن زيداً فكان ينبغي أن يقول كما قال
ابن مالك في التسهيل في صورة تأخير المخصوص : أو أول معمولي فعل ناسخ ليحترز عن إن
وأخواتها .
ومثال الأول قوله : الطويل ( لعمري لئن أنزفتم أو صحوتم ** لبئس الندامى كنتم آل
أبجرا
____________________
) وتعميم النواسخ إنما هو
في صورة تقديم المخصوص كقوله : مجزوء الكامل ( إن ابن عبد الله نع ** م أخو الندى
وابن العشيرة ) وقول الآخر : الطويل ( إذا أرسلوني عند تعذير حاجة ** أمارس فيها
كنت نعم الممارس ) ومثال ظن نحو : ظننت زيداً نعم الرجل .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد السبعمائة ) الرجز على أن حرف الجر داخل
على محذوف أي : بمقول فيه : نام صاحبه
____________________
فحذف القول وبقي المحكي به
.
وذهب صاحب اللباب إلى أنه من باب حذف الموصوف غير القول قال : تقديره : بليل نام
صاحبه فيه فالجر دخل في الحقيقة على الموصوف المقدر لا على الصفة .
وأقول : لا فرق بينهما فإن كلاً منهما ضرورة يختص بالشعر . إلا أن ما ذهب إليه
الشارح المحقق أقرب إلى القياس وهو قول أبي علي في التذكرة قال فيها : ومن زعم أن
نعم اسم لدخول حرف الجر عليه في قول حسان : الطويل ( ألست بنعم الجار يؤلف بيته **
أخا ثلة أو معدم المال مصرم ) فلا حجة له فيه لأنه يقدر فيه الحكاية ويلزمه على
هذا أن يكون نام اسماً كقوله : ( والله ما زيد بنام صاحبه ** ولا مخالط الليان
جانبه ) اه .
وكذا قال ابن الأنباري وابن الشجري إلا أن روايتهما : ما ليلي بنام صاحبه .
ونقل العيني عن ابن سيده في المحكم أن روايته كرواية أبي علي . وقال : إنه قال :
قيل إن نام صاحبه علم رجل . وإذا كان كذلك جرى مجرى شاب قرناها . ثم قال : فإن قلت
: إن قوله ولا مخالط الليان جانبه ليس علماً وإنما هو صفة وهو معطوف على نام صاحبه
فيجب أن يكون قوله : نام صاحبه أيضاً صفة . قيل : قد يكون في الجمل إذا سمي بها
معاني الأفعال .
ألا ترى أن شاب قرناها اسم عليم وفيه مع ذلك معنى الذم . وإذا كان كذلك جاز أن
يكون قوله : ولا مخالط الليان جانبه : معطوفاً على ما في قوله نام صاحبه من معنى
الفعل . هذا كلامه .
____________________
قال شارح اللباب : الليان بالكسر : الملاينة . وبالفتح : مصدر لان بمعنى اللين .
يقال : هو في ليان من العيش أي : في نعيم وخفض . اه .
وروى صدره : عمرك ما ليلى إلخ )
فيكون عمرك مبتدأ خبره محذوف أي : قسمي . وجملة : ما ليلي إلخ جواب القسم وزيدت
الباء في خبر ما .
والبيت مع كثرة دورانه في كتب النحو غير معلوم قائله . والله أعلم به .
وأنشد بعده : ( يميناً لنعم السيدان وجدتما ** على كل حال من سحيل ومبرم ) وأنشد
بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد السبعمائة ) الوافر ( أبو موسى فجدك نعم جداً **
وشيخ الحي خالك نعم خالا ) على أنه قد يكون فاعل نعم ضميراً مفسراً بنكرة مع تقدم
المخصوص بالمدح
____________________
كما هنا . فإن أبو موسى هو
المخصوص وفاعل نعم ضمير فسره بقوله : جداً . وكذا المصراع الثاني فإن قوله : شيخ
الحي هو المخصوص وخالك بدل منه وفاعل نعم ضمير مفسر بقوله : خالا .
وأما قوله : فجدك تحريف وقع في نسخ هذا الشرح ولم يتنبه له أحد ولا فتش ديوان
قائله حتى يؤخذ الماء من مجاريه .
وقد تمحل لإعرابه المولى حسن الفناري في حاشية المطول وهو معذور . قال : قوله :
فجدك بدل من أبو موسى والأقرب أن أبو موسى مبتدأ فجدك خبره والفاء زائدة في الخبر
على ما جوزه الأخفش . أما زيادتها في البدل فلم أظفر به والمخصوص بالمدح محذوف على
قياس نعم العبد . وهذا أولى لشيوعه .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها مائة بيت مدح بها بلال بن أبي بردة بن أبي موسى
الأشعري .
وليس البيت للأخطل كما زعم الشارح فإن الأخطل هلك قبل ظهور بلال فإن الأخطل كان من
شعراء معاوية بن أبي سفيان وبلال كان في زمن عمر بن عبد العزيز .
والبيت موجود في قصيدة من شعر ذي الرمة . وغالب شعر ذي الرمة في مدح بلال .
وقبله : ( بنى لك أهل بيتك يا ابن قيسٍ ** وأنت تزيدهم شرفاً جلالا ) ( مكارم ليس
يحصيهن مدح ** ولا كذباً أقول ولا انتحالا ) ) ( أبو موسى فحسبك نعم جداً ** وشيخ
الركب خالك نعم خالا )
____________________
( كأن الناس حين تمر حتى
** عواتق لم تكن تدع الحجالا ) ( قياماً ينظرون إلى بلال ** رفاق الحج أبصرت
الهلالا ) ( فقد رفع الإله بكل أفق ** لضوئك يا بلال سناً طوالا ) ( كضوء الشمس
ليس به خفاء ** وأعطيت المهابة والجمالا ) والجلال بضم الجيم : الجليل . ومكارم :
مفعول بنى لك .
وقوله : أبو موسى فحسبك . . . إلخ هو أبو موسى الأشعري الصحابي .
وقوله : فحسبك الفاء في فحسب زائدة لازمة . وحسب : اسم بمعنى ليكف كما قال الشارح
المحقق في باب الإضافة مرفوع بالابتداء وخبره محذوف تقديره : هذا النسب أو هذا
المدح .
والجملة اعتراضية بين المبتدأ والخبر .
وقوله : وشيخ الركب أي : القافلة . وروى بدله : وزاد الركب ومعناه أنه لا يدع
أحداً من الركب يحمل زاد السفرة بل هو يجري النفقات على جميع من صحبه في السفر .
ومدحه في هذا البيت بشرف النسبين : نسب الأب ونسب الأم .
وقوله : كأن الناس . . . . إلخ خبر كأن قوله : رفاق الحج في البيت بعده . وحتى :
حرف جر غاية للناس وما بعدها داخل في المغيا . وعواتق مجرور بالفتحة جمع عاتق وهي
البنت التي أدركت في بيت أبويها ولم تكن متزوجة .
والحجال : جمع حجلة بالتحريك وهو بيتها الذي تلازمه ولا تخرج منه . وقياماً منصوب
على الحال .
أراد : كأن الناس في حال قيامهم حين يمر بلال رفاق الحج إذا نظروا إلى الهلال .
والسنا بالقصر : الضوء . والطوال : مبالغة الطويل .
وفي هذه القصيدة أبيات أخر شواهد منها : الوافر
____________________
و ( وميه أحسن الثقلين
جيداً ** وسالفه وأحسنهم قذالا ) القذال : ما بين الأذن والنقرة وهما قذالان .
ومنها : ( سمعت الناس ينتجعون غيثاً ** فقلت لصيدح انتجعي بلالا ) وتقدم شرحه في
أفعال القلوب .
وقد تقدمت ترجمة بلال هذا في الشاهد الستين بعد المائة . وترجمة ذي الرمة في
الشاهد الثامن )
من أول الكتاب .
وأنشد بعده : ويلمها روحة هو قطعة من بيت وهو : البسيط ( ويملها روحة والريح معصفة
** والغيث مرتجز والليل مقترب ) وتقدم شرحه في الشاهد الحادي عشر بعد المائتين .
____________________
وأنشد بعده : فيا لك من ليل هذا أيضاً من بيت وهو : الطويل ( فيا لك من ليلٍ كأن
نجومه ** بكل مغار الفتل شدت بيذبل ) وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد
السبعمائة ) الوافر ( تزود مثل زاد أبيك فينا ** فنعم الزاد زاد أبيك زادا ) على
أنه قد يجيء بعد الفاعل الظاهر تمييز للتوكيد .
قال ابن يعيش : اختلف الأئمة في هذه المسألة فمنع سيبويه من ذلك وأنه
____________________
لا يقال : نعم الرجل رجلاً
زيد وكذلك السيرافي وابن السراج وأجازه المبرد وأبو علي .
واحتج في ذلك سيبويه بأن المقصود من المرفوع والمنصوب الدلالة على الجنس وأحدهما
كاف عن الآخر . وأيضاً فإن ذلك ربما أوهم بأن الفعل الواحد له فاعلان وذلك إن رفعت
اسم الجنس بأنه فاعل .
وإذا نصبت النكرة بعد ذلك آذنت بأن الفعل فيه ضمير فاعل لأن النكرة المنصوبة لا
تأتي إلا كذلك .
وحجة المبرد في الجواز الغلو في البيان والتأكيد والأول أظهر .
تزود مثل زاد أبيك . . . . . . . . . . . . . إلخ فإن المبرد أنشده شاهداً على ما
ادعى من جواز ذلك . فإن رفع الزاد المعرف باللام بأنه فاعل )
نعم وزاد أبيك هو المخصوص بالمدح وزاداً تمييز وتفسير فالقول عليه أنا لا نسلم أن
زاداً منصوب بنعم وإنما هو مفعول به بتزود والتقدير : تزود زاداً مثل زاد أبيك
فينا فلما قدم صفته عليه نصبها على الحال .
ويجوز أن يكون مصدراً مؤكداً محذوف الزوائد والتقدير : تزود مثل زاد أبيك فينا
تزوداً .
ويجوز أن يكون تمييزاً لمثل كما يقال : ما رأيت مثله رجلاً . وعلى تقدير أن يكون
العامل فيه نعم فإن ذلك من ضرورة الشعر ولا يجعل قياساً .
ومثله قول الآخر : الوافر ( ذريني أصطبح يا بكر إني ** رأيت الموت نقب عن هشام ) (
تخبره ولم يعدل سواه ** ونعم المرء من رجل تهامي )
____________________
فقوله : من رجل كقوله
رجلاً لأن من تدخل على التمييز . وذلك كله من ضرورة الشعر .
وقال ابن جني في الخصائص : إن الرجل من نحو قولهم : نعم الرجل زيد غير المضمر في
نعم إذا قلت : نعم رجلاً زيد لأن المضمر على شريطة التفسير لا يظهر ولا يستعمل
ملفوظاً به .
ولذلك قال سيبويه هذا باب ما لا يعلم في المعروف إلا مضمراً أي : إذا فسر بالنكرة
نحو : نعم رجلاً زيد فإنه لا يظهر أبداً . وإذا كان كذلك علمت زيادة الزاد في قول
جرير : تزود مثل زاد أبيك فينا . . . . . . . . . . . . البيت وذلك أن فاعل نعم
مظهر فلا حجة به إلى أن يفسر . فهذا يسقط اعتراض المبرد على صاحب الكتاب في هذا
الموضع . اه .
وهذا جواب خامس .
وقال المرادي في شرح التسهيل : منع سيبويه الجمع بين التمييز والفاعل الظاهر وأجاز
ذلك المبرد والفارسي . قال المصنف : وهو الصحيح . اه .
وبالجواز قال ابن السراج . وفصل بعضهم فقال : إن أفاد التمييز معنى لا يفيده
الفاعل جاز نحو : نعم الرجل رجلاً فارساً زيد وإلا فلا .
قال المصنف : والحامل لسيبويه على المنع كون التمييز في الأصل مسوقاً لدفع الإبهام
والإبهام إذا ظهر الفاعل زائل فلا حاجة إلى التميز . وهذا الاعتبار يلزم منه منع
التمييز في كل ما لا إبهام فيه كقولك : عندي من الدراهم عشرون درهماً . ومثل هذا
جائز بلا خلاف . اه . )
وما ذكره من أن الحامل لسيبويه ما ذكر ليس هو في كتابه . وفرق بين نعم رجل رجلاً
يزيد وبين : له من الدراهم عشرون درهماً ونحوه بأن عشرين وأمثالها
____________________
محتاجة إلى التمييز في
الأصل بخلاف نعم الرجل زيد . والتمييز مبناه على التبيين ثم يعرض له في بعض
المواضع أن يقترن بالكلام ما يغني عنه فيصير مؤكداً .
وقد تأول الفارسي كلام سيبويه على أن معناه لا يكون الفاعل ظاهراً حين يلزم
التمييز بل الفاعل في حال لزوم التمييز مضمر لا غير وأما مع الظاهر فلا يكون
لازماً . وفيه بعد . واستدل المصنف على الجواز بالقياس والسماع .
أما القياس فقال بعد التمثيل ب له من الدراهم عشرون درهماً وبقوله تعالى : إن عدة
الشهور عند الله اثنا عشر شهراً وقوله تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً وقوله
تعالى : فتم ميقات ربه أربعين ليلة وقوله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة .
فكما حكم بالجواز في مثل هذا وجعل سبب الجواز التوكيد لا رفع الإبهام فكذلك يفعل
في نحو : نعم الرجل رجلاً . ولا يمنع لأن تخصيصه بالمنع كحكم بلا دليل . هذا لو لم
تستعمله العرب فكيف وقد استعملته . اه .
وقد تقدم ما فرق به بين ما ذكرته من التمثيل وبين نعم الرجل . قال : ومن وروده
التمييز للتوكيد لا لرفع الإبهام قول أبي طالب : الكامل وقول الآخر : المتقارب (
فأما التي خيرها يرتجى ** فأجود جوداً من اللافظة )
____________________
اه .
ولا يتأتى ذلك الفرق هنا . وأما السماع فقول جرير : البسيط ( والتغلبيون بئس الفحل
فحلهم ** فحلاً وأمهم زلاء منطيق ) وقوله جرير أيضاً : تزود مثل زاد أبيك . . . .
. . . . . . . . البيت وأنشد غير المصنف : البسيط ( نعم الفتاة فتاة هند لو بذلت
** رد التحية نطقاً أو بإيماء ) وحكي من كلام العرب : نعم القتيل قتيلاً أصلح بين
بكر وتغلب . وهذا وارد في الاختيار . )
وقد تأول المانعون السماع . أما فحلاً وفتاة فعلى الحال المؤكدة . وأما زاداً فعلى
أنه مصدر محذوف الزوائد منصوب بتزود . وقد حكى الفراء استعماله مصدراً . أو على
أنه مفعول به ومثل منصوب على الحال لأنه لو تأخر لكان صفة .
وقال أبو حيان : وعندي تأويل غير ما ذكروه وهو أقرب . وذلك أن يدعى أن في نعم وبئس
ضميراً وفحلاً وفتاة وزاداً تمييز لذلك الضمير وتأخر عن المخصوص على جهة الندور .
فالفحل والفتاة والزاد هي المخصوصة وفحلهم
____________________
وزاد أبيك أبدال من
المرفوع قبلها .
هذا ما أورده المرادي ولفوائده سقناه برمته .
والبيت من قصيدة لجرير مدح بها عمر بن عبد العزيز منها : ( وسدت الناس قبل سنين
عشر ** كذاك أبوك قبل العشر سادا ) ( وثبت الفروع فهن خضر ** ولو لم تحي أصلهم
لبادا ) تزود مثل زاد أبيك فينا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( فلما كعب
بن مامة وابن سعدى ** بأجود منك يا عمر الجوادا ) ( وتبني المجد يا عمر بن ليلى **
وتكفي الممحل السنة الجمادا ) ( يعود الحلم منك على قريش ** وتفرج عنهم الكرب
الشدادا ) ( وتدعو الله مجتهداً ليرضى ** وتذكر في رعيتك المعادا ) وباد : هلك .
وأتبع الجواد لموضع عمر وهو من شواهد المنادى .
وكعب هو ابن مامة الإيادي أحد أجواد العرب .
قال الواحدي في أمثاله : كان كعب فيما يقال أجود من حاتم الطائي . حكي أنه خرج في
ركب وفيهم رجل من النمر بن قاسط في القيظ فضلوا
____________________
فتصافنوا الماء بالمقلة
فقعد أصحاب كعب لشرب الماء فلما دار القعب إلى كعب أبصر النمري يحدد النظر إليه
فآثره كعب بمائه وقال للساقي : اسق أخاك النمري يصطبح فذهبت مثلاً .
فشرب النمري نصيب كعب ذلك اليوم ثم نزلوا من الغد منزلاً آخر فتصافنوا بقية مائهم
فنظر النمري إلى كعب كنظره بالأمس ففعل كعب فعلته بالأمس وارتحل القوم وقالوا : يا
كعب ارتحل . فلم يكن به قوة النهوض وكانوا قد قربوا من الماء فقيل : رد كعب إنك
وراد . فعجز عن الإجابة فلما يئسوا منه خيلوا عليه بثوب يمنعه من السباع وتركوه مكانه
فمات فقال أبوه )
يبكيه : البسيط ( أوفى على الماء كعب ثم قيل له ** رد كعب إنك وراد فما وردا ) قال
: وكان من جوده أنه إذا مات جار له أدى ديته إلى أهله وإن هلك لجاره بعير أو شاة
أخلفه عليه فجاوره أبو دواد الإيادي فعامله بذلك فصارت العرب إذا حمدت مستجاراً به
لحسن جواره قالوا : كجار أبي دواد . ومنه قول قيس بن زهير : الوافر
____________________
( سأفعل ما بدا لي ثم آوي
** إلى جار كجار أبي دواد ) اه .
قال المبرد في الكامل : والتصافن : أن يطرح في الإناء حجر ثم يصب فيه من الماء ما
يغمره لئلا يتغابنوا . والمقلة : اسم ذلك الحجر .
وابن سعدى هو كما في كامل المبرد : أوس بن حارثة بن لأم الطائي . وكان سيداً
مقداماً فوفد هو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هند وأبوه المنذر بن المنذر
بن ماء السماء فدعا أوساً فقال : أنت أفضل أم حاتم فقال : أبيت اللعن لو ملكني
حاتم وولدي ولحمتي لوهبنا في غداة واحدة ثم دعا حاتماً فقال : أنت أفضل أم أوس
فقال : أبيت اللعن إنما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل مني .
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلة وعنده وفود العرب من كل حي فقال : احضروا في غد
فإني ملبس هذه الحلة أكرمكم . فحضر القوم جميعاً إلا أوساً فقيل له : لم تتخلف
فقال : إن كن المراد غيري فأجمل الأشياء أن لا أكون حاضراً وإن كنت المراد فسأطلب
ويعرف مكاني .
فلما جلس النعمان لم ير أوساً فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له : احضر آمناً مما
خفت .
فحضر فألبسه الحلة فحسده قوم من أهله فقالوا للحطيئة : اهجه ولك ثلثمائة ناقة فقال
: الحطيئة : كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا مالاً إلا من عنده ثم قال :
البسيط ( كيف الهجاء وما تنفك صالحة ** من آل لأم بظهر الغيب تأتيني
____________________
فقال لهم بشر بن أبي خازم
أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجوه لكم . فأخذ الإبل وفعل فأغار أوس عليها فاكتسحها
فجعل لا يستجير حياً إلا قال : قد أجرتك إلا من أوس .
وكان في هجائه قد ذكر أمه فأتي به فدخل أوس على أمه فقال : قد أتينا ببشر الهاجي
لك ولي . قالت : أو تطيعني قال : نعم . قالت : أرى أن ترد عليه ماله وتعفو عنه
وتحبه وأفعل )
مثل ذلك فإنه لا يغسل هجاءه إلا مدحه .
فخرج فقال : إن أمي سعدى التي كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال : لا جرم
والله لا مدحت حتى أموت أحداً غيرك . ففيه يقول : الوافر ( إلى أوس بن حارثة بن
لأم ** ليقضي حاجتي فيمن قضاها ) ( فما وطئ الثرى مثل ابن سعدى ** ولا لبس النعال
ولا احتذاها ) وأنشد بعده : الوافر
____________________
أنا ابن جلا وطلاع الثنايا
على أن الموصوف محذوف وصفته جملة فعلية وهي جلا على أنه فعل ماض وفاعله ضمير مستتر
فيه والتقدير : أنا ابن رجل الأمور وكشفها .
وهذا أحد التخريجين في البيت وقد ذكرناهما مشروحين فيما لا ينصرف وفي النعت . ( الشاهد
الخامس والستون بعد السبعمائة ) الكامل ( نعم الفتى فجعت به إخوانه ** يوم البقيع
حوادث الأيام ) على أن المخصوص بالمدح محذوف وهو موصوف بجملة أقيمت مقامه تقديره :
نعم الفتى فتى فجعت به إلخ .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : الهاء في به عائدة على موصوف محذوف أي : نعم الفتى
فتى فجعت به حوادث الأيام .
ويوم البقيع ظرف ويجوز أن تنصبه على أنه في المعنى مفعول به لأن الفعل في هذا
النحو يسند إلى ظرف الزمان نحو قولك : شفني يوم كذا وسرني وقت كذا فتنسب الفعل إلى
ذلك اليوم والوقت . اه .
____________________
وقال الطبرسي في شرح الحماسة : جملة فجعت به . . . . إلخ صفة فتى محذوف وهو
المخصوص بالمدح خصصته حتى صار كالمعرفة . والحذف في مثل هذا إنما يصلح إذا كان
الممدوح مشهور البيان . ويوم البقيع ظرف منصوب . وحوادث الأيام فاعل فجعت .
والفجيعة : والبيت أول أبيات ثلاثة لمحمد بن بشير الخارجي أوردها أبو تمام في باب
المراثي من الحماسة وبعده : ) ( سهل الفناء إذا حللت ببابه ** طلق اليدين مؤدب
الخدام ) ( وإذا رأيت صديقه وشقيقه ** لم تدر أيهما أخو الأرحام ) وقال الطبرسي :
سهل الفناء : خبر مبتدأ محذوف وجعل فناءه سهلاً للزوار والعفاة وذلك مثل لكثرة
إحسانه إليهم .
وقوله : مؤدب الخدام تنبيه على اقتدائهم بمولاهم في تفقد الوراد وإكرامهم والسعي
في أمورهم .
والشقيق من إخوان الولادة . والصديق من إخوان المودة .
يقول : لا يتميز صديقه عن شقيقه في شمول تفقده لهما وتساويهما في المجد عنده .
وهذا هو الغاية في الكرم .
ومحمد بن بشير الخارجي : شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثلاثين بعد
السبعمائة وهو من خارجة عدوان : قبيلة . وليس من الخوارج .
ونقل ابن خلكان في ترجمة يزيد بن مزيد الشيباني أن المرزباني ذكر في كتاب معجم
الشعراء أن هذه الأبيات لعمير بن عامر مولى يزيد بن مزيد الشيباني
____________________
رثى بها سيده .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد السبعمائة ) الكامل نعم الفتى المري أنت
هو قطعة من بيت وهو : ( نعم الفتى المري أنت إذا هم ** حضروا لدى الحجرات نار
الموقد ) على أنه يجوز وصف فاعل نعم فإن المري صفة الفتى لا بدل منه خلافاً لابن
السراج كما بينه الشارح المحقق .
وهذه عبارة أبي بكر بن السراج في الأصول : ويجوز توكيد المرفوع بنعم . قالوا : وقد
جاء في الشعر منعوتاً .
وأنشدوا : نعم الفتى المري أنت . . . . . . . . . . . . البيت وهذا يجوز أن يكون
بدلاً غير نعت فكأنه قال : نعم المري أنت . اه .
وقد نقله أبو علي عنه في تذكرته وأقره قال قرئ على أبي بكر من الأصول : نعم الفتى
المري أنت البيت قال أبو بكر : حمله قوم على الصفة
____________________
وهو عندنا على البدل لأن
وصفه قبيح .
قال أبو علي : لأن فاعل نعم إذا كان ظاهراً فالمقصود به الجنس وليس بعد الجنس شيء
يلبس فيفصل بينهما . هذا كلامه .
ورد عليهما الشارح المحقق بأن هذا المنع ليس بشيء لأن الإبهام مع مثل هذا التخصيص
باق .
وهو في مثل هذا الرد والتوجيه تابع لابن جني فإنه قال في بيت الحماسة ليزيد بن
قنافة : الطويل ( لعمري وما عمري علي بهين ** لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم ) قال
أصحابنا في قول الشاعر : نعم الفتى المري أنت إن المري بدل من الفتى قالوا : وذاك
أن فاعل نعم وبئس لا يجوز وصفه من حيث كان واقعاً على الجنس والجنس أبعد شيء عن
الوصف لفساد معناه فلما كان كذلك عدلوا به عن الوصف إلى البدل .
فقياس هذا أن يكون المدعو بدلاً من الفتى . وأما أنا فأجيزه . وذلك أن يكون المدح
والتفضيل إنما وقع على أن يفضل حاتم على الفتيان المدعوين بالليل أي : فاق حاتم
جميع الفتيان المدعوين بالليل ولم يرد أن يفضله على جميع الفتيان عموماً . )
ولو أراد ذلك لما جازت الصفة ولكنه وصف الفتى وفضل حاتماً على جميع الفتيان
المدعوين وكذلك تقول : نعم لرجل الطول زيد أي : فاق زيد في الرجال الطوال خاصة .
____________________
وهذا معنى مع أول تأمل يصح
. انتهى كلامه .
ولا بأس بإيراد كلام المرادي في شرح التسهيل فإن فيه فوائد .
قال بعد قول التسهيل : ولا يؤكد فاعلها توكيداً معنوياً باتفاق ما نصه : لأن القصد
بالتوكيد المعنوي رفع توهم إرادة المخصوص مما ظاهره العموم أو رفع توهم المجاز مما
ظاهره الحقيقة وفاعل نعم وبئس في الغالب بخلاف ذلك لأنه قائم مقام الجنس إن كان ذا
جنس أو مؤول بالجامع لأكمل خصال المدح اللائقة بمسماه إن كان فاعل نعم وبالجامع
لأكمل خصال الذم إن كان فاعل بئس والتوكيد المعنوي مناف للقصدين فاتفق على منعه .
وعلى القول بأن أل عهدية فقد يمكن أن يجوز توكيده توكيداً معنوياً لانتفاء المانع
. قال في الشرح : وأما التوكيد اللفظي فلا يمتنع لك أن تقول نعم الرجل الرجل زيد .
اه .
قيل : وينبغي أن لا يقدم على جواز ذلك إلا بسماع لأن باب نعم وبئس له أحكام مغايرة
وأما النعت فلا ينبغي أن يمتنع على الإطلاق بل يمنع إذا قصد به التخصيص مع إقامة
الفاعل مقام الجنس لأن تخصيصه حينئذ مناف لذلك القصد . وإذا تؤول بالجامع لأكمل
الخصال فلا مانع من نعته حينئذ لإمكان أن ينوى في النعت ما ينوى في المنعوت .
نعم الفتى المري أنت . . . . . . . . . . . . . . . البيت وحمل ابن السراج وأبو
علي مثل هذا على البدل وأبيا النعت . ولا حجة لهما .
اه .
قيل : أما منع وصفه فهو قول الجمهور . وقال بعضهم : لا يجوز عند البصريين . اه .
____________________
وأجاز أبو الفتح في بيت الحماسة : لبئس الفتى المدعو بالليل حاتم أن يكون المدعو
وصفاً للفتى . ومقتضى سكوت المصنف عن البدل والعطف جوازهما . قيل : وينبغي أن لا
يجوز منهما إلا ما يباشره نعم وبئس . انتهى كلام المرادي .
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى عدتها سبعة وعشرون بيتاً مدح بها سنان بن أبي
حارثة المري بدأ بذكر حبيبته سلمى ثم انتقل إلى وصف ناقته إلى أن قال : ) ( وتيممت
عرض الفلاة كأنها ** غراء من قطع السحاب الأقهد ) ( وإلى سنان سيرها ووسيجها **
حتى تلاقيه بطلق الأسعد ) ( نعم الفتى المري أنت إذا هم ** حضروا لدى الحجرات نار
الموقد ) ( خلط ألوف للجميع ببيته ** إذ لا يحل بجيزة المتوحد ) قوله : وتيممت عرض
الفلاة . . . إلخ تيممت : قصدت وفاعله ضمير الناقة .
والعرض بالضم : الناحية والجانب . والغراء : البيضاء . والأقهد : الأبيض من كل شيء
. أي : كأن الناقة سحابة بيضاء في سرعتها . والسحابة البيضاء أخف وأسرع ذهاباً
لقلة مائها .
وقوله : إلى سنان سيرها هو سنان بن أبي حارثة بن مرة بن نشبة بن غيظ
____________________
ابن مرة بن عوف بن سعد بن
ذبيان . وكان زهير مادحاً لسنان هذا ولابنه هرم بن سنان المري الذبياني وغالب مدحه
في ابنه هرم .
وشيجها بالشين المعجمة والجيم قال شارح ديوانه صعوداء : الوسيج : سير خفيف هو ألين
سير الإبل وهو سير النجائب . وطلق : سليم من كل سوء ومكروه يقال : يوم طلق وليلة
طلقة : ليس فيها حر ولا برد ولا مكروه . والأسعد : جمع سعد النجوم .
وقوله : نعم الفتى المري منسوب إلى مرة أحد أجداده القريب أو البعيد . وأنت : هو
المخصوص بالمدح . وإذا : ظرفية وهم : فاعل لفعل محذوف يفسره ما بعده كقوله تعالى :
إذا السماء انشقت . وهم ضمير الوفود والضيوف ولدى : ظرف متعلق بحضروا والحجرات
بضمتين قال شارحه : هي حجرات الأضياف .
يريد : البيوت التي تنزل فيها الضيوف . ونار : مفعول حضروا . والموقد : اسم فاعل
قال يريد : أنه أشد الناس إكراماً لضيوفه إذا حضروا دار ضيافته واستدلوا عليها
بالنار التي يوقدها خادمه ليقبل عليها من رآها . وقال العيني : إذا للمفاجأة وهم :
مبتدأ وحضروا : خبره . والحجرات : جمع حجرة وهي شدة الشتاء . هذا كلامه .
وكأنه لم يفهم معنى البيت . والحجرات بالمعنى الذي ذكره بفتحتين .
وقوله : خلِط ألوف . . . إلخ خلِط بكسر اللام بمعنى مخالطٍ للناس ومعاشرهم وله
ألفة بهم في بيته .
____________________
والمتوحد : المنفرد عن الحي ينزل بعيداً منهم حتى لا يقصده ضيف . )
والجيزة يفتح الحاء المهملة قال شارحه : هو الموضع الذي انحاز إليه لئلا يعرف
العفاة والضيوف موضعه وهذا أشد شيء تشب العرب به الرجل . يقول : سنان يألف الحي
وينزل بينهم .
وقوله : يسط البيوت . . . إلخ هو مضارع وسط وسطاً . قال الأصمعي : يسط البيوت :
ينزل وسطها .
والمظنة قال شارحه : هو الموضع الذي لا يشك فيه . والعرب تقول : اطلب الأمر في
مظانه أي : في الموضع الذي لا يشك . والظن يكون يقيناً ومنه قوله تعالى : ورأى
المجرمون النار فظنوا أنهم مواقعوها أي : أيقن بما فتناه وخر عند اليقين . وهذا
كثير في كلامهم ومنه قوله تعالى : يظنون أنهم ملاقو ربهم أي : موقنون .
والمسترفد : الذي يطلب الرفد وهو النيل والعطاء . والجفنة : القصعة التي يطعم فيها
الطعام .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد السبعمائة ) البسيط ( فنعم مزكأ من ضاقت
مذاهبه ** ونعم من هو في سر وإعلان ) على أن من الثانية موصولة بمعنى الذي وقعت
فاعلاً لنعم عند أبي علي والمبرد وهو : مبتدأ وخبره محذوف تقديره مثله والجملة صلة
من والمخصوص بالمدح محذوف تقديره : بشر .
وأما قوله : في سر وإعلان فهو متعلق بنعم ولا يجوز أن يتعلق بمحذوف على أنه خبر هو
الواقع صلة الموصول لما بينه أبو علي .
وقد بسط الكلام على هذا المصراع في احتمال وجوه ثلاثة لمن فلا بأس بنقل كلامه قال
في قال الشاعر : البسيط ( وكيف أرهب أمراً أو أراع له ** وقد زكأت إلى بشر بن
مروان ) ( فنعم مزكأ من ضاقت مذاهبه ** ونعم من هو في سر وإعلان ) القول في الظرف
أنه يتعلق بنعم وذلك لأنه لا يخلو من أن يكون خبر هو في الصلة أو يكون متعلقاً
بنعم . فلا يجوز أن يكون متعلقاً بمحذوف على أن يكون في موضع خبر هو التي في )
الصلة لأن التقدير قبل كون الكلام صلة يكون : هو في سر وإعلان وهذا لا معنى له .
فإذن المعنى : كرم هذا الإنسان في سره وعلانيته أي : ليس ما يفعله من الخير لتصنع
فيفعل الخير في السر كما يفعله في العلانية . وإذا كان كذلك احتاج
____________________
' هو ' إلى جزء حتى تستقل
الصلة ، وذلك الجزء ينبغي أن يكون الذي هو مثله ، ولا يكون الذي هو هو ، لتكون
الصلة شائعة فلا تكون مخصوصة ، لأنها فاعل نعم . فإن قدرت الذي هو هو ، وأنت تريد
الذي هو مثله ، فتحذف المضاف ، فيصير الذي هو هو معناه مثله ، جاز أيضاً . وقد
يجوز في القياس أن تجعل ' من ' نكرة . فإذا جعلت نكرة احتاجت إلى صفة ، فتكون
الجملة التي قدرتها صلة لها مقدرة صفة ، ويكون المقصود بالمدح مضمراً ، لأن ذكره
قد جرى ، كما جرى ذكر أيوب قبل قوله تعالى : ' نعم العبد ' فاستغني [ بذلك ] عن
ذكر ما يخصه بالمدح وإظهاره . ويجوز في القياس أن تجعل من نكرة ولا تجعل له صفة
كما فعل ذلك بما ، في قوله تعالى : ' فنعما هي ' . فإذا جعلتها كذلك كان كأن قال :
فنعم رجلاً ، فيكون موضع ' من ' نصباً ، ويكون هو كناية عن المقصود بالمدح . ووجه
القياس في الحكم على ' من ' أنها نكرة غير موصوفة : أنهم جعلوا ' ما ' بمنزلة شيء
، وهو أشد إشاعة ، وإبهاماً من ' من ' . فإذا جاز أن لا توصف مع أنها أشد إبهاماً
من ' من ' كان أن لا توصف ' من ' أجوز ، لأنها أخص منها ، فيصير كأنه قال : نعم
رجلاً هو ، لأنها تخص الناس ، ومن أشبههم ، كما كانت ما تعم الأشياء ، إلا أنا لم
نعلمهم في الاستعمال تركوا من بغير صفة ، كما تركوا ما غير موصوفة في الخبر ، نحو
التعجب والآية التي تلوناها . انتهى كلام أبي علي . وقد نسب ابن هشام في ' المغني
' هذا التخريج الأخير إلى أبي علي ، ونسب الأول إلى غيره . قال في بحث ' من ' ،
وفي الباب الثالث : إن من تأتي نكرة تامة عند أبي علي ، قاله في قوله : ( ونعم من
هو في سر وإعلان ** ) فزعم أن الفاعل مستتر ، ومن تمييز ، وقوله هو : مخصوص بالمدح
، فهو : مبتدأ ،
____________________
وخبره ما قبله أو خبر
لمبتدأ محذوف . وقال غيره : من موصول فاعل وقوله : هو مبتدأ خبره هو آخر محذوف على
حد قوله : والظرف متعلق بالمحذوف لأن فيه معنى الفعل أي : ونعم من هو الثابت في
حالتي السر والعلانية . قلت : ويحتادج إلى تقدير هو ثالث يكون مخصوصاً بالمدح .
انتهى . )
وصاحب هذا القول هو ابن مالك قال في شرح الكافية : هو مبتدأ خبره هو آخر محذوف
والتقدير : ونعم من هو هو في سر وإعلان . وفي متعلق بهو المحذوف لأن فيه معنى
الفعل . اه .
وعرف ضعف تقديره هو هو من كلام أبي علي .
وقد رد ابن مالك في شرح التسهيل الوجه الثالث قال : لا يصح لوجهين : أحدهما : أن
التمييز لا يقع في الكلام بالاسقتراء إلا نكرة صالحة للألف واللام ومَنْ بخلاف ذلك
فلا يجوز كونها تمييزاً .
الثاني : أن الحكم عليها بالتمييز عند القائل به مرتب على كون من نكرة غير موصوفة
وذلك منتف بإجماع في غير محل النزاع فلا يصار إليه بلا دليل عليه . فصح القول بأن
مَنْ في موضع رفع بنعم إذ لا قائل بقول ثالث . اه .
ورفعها بنعم عنده إنما يكون على جعلها موصولة بمعنى الذي لأنه الذي ذكره . وأما
جعلها نكرة موصوفة بالجملة التي بعدها كما هو الوجه الثاني في كلام أبي
____________________
علي فلا . وهو وارد على
قوله : إذ لا قائل بقول ثالث فتأمل . ويكون هذا من لغة من يرفع بنعم النكرة كما
يأتي بعد هذا .
وأجاب التبريزي في شرح الكافية بأن نحو نعم غلام رجل زيد بنصب الغلام تمييز . ولم
يقبل اللام . وأيضاً كونه فعلاً لا يصح إلا إذا كان معرفاً باللام أو مضافاً إلى
المعرف باللام . ومن ليس شيئاً من ذلك .
وأما الثاني فمعارض بمثله في هذه الصورة فيما تقدم . أما في هذه الصورة إنما يجوز
أن يقع فاعلاً إذا كان معرفاً باللام أو مضافاً إليه وليس كذلك .
وأما في غير هذه الصورة إنما تقع ما فاعلاً معرفة إذا كان في غير صورة : نعماً هي
ثبت كونها معرفة غير موصولة ولا يصار إليه من غير دليل .
وأما المصراع الذي قبل هذا وهو : ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه فقد قال ابن مالك : إن
مَن فيه موصولة أيضاً قال في شرح تسهيله : ومما يدل على أن فاعل نعم قد يكون
موصولاً ومضافاً إلى موصول قول الشاعر : ونعم مزكأ من ضاقت مذاهبه . . . . . . . .
. . . . . . . البيت قال : فلو لم يكن في هذا إلا إسناد نعم إلى المضاف إلى مَن
لكان فيه حجة على صحة إسناد )
نعم إلى مَن لأن فاعل نعم لا يضاف في غير ندور إلى ما يصلح إسناد نعم إليه فكيف
وفيه نعم قال المرادي : ولا حجة في البيت لاحتمال أن تكون من في قوله : مزكأ مَن
نكرة موصوفة وتكون نعم قد رفعت المضاف إلى النكرة على ما تقدم نقله عن الأخفش . اه
.
وقوله : وكيف أرهب . . . إلخ الرهب محركة : الخوف . وأراع بالبناء للمفعول من
الروع وهو الفزع . وزكأ بالزاي المعجمة والهمز في آخره
____________________
أي : لجأ . يقال : زكأت
إليه : لجأت إليه . والمزكأ مفعل اسم مكان منه بمعنى الملجأ .
وبشر هو ابن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أمية القرشي العبشمي الأموي . كان
سمحاً جواداً . ولي إمرة العراقين لأخيه عبد الملك وهو أول أمير مات بالبصرة وذلك
سنة خمس وسبعين عن نيف وأربعين سنة .
والبيتان لم أقف على قائلهما . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد السبعمائة ) البسيط فنعم صاحب قوم لا سلاح
لهم قال المرادي في شرح التسهيل بعد قول ابن مالك : وقد ينكر مفرداً أو مضافاً :
حكى الأخفش أن ناساً من العرب يرفعون ب نعم النكرة مفردة ومضافة فيقال على هذا :
نعم امرؤ زيد ونعم صاحب قوم عمرو .
ووافق الأخفش في كون الفاعل نكرة مضافة . وإلى هذا ونحوه أشار بقوله : وفاعل في
الغالب .
ونقل إجازة كونه مضافاً إلى نكرة عن الكوفيين وابن السراج . ومنع ذلك عامة
النحويين إلا في الضرورة كقوله : البسيط . ( فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم ** وصاحب
الركب عثمان بن عفانا )
____________________
وقد كان يمكن تأويل هذا
البيت على حذف التمييز لولا أن الأخفش حكى أن ذلك لغة للعرب . وزعم صاحب البسيط
أنه لم يرد نكرة غير مضافة . وليس كما زعم بل ورد ولكنه أقل من المضاف .
ومنه قوله : الوافر ) ( وسلمى أكمل الثقلين حسناً ** وفي أثوابها قمر وريم ) (
نياف القرط غراء الثنايا ** وريد للنساء ونعم نيم ) والنيم : الضجيع والضجيعة .
وأجاز بعض النحويين أن يكون فاعل نعم وبئس مضافاً إلى ضمير ما فيه الألف واللام
فأجاز : القوم نعم صاحبهم أنت . وأنشد : الطويل .
فنعم أخو الهيجا ونعم شهابها قال بعضهم : والصحيح المنع . وهذا مما يحفظ ولا يقاس
عليه . اه .
وبقي في القسمة النكرة الموصوفة كما تقدم في الشاهد قبل هذا .
وقال أبو علي في المسائل البصرية : علم أن العرب تجعل ما أضيف إلى ما ليس فيه ألف
ولام بمنزلة ما فيه الألف واللام فترفعه كما ترفع ذلك فتقول : نعم أخو قوم زيد .
قال :
____________________
فنعم صاحب قوم لا سلاح لهم
هو بمنزلة صاحب القوم . فإن قلت : لعله ينشد بالنصب صاحب قوم قلت : لا يكون ذلك
لأنك لا تعطف معرفة مرفوعة على نكرة منصوبة . وهذا ضعيف .
ولو قلت : نعم رجلاً في الدار وزيد لم يجز لأنه ليس قبل زيد شيء يعطف عليه لأنه في
الدار ليس باسم ورجلاً نكرة منصوبة . اه .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي : زعم الأخفش أن قوماً من العرب
يرفعون النكرة المضافة إلى ما ليس فيه الألف واللام بنعم .
قال أبو علي : ولا يجوز ذلك على مذهب سيبويه لأن المرفعوع بنعم لا يكون إلا على
الجنس .
ولو قلت : أهلك الناس شاة وبعير لم يدل على الجنس كما دلت عليه الشاة والبعير .
ولا يجوز صاحب قوم بالنصب لقوله : وصاحب الركب ولا يعطف مرفوع على منصوب .
ولا يكون معطوفاً على مضمر في نعم لأنه مضمر يحتاج إلى التفسير فكأنه لم يتم فلا
يجوز إظهاره ولا تأكيده ولا العطف عليه . وإذا قبح العطف على المضمر المرفوع
بالفعل دون تأكيده فأن لا يجوز هذا أولى لما بيناه . انتهى كلامه .
قال ابن يعيش : ولو نصبت صاحب قوم في غير هذا البيت على التفسير لجاز كما تنصب
النكرة المفردة في نحو : نعم رجلاً لكنه ضعيف هاهنا لعطفك في قولك : وصاحب الركب )
عثمان والمرفوع لا يعطف على المنصوب . وكأن الذي حسن ذلك في البيت قوله : وصاحب
الركب لما عطف عليه ما فيه الألف واللام دل على أنها في المعطوف عليه مرادة لأن
المعنى واحد فاعرفه .
والبيت لكثير بن عبد الله النهشلي المعروف بابن الغريزة . وقيل لحسان بن ثابت . اه
.
وقد راجعت ديوان حسان فلم أجده .
____________________
وقال العيني : عزاه ابن السيرافي في شرح أبيات الإيضاح لكثير بن عبد الله المذكور
.
وقال أيضاً : ونسبه صاحب الموعب في اللغة وأبو حاتم في كتاب إصلاح المفسد إلى أوس
بن مغراء . وقبله : البسيط ( صحوا بأشمط عنوان السجود به ** يقطع الليل تسبيحاً
وقرآنا ) وأقول : ذكر الذهبي في تاريخه أن هذا البيت من أبيات لحسان بن ثابت .
وقد راجعت ديوانه فرأيت أبياتاً على هذا الوزن وما فيها هذا البيت . والله أعلم .
وكثير ابن عبد الله المذكور أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة قال : هو
كثير بن عبد الله بن مالك بن هبيرة بن صخر بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة يعرف
بابن الغريزة النهشلي ذكره المرزباني في معجم الشعراء وقال : شاعر مخضرم بقي إلى
إمرة الحجاج . وهو الذي يقول في قصيدة رثى بها عثمان بن عفان : المتقارب ( لعمر
أبيك فلا تجزعن ** لقد ذهب الخير إلا قليلا )
____________________
( وقد فتن الناس عن دينهم
** وخلى ابن عفان شراً طويلا ) وقال أبو الفرج الأصبهاني : كان شاعراً مخضرماً
أدرك الجاهلية والإسلام وغزا الطالقان في عهد عمر مع العباس بن مرداس وأخيه . وأنشد
له في ذلك أبيات منها : الوافر ( سقى مزن السحاب إذا استهلت ** مصارع فتية
بالجوزجان ) وقوله : ضحوا . . . إلخ أي : ذبحوه كالأضحية . في المصباح : وضحى
تضحية إذا ذبح الأضحية وقت الضحى . هذا أصله ثم كثر حتى قيل ضحى في أي وقت كان من
أيام التشريق . ويتعدى أي : بالحرف . فيقال : ضحيت بشاة .
قال ابن بري : قوله : ضحوا أي : جعلوه بدل الأضحية كأنهم قتلوه في أيام لحوم
الأضاحي وذلك يوم الجمعة لثمان عشرة ليلة خلت من ذي الحجة سنة خمس وثلاثين من
الهجرة . انتهى . )
والشمط بالتحريك : بياض الشعر من الرأس يخالط سواده والرجل أشمط والمرأة شمطاء .
وشمط يشمط من باب فرح . وعنوان مبتدأ بمعنى علامة وبه خبره والجملة صفة شمط .
وقال العيني : عنوان السجود حال من ضمير يقطع ويجوز جره على النعت لأشمط كأنه قال
: بأشمط ظاهر الخير .
قال أبو الحجاج : وقد يكون حالاً من أشمط وإن كان نكرة لأنها مفهوم من يراد بها .
هذا كلامه .
وأقول : الحالية ل تجوز لا لفظاً ولا معنى على الأول ولا لفظاً على الثاني للتعريف
.
____________________
وقوله : فنعم صاحب قوم . . . إلخ قال العيني : إشارة إلى فضل عثمان رضي الله تعالى
عنه وأنه يغني يوم القيامة بالشفاعة غنى من دافع في الدنيا بسلاحه عن عزل الجماعة
. وقد يكون هذا كلامه .
وليس معنى الشعر إنما معناه إشارة إلى قوله يوم الدار : من رمى سلاحه كان حراً .
وقوله : صاحب الركب أي : ركب الحج .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد السبعمائة ) البسيط ( أو حرة عيطل ثبجاء
مجفرة ** دعائم الزور نعمت زورق البلد ) على أنه قد يؤنث نعم لكون المخصوص بالمدح
مؤنثاً وإن كان الفاعل مذكراً فإنه أنث نعم مع أنه مسند إلى مذكر وهو زورق البلد .
لأنه يريد الناقة فأنث على المعنى كما أنث مع البلد في قولهم : هذه الدار نعمت
البلد حين أراد به الدار .
وكقول الراجز : الرجز ( نعمت جزاء المتقين الجنة ** دار الأماني والمنى والمنه )
والحرة : الكريمة وأراد بها الناقة . والعيطل : الطويلة العنق .
____________________
وثبجاء بفتح المثلثة وسكون
الموحدة بعدها جيم : الضخمة الثبج وهو الصدر . كذا جاء في تفسير هذا الشعر .
والثبج بفتحتين : ما بين الكاهل إلى الظهر . أي : هذا منها عظيم .
وقال ابن يعيش : ثبجاء : عظيمة السنام . والمجفرة بضم الميم وسكون الجيم وكسر
الفاء : العظيمة الجنب الواسعة الجوف . والجفرة بالضم : الوسط يقال : فرس مجفر
وناقة مجفرة إذا كانت عريضة الجرم . وصفها بأنها عظيمة القوائم وكنى عن ذلك بدعائم
الزور . والدعائم : القوائم . والزور بفتح الزاي : أعلى الصدر .
وقال ابن المستوفي : دعائم الزور : الضلوع وكل ضلع دعامة . وانتصب دعائم الزور على
التشبيه بالمفعول به فهو من باب الحسن الوجه . وقيل : انتصابه على التمييز وهو
ضعيف لأنه معرفة .
وأخطأ من وجهين صاحب التخمير والموشح في قولهما : إنه منصوب على التمييز للمخصوص
بالمدح المحذوف وناصبه نعمت .
وزورق فاعل نعم والمخصوص بالمدح محذوف وهو ضمير الحرة أي : هي . والزورق : السفينة
.
والبلد : الأرض والمفازة . وهذا كقولهم : الإبل سفن البر فإن الإبل تشبه بالسفن
والمفاوز قال أبو عبيد في الغريب المصنف : البوصي : الزورق . وتعقبه علي بن حمزة
البصري بأن البوصي إنما هو من سفن البحر وهو بالفارسية : بوزي والزورق بالنبطية
وقد تكلمت به )
العرب وجمعه الزوارق . والزورق مما يجري في الماء العذب بدجلة والفرات . انتهى .
والبيت من قصيدة لذي الرمة مدح بها بلال بن أبي بردة . وقبله : البسيط
____________________
( ومنهل اجن قفر محاضره **
خضر كواكبه ذي عرمض لبد ) ( فرجت عن خوفه الظلماء يحملني ** غوج من العيد والأسراب
لم ترد ) ( باق على الأين يعطي إن رفقت به ** معجاً رقاقاً وإن تخرق به يخد ) أو
حرة عيطل ثبجاء مجفرة . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لانت عريكتها
من طول ما سمعت ** بين المفاوز تنآم الصدى الغرد ) ( حنت إلى نعم الدهنا فقلت لها
** أمي بلالاً على التوفيق والرشد ) المنهل : المورد والواو : واو رب . والآجن :
الماء المتغير الطعم واللون . وأجن الماء يأجن من باب ضرب ونصر أجناً وأجوناً .
وحكي أجن من باب فرج . والمحاضر : جمع محضر كجعفر وهو المرجع إلى المياه . وكوكب
الشيء : معظمه .
والعرمض كجعفر بإهمال الأول وإعجام الآخر : الطحلب وهو الأخضر الذي يعلو الماء .
والظلماء مفعول فرجت وجملة : يحملني حال من تاء فرجت .
والغوج بفتح المعجمة وسكون الواو بعدها جيم : اللين المعاطف من الإبل والخيل .
والعيد بكسر المهملة : فحل منجب من الإبل . والأسراب : جمع سرب بالكسر وهو القطيع
من القطا والظباء والوحش والنساء . وترد من ورود الماء .
____________________
والأين : التعب . والمعج بفتح الميم وسكون العين المهملة بعدها جيم : سرعة السير .
والرقاق بضم الراء : الرقيق . وتخرق بفتح الراء : مضارع خرق بكسرها خرقاً بفتحتين
إذا عمل شيئاً فلم يرفق به والاسم الخرق بالضم وهو العنف . ويخد من الوخد وهو ضرب
من سير الإبل وهو أن يرمي بقوائمه كمشي النعام .
والعريكة : الخلق . والتنآم : تفعال من النئيم وهو صوت فيه ضعف كالأنين . والصدى :
ذكر البوم .
والغرد بكسر الراء : المتطرب في الصوت . والغرد بفتحها : الغناء يقال : غرد الطائر
من باب فرح .
والنعم بفتحتين : الإبل . والدهنا : موضع ببلاد تميم يمد ويقصر . وأمي : أقصدي . )
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب . ( الشاهد السبعون بعد
السبعمائة ) الطويل بعد ما متأملي وهو قطعة من بيت من معلقة امرئ القيس وهو : (
فعدت له وصحبتي بين ضارج ** وبين العذيب بعد ما متأملي )
____________________
على أن بعد فيه للمدح
والتعجب وأصله بعد بفتح الباء وضم العين أصالة ألحق بفعل المدح .
ويجوز في بائه وجهان : فتحها وتسكين عينها بحذف حركتها وضمها بنقل حركة عينها
إليها كما يجوز في كل فعل المراد به المدح أو التعجب كما قال الشارح المحقق في آخر
الفصل وصوره بهذا البيت .
وقد روي أيضاً بالوجهين . قال العسكري في كتاب التصحيف : رواه أبو إسحاق الزيادي
عن الأصمعي بعد مضمومة الباء ومعناه يا بعد ما تأملت على التعجب أي : تثبت في
النظر أين يسقي .
ورواه أبو حاتم : بَعْدَ بفتح الباء وقال : خفف بعد فأسكن العين وبقيت الباء
مفتوحة مثل وفيه رد على ابن مالك في التسهيل في اشتراط نقل ضم العين إلى الفاء
بكون الفاء حرفاً حلقياً كحب وحسن .
وما بعد بُعْدَ إما زائدة ومتأملي فاعل بعد وهو مضاف إلى الياء والرفع فيه مقدر
والمخصوص بالمدح محذوف .
وإما اسم نكرة منصوبة المحل على التمييز للضمير المستتر في بعد ومتأملي هو المخصوص
بالمدح والتعجب فتكون ما كما في قوله تعالى : فنعما هي .
وقبل هذا البيت : ( أصاح ترى برقاً أريك وميضه ** كلمع اليدين في حبي مكلل )
____________________
( يضيء سناه أو مصابيح
راهب ** أهان السليط بالذبال المفتل ) قعدت له وصحبتي . . . . . . . . . . . . . .
. . . . البيت قوله : أصاح ترى . . . إلخ الهمزة لنداء القريب . وصاح : مرخم صاحب
وحذف همزة )
الاستفهام بعده للضرورة . والوميض والإيماض : اللمعان . يقال : ومض البرق يمض
وأومض إذا لمع وتلألأ . واللمع : التحرك والتحريك جميعاً .
والحبي بالحاء المهملة وكسر الموحدة وهو السحاب المتراكم سمي به لأنه حبا بعض إلى
بعض أي : تراكم . وجعله مكللاً لأنه صار أعلاه كالإكليل لأسفله . ومنه قولهم :
كللت الرجل إذا توجته . ويروى : مكلل بكسر اللام : اسم فاعل من كلل تكليلاً إذا
تبسم .
يقول : يا صاحبي هل ترى برقاً أيك لمعانه وتلألؤه وتألقه في سحاب متراكم صار أعلاه
كالإكليل لأسفله أو في سحاب متبسم بالبرق يشبه برقه تحريك اليدين . أراد يتحرك
تحركهما .
وتقدير البيت : أريك وميضه في حبي مكلل كلمع اليدين . شبه لمعان البرق وتحريكه
بتحرك اليدين .
وقوله : يضيء سناه . . . إلخ السنا بالقصر : الضوء يقال : سنا يسنو . والسليط :
الزيت وقيل : الشيرج وسمي سليطاً لإضاءته السراج ومنه السلطان لوضوح أمره .
____________________
والذبال : جمع ذبالة وهي الفتيلة . ومعنى أهان السليط أنه لم يعزه وأكثر الإيقاد
به .
وروى : أما السليط فقيل من المقلوب وتقديره أمال الذبال بالسليط إذا صبه عليه .
وقال بعضهم : تقديره : أمال السليط مع الذبال يريد أنه يميل المصباح إلى جانب
فيكون أشد إضاءة لتلك الناحية من غيرها .
يقول : هذا البرق يتلألأ ضوءه فهو يشبه في تحريكه لمع اليدين أو مصابيح الرهبان
التي أميلت فتائلها بصب الزيت عليها في الإضاءة يريد أن تحركه يحكي تحرك اليدين
وضوءه يحكي ضوء ومصابيح بالجر معطوف على لمع .
وقوله : قعدت له . . . إلخ قال الخطيب التبريزي : صحبة بالضم : اسم جمع صاحب .
وضارج والعذيب : مكانان أي : قعدت لذلك البرق أنظر من أين يجيء بالمطر .
ومعنى قوله : بعد ما متأملي : ما أبعد ما تأملت . وحقيقته أنه نداء مضاف .
وهي تحتمل معنيين : أحدهما : أن المعنى بَعُد ثم حذف الضمة . ويجوز أن يكون المعنى
بعد ما تأملت . هذا كلامه .
وقال الزوزني : يقول قعدت للنظر إلى السحاب وأصحابي بين هذين الموضعين وكنت معهم )
فبعد متأملي وهو المنظور إليه أي : بعد السحاب الذي كنت أنظر إليه وأرقب مطره
وأشيم برقه . يريد أنه نظر إلى هذا السحاب من مكان بعيد فتعجب من بعد نظره . انتهى
.
____________________
وحاصله أن بَعْدَ بالفتح فعل ماض مسكن العين وما زائدة ومتأملي اسم مفعول واقع على
السحاب مضاف إلى ياء المتكلم كما سبق من تقرير كلام الشارح المحقق من أنه مصدر
مضاف إلى الياء .
ثم قال الزوزني : وقال بعضهم : إن ما في البيت بمعنى الذي وتقديره : بَعُدَ ما هو
متأملي وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل وحب بها مقتولة حين
تقتل على أن حب فيه للمدح والعجب وأصلها حبب بضم العين للتحويل المذكور . فإن
نقلنا حركة العين إلى الفاء بعد حذف حركتها صار حب بضم الأول . وإن حذفنا ضمة
العين صار حب بفتح الأول والإدغام في الصورتين واجب لاجتماع المثلين والأول منهما
ساكن . وفاعلها الضمير المؤنث المجرور بالباء لأن هذه الصيغة تعجبية لكونها بمعنى
أحبب بها .
____________________
قال ابن الحاجب في أمالي المفصل : مقتولة نصب على الحال من الضمير في بها وبها
فاعل حب زيدت فيه الباء على غير قياس كقوله : كفى بالله شهيدا . وقال صاحب التخمير
: الباء في بها هاهنا للتعجب ونظيره قولهم : كفاك بزيد رجلاً .
وقال ابن السراج : الباء دخلت لأنها دليل التعجب كما قالوا : إنك من رجل عالم لم
تسقط من قال ابن يعيش : حب من المضاعف الذي عينه ولامه من باب أحد وفيه لغتان حب
وأحب وأحب أكثر في الاستعمال . وأما حب فوزنه فعل بفتح العين قال الشاعر : الطويل
( فوالله لولا تمره ما حببته ** ولا كان أدنى من عبيد ومشرق ) فإذا أريد به المدح
نقل إلى فعل فتقول : حب زيد أي : صار محبوباً ومنه قوله : حب بها مقتولة حين تقتل
____________________
وكذلك قول الآخر : الكامل
)
هجرت غضوب وحب من يتجنب وذهب الفراء إلى أن حب أصله حَبُب مضموم العين واستدل
بقولهم : حبيب وفعيل بابه فعل كظريف وكريم من ظرف وكرم . والصواب ما ذكرناه لأنه
قد جاء متعدياً وفعل لا يكون متعدياً .
فأما قولهم : حبيب فلا دليل فيه لأنه مفعول فحبيب ومحبوب واحد فهو كجريح وقتيل .
وحبيب من حب إن أريد به المدح فاعل كظريف . وحب فعل متصرف تقول منه : حبه يحبه
بالكسر وهو من الشاذ لأن فعل إذا كان مضاعفاً متعدياً فمضارعه يفعل بالضم نحو :
رده يرده وشده يشده . وقالوا في المفعول محبوب وقل محب . وجاء محب في اسم الفاعل
وقل هذا والرواية في البيت : وأطيب بها مقتولة حين تقتل بصيغة التعجب من الطيب .
وقبله : فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها وقتل الخمر : مزجها وكسر قوتها بالماء . جعل
مزجها بالماء قتلاً لها . ورواه أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات .
____________________
( فلذت لمرتاح وطابت لشارب
** وأحبب بها مقتولة حين تقتل ) وقال : إذا كانت الخمر طيبة فهي لذة نعت لها . وقد
لذت لشاربها تلذ لذة ولذها شاربها يلذها لذاً ولذاذة . انتهى .
وهذا مركب من بيتين كما يأتي .
والبيت من قصيدة للأخطل النصراني مدح بها خالد بن عبد الله بن أسيد بن أبي العيص
بن أمية وكان أحد أجواد العرب في الإسلام .
وهذه القصيدة أول ديوانه وقبله : الطويل ( وجاؤوا ببيسانية هي بعدما ** يعل بها
الساقي ألذ وأسهل ) ( فلذت لمرتاح وطابت لشارب ** وراجعني منها مراح وأخيل ) ( فما
لبثتنا نشوة لحقت بنا ** توابعها مما نعل وننهل ) ( تدب دبيباً في العظام كأنه **
دبيب نمال في نقاً يتهيل ) ) ( فقلت اقتلوها عنكم بمزاجها ** وأطيب بها مقتولة حين
تقتل ) وبيسان هي بلدة بغور الشام تنسب إليها الخمر . والعلل : الشرب الثاني .
والشواء : الكباب .
والمرعبل : المقطع . والمراح بالكسر : السرور . والأخيل : الخيلاء والعجب .
____________________
ونشوتها : رائحتها . والنشوة : السكر أيضاً . وتوابعها : ما لحق من سكرها . والنهل
: الشرب الأول . كذا في شرح ديوانه .
ونمال بالكسر : جمع نمل . والنقا : الكثيب من الرمل . ويتهيل : يتصبب .
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد السبعمائة ) البسيط على أن حسن يه للمدح
والتعجب ويجوز في مثله أن تنقل ضمة العين إلى الفاء كما فعل الشاعر وأن تحذف وتبقى
الفاء على فتحها .
والبيت أنشده الجوهري قال : وقد حسن الشيء وإن شئت خففت الضم فقلت : حسن الشيء ولا
يجوز أن تنقل الضم إلى الحاء لأنه خبر وإنما يجوز النقل إذا كان بمعنى المدح أو
الذم لأنه يشبه في جواز النقل بنعم وبئس وذلك أن الأصل فيهما نعم وبئس فسكن
ثانيهما ونقلت حركته إلى ما قبله . وكذلك كل ما كان في معناهما .
قال الشاعر : لم يمنع الناس مني ما أردت . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
أراد : حسن هذا أدباً فخفف
ونقل . انتهى كلامه .
وقال ابن السيرافي : يريد أن يقهر الناس فيمنعهم ما يريدون منه ولا يمنعونه مما
يريد منهم لعزه وقهره . واستحسن هو هذا وجعله أدباً حسناً . وذا : فاعل حسن وأدباً
منصوب على التمييز .
انتهى .
وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : الأدب الذي كانت العرب تعرفه هو ما يحسن من
الأخلاق وفعل المكارم مثل ترك السفه وبذلك المجهود وحسن اللقاء .
لم يمنع الناس مني ما أدرت . . . . . . . . . . . . . البيت )
كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا يعطيهم . واصطلح الناس بعد الإسلام بمدة
طويلة على أن يسموا العالم بالنحو والشعر وعلوم العرب أديباً ويسمون هذه العلوم
الأدب وذلك كلام مولد لأن هذه العلوم حدثت في الإسلام .
واشتقاقه من شيئين : يجوز أن يكون من الأدب وهو العجب ومن الأدب مصدر قولك : أدب
فلان القوم يأدبهم أدباً إذا دعاهم قال طرفة : الرمل ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى
** لا ترى الآدب فينا ينتقر ) فإذا كان من الأدب الذي هو العجب فكأنه الشيء الذي
يعجب منه لحسنه لأن صاحبه الرجل الذي يعجب منه لفضله .
وإذا كان من الأدب الذي هو الدعاء فكأنه الشيء الذي يدعو الناس إلى المحامد
____________________
والفضل فينهاهم عن المقابح
والجهل . والفعل منه أدبي آدب أدباً من باب فرح فأنا أديب .
والمتأدب : الذي قد أخذ من الأدب بحظ وهو متفعل من الأدب يقال منه أدب الرجل يأدب
إذا صار أديباً مثل كرم إذا صار كريماً . انتهى .
والبيت من قصيدة لسهم بن حنظلة الغنوي أورد بعضها أبو تمام في كتاب مختار أشعار القبائل
. وهذا ما أورده : ( إذا افتقرت نأى واشتد جانبه ** وإن رآك غنياً لان واقتربا ) (
وإن أتاك لمال أو لتنصره ** أثنى عليك الذي تهوى وإن كذبا ) ( مدلى القرابة عند
النيل يطلبه ** وهو البعيد إذا نال الذي طلبا ) ( حلو اللسان بعيد القلب مشتمل **
على العداوة لابن العم ما اصطحبا ) ( الله مخلف ما أنفقت محتسباً ** إذا شكرت
ومؤتيك الذي كتبا ) ( لا بل سل الله ما ضنوا عليك به ** ولا يمن عليك الله ما وهبا
) ( يا للرجال لأقوام أجاورهم ** مستقبسين ولما يقبسوا لهبا ) ( يصلون ناري
وأحميها لغيرهم ** ولو أشاء لقد كانوا لها حطبا ) ( من الرجال رجال لا أعاتبهم **
ولا تفزع منهم هامتي رعبا ) ( من لا يزل غرضاً أرمي مقاتله ** لا يتقي وهو مني
واقف كثبا ) ) ( ولا أسب امرأ إلا رفعت له ** عاراً يسب به الأقوام أو لقبا ) ( قد
يعلم الناس أني من خيارهم ** في الدين ديناً وفي أحسابهم حسبا ) قال التبريزي في
شرح إصلاح المنطق لابن السكيت : يريد أنه يقهر الناس فيمنعهم ما يريدون منه ولا
يمنعونه ما يريد منهم لعزته . وجعله أدباً حسناً . هذا تفسير أبي محمد .
____________________
وقال أبو العلاء في معنى هذا البيت : كأنه ينكر على نفسه أن يعطيه الناس ولا
يعطيهم ويمنعهم . وهو الصواب لأن ما قبله يدل عليه . وذا : فاعل حسن . وأدباً
تمييز . وأراد حسن فخفف ونقل لأن هذا مذهب التعجب .
وقال الصفار : إن الشاعر أنكر على نفسه بأن الناس يعطونه ويمنعهم ثم قال : حسن ذا
أدباً أي : ما أحسن هذا الأدب على سبيل الإنكار والتهكم .
انتهى .
وسهم بن حنظلة : شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . ذكره ابن حجر في قسم
الخضرمين من الإصابة عن المرزباني .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : سهم بن حنظلة بن جأوان بن خويلد أحد بني شبيبة
بن غني بن أعصر فارس مشهور وشاعر محسن وهو القائل : الكامل ( كم من عدو قد رماني
كاشح ** ونجوت من أمر أغر مشهر ) ( وحذرت من أمر فمر بجانبي ** لم يبكني ولقيت ما
لم أحذر ) ( تدني الفتى في الغنى للراغبين إذا ** ليل التمام أهم المقتر العزبا )
____________________
( حتى تمول يوماً أو يقال
فتى ** لاقى التي تشعب الأقوام فانشعبا ) انتهى .
وقد أخطأ في هذا فإن صاحب القصيدة هو سهم الذي ذكره أولاً والبيتان من تلك القصيدة
وقد نسبها إليه أبو تمام وغيره . وقد اشتبه على الآمدي فظن سهماً اثنين وأن صاحب
القصيدة غير سهم الغنوي والصواب ما ذكرنا . وسهم الذي ذكره ثانياً مجهول ولهذا لم
يرفع نسبه لا إلى أب ولا إلى جد . ولم يذكره غير الآمدي أحد . والله أعلم بالصواب
.
____________________
( حروف الجر ) أنشد فيها ،
وهو ( الشاهد الثالث والسبعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز باتت تنوش
الحوض نوشاً من علا على أن علا فيه مبني على الضم كقولهم : من عل بحذف المضاف إليه
.
وبيانه ما قال ابن جني في شرح تصريف المازني نقلاً عن أبي علي : إن الألف في علا
منقلبة عن الواو لأنه من علوت وإن الكلمة في موضع مبني على الضم نحو : قبلُ وبعد
لأنه يريد نوشاً من أعلاه فلما اقتطع المضاف من المضاف إليه وجب بناء الكلمة على
الضم نحو : قبل وبعد فلما وقعت الواو مضمومة وقبلها فتحة قلبت ألفاً . وهذا مذهب
حسن . انتهى .
وقال أبو علي في التذكرة : يجوز أن يكون علا مبيناً معرفة ويجوز أن يكون معرباً
نكرة . فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة . وإن كان
معرباً كانت منقلبة عن الواو لتحركها بالجر .
فإن قيل : لا يكون إلا مبنياً لأنه معرفة لتقدم الحوض والمعنى من علا الحوض . قيل
: قد قال الله تعالى : لله الأمر من قبلُ ومن بعدُ فهما نكرتان
____________________
وإن كان ذكر الغلبة قد
تقدم وكان معلوماً أن معنى الكلام من قبل الغلبة ومن بعدها . انتهى .
فعلم من هذا أنه لا يتعين بناؤها على ضمة على الواو المنقلبة ألفاً لتحركها
وانفتاح ما قبلها لقطعه عن الإضافة ونية معناه لجواز أن يكون معرباً بالجر
والتنوين المقدرين على الواو المنقلبة ولا ينوى المضاف إليه لا لفظه ولا معناه
ويكون كسائر الأسماء النكرة كما في قراءة : من قبلُ ومن بعد بالجر والتنوين .
واستشهد به سيبويه في باب ما ذهب لامه من أبواب التحقير . قال الأعلم : استدل به
على أن قولهم من عل محذوف اللام وإذا صغرته اسماً ردت لامه فقيل علي لأن أصله من
العلو .
انتهى .
وكسيبويه أورده ابن السراج في الأصول .
وروى سيبويه : وهي تنوش الحوض بدل : باتت تنوش . )
قال الفراء في تفسيره : النوش : التناول .
قال الشاعر : الرجز ( فهي تنوش الحوض نوشاً من علا ** نوشاً به تقطع أجواز الفلا )
ق ال الأعلم : وصف إبلاً وردت الماء في فلاة من الأرض فعافته وتناولته من أعلاه
ولم تمعن في شربه . انتهى .
وقال الجواليقي في شرح أبيات أدب الكاتب : يصف إبلاً تشرب من ماء الحوض وتتناول ما
فيه من الماء تناولاً من فوق تقطع به أرضاً بعيدة وتستغني به عن المبالغة فيه .
والأجواز : جمع جوز بفتح الجيم وهو الوسط .
وقال ابن السيد في شحر أبياته أيضاً : لا أعلم هذا الرجز لمن هو يصف
____________________
ناقة شربت الماء من الحوض
. وقد يمكن أن يصف أبلاً ويريد بقوله : به تقطع أجواز الفلا أنهم كانوا إذا حاولوا
سفراً سقوا إبلهم الماء على نحو ما يقدرونه من بعد المسافة وقربها وكانوا يجعلون
أظماء إبلهم ثلثاً وربعاً وخمساً إلى العشر والعشر نهاية الأظماء .
وكانوا ربما احتاجوا في الفلاة إلى الماء ولا ماء عندهم فينحرون الإبل ويستخرجون
ما في أجوافها من الماء ويشربونه وهو معنى قول زيد الخيل الطائي : الوافر ( نصول
بكل أبيض مشرفي ** على اللائي بقى فيهن ماء ) ( عشية نؤثر الغرباء فينا ** فلا هم
هالكون ولا رواء ) انتهى .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعلم قائلها والله أعلم .
وأنشده صاحب الصحاح في نوش وفي علا . وقال ابن بري في حاشيته عليه : هذا الرجز
لغيلان بن حريث الربعي . ولم أقف على خبر لغيلان . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد السبعمائة
____________________
) ( لمن الديار بقنة الحجر
** أقوين من حجج ومن دهر ) على أن الكوفيين أجازوا استعمال من الابتدائية في
الزمان أيضاً كما في البيت . وسلم الشارح المحقق هذه الدعوى منهم وطعن في الدليل
قال : الإقواء لم يبتدأ من الحجج بل المعنى من أجل مرور حجج وشهر . فمن فيه
تعليلية لا ابتدائية .
اعلم أن محل النزاع بين أهل البلدين إنما هو في ورود من لابتداء الغاية في الزمان
فأهل الكوفة يثبتونه وأهل البصرة يمنعونه .
وأما ورودها لابتداء الغاية في المكان والأحداث والأشخاص فلا خلاف فيها عندهما .
واستدل أهل الكوفة لورود من في ابتداء الغاية في الزمان بقوله تعالى : لمسجد أسس
على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه . وأول يوم من الزمان . وقوله تعالى : إذا
نودي للصلاة من يوم الجمعة وبالبيت المذكور .
وأجاب البصريون عن الآية الأولى بأن فيها مضافاً محذوفاً والتقدير : من تأسيس أول
يوم .
فمجرور من حدث لا زمان .
وضعفه أبو البقاء بأن التأسيس ليس بمكان . ورد عليه السمين بأنهم إنما منعوا من
كون من لابتداء الغاية في الزمان وليس في كلامهم أنها لا تكون إلا في ابتداء
الغاية في المكان . وهذا رد ورد الشارح المحقق دليل الكوفيين بأنه ليس التأسيس
حدثاً ممتداً ولا أصلاً للمعنى
____________________
الممتد وإنما هو حدث واقع
فيما بعد من فتكون ظرفية كما في الآية الثانية .
فهو يوافقهم في مجيء من لابتداء الغاية في الزمان تبعاً للمبرد وابن درستويه ولهذا
لم يؤول كما أول البصريون في الآية . وأجابوا عن الآية الثانية بأن من فيه ظرفية
وإليه ذهب الشارح أيضاً .
وأجابوا عن البيت بما أجابوا به في الآية الأولى بأن فيه مصدراً محذوفاً أي : من
مر حججٍ فيكون مجرورها حدثاً لا زماناً .
وأجاب الشارح المحقق بأن من فيه تعليلية مع تقدير المضاف لا ابتدائية . وهو الحق
فإن علة إقواء الديار مرور الدهور عليها لابتداء مرورها .
وأجاب بعضهم بأن من هنا على مذهب الأخفش زائدة والأصل أقوين حججاً ودهراً . نقله
ابن الأنباري في مسائل الخلاف . فيكون منصوباً على الظرفية . وأهون من هذا ادعاء
من ظرفية )
كما في الآيتين . ولم أر من قوله .
وأجاب بعضهم بأن الرواية : مذ حجج ومذ دهر وأنكر الأولى . وهذا ليس بشيء . فإن
البيت الواحد يأتي على روايات شتى وكلها صحيحة إذا كان رواتها ثقات .
قال العسكري في كتاب التصحيف : قوله : قال الأصمعي : أقوين مذ حجج ومذ دهر . ومن
روى : من حجج . قال : معناه من مر حجج ومن مر دهر .
قال الزجاج : قوله تعالى : من أول يوم دخلت من في الزمان والأصل مذ ومنذ . هذا
أكثر الاستعمال في الزمان . ومن جائز دخولها لأنها أصل في ابتداء الغاية وفي
التبعيض . انتهى .
____________________
وقوله : لمن الديار الظرف
خبر مقدم والديار : مبتدأ مؤخر . وهذا الاستفهام تعجب من شدة خرابها حتى كأنها لا
تعرف ولا يعرف سكانها وأصحابها .
وبعض المصنفين حرفه ففتح اللام وكسر الميم وقال إن من في البيت شاهد لدخول من
الجارة على المكان . وهذا مما يتعجب منه .
والقنة بضم القاف وتشديد النون : أعلى الجبل . والقلة باللام موضع النون مثله .
والحجر بكسر الحاء المهملة : منازل ثمود بناحية الشام عند وادي القرى .
قال صعوداء في شرح ديوان زهير : قال أبو عمرو : لا أعرف إلا حجر ثمود ولا أدري
أراده بعينه أم لا وأما حجر بفتح المهملة فهي اليمامة ولكن لا يدخلها الألف واللام
فلذلك أنكرها أبو عمرو . انتهى .
وكذا قال غيره . قال ابن السيد : هذا هو المروي هنا وقد أوله جماعة على زيادة آل .
يا ليت أم العمر كانت صاحبي أراد : أم عمرو .
وقال الآخر : الطويل
____________________
وجدت الوليد بن اليزيد
مباركاً أراد : الوليد بن يزيد . هذا ما قالوا . والصواب دخول الألف واللام عليه .
قال عاصم : الحجر بالفتح : مدينة اليمامة والحجر بالكسر : حجر ثمود . وقال الجوهري
: الحجر بالفتح : قصبة اليمامة يذكر ويؤنث ويؤيدهما البيت المتقدم وبيت النابغة :
الطويل ) ( وهم قتلوا الطائي بالحجر عنوة ** أخا جابر واستنكحوا أم جابر ) والباء
في قوله : بقنة ظرفية متعلقة بمحذوف على أنه حال من الضمير المستتر في الجار
والمجرور والعامل فيه الاستقرار المحذوف والتقدير : لمن الديار كائنة بقنة الحجر .
وأقوين : أقفرن يقال : أقوت الدار إذا خلت من سكانها وأقفرت . والنون ضمير الديار
وجملة : أقوين حال من ذلك الضمير أيضاً .
والحجج بكسر الحاء المهملة وفتح الجيم : جمع حجة بكسرها أيضاً وهي السنة . والدهر
: الأبد الممدود . وروى بدله : ومن شهر وأراد من شهور فوضع الواحد موضع الجمع
اكتفاء به .
قال اللخمي : ومن رواه مذ حجج كانت مذ : حرف جر والعامل فيها أقوين وهي بمنزلة في
لأن المعنى أقوين في حجج .
والبيت مطلع قصيدة لزهير بن أبي سلمى مدح بها هرم بن سنان بن أبي حارثة
____________________
المري عدتها تسعة عشر
بيتاً وبعده : الكامل ( لعب الرياح بها وغيرها ** بعدي سوافي المور والقطر ) ( قفر
بمندفع النحائت من ** ضفوي أولات الضال والسدر ) ( دع ذا وعد القول في هرم ** خير
الكهول وسد الحضر ) والسوافي : جمع ساف اسم فاعل من سفت الريح التراب تسفيه سفياً
إذا ذرته . والمور بالضم : الغبار بالريح . والقطر : المطر .
قال صعوداء في شرحه : قال أبو عبيدة : ليس للقطر سواف ولكنه أشركه في الجر . انتهى
.
وليس هذا من الجر على الجوار لأنه لا يكون في النسق . ووجهه أن الرياح السوافي
تذري التراب من الأرض وتنزل المطر من السحاب .
وقوله : قفر أي : تلك الديار قفر . والمندفع بفتح الفاء . النحائت بفتح النون
بعدها حاء مهملة وآخره مثناة فوقية قال صعوداء : هي آبار .
ومندفعها : مندفع مياهها ولعلها أودية . والآبار تفسير أبي عمرو . قال : ويقال :
موضع فيه آبار .
والضفوان بالضاد المعجمة بعدها فاء : الجانبان الواحد ضفاً كقفا .
____________________
وأولات الضال والسدر :
مواضع فيها سدر . والضال هو السدر البري . وقوله : دع ذا وعد . . . إلخ قال صعوداء
: )
عد القول : اصرفه إليه . والحضر جمع واحده حاضر مثل صحب وصاحب . انتهى .
والحاضر : الحي العظيم . والحاضر : خلاف البادي .
والأبيات الثلاثة الأول قد نسبها نقاد الشعر إلى حماد الراوية وقالوا : أول
القصيدة إنما هو : دع ذا وعد القول . . . . . . . . . . . . . البيت روى الأصبهاني
بسنده في الأغاني عن جماعة أنهم كانوا في دار أمير المؤمنين المهدي بعيساباد وقد
اجتمع فيها العلماء بأيام العرب وآدابها وأشعارها ولغاتها إذ خرج بعض أصحاب الحاجب
فدعا بالمفضل الضبي الراوية فدخل فمكث ملياً .
ثم خرج ذلك الرجل بعينه فدعا بحماد الراوية فمكث ملياً ثم خرج ومعه حماد والمفضل
جميعاً وقد بان في وجه حماد الانكسار والغم وفي وجه المفضل السرور والنشاط ثم خرج
الخادم معهما فقال : يا معشر من حضر من أهل العلم إن أمير المؤمنين يعلمكم أنه قد
وصل حماداً الشاعر بعشرين ألف درهم لجودة شعره وأبطل روايته لزيادته في أشعار
الناس ما ليس منها ووصل المفضل بخمسين ألف درهم لصدقه وصحة روايته .
فمن أراد أن يسمع شعراً جيداً محدثاً فليسمع من حماد ومن أراد رواية صحيحة
فليأخذها عن المفضل .
فسألنا عن السبب فأخبرنا أن المهدي قال للمضل لما دعا به وحده : إني رأيت زهير بن
أبي سلمى افتتح قصيدته بأن قال : دع ذا وعد القول في هرم
____________________
ولم يتقدم قبل ذلك قول فما
الذي أمر نفسه بتركه فقال له المفضل : يا أمير المؤمنين ما سمعت في هذا شيئاً إلا
أني توهمته كان يفكر في قول يقوله أو يروي في أن يقول شعراً قال : عد إلى مدح هرم
وقال : دع ذا أو كان مفكراً في شيء من شأنه فتركه وقال : دع ذا أي : دع ما أنت فيه
من الفكر وعد القول في هرم .
ثم دعا بحماد فسأله عن مثل ما سأل عنه المفضل فقال : ليس هكذا قال زهير يا أمير
المؤمنين . قال : فكيف قال فأنشده : الأبيات الثلاثة . )
دع ذا وعد القول في هرم . . . . . . . . . . . . البيت قال : فأطرق امهدي ساعة ثم
أقبل على حماد فقال : قد بلغ أمير المؤمنين عنك خبر لا بد من استحلافك عليه . ثم
استحلفه بأيمان البيعة ليصدقنه عما يسأل عنه . فحلف حماد له فلما توثق منه قال له
: اصدقني عن حال هذه الأبيات ومن أضافها إلى زهير .
فأقر له حينئذ أنه قالها . فأمر فيه وفي المفضل بما أمر به من شهر أمرهما وكشفه .
انتهى .
وحماد قد ترجمه صاحب الأغاني فلا بأس بإيراد شيء من أخباره فإنه كان من أعاجيب
الدنيا ولكونه صاحب البيت الشاهد استحق أن نترجمه . وهو ممن يصح الاستشهاد بكلامه
.
قال : هو حماد بن ميسرة فيما ذكره الهيثم بن عدي . وكان صاحبه وراويته وأعلم الناس
به .
وزعم أنه مولى بني شيبان . وكان من أعلم الناس بأيام
____________________
العرب وأخبارها وأشعارها
وأنسابها ولغاتها وكانت ملوك بني أمية تقدمه وتؤثره وتسني بره .
وقال له الوليد بن يزيد : بما استحققت هذا اللقب فقيل لك : حماد الراوية قال : لأني
أروي لكل شاعر يعرفه أمير المؤمنين أو سمع به ثم أروي لأكثر منهم ممن لا تعرف بأنك
لا تعرفهم ولا سمعت بهم ثم لا أنشد شعراً لقديم أو محدث إلا ميزت القديم منه من
المحدث .
قال : إن هذا لعلم وأبيك كثير فكم مقدار ما تحفظ من الشعر قال : كثير ولكني أنشدك
على أي حرف شئت من حروف المعجم مائة قصيدة كبيرة سوى المقطعات من شعر الجاهلية .
قال : سأمتحنك . وأمره الوليد بالإنشاد .
فأنشده حتى ضجر الوليد ثم وكل به من استحلفه أن يصدقه عنه ويستوفي عليه . فأنشده
ألفي قصيدة وتسعمائة قصيدة للجاهليين وأخبر الوليد بذلك فأمر له بمائة ألف درهم .
وروى أحمد بن عبيد عن حماد أنه قال : كان انقطاع إلى يزيد بن عبد الملك فكان هشام
يجفوني لذلك فلما مات يزيد وأفضت الخلافة إلى هشام جفاني ومكثت في بيتي سنة لا
أخرج إلا لمن أثق به من إخواني سراً فلما لم أسمع أحداً يذكرني أمنت وخرجت فصليت
الجمعة ثم جلست عند باب الفيل فإذا شرطيان قد وقفا علي فقالا لي : يا حماد أجب
الأمير يوسف بن عمر .
فقلت في نفسي : هذا ما كنت أحذر : فصرت إليه فرمى كتاباً إلي فيه : من
____________________
عبد الله هشام أمير
المؤمنين إلى يوسف بن عمر أما بعد فإذا قرأت كتابي هذا فابعث إلى حماد الراوية من
)
يأتيك به غير مروع وادفع إليه خمسمائة دينار وجملاً مهرياً يسير عليه اثنتي عشرة
ليلة إلى دمشق .
فأخذتها وركبته وسرت حتى وافيت باب هشام فاستأذنت فأذن لي فدخلت عليه في دار
مفروشة بالرخام وبين كل رخامتين قضيب ذهب وحيطانها كذلك وهشام جالس على طنفسة
حمراء وعليه ثياب خز حمر وقد تضمخ بالمسك والعنبر وبين يديه مسك مبثوث في أواني
الذهب يقلبه بيده فتفوح روائحه . فسلمت عليه فرد علي السلام واستدناني فدنوت حتى
قبلت رجله فإذا جاريتان لم أر مثلهما في أذن كل واحدة منها حلقتان فيهما لؤلؤتان
توقدان فقال لي : كيف أنت يا حماد وكيف حالك قلت : بخير يا أمير المؤمنين .
قال : أدري فيما بعثت إليك قلت : لا . قال : بعثت إليك لبيت خطر ببالي لم أدر من
قاله قلت : وما هو قال : الخفيف ( فدعت بالصبوح يوماً فجاءت ** قينة في يمينها
إبريق ** قلت : هذا يقوله عدي بن زيد في قصيدة له . قال : أنشدنيها . فأنشدتها : (
بكر العاذلون في فلق الصب ** ح يقولون لي : ألا تستفيق ) ( ويلومون فيك يا ابنة
عبد الل ** هـ والقلب عندكم موهوق ) ( لست أدري إذ أكثروا العذل عندي ** أعدو
يلومني أم صديق ) ( زانها حسنها وفرع عميم ** وأثيث صلت الجبين أنيق ) ( فدعت
بالصبوح يوماً فجاءت ** قينة في يمنها إبريق )
____________________
) ( قدمته على عقار كعين
ال ** ديك صفى سلافها الراووق ) ( ثم كان المزاج ماء غمام ** غير ما آجن ولا مطروق
) قال : فطرب وقال : أحسنت والله يا حماد سلني حوائجك . فقلت : كائنة ما كانت قال
: نعم . قلت : إحدى الجاريتين . قال : هما جميعاً بما عليهما وما لهما لك .
فوهبهما له وأنزله في داره ثم نقله من غد إلى منزل أعده له فانتقل إليه فوجد فيه
الجاريتين وما لهما وكل ما يحتاج إليه . فأقام عنده مدة فوصل إليه منه مائة ألف
درهم .
وروي أيضاً بسنده أن جعفر بن أبي جعفر المنصور والمعروف بابن الكردية كان يستخف
مطيع بن أياس ويحبه وكان منقطعاً إليه وله منه منزلة حسنة . فذكر مطيع حماداً وكان
)
صديقه وكان مطرحاً مجفواً في أيامهم فقال له : ائتنا به لنراه .
فأتى مطيع حماداً فأعلمه بذلك وأمره بالمسير إليه ومعه فقال له حماد : دعني فإن
دولتي كانت مع بني أمية وما لي مع هؤلاء خير . فأبى مطيع إلا الذهاب به فاستعار
حماد سواداً وسيفاً ثم أتاه فمضى به إلى جعفر فلما دخل سلم عليه وأثنى عليه فرد
عليه السلام وأمره بالجلوس ثم قال له جعفر : أنشدني لجرير . قال حماد : فوالله لقد
سلخ شعر جرير كله من قلبي إلا قوله : ( بان الخليط برامتين فودعوا ** أو كلما
اعتزموا لبين تجزع
____________________
) فاندفع ينشده إياها حتى
قال : الكامل ( وتقول بوزع قد دببت على العصا ** هلا هزئت بغيرنا يا بوزع ) قال
حماد : فقال : لي جعفر : أعد هذا البيت . فأعدته . فقال : بوزع أيش هو قلت : اسم
امرأة . فقال : هو بريء من الله ورسوله ونفي من العباس إن كانت بوزع إلا غولاً من
الغيلان تركتني والله يا هذا لا أنام الليل من فزع بوزع يا غلمان قفاه قال : فصغت
حتى لم أدر أين أنا .
ثم قال : جروا برجله . فجروا برجلي حتى أخرجت من بين يديه مسحوباً فنخرق السواد
وانكسر جفن السيف ولقيت شراً عظيماً . وكان أشر من ذلك غرامتي ثمن السواد وجفن
السيف .
وكتب حماد إلى بعض الرؤساء الأشراف : الخفيف ( إن لي حاجة فرأيك فيها ** لك نفسي
فدى من الأوصاب ) ( وهي ليست مما يبلغها غي ** ري ولا يستطيعها في كتاب ) ( غير
إني أقولها حين ألقا ** ك رويداً أسرها في حجاب ) ( إنني عاشق لجبتك الدكن ** اء
عشقاً قد حال دون الشراب ) ( فاكسنيها فدتك نفسي وأهلي ** أتباهى بها على الأصحاب
) ( ولك الله والأمانة أن أج ** علها عمرها أمير ثيابي ) فبعث بها إليه .
قال ابن النطاح : كان حماد في أول أمره يتشطر ويصحب الصعاليك واللصوص
____________________
فنقب ليلة على رجل وأخذ
ماله فكان فيه جزء من أشعار الأنصار فقرأه حماد فاستحلاه وحفظه ثم )
طلب الأدب والشعر وأيام العرب ولغاتها بعد ذلك وترك ما كان عليه فبلغ في العلم ما
بلغ .
وروى بسنده أيضاً عن ابن الأعرابي أنه قال : سمعت المفضل الضبي يقول : قد سلط على
الشعر حماد الراوية فأفسده . فقلت له : وكيف أيخطئ في روايته أم يلحن فقال : ليته
كان ذلك فإن أهل العلم يردون من أخطأ إلى الصواب ولكنه رجل عالم بلغات العرب
وأشعارها ومذاهب الشعراء ومعانيها فلا يزال يقول الشعر يشبه به مذهب رجل ويدخله في
شعره ويحمل ذلك عنه في الآفاق فيختلط بأشعار القدماء ولا يتميز الصحيح منها إلا
عند عالم ناقد وأين ذاك .
وروى أيضاً بسنده أن الطرماح قال : أنشدت حماداً الراوية في مسجد الكوفة وكان أذكى
بان الخليط بسحرة فتبددوا وهي ستون بيتاً فسكت ساعة ولا أدري ما يريد ثم أقبل علي
فقال : هذه لك قلت : نعم . قال : ليس الأمر كذلك . ثم ردها علي كلها وزيادة عشرين
بيتاً زاد فيها في وقته فقلت له : ويحك إن هذا شعر قلته منذ أيام ما اطلع عليه أحد
.
فقال : قد والله قلت هذا الشعر منذ عشرين سنة وإلا فعلي وعلي . فقلت : لله علي حجة
أحجها حافياً راجلاً إن جالستك بعدها أبداً فأخذ فبضة من حصى
____________________
المسجد ثم قال : علي لله
بكل حصاة مائة حجة إن كنت أبالي . فقلت له : أنت رجل ماجن والكلام معك ضائع . ثم
انصرفت .
وروى بسنده أيضاً أنه كان بالكوفة ثلاثة نفر يقال لهم الحمادون : حماد عجرد وحماد
الراوية وحماد بن الزبرقان يتنادمون على الشراب ويتناشدون الأشعار ويتعاشرون
معاشرة جميلة وكانوا كأنهم نفس واحدة وكانوا يرمون بالزندقة جميعاً .
وقد هجاه أبو الغول الطهوي بقوله : الكامل ( نعم الفتى لو كان يعرف ربه ** أو حين
وقت صلاته حماد ) ( ضمت مشافره الشمول فأنفه ** مثل القدوم يسنها الحداد ) وأنشد
بعده ( الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة ) الطويل ( فليت لنا من ماء زمزم
شربة ** مبردة باتت على طهيان ) على أن من قد تأتي للبدل . أي : فليت لنا شربة بدل
ماء زمزم .
____________________
وطيهان بفتح الطاء المهملة
والهاء والمثناة التحتية : جبل . ورواه الصاغاني في العباب : باتت على الهميان
وقال : هكذا الرواية والنحاة يروونه : على طهيان . والهميان : قوائم من صخر شاخصة
في بلاد غطفان .
وأنشده في مادة برد قال : وبردت الماء تبريداً ولا يقال : أبردته إلا في لغة رديئة
. ونسب البيت إلى الأحوال الكندي . وهذا خلاف ما عليه الرواة فإنهم قالوا : إن
البيت آخر قصيدة ليعلى الأزدي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد السبعمائة ) ( لا تنتهون ولن ينهى ذوي
شطط ** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل ) على أنه لو صح قول المصنف في توجيه كلام
العرب : قد كان من مطر بأن أصله : قد كان شيء من مطر فحذف الفاعل الموصوف بالظرف
لجاز أن تكون الكاف في هذا البيت حرف جر ويكون الفاعل محذوفاً وقد أقيم الظرف
مقامه فلا يصح الاستدلال بالبيت على أن الكاف اسم مع أنها اسم وجوباً في البيت .
وقد رد ابن السراج في الأصول ما ذكره المصنف قال : في الكلام والأشعار ما يوجب
للكاف أنها اسم .
____________________
قال الأعمش : أتنتهون ولا
ينهى ذوي شطط . . . . . . . . . . . . . . . البيت فالكاف هي الفاعلة . فإن قال
القائل : إنما هي نعت لمحذوف أراد شيء كالطعن وهي حرف . قيل له : إنما يخلف الاسم
ويقوم مقامه ما كان اسماً مثله نحو : جاءني عاقل ومررت بظريف . وليس بالحسن إلا
فيما يشكل من النعوت ولو كان غير الاسم يخلفها لصلح أن تقول : جاءني يقوم وكلمت
يضرب تريد إنساناً ورجلاً ونحو ذلك . وكذلك يلزمك أن تقول : جاءني )
في الدار تريد : رجل في الدار . انتهى .
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون تقدم بعضها في الشاهد التاسع والثلاثني بعد الستمائة
.
وقبله : البسيط ( إني لعمر الذي حطت مناسمها ** تخدي وسيق إليه الباقر الغيل ) (
لئن قتلتم عميداً لم يكن صدداً ** لنقتلن مثله منكم فنمتثل ) ( وإن منيت بنا عن غب
معركة ** لا تلفنا عن دماء القوم ننتفل ) ( لا تنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن
يهلك فيه الزيت والفتل ) ( حتى يظل عميد القوم مرتفقاً ** يدفع بالراح عنه نسوة
عجل
____________________
) ( أصابه هندواني فأقصده
** أوذابل من رماح الخط معتدل ) قوله : إني لعمر الذي . . . إلخ اللام للتوكيد
وعَمر بالفتح مبتدأ خبره محذوف يقدر بعد تمام البيت تقديره قسمي . وعمر مضاف إلى
الذي بتقدير موصوف أي : لعمر الله الذي . ومعنى لعمر الله : أحلف ببقاء الله
ودوامه .
والبيت الذي بعده جواب القسم والقسم وجوابه خبر إني . وحطت بالحاء المهملة بمعنى
اعتمدت . ومناسمها فاعله والمناسم : جمع منسم كمجلس وهو طرف خف الإبل . والضمير
المؤنث ضمير الإبل وإن لم يجر لها ذكر لأن المناسم تدل عليها .
والعائد إلى الذي محذوف تقديره إليه أي : إلى بيته ويدل عليه ما بعده . وتخدي
بالخاء المعجمة والدال المهملة أي : تسير سيراً شديداً وفاعله ضمير المناسم فيه
والجملة حال من المناسم . وإسناد الخدي إلى المناسم مجاز عقلي وفي الحقيقة إنما هو
للإبل .
وروى أبو عبيدة : له بدل تخدي فالعائد حينئذ مذكور .
وقوله : وسيق عطف على حطت أي : وعمر الذي سيق إليه . والباقر نائب فاعل سيق وهو
اسم جمع معناه جماعة البقر .
والغيل بضمتين : جمع غيل بفتح الغين المعجمة وسكون المثناة التحتية بمعنى الكثير .
يريد : إني أقسم بالله الذي تسرع الإبل إلى بيته ويساق إليه الهدي .
والخطيب التبريزي لم يأت في شرح هذا البيت بشيء مع أنه اختلفت الرواة فيه وخطأ
العلماء بعضهم بعضاً فيه . )
وقد روى أبو القاسم علي بن حمزة البصري في أول كتابه : التنبيهات على
____________________
أغلاط الرواة . ما وقع
للأئمة الأعلام من الردود وتخطئة بعضهم بعضاً فلا بأس بإيراده قال : ونقل إلينا من
غير وجه أن أبا عمرو الشيباني قال : روى أبو عبيدة بيت الأعشى : وسيق إليه الباقر
العَثلُ أي : بعين مهملة وثاء مثلثة مفتوحتين فأرسلت إليه : صحفت إنما هو الغيل أي
: وروى عنه أيضاً أنه قال : الغيل : السمان من قولهم : ساعد غيلٌ . وكان أبو عبيدة
يروي هذا البيت . ( إني لعمر الذي حطت مناسمها ** تخدي وسيق إليه الباقر العثل )
وحكى ابن قتيبة أن أبا حاتم قال : سألت الأصمعي عنه فقال : لم أسمع بالعثل إلا في
هذا البيت . ولم يفسره . قال : وسألت أبا عبيدة عنه فقال : العثل : الكثير .
قال ابن قتيبة : وخبرنا غيره أن الأصمعي كان يروي : وجد عليها النافر العجل يريد :
النفار من منى . والنافر لفظه لفظ واحد وهو معنى جمع . وقد اختلف عنه في العجل
فقال بعض : العُجُل بضم العين وقال بعض العِجِل أي : فتح فكسر وجعله وصفاً لواحد .
قال : ورواه أبو عبيدة : حطت مناسمها بالحاء غير معجمة وقال : يعني حطاطها في
السير وهو الاعتماد . ورواه الأصمعي : خطت مناسمها بالخاء المعجمة أي : شقت التراب
.
____________________
وأنشد للنابعة : الكامل
فما خططت غباري أي : شققته . وقال الأصمعي : حطت خطأ .
فانظر إلى اختلافهم في هذا البيت . ورد بعضهم على بعض ومراسلة أبي عمرو أبا عبيدة
فيه .
وقد أصاب أبو عمرو في الغيل وصحف أبو عبيدة لأن لتفسيري أبي عمرو وجهين صحيحين
معروفين وتفسير أبي عبيدة غير مسموع من غيره ولا معروف .
ولا تلتفتن إلى قول ابن دريد : نعم عَثلٌ وعثِلٌ : كثير ولا إلى قوله : العَثَل :
الغلظ والفخامة عَثِلَ يَعثَل عَثلاً . وكل كثير عَثَل . فكل هذا عن أبي عبيدة .
وأصاب أبو عبيدة في حطت لأنه وجه صحيح وأخطأ الأصمعي في قوله : حطت بالمهملة )
خطأ . ولأن تكون معتمدة في سيرها بمناسمها خير من أن تكون خاطة . والحظ بالمهملة :
الاعتماد يقال : حَطَّ يحُطُّ حطَّاً إذا اعتمد . ولما لم يعرفه الأصمعي رده .
قال عمرو بن الأهتم : الطويل ( ذريني فإن الشيخ يا أم هيثم ** لصالح أخلاق الرجال
سروق ) ( ذريني وحطي في هواي فإنني ** على الحسب الزاكي الرفيع شفيق
____________________
) ومن هذا أخذ : حط الأديم
وهو صقله ودلكه وذاك لأن صاقله يعتمد عليه . يقال : حطه يحطه حطاً فهو أديم محطوط
. والخشبة التي يصقل عليها يقال لها : المحط . ( كأن محطاً في يدي حارثية ** صناع
علت مني به الجلد من عل ) شبه برقان بدنه لماء الشباب وترارته بالأديم المصقول .
انتهى ما أرده أبو القاسم .
وقال العسكري في كتاب التصحيف : وقد رووا بيتاً من شعر الأعشى على عشرة أوجه وهو :
إني لعمر الذي حطت مناسمها . . . . . . . . . . . . . . . البيت وذكرت الأوجه
ليعلم قدر عنايتهم بالعلم وصرف اهتمامهم إليه . رواه الأصمعي : إني لعمر الذي خطت
بالخاء المعجمة . ورواية عسل عنه بالحاء غير المعجمة . وقال الأصمعي : خطت يعني
أنها تشق التراب . قال : ومثله قول النابغة : ( أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ** تحت
العجاج فما خططت غباري ) أي : قصرت عنه أن تدركه . قال : ولا يكون حطت لأن الحطاط
الاعتماد في الزمام . ورواها أبو عمرو : حطت بالحاء وقال : هو أن يعتمد في أحد
شقيه . ورواه : تخدي بالخاء المعجمة وقال : الباقر العيل بعين غير معجمة بعدها باء
تحتها نقطتان .
____________________
وفي رواية الزيادي عن الأصمعي
: الباقر العثل بعين وثاء فوقها ثلاث نقط وفسره فقال : العثل والعنج واحد وهو
الجماعة .
وفي رواية عسل : حطت بالحاء غير المعجمة وقال : معناه أسرعت . قال : والعثل الكبير
الثقيل : يقال : انكسرت يده ثم عثلت تثعل أي : ثقلت عليه . هذه رواية الأصمعي .
ورواه أبو عبيدة : حطت بالحاء وهو الاعتماد في أحد شقيها إذا سارت .
وروى : العثل وقال : هي القطيع والجماعات يقال : ذلك في الناس والإبل . وكذلك
العثج ولم يعرف الغيل . )
ورواه أبو عمرو الشيباني : الغيل بغين معجمة وتحت الياء نقطتان وفسره بالكثير وقال
: يقال : ماء غيل إذا كان كثيراً . والغيل أيضاً السمان . يقال : ساعد غيل إذا كان
ممتلئاً رياً .
قال : وروى أبو عبيدة : العثل بالثاء منقوطة بثلاث فأرسلت إليه : أن قد صحفت إنما
هو الغيل .
وروى بعضهم عن الأصمعي أنه قال : الرواية : وجد عليها النافر العجل بالجيم .
والنافر بالنون والفاء . أي : خطت مناسمها تخدي ذاهبة ثم جدت عليها النفار من منى
حيث نفروا .
وقال أبو الحباب : قلت له : إنما قال النافر وهو واحد ثم قال العجل فقال : كقولك :
يا أيها الرجل وكلكم ذلك الرجل . وكثيراً ما يجيء الواحد في معنى الجميع .
ورواه أبو عبيد القاسم بن سلام عن أصحابه خطت بالخاء المعجمة وقال : يعني أنها تشق
التراب . قال : فما خططت غباري
____________________
يعني ما شققته أي : قصرت
عنه ولم تدركه . وروى بعضهم حطت مناسمها تحدى بحاء مهملة بدلاً من تخدي .
فانظر إلى هذا البيت وكم تعب من الرواة والعلماء واحتملوه لطلب الفائدة فيه .
انتهى كلام العسكري .
وقوله : لئن قتلتم . . . إلخ اللام هي الموطئة للقسم . وقوله : لنقتلن جواب القسم
وجواب الشرط محذوف دل عليه جواب القسم .
وقوله : وإن منيت بنا . . . . إلخ يأتي إن شاء الله شرحه في الشاهد الثالث
والثلاثين بعد التسعمائة في حروف الشرط . والخطاب ليزيد بن مسهر الشيباني فإنه كان
أغوى بني سيار في أن يقتلوا سيداً من رهط الأعشى على ما تقدم سببه هناك .
والعميد : السيد الذي يعمد أي : يقصد . والصدد بقتحتين : المقارب .
وقوله : فنمتثل أي : نقتل الأمثل . وأماثل القوم : خيارهم . يقول : والله إن قتلتم
منا دون السيد لنقتل أمثلكم .
وقوله : لا تنتهون . . . إلخ أي : لا تنزجرون .
وقوله : ولن ينهى . . . إلخ البيت : جملة معترضة بين لا تنتهون وبين متعلقه وهو
حتى يظل )
البيت الآتي . وزعم العيني أن الجملة حالية . وعذره أنه لم ينشد البيت الذي بعده .
ويروى : أتنتهون بالاستفهام الإنكاري ولن ينهى بفتح الهاء وذوي مفعول مقدم . يقال
: ينهاه أي : يزجره ويمنعه .
والشطط بفتحتين : الجور والظلم . في المصباح : شط فلان في حكمه شطوطاً وشططاً :
جار وظلم . وشط في القول شططاً وشطوطاً : أغلظ فيه . وشط في السوم : أفرط .
والجميع من بابي ضرب وقتل .
والكاف من قوله كالطعن اسم فاعل ينهى والطعن مضاف إليه وهو
____________________
مصدر طعنه بالرمح طعناً من
باب قتل .
ويهلك بكسر اللام من باب ضرب . وجملة : يهلك . . . إلخ صفة للطعن لأن اللام فيه
للجنس . والفتل بضمتين : جمع فتيلة أراد فتيلة الجراحة .
والمعنى : لا ينهى أصحاب الجور مثل طعن جائف أي : نافذ إلى الجوف يغيب فيه الزيت
والفتل . يريد أنه لا يمنع الجائرين من الجور إلا القتل .
وقوله : حتى يظل . . . إلخ حتى جارة بمعنى إلى متعلقة بقوله : لا تنتهون . ويظل
بمعنى يستمر والمرتفق : الطالب الرفق والإعانة . والراح : جمع راحة اليد . والعجل
بضمتين جمع عجول وهي الثكلى .
يقول : حتى يظل سيد الحي تدفع عنه النساء بأكفهن لئلا يقتل لأن من يدفع عنه من
الرجال قتل .
وقيل المعنى : يدفعن لئلا يوطأ بعد القتل . وهو المناسب لقوله : أصابه هندواني أي
: سيف منسوب إلى الهند .
وأقصده : قتله مكانه . وذابل هو الرمح . والخط بالفتح : موضع باليمامة تنسب إليه
الرماح وهي لا تنبت بالخط إنما هو ساحل للسفن التي تحمل القنا إليه وتعمل به .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
السابع والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل ( وأنت التي جببت شغباً إلى بدا ** إلي
وأوطاني بلاد سواهما ) على أن إلى الأولى فيه للانتهاء أي : مضافاً إلى بدا . وذكر
المتعلق لإفادة أن إلى مع مجرورها واقعة موقع الحال من شغب ولإفادة أن الغاية داخل
في المغيا .
وزعم الكوفيون أنها هنا بمعنى مع وهو خلاف الأصل من غير ضرورة تلجئ إليه .
ومن الغريب قول ابن هشام في المغني : إنها بمعنى الفاء . قال : إذ المعنى شغباً
فبداً وهما موضعان .
ويدل على إرادة الترتيب قوله بعده : الطويل ( حللت بهذا حلة ثم حلة ** بهذا فطاب
الواديان كلاهما ) وهذا المعنى غريب لأني لم أر من ذكره . اه .
وقد رد عليه شارحه الدماميني بأن من حق النحاة أن لا يذكروه مستندين إلى هذا
الدليل فإنا لا نسلم إرادة الترتيب في البيت الأول لاحتمال أن يكون إلى فيه للمعية
كما قاله جماعة كثيرة ومتعلقة بمحذوف إن لم نقل بذلك أي : مع
____________________
بدا أو مضموماً إلى بدا .
والبيت الثاني لا يدل على إرادة الترتيب في الأول إذ حلولها بأحد المكانين بعد
حلولها بالآخر لا يقتضي أن المكان الأول حبب إليه أولاً بسب حلولها فيه وأن الثاني
حبب إليه بعد ذلك لحلولها به إذ من الجائز أن يكون حب المكانين حصل له في آن واحد
بعد حلولها فيهما على ثم ولو سلم دلالة البيت الثاني على الترتيب في الأول لم يدل
على دعواه لأن الترتيب الواقع في الثاني إنما هو ب ثم لا بالفاء . وفي بعض النسخ :
حلة بعد حلة . اه .
وأما إلى الثانية فقد شرحها الشارح المحقق بعد أسطر .
والبيتان في الحماسة ونسبهما لكثير عزة . والرواية فيها كذا : ( وحلت بهذا حلة ثم
أصبحت ** بهذا فطاب . . . . . . . . . إلخ ) قال المرزوقي : خاطبها في البيت
معتداً عليها بأنه كما آثرها على أهله وعشيرته آثر بلادها على بلاده فذكر طرفي
محالها فقال : أحب لك وفيك شغباً إلى بدا وبلادي بلاد غيرهما .
ثم أخبر عنها في البيت الثاني فقال : نزلت بهذا يشير إلى شغب نزلة ثم أصبحت ببدا
ففاح )
الواديان وتضوعا برياها .
ومثله قوله الآخر : المنسرح ( استودعت نشرها الرياض فما ** تزداد طيباً إلا على
القدم ) وفي بعض نسخ الحماسة بيت بينهما وهو : ( إذا ذرفت عيناي أعتل بالقذى **
وعزة لو يدري الطبيب قذاهما
____________________
) أي : عزة سبب قذاهما .
وشغب بفتح الشين وسكون الغين المعجمتين . وبداً بفتح الموحدة قال العسكري في كتاب
التصحيف : هما من بلاد عذرة يريد أنهما من بلاد اليمن .
ويناسبه ما نقله أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم بعد قوله : شغب : قرية الزهري
الفقيه : عن ابن أبي أويس قال : خرج عبد الله بن السائب المخزومي نحو اليمن ومعه
ابنه فنزلا على غدائهما فقال عبد الله بن السائب : الطويل ( فلما علوا شغباً تبينت
أنه ** تقطع من أهل الحجاز علائقي ) فقال ابنه : الطويل ( فلا زلن حسرى ظلعاً لم
حملننا ** الى بلد ناء قليل الأصادق ) فقال أبوه : أمك طالق إن تغدينا أو تعشينا
إلا على هذين البيتين .
ولكنه قال : شغب قد تقدم ذكره وتحديده في رسم بدا . والذي قاله في بدا : أنه موضع
بين طريق مصر والشام .
قال كثير : وأنت التي حببت شغباً إلى بدا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
وشغب : منهل بين طريق مصر والشام أيضاً .
قال جميل : الطويل وقد ورد بدا في شعر زيادة بن زيد ممدوداً فلا أدري أمده ضرورة
أم فيه لغتان . قال : الطويل (
____________________
وهم أطلقوا أسرى بداء
وأدركوا ** نساء ابن هند حين تهدى لقيصرا ) هذا ما ذكره . وهو لا يناسب شعر ابن
السائب ولا شعر جميل فإنه عذري .
ولم يزد ابن ولاد والقالي في المقصور والممدود لهما على قولهما : بدا : اسم موضع
مقصور )
يكتب بالألف . يقال : بين شغب وبدا . وأنشد البيت الشاهد . والله أعلم .
وترجمة كثير عزة تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد السبعمائة ) الطويل ( فلا تتركني بالوعيد
كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب ) على أنه قيل إلى فيه بمعنى في والوجه أن
تكون على أصلها للانتهاء لأن قوله : مطلي به القار معناه مكره مبغض . وهو يتعدى
بإلى .
وهذا توجيه ابن عصفور قال في كتاب الضرائر : إنما وقعت فيه إلى موقع في لأنه إذا
كن بمنزلة البعير الأجرب المطلي الذي يخاف عدواه فيطرد عن الإبل إذا أراد الدخول
بينها كان مبغضاً إلى الناس فعومل مطلي كذلك معاملة مبغض .
____________________
وقال في موضع آخر : هو على
تضمين مطلي معنى مبغض . ولو صح مجيء إلى بمعنى في لجاز زيد إلى الكوفة . اه .
وقال بعضهم : إلى متعلقة بمحذوف أي : مطلي بالقار مضافاً إلى الناس فحذف وقلب
الكلام . ولا يخفى سماجته .
والوعيد : التهديد . والقار هنا : القطران . وإنما شبه نفسه بالبعير الأجرب المطلي
بالقطران لأن الناس يطردونه إذا أراد الدخول بين إبلهم لئلا يعرها بالقطران
ويعديها بدائه .
والقار نائب فاعل مطلي وبه متعلق بمطلي . والأصل مطلي بالقار فمرفوع مطلي هو
المستتر لكنه قلب . وقيل : روي : القار بالجر على أنه بدل من ضمير به فلا قلب .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يعتذر بها إلى النعمان بن المنذر اللخمي في شيء
اتهم به عنده فهرب منه إلى ملوك الشام بني جفنة الغسانيين كما تقدم بيانه في
ترجمته واعتذر إليه بعدة قصائد في انضمامه إلى بني جفنة والتبري مما رمي به أوله :
الطويل إلى أن قال : ( حلفت فلم أترك لنفسك ريبة ** وليس وراء الله للمرء مطلب ) (
لئن كنت قد بلغت عني جناية ** لمبلغك الواشي أغش وأكذب ) ) ( ولكني كنت امرأ لي
جانب ** من الأرض فيه مستراد ومذهب ) ( ملوك وإخوان إذا ما أتيتهم ** أحكم في
أموالهم وأقرب ) ( كفعلك في قوم أراك اصطنعتهم ** فلم ترهم في شكر ذلك أذنبوا ) (
فلا تتركني بالوعيد كأنني ** إلى الناس مطلي به القار أجرب
____________________
) ( ألم تر أن الله أعطاك
سورة ** ترى كل ملك دونها يتذبذب ) ( فإنك شمس والملوك كواكب ** إذا طلعت لم يبد
منهن كوكب ) ( فلست بمستبق أخاً لا تلمه ** على شعث أي الرجال المهذب ) ( فإن أك
مظلوماً فعبد ظلمته ** وإن تك غضباناً فمثلك يعتب ) وقوله : أبيت اللعن جملة
دعائية اعتراض بها بين الفعل وفاعله يخاطبون الملوك بها تحية .
ومعناه أبيت أن تفعل شيئاً تلعن به .
قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : أي : أبيت أن تأتي من الأخلاق المذمومة ما
تلعن به .
وكانت هذه تحية ملوك لخم وجذام وكانت منازلهم الحيرة وما يليها . وتحية ملوك غسان
: يا خير الفتيان . وكانت منازلهم الشام .
وتلك : إشارة إلى الملامة المفهومة من لمتني إذ المعنى : أتتني ملامتك إياي .
وأهتم أصير ذا هم .
وأنصب : مضارع نصب كفرح أي : أتعب وأعيا .
وقوله : حلفت قسم وجوابه : لئن كنت وما بينهما اعتراض .
والريبة : الشك وجملة : وليس وراء الله . . . إلخ جملة مؤكدة لمضمون ما قبلها فإنه
إذا لم يكن وراء الله مطلب لأحد لم يحلف بأعظم منه فكيف يحلف به كاذباً .
____________________
وهذا البيت وما بعده من
الأبيات الأربعة استشهد به أهل البديع على النوع المسمى عندهم بالمذهب الكلامي وهو
إيراد حجة للمطلوب على طريقة أهل الكلام .
والجناية : الذنب . والوشي : النمام . وغشه : لم يخلص له النصح . ولي جانب من
الأرض صفة امرأ وفيه إعادة الضمير الرابط ضمير تكلم . وأراد بالجانب أرض الشام .
والمستراد : موضع يتردد فيه لطلب الرزق . وملوك وإخوان : بدل من مستراد ومذهب أو
بتقدير : فيه ملوك وإخوان . ومعنى أحكم : أتصرف في أموالهم كيف أشاء .
وقوله : كفعلك . . . إلخ قال الأصمعي : يريد كما فعلت أنت بقوم قربتهم وأكرمتهم
فتركوا )
والسورة بالضم : المنزلة الرفيعة والشرف . وبالبيت استشهد البيضاوي لمعنى السورة .
وملك بسكون اللام : لغة في كسرها . ويتذبذب : يضطرب .
وقوله : فإنك شمس قال المبرد : هذا من أعجب التشبيه .
وأراد بهذا البيت والذي قبله تسلية النعمان عما حصل عنده من مدحه آل جفنة ثم كر
معتذراً عن زلته فقال : ولست بمستبق أخاً إلخ يقول : أي الرجال يكون مبراً من
العيوب فإن قطعت إخوانك بذنب لم يبق لك أخ . وتلمه : تصلحه وتصلح ما تشعث من أمره
وفسد .
والبيت استشهد به علماء البيان للتذييل وهو تعقيب الكلام بجملة تشتمل على معناه
للتوكيد .
وقوله : فإن أك مظلوماً أي : باستمرار غضبك علي . جعل غضبه ظلماً
____________________
له لأنه عن غير موجب .
فأنت إنما ظلمت عبداً من عبيدك وليس لأحد اعتراض فيه .
وقوله : وإن تك غضباناً . . . إلخ روي أيضاً : وإن تك ذا عتبى فمثلك يعتب بالبناء
للمفعول أي : يرجع له إلى ما يحب . ويقال : لك العتبى أي : الرجوع إلى ما تحب .
وقيل : يعتب بالبناء للفاعل أي : يعطي العتبى يقال : أعتبه إذا أعطاه الرضا وهو
العتبى .
وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة . ( الشاهد التاسع والسبعون بعد
السبعمائة ) الطويل ( وإن يلتق الحي الجميع تلاقني ** الى ذروة البيت الكريم
المصمد ) على أن إلى فيه على أصلها وهي مع مجرورها حال من الياء في تلاقني متعلقة
بمحذوف تقديره : تلاقني منتسباً إلى ذروة البيت . . . إلخ .
وليست هنا بمعنى في كما قيل حكاه ابن السراج قال في الأصول : وقالوا في قول طرفة :
وإن يلتق الحي الجميع تلاقني إلخ إن إلى بمعنى في .
____________________
وما ذهب إليه الشارح
المحقق هو قول الزوزني شارح المعلقات في شرح هذا البيت يقول : وإن اجتمع الحي
للافتخار تلاقني أنتهي إلى ذروة البيت الشريف أي : إلى أعلى الشرف . يريد أنه
أوفاهم حظاً من الحسب وأعلاهم سهماً من النسب .
وقوله : تلاقني إلى يريد : أعتزي إلى ذروة فحذف الفعل لدلالة الحرف عليه . اه .
وكذا في شرح أدب الكاتب لابن السيد البطليوسي قال : قيل معناه في ذروة . وهذا لا
يلزم لأنه يمكن أن يريد آوياً إلى ذروة كما قال تعالى : سآوي إلى جبل يعصمني من
الماء فلا حجة فيه .
وقال الأعلم الشنتمري في شرح المعلقة : يقول : إذا التقى الحي الجميع بعد افتراقهم
وجدتني في موضع الشرف منهم وعلو المنزلة .
وقوله : إلى ذروة أي : في ذروة البيت . وذروة كل شيء : أعلاه . والمصمد : الذي
يصمد إليه الناس لشرفه ويلجؤون إليه في حوائجهم . والصمد : القصد . اه .
وقال ابن السكيت في شرح ديوان طرفة أي : إذا التقى الحي الجميع الذين كانوا
متفرقين وجدتني في الشرف .
وقال أبو جعفر النحاس والخطيب التبريزي : يريد : وإن يلتق الحي للمفاخرة وذكر
المعالي تجدني معهم .
قال أبو الحسن : معنى إلى ذروة أي : مع ذروة وهو تمثيل . وإنما يريد بالبيت هاهنا
الأشراف الذين يقصدون فشبههم هاهنا بالبيت الرفيع . اه .
____________________
)
فهذا معنى ثالث لإلى في البيت .
وهو من معلقة طرفة بن العبد . وقبله : الطويل ( فإن تبغني في حلقة القوم تلقني **
وإن تقتنصني في الحوانيت تصطد ) ( متى تأتني أصبحك كأساً روية ** وإن كنت عنها ذا
غنى فاغن وازدد ) وإن يلتق الحي الجميع تلاقني . . . . . . . . . . . . . . . . .
. البيت ( نداماي بيض كالنجوم وقينة ** تروح علينا بني برد ومجسد ) ( رحيب قطاب
الجيب منها رفيقة ** بجس الندامى بضة المتجرد ) قوله : ولست بحلال التلاع . . .
إلخ تقدم شرحه مع الذي بعده في الشاهد السادس والتسعين بعد الستمائة .
وكذلك تقدم شرح قوله : نداماي بيض مع البيت الذي بعده في الشاهد الواحد بعد
الثلثمائة وفي الشاهد الذي بعد الثاني عشر والستمائة .
وقوله : متى تأتني أصبحك . . . إلخ في الصحاح : الصبوح : الشرب بالغداة
____________________
وهو خلاف الغبوق . تقول :
صبحته صبحاً . اه .
يقول : أسقك صبوحاً . والرواية : المروية . والكأس : الخمر في الإناء وهي الإناء
أيضاً إذا كان فيه خمر . ومعنى فاغن وازدد : فاغن بما عندك أي : استغن به وازدد
غنى .
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة . ( ألقى الصحيفة كي يخفف
رحله ** والزاد حتى نعله ألقاها ) تقدم شرحه مستوفى في الشاهد السابع والخمسين بعد
المائة من باب الاشتغال .
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد السبعمائة ) الطويل (
____________________
وأكفيه ما يخشى وأعطيه
سؤله ** وألحقه بالقوم حتاه لاحق ) على أن المبرد زعم أن حتى هنا جرت الضمير .
وليس كذلك وإنما حتى هنا ابتدائية والضمير أصله هو فحذف الواو ضرورة كما تقدم
بيانه في شرح قول : الطويل فبيناه يشري رحله قال قائل أي : بينا هو يشري رحله في
الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة فحتى حرف ابتداء داخلة على الجملة وهو الضمير
المحذوف واوه ضرورة في محل رفع على الابتداء ولاحق خبره . ولو كانت حرف جر لم يكن
لذكر لاحق بالرفع وجه .
ولم يتنبه لهذا صاحب اللب وإنما قال : واختصت بالظاهر خلافاً للمبرد . و : لا يعتد
به . قال شارحه السيد : لندوره وشذوذه ولو أورد البيت الثاني لكان مناسباً .
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو قول ابن عصفور في الضرائر قال : ومنه حذف الياء من
هي والواو من هو نحو : دار لسعدى إذه من هواكا أي : إذ هي . وقول الآخر :
____________________
وألحقه بالقوم حتى لاحق
وقول العجير : فبيناه يشري رحله قال قائل أي : حتى هو وبينا هو وحذفهما يؤدي إلى
بقاء الضمير المنفصل على حرف واحد وذلك قبيح لأنه عرضة للابتداء فلا اقل من أن
يكون على حرفين : حرف يبتدأ به وحرف يوقف عليه . اه .
وأكفيه : مضارع كفاه الشيء متعد إلى مفعولين بمعنى منعته الشيء . وما المفعول
الثاني موصولة أو نكرة موصوفة . والسؤل : ما يسأل مفعول ثان لأعطى .
وألحقه : مضارع ألحقه بكذا أي : أتبعه به فلحق هو به . وأما ثلاثيه فيقال : لحقته
ولحقت به من باب تعب لحقاً بالفتح : أدركته يتعدى تارة بنفسه وتارة بالباء . كذا
في المصباح . وصلة )
لاحق في البيت محذوف تقديره : حتى هو لاحق بهم .
والبيت لم أقف على خبر له . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد السبعمائة ) الوافر ( فلا والله لا
يلقاه ناس ** فتى حتاك يا ابن أبي يزيد
____________________
) على أن المبرد تمسك به
على أن حتى تجر الضمير .
وأجاب الشارح المحقق بأنه شاذ . والأحسن أن يقول ضرورة فإنه لم يرد في كلام منثور
.
ولم يظهر لي معنى الغاية في حتى هنا . وفتى حال من الهاء أو بدل منه . وروي : لا
يلقى أناس ففتى مفعول يلقى .
وروى العيني : لا يلقي أناس بكسر الفاء فأناس فاعله وينظر أين : مفعولا ألفى فإن
ألفى من نواسخ المبتدأ والخبر .
والغاية في هذا البيت ظاهرة : الوافر ( أتت حتاك تقصد كل فج ** ترجي منك أنها لا
تخيب ) وهو من أبيات مغني اللبيب .
ثم رأيت في شرح التسهيل لأبي حيان وقد أنشد بيت : فتى حتاك يا ابن أبي يزيد أنه
قال : وانتهاء الغاية في حتاك لا أفهمه ولا أدري ما عنى بحتاك فلعل هذا البيت
مصنوع .
اه .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
الثاني والثمانون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( فوا عجبا حتى كليب
تسبني ** كأن أباها نهشل أو مجاشع ) على أن حتى فيه ابتدائية وفائدتها هنا التحقير
.
أنشده سيبويه وقال : فحتى هنا بمنزلة إذا وإنما هي هاهنا كحرف من حروف الابتداء .
وقال الأندلسي في شرح المفصل : يقع بعدها الجملة الفعلية والاسمية . وتسمى حرف
ابتداء وتفيد معناها الذي هو الغاية إما في التحقير أو في التعظيم كما في بيت
الفرزدق : فوا عجبا حتى كليب تسبني أي : تعجبوا لسب الناس إياي حتى كليب كأنه يقول
: كل الناس تسبني حتى كليب على حقارتها . ولو خفض هنا كليب لجاز ويكون تسبني إما
حال من كليب أو مستأنف وحتى كليب متعلق به .
قال ابن المستوفي بعد أن نقله : قوله أي تعجبوا في تفسير واعجبا غير صحيح لأنه
ينادي العجب على ما ذكره العلماء تأدباً لا يأمر أحداً به .
____________________
وقوله : ولو خفض كليب هنا
لجاز محال لان الخفض بعد حتى إما أن يكون بالعطف على المجرور قبلها أو يكون بمعنى
إلى ولا مجرور قبلها فتعطف عليه . وليست بمعنى الغاية إذ ليس ما قبلها مفرداً من
جنس ما بعدها . فبقي الرفع لا غير . وذكر قسميها في التعظيم والتحقير . ولم يأت
إلا بالتحقير .
وقوله : ويكن تسبني إما حال من كليب أو مستأنف بالرفع فيهما وصوابه : النصب فيهما
. ولا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به . اه .
أما الأول فيحتمل أن يكون عجباً منادى منكراً ويحتمل أن يكون يا حرف تنبيه وعجباً
مصدر منصوب بفعل محذوف ي : تعجبوا عجباً . ويحتمل أن تكون يا حرف نداء والمنادى
محذوف أي : يا قوم وعجباً كذلك .
فكلام الأندلسي جار على كل من هذين الوجهين . وأما الثاني فإنه أراد : فيا عجبي
فقلب ياء المتكلم ألفاً وهي لغة .
وأما قوله : خفض كليب محال . . . . إلخ فنقول : هي جارة والمغيا غير مذكور
والتقدير : فوا )
عجباً الناس تسبني حتى كليب . وهذا المذكور لا بد منه في الابتدائية أيضاً .
وقوله : ولم يأت إلا بالتحقير نقول : لا يضر ذلك . ومثال التعظيم :
____________________
حتى ماء دجلة أشكل البيت
الآتي وقوله : صوابه النصب فيهما يعني أنه يجب أن يقول : ويكون يسبني إما حالاً من
كليب أو مستأنفاً بنصبهما لأنه خبر كان وكأنه رفع على تقدير يكون إما تامة أو
زائدة .
وقوله : لا أعلم ما أراد بقوله : وحتى كليب متعلق به أقول : إنه يريد أن حتى
الجارة تكون متعلقة بيسبني إذ كل جار لا بد له من متعلق . وهذا ظاهر .
قال ابن هشام في المغني : ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت بكون ما بعد
والبيت من قصيدة للفرزدق هجا بها جريراً تقدم بعض منها في الشاهد السادس بعد السبعمائة
.
وقوله : فوا عجباً هو من قبيل الندية للتوجع كأنه يقول : أنا أتوجع لعدم حضورك يا
عجبي فاحضر لهذا الأمر الذي يتعجب منه .
وكليب : جد رهط جرير وهو جرير بن عطية بن الخطفى بن بدر بن سلمة بن كليب بن يربوع
بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . ويجتمع مع الفرزدق في حنظلة بن مالك .
ونهشل ومجاشع أخوان ابنا دارم بن مالك بن حنظلة . ومجاشع قبيلة الفرزدق وهي أشرف
من كليب . وأما نهشل فهم أعمام الفرزدق لا آباؤه وإن كانت العرب تسمي العم أباً .
جعلهم في الصفة بحيث لا يسبون مثله لشرفه .
يقول : يا عجباً لسب الناس إياي حتى كليب على ضعفها في القبائل وبعدها من الفضائل
كأنه لها أباً كريماً وحسباً صميماً كما لنهشل ومجاشع . والسَّبُّ : الشتم .
والسِّبُّ بالكسر : الذي يسابك وتسابه .
____________________
قال حسان بن ثابت : الخفيف
( لا تسبني فلست بسبي ** إن سبي من الرجال الكريم ) قال ابن طلحة الإشبيلي في شرح
جمل الزجاجي : كأن للتشبيه وقد يجيء في ضمنها الظن والتوهم كما قال الشاعر : كأن
أباها نهشل أو مجاشع )
المعنى : توهمت أباها نهشلاً أو مجاشعاً . ولو بقيت على معنى التشبيه من غير أن
تضمن معنى الظن لانقلب الهجو على الهاجي . اه .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( فما زالت القتلى
تمج دماءها ** بدجلة حتى ماء دجلة أشكل
____________________
) على أن فائدة حتى
الابتدائية هنا التعظيم والمبالغة وهو تغير ماء دجلة من كثر دماء القتلى حتى صار
أشكل وهو حمرة مختلطة ببياض . الشكلة كالحمرة وزناً ومعنى لكن يخالطها بياض . وهو
مأخوذ من أشكل الأمر أي : التبس .
فإن قلت : أين ما اشترط الشارح المحقق من كون خبر المبتدأ بعد حتى من جنس الفعل
المقدم عليها قلت : ما قبل حتى في قوة قوله : فما زالت القتلى تغير ماء دجلة
بالدماء .
والقتلى : جمع قتيل . وتمج : تقذف يتعدى إلى مفعول واحد يقال : مج الرجل الماء من
فيه مجاً من باب قتل : : رمى به . ويروى بدله : يمور دماؤها مضارع مار الدم : سال
. ومار الشيء : تحرك بسرعة . ومار : تردد في غرض . ومار البحر : اضطرب فهو فعل
لازم ودماؤها فاعله .
قال صاحب المصباح : ويعدى بنفسه وبالهمزة أيضاً فيقال : ماره وأماره إذا أساله .
فعلى هذا يجوز نصب دماءها به على أنه متعد . ودجلة بفتح الدال وكسرها : النهر الذي
يمر ببغداد لا ينصرف للعلمية والتأنيث . والباء بمعنى في .
والبيت من قصيدة لجرير هجا بها الأخطل وذكر ما أوقعه الجحاف ببني تغلب قال بعد
أبيات : الطويل ( بكى دوبل لا يرقئ الله دمعه ** ألا إنما يبكي من الذل دوبل ) (
جزعت ابن ذات القلس لما تداركت ** من الحرب أنياب عليك وكلكل ) ( فإنك والجحاف يوم
تحضه ** أردت بذاك المكث والورد أعجل ) ( سما لكم ليلاً كأن نجومه ** قناديل فيهن
الذبال المفتل ) ( فقد قذفت من حرب قيس نساؤهم ** بأولادها منها تمام ومعجل
____________________
) ) ( ومقتولة صبراً ترى
عند رجلها ** بقيراً وأخرى ذات بعل تولول ) ( وقد قتل الجحاف أزواج نسوة ** يسوق
ابن خلاس بهن وعزهل ) ( تقول لك الثكلى المصاب حليلها ** أبا مالك ما في الظعائن
مغزل ) ( حضضت عن القوم الذين تركتهم ** تعل الردينيات فيهم وتنهل ) ( عقاب
المنايا تستدير عليهم ** وشعث النواصي لجمهن تصلصل ) ( بدجلة إذ كروا وقيس وراءهم
** صفوفاً وإن راموا المخاضة أو حلوا ) ( فما زالت القتلى تمج دماءها ** بدجلة حتى
ماء دجلة أشكل ) ( فإن لا تعلق من قريش بذمة ** فليس على أسياف قيس معول ) ( لنا
الفضل في الدنيا وأنفك راغم ** ونحن لكم يوم القيامة أفضل ) ( وقد شققت يوم الحروب
سيوفنا ** عواتق لم يثبت عليهن محمل ) ( أجار بنو مروان منهم دماءكم ** فمن من بني
مروان أعلى وأفضل ) وينبغي أن نقدم أولاً سبب ما أوقعه الجحاف ببني تغلب ثم نشرح
الأبيات فنقول : إن عمير بن الحباب السلمي خرج على عبد الملك في أول خلافته
فاجتمعت إليه قيس وعامر وكان نازلاً في القرب من بني تغلب قبيلة الأخطل وكانت
منازلهم بين الخابور والفرات ودجلة فأساء المجاورة مع تغلب فوقع بينهم شر فما زال
الحرب بينهم سجالاً إلى أن قتل بنو تغلب عميراً وأرسلوا برأسه إلى عبد الملك
____________________
في سنة سبعين من الهجرة
فأنعم عبد الملك على الوفد وكساهم .
ثم إن الأخطل وفد على عبد الملك فدخل عليه الجحاف بن حكيم السلمي فقال عبد الملك :
أتعرف هذا يا أخطل قال : ومن هو قال : الجحاف . فقال الأخطل : الطويل ( ألا سائل
الجحاف هل هو ثائر ** بقتلى أصيبت من سليم وعامر ) حتى فرغ من القصيدة وكان الجحاف
يأكل رطباً فجعل النوى يتساقط من يده غيظاً ثم أجابه فقال : الطويل ( بلى سوف
نبكيهم بكل مهند ** ونبكي عميراً بالرماح الشواجر ) ثم قال : يا ابن النصرانية ما
ظننتك تجترئ علي بمثل هذا ولو كنت مأسوراً لك فحم الأخطل خوفاً . فقال عبد الملك :
أنا جارك منه . فقال : يا أمير المؤمنين هبك أجرتني منه في )
اليقظة فمن يجيرني منه في النوم ثم قام الجحاف ومشى يجر ثوبه وهو لا يعقل حتى دخل
بيتاً من بيوت الديوان فقال للكاتب : أعطني طوماراً من طوامير العهود فأتاه بطومار
وليس فيه كتاب فخرج إلى أصحابه من القيسية فقال : إن أمير المؤمنين ولاني صدقات
بكر وتغلب .
فلحقه زهاء ألف فارس فسار حتى أتى الرصافة ثم قال لمن معه : إن الأخطل قد أسمعني
ما علمتم ولست بوال فمن كان يحب أن يغسل عنه العار فليصحبني فإني قد آليت أن لا
أغسل رأسي حتى أقع ببني تغلب .
فرجعوا غير ثلثمائة فسار ليلته فصبح الرحوب وهو ماء لبني جشم بن بكر رهط الأخطل
فصادف عليه جماعة كثيرة من تغلب فقتل منهم مقتلة عظيمة وأخذ الأخطل وعليه عبائة
وسخة فظنوه عبداً وسئل فقال : أنا عبد فخلوا سبيله
____________________
فخشي أن يراه من يعرفه
فرمى بنفسه في جب فلم يزل فيه حتى انصرفت القيسية فنجا وقتل أبوه غوث وأسرف الجحاف
في القتل وشق البطون عن الأجنة وفعل أمراً عظيماً . فلما عاد عنهم قدم الأخطل على
عبد الملك فأنشده : الطويل ( لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة ** إلى الله منها
المشتكى والمعول ) والبشر بكسر الموحدة وسكون المعجمة : اسم ماء . فطلب عبد الملك
الجحاف فهرب إلى الروم فكان يتردد فيها ثم بعث إلى بطانة عبد الملك من قيس فطلبوا
له الأمان فآمنه فلما ثم تنسك الجحاف وصلح ومضى حاجاً فتعلق بأستار الكعبة وجعل
يقول : اللهم اغفر لي وما أظنك تفعل فسمعه محمد بن الحنفية فقال : يا شيخ قنوطك شر
من ذنبك .
ومن هنا نرجع إلى شرح الأبيات . فقوله : بكى دوبل هو اسم الأخطل . قال شارحه : كان
الأخطل يلقب به صغيراً . وبكاؤه لقوله : لقد أوقع الجحاف بالبشر وقعة . . . . . .
. . . . . . البيت وابن منادى . والقلس بفتح القاف : حبل ضخم من ليف أو خوص أراد
به زنار النصارى .
والجحاف بفتح الجيم وتشديد الحاء المهملة . وتحضه : تحثه . يقال : حضه على الأمر
أي : حمله عليه . والمكث : البطء . والورد بالكسر : الورود .
وذر قرن الشمس : طلعت . والكردوس بالضم : القطعة من الخيل العظيمة
____________________
والكراديس : الفرق )
منهم . يقال : كردس القائد خيله أي : جعلها كتيبة كتيبة . ويهديهن : يدلهن ويقودهن
. والورد : الأسد عنى به الجحاف .
وأتمت الحبلى فهي متم إذا تمت أيام حملها وولدت لتمام بفتح التاء وكسرها وولد
المولود لتمام كذلك . ومعجل : خلاف التمام .
والصبر : القتل أسراً . والبقير : المبقور وهو الذي شق بطنه . وتولول : تصوت وتصيح
.
وخلاس وعزهل : رجلان من قيس . والحليل : الزوج . وأبو مالك : كنية الأخطل .
والظعائن : جمع ظعينة وهي الهودج . والمغزل كجعفر قال شارحه : من الغزل وهو محادثة
النساء واللعب . وإنما هزئ به . يقول : قد شغلك ما صنعت عن التغزل . اه .
والردينيات : الرماح . والنهل : الشرب الأول . والعلل : الشرب الثاني . وعقاب
المنايا : الراية شبهها بالعقاب . واللجم : جمع لجام . وتصلصل : تصوت . وأراد بشعث
النواصي الخيل .
وأوحلوا بالبناء للفاعل أي : وقعوا في الوحل .
وقوله : فإن لا تعلق استهزاء في معرض النصيحة أي : إن لم تتعلق بذمة قريش فلا طاقة
لكم بسيوف قيس .
وقوله : لنا الفضل في الدنيا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن اللام تأتي
بمعنى من أي : ونحن أفضل منك . وشققت : قطعت . وعواتق : جمع عاتق وهو ما بين
المنكب والعنق .
والمحمل بكسر الميم الأولى : سيور السيف .
والمصراع الأخير تقديره : فمن أعلى وأفضل من بني مروان .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
____________________
وأنشد بعده الكامل بطل كأن
ثيابه في سرحة على أن في بمعنى على فيه لأنه معلوم أن ثيابه ليست في جوف سرحة وهي
الشجرة العالية وإنما هي على بدنه .
قال الشارح المحقق : والأولى أن تكون على بابها لأن ثيابه إذا كانت عليها فقد صار
السرحة موضعاً لها . )
وهذا المصراع صدر وعجزه : يحذى نعال السبت ليس بتوأم والبيت من معلقة عنترة العبسي
وقبله : ( ومشك سابغة هتكت فروجها ** بالسيف عن حامي الحقيقة معلم ) ( ربذ يداه
بالقداح إذا شتا ** هتاك غايات التجار ملوم ) ( بطل كأن ثيابه في سرحة ** يحذى
نعال السبت ليس بتوأم ) ( فطعنته بالرمح ثم علوته ** بمهند صافي الحدية مخذم
____________________
) ( لما رآني قد نزلت
أريده ** أبدى نواجذه لغير تبسم ) قوله : ومشك سابغة بكسر الميم وفتح الشين
المعجمة قال الأعلم في شرح الأشعار الستة : أراد رب مشك درع سابغة .
والمشك : التي شك بعضها في بعض . والمشك : مسامير الدروع . والسابغة : الكاملة .
وقال الخطيب التبريزي : مشك الدرع : حيث يجمع جيبها بسير . وكانت العرب تجعل سيراً
في جيب الدرع يجمع جيبها فإذا أراد أحد الفرار جذب السير فقطعه واتسع الجيب
فألقاها عنه وهو يركض . وقيل : الدرع التي شك بعضها إلى بعض . وقيل : المشك :
المسامير التي تكون في حلق الدرع . ومن جعل المشك الدرع يكون من إضافة الصفة إلى
الموصوف وتأويله عند البصريين : ومشك حديدة سابغة . وهتكت : جواب رب .
وكذلك على قول من جعله بمعنى السير والمسامير لأنهما من الدرع فيصير الإخبار عن
الدرع . وهتكت فروجها أي : شققتها وخرقتها . وفروجها : جيبها وكماها واحدها فرج
بفتح الفاء . وحامي الحقيقة أي : يحمي ما يحق عليه أن يحميه . والمعلم : اسم فاعل
من أعلم نفسه بعلامة وهو الذي شهر نفسه بعلامة إدلالاً بشجاعته وإعلاماً بمكانه .
وقال أبو جعفر : هو اسم مفعول وكذلك المسوم يقالان بالفتح . والسومة
____________________
بالضم : العلامة . وقال
الزوزني : المعلم بكسر اللام : الذي أعلم نفسه بعلامة يعرف بها في الحرب حتى تبرز
له الأبطال .
يقول : ورب مشك درع أي : رب موضع انتظام درع واسعة شققت أوساطه بالسيف عن رجل حام
لما يجب عليه حفظه شاهر نفسه في حومة الحرب أو مشار إليه فيها . يريد أنه هتك مثل
هذه الدرع على مثل هذا الشجاع فما الظن بغيره )
وقوله : ربذ يداه هو بالجر صفة لحامي الحقيقة . وكذا : هناك . والربذ بفتح الراء
المهملة وكسر الموحدة : السريع .
قال أبو جعفر والخطيب : لم يقل ربذة يداه لأن اليد مؤنثة ووجهه أن قوله : يداه بدل
من الضمير المستتر في ربذ العائد إلى حامي الحقيقة كما تقول : ضربت زيداً يده .
ومذهب الفراء في هذا أنه يجوز أن يذكر المؤنث في الشعر إذا لم يكن فيه علامة
التأنيث .
والقداح هي سهام الميسر جمع قدح بالكسر أي : هو حاذق بالقمار والميسر خفيف اليد
بضرب القداح . وهذا كان مدحاً عند العرب في الجاهلية .
وقوله : إذا شتا يريد أنه إذا اشتد الزمان وكان أشد الزمان عندهم زمن الشتاء وكان
لا ييسر فيه إلا أهل الجود والكرم .
وقوله : هناك غايات التجار هو جمع تجر وهو جمع تاجر كما يجمع صاحب على صحب وصحب
على صحاب . وأراد بهم تجار الخمر . والغايات : علامات تكون للخمارين .
يقول : فهو يهتك رايات تجار الخمر لأنه لا يترك شيئاً من الخمر إلا اشتراه وإذا
فني ما عندهم رفعوا علاماتهم .
وقيل المعنى : أنه يعطيهم ما يطلبون في السوم بها . والملوم : الذي يكثر اللوم
عليه في تبذير ماله .
____________________
وقوله : بطل كأن ثيابه . .
. . إلخ بطل بالجر صفة حامي الحقيقة ويجوز رفعه على تقدير : هو بطل وهو الشجاع
الذي تبطل عنده شجاعة غيره . والسِّرحة بفتح السين وسكون الراء المهملتين فحاء
مهملة : واحدة السِّرْح وهو الشجر العظيم العالي .
يريد أنه طويل القامة كامل الجسم فكأن ثيابه على شجرة عالية . والعرب تمدح بالطول
وتذم بالقصر .
قال أثال بن عبدة بن الطبيب : الطويل ( ولما التقى الصفان واختلف القنا ** نهالاً
وأسباب المنايا نهالها ) ( تبين لي أن القماءة ذلة ** وأن أعزاء الرجال طوالها )
يرد أن القنا وردت الدم ولم تثن وذلك أن الناهل الذي يشرب أول شربة فإذا شرب ثانية
فهو علل . وقوله : نهالها أي : أول ما يقع منها يكون سبباً لما بعده .
وقال بعض بني العنبر : الطويل )
وقال آخر : الطويل ( أشم طويل الساعدين كأنما ** تناط إلى جذع طويل حمائله
____________________
) ولسلم الخاسر : الطويل (
يقوم مع الرديني قائماً ** ويقصر عنه طول كل نجاد ) وقوله : يحذى نعال السبت يحذى
بالحاء المهملة والذال المعجمة على البناء للمفعول ونائب الفاعل ضمير البطل .
ونعال مفعول ثان له أي : تجعل له النعال السبتية حذاء بالكسر والمد .
في الصحاح : الحذاء : النعل . واحتذى : انتعل . وأحذيته نعلاً إذا أعطيته نعلاً .
والسبت بكسر السين المهملة وسكون الموحدة : الجلد المدبوغ بالقرظ ولم ينجرد من
شعره .
قال أبو حنيفة الدينوري في النبات : الجلد ما لم يدبغ فهو محرم وكذلك إذا دبغ فلم
يبالغ فيه الدباغ ففيه تحريم . والفطير مثله وهو الخام . وأجود ما يدبغ به الإهاب
بأرض العرب القرظ وهو يدبغ بورقه .
ويقال للذي يأخذه من شجره : القارظ والذي يبيعه : القراظ . فما كان منها من جلود
البقر خاصة فإن الأصمعي زعم أنه السِّبت . وما أبو عمرو فزعم أن كل جلد مدبوغ
سِبْتٌ بالقرظ أو بغيره .
وقد اختلف علينا في ذلك فروى ما حكيناه عن الأصمعي عن أبي عمرو وما ذكرناه عن أبي
عمرو عن الأصمعي . وقال أبو زياد : السبت : جلود البقر . قال : ولا تقول للجلد
سِبت حتى يصير حذاء فذاك حين تنسبه إلى السبت فتقول : نعل سبتٍ ونعال سِبت .
وأنشد قول عنترة : يحذى نعال السبت ليس بتوأم وقال أبو زيد : نعل سبت وهي من جلود
البقر خاصة وقال : السبت جلود
____________________
البقر خاصة مدبوغة ولا
يقال لغير جلود البقر سبت والجميع سبوت وأسبات . فأما ما كان من جلود الضأن خاصة
فهو السلف والواحدة سلفة وهي أضعف من الماعز وألين .
وقال أبو زياد : خيرها ما دب بالقرظ ثم الأرطى ثم السلم . وشرها ما دبغ بالآلاء .
وقال : الألاء شديد المرارة شديد الخضرة طيب الريح . انتهى ما أردنا منه .
وقول عنترة : يحذى نعال السِّبت يريد أنه من الملوك الذين يلبسون النعال السبتية
الرقيقة الطيبة )
الريح . وهم يتمدحون بجودة النعال كما يتمدحون بجودة الملابس .
قال النابغة : الطويل ( رقاق النعال طيب حجزاتهم ** يحيون بالريحان يوم السباسب )
أراد أنهم ملوك لا يخصفون نعالهم إنما يخصفها من يمشي . والحجزة : الوسط . أراد
أنهم يشدون أزرهم على عفة . والسباسب : يوم الشعانين . وأراد برقة النعال أن
نعالهم ليست بمطبقة .
وقال النجاشي : الطويل لا يأكل الكلب السروق نعالنا إنما يأكل الكلب الفطير من
النعال . وأما السِّبت فلا .
____________________
وقال كثير وذكر نعلاً :
الطويل ( إذا طرحت لا يطبي الكلب ريحها ** وإن طرحت في مجلس القوم شمت ) أي : هي
طيبة الريح ليست بفطير لأن النعل إذا كنت غير مدبوغة وظفر بها الكلب أكلها .
وقوله : ليس بتوأم يريد أنه لم يزاحمه أخ في بطن أمه فيكون ضعيف الخلقة .
والتوأم : الذي يكون مع آخر في بطن أمه . فنفى عنه ذلك ووصفه بكمال الخلق وتمام
الشدة والقوة .
يقول : هو بطل مديد القامة كأن ثيابه ألبست شجرة عظيم من طول قامته واستواء خلقه
ويتخذ النعال من جلود البقر المدبوغة ولم تحمله أمه مع غيره .
وقد بالغ في وصفه بالشدة والقوة بامتداد قامته وعظم أعضائه وتمام غذائه عند إرضاعه
إذ كان غير توأم .
وقوله : بمهند هو السيف الهندي . وقوله : صافي الحديدة أي : مجلو صقيل . والمخذم بكسر
الميم والمعجمتين : القاطع من خذمه أي : قطعه .
وقوله : لما رآني قد نزلت . . . إلخ النواجذ : آخر الأضراس . ومعنى أبدى نواجذه أي
: كلح غيظاً علي . ويقال : بل كلح كراهة للطعن . وقيل : المعنى لما رآني قاصداً له
كلح وكشر أسنانه فصار كأنه متبسم .
وقيل : المعنى لما قتلته تقلصت شفتاه عن أسنانه فصرت إذا نظرت إليه كأنه يتبسم .
يقول : لما )
نزلت عن فرسي أريد قتله كشر عن أسنانه غير متبسم . أي : لفرط كلوحه من كراهية
الموت تقلصت شفتاه عن أسنانه .
وقوله : عهدي به أي : مشاهدتي له وقد تخضب بدمه فكأنه قد خضب
____________________
بالعظم كزبرج وهو شجر يتخذ
منه الوسمة . يقال : إنه الكتم . وإنما شبه الدم به لم انعقد وضرب إلى السواد .
ويقال : عهدته أعهده عهداً إذا لقيته . قال الخطيب : عهدي به مبتدأ والخبر في
الاستقرار .
وقوله : مد النهار بدل من الاستقرار كما تقول : القتال اليوم وكما تقول : عهدي
قريباً أي : وقتاً قريباً . إلا أنه يجوز في هذا أن تقول قريب على أن تجعل القريب
العهد . ومد النهار : ارتفاعه .
وروى : شد النهار بمعناه . ويريد بالبنان الأصابع . وروى بدله : اللبان بفتح اللام
وهو الصدر . يقول : رأيته طول النهار وامتداده بعد قتلي إياه وجفوف الدم عليه كأن
بنانه أو سدره ورأسه مخضوب بهذا النبت .
وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( ويركب يوم الروع
فيها فوارس ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) على أنه قيل إن في بمعنى الباء أي :
بصيرون بطعن الأباهر . والأولى أن
____________________
تكون بمعناها أي : لهم
بصارة وحذق في هذا الشأن .
قال ابن عصفور في الضرائر : إنما عدي بصير بقي لأن قولك : هو بصير بكذا يرجع إلى
معنى والبيت من أبيات تسعة لزيد الخيل الطائي رواها أبو زيد في نوادره وأبو العباس
الأحول في شرح ديوان كعب بن زهير وأبو علي القالي في ذيل الأمالي وهي : الطويل (
أفي كل عام مأتم تبعثونه ** على محمر عود أثيب وما رضا ) ( تجدون خمشاً بعد خمش
كأنه ** على فاجع من خير قومكم نعا ) ( تحضض جباراً علي ورهطه ** وما صرمتي منهم
لأول من سعى ) ( ترعى بأذناب الشعاب ودونها ** رجال يردون الظلوم عن الهوى ) (
ويركب يوم الروع فيها فوارس ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) ( فلولا زهير أن
أكدر نعمة ** لقاذعت كعباً ما بقيت وما بقا ) ( قد انبعثت عرسي بليل تلومني ** وأقرب
بأحلام النساء من الردى ) ( تقول : أرى زيداً وقد كان مقتراً ** أراه لعمري قد
تمول واقتنى ) ( وذاك عطاء الله في كل غارة ** مشمرة يوماً إذا قلص الخصى ) وقوله
: أفي كل عام . . . إلخ استفهام توبيخي . والمأتم مهموز وهو الجماعة من النساء
يجتمعن لحزن أو فرح والمراد هنا الحزن ولهذا أعاد الضمير إليه من تبعثونه مذكراً .
____________________
وقال شراح أبيات الكتاب :
الضمير عائد على محذوف أي : أفي كل عام اجتماع مأتم فيكون ولهذا قال أبو زيد :
أراد : أفي كل عام حدوث مأتم فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه . اه .
وإنما قال كذا لئلا يقع ظرف الزمان خبراً عن الجثة . وتبعثونه : تهيجونه وتحركونه
. وروي بدله : تجمعونه .
والمحمر بكسر الميم الأولى وفتح الثانية وسكون الحاء المهملة بينهما قال أبو زيد :
هو الفرس )
الذي يشبه الحمار وهو أيضاً اللئيم من الرجال أراد هنا أنه فرس هجين أخلاقه كأخلاق
الحمير بطيء الحركة .
وعلى هنا تعليلية . والعود بفتح العين المهملة قال أبو زيد : هو المسن . وأثيب :
جعل لنا ثواباً .
والثواب : الجزاء .
وروى الجرمي : على محمر ثوبتموه وما رضا يقال : أثابه وثوبه أي : أعطاه الثواب .
ورضا بضم الراء بمعنى رضي فعل مجهول وهو لغة طيئ يكرهون مجيء الياء المتحركة بعد
الكسرة فيفتحون ما قبلها لتنقلب إلى الألف لخفتها .
يقولون في بقي : بقا وفي نعي : نعا كما هنا .
يقول : إنكم تجمعون نساء ليبكين على فقد هذا الفرس الذي جعلتموه جزاء لنا على جميل
فعلناه بكم والحال أننا لم نرض بهذا الفرس الذي يشبه الحمار .
وقوله : تجدون خمشاً . . . إلخ يقال : أجد فلان الشيء واستجده إذا أحدثه فتجدد .
والخمش : مصدر خمشت المرأة وجهها بظفرها من باب ضرب
____________________
أي : جرحت ظاهر البشرة .
وفاجع : الذي فجعهم بنفسه . يقال : فجعته المصيبة أي : أوجعته .
وروى بدله : على سيد . ونعا أصله نعي يقال : نعيت الميت نعياً من باب نفع إذا
أخبرت بموته . يقول : إنكم تخمشون وجوهكم مرة بعد مرة على هذا البرذون كأنكم فقدتم
خير قومكم .
وقوله : تحضض جباراً . . . إلخ هذا خطاب لكعب بن زهير . قال الجواليقي في شرح أدب
الكاتب : يقال حضضت الرجل إذا حثثته على الخير والشر جميعاً وحضضته بالتخفيف إذا
حثثته على الخير . وحثثته : إذا حرضته على سوق أو سير . ولا يكون الحض في السير
والسوق .
وجبار بفتح الجيم والموحدة المشددة : اسم رجل . وقال أبو العباس الأحول : هو رجل
من فزارة . والصرمة يكسر الصاد المهملة : القطعة من الإبل ما بين الثلاثين إلى
الأربعين .
والهط : النفر وهم مادون العشرة من الرجال . يقول : تغري هذا الرجل ليغير على إبلي
وليست وقوله : ترعى بأذناب . . . إلخ أصله تترعى بتاءين فهو مضارع . وقال
الجواليقي : أي : ترعي يريد أنه مبالغة ترعى بالتخفيف . والأذناب : جمع ذنب
بفتحتين . وروى بدله : بأطراف . )
قال الجواليقي : والشعاب : جمع شعب وهو الموضع المنفرج بين جبلين وهو جمع نادر
كقدح وقداح . ودونها أي : دون هذه الصرمة رجال يردون الظالم عن هواه .
وقوله : ويركب يوم الروع بفتح الراء هو الفزع . وفيها أي : من أجل الصرمة . قال
الأحول : الأباهر والكلى مقتلان والأبهر : عرق في المتن . وقال الجواليقي : أي هم
بصراء عالمون بمواضع الطعن . والأباهر : جمع أبهر وهو عرق مستبطن الصلب .
____________________
والكلى : جمع كلية .
وللإنسان والحيوان كليتان وهما لحمتان حمراوان منتبرتان لازقتان بعظم الصلب . اه .
وكذا قال ابن السيد . وصفهم بالحذق في الطعن فهم يتعمدون المقاتل . والأبهر : عرق
مستبطن المتن متصل بالقلب .
وقوله : فلولا زهير أن أكدر نعمة . . . . إلخ هذا البيت في رواية الأحول وفي رواية
القالي آخر الأبيات . والملاصق لقوله : ويركب يوم الروع عندهما .
تقول : أرى زيداً البيت . وليس عندهما قد انبعثت عرسي بليل تلومني البيت .
وهذا هو المناسب لسياق الكلام . وبيت : قد انبعثت عرسي إنما هو من شعر كعب كما
سيأتي لكن كتبنا الأبيات كما وجدناها ثابتة في نسختين صحيحتين من نوادر أبي زيد .
وقوله : فلولا زهير وهو والد كعب . وقوله : أن أكدر نعمة هو بدل اشتمال من زهير
بتقدير الرابط والتقدير : فلولا تكدير نعمة لزهير .
وقوله : لقاذعت جواب لولا . والقذع بالذال المعجمة : الفحش والخنى . يقال : قذعته
إذا رميته بالفحش وشتمته .
وقوله : قد انبعثت عرسي . . . إلخ هذا البيت أول أبيات كعب بن زهير الآتية ولا
مناسبة له هنا .
والمصراع الأول في رواية الأحول : ألا بكرت عرسي توائم من لحا قال الأحول : توائم
: تعارض وتفعل ما يفعلون . وأصل المواءمة المباراة في الطعام .
____________________
وقوله : وأقرب بأحلام . .
. إلخ هو صيغة تعجب . والأحلام : العقول . قال الأحول : هو من مثل تضربه العرب لب
النساء إلى حمق . )
وقوله : تقول أرى زيداً . . . . إلخ هذا خطاب لكعب لا حكاية قول عرسه وإن كان
ظاهراً .
وروى بدله : مصرماً من أصرم الرجل إذا صار ذا صرمة . وتمول : صار ذا مال . والمال
عند العرب : الإبل والماشية .
واقتنى هو من قنيت الشيء إذا اتخذته لنفسك لا للتجارة . ويروى بدله : وافتلى أي :
صار ذا فلو وهو المهر . والفلو كفعول ويقال : فلو بكسر الفاء وسكون اللام . ويقال
: افتلى بمعنى ربى أيضاً وبمعنى فطم الصغير عن اللبن .
وقوله : وذاك عطاء الله . . . إلخ الإشارة للتمول والاقتناء . والغارة : الغزاة .
ومشمرة من شمر إزاره تشميراً إذا رفعه . ويروى : قلص الخصى بتخفيف اللام وتشديدها
بمعنى انضمت وانزوت . وتقلص الخصى يكون عند الرعب والفزع .
وسبب هذه الأبيات ما رواه القالي في ذيل الأمالي قال : حدثنا أبو بكر قال : أخبرنا
أبو حاتم عن أبي عبيدة عن أبي عمرو بن العلاء قال : خرج بجير بن زهير بن أبي سلمى
في غلمة يجتنون جنى الأرض فانطلق الغلمة وتركوا ابن زهير فمر به زيد الخيل الطائي
فأخذه ودار طيئ متاحمة لدور بني عبد الله بن غطفان فسأل الغلام : من أنت فقال :
أنا بجير بن زهير .
فحمله على ناقة ثم أرسل به إلى أبيه فلما أتى الغلام أخبره أن زيداً أخذه ثم خلاه
وحمله وكان لكعب بن زهير فرس من جياد خيل العرب وكان كعب جسيماً وكان زيد الخيل من
أعظم الناس وأجسمهم وكان لا يركب دابة إلا أصابت إبهامه الأرض فقال زهير : ما أدري
ما أثيب به زيداً إلا فرس كعب . فأرسل به إليه وكعب غائب فجاء كعب فسأل عن الفرس
فقيل له : قد أرسل به أبوك إلى زيد .
____________________
فقال كعب لأبيه : كأنك
أردت أن تقوي زيداً على قتال غطفان . فقال زهير له : هذه إبلي فخذ ثمن فرسك .
وكان بين بني زهير وبين بني ملقط الطائيين إخاء وكان عمرو بن ملقط وفاداً إلى
الملوك وهو الذي أصاب بني تميم مع عمرو بن هند يوم أوارة فقال كعب شعراً يريد أن
يلقي به بين بني ملقط وبين رهط زيد الخيل شراً فعرف زهير حين سمع الشعر ما أراد به
وعرف ذلك زيد الخيل وبنو ملقط فأرسلت إليه بنو ملقط بفرس نحو فرسه . )
وكانت عند كعب امرأة من غطفان لها حسب فقلت له : أما استحيت من أبيك لشرفه وسنه أن
تؤبسه في هبته عن أخيك ولامته . وكان قد نزل بكعب قبل ذلك ضيفان فنحر لهم بكراً
كان لامرأته فقال : ما تلوميني إلا لمكان بكرك الذي نحرت فلك به بكران . وكان زهير
كثير المال وكان كعب مجدوداً . ( ألا بكرت عرسي بليل تلومني ** وأقرب بأحلام
النساء إلى الردى ) وذكر فيها زيداً فقال زهير لابنه : هجوت رجلاً غير مفحم وإنه
لخليق أن يظهر عليك .
فأجابه زيد فقال : أفي كل عام مأتم تجمعونه إلى آخر الأبيات اه .
وهذه أبيات كعب من ديوانه برواية أبي العباس الأحول : (
____________________
ألا بكرت عرسي توائم من
لحا ** وأقرب بأحلام النساء من الردى ) وتقدم شرحه . ( أمن أجل بكر قطعتني ملامة
** لعمري لقد كانت ملامتها ثنى ) البكر بالفتح : الفتي من الإبل . قال الأحول :
أمن أجل بكر نحرته وأطعمته أصحابي بكرت علي باللوم مع من يلوم . وقوله : ثنى بفتح
النون بعدها مثلثة أي : مرة بعد مرة . ( ألا لا تلومي ويب غيرك عارياً ** رأى ثوبه
يوماً من الدهر فاكتسى ) يقول : لا تلومي في أن نحرت بكراً وكسوت رجلاً عارياً
فاكتسى . وويب : يذهب به مذهب ويح . ( وقيل رجال لا يبالون شأننا ** غوى أمر كعب
ما أراد وما ارتأى ) قال الأحول : يقول لولا قول رجال لا يبالون ما ذكروا من أمري
وأمرك ويثنون علي وعليك أمراً لم أرتئه ولم أفعله . ( لقد سكنت بيني وبينك حقبة **
بأطلائها العين الملمعة الشوى ) قال الأحول : ويروى : لقد رتعت بيني وبينك .
والعين : الوحش .
قال الأحول : ويروى : لقد رتعت بيني وبينك . والعين : الوحش .
____________________
والشوى : القوائم . يقول :
يكون بيني وبينك تفرق دهر لا نجتمع على بعد منزل وتنائي محل هذه صفته تسكنه الوحش
. )
والمعنى : لفارقتك مفارقة لا نجتمع معها . ( فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** بني
ملقط عني إذا قيل : من عنى ) ( فلما خلتكم يا قوم كنتم أذلة ** وما خلتكم كنتم
لمختلس جنى ) ( لقد كنتم بالسهل والحزن حية ** إذا نهشت لم يشف نهشتها الرقى ) (
وإن تغضبوا أو تدركوا لي بذمة ** لعمركم أو مثل سعيكم كفى ) ( لقد نال زيد الخيل
مال أخيكم ** فأصبح زيد قد تمول واقتنى ) ( وإن الكميت عند زيد ذمامة ** وما
بالكميت من خفاء لمن رأى ) قال أبو عمرو : إذا أتى ما لا يشتهي صاحبه فقد أذم به .
وقال غيره : يقول : إن فرسي ذمام عند زيد وما به خفاء لمن رآه . ( يبين لأفيال
الرجال ومثله ** يبين إذا ما قيد بالخيل أو جرى ) أفيال الرجال : الذين لا رأي لهم
ولا فهم .
يقول : إذا رآه الذي لا علم له بالخيل ولا بصر يقاد أو يجري علم كرمه وعتقه ولم
يحتج إلى أن يسأل عن نسبه . ثم وصفه ببيتين آخرين .
قال أبو العباس الأحول : وإنما قال كعب هذه الأبيات وأجابه زيد الخيل وذلك أن بجير
بن زهير والحطيئة ورجلاً من بني بدر خرجوا يقتنصون الوحش ولا سلاح معهم ومع زيد
الخيل عدة من أصحابه فقال : استأسروا فقالوا : لا غلا على الطاقة . فأخذهم .
فأما الحطيئة فخلى سبيله لخبث لسانه وفقره وأنه لم يكن عنده ما يفدي به نفسه .
____________________
وأما بجير ففدى نفسه بفرس
كان يقال له : الكميت . وأما أخو بني بدر فافتدى نفسه بمائة من الإبل .
فقال كعب بن زهير وبلغه حديث القوم وكان نازلاً في بني ملقط من طيئ فقال يحرضهم
على زيد الخيل ليأخذ الكميت .
وزعم أن الكميت كان له دون بجير فقال في ذلك قصيدة : ألا بكرت عرسي وأجابه زيد
الخيل : أفي كل عام مأتم فزعموا أن زهيراً قال لكعب : هجوت امرأ غير مفحم وإنه
لخليق أن يظهر عليك .
ثم نقل أبو العباس أربعة أبيات للحطيئة مدح بها زيد الخيل . والله أعلم أي ذلك قد
كان . )
وزيد الخيل وكعب صحابيان تقدمت ترجمتهما .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد السبعمائة ) الطويل ( نحابي بها أكفاءنا
ونهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر ) على أن في قيل : إنها بمعنى الباء في البيت
أي : ونشرب بأثمانها . والأولى أيضاً أن تكون على معناها بجعل أثمانها ظرفاً
للشراب والقمار مجازاً .
والبيت آخر أبيات أربعة لسبرة بن عمرو الفقعسي أوردها أبو تمام في الحماسة .
____________________
وهي : ( أتنسى دفاعي عنك
إذ أنت مسلم ** وقد سال من نصر عليك قراقر ) ( أعيرتنا ألبانها ولحومها ** وذلك
عار يا ابن ريطة ظاهر ) تحابي بها أكفاءنا . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت قوله : أتنسى دفاعي . . . إلخ استفهام توبيخي يخاطب ضمرة بن ضمرة النهشلي .
وإذ : ظرف لدفاعي أي : لم تنس مدافعتي عنك حين كنت مخذولاً لا ناصر معك .
ومسلم : اسم مفعول من أسلمته بمعنى خذلته وهو أن تخلي بينه وبين من يريد النكاية
فيه .
قوله : وقد سال من نصر . . . إلخ رواه شراح الحماسة : وقد سال من ذل قال المرزوقي
وغيره : قُراقر بضم القاف الأولى : اسم واد ويكون ذكره مثلاً .
ومن كلامهم : سال عليه الذل كما يسيل السيل . ولا يمتنع أن يكون لحقه ما لحقه من
الذل من ناحية قراقر فلذلك خصه والجملة حال . انتهى .
وأول من حرفه أول شارح للحماسة وهو أبو عبد الله النمري قال : يقول : سال هذا
الوادي عليك فلم تستطع الانتقال عنه ذلاً وضعفاً .
ورد عليه أبو محمد الأسود الأعرابي فيما كتبه على شرح النمري وقال : الصواب : وقد
سال من نصر يعني نصر بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة .
____________________
يقول : دافعتهم عنك حين
سال الوادي بهم عليك . كما قال الآخر : الطويل يعني : أنهم أسالوه بالرجال . ولبيت
سبرة قصة طويلة الذيل ذكرتها في كتاب السلة والسرقة .
انتهى . )
أقول : قد ذكرها في ضالة الأديب أيضاً ونحن نذكرها . إن شاء الله بعد الأبيات .
وقوله : ونسوتكم في الروع . . . إلخ هذه الجملة معطوفة على جملة الحال السابقة .
قال المرزوقي : وصف الحال التي مني بها حين نصره مخاطبه . والمراد : ونساؤكم تشبهن
بالإماء مخافة السبي حتى تبرجن وبرزن مكشوفات ناسيات للحياء وإن كن حرائر .
وإنما قال هذا لأنهم كانوا يقصدون بسبي من يسبون من النساء إلحاق العار لا اغتنام
الفداء والمال . ولما كان الأمر على هذا فالحرة كانت في مثل ذلك الوقت تتشبه
بالأمة لكي يزهد في سبيها . ومعنى والإماء حرائر : واللاتي يحسبن إماء حرائر .
ولو قال : يخلن إماء وهن حرائر لكان مأخذ الكلام أقرب لكنه عدل إلى : والإماء
حرائر ليكون الذكر أفخم .
وقوله : أعيرتنا ألبانها . . . . إلخ استفهام للإنكار والتقريع أي : لم عيرتنا
ألبان الإبل ولحومها واقتناء الإبل مباح والانتفاع بلحمها وألبانها جائز ديناً
وعقلاً .
____________________
وقوله : وذلك عار ظاهر أي
: زائل . ( وعيرها الواشون أني أحبها ** وتلك شكاة ظاهر عنك عارها ) ويقال : عيرته
كذا وهو الأفصح وعيرته بكذا .
قال عدي : أيها الشامت المعير بالدهر والواو للحال أي : أتعيرنا ذلك والحال ذلك .
وقوله : نحابي بها . . . إلخ قال المرزوقي : بين وجوه تصرفهم فيما عيرهم به فقال :
نجعلها حباء لنظرائنا فنتهادى بها ونسهل تمكن الزوار والعفاة منها بابتذالها
وإهانتها وحذف ذكر من أهينت له لأن المراد مفهوم ونبيعها فنصرف أثمانها إلى الخمر
والإنفاق ونضرب بالقداح عليها في الميسر عند اشتداد الزمان فنفرقها في الضعفاء
والمحتاجين .
وفي تعداد هذه الوجوه إبطال لكل ما أوهم أن يلحق من العار في اقتنائها وادخارها .
انتهى .
____________________
قال ابن الشجري في أماليه
: حابى : بارى يقال : حابيت فلاناً أي : باريته في الحباء مثل باهيته في العطاء
كما يقال : كارمته أي : باريته في الكرم .
فقوله : تحابي بها أكفاءنا لا يكون إلا بمعنى نباريهم في الحباء . وقد ورد أحابي
في شعر زهير ) ( أحابي به ميتاً بنخل وأبتغي ** إخاءك بالقيل الذي أنا قائل )
قالوا : أراد أحابي بهذا الشعر ميتاً بنخل يعني بالميت أبا الممدوح أي : أخصه به .
ونخل : أرض بها قبره .
وذهب ابن جني في قول المتنبي : الطويل ( وإن الذي حابى جديلة طيئ ** به الله يعطي
من يشاء ويمنع ) إلى أن حابى بمعنى حبا مأخوذ من الحباء وهو العطية واسم الله
مرتفع به أي : إن الذي حبا الله به جديلة يعطي فالجملة التي هي يعطي وفاعله خبر إن
. وخولف في هذا القول : على أن عليه أكثر مفسري شعر المتنبي .
والذي رد عليه قال : إن حابيته بكذا بمعنى حبوته به ليس بمعروف . فعلى هذا القول
يكون فاعل حبا مضمراً فيه يعود على الذي واسم الله مرفوعاً بالابتداء وخبره الجملة
التي هي يعطي وفاعله ومفعوله .
أي : إن الذي بارى جديلة في الحباء الله يعطي به من يشاء . ومفعول بمنع محذوف دل
عليه مفعول يعطي ومفعول يشاء المذكور ويشاء المحذوف محذوفان .
فالتقدير : يعطي الله به من يشاء أن يعطيه . ويمنع به من يشاء أن يمنعه . على أن
المضمرين في والمعنى أنه ملك قد فوض الله إليه أمر الخلق في الإعطاء والمنع .
فالمدح على هذا
____________________
يتوجه إليه وإلى عشيرته :
لأن المباراة في العطاء أنهم يعطون فيعطي مباهياً لهم بعطائهم .
والمعنى في قول ابن جني أن الذي حبا الله به جديلة بأن جعله منهم يعطي من يشاء
إعطاءه ويمنع من يشاء منعه لأنه يعطي تكرماً لا قهراً ويمنع عزة لا بخلاً .
وأقول : إن أصل فاعلته أن يكون من اثنين فصاعداً وإن فاعله مفعول في المعنى
ومفعوله فاعل في المعنى كخاصمته وسابقته . ولم يأت من واحد إلا في أحرف نوادر
كطارقت النعل وعاقبت اللص وعافاك الله وقاتلهم الله .
فابن جني ذهب بقولهم : حابيت زيداً مذهب هذه الألفاظ الخارجة عن القياس . وقد جاء
حابى بمعنى حبا في قول أشجع بن عمرو السلمي يمدح جعفر بن يحيى البرمكي حين ولاه
الرشيد خراسان : السريع ( إن خراسان وإن أصبحت ** ترفع من ذي الهمة الشانا ) ) (
لم يحب هارون بها جعفراً ** لكنه حابى خراسانا ) أي : لم يحب جعفراً بخراسان ولكن
حبا خراسان بجعفر . فهذا يعضد قول ابن جني .
وهذه قصة سبرة الفقعسي مع ضمرة بن ضمرة من ضالة الأديب لأبي محمد الأعرابي قال :
إن ضمرة بن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل وكان جاراً لنوفل بن جابر بن شجنة بن حبيب
بن مالك بن نصر وأم نوفل عاتكة بنت الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن
قعين .
وكان ضمرة كثير المقامرة فنحر نوفل جزوراً فدعا الحي فأكلوا فدعا ضمرة
____________________
فقال : يا معشر بني قعين
هذا جاركم وأنا منه خلو . ثم إن ضمرة قامر فقمر ماله كله وانتجعت أسد نحو أرض بني
تميم وهم مقحمون مضعفون فأرسل ضمرة إلى من يليهم من بني تميم أن ميلوا عليهم فإنهم
لأول من أتاهم .
فأتى بني نصر الخبر فانصرفوا وأتمروا بضمرة أن يأكلوه حين ينزلون فأمر نسوته سراً
أن يتأخرن ويلحقن بظعن بني فقعس وسار هو في سلف بني نصر وقد علم أنهم آكلوه إذا
نزلوا فلما نزلوا ركض نحو بني فقعس فقال : أنا جار لكم : فقالوا : إنك لست بجار
ولك أمان العائذ الغادر ومنعوه من بني نصر وإذا ماله في بني نصر قد أحرزوه .
فلما جاءت ظعن بني فقعس إذا نسوته فيهن فعدل له بنو فقعس خمسين شائلة ونحروا
الجزور وكان فيهم زماناً ثم لحق بقومه .
فنافر معبد بن نضلة بن الأشتر بن حجوان خالد بن وهب الصيداوي وجمعهما وضمرة مجلس
النعمان فأرسل ضمرة إلى خالد : نافره واجعلني الكفيل وهو بيني وبينك نصفين فإنه لا
يخافني واجعلهما مائة في مائة في خفرة النعمان واجعل بينكما بها رهناً فإنه لا بد
من أدائها إذا كنت أنا الكفيل .
فلما راحوا إلى النعمان سب خالد معبداً فقال : أتسابني ولم تنافرني . قال : أنافرك
. قال : ما بدا لك . قال خالد : إني أجعل الكفيل من شئت وإن شئت ولي نعمتكم هذا .
قال معبد : فإني قد فعلت . واعتقد عليه بما أمره به ضمرة ثم تغاديا على ضمرة فقال
ضمرة : والله إن بني طريف لمن أكرم الناس وما رأينا قط أكرم من خالد .
فنفره على معبد في مجلسه فحبس قيس بن معبد عند النعمان رهينة بمائة من الإبل فقال
معبد لبني جابر بن شجنة : اكفلوني يا بني عمي فإني لم يشني غدر
____________________
ضمرة ولا كذبه . قال بنو )
جابر : ترى بني فقعس مقرين بهذا قال : نعم يرون أنها خيانة ولا تضرهم .
فكفل بنو جابر الإبل فلما أتى معبد بني فقعس قال بنو دثار وبنو نوفل بن فقعس :
والله ما نرضى بهذا أبداً ما بقي منا إنسان . فنهضت بنو فقعس إلى النعمان فوجدوا
عنده ضمرة فقال سبرة بن عمرو بن الحارث بن دثار ابن فقعس بن طريف : الرجز ( إني
لمن أنكر وجهي سبرة ** الرجل الأشم فيه الزعره ) كالميسم الحامي عليه الغبره ( والله
ما نعقل منها بكره ** أو يأمر النعمان فيها أمره ) فأمرهم النعمان أن يقاضوا إلى
العزى : صنم كان بنخلة . فعندها قال سبرة : الطويل ( أضمر بن ضمر أبلق الاست
والقفا ** وهل مثلنا في مثلها لك غافر ) ( أتنسى دفاعي عنك إذ أنت مسلم ** وإذ سال
من نصر عليك قراقر ) ( ونسوتكم في الروع باد وجوهها ** يخلن إماء والإماء حرائر )
( يسلخن بالليل الشوي بأذرع ** كأيدي السباع والرؤوس حواسر ) ( وعيرتنا ألبانها
ولحومها ** وذلك عار يا بن ريطة ظاهر ) ( وإنا لتغشانا حقوق ولم تكن ** تقربنا
للمخزيات الأباعر ) ( نحابي بها أكفاءنا ونهينها ** ونشرب في أثمانها ونقامر ) (
وتكسبها في غير غدر أكفنا ** إذا عقدت يوم الحفاظ الدوابر ) ( وإنا لنقري الضيف في
ليلة الشتا ** عظيم الجفان فوقهن الحوائر ) جمع الحوير وهو الشحم الأبيض . وبعد
هذا ثلاثة أبيات أخر .
ثم أورد لسبرة الفقعسي أشعاراً كثيرة يخاطب بها ضمرة ويهجوه بها .
____________________
وفي سياقه هذا نقص فإنه لم
يذكر فيه وجه تعييره بالإبل ولا إلى أي شيء تم حالهما . والله وسبرة : شاعر جاهلي
. وذكر نسبه فيما سقناه .
وترجمة ضمرة تقدمت في الشاهد الثامن والثمانين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد السبعمائة ) الخفيف ما بكاء الكبير
بالأطلال على أن الباء فيه للظرفية أي : في الأطلال .
وهذا صدر وعجزه : وسؤالي وما يرد سؤالي وهذا مطلع قصيدة للأعشى ميمون مدح بها
الأسود بن المنذر اللخمي أخا النعمان بن المنذر وسيأتي بعض منها في رب .
وبعده : الخفيف ( دمنة قفرة تعاورها الصي ** يف بريحين من صباً وشمال
____________________
) أراد بالكبير نفسه
وعذلها بالوقوف على الأطلال وسؤاله إياها ثم رجع وقال : وما ترد سؤالي يقول : ما
بكاء شيخ كبير مثلي في طلل . والطلل : ما شخص من بقايا المنزل .
والدمنة : ما اجتمع من التراب والأبعار وغير ذلك . فتعاوره الصيف بريحين مختلفين
وهما الصبا ومهبها من ناحية المشرق والشمال ومهبها من القطب الشمالي إلى الجنوب .
والجنوب من رياح اليمن .
قال أبو علي في كتاب الشعر : اعلم أن قوله : سؤالي بعد قوله : ما بكاء الكبير حمل
للكلام على المعنى وذلك أن الكبير لما كان المتكلم في المعنى حمل سؤالي عليه .
ألا ترى أن ما بكاء الكبير إنما هو ما بكائي وأنا كبير وبكاء الكبير بالأطلال مما
لا يليق به لأنه اهتياج لصباً أو تصاب وذلك مما لا يليق بالكبير . ومن ثم قال
الآخر : الطويل ( أتجزع إن دار تحمل أهلها ** وأنت امرؤ قد حملتك العشائر ) فحمل
سؤالي على المعنى . فأما قوله : وما يريد سؤالي دمنة قفرة فإن ما تحتمل ضربين :
أحدهما : أن تكون استفهاماً في موضع نصب كأنه قال : أي شيء يرجع عليك سؤالك من
النفع وقد يقول : عاد علي نفع من كذا ورد علي كذا نفعاً ورجع علي منه نفع .
ويكون دمنة منتصباً بالمصدر الذي هو سؤالي . والبيت على هذا مضمن .
والآخر : أن يكون نفياً كأنه قال : ما يرد سؤالي أي : جواب سؤالي دمنة فالدمنة
فاعل قوله : )
ترد .
____________________
ومثل هذا قوله : وقمنا
فسلمنا فردت تحية إنما هو جواب تحية . وكذلك قوله سبحانه : فحيوا بأحسن منها أو
ردوها أي : ردوا جوابها .
وقد قيل في قوله : فردت تحية قولان : أحدهما : ردت التحية أي : لم تقبلها . والآخر
: ردت تحية أي : جوابها كما تقدم . وذلك لما رأينا في وجهها من البشاشة وإن لم
تتكلم . فالتقدير : وما يرد جواب سؤالي دمنة .
والبيت على هذا مضمن أيضاً لأن الفاعل الذي هو دمنة فعله في البيت الذي هو قبل
البيت الثاني . فيجوز أن يقول : وما ترد فيؤنث على لفظ الدمنة ويذكر على المعنى .
انتهى .
وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب : وسؤالي فهل ترد سؤالي ويروى : فما
ترد ولا ترد .
ويروى : بالتاء والياء . فمن روى فهل ترد على لفظ التأنيث رفع الدمنة وجعلها
فاعلاً وجعل ومن روى : فهل يرد بلفظ التذكير نصب دمنة مفعولاً وجعل سؤالي فاعلاً
ومعناه : إن سؤالي لا يرد الدمنة إلى ما كانت عليه . ومن روى : وما واعتقد أنها
نفي جاز أن يقول ترد بلفظ التأنيث ويرفع الدمنة لا غير وجاز أن يقول : يرد بلفظ
التذكير وينصب الدمنة إن شاء ويرفعها إن شاء . ون اعتقد أن ما استفهام قال : يرد
على لفظ التذكير وجعل ما في موضع نصب بيرد وسؤالي في موضع رفع ونصب دمنة بسؤالي لا
غير .
____________________
ومن روى : ولا يرد سؤالي
على لفظ التذكير نصب الدمنة وإن شاء رفعها . ومن روى : ولا ترد على لفظ التأنيث
رفع الدمنة لا غير .
ثم قال ابن السيد : ورويت في هذا البيت حكاية مستظرفة رأيت إثباتها في هذا الموضع
.
روى نقله الأخبار أن طليحة الأسدي كان شريفاً وكان يفد على كسرى فيكرمه ويدني
مجلسه .
قال طليحة : فوفدت عليه مرة فوافقت عيداً من أعياد الفرس فحضرت عند كسرى في جملة
من حضر من أصحابه فلما طعمنا وضع الشراب فطفقنا نشرب فغنى المغني : البسيط )
لا يتأرى لما في القدر يطلبه فقال كسرى لترجمانه : ما يقول ففسره له فقال كسرى :
هذا قبيح . ثم غناه المغني : الوافر
____________________
فقال كسرى لترجمانه : ما
يقول فقال : لا أدري . فقال بعض جلسائه : شاهانشاه أشتراف أف معناه : يا ملك
الملوك هذا جمل ينفخ . واشتر بلغتهم : الجمل وأف : حكاية النفخ .
قال طليحة : فأضحكني تفسيره العربية بالفارسية . قال : ثم غناه المغني بشعر فارسي
لم أفهمه فطرب كسرى وملئت له كأس وقام فشربها قائماً ودارت الكأس على جميع الجلساء
.
قال طليحة : وكان الترجمان إلى جانبي فقلت له : ما هذا الشعر الذي أطرب الملك هذا
الطرب فقال : خرج يوماً متنزهاً فلقي غلاماً حسن الصورة وفي يمينه ورد فاستحسنه
وأمر أن يصنع له فيه شعر فإذا غناه المغني ذلك الشعر طرب وفعل ما رأيت .
فقلت : ما في هذا مما يطرب حتى يبلغ فيه هذا المبلغ فسأل كسرى الترجمان عما حاورني
فيه فأخبره فقال : قل له : إذا كان هذا لا يطرب فما الذي يطربك أنت فأدى إلي
الترجمان قوله فقلت : قول الأعشى : ما بكاء الكبير بالأطلال البيت فأخبره الترجمان
بذلك فقال كسرى : وما معنى هذا فقلت : هذا شيخ مر بمنزل محبوبته فوجده خالياً قد
عفا وتغير وجعل يبكي . فضحك كسرى وقال : وما الذي يطربك من شيخ واقف في خربة وهو
يبكي أوليس الذي أطربنا نحن أولى بأن يطرب له قال طليحة : فثقل عليه جانبي بعد ذلك
.
وقوله : لات هنا ذكري جبيرة بضم الجيم : اسم امرأة وهو من شواهد النحويين وتقدم
توجيهه في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائتين .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
الثامن والثمانون بعد السبعمائة ) الكامل غلب تشذر بالدخول وهو قطعة من بيت وهو :
( غلب تشذر بالدخول كأنها ** جن البدي رواسياً أقدامها ) على أن الباء فيه للسبية
.
قال الزوزني في شرح معلقة لبيد : يقول : هم رجال غلاظ الأعناق كالأسود أي : خلقوا
خلقه الأسود ويهدد بعضهم بعضاً بسبب الأحقاد التي بينهم .
ثم شبههم بجن هذا الموضع في ثباتهم في الخصام والجدال . يمدح خصومه وكلما كان
الخصم أقوى وأشد كان غالبه أقوى وأشد .
والبيت من معلقة لبيد الصحابي وقبله : ( وكثيرة غرباؤها مجهولة ** ترجى نوافلها
ويخشى ذامها ) وبعده : ( أنكرت باطلها وبؤت بحقها ** عندي ولم يفخر علي كرامها )
قوله : وكثيرة الواو واو رب وجوابها : أنكرت باطلها قال ابن
____________________
السيد في شرح أدب الكاتب :
يريد قبة ملك فيها قوم غرباء من كل قبيلة فاخروه بين يدي الملك فغلبهم وظهر عليهم
.
وقوله : مجهولة أراد مجهول من فيها ولم يرد أن القبة نفسها مجهولة . والنافلة :
الفضل . والذم : العيب والعار .
يريد أن من حضرها يرجو أن يكون له الظهور والشرف ويرهب أن يغلب ويظهر عليه فيكون
ذلك عاراً يبقى في عقبه فهو لذلك يذب عن نفسه ولا يدع غاية من المفاخرة إلا قصدها
.
وشبههم بجمال غلب تشذر بأذنابها إذا تصاولت وهاجت . يقال : تشذر البعير بذنبه إذا
استنفر به وتشذر الرجل بثوبه عند القتال إذا تحزم وتهيأ للحرب . والغلب : الغلاظ
الأعناق الواحد أغلب . والبدي : واد تسكنه الجن فيما يزعمون .
والرواسي : الثابتة التي لا تبرح والأصل : مجهولة غرباؤها فحذف المضاف وأقام
الضمير )
المضاف إليه مقامه فاستتر في الصفة . انتهى .
وما ذهب إليها من أن المراد بكثيرة قبة الملك هو الراجح الصحيح وهو قول الزوزني
قال : المعنى رب قبة أو دار كثرت غرباؤها وغاشيتها وجهلت لا يعرف بعض الغرباء بعضا
. افتخر بالمناظرة التي جرت بينه وبين الربيع بن زياد في مجلس النعمان بن الأسود
ملك العرب ولها قصة طويلة .
أقول : قد ذكرتها أنا في ترجمة النعمان بن المنذر في الشاهد الخامس والخمسين بعد
المائة وستأتي في رب أيضاً .
____________________
وكذا ذهب إلى هذا أبو
الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد قال : يعني قبة كانت تضرب على باب الملك يقعد فيها
الناس حتى يؤذن لهم . ونوافلها : فضول من شرف وجوائز ومنازل . يخشى سقاط من كلام
أو فعل يلحقه منه ذام أي : عيب . أو أنهم يرجعون بغير جائزة فيكون ذلك عيباً عليهم
.
أحدها : أن المعنى وجماعة كثيرة غرباؤها . وإليه ذهب الجواليقي في شرح أدب الكاتب
قال : أي : رب جماعة كثيرة غرباؤها . ثم حذف الموصوف وأقام الصفة مقامه . هذا أصح
ما قيل فيه .
ثانيها : أن المعنى رب خطة وشأن قد جهل القضاء فيها وجهلت جهاتها .
ثالثها : أن المعنى رب حرب كثيرة غرباؤها لأن الحرب مؤنثة . وجعلها كثيرة الغرباء
لما يحضرها من ألفاف الناس وغيرهم . وجعلها مجهولة لأن العالم بها والجاهل يجهلان
عاقبتها .
وقوله : ترجى نوافلها أي : الغنيمة والظفر . ويخشى ذامها أي : خلافها .
رابعها : أن المعنى رب أرض كثيرة غرباؤها يريد : أرضاً يضل بها من سلكها إذا جهل
طرقها . قال أبو جعفر والجواليقي والخطيب : وإنما وقع الاختلاف في ذلك أنه أقام
الصفة مقام الموصوف فاحتمل هذا المعاني إلا أن الأشبه بما يرد الجماعة لأن بعده :
أنكرت باطلها وبؤت بحقها وإقامة الصفة مقام الموصوف في مثل هذا قبيح لما يقع به من
الإشكال .
ألا ترى أنك لو قلت : مررت بجالس كان قبيحاً ولو قلت : بظريف كان حسناً . وغرباؤها
مرفوع بكثيرة أي : كثرت غرباؤها .
____________________
)
وقوله : غلب تشذر . . . إلخ هو خبر لمبتدأ محذوف هو ضمير الغرباء أي : هم غلب جمع
أغلب والأنثى غلباء . قال الطوسي : غلب : أسد غلاظ الرقاب . وقال ابن السيد :
شبههم بالإبل . وعليهما فهو استعارة تصريحية . وتشذر أصله تتشذر بالذال المعجمة .
وفيه أقوال : أحدها : أن التشذر رفع اليد ووضعها أي : إنهم كانوا يفعلون ذلك إذا
تفاخروا وتثالبوا .
وإليه ذهب الجاحظ في كتاب البيان والتبيين قال : كانت العرب تخطب بالمخاصر وتعتمد
على الأرض بالقسي وتشير بالعصي والقني . وقال لبيد في الإشارة : غلب تشذر بالذحول
. . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقيل : التشذر : الإيعاد أي : يوعد بعضهم
بعضاً . وحكى ابن السكيت : تشذرت الناقة . إذا شالت بذنبها .
وقال الطوسي : التشذر من الفحل بالذنب تغضب وإيعاد . ومن هنا قال ابن السكيت :
شبههم بالإبل . وروى : غلب تشازر بتقديم المعجمة . وتشازرهم : نظر بعضهم إلى بعض
بمؤخر عينه .
والذحول : جمع ذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة وهو الحقد . وجملة :
كأنها جن حال من ضمير غلب في تشذر .
والبدي بفتح الموحدة وكسر الدال المهملة وتشديد الياء من غير همز قال
____________________
أبو عبيد : البادية وقال
ابن السيد : واد تسكنه الجن . وقال ابن الأنباري : هو واد لبني عامر وقيل : موضع .
وقال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : واد لبني عامر . وقال أبو حاتم عن
الأصمعي : واد لبني سعد .
وذكره أبو عبيد أحمد بن محمد بن الهروي مهموزاً وذلك أنه ذكر حديث ابن المسيب في
حريم البئر فقال : البديء البئر التي ابتدئت فحفرت وليست عادية . قال : والبدي في
غير هذا الموضع : بلد تسكنه الجن . فإن كان هذا الذي ذكره الهروي صحيحاً فهو موضع
آخر والله أعلم لأن البدي المذكور في الشواهد آهل يسكنه الناس ويرعونه .
أقول : قول الهروي : والبدي في غير هذا الموضع : بلد يريد : غير مهموز بدليل أن
كلامه في المهموز وقول البكري آهل يسكنه الناس يريد عليه بيت هذه المعلقة .
ورواسياً حال من اسم كان لأنه في المعنى مفعول لأشبه وصرفه للضرورة . وأقدامها
فاعل رواسي جمع قدم . )
وقوله : أنكرت باطلها . . . . إلخ هذا جواب رب . قال الزوزني : باء بكذا : أقر به
ومنه قولهم في الدعاء : أبوء لك بالنعمة .
يقول : أنكرت باطل دعاوي تلك الرجال الغلب وأقررت بما كان حقاً منها عندي أي : في
اعتقادي ولم تفخر علي كرامها أي : ولم يغلبني بالفخر كرامها من قولهم : فاخرته
ففخرته أي : غلبته بالفخر .
وكان ينبغي أن يقول : ولم تفخرني كرامها ولكنه ألحق علي حملاً
____________________
على معنى : ولم تتعال علي
ولم تتكبر علي . قاله الزوزني .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثمانون بعد السبعمائة ) الرجز نضرب بالسيف ونرجو
بالفرج على أن الباء الثانية زائدة في المعفول به سماعاً .
قال ابن عصفور في الضرائر : وزيادة الباء هنا ضرورة . قال ابن السيد في شرح أدب
الكاتب : إنما عدى الرجاء بالباء لأنه بمعنى الطمع والطمع يتعدى بالباء كقولك :
طمعت بكذا .
قال الشاعر : الطويل ( طمعت بليلى أن تجود وإنما ** تقطع أعناق الرجال المطامع )
وقال في شرح أبياته :
____________________
وزاد يعقوب قبله : نحن بني
جعدة أرباب الفلج ونحن : مبتدأ وأرباب : خبره وبني جعدة : منصوب على الاختصاص وروي
بالرفع أيضاً .
والفلج بفتح الفاء واللام . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : موضع لبني قيس وهو
في أعلى بلاد قيس .
قال الراجز : ( نحن بنو جعدة أرباب الفلج ** نضرب بالبيض ونرجو بالفرج ) وأصله
النهر الصغير . انتهى . )
والبيض بالكسر : السيوف أي : نقاتل بالسيوف . وقال ياقوت في معجم البلدان : الفلج
مدينة بأرض اليمامة لبني جعدة وقشير ابني كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصة كما أن
حجراً مدينة بني ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان .
قال الجعدي : ( نحن بنو جعدة أرباب الفلج ** نحن منعنا سبله حتى اعتلج ) وقال ابن
السيد : الفلج الجاري من العين . والفلج : البئر الكبير عن ابن كناسة .
____________________
وماء فلج : جار قال عبيد :
مخلع البسيط ( أو فلج ما ببطن واد ** للماء من تحته قسيب ) انتهى .
وتوهم الدماميني في شرح المغني أن الفلج هنا بمعنى الظفر . قال : والظاهر أن
المراد بالفلج : الظفر والفوز لكن لم يحك صاحب الصحاح غير سكون اللام فيحتمل أن
يكون الشاعر فتحها اتباعاً لفتحة الفاء للضرورة . هذا كلامه .
وتبعه الحلبي في شرحه ونقل كلامه وزاد عليه بأن صنيع صاحب القاموس أيضاً يقتضي
سكون اللام . وتبعه شيخنا الشهاب الخفاجي أيضاً في شرح درة الغواص وتعقبه : بأن
فتح اللام لغة أصلية فيه وتوقفه من عدم الإطلاع . ثم نقل من شرح مقامات الزمخشري
له ما يؤيد كونه بالفتح .
والمشهور : نحن بنو ضبة وهو من تغيير النساخ والذي فيه ضبة قافية لامية وهو :
الرجز نحن بنو ضبة أصحاب الجمل وآخره :
____________________
وهذا من أبيات المفصل وهو
مما قيل في يوم الجمل وهو مذكور في الحماسة وغيرها وقائله معلوم مذكور .
وقوله : نحن منعنا سبله هو جمع سبيل وهو الطريق . واعتلجت الأرض : طال نباتها .
وهذا الرجز لم ينسبه أحد إلى قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد السبعمائة ) الطويل ( ولكن أجراً لو فعلت بهين **
وهل ينكر المعروف في الناس والأجر ) على أن الباء تزاد سماعاً بقلة في خبر لكن .
قال ابن جني في سر الصناعة : وقد زيدت في خبر لكن لشبهه بالفاعل . وأنشد البيت
وقال : أراد ولكن أجراً لو فعلته هين .
وقد يجوز فيه أن يكون معناه : ولكن أجراً لو فعلته بشيء هين أي : أنت تصلين إلى
الأجر بالشيء الهين كقولك : وجوب الشكر بالبر الهين . فتكون الباء على هذا غير
زائدة . انتهى .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد
الواحد والتسعون بعد السبعمائة ) الطويل ( ألا هل أتاها والحوادث جمة ** بأن امرأ
القيس بن تملك بيقرا ) على أن الباء قد تزاد بقلة مع أن الواقعة مع معموليها في
تأويل مصدر مرفوع على أنه فاعل أتاها .
وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب : فاعل أتاها يجوز أن يكون مضمراً دل عليه
معنى الكلام كأنه قال : هل أتاها الخبر . ولكثرة استعمال الخبر أضمر ويكون : بأن
امرأ القيس في موضع نصب . هذا كلامه .
ولا مفهوم لقوله مع أن فكان ينبغي أن يقول وتزاد بقلة في الفاعل في غير ما ذكر
قياساً . وهذا عند ابن عصفور وغيره ضرورة .
ومن زيادتها في الفاعل ضرورة بدون أن قوله : الوافر (
____________________
ألم يأتيك والأنباء تنمي
** بما لاقت لبون بني زياد ) فالباء في بما زائدة وما : فاعل يأتيك . وقال ابن
الضائع : الباء متعلقة ب تنمي وإن فاعل يأتي مضمر والمسألة من التنازع . ومن ذلك :
السريع ( مهما لي الليلة مهما ليه ** أودى بنعلي وسرباليه ) التقدير : أودى نعلاي
. وقال ابن الحاجب : الباء للتعدية . وتقدم شرحهما مفصلاً . )
ومن ذلك قول النمر بن تولب : الكامل ( ظهرت ندامته وهان بسخطه ** شيئاً على
مربوعها وعذارها ) التقدير : هان سخطه . قال ابن عصفور : وبالجملة لا تنقاس زيادة
الباء في سعة الكلام إلا في خبر ما وخبر ليس وفاعل كفى ومفعوله وفاعل أفعل بمعنى
ما أفعله . وما عدا هذا المواضع لا تزاد فيه الباء إلا في ضرورة شعر أو شاذ من
الكلام يحفظ ولا يقاس عليه . انتهى .
ولقد أجاد ابن هشام في المغني في تحرير زيادة الباء .
والبيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس قالها بعد أن ذهب إلى الروم مستنجداً بقيصر
للأخذ بثأر أبيه . وأولها : ( سما لك شوق بعدما كان أقصرا ** وحلت سليمى بطن ظبي
فعرعرا
____________________
) إلى أن قال : قوله : سما
لك . . . إلخ سما : علا وارتفع . وأقصر : كف . وحلت : نزلت . وبطن ظبي : موضع
ويقال : ماء من مياه كلب . وعرعر : واد .
وقوله : ألا هل أتاها الضمير لحبيبته . وقوله : والحوادث جمة أي : كثيرة جملة
اعتراضية بين الفعل وفاعله .
وأورده الزمخشري عند قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلاً على أنها جملة
اعتراضية كقول امرئ القيس : والحوادث جمة وفائدة الاعتراض الإخبار بأن هجرته عن
بلاده حادثة من الحوادث . والعرب تتمدح بالإقامة في البدو قال أبو العلاء : البسيط
( ويوقدون بنجد نار بادية ** لا يحضرون وفقد العز في الحضر ) قال أبو عبيد في
الغريب المصنف : بيقر الرجل بيقرة إذا هاجر من أرض إلى أرض . وأنشد هذا البيت .
وقال الجوهري : بيقر الرجل : أقام بالحضر وترك قومه بالبادية . وأنشد هذا البيت .
وقال ابن دريد : بيقر الرجل إذا خرج من الشام إلى العراق .
ولم يذكر ابن جني في شرح تصريف المازني غير هذا . وأنشد له البيت والواقع يخالفه .
وتملك بفتح المثناة الفوقية : اسم امرأة لا ينصرف . قال شارح ديوانه : تملك : بعض
أمهاته .
قال صاحب الأغاني : أم امرئ القيس فاطمة بنت ربيعة أخت كليب ومهلهل ابني ربيعة .
وأم )
امرئ القيس بن السمط اسمها تملك بنت عمرو بن ربيعة بن زبيد
____________________
ابن مذحج رهط عمرو بن معد
يكرب . وقد ذكر ذلك امرؤ القيس فقال : بأن امرأ القيس بن تملك بيقرا انتهى .
ومثله في مختصر الجمهرة لياقوت وغيره قالا : ومن بني امرئ القيس بن عمرو بن معاوية
السمط وأمه تملك بنت عمرو من مذحج هم التملكيون بها يعرفون . وامرؤ القيس بن السمط
بن امرئ القيس بن عمرو بن معاوية بن الحارث الأكبر الذي يقول فيه امرؤ القيس بن
حجر : يأن امرأ القيس بن تملك بيقرا نسبه إلى جدته تملك . انتهى .
وكذا قال العسكري في كتاب التصحيف عند ما ذكر المسلمين بامرئ القيس . وهذا خلاف ما
ذكره شراح شعره من أنه أراد نفسه . وهو الأغلب على الظن .
فمنهم من قال : أمة تملك ومنهم من قال : جدته . ويحتمل أن تكون جدته من قبل أمه أو
أمهاتها . والله أعلم .
وقد ذكرنا أبياتاً كثيرة من هذه القصيدة وذكرنا أيضاً طرفاً من حال امرئ القيس في
الشاهد السابع والستين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد السبعمائة ) الطويل (
____________________
فأصبحن لا يسألنه عن بما
به ** أصعد في علو الهوى أم تصوبا ) على أنه من الغريب زيادة الباء في المجرور
فإنها زيدت مع ما المجرورة ب عن .
قال ابن جني في سر الصناعة : وأما قول الشاعر : فأصبحن لا يسألنه عن بما به فإنه
أراد الباء وفصل بها بين عن وما جرته . وهذا من غريب مواضعها . انتهى .
وقال الفراء في آخر تفسير سورة الإنسان : قرأ عبد الله : وللظالمين أعد لهم فكرر
اللام في الظالمين وفي لهم . وربما فعلت العرب ذلك . ( فأصبحن لا يسألنه عن بما به
** أصعد في علو الهوى أم تصوبا ) فكرر الباء مرتين . ولو قال : لا يسألنه عما به
لكان أبين وأجود ولكن الشاعر ربما زاد أو نقص ليكمل الشعر . انتهى .
وعده ابن عصفور كالفراء من ضرائر الشعر قال : ومنها إدخال الحرف على
____________________
جهة التأكيد لاتفاقهما في
اللفظ والمعنى أو في المعنى لا في اللفظ نحو قول بعض بني أسد : الوافر ( فلا والله
لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) فزاد على لام الجر لاماً أخرى
للتأكيد . ونحوه قول الآخر وأنشده الفراء : الرمل ( فلئن قوم أصابوا عزة ** وأصبنا
من زمان رنقا ) ( للقد كنا لدى أزماننا ** لصنيعين لبأس وتقى ) فزاد على لام لقد
لاماً أخرى للتأكيد . ونحوه قول الآخر : فأصبحن لا يسألنه عن بما به . . . . . . .
. . . . البيت فأدخل عن على الباء تأكيداً لأنهم يقولون : سألت عنه وسألت به .
والمعنى واحد . انتهى .
وصعد في الجبل بالتثقيل إذا علاه . وصعد في الجبل من باب تعب لغة قليلة . وصعد في
الوادي تصعيداً إذا انحدر . والهواء : ما بين السماء والأرض . والتصوب : النزول .
كذا في وهذا البيت لم أقف على قائله ولا تتمته . والله أعلم .
____________________
)
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والتسعون بعد السبعمائة ) الوافر لدوا للموت وابنوا
للخراب على أن اللام في قوله للموت تسمى لام العاقبة وهي فرع لام الاختصاص .
أقول : تسميتها بلام العاقبة وبلام الصيرورة هو قول الكوفيين ومثلوه بقوله تعالى :
فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا وبقول الشاعر : الطويل ( فللموت تغذو
الوالدات سخالها ** كما لخراب الدور تبنى المساكن ) وبقول الآخر : المتقارب ( فإن
يكن الموت أفناهم ** فللموت ما تلد الوالده ) وقال ابن هشام في المغني : وأنكر
البصريون ومن تبعهم لام العاقبة . قال الزمخشري : والتحقيق أنها لام العلة وأن
التعليل فيها وارد على طريق المجاز دون
____________________
الحقيقة . وبيانه : أنه لم
يكن داعيهم إلى غير أن ذلك لما كان نتيجة التقاطهم له وثمرته شبهه بالداعي الذي
يفعل الفعل لأجله فاللام مستعارة لما يشبه التعليل كما استعير الأسد لمن يشبه
الأسد . انتهى .
وفهم منه أن اللام في هذه الأبيات للتعليل . وجعلها من فروع الاختصاص أولى لأن
التعليل أيضاً من فروع الاختصاص .
وهذا المصراع من أبيات في الديوان المنسوب إلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي :
الوافر ( عجبت لجازع باك مصاب ** بأهل أو حبيب ذي اكتئاب ) ( شقيق الجيب داعي
الويل جهلاً ** كأن الموت كالشيء العجاب ) ( وسوى الله فيه الخلق حتى ** نبي الله
عنه لم يحاب ) ( له ملك يندي كل يوم ** لدوا للموت وابنوا للخراب
____________________
) قال شارح ديوانه حسين
الميبذي : المصاب : من أصابته مصيبة . والاكتئاب : الحزن . فإن قلت : الكاف مغنية
عن كأن قلت : قال التفتازاني في المطول : إن كأن تستعمل في مقام يظن بثبوت الخبر
دون التشبيه . ولام للموت لام العاقبة وهي فرع لام الاختصاص . انتهى . )
وحتى : ابتدائية ونبي الله مفعول مقدم ليحاب بمعنى يخص كما تقدم مجيئه بهذا المعنى
في ورأيت في الفصول القصار من نهج البلاغة لسيدنا علي رضي الله عنه : إن لله ملكاً
ينادي في كل يوم : لدوا للموت واجمعوا للفناء وابنو للخراب .
ورأيت أيضاً في جمهرة أشعار العرب لمحمد بن أبي الخطاب : قد روي أن بعض الملائكة
قال : ( لدوا للموت وابنوا للخراب ** فكلكم يصير إلى ذهاب ) والبيت الثاني هو من
أبيات مغني اللبيب ولم يعرفه شراحه وهو لسابق البربري .
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : وفد عبد العزيز بن زرارة سد أهل الكوفة على
معاوية فخرج مع يزيد بن معاوية إلى الصائفة فهلك هناك فكتب به يزيد إلى معاوية
فقال معاوية لأبيه زرارة : أتاني اليوم نعي سيد شباب العرب فقال زرارة : يا سيدي
هو ابني أو ابنك قال : بل ابنك . قال : للموت ما تلد الوالدة .
أخذه سابق البربري فقال : وللموت تغذو الوالدات سخالها البيت وتغذو بمعجمتين من
الغذاء بالكسر والمد : ما به نماء الجسم وقوامه . وغذوت الصبي بالطعام واللبن
فاغتذى به . وأما الغداء بالفتح وإهمال الدال فطعام الغدوة وهو خلاف العشاء .
والسخال بالكسر : جمع سخلة وهي ولد الشاة من الضأن والمعز ذكراً كان أو أنثى .
وفيه وكذا نسبه إلى سابق البربري صاحب كتاب التفسح في اللغة وقال بعد أن أوردها :
إنما ابتنوا دورهم للعمران وغذوا أولادهم للبقاء لا للفناء فلما علموا أن المصير
إلى الموت والخراب تركوا الشيء الذي غذوا له أولادهم وابتنوا دورهم
____________________
وأخبروا بمصيرهم لذلك
اعتباراً كما قال تعالى : فالتقطه آل فرعون ليكون لهم عدواً وحزنا وإنما التقطوه
ليكون لهم قرة عين ولكن الله عز وجل وصف أمره بتصيره إلى ذلك . فهذا على الإخبار
بالصيرورة . انتهى .
وسابق البربري هو أبو سعيد سابق بن عبد الله . له أشعار حسنة في الزهد . وهو من
موالي بني أمية سكن الرقة ووفد على عمر بن عبد العزيز وله معه حكايات لطيفة روى
عنه مكحول وموسى بن أعين والمعافي بن عمران وغيرهم .
والبربري : نسبة إلى البربر وهي بلاد كثيرة في المغرب . قال ابن الأثير في الأنساب
: ليس سابق منسوباً إلى البربر وإنما هو لقب له . )
والبيت الثالث هو من أبيات مغني اللبيب أيضاً . ولم يعرفه شراحه أيضا .
وهو من أبيات أورده ابن الأعرابي في نوادره لنهيكة بن الحارث المازني من مازن
فزارة وهي : ( لا يبعد الله رب العبا ** د والملح ما ولدت خالده ) ( هم يكسرون
صدور الرما ** ح في الخيل تطرد أو طارده ) ( يذكرني حسن آلائهم ** تفجع ثكلانة
فاقده ) ( فإن يكن القتل أفناهم ** فللموت ما تلد الوالده
____________________
) انتهى .
ونسبه المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر لشتيم بن خويلد الفزاري . قال : والملح هنا :
البركة .
يقال : اللهم لا تبارك فيه ولا تملحه .
وكلاهما جاهليان .
وقال أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على كامل المبرد على هذا البيت : خالدة : هي بنت
أرقم أم كردم وكريدم ابني شعبة الفزاريين وكردم هو الذي طعن دريد بن الصمة يوم قتل
أخوه عبد الله .
وهذا المصراع وقع في شعر عبيد بن الأبرص الجاهلي أيضاً لما قتله المنذر بن ماء
السماء قال له بعض الحاضرين : ما أشد جزعك للموت .
فقال : المتقارب ( لا غرو من عيشة نافده ** وهل ير ما ميتة واحده ) ( لها مدة
فنفوس العباد ** إليها وإن كرهت قاصده ) ( فلا تجزعوا لحمام دنا ** فللموت ما تلد
الوالده ) ووقع في شعر سماك بن عمرو الباهلي أيضاً وهو أول من قال : لا أطلب أثراً
بعد عين وهو جاهلي أيضاً . قال لما خير بين أن يقتل هو أو أخوه مالك فقتلوه دون
أخيه من أبيات : ( فأقسم لو قتلوا مالكاً ** لكنت لهم حية راصده ) ( برأس سبيل على
مرقب ** ويوماً على طرق وارده
____________________
) فأم سماك فلا تجزعي
فللموت ما تلد الوالده )
وأنشد بعده : ( فلا والله لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) وتقدم شرحه
في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة في باب المنادى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد السبعمائة ) الكامل على أن رب فيه
للتكثير . أي : كثيراً ما لففت هيضلاً بهيضل .
ورب على اختيار الشارح اسم ومحلها رفع على الابتداء والموجب لبنائها تضمنها معنى
الإنشاء الذي حقه أن يؤدى بالحرف كالاستفهام والأمر والنهي . ورب هنا مخففة مفتوحة
الباء .
قال أبو علي في كتاب الشعر : الحروف على ضربين : حرف فيه تضعيف وحرف لا تضعيف فيه
.
____________________
فالأول قد يخفف بالحذف منه
كما فعل ذلك في الاسم والفعل بالحذف والقلب وذلك نحو : إن وأن ولكن ورب والقياس
إذا حذف المدغم فيه أن يبقى المدغم على السكون . وقد جاء : ( أزهير إن يشب القذال
فإنه ** رب هيضل لجب لففت بهيضل
____________________
) ويمكن أن يكون الآخر منه
حرك لما لحقه الحذف والتأنيث فأشبه بهما الأسماء كما حرك الآخر من ضرب . انتهى
المراد منه .
ورواه ابن جني في المحتسب بسكون الباء . أنشد البيت وقال : أراد رب فحذف إحدى
الباءين وبقى الثانية مجزومة كما كانت قبل الحذف .
ورواه العسكري في كتاب التصحيف بالوجهين . أنشد البيت وقال : رب فيه خفيفة . ورواه
وأنشد : الوافر ( ألا رب ناصر لك من لؤي ** كريم لو تناديه أجابا ) وتقول العرب :
رب بالتشديد ورب بالتخفيف ورب رجل فيسكنون الباء ثم يقولون : رُبَّت رجل ورُبَتَ
رجل ورَبَّ رجل فيفتحون الراء ويشددون وربما رجل مشدد ومخفف وربتما فيفتحون . حكى
ذلك قطرب . انتهى . )
وبهذا النقل يرد على أبي علي وعلى ابن يعيش في قوله تبعاً له : إنهم قالوا : رب
بضم الراء وفتح الباء خفيفة ويحتمل ذلك وجوهاً : أحدها : أنهم حذفوا إحدى الباءين
تخفيفاً كراهية التضعيف وكان القياس أن يسكن آخرها لأنه لم يلتق فيها ساكنان كما
فعلوا بإن ونظائرها حين خففوها إلا أن المسموع رب بالفتح نحو قوله : رب هيضل لجل
لففت بهيضل كأنهم أبقوا الفتحة مع التخفيف دلالة على أنها كانت مثقلة مفتوحة .
ويمكن أن يكون إنما فتح باء رب لأنه لما لحقه الحذف وتاء التأنيث أشبهت الأفعال
الماضية ففتحت .
وقد قالوا : رب بالتخفيف وسكون الباء على القياس حذفوا المتحرك لأنه أبلغ في
التخفيف .
انتهى .
وقد نقض أول كلامه بآخره .
والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذلي وأولها : الكامل ( أزهير هل عن شيبة من معدل **
أم لا سبيل إلى الشباب الأول ) ( أم لا سبيل إلى الشباب وذكره ** أشهى إلي من
الرحيق السلسل ) ( ذهب الشباب وفات مني ما مضى ** ونضا زهير كريهتي وتبطلي ) (
وصحوت عن ذكر الغواني وانتهى ** عمري وأنكرني الغداة تقتلي ) ( أزهير إن يشب
القذال فإنه ** رب هيضل مرس لففت بهيضل ) ( فلففت بينهم لغير هوادة ** إلا لسفك
للدماء محلل ) وقوله : أزهير . . . إلخ الهمزة للنداء . وزهير : مرخم زهير وهي
ابنته . قال السكري وكذا قال أبو سعيد : ومنهم من يقول امرأة ومنهم من يقول : رجل
.
____________________
أقول : يرد الأخيرين قوله
في الرائية كما يأتي . والمعدل : العدول . والرحيق : الخمر .
والسلسل : العذب يتسلسل في الحلق تسلسلاً . ونضا بالنون والضاد المعجمة بمعنى
انسلخ ومضى . وزهير منادى مرخم . وكريهته : شدته على الكريهة والحرب . وتبطله :
أخذه في الباطل . )
والغواني : جمع غانية وهي المرأة التي غنيت بحسنها عن الزينة . والتقتل بالقاف :
التلين والتكسر والتثني .
وقوله : أزهير إن يشب . . . إلخ هذا أيضاً منادى مرخم . والقذال : ما بين النقرة
وأعلى الأذن وهو أبطأ الرأس شيباً . والهيضل بفتح الهاء والضاد المعجمة : الجماعة
.
وقوله : لففت بهيضل يريد : جمعت بينهم في القتال . واللجب بفتح اللام وكسر الجيم
في الصحاح : وجيش لجب : عرمرم أي : ذو جلبة وكثرة .
واللجب بفتح الجيم : الصوت والجلبة . وروى بدله : مرس بكسر الراء أي : شديد .
وقوله : فلففت بينهم . . . إلخ قال السكري : يقول : إنما لففت بينهم ليقتتلوا لا
لهوادة ولا لصداقة وهو قوله : إلا لسفك للدماء محلل أي : محلل النذر إذا بلغه .
ومحلل : مما يستحل .
الهوادة : الصلح وأصله من اللين يقال : هود في السير إذا لين .
قال ابن قيبة في كتاب الشعراء : أبو كبير هو عامر بن حليس وله أربع قصائد أولها
كلها شيء واحد . ولا يعرف أحد من الشعراء فعل ذلك . انتهى . ( أزهير هل عن شيبة من
مقصر ** أم لا سبيل إلى الشباب المدبر ) ( فقد الشباب أبوك إلا ذكره ** فاعجب لذلك
فعل دهر واهكر ) قال السكري : الهكر من أشد العجب . وهذا خطاب لنفسه .
وثالثها : الكامل (
____________________
أزهير هل عن شيبة من مصرف
** أم لا خلود لباذل متكلف ) ورابعها : الكامل ( أزهير هل عن شيبة من معكم ** أم
لا خلود لباذل متكرم ) قال السكري : من معكم : من مرجع يقل : عكم يعكم .
وأبو كبير الهذلي صحابي تقدمت ترجمته مع شرح أبيات من هذه القصيدة في الشاهد
الثامن بعد الستمائة .
وأنشد بعده : ( ماوي يا ربتما غارة ** شعواء كاللذعة بالميسم
____________________
) وتقدم شرحه قريباً في
الشاهد الستين بعد السبعمائة . )
وأنشد بعده الطويل ( فإن تمس مهجور الفناء فربما ** أقام به بعد الوفود وفود ) على
أن ربما فيه للتكثير . وهو ظاهر .
وأورده الزمخشري عند قوله تعالى : قد يعلم الله الذين يتسللون منكم لواذاً على أن
قد إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى ربما فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما
في البيت فإن المضارع كانت بمعنى ربما فتوافقها في خروجها إلى معنى التكثير كما في
البيت فإن المقام مقام مدح لا يناسب التقليل وإلا لكان ذماً . ورب هنا مكفوفة بما عن
عمل الجر ومهيئة للدخول على الجملة الفعلية .
ولا يتأتى هنا ما اختار الشارح من أنها اسم مبتدأ إذ لا مجرور موصوف بجملة فعلية .
ولا يعرف على اختياره ما موقع الجملة بعد رب المكفوفة .
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في باب المراثي من الحماسة لأبي عطاء السندي
رثى بها يزيد بن هبيرة الفزاري وهي : (
____________________
ألا إن عيناً لم تجد يوم
واسط ** عليك بجاري دمعها لجمود ) ( عشية قام النائحات وشققت ** جيوب بأيدي مأتم
وخدود ) ( فإنك لم تبعد على متعهد ** بلى كل من تحت التراب بعيد ) وقيل رثاه بها
معن بن زائدة الشيباني وكان من أتباع ابن هبيرة ومن أكبر أعوانه في الحروب وغيرها
.
وابن هبيرة مولده الشام في سنة سبع وثمانين ولي قنسرين للوليد بن يزيد بن عبد
الملك وكان مع مروان بن محمد آخر ملوك بني أمية يوم غلب على دمشق وجمع له ولاية
العراقين فلما أدبرت دولة بني مروان خرج قحطبة بن شبيب في سنة اثنتين وثلاثين
ومائة أحد دعاة بني العباس في جيوش خراسان ثم ولده الحسن من بعده فهزموه ولحق ابن
هبيرة بمدينة واسط فحاصره أبو جعفر المنصور مع الحسن وجرت السفراء بين أبي جعفر
وابن هبيرة حتى جعل له أماناً وكتب به كتاباً .
فمكث يشاور فيه العلماء أربعين ليلة حتى رضي به ابن هبيرة ثم أنفذه إلى أبي جعفر
فأنفذه )
أبو جعفر إلى أخيه السفاح فأمره بإمضائه له .
ولما تم الكتاب خرج ابن هبيرة إلى أبي جعفر في ألف وثلثمائة فأراد أن يدخل الحجرة
على دابته فقام إليه الحاجب فقال : مرحباً أبا خالد انزل راشداً وقد أطاف بالحجرة
عشرة آلاف من أهل خراسان . فنزل ودعا له بوسادة ثم قال له الحاجب : ادخل أبا خالد
.
____________________
فقال له : أنا ومن معي من
القواد . فقال له : إنما استأذنت لك وحدك . فدخل على أبي جعفر وحادثه ساعة ثم
انصرف . فقال أبو جعفر للحاجب : قل لابن هبيرة يدع الجماعة ويأتينا بحاشيته .
وجاء بعد في نحو من ثلاثين فكان بعد ذلك يأتي في ثلاثة من أصحابه يتغذى ويتعشى
عنده وألح أبو العباس على أبي جعفر يأمره بقتله وهو يراجعه فكتب إليه : والله
لتقتلنه أو لأرسلن إليه من يخرجه من حجرتك ثم يقتله . فعزم على قتله وأرسل الهيثم
بن شعبة في نحو من مائة فأرسلوا إلى ابن هبيرة : إنا جئنا لنأخذ هذا المال . فقال
ابن هبيرة لحاجبه : انطلق فدلهم عليه .
فأقاموا عند كل بيت نفراً ثم جعلوا ينظرون في نواحي الدار ومع ابن هبيرة ابنه داود
وكاتبه وحاجبه وعدة من مواليه وبني له صغير في حجره فأقبلوا نحوه فقام حاجبه في
وجوههم فضربه الهيثم فقتله وقاتل ابنه داود فقتل وقتل مواليه ونحي الصبي من حجره
وخر ساجداً فقتل وهو ساجد .
وكان قتله بواسط يوم الاثنين لثلاث عشرة ليلة بقيت من ذي القعدة سنة اثنتين
وثلاثين ومائة .
ولما قتل كان معن بن زائدة غائباً عند السفاح فسلم فرثاه أبو عطاء السندي بهذه
الأبيات قال ابن عساكر في تاريخه الكبير : كان ابن هبيرة إذا أصبح أتى بعس وهو
القدح الكبير وفيه لبن قد حلب على عسل وأحياناً على سكر فيشربه فإذ صلى الغداة جلس
في مصلاه حتى يحركه اللبن فيدعو بالغداء فيأكل دجاجتين وفرخي حمام ونصف جدي
وألواناً من لحم ثم يخرج فينظر في أمور الناس إلى نصف النهار ثم يدخل فيدعو جماعة
من خواصه وأعيان الناس ويدعو بالغداء فيتغدى ويعظم اللقم ويتابع فإذا فرغ من
الغداء دخل إلى نسائه حتى يخرج إلى صلاة الظهر ثم ينظر في أمور الناس . )
فإذا صلى العصر وضع له سرير ووضعت الكراسي للناس فإذا أخذوا مجالسهم
____________________
أتوهم بعساس اللبن والعسل
وألوان الأشربة ثم توضع السفرة والطعام للعامة ويوضع له ولإخوانه خوان مرتفع فيأكل
معه الوجوه ثم يتفرقون للصلاة ثم يأتيه سماره فيحضرون مجلسه فيسامرونه حتى يذهب
عامة الليل .
وكن يسأل كل ليلة عشر حوائج فإذا أصبحوا قضيت . وكان رزقه ستمائة ألف درهم فكان
يقسم كل شهر في أصحابه من قومه ومن الفقهاء والوجوه وأهل البيوتات أكثر من نصفها .
روي أن شريك بن عبد الله النمري سايره يوماً فبرزت بغلة شريك فقال له ابن هبيرة :
غض من لجامها . فقال شريك : إنها مكتوبة أصلح الله الأمير فقال ابن هبيرة : ما
ذهبت حيث أردت .
وقول ابن هبيرة : غض من لجامها يشير إلى قول جرير : الوافر ( فغض الطرف إنك من
نمير ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا ) فعرض له شريك بقول ابن دارة : البسيط ( لا
تأمنن فزارياً خلوت به ** على قلوصك واكتبها بأسيار ) وكان بنو فزارة في العرب
يرمون بإتيان الإبل .
وأخبار ابن هبيرة ومحاسنه كثيرة .
وقوله : ألا إن عيناً لم تجد . . . إلخ افتتح كلامه بحرف التنبيه ثم أخذ يعظم أمر
الفجيعة ويبين موقعها من النفوس وتأثيرها في القلوب فقال : إن عيناً لم تجد بدمعها
عليك يوم واسط لشديدة البخل بما في شؤونها من الماء .
قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : لم تجد : لم تسمح بالبكاء .
____________________
وجمود : قليلة الدمع يقال
: عين جامدة وجمود . وسنة جماد : قليلة القطر .
وقوله : عشية قام النائحات . . . إلخ عشية بدل من يوم واسط .
قال ابن السيد في شرح أدب الكاتب إن قيل : كيف جاز أن يعمل فيه لم يجد وقد حال
الخبر وهو الجمود بين العامل والمعمول .
ولو قلت : إن الضارب أخوك زيداً أو إن خارجاً غير مصيب يوم الجمعة لم يجز وإنما
يجب فيهما تقديم المعمول على الخبر قلت : إن العشية لما كانت بدلاً من يوم والمبدل
يقدر من جملة )
أخرى ويقدر معه إعادة العامل جاز ذلك .
وقد أجاز النحويون تأخر الصفة بعد الخبر في نحو : إن زيداً خارج الكريم والصفة أشد
اتصالاً بالموصوف من البدل . وأجازوا ذلك في المعطوف نحو : إن زيداً خارج وعمراً
وعمرو : على اللفظ وعلى الموضع . وإذا جاز في الصفة كان في البدل أجوز .
وقوله : قام النائحات أي : تهيأن للنوح . والمأتم : النساء يجتمعن في الخير والشر
قال الخطيب : وأصله من الأتم وهو التقاء المسلكين ومنه الأتوم في صفة النساء .
وقوله : فإن تمس مهجور . . . إلخ الفناء بكسر الفاء والمد : ساحة الدار .
والوفود : الزوار وطلاب الحاجات . قال المرزوقي : الرواية المختارة : وربما أقام
بالواو .
وذلك أن جواب الشرط في قوله : فإنك لم تبعد على متعهد
____________________
والمعنى : إن مت وصرت
مهجور الساحة وربما كانت الوفود تزدحم على بابك فإنك الساعة لم تبعد على من يتعهدك
ويريد قضاء حقك وإقامة الرسم في زيارتك .
ثم قال مستدركاً على نفسه : بلى كل من تحت التراب بعيد ويريد بالمتعهد متتبع
العهود بالحفظ لها ومنعها من الدروس . وإذا رويت فربما وجعلته جواب الشرط يكون فإنك
لم تبعد استئناف كلام .
والمعنى : إن هجر فناؤك اليوم فربما كان مألفاً للوفود أيام حياتك . وتقول العرب :
هذا بذاك أي : عوض من ذاك .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : ينبغي أن يكون جواب الشرط مستقبلاً وربما جاءت
مكانه جملة ماضية والشرط لا يصح إلا بالاستقبال والمستقبل لا يكون علة للماضي لئلا
يتقدم المعلول على علته .
وإذا كان الأمر كذلك فالكلام محمول على معناه دون لفظه . ألا ترى أن معناه إن
أمسيت هكذا فتسل عنه بذكر ما مضى أي : فليكن هذا بإزاء ذلك . انتهى .
وهذا البيت من الاستدراك وهو من محاسن الشعر . والاستدراك : أن يأخذ الشاعر في
معنى وأبو عطاء السندي قيل اسمه مرزوق وهو قول ابن قتيبة . وقال أبو
____________________
عبيد البكري في شرح )
أمالي القالي : هو أفلح بن يسار مولى لبني أسد . وكان يسار سندياً أعجمياً لا يفصح
وأبو عطاء ابنه عبد أسود لا يكاد يفصح أيضاً جمع بين لثغة ولكنة وهو مع ذلك من
أحسن الناس بديهة وأشدهم عارضة وتقدماً .
وهو شاعر فحل في طبقته أدرك الدولتين . وكان من شعراء بني أمية وشيعتهم وهجا بني
هاشم ومات عقب أيام المنصور .
ودخل يوماً على المنصور وهو يسحب الوشي والخز فقال له المنصور : أنى لك هذا يا أبا
عطاء فقال : كنت ألبس هذا في الزمن الصالح . ثم ولى ذاهباً فاستخفى فما ظهر حتى
مات المنصور .
فمما قال في بني هاشم : الطويل ( بني هاشم عودوا إلى نخلاتكم ** فقد قام سعر التمر
صاع بدرهم ) ( فإن قلتم رهط النبي صدقتم ** فهذي النصارى رهط عيسى بن مريم ) انتهى
.
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : أبو عطاء السندي اسمه مرزوق وكان جيد الشعر
وكانت قال حماد الراوية : كنت يوماً وحماد عجرد وحماد بن الزبرقان مجتمعين فنظر
بعضنا إلى بعض فقلنا : لو بعثنا إلى أبي عطاء .
فبعثنا إليه فقلنا : من يحتال حتى يقول : جرادة وزج وشيطان فقلت : أنا . وجاء فقال
: من هاهنا فقلنا : ادخل . فدخل فقلنا : أتتعشى فقال : قد تأسيت . قلت : أفتشرب
قال : بلى .
فشرب حتى استرخى . فقال حماد الراوية : كيف بصرك باللغز قال : هسن . قال : الوافر
(
____________________
فما صفراء تكنى أم عوف **
كأن رجيلتيها منجلان ) فقال : زرادة . قال : أصبت . ثم قال : الوافر ( فما اسم
حديدة في الرمح ترسى ** دوين الصدر ليست بالسنان ) قال : زز . قال : أحسنت . ثم
قال : الوافر ( أتعرف مسجداً لبني تميم ** فويق الميل دون بني أبان ) قال : بني
سيتان . فقلنا : أصبت يا أبا عطاء وضحكنا . انتهى .
وفي رواية غيره أنه أجابه في الأول ببيت وهو : ) ( فتلك زرادة وأذن ذناً ** بأنك
قد عنيت به لساني ) يريد بالزرادة : الجرادة . وأذن ذناً أي : أظن ظناً .
هذا سراقة للقرآن يدرسه على أن الضمير في يدرسه ضمير المصدر المفهوم من يدرس أي :
يدرس الدرس .
وقد تقدم شرحه في الشاهد الثاني والثمانين .
وتمامه :
____________________
والمرء عند الرشا إن يلقها
ذيب وأنشد بعده : المديد ( غير مأسوف على زمن ** ينقضي بالهم والحزن ) وتقدم شرحه
في الشاهد الثالث والخمسين من باب المبتدأ .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد السبعمائة ) وهو من شواهد س : الرجز يا
رب هيجا هي خير من دعه على أنه يجوز أن تقع الجملة الاسمية نعتاً لمجرور رب ف هي
مبتدأ وخير خبره والجملة نعت
____________________
والدعة : الخفض والراحة .
والهاء عوض من الواو تقول منه : ودُع الرجل بالضم فهو وديع أي : ساكن ووداعٌ أيضاً
. والموادعة : المصالحة . ويا : حرف تنبيه أو حرف نداء والمنادى محذوف .
ورب هنا للتكثير وهي اسم مبتدأ على ما اختاره الشارح المحقق لا خبر لها والجملة
التي هي نعت مجرورها قد سدت مسد الخبر لا يقدر لها جواب يعلم في محل مجرورها .
وهو من رجز للبيد بن ربيعة العامري الصحابي أورده ثعلب في أماليه وهو : ( لا تزجر
الفتيان عن سوء الرعه ** يا رب هيجا هي خير من دعه ) ( في كل يوم هامتي مقزعه **
نحن بنو أم البنين الأربعه ) ( نحن خيار عامر بن صعصعه ** المطعمون الجفنة
المدعدعه ) ( والضاربون الهام تحت الخيضعه ** يا واهب المال الجزيل من سعه ) ) (
إليك جاوزنا بلاداً مسبعه ** إذ الفلاة أوحشت في المعمعه ) يخبرك عن هذا خبير
فاسمعه فقال النعمان : ما هو فقال : مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه
____________________
إن استه من برص ملمعه قال
النعمان : وما علي قال : ( وإنه يدخل فيها إصبعه ** يدخلها حتى يواري أشجعه )
كأنما يطلب شيئاً ضيعه الرعة : حالة الأحمق التي رضي بها .
وقوله : مقزعة يقول : أنا أقاتل في كل يوم وأقاتل . والمدعدعة : المملوءة .
والخيضعة : أصوات الحرب . انتهى .
وهذا السياق مبتور لا ينتفع به وأوفى ما رأيته ما رواه السيد المرتضى علم الهدى في
أماليه المسماة بغرر الفرائد ودرر القلائد قال : إن عمارة وأنساً وقيساً والربيع
بني زياد العبسيين وفدوا على النعمان ابن المنذر ووفد عليه العامريون بنو أم
البنين وعليهم أبو براء عامر بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو ملاعب الأسنة وكان
العامريون ثلاثين رجلاً وفيهم لبيد ابن ربيعة بن مالك بن جعفر بن كلاب وهو يومئذ
غلام له ذؤابة .
وكان الربيع بن زياد العبسي ينادم النعمان ويكثر عنده ويتقدم على من سواه وكان
يدعى الكامل لشطاطه وبياضه وكماله فضرب النعمان قبة على أبي براء وأجرى عليه وعلى
من كان معه النزل وكانوا يحضرون النعمان لحاجتهم فافتخروا يوماً بحضرته فكاد
العبسيون يغلبون العامريين .
وكان الربيع إذا خلا بالنعمان طعن فيهم . وذكر معايبهم ففعل ذلك مراراً لعداوتهم
لبني جعفر لأنهم كانوا أسروه فصد النعمان عنهم حتى نزع القبة عن أبي براء وقطع
النزل ودخلوا عليه يوماً فرأوا منه جفاء وقد كان قبل ذلك يكرمهم ويقدم مجلسهم
فخرجوا من عنده غضاباً وهموا بالانصراف ولبيد في رحالهم يحفظ أمتعتهم ويغدو بإبلهم
فيرعاها فإذا أمسى انصرف بها .
____________________
)
فأتاهم تلك الليلة وهم يتذاكرون أمر الربيع فقال لهم : ما لكم تتناجون فكتموه
وقالوا له : إليك عنا . فقال : أخبروني فلعل لكم عندي فرجاً . فزجروه فقال : لا
والله لا أحفظ لكم ولا أسرح لكم بعيراً أو تخبروني .
وكانت أم لبيد عبسية في حجر الربيع فقالوا له : إن خالك قد غلبنا على الملك وصد
عنا وجهه .
فقال لهم : هل تقدرون أن تجمعوا بيني وبينه غداً حين يقعد الملك فأرجز به رجزاً
ممضاً مؤلماً لا يلتفت إليه النعمان بعده أبداً قالوا له : وهل عندك ذلك قال : نعم
.
قالوا : إنا نبلوك بشتم هذه البقلة وقدامهم بقلة دقيقة القضبان قليلة الورق لاصقة
فروعها بالأرض تدعى التربة فاقتلعها من الأرض وأخذها بيده وقال : هذه البقلة
التربة الثفلة الرذلة التي لا تذكي ناراً ولا تسر جاراً عودها ضئيل وفرعها ذليل
وخيرها قليل . بلدها شاسع ونبتها خاشع وآكلها جائع والمقيم عليها قانع . أقصر
البقول فرعاً وأخبثها مرعى وأشدها قلعاً فحرباً لجارها وجدعاً . القوا بي أخا عبس
أرجعه عنكم بتعس ونكس وأتركه من أمره في ليس .
فقالوا : نصبح ونرى فيك رأينا . فقال لهم عامر : انظروا إلى غلامكم هذا فإن
رأيتموه نائماً فليس أمره بشيء إنما تكلم بما جرى على لسانه . وإن رأيتموه ساهراً
فهو صاحبكم .
فرمقوه بأبصارهم فوجدوه قد ركب رحلاً يكدم واسطته حتى أصبح . فلما أصبحوا قالوا :
أنت والله صاحبه . فحلقوا رأسه وتركوا له ذؤابتين وألبسوه حلة وغدوا به معهم
فدخلوا على النعمان فوجدوه يتغدى ومعه الربيع ليس معه غيره والدار والمجالس مملوءة
بالوفد .
فلما فرغ من الغداء أذن للجعفريين فدخلوا عليه والربيع إلى جانبه . فذكروا
____________________
للنعمان حاجتهم فاعترضهم
الربيع في كلامهم فقال لبيد وقد دهن أحد شقي رأسه وأرخى إزاره وانتعل نعلاً ( يا
رب هيجا هي خير من دعه ** إذ لا تزال هامتي مقزعه ) ( نحن بني أم البنين الأربعة
** ونحن خير عامر بن صعصعه ) ( المطعمون الجفنة المدعدعه ** والضاربون الهام تحت
الخيضعه ) ( مهلاً أبيت اللعن لا تأكل معه ** إن استه من برص ملمعه ) ) ( وإنه
يدخل فيها إصبعه ** يدخلها حتى يواري أشجعه ) كأنما يطلب شيئاً ضيعه فلما فرغ لبيد
التفت النعمان إلى الربيع يرمقه شزراً . قال : أكذلك أنت قال : كذب والله ابن
الحمق اللئيم فقال النعمان : أف لهذا الطعام لقد خبث علي طعامي . فقال الربيع :
أبيت اللعن أما إني قد فعلت بأمه لا يكني . وكانت في حجره .
فقال لبيد : أنت لهذا الكلام أهل أما إنها من نسوة غير فعل وأنت المرء قال هذا في
يتيمته .
____________________
ووجدت في رواية أخرى : أما
إنها من نسوة فعل . وإنما قال ذلك لأنها كانت من قوم الربيع فنسهبا إلى لقبيح
وصدقه عليها تهجيناً له ولقومه .
فأمر الملك بهم جميعاً فأخرجوا وأعاد أبي براء القبة وانصرف الربيع إلى منزله فبعث
إليه النعمان بضعف ما كان يحبوه به وأمره بالانصراف إلى أهله . فكتب إليه : إني قد
تخوفت أن يكون قد وقع في صدرك ما قال لبيد ولست برائم حتى تبعث من يجردني ليعلم من
حضرك من الناس أني لست كما قال .
فأرسل إليه إنك لست صانعاً بانتفائك مما قال لبيد شيئاً ولا قادراً على رد ما زلت
به الألسن فالحق بأهلك ثم كتب إليه النعمان في جملة ما كتبه أبياتاً جواباً عن
أبيات كتبها إليه الربيع مشهورة : البسيط ( شمر برحلك عني حيث شئت ولا ** تكثر علي
ودع عنك الأقاويلا ) ( قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ** فما اعتذارك من شيء إذا
قيلا ) وقد جاءنا هذا الخبر من عدة طرق وفي كل زيادة على الآخر ولم نأت بجميع
الخبر على وجهه بل أسقطنا منه ما لم نحتج إليه . انتهى .
وقال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد : إن بني أم البنين وجماعة منهم أتوا
النعمان أول ما ملك في أسارى من بني عامر يشترونهم منه . إلى آخر ما أوردناه في
الشاهد الثامن والأربعين بعد المائتين في شرح قوله : قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً
. . . . . . . . . . . . البيت وساق هذا الخبر كالطوسي الخطيب التبريزي في شرح ذيل
المعلقات وأورد
____________________
الأبيات كثعلب إلا )
البيت الأول .
وقوله : يخبرك عن هذا خبير فاسمعه فإنه أسقطهما .
وقوله : في كل يوم هامتي مقزعه قال السيد المرتضى : القزع : تساقط بعض الشعر
والصوف وبقاء بعضه . يقال : كبش أقزع وناقة قزعاء .
وقوله : نحن بنو أم . . . . إلخ هذا البيت من شواهد سيبويه أورده في باب الاختصاص
الذي يجري على ما جرى عليه النداء . قال : وأما قول لبيد : نحن بنو أم البنين
الأربعة فلا ينشدونه إلا رفعاً لأنه لم يرد أن يجعلهم إذا افتخروا أن يعرفوا بأن
عدتهم أربعة ولكنه وخالفه المبرد وقال : النصب فيه جيد على وجهين : أحدهما : أن أم
البنين امرأة شريفة وبنوها الأربعة كلهم سيد فينصب بني على الفخر .
والوجه الآخر : على معنى أعني بلا مدح ولا ذم .
قال النحاس بعد ما نقله : هذا الذي ذهب إليه سيبويه صحيح ألا تراه قال : إنه لم
يرد أن يجعلهم . . . إلخ فهذا قول صحيح . فيجوز أن يكون بنو خبر نحن والأربعة نعت
كما قال سيبويه والمطعمون خبر بعد خبر .
____________________
ويجوز أن يكون بدلاً من
نحن والمطعمون خبر والأربعة صفة للبنين . فإذا رفع فإنما أفاد هذا النسب . فإذا
نصب فالخبر ما بعده ونصبه على الاختصاص . انتهى .
وكذا ذهب ثعلب في أماليه قال بعضهم ينصب بني وليس بالوجه لأنه ليس مدحاً يمدح نفسه
بأن عددهم أربعة .
والعرب تفعل هذا في بني ورهط ومعشر وآل . قال الفراء : كأنهم قالوا : نحن جميعاً
نقول ذلك . انتهى . )
وأم البنين : اسمها ليلى بنت عامر . قاله السهيلي في الروض .
وقال السيد المرتضى : هي بنت عمرو بن عامر بن ربيعة بن صعصعة وكانت تحت مالك بن
جعفر بن كلاب ولدت له عامر بن مالك ملاعب الأسنة . وطفيل ابن مالك فارس قرزل وهو
أبو عامر بن الطفيل وقرزل : فرس كانت له . وربيعة ابن مالك أبا لبيد وهو ربيع
المقترين .
ومعاوية بن مالك معود الحكماء . وإنما لقب بهذا لقوله : الوافر ( أعوذ مثلها
الحكماء بعدي ** إذا ما الحق في الأشياع نابا ) وولدت عبيدة الوضاح . فهؤلاء خمسة
. وقال لبيد : أربعة لأن الشعر لا يمكنه غير ذلك .
قال السهيلي : وسمي ملاعب الأسنة في ويوم سوبان وهو يوم كانت فيه وقعة في أيام
جبلة وهي أيام حرب كانت بين قيس وتميم . وجبلة : اسم لهضبة عالية .
وسبب تسميته ملاعب الأسنة أن أخاه الذي يقال له فارس قرزل وهو الطفيل كان أسلمه في
ذلك اليوم وفر فقال شاعر : الطويل ( فررت وأسلمت ابن أمك عامراً ** يلاعب أطراف
الوشيج المزعزع ) فسمي ملاعب الرماح وملاعب الأسنة . قال لبيد : (
____________________
وأبنا ملاعب الرماح **
ومدره الكتيبة الرداح ) انتهى .
وقال مغلطاي في الزهر الباسم : يخدش فيه ما ذكره سابقاً : أن عامر بن مالك ملاعب
الرماح ثم قال السهيلي : وسمي معاوية معود الحكماء بقوله : ( يعود مثلها الحكماء
بعدي ** إذا ما الأمر في الحدثان نابا ) وفي هذا الشعر : ( إذا سقط السماء بأرض
قوم ** رعيناه وإن كانوا غضابا ) وقول السيد المرتضى : إن لبيداً إنما قال أربعة
وهم خمسة لضرورة الشعر هذا قول الفراء وهو قول فارغ . والصواب كما قال ابن عصفور
في الضرائر : لم يقل إلا أربعة وهم خمسة على جهة الغلط . وإنما قال ذلك لأن أباه كان
مات وبقي أعمامه وهم أربعة .
وهو مسبوق بالسهيلي فإنه قال : وإنما قال الأربعة لأن أباه كان قد مات قبل ذلك لا
كما قال بعض الناس . وهو قول يعزى إلى الفراء أنه قال : إنما قال أربعة ولم يقل
خمسة من أجل القوافي . )
فيقال له : لا يجوز للشاعر أن يلحن لإقامة وزن الشعر فكيف بأن يكذب لإقامة الوزن .
وأعجب من هذا أنه استشهد به على تأويل فاسد تأوله في قوله سبحانه :
____________________
ولمن خاف مقام ربه جنتان
وقال : أراد جنة واحدة وجاء بلفظ التثنية لتتفق رؤوس الآي وكلاماً هذا معناه .
فصمي صمام ما أشنع هذا الكلام وأبعده عن العلم وفهم القرآن وأفل هيبة قائله من أن
يتبوأ مقعده من النار فحذار منه حذار .
ومما يدلك أنهم كانوا أربعة حين قال لبيد هذه المقالة أن في الخبر يتم لبيد وصغر
سنه وأن أعمامه الأربعة استصغروه أن يدخلوه معهم إلى النعمان . فبان بهذا أنهم
كانوا أربعة . ولو سكت الجاهل لقل الخلاف . انتهى .
وقوله : المطعمون الجفنة المدعدعة الجفنة بفتح الجيم : القصعة الكبيرة . قال أبو
حنيفة في كتاب النبات : ولا آنية أكبر من الجفنة .
والمدعدعة في قول لبيد هي المملوءة فهو بالدال المهملة . قال في الصحاح : دعدعت
الشيء : ملأته . وجفنة مدعدعة أي : مملوءة . وقوله : تحت الخيضعة بالخاء والضاد
المعجمتين .
قال السيد : ذكر الأصمعي أن لبيداً قال : تحت الخضعة يعني الجلبة والأصوات فغيرته
الرواة .
وقيل : إن الخيضعة أصوات وقع السيوف . والخيضعة أيضاً : البيضة التي تلبس على
الرأس .
والخيضعة : الغبار . والقول يحتمل كل ذلك . انتهى .
وقال أبو عبيد في الغريب المصنف : الخيضعة : البيضة . وأنشد هذا البيت . ورد عليه
علي بن حمزة في كتاب التنبيهات بأن هذا لم يقله أحد قط وإنما
____________________
اختلاف أهل العلم في رواية
الشعر فرواه قوم : تحت الخيضعة كما روي وفسروه بأن قالوا : الخيضعة : اختلاط
الأصوات في ورواه آخرون : تحت الخضعة وقالوا : هي السيوف . وقال أبو حاتم : إنما
قال لبيد تحت الخضعة فزادوا الياء فراراً من الزحاف . انتهى .
وقوله : بلاداً مسبعة البلاد : الأراضي . وأرض مسبعة بالفتح أي : ذات سباع .
والمعمعة قال صاحب الصحاح : هي صوت الحريق في القصب ونحوه وصوت الأبطال في الحرب .
والملمع : الذي يكون في جسده بقع تخالف سائر لونه . والأشجع : أصول الأصابع التي
تتصل بعصب ظاهر الكف . )
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأورد ابن الحباب السعدي في كتاب مساوي الخمر حكاية مناسبة رأينا إيرادها هنا قال
: ذكر بديع الزمان الهمذاني أنه لاعب أبا سعيد خليفة أبي علي الحسين بن أحمد
بجرجان الشطرنج على خاتمين قمره البديع عليهما فأبى أن يعطيه إياهما فذكر قصة
طويلة أفضت الحال فيها بينهما بعد مراسلات بهجاء من البديع وإغلاظ من الآخر إلى أن
اجتمع هو والبديع على مائدة صاحب أبي علي الحسين .
قال البديع : وكان هذا الرجل أقرع ولم يكن أحد يجسر أن يذكر بحضرته القرع ولا
القرعة ولا تقارع الأقران ولا الأقرع بن حابس ولا بني قريع ولا يقرأ سورة القارعة
. فلما وضعت المائدة (
____________________
مهلاً أبيت اللعن لا تأكل
معه ** استقذرته وتجنب قرعه ) ( فإنه ينحي عليها إصبعه ** يحك تلك الهامة الملمعه
) ( لا تدنه وذلك الرأس معه ** ومره إن أدنيته أن يضعه ) ( إن لم يزايل عن حماك
موضعه ** فارسم لفراشك ذا أن يصفعه ) قال : فأطرقت الجماعة وبقي الأستاذ داهشاً ثم
قال : يا مولاي إن لم يحتشمني ما يحتشم المائدة فقلت له : أطال الله بقاءك ما أسرع
ما أراك تتقذر وحياتك علي لأنشدنك فيه ألف بيت بعضها يلعن بعضاً إلا أن يعطيني
خاتميه عطاء صغرياً .
فقال الأستاذ : أمر الخاتمين أسهل فما السبب فقصصت القصة عليه فمال إليه وقال :
أشهد أنك ساقط الهمة أما علمت أنه إن قمر أو قمر أعطى الخطر ثم تناول الخاتمين
وناولنيهما وسألني السكوت عنه وعاهدني أن لا أزيد . انتهى .
ونشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد السبعمائة ) الخفيف على أن الأكثر مراعاة
الأصل في وقوع صفة مجرور رب جملة فعلية سواء كانت مذكورة أو مقدرة .
____________________
وقد اجتمعنا في هذا البيت
. أما الأول فهو جملة : هرقته صفة لرفد وهو القدح الكبير .
وإراقة الرفد كناية عن القتل والإماتة .
وأما الثاني فإن أسرى مجرور ب رب المذكورة بطريق التبعية ومن معشر متعلق بأسرى
وصفة أسرى محذوف تقديره : حصلت لي ولا جواب لرب في الموضعين لأن معنى الكلام تام
لا يفتقر إلى شيء سوى الصفة المقدرة . ورب اسم محلها الرفع على الابتداء لا خبر
لها للاستغناء بالصفة عن الخبر . هذا تقدير كلامه .
وأقول يؤخذ من تقديره حصلت لي أن تاء هرقته مضمومة . وليس كذلك فإن هذا الكلام
خطاب للأسود بن المنذر كما يأتي بيانه فكان ينبغي أن يقول : حصلت لك بالخطاب . وقد
أصاب فيما يأتي قريباً : وأسرى من معشر أقيال أي : أسرتهم .
وقوله : رفد الرفد : القدح الضخم وهو قول الأصمعي فيما نقله أبو حنيفة في كتاب
النبات عند ذكر أقسام الأواني وضبطه بكسر الراء وأنشد هذا البيت وقال : وكذلك
المرفد بكسر الميم .
وكذا نقل ابن الأنباري في شرح المفضليات عن أحمد بن عبيد تلميذ الأصمعي . قال :
وروى أحمد : رب رفد الرفد بالكسر وقال : هو القدح . والرفد بالفتح : العمل .
قال ابن الأنباري : وقال أبو عبيدة : الرفد بفتح الراء : القدح الضخم بما فيه من
القرى . والرفد بالكسر : المعونة . يقال : رفدته عند الأمير أي : أعنته . هرقته
أصله أرقته فالهاء بدل من الهمزة .
وقوله : هريق رفده كناية عن الموت هو أحد قولين . قال الزمخشري في أساس البلاغة :
هريق رفد فلان إذا قتل كما يقال : صفرت وطابه وكفئت جفنته .
وقال ابن الأنباري عند قول سلمة بن الخرشب الأنماري : الطويل (
____________________
هرقن بساحوق جفاناً كثيرة
** وغادرن أخرى من حقين وحازر ) )
قوله : هرقن يعني الخيل . وساحوق : موضع . أي : قتلت أصحاب الجفان ومن كان يقري
فيها ويحتلب فكأنها لما قتلت أصحابها هراقتها كما قال الأعشى : رب رفد هرقته ذلك
اليوم إلخ .
ومثله قول امرئ القيس : الوافر ( وأفلتهن علباء جريضاً ** ولو أدركنه صفر الوطاب )
وعلباء : رجل . والجريض : الذي قارب الموت فهو يجرض بريقه أي : يغص . والوطاب :
جمع وطب وهو سقاء اللبن .
وقوله : وغادرن أخرى أي : تركن جفاناً لم يرقنها . وروى : وأدين أخرى أي : جئن
بأسرى وغير ذلك . فاللفظ على اللبن والمعنى على القوم .
وقوله : من حقين وحازر أي : من سيد وشريف ودون ذلك . ومثله قول أبي زبيد : البسيط
. ( يا جفنة كنضيح الحوض قد كفئت ** بثني صفين يعلو فوقها القتر ) أي : قتل صاحبها
فذهبت وبطلت . ومثله قول الآخر : الوافر (
____________________
وماذا بالقليب قليب بدر **
من الشيزى تكلل بالسنام ) انتهى .
وكذا في شرح الفصيح للمرزوقي قال فيه : الصفر بالكسر : الخالي يقال : صفرت الآنية
تصفر صفراً فهي صفرة .
وقيل اشتقاق الصفر في الشهور منه لأن وطابهم كانت حينئذ تخلو من الألبان . ويقال
في الكناية عن الهلاك : صفرت وطابهم . وهذا كما يقال : أريق جفانهم .
انتهى .
وكذا نقل ابن المستوفي عن الأصمعي قال : يريد قتلت صاحب ذلك الرفد فبطل رفده .
والرفد : اللبن والعطية والمعونة . والرفد المصدر . ويقال للقدح الذي يقرى فيه رفد
. والرفد : المحلب الذي يحلب فيه . وأما القول الآخر فهو نهب الماشية وأخذها .
قال شارح ديوان الأعشى : معناه رب رجل كانت له إبل يحلبها فاستقتها فذهب ما كان
يحلبه في الرفد وهو القدح .
وقوله : وأسرى : هو جمع أسير كجرحى جمع جريح . والمعشر : الجماعة من الناس .
وأقيال : )
روي بالمثناة التحتية والفوقية .
أما الأول فهو جمع قيل بفتح القاف مخفف قيل كسيد وهو الملك مطلقاً وقيل : الملك من
ملوك حمير وقيل : هو دون الملك الأعلى سمي به لأنه يقول ما يشاء فينفذ . والمرأة
قيلة ويجمع على أقوال أيضاً حكاه ابن السكيت .
فالأول على اللفظ والثاني بالنظر إلى الاشتقاق من القول كما قالوا في جمع : ريح
أرياح وأرواح .
وقال الدماميني في الحاشية الهندية : وقال جماعة : لهذه الكلمة اشتقاقان : فمن قال
أقوال فهو من القول ومن جمعه على أقيال فهو من قولهم : تقيل أباه أي : اتبعه في
النسب كما تسمي تبعاً
____________________
قال هؤلاء : ولو كان من
القول لم يجز في جمعه إلا أقوال كما لا يقال في الميت المخفف إلا أموات ولا يقال
أميات على اللفظ .
قال ابن الشجري : ولا يلزم ذلك لأنهم قالوا من جفوت ومن الشوب : مجفو ومشوب على
الأصل ومجفي ومشيب على لفظ جفي وشيب . ولم يطردوا ذلك في نحو : مغزو ومدعو فلم
يقولوا : مغزي ومدعي وإن قالوا : غزي ودعي .
فكذلك قالوا : أقيال على لفظ قيل وإن لم يقولوا أميات . قلت : يرد هذا بأنه لا
يصار إلى خلاف الأصل ما وجد عنه مندوحه .
ولا شك أن جمع قيل المشتق من القول على أقيال رعاية للفظ الياء خارج عن الأصل فإذا
وجد مشتقاً عند جمعه كذلك من التقيل لم يخرج عن الأصل لكان قول أولئك الجماعة
بالاشتقاقين هو الراجح لا محالة . انتهى كلامه .
وأما الرواية بالمثناة الفوقية فهو جمع قتل بكسر القاف وسكون المثناة وله معنيان :
أحدهما : العدو المقاتل .
والثاني : الشبه والنظير أي : العدل في المقاتلة كما يقال : سب للعديل في المسابة
. يقال هما : قتلان أي : مثلان . وكل منهما قيل به هنا .
وأما أبو عبيدة فإنه قال : هم الأشباه . وأنشد في أنهم الأعداء لابن قيس الرقيات :
الخفيف ( واغترابي عن عامر بن لؤي ** في بلاد كثيرة الأقتال
____________________
) وأنشد أحمد في القتل
المثل والشبه في وصف بعيرين : الرجز ) ( من كل قتلين إذا ما ازدحما ** أدرك هذا غرب
هذا بعدما ) أغرب ذاك ذرعه فانصرما وقول الشارح المحقق : إن صفة أسرى محذوفة
تقديرها ما ذكره هذا مستغنى عنه يجعل من معشر متعلقاً بفعل صفة لأسرى والتقدير :
وأسرى حصلت من معشر أقيال كما قال الزمخشري في المفصل : هرقته ومن معشر : صفتان
لرفد وأسرى .
وكأن الشارح علق من معشر بأسرى لأنه بمعنى رب مأخوذين من معشر . ولا ضرورة إليه .
واعلم أن ما اختاره الشارح من جعل رب مبتدأ لا خبر له مخالف للبصريين والكوفيين .
أما البصريون فقد قالوا : إنها حرف لأنها لا تقبل شيئاً من خواص الاسم من الإخبار
عنه والإضافة وعود الضمير إليه ودخول أل والتنوين .
ولأنها لو كانت اسماً لجاز أن يتعدى إليها الفعل بنفسه إن كان متعدياً وبحرف الجر
إن كان لازماً فيقال : رب رجل أكرمت وبرب رجل مررت كما يقال : كم رجل أكرمت وبكم
رجل مررت إذ ليس في كلامهم اسم يتعدى إليه الفعل بنفسه إلا ويجوز أن يتعدى إليه
الفعل اللازم بواسطة حرف الجر . والشارح معترف بجميع هذا .
وأما الكوفيون فقد قالوا : إنها اسم مثل كم وقالوا : محلها رفع بالابتداء قولنا :
رب رجل كريم لقيته وفي نحو : ورب قتل عار . ومحلها نصب على المصدر في نحو : رب ضرب
ضربت مثل كم ضربة ضربت .
وعلى الظرف في نحو : رب يوم سرت مثل : كم يوم سرت . وعلى المفعول به في نحو : رب
رجل ضربت نحو : كم رجل ضربت .
____________________
والشارح تبع الكوفيين في
اسميتها وخالفهم في جعلها مبتدأ لا خبر له أبداً . وهذا لا يتمشى له في نحو : رب
ضربة ضربت ولا يطرد له في المكفوفة بما كقوله تعالى : ربما يود الذين كفروا كما
اعترف به وجعلها في هذا حرفاً . وجعلها نوعين بحسب الاستعمالين مع اتحاد المعنى
تعسف لا ضرورة تدعو إليه .
وما أورده من الإشكالين على حرفيتها يضمحلان بجعلها حرفاً زائداً لا يتعلق بشيء
وهو مذهب جماعة من النحويين كالباء ومن الزائدتين في نحو : كفى بالله شهيداً و هل
من خالق ولعل الجارة في لغة عقيل ولولا الجارة الضمير نحو : لولاي ولولاك ولولاه
وكاف التشبيه )
فهذه الحروف كلها لا تتعلق بشيء . ذكرها ابن هشام في الباب الثالث من المغني .
فيكون محل مجرور رب في نحو : رب رجل كريم عندي رفعاً على الابتداء ومنه : ورب قتل
عار وفي نحو : رب رجل كريم لقيت نصباً على المفعولية ولا يجوز أن يكون مبتدأ
والجملة بعده خبر والرابط محذوف أي : لقيته لأن في ذلك تهيئة العامل للعمل وقطعه
عنه .
ومثله : رب رفد هرقته البيت .
وكذلك : أسرى من معشر فإنه بتقدير : أسرتهم . وفي نحو : رب رجل كريم لقيته رفعاً
أو نصباً وفي نحو : رب ضرب ضربت نصباً على المفعول المطلق وفي نحو : رب يوم سرت
نصباً أيضاً على الظرف .
____________________
والدليل على ما ذكرنا أنه
يجوز مراعاة محل مجرورها كثيراً نحو : رب امرأة صالحة لقيت ورجلاً صالحاً وإن لم
يجز نحو : مررت بزيد وعمراً إلا قليلاً كما يأتي نقله من المغني .
لكنه قال في الكلام على أقسام العطف على المحل : إنه له ثلاثة شروط : أحدها :
إمكان ظهور ذلك المحل في الفصيح . وهذا الشرط مفقود هنا ولعله مستثنى منه .
وقد ذهب ابن هشام في الباب الثالث من المغني إلى أنها لا تتعلق بشيء فقال : الرابع
أي : مما استثني من قولهم : لا بد لحرف الجر من متعلق : رب في نحو : رب رجل صالح
لقيته أو لقيت لأن مجرورها مفعول في الثاني ومبتدأ في الأول أو مفعول على حد :
زيداً ضربته ويقدر الناصب بعد المجرور به لا قبل الجار لأن رب لها الصدر من بين
حروف الجر وإنما دخلت في المثلين لإفادة التكثير أو التقليل لا لتعدية عامل . هذا
قول الرماني وابن طاهر .
وقال الجمهور : هي فيهما حرف جر معد . فإن قالوا : إنها عدت العامل المذكور فخطأ
لأنه يتعدى بنفسه ولاستيفائه معموله في المثال الأول .
وإن قالوا : عدت محذوفاً تقديره حصل أو نحوه كما صرح به جماعة ففيه تقدير لما معنى
الكلام مستغن عنه ولم يلفظ به في وقت . انتهى .
وقال أيضاً في بحث رب من الباب الأول : وتنفرد رب بوجوب تصديرها ووجوب تنكير
مجرورها ونعته إن كان ظاهراً وإفراده وتذكيره وتمييزه بما يطابق المعنى إن كان
ضميراً وغلبة )
حذف معداها ومضيه وإعمالها محذوفة بعد الفاء كثيراً وبعد الواو أكثر وبعد بل
قليلاً وبدونهن أقل .
وبأنها زائدة في الإعراب دون المعنى فمحل مجرورها في نحو : رب رجل صالح عندي رفع
على الابتداء . وفي نحو : رب رجل صالح لقيت نصب على المفعولية . ونحو : رب رجل
صالح لقيته رفع أو نصب كما في زيداً لقيته .
ويجوز مراعاة محله كثيراً وإن لم يجز نحو : مررت بزيد وعمراً إلا قليلاً . قال :
الطويل (
____________________
وسن كسنيق سناء وسنماً **
ذعرت بمدلاج الهجير نهوض ) فعطف سنماً على محل سن . والمعنى : ذعرت بهذا الفرس
ثوراً وبقرة عظيمة . وسنيق : جبل بعينه . وسناء : ارتفاعاً . وزعم الزجاج وموافقوه
أن مجرورها لا يكون إلا في محل نصب .
والصواب ما قدمناه . انتهى .
وقوله : بوجوب تصدرها أي : في جملتها وإن كانت مبنية على ما قبلها . ألا ترى أن ما
حرف نفي له صدر الكلام وأنه يصح : إن زيداً ما قام . وكذلك رب تقع جملتها خبراً
لإن نحو : الطويل ( أماوي إني رب واحد أمه ** أخذت فلا قتل لدي ولا أسر ) وخبراً
لأن المخففة كقوله : الطويل ( تيقنت أن رب امرئ خيل خائناً ** أمين وخوان يخال
أمينا ) وجواباً للواو . هو غريب كقوله : الطويل ومنع أبو حيان وجوب تصدرها بهذه
الأبيات وغلط فيه .
وقوله : وغلبة حذف معداها أي متعلقها . وكان ينبغي أن لا يذكر هذا فإنه لا يناسب
ما اختاره من عدم التعلق بشيء .
وأجاب عنه الشمني بأن مراده به الفعل الذي مجرورها مفعوله .
____________________
وقوله : وبأنها زائدة في
الإعراب أورد عليه بأن هذا لا يختص برب بل لعل ولولا وأخواتهما كذلك . وهو حق .
ويمكن أن يجاب بأن رب تنفرد بجميع ما ذكر لا بكل واحد .
وقوله : لأن مجرورها مفعول في الثاني قيل فيه أمران : الأول : أن كونه مفعولاً لا
ينافي التعلق . )
والثاني : أن التعلق معناه أن المتعلق معمول بحسب المحل إلا أن يراد أنه مفعول
لفعل يتعدى بنفسه فلا حاجة لتعلق الحرف بمعنى تعديته للفعل بدليل مقابلته هذا
الكلام بقوله : وقال الجمهور هي فيهما حرف جر معد .
ثم إنه يمكن الجواب عن اعتراضه على الجمهور باختيار الشق الأول وتعدي الفعل بنفسه
لا يمنع تعديه بالحرف إذا قصد معنى لا يحصل بدون تعديه بذلك الحرف فإنه لو عدي هنا
بنفسه فات معنى التقليل أو التكثير .
ونظيره صحة قولك : أخذت من الدراهم فعديت الفعل بمن لإفادة معنى التبعيض وإن كان
يتعدى بنفسه . وأخذ مفعوله في المثال الثاني لا يمنع جعله معمولاً لمثله كما في :
زيداً ضربته .
واعترض الدماميني على الجمهور بأنه لو كان كما يقولون لم يعطف على محل مجرورها
رفعاً ونصباً في الفصيح وقد جاز كما تقول : رب رجل وأخاه أكرمت فيجعلون لها حكم
الزائد في الإعراب وإن لم تكن زائدة في المعنى . ولا يجوز في الفصيح : بزيد وأخاه
مررت .
والبيت الشاهد من قصيدة للأعشى ميمون أولها : ( ما بكاء الكبير بالأطلال ** وسؤالي
وما يرد سؤالي ) وتقدم شرحه مع أبيات منها قريباً .
ومدح بهذه القصيدة الأسود بن المنذر أخا النعمان بن المنذر اللخمي وكان قد أغار
على الحليفين أسد وذبيان ثم أغار على الطف فأصاب نعماً وأسرى
____________________
وسبى من بني سعد بن ضبيعة
بن قيس بن ثعلبة رهط الأعشى والأعشى غائب فلما جاء إليه وأنشده هذه القصيدة سأله
أن يهب له الأسرى ففعل .
وهذه أبيات منها يخاطب ناقته : ( لا تشكي إلي من ألم النس ** ع ولا من حفى ولا من
كلال ) ( فرع نبع يهتز في غصن المج ** د غزير الندى شديد المحال ) ( عنده البر
والتقى وأسا الش ** ق وحمل للمعضلات الثقال ) ( وصلات الأرحام قد علم النا ** س
وفك الأسى من الأغلال ) ( وهوان النفس الكريمة للذك ** ر إذا ما التقت صدور
العوالي ) ( ووفاء إذا أجرت فما عز ** ت حبال وصلتها بحبال ) ) ( وعطاء إذا سألت
إذا الع ** ذرة كانت عطية البخال ) ( أريحي صلت تظل له القو ** م ركوداً قيامهم
للهلال ) ( إن يعاقب يكن غراماً وإن يع ** ط جزيلاً فإنه لا يبالي ) ( يهب الجلة
الجراجر كالبس ** تان تحنو لدردق أطفال ) ( والبغايا يركضن أكسية الإض ** ريج
والشرعبي ذا الأذيال ) ( والمكاكيك والصحاف من الف ** ضة والضامرات تحت الرحال ) (
وجياداً كأنها قضب الشو ** حط يحملن شكة الأبطال ) ( ودروعاً من نسج داود في الحر
** ب وسوقاً يحملن فوق الجمال ) ( لم ينشرن للصديق ولكن ** لقتال العدو يوم القتال
____________________
) ( وشيوخ حربى بشط أريك
** ونساء كأنهن السعالي ) ( وشريكين في كثير من الما ** ل وكانا محالفي إقلال ) (
قسما الطارف التليد من الغن ** م فآبا كلاهما ذو مال ) ( لن يزالوا كذلكم ثم لا زل
** ت لهم خالداً خلود الجبال ) قوله : لا تشكي إلي من ألم النسع . . . . إلخ هو
بكسر النون وسكون المهملة واحده نسعة وهي التي تنسج عريضاً للتصدير . والحفى بفتح
المهملة والقصر : رقة الخف والحافر والقدم من كثرة المشي . والكلال : مصدر كل
البعير وغيره من المشي إذا أعيا .
والندى : الجود . والفعال بالفتح : الكرم والجميل . وغزير : كثير . والمحال بالكسر
: القوة كقوله تعالى : وهو شديد المحال . كذا في العباب .
وقوله : وأسا الشق قال شارح ديوانه : أي التئام اشق ومن ذلك سمي الآسي الذي يأسو
الجرح .
والمعضلة : المشكلة أي : وعنده حمل للأمور المعضلات وعنده فك الأسرى . والأغلال :
جمع غل بالضم وهو ما يوضع في عنق الأسير ونحوه من سلسلة حديد أو قد .
وقوله : وهوان أي : وعنده هوان أي : إهانة النفس في الحرب .
____________________
وقوله : ووفاء أي : وعنده
وفاء إذا أجرت أحداً من أن يظلمه ظالم فيفي بإجارة من أجار من أصدقائه فكيف لا يفي
هو بإجارة من يجيره . وهذا خطاب لكل من يصلح معه الخطاب . )
وكذا قوله : وعطاء إذا سألت أي : وعنده عطاء إذا سألته . والعذرة بالكسر : العذر
أي : هو يعطي ولا يعتذر كما أن البخلاء يعتذرون ولا يعطون . وعز من العزة وهي
القلة . والحبال مستعارة للعهود .
والأريحي : الذي يرتاح للعطاء . والصلت بالفتح قال شارحه : هو القاطع . والراكد :
القائم فيكون قيامهم مصدراً تشبيهياً .
والغرام بالفتح قال شارحه : هو الموجع .
وقوله : يهب الجلة بالكسر جمع جليل وهي الإبل المسنة . والجراجر بجيمين قال صاحب
الصحاح : هي العظام من الإبل . وأنشد هذا البيت . قال : وكذلك الجرجور .
وقال شارحه : ويروى : الجراجير جمع جرجور وهي الإبل الكثيرة . وتحنو : تعطف .
والدردق : الصغار من أولادها شبهها بالبستان .
وقوله : والبغايا أي : ويهب البغايا قال شارحه : البغايا هنا : أولاد الإماء .
والإضريج : الأخضر من الخز . وفي الصحاح : الشرعبي : ضرب من البرود .
وقوله : والمكاكيك أي : ويهب المكاكيك قال شارحه : المكاكيك : آنية يشرب فيها
الخمر .
والصحاف : القصاع . والضامرات : النجب من الإبل .
وقوله : وجياداً أي : ويهب خيلاً جياداً . والقضب : جمع قضيب وهو فرع الشجر شبهها
به لضمرها .
والشوحط : ضرب من شجر الجبال يتخذ منه القسي . قال شارحه : والشكة : السلاح الكامل
.
____________________
وقوله : ودروعاً أي : ويهب
دروعاً . قال شارحه : الوسوق : الأحمال جمع وسق . ويحملن : بالبناء للمفعول .
وكذلك قوله : لم ينشرن .
وقوله : رب رفد هرقته . . . إلخ خطاب مع الأسود بن المنذر يمدحه بكثرة قتله وكثرة
أسره .
وقوله : وشيوخ بالجر عطف على مدخول رب . وكذا قوله : ونساء يقدر في الثلاثة سبيتهم
.
وحربي : جمع حريب من حرب الرجل ماله أي : سلبه فهو محروب وحريب .
وقوله : وشريكين معطوف أيضاً على مجرور رب وهو في محل رفع على الابتداء . وفي كثير
متعلق به وجملة : قسماً من الفعل والفاعل خبره . )
وصرعى : جمع صريع أي : مقتول . والمحالفة : المصاحبة . والإقلال : الفقر والحاجة .
والطارف : المال المستحدث . والتليد : المال القديم وحرف العطف منه محذوف . والغنم
بالضم : الغنيمة .
وآبا : رجعا . يقول : كانا فقيرين فلما غزوا معك استغنيا قسما بينهما مال الغنيمة
الذي كان عند صاحبه طارفاً وتليداً .
قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : أريك بفتح الهمزة وكسر الراء المهلمة
وآخره كاف : موضع في ديار غني بن يعصر .
وقال أبو عبيدة : أريك في بلاد ذبيان قال : وهما أريكان : أريك الأسود وأريك
الأبيض .
والأريك : الجبل الصغير . قال : وبشط أريك قتل الأسود بني ذبيان وبني دودان وسبى
نساءهم .
قال الأعشى في مدح الأسود : وشيوخ صرعى بشط أريك . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
ويدلك على أن أريكاً جبل
مشرف قول جابر بن حني يصف ناقة : الطويل ( تصعد في بطحاء عرق كأنما ** ترقى إلى
أعلى أريك بسلم ) وقال الأخفش : إنما سمي أريكاً لأنه جبل كثير الأراك . انتهى .
وقال أيضاً في شرح أمالي القالي : هذا اليوم الذي ذكره في قوله : رب رفد هرقته ذلك
اليوم هو اليوم الذي أغار فيه الأسود بن المنذر على الطف فأصاب نعماً وأسرى من بني
سعد بن ضبيعة رهط الأعشى وذلك منصرفة من غزو الحليفين أسد وذبيان . وكان الأعشى
غائباً فلما قدم وجد الحي مباحاً فأنشده هذه القصيدة وسأله أن يهب له الأسرى ففعل
. انتهى .
والطف : موضع بناحية العراق من أرض الكوفة وهناك الموضع المعروف بكربلاء الذي قتل
فيه الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وقول البكري في معجمه : والصحيح أن الطف على فرسخين من البصرة غلط وخطأ .
وسبب غزو الحليفين هو ما ذكره الأصبهاني في الأغاني : أن الحارث بن ظالم المري لما
قتل خالد بن جعفر بن كلاب العامري وهو نازل عند النعمان بن المنذر سأل الأسود بن
المنذر عن أمر يبلغ من الحارث فقال عروة بن عتبة : إن له جارات ولا أراك تنال منه
شيئاً هو أغلظ عليه )
من أخذهن وأخذ أموالهن . ففعل فبلغ ذلك الحارث بن ظالم فخرج من الحيين فدخل في
غمار الناس حتى عرف موضع جاراته ومرعى إبلهن فجمعهن مع أموالهن وسار معهن حتى
استقذهن .
____________________
قال أبو عبيدة : ولحق
ببلاد قومه مستخفياً وكانت أخته سلمى بنت ظالم عند سنان بن أبي حارثة المري وكان
الأسود بن المنذر دفع إليها ابنه شرحبيل تكفله وكانت بنت كثير بن ربيعة من بني غنم
بن دودان امرأة سنان ترضعه وهي أم هرم .
فجاء الحارث بن ظالم وكان قد اندس بلاد غطفان فاستعار سرج سنان ولا يعلم سنان وهم
نزول بالشربة فأتى أخته سلمى فقال : يقول لك بعلك : ابعثي بابن الملك مع الحارث
حتى أستأمن له منه وهذا سرجه آية إليك .
فزينته ثم دفعته إلى الحارث فأتى بالغلام ناحية من الشربة فقتله وهرب فغزا الأسود
بني ذبيان وبني أسد إذ نقضوا العهد بشط أريك .
قال أبو عبيدة : هما أريكان : الأسود والأبيض ولا أدري بأيهما كانت الوقعة .
قال أبو عبيدة : إن سلمى امرأة سنان التي أخذ الحارث شرحبيل من عندها من بني أسد
فقتل فيهم قتلاً ذريعاً وسبى لدفع الأسدية ابنه إلى الحارث . وفي ذلك يقول الأعشى
يمدح الأسود : ( وشيوخ صرعى بشط أريك ** ونساء كأنهن السعالي ) ( من نواصي دودان
إذ نقضوا العه ** د وذبيان والهجان الغوالي ) ( رب رفد هرقته ذلك اليو ** م وأسرى
من معشر أقتال ) ( هؤلا ثم هؤلا كلاً احذي ** ت نعالاً محذوة بمثال ) قال : ووجدت
نعل شرحبيل عند أضاخ بضم الألف وبالمعجمتين وهي من الشربة من ديار بني محارب بن
خصفة بن قيس عيلان .
قال : فأحمى لهم الأسود الصفا بصحراء أضاخ وقال لهم : إني أحذيكم نعالاً . فأمشاهم
على ذلك الصفا فتساقط لحم أقدامهم .
____________________
فلما كان الإسلام هجا جوشن
الكندي بني محارب فعيرهم بتحريق الأسود أقدامهم فقال : الطويل ( على عهد كسى
نعلتكم ملوكنا ** صفاً من أضاخ حامياً يتهلب ) )
وصار ذلك مثلاً يتوعد به الشعراء .
ومثل ذلك أن ابن عباد الكلابي ورد على بني البوس من جديلة طيئ فسرقوا سهاماً له
فقال يحذرهم : الطويل ( بني البوس ردوا أسهمي إن أسهمي ** كنعل شرحبيل التي في
محارب ) وإنما فعل الأسود ذلك ببني محارب من أجل نعل شرحبيل التي وجدت عندهم .
انتهى .
وقوله : لن يزالوا بالياء التحتية بضمير الغيبة الراجع لمجموع من ذكر ممن قتلوا
وأسروا ونهبواً من الأعداء وممن غزا معه وقتل وغنم من الأولياء .
وقوله : لا زلت بالخطاب ولهم بضمير الغيبة . فظهر من هذا أن روايته في كتب النحو
لن تزالوا بالخطاب ولا زلت لكم بالتكلم والخطاب على خلاف الرواية الصحيحة .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . وهو شاعر جاهلي
.
وقد اشتبه على العيني فقال : قائل : ( رب رفد هرقته ذلك اليو ** م . . . . . . . .
. . . . . . . البيت
____________________
) أعشى همدان واسمه عبد
الرحمن بن عبد الرحمن .
ولا يخفى أن هذا الشاعر إسلامي في الدولة المروانية زمن الحجاج ولم يكن في زمن
الأسود بن المنذر .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد السبعمائة ) الكامل ( إن يقتلوك فإن قتلك
لم يكن ** عاراً عليك ورب قتل عار ) على أن الأخفش استدل به على اسمية رب فهي
مبتدأ وعار خبرها .
وأقول : مفهوم أنه يجوز على خلاف الأولى ما ذكره الأخفش وهو خلاف ما اختار فيها من
أنها مبتدأ لا خبر له فكان الظاهر على مذهبه أن لا يذكر الأولى .
ومن جعل رب حرف جر زائداً لا يتعلق بشيء قال : قتل المجرور في محل مبتدأ مرفوع
وعار خبره وما في رب من معنى التكثير هو المخصص لابتدائيه قتل .
____________________
واقتصر ابن عصفور في كتاب
الضرائر على أن الضمير الواقع مبتدأ محذوف والجملة صفة لقتل لكن جعل حذفه ضرورة .
وكذا خرجه ابن هشام في الأشياء التي تحتاج إلى الربط من الباب الرابع من المغني
إلا أنه لم يقيده بضرورة . وقيل فيه غير ذلك .
وروى أيضاً : وبعض قتل عار فلا شاهد فيه .
قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : قال أبو العباس المبرد : هكذا أنشده
النحويون ورب قتل عار على إضمار هو عار . وأنشدنيه المازني : وبعض قتل عار وهو
الوجه .
والبيت من قصيدة لثابت قطنة رثى بها يزيد بن المهلب بن أبي صفرة أورد منها أربعة
أبيات الشريف الحسيني في حماسته وبعده : ( شهدتك من يمن عصائب ضيعت ** ونأى الذين
بهم يصاب الثار ) ( حتى إذا شرق القنا وجعلتهم ** تحت الأسنة أسلموك وطاروا )
واقتصر الجاحظ في البيان والتبيين منها على الثلاثة أبيات وكذلك صاحب الأغاني وهي
: ( كل القبائل بايعوك على الذي ** تدعو إليه طائعين وساروا ) ( حتى إذا حمي الوغى
وجعلتهم ** نصب الأسنة أسلموك وطاروا ) إن يقتلوك فإن قتلك لم يكن . . . . . . . .
. . . . . . . . . . البيت والعصائب : جمع عصابة وهي الجماعة . وشرق القنا أي :
احمرت الرماح بالدم . وأسلموك : خذلوك ولم يعينوك . والأسنة : جمع سنان وهي حديدة
الرمح التي يطعن بها . ونصب الأسنة : )
قبالتها وجهتها . والوغى : الحرب . وحميها عبارة عن اشتدادها .
____________________
وقوله : إن يقتلوك فإن
قتلك أراد : إن يفتخروا بسبب قتلك أو إن يتبين أنهم قتلوك .
وقوله : كل القبائل بايعوك . . . إلخ يريد أنه خلع يزيد بن عبد الملك ورام الخلافة
لنفسه في البصرة فجهز يزيد بن عبد الملك لقتاله أخاه مسلمة بن عبد الملك وخرج يزيد
بن المهلب واستخلف على البصرة ولده معاوية بن يزيد وسار حتى نزل العقر ويه عقر
بابل عند الكوفة بالقرب من كربلاء ثم أقبل مسلمة بن عبد الملك حتى نزل على يزيد بن
المهلب فاصطفوا فشد أهل البصرة على أهل الشام فكشفوهم .
ثم إن أهل الشام كثروا عليهم فكشفوهم وما زال الحرب بينهم ثمانية أيام حتى كان يوم
الجمعة لأربع عشرة ليلة مضت من صفر سنة اثنتين ومائة وشرع أصحاب ابن المهلب
يتسللون من حوله وبقيت معه جماعة فقاتل حتى قتل هو وأخوه محمد بن المهلب وجماعة من
أهله .
وثابت قطنة هو كما في الأغاني ثابت بن كعب وقيل : ابن عبد الرحمن بن كعب ويكنى أبا
العلاء أخو بني أسد بن الحارث بن العتيك . وقيل : بل هو مولى لهم .
ولقب قطنة لأن سهماً أصاب إحدى عينيه فذهب بها في بعض حروب الترك فكان يحشوها قطنة
. وهو شاعر فارس شجاع من شعراء الدولة الأموية . وكان من أصحاب يزيد بن المهلب
وكان يوليه أعمالاً من أعمال الثغور فيحمد فيها مكانه لكفايته وشجاعته .
وكان ولي عملاً من أعمال خراسان فلما صعد المنبر يوم الجمعة رام الكلام فتعذر عليه
وحصر فقال : سيجعل الله بعد عسر يسراً وبعد عي بياناً وأنتم إلى أمير فعال أحوج
منكم إلى أمير قوال .
____________________
( وإلا أكن فيكم خطيباً
فإنني ** بسيفي إذا جد الوغى لخطيب ) فبلغت كلماته خالد بن صفوان وقيل الأحنف بن
قيس فقال : والله ما علا المنير أخطب منه في كلماته هذه ولو أن كلاماً استخفني
فأخرجني من بلادي إلى قائله استحساناً له لأخرجتني وروي عن دعبل بن علي قال : كان
يزيد بن المهلب تقدم إلى ثابت قطنة أن يصلي بالناس يوم الجمعة فلما صعد المنبر ولم
يطق الكلام قال حاجب الملقب بالفيل ابن ذبيان المازني : البسيط ( أبا العلاء لقد
لقيت معضلة ** يوم العروبة من كرب وتحنيق ) ( أما القران فلم تخلق لمحكمه ** ولم
تسدد من الدنيا لتوفيق ) )
____________________
( لما رمتك عيون الناس
هبتهم ** فكدت تشرق لما قمت بالريق ) ( تلوي اللسان وقد رمت الكلام به ** كما هوى
زلق من شاهق النيق ) ومن هجوه فيه : البسيط ( لا يعرف الناس منه غير قطنته ** وما
سواها من الأنساب مجهول ) قال دعبل : بلغني أن ثابت قطنة قال هذا البيت في نفسه
وخطر بباله يوماً فقال : لا يعرف الناس منه غير قطنته . . . . . . . . . . . . . .
. البيت وقال : هذا بيت سوف أهجى به . وأنشده جماعة من أصحابه وأهل الرواية وقال :
اشهدوا إني قائله . فقالوا : ويحك ما أردت أن تهجو نفسك به ولو بالغ عدوك ما زاد
على هذا .
فقال : لا بد من أن يقع على خاطر غيري فأكون قد سبقته إليه فلما هجاه به حاجب
الفيل استشهدهم على أنه هو قائله . فشهدوا على ذلك فقال يرد على حاجب : البسيط قال
أبو الفرج الأصبهاني : ونسخت من كتاب بخط المرهبي الكوفي في شعر ثابت قطنة قال :
لما ولي سعيد بن عبد العزيز بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن أمية خراسان بعد
عزل عبد الرحمن بن نعيم جلس يعرض الناس وعنده حميد الرؤاسي وعبادة المحاربي فلما
دعا بثابت قطنة تقدم وكان تام السلاح جواد الفرس فارساً من الفرسان فسأل عنه فقيل
: هذا ثابت قطنة وهو أحد فرسان الثغور .
فأمضاه وأجاز على اسمه فلما انصرف قال له حميد وعبادة : هذا أصلحك الله الذي يقول
: الكامل
____________________
( إنا لضرابون في حمس
الوغى ** رأس الخليفة إن أراد صدودا ) فقال سعيد : علي به . فردوه وهو يريد قتله
فقال له : أنت القائل : إنا لضرابون البيت فقال : نعم أنا القائل : ( إنا لضرابون
في حمس الوغى ** رأس المتوج إن أراد صدودا ) ( عن طاعة الرحمن أو خلفائه ** إن رام
إفساداً وكر عنودا ) فقال له سعيد : أولى لك لولا أنك خرجت منه لضربت عنقك .
وروى الأصبهاني بسنده إلى أبي عبيدة قال : كان ثابت قطنة قد جالس قوماً من الشراة
وقوماً )
من المرجئة كانوا يجتمعون فيتجادلون بخراسان فمال إلى قول المرجئة وأحبه فلما
اجتمعوا بعد ذلك أنشدهم قصيدة قالها في الإرجاء : البسيط ( يا هند إني أظن العيش
قد نفدا ** ولا أرى الأمر إلا مدبراً نكدا ) ( إني رهينة يوم لست سابقه ** إلا يكن
يومنا هذا فقد أفدا ) ( بايعت ربي بيعاً إن وفيت به ** جاورت قلبي كراماً جاوروا
أحدا ) يا هند فاستمعي لي إن سيرتنا أن نعبد الله لم نشرك به أحدا ( نرجي الأمور
إذا كانت مشبهة ** ونصدق القول فيمن جار أو عندا ) ( المسلمون على الإسلام كلهم **
والمشركون استووا في دينهم قددا )
____________________
( ولا أرى أن ذنباً بالغ
أحداً ** م الناس شركاً إذا ما وحدوا الصمدا ) ( لا نسفك الدم إلا أن يراد بنا **
سفك الدماء طريقاً واحداً جددا ) ( من يتق الله في الدنيا فإن له ** أجر التقي إذا
وفى الحساب غدا ) ( وما قضى الله من أمر فليس له ** رد وما يقض من شيء يكن رشدا )
( كل الخوارج مخط في مقالته ** ولو تعبد فيما قال واجتهدا ) ( وكان بينهما شغب وقد
شهدا ** شق العصا وبعين الله ما شهدا ) ( يجزى علي وعثمان بسعيهما ** ولست أدري
بحق أية وردا ) ( الله يعلم ماذا يحضران به ** وكل عبد سيلقى الله منفردا ) وأطال
الأصبهاني ترجمته وفيما أوردنا كفاية .
وأنشد بعده : يا رب هيجا هي خير من دعه وتقدم شرحه قبل بيتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد السبعمائة ) الخفيف
____________________
( ربما ضربة بسيف صقيل **
بين بصرى وطعنة نجلاء ) على أن ما المتصلة ب رب فيه زائدة لا كافة ولذا عملت رب
الجر في ضربةٍ .
ومن العجائب قول العيني : كلمة رب دخلت عليها ما الكافة ولكن ما كفتها عن العمل
هاهنا وقوله : بسيف متعلق بضربة . صقيل بمعنى مصقول أي : مجلو صفة لسيف .
وطعنة بالجر معطوف على ضربة . ونجلاء : بالنون والجيم . والنجلاء : الواسعة البينة
الاتساع من قولهم : عين نجلاء أي : واسعة . وهي صفة طعنة وجرها بالكسرة للضرورة .
وقوله : بين بصرى ظرف متعلق بضربة ويقدر مثله لطعنة . وبصرى بضم الموحدة وسكون
الصاد المهملة والقصر : بلد قرب الشام هي كرسي حوران كان يقوم فيها سوق للجاهلية .
وقد قدمها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين : مرة مع عمه أبي طالب وأخرى في
تجارة لسيدتنا خديجة أم المؤمنين رضي الله عنها .
وإنما صح إضافة بين إلى بصرى لاشتمالها على متعدد من الأمكنة أي : بين أماكن بصرى
ونواحيها .
وروى الشريف الحسيني في حماسته : دون بصرى . ودون هنا بمعنى قبل أو بمعنى خلف .
وقال العيني : بمعنى عند .
والبيت أول أبيات ست لعدي بن الرعلاء الغساني أوردها الأعلم والشريف =
10.
مجلد 10.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
= الحسيني في حماستيهما . وبعده : ( وغموس تضل فيها يد
الآ ** سي ويعيا طبيبها بالدواء ) ( فصبرنا النفوس للطعن حتى ** جرت الخيل بيننا
في الدماء ) ( ليس من مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء ) ( إنما الميت
من يعيش كئيباً ** كاسفاً باله قليل الرخاء ) وقوله : وغموس بالجر عطف على نجلاء
يقال : طعنة غموس : نافذة . وقوله : تضل فيها . . .
إلخ صفة كاشفة لغموس أشار به إلى سعة الطعنة وبعد غورها .
والآسي : المعالج الجراح . ويعيا من عيي بالأمر من باب تعب : أي : عجز عنه ولم
يهتد )
لوجهه . وفيه إشارة إلى إصابة الطعنة المقتل واليأس من علاجها .
وقوله : رفعوا راية الضراب . . . إلخ الراية : علم الجيش قيل : أصلها الهمز لكن
العرب آثرت تركه تخفيفاً . وقد أنكر هذا القول بأنه لم يسمع الهمز أصلاً . والضراب
: مصدر ضاربه بالسيف وغيره مضاربة وضراباً .
____________________
وقوله
: وأعلوا معطوف على رفعوا وإنما رفعوا الراية وأعلوها تأكيداً للضراب وتشديداً .
ويذودون : يطردون ويمنعون . والسامر : اسم جمع بمعنى السمار وهم القوم يتحدثون
بالليل .
والملحاء بفتح الميم والحاء المهملة : موضع يدفع فيه وادي ذي الحليفة . كذا قال
البكري في المعجم . وهذا المصراع هو معنى قوله : رفعوا راية الضراب .
وقوله : إنما الميت . . . إلخ الميت بسكون الياء : مخفف ميت بتشديدها . وفرق بعضهم
بأن الأول من وقع عليه الموت والثاني هو الحي الذي سيموت . وقد ضمن البحتري هذا
البيت في أمرد طلعت لحيته فقال : الخفيف ( يا قتيلاً باللحية السوداء ** آفة المرد
في خروج اللحاء ) ( شاهدي في ادعاء موتك بيت ** قاله شاعر من الشعراء ) ( ليس من
مات فاستراح بميت ** إنما الميت ميت الأحياء ) والكئيب : الحزين . وكاسفاً وقليلاً
منصوبان من كسفت حال الرجل من باب ضرب إذا ساءت .
والبال : الحال فاعل كاسفاً . والرخاء المعجمة : اسم من رخي العيش ورخو من بابي
تعب وقرب إذا اتسع فهو رخي على فعيل .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن الحال قد يتوقف معنى الكلام عليها كما
هنا فإن كئيباً حال ولا معنى لما قبله بدونه .
____________________
وهذه
الأبيات من قصيدة أوردا منها هذا المقدار .
وبعد السادس : ومنها : ( كم تركنا منكم بعين أباغ ** من ملوك وسوقة ألقاء ) ( فرقت
بينهم وبين نعيم ** ضربة في صفيحة نجلاء ) )
والعشار : جمع عشراء وهي الناقة . وأباغ بضم الهمزة وفتحها بعدها موحدة ثم غين :
موضع بطرف الشام . وهنالك أوقع الحارث الغساني الحراب وهو يدين لقيصر بالمنذر بن
المنذر وبعرب العراق وهم يدينون لكسرى وقتل المنذر يومئذ قتله شمر بن عمرو من بني
حنيفة .
كذا في المعجم للبكري .
وعدي بن الرعلاء شاعر جاهلي . والرعلاء اسم أمه اشتهر بها . وهي بفتح الراء وسكون
العين المهملتين بعدها لام فألف ممدودة . كذا ضبطه العسكري في كتاب التصحيف .
وأنشد بعده :
____________________
ماوي
يا ربتما غارة وتقدم شرحه قريباً وأنشد بعده الخفيف ( وربما الجامل المؤبل فيهم **
وعناجيج بينهن المهار ) على أن رب المكفوفة بما لا تدخل على الفعل عند سيبويه .
وهذا البيت شاذ عنده لدخول رب المكفوفة فيه على الجملة الاسمية فإن الجامل مبتدأ
والمؤبل صفته وفيهم هو الخبر وتكون رب كما قال أبو حيان من حروف الابتداء تدخل على
الجمل فعلية كانت أو اسمية للقصد إلى تقليل النسبة المفهومة من الجملة .
فإذا قلت : ربما قام زيد كأنك قللت النسبة المفهومة من قيام زيد . وكذلك إذا قلت :
ربما زيد شاعر قللت نسبة شعر زيد .
ونقل التبريزي عن المصنف في شرح هذه المقدمة أن رب المكفوفة نقلت من معنى التقليل
إلى معنى التحقيق كما نقلت قد الداخلة على المضارع في نحو قوله تعالى : قد يعلم ما
أنتم عليه من معنى التقليل إلى معنى التحقيق . ودخولها على الجملة الاسمية مذهب
المبرد والزمخشري وابن مالك .
____________________
قال
في التسهيل : وإن ولي ربما اسم مرفوع فهو مبتدأ بعده خبر لا خبر مبتدأ محذوف . وما
نكرة موصوفة خلافاً لأبي علي . انتهى .
فما عند أبي علي بمعنى شيء والجامل خبر مبتدأ محذوف أي : هو الجامل والجملة
الاسمية )
صفة له فيكون كقوله : يا رب هيجا هي خير من دعه وقد تطلق على ذوي العلم . حكى أبو
زيد : سبحان ما سخركن لنا .
وقال تعالى : والسماء وما بناها .
وقال الشعر : الخفيف ربما ظاعن بها ومقيم أي : رب إنسان هو ظاعن بقلبه مع أحبته
الذين ظعنوا عن بلدته . قال المرادي في شرح التسهيل : وخرجه ابن عصفور على تخريج
أبي علي . ونسبه بعضهم إلى الجمهور قال : وهو الصحيح إذ لو كان ما اختاره المصنف
لسمع من كلامهم : ربما زيد قائم بتصريح المبتدأ والخبر . ولم يسمع ذلك فيما أعلم .
انتهى .
أقول : قائل هذا أبو حيان .
فإن قلت : أليس الخبر وهو فيهم مصرحاً في البيت فكيف يدعي عدم السماع . قلت : له
أن يمنعه بجعله ظرفاً مستقراً على أنه حال من الضمير في المؤبل . لكن ما
____________________
ذهب
إليه فاسد لأنه صحح مذهب الفارسي بما أبطله لأنه هو القائل بأن المرفوع بعد ربما
خبر مبتدأ أي : ربما هو الجامل .
فذهب إلى أنه لو كان هذا التقدير صحيحاً لسمع من كلامهم : ربما زيد قائم لكن لم
يسمع .
فيلزم من هذا أن ما ذهب إليه الفارسي باطل من إضمار المبتدأ وإظهار الخبر إذ لو
جاز لسمع إظهار المبتدأ والخبر في كلامهم .
على أن نقول : قد يمكن أن يكون في البيت ما يوجب تصحيح ما يريد إبطاله بجعل الجامل
مبتدأ وفيهم الخبر والجملة صفة لما وهي بمعنى ناس ولا حذف لصحة المعني عليه فيكون
الجزءان قد سمعا بعد ربما . وهو عين ما ادعى عدم سماعه . والله أعلم .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها ثمانية وسبعون لأبي دواد الإيادي . وهذه أبيات من
أولها : ( أوحشت من سروب قومي تعار ** فأروم فشابة فالستار ) ( بعد ما كان سرب
قومي حيناً ** لهم الخيل كلها والبحار ) ( فإلى الدور فالمروراة منهم ** فجفير
فناعم فالديار ) ) ( فقد امست ديارهم بطن فلج ** ومصير لصيفهم تعشار ) ( ربما
الجامل المؤبل فيهم ** وعناجيج بينهن المهار ) ( وجواد جم الندى وضروب ** برقاق
الظبات فيه صعار ) ( ذاك دهر مضى فهل لدهور ** كن في سالف الزمان انكرار ) قال
شارح ديوانه يعقوب بن السكيت : أوحشت : أقفرت . وسروب : جمع سرب بفتح فسكون :
المال السارح من إبل وخيل وغنم وغيرها . وتعار وأروم وشابة والستار : مواضع والأول
بكسر المثناة
____________________
الفوقية
بعدها عين مهملة . والثاني بفتح الهمزة وضم الراء المهملة والثالث بالشين المعجمة
والباء الموحدة والرابع بكسر السين المهملة بعدها مثناة فوقية . والبحار : الريف .
قال الأصمعي : وكذلك البحور : الريف .
وقوله : فإلى الدور . . . إلخ قال شارحه : الدور : جوب تنجاب في الرمل . وما بعد
الدور فأسماء مواضع والأول بفتح الميم والراء والثاني بفتح الجيم وكسر الفاء
والثالث بالنون وكسر العين المهملة .
وفلج بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم . وكذلك تعشار بكسر المثناة الفوقية وسكون
العين المهملة بعدها شين معجمة . قال شارحه : أي : يحضرون في الصيف تعشاراً .
وقوله : ربما الجامل . . . إلخ قال شارحه : الجامل : الجماعة من الإبل لا واحد لها
من لفظها .
ويقال : إبل مؤبلة إذا كانت للقنية . والعناجيج : الخيل الطوال الأعناق واحدها
عنجوج . انتهى .
فالجامل : اسم جمع الجمل كالباقر اسم جمع البقر . وقال الجوهري : الجامل : القطيع
من الإبل مع رعاته وأربابه . والمؤبل : اسم مفعول من أبل الرجل تأبيلاً أي : اتخذ
الإبل واقتناها .
وضمير فيهم راجع لقومه إن كانت ما بمعنى شيء أو كافة ولما إن كنت بمعنى ناس
وعناجيج بالرفع معطوف على الجامل . وجملة : بينهن المهار صفة لعناجيج فالرابط
محذوف أي : فيهم .
والمهار : جمع مهر بكسر الميم في الجمع وضمها في المفرد وهو ولد الفرس والأنثى
مهرة .
قال أبو حيان في الارتشاف : ورواه بعضهم : ربما الجامل بجر الجامل على أنه مجرور
برب وما زائدة .
وقوله : ورجال من الأقارب . . . إلخ بانوا : بعدوا . وحذاق .
____________________
مرخم
حذاقة في غير النداء )
وهو بضم المهملة بعدها ذال معجمة وقاف . قال شارحه : حذاقة : بطن من إياد . ورجال
بالرفع معطوف على الجامل ومن الأقارب في موضع الصفة لرجل وبانوا خبر رجال ومن حذاق
متعلق ببانوا .
وقوله : وجواد . . . إلخ الجواد : الكريم وجم الندى كثير المعروف . والندى : السخاء
يقال : فلان أندى من فلان كفاً . والظبات : جمع ظبة وهي طرف السيف .
والصعار بفتح المهملتين : العظمة والخيلاء . كذا في شرحه . وجواد : معطوف على
الجامل وجم : نعته وضروب معطوف على جم وجملة : فيه صعار خبر جواد .
وقوله : انكرار قال شارحه : هو انفعال من كريكر .
وأبو دواد بدالين مهملتين أولاهما مضمومة بعدها واو : شاعر جاهلي . وقال ابن قتيبة
في كتاب الشعراء قال بعضهم : اسمه جارية بن الحجاج . وقال الأصمعي : هو حنظلة بن
الشرقي . وكان في عصر كعب بن مامة الإيادي الذي أثر بنصيبه من الماء رفيقه النمري
فمات عطشاً فضرب به المثل في الجود . ورثاه أبو داود بقصيدة منها : ( لا أعد
الإقتار عدماً ولكن ** فقد من قد رزئته الإعدام ) ( من رجال من الأقارب بادوا **
من حذاق هم الرؤوس العظام ) ( فيهم للملاينين أناة ** وعرام إذا يراد عرام ) (
فعلى إثرهم تساقط نفسي ** حسرات وذكرهم لي سقام )
____________________
وكان
أجارة بعض الملوك فأحسن إليه . فضرب المثل بجار أبي دواد .
قال طرفة : البسيط ( إني كفاني من أمر هممت به ** جار كجار الحذاقي الذي انتصفا )
وهو أحد نعات الخيل المجيدين . قال الأصمعي : هم ثلاثة : أبو دواد في الجاهلية
وطفيل والجعدي . قال : والعرب لا تروي شعر أبي دواد وعدي لأن ألفاظهما ليست بنجدية
.
ويقال : إنما أجاره الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وذلك أن قباذ سرح
جيشاً إلى إياد فيهم الحارث بن همام فاستجار به قوم من إياد فيهم أبو دواد فأجارهم
.
قال قيس بن زهير بن جذيمة : الوافر ( أطوف ما أطوف ثم آوي ** إلى جار كجار أبي
دواد ) )
وقيل للحطيئة : من أشعر الناس قال : الذي يقول : ( لا أعد الإقتار عدماً ولكن **
فقد من قد رزئته الإعدام )
____________________
الأبيات
: ويتمثل من شعره : المتقارب ( أكل امرئ تحسبين امرأً ** ونار تحرق بالليل نارا )
ومما سبق إليه فأخذ عنه قوله : المتقارب ( نرى جارنا آمناً وسطنا ** يروح بعقد
وثيق السبب ) ( إذا ما عقدنا له ذمة ** شددنا العناج وعقد الكرب ) ( قوم إذا عقدوا
عقداً لجارهم ** شدوا العناج وشدوا فوقه الكربا ) هذا ما أورده ابن قتيبة .
تم الجزء التاسع من خزانة الأدب
____________________
وأنشد
بعده ( الشاهد الواحد بعد الثمانمائة ) ( قتلنا ونال القتل منا وربما ** يكون على
القوم الكرام لنا الظفر ) على أن الربعي زعم أن المضارع بعد ربما بمعنى الماضي
وإنما أوله بكان لأن المعنى عليها إذ مراد الشاعر : إن فشا فينا القتل فكثيراً ما
قتلنا قوماً كراماً قبل فإن الحرب سجال : يوم لنا ويوم علينا . وبهذا يحسن
الاعتذار والتمدح لا بانه سيحصل لهم الظفر .
وقد تقع كان في موضع يكون كما قال الشاعر : ( فأدركت من قد كان قبلي ولم أدع **
لمن كان بعدي في القصائد مصعدا ) أراد : لمن يكون بعدي .
وقتلنا بالبناء للمفعول ونال منه بمعنى أوهنه وفت في عضده . ويقال : نال من عدوه
ينال من وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
الثاني بعد الثمانمائة ) ولقد يكون أخا دم وذبائح على أن المضارع مؤول بالماضي أي
: ولقد كان .
وإنما أوله بالماضي لأنه في مرثية ميت وهو إخبار عن شيء وقع ومضى لا إخبار عما
سيقع لأنه غير ممكن .
قال ابن الشجري في أماليه : قال أبو الفتح عثمان بن جني : قال لي أبو علي : سألت
يوماً أبا بكر بن السراج عن الأفعال يقع بعضها موقع بعض فقال : كان ينبغي للأفعال
كلها أن تكون مثالاً واحداً لأنها لمعنىً واحد ولكن خولف بين صيغها لاختلاف أحوال
الزمان فإذا اقترن بالفعل ما يدل عليه من لفظ أو حال جاز وقوع بعضها في موقع بعض .
قال أبو الفتح : وهذا الكلام من أبي بكر عال سديد . انتهى .
وهذا المصراع من قصيدة طويلة عدتها خمسون بيتاً لزياد الأعجم رثى بها المغيرة بن
المهلب بن أبي صفرة أوردها القالي في ذيل الأمالي وأورد أكثرها ابن خلكان في ترجمة
والده المهلب ( قل للقوافل والغزاة إذا غزوا ** والباكرين وللمجد الرائح )
____________________
(
إن الشجاعة والسماحة ضمنا ** قبراً بمرو على الطريق الواضح ) ( فإذا مررت بقبره
فاعقر به ** كوم الجلاد وكل طرف سابح ) ( وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون
أخا دم وذبائح ) ورويت هذه القصيدة للصلتان . فقال : هي لزياد الأعجم أنتهى
والقوافل جمع قافلة وهي الرفقة الراجعة من سفرها إلى وطنها .
والغزاة جمع غاز . وبكر بكوراً من باب قعد : أسرع في الذهاب من أول النهار . وأجد
في الأمر : اجتهد . والرائح : الراجع .
وقوله : إن الشجاعة والسماحة . . . الخ هذا مقول القول . وروى أيضاً : إن السماحة
والمروءة .
والسماحة : الجود والعطاء .
والمروءة : آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق
وجميل العادات . يقال : مرؤ الإنسان وهو مريء كقرب فهو قريب أي : ذو مروءة .
قال الجوهري : وقد تشدد فيقال مروة . وضمنا بالبناء للمفعول متعد لمفعولين أحدهما
: نائب )
الفاعل وهو ضمير التثنية والثاني : قبراً . وهو مقلوب
____________________
لأنه
يقال : ضمنت الشيء كذا أي : وفي القلب هنا نكتة كأنهما لكثرتهما لا يسعهما القبر
فهما اشتملا على القبر وأحاطا بجوانبه .
ومرو هنا هي مرو الشاهجان لا مرو الروذ وكلاهما في إقليم خراسان .
قال ابن خلكان : ومن سراة أولاد المهلب أبو فراس المغيرة وكان أبوه يقدمه في قتال
الخوارج وله معهم وقائع مشهورة أبان فيها عن نجدة وصرامة وكان مع أبيه في خراسان
واستنابه بمرو الشاهجان وتوفي في حياة أبيه سنة اثنتين وثمانين في رجب . انتهى .
ورأيت في هامش كتاب الشعراء لابن قتيبة قال الشريف : هذا الذي رثاه زياد هو المغيرة
بن أبي صفرة أخو المهلب بن أبي صفرة . انتهى والله أعلم .
وهذا البيت استشهد به النحويون على أنه أعاد الضمير إلى المؤنثين بضمير المذكرين .
وكان القياس أن يقول : ضمنتا وعده ابن عصفور من قبيل الضرورة .
وقد وجهه الفراء كما نقله السيد المرتضى في أماليه قال : ذهب إلى أن الشجاعة
والسماحة مصدران والعرب تقول : قصارة الثوب يعجبني لأن تأنيث المصادر يرجع إلى
الفعل وهو مذكر . انتهى .
وقوله : فإذا مررت بقبره . . . إلخ عقر البعير بالسيف عقراً من باب ضرب إذا ضرب
قوائمه والكوم بالضم : جمع كوماء بالفتح والمد وهي الناقة السمينة . والجلاد بكسر
الجيم : جمع جلدة بفتحها وسكون اللام وهي أدسم الإبل لبناً .
____________________
والطرف
بالكسر : الأصيل من الخيل . والسابح بالموحدة من سبح الفرس إذا جرى . يقال : فرس
سابح إذا جرى بقوة .
وقوله : انضح جوانب . . إلخ النضح بالحاء المهملة : الرش القليل وبالخاء المعجمة :
البل . يقال : نضح ثوبه إذا بله فهو أبلغ من الأول .
قال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : اختلف في سبب عقرهم الإبل على القبور
فقال قوم : إنما كانوا يفعلون ذلك مكافأة للميت على ما كان يعقر من الإبل في حياته
وينحره للأضياف .
واحتجوا بقول الشاعر : ) ( وانضح جوانب قبره بدمائها ** فلقد يكون أخا دم وذبائح )
وقد قال قوم : إنما كانوا يفعلون ذلك إعظاماً للميت كما كانوا يذبحون للأصنام .
وقيل : إنما كانوا يفعلونه لأن الإبل كانت تأكل عظام الموتى إذا بليت فكأنهم
يثأرون لهم فيها .
وقيل : إن الإبل أنفس أموالهم فكانوا يريدون بذلك أنها قد هانت عليهم لعظم المصيبة
. انتهى .
وزياد الأعجم هو من شعراء الدولة الأموية أبو أمامة زياد بن سلمى مولى عبد القيس
أحد بني عامر . كان ينزل إصطخر وكانت فيه لكنة فلذلك قيل له الأعجم . قاله ابن
قتيبة في كتاب الشعراء .
وقيل : كانت في لسانه عجمة ولأجلها قيل له : الأعجم .
وقيل : لأن مولده ومنشأه كان بفارس . وكان جزل الشعر وحسن الألفاظ
____________________
على
لكنته في لسانه .
روي أنه دعا غلاماً له ليرسله في حاجة فأبطأ عليه فلما جاءه قال له : منذ دأوتك إلى
أن قلت لبي ما كنت تصنأ يريد : منذ دعوتك إلى أن قلت لبيك ما كنت تصنع قال ابن
قتيبة : هم الفرزدق بهجاء عبد القيس فبعث إليه زياد : لا تعجل حتى أهدي لك هدية .
فانتظرها زماناً ثم بعث إليه : ( فما ترك الهاجون لي إن هجوته ** مصحاً أراه في
أديم الفرزدق ) ( وما تركوا عظماً يرى تحت لحمه ** لكاسره أبقوه للمتعرق ) ( سأكسر
ما أبقوه لي من عظامه ** وأنكت مخ الساق منه وأنتقي ) ( وإنا وما تهدي لنا إن
هجوتنا ** لكالبحر مهما يلق في البحر يغرق ) وفي الأغاني : كان المهلب بن أبي صفرة
بخراسان فخرج إليه زياد ومدحه فأمر له بجائزة وأقام أياماً فبينما هو يشرب مع حبيب
بن المهلب في دار
____________________
له
فيها دالية عليها حمامة إذ سجعت الحمامة فقال : ( تغني أنت في ذممي وعهدي ** وذمة
والدي من أن تضاري ) ( فإنك كلما غنيت صوتاً ** ذكرت أحبتي وذكرت داري ) ( وإما
يقتلوك طلبت ثأراً ** يباء به لأنك في جواري ) فقال حبيب : يا غلام هات القوس .
فقال له زياد : وما تصنع بها قال : أرمي جارتك هذه . )
قال : والله لئن رميتها لأستعدين الأمير عليك فأتي بالقوس فنزع لها سهماً فقتلها
فدخل زياد على المهلب فحدثه الحديث فقال المهلب : علي به .
فأتي بحبيب فقال : أعط أبا أمامة دية جارته ألف دينار . فقال : أطال الله بقاء
الأمير إنما كنت ألعب فقال : أعطه كما أمرتك . فأعطاه وشرب معه مرةً ثانية فعربد
عليه حبيب وقد كان مضطغناً عليه فشق قباء ديباج كان عليه فقال : ( لعمري ما
الديباج خرقت وحده ** ولكنما خرقت جلد المهلب ) فأحضر المهلب حبيباً وقال : صدق
زياد ما خرقت إلا جلدي تبعث علي هذا فيهجوني .
____________________
وفي
تاريخ الذهبي : أن زياداً شهد فتح إصطخر مع أبي موسى الأشعري وطال عمره وحدث عن
أبي موسى وعبد الله بن عمر وحدث عنه طاووس وغيره . وله وفادة على هشام بن عبد
الملك . وامتدح عبد الله بن جعفر بن أبي طالب .
وأنشد بعده : ربما تكره النفوس .
هو قطعة من بيت من قصيدة لأمية بن أبي الصلت وهو : ربما تكره النفوس من الأم ر له
فرجة كحل العقال وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السابع والثلاثين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث بعد الثمانمائة )
____________________
(
فذلك إن يلق المنية يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فربما ) على أنه قد يحذف
الفعل بعد ربما والتقدير : ربما يتوقع ذلك .
وقدره بعضهم : ربما أعانك أو هو معين لك . ( لحا الله صعلوكاً مناه وهمه ** من
الدهر أن يلقى لبوساً ومطعما ) ( ينام الضحى حتى إذا الليل جنه ** تبيت مسلوب
الفؤاد مورما ) ( ولكن صعلوكاً يساور همه ** ويمضي على الهيجاء ليثاً مصمما ) (
فذلك إن يلق الكريهة يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فربما ) قال صاحب الأغاني :
هذا الشعر يقال إنه لعروة بن الورد ويقال هو لحاتم الطائي وهو الصحيح .
أقول : أبيات عروة رائية وليست هذه له .
ولحاتم قصيدة على هذا الروي وليس فيها هذه الأبيات وفيها ما يشبهها وهو : ( وليل
بهيم قد تسربلت هوله ** إذا الليل بالنكس الضعيف تجهما ) ( ولن يكسب الصعلوك مالاً
ولا غنىً ** إذا هو لم يركب من الأمر معظما . )
____________________
(
يرى الخمص تعذيباً وإن يلق شبعةً ** يبت قلبه من قلة الهم مبهما ) ( ولكن صعلوكاً
يساور همه ** ويمضي على الأيام والدهر مقدما ) ( يرى رمحه ونبله ومجنه ** وذا شطب
لين المهزة مخذما ) ( وأحناء سرج قاتر ولجامه ** معداً لدى الهيجاء طرفاً مسوما )
ورأيت في ذيل أمالي القالي أبياتاً على هذا النمط غير معزوة لقائلها وهي :
____________________
(
لحا الله صعلوكاً إذا نال مذقةً ** توسد إحدى ساعديه فهوما ) ( مقيماً بدار الذل
غير مناكر ** إذا ضيم أغضى جفنه ثم برشما ) ( يلوذ بأذراء المشاريب طامعاً ** يرى
المنع والتعبيس من حيث يمما ) ( يضن بنفس كدر البؤس عيشها ** وجود بها لو صانها
كان أحزما ) ( فذاك الذي إن عاش عاش بذلة ** وإن مات لم يشهد له الناس مأتما ) (
بأرضك فاعرك جلد جنبك إنني ** رأيت غريب القوم لحماً موضما ) )
والله أعلم بقائل أبيات الشاهد .
وقوله : لحا الله صعلوكاً أي : قبحه الله وشوهه . والصعلوك بالضم : من لا يملك
شيئاً .
واللبوس : اللباس .
وجنه الليل : ستره . و مورماً : منتفخاً من الغم . يعني : قبح الله الصعلوك الذي
يكسل عن اكتساب ما يكفيه .
ويساور يواثب . والهم : أول العزم وهو إرادة الشيء بدون فعله . والهم : الحزن
أيضاً . والليث : الأسد . والمصمم : الماضي في عزمه لا يثنيه شيء وقوله : فذلك أي
: ذلك الصعلوك الذي يساور همه ولا يثنيه شيء عن الغزو للغنائم إن أدركته المنية
قبل بلوغ الأمنية لقيها محموداً إذ كان قد فعل ما وجب عليه وأقام عذره في مطلوبه
باستفراغ الوسع في السعي له .
وإن نال الغنى يومً فكثيراً ما يحمد أمره . فالمحذوف بعد رب هو ما ذكرناه بعد
كثيراً . وهو المناسب للمعنى لا ما تقدم .
وخبر قوله : ولكن صعلوكاً محذوف يقدر بعد تمام البيت أي : وهو المدعو له بالخير والممدوح
عند الناس بدليل ما قبله وهو لحا الله صعلوكاً إلخ فإنه ضد له وتكون الجملتان
يساور ويمضي صفتين لصعلوك ويكون قوله : فذلك إن يلق . . . . إلخ تفصيلاً لجهة
الدعاء والمدح .
فذلك مبتدأ والجملة الشرطية خبره .
وقال شراح الحماسة منهم المرزوقي : قوله : إن يلق المنية خبر قوله : ولكن صعلوكاً
كما لو انفرد عن قوله فذلك لكنه لما تراخى الخبر عن المخبر عنه وتباعد المقتضى عن
المقتضي له أتى بقوله : فذلك مشيراً به إلى الصعلوك فصار إن يلق خبراً عنه . وساغ
ذلك لأن المراد بالأول والثاني شيء واحد . هذا كلامه .
وقد وقع هذا البيت في شعر عروة بن الورد بقافية رائية كذا :
____________________
أي
: إن نال الغنى يوماً فما أحقه بذلك وما أليقه به .
وقد استشهد به شراح الألفية وغيرهم على أن أجدر صيغة تعجب حذف منه المتعجب منه
حذفاً غير قياسي إذ لا يجوز ذلك في أفعل به إلا إذا كان معطوفاً على آخر مذكور معه
المتعجب منه كقوله تعالى : أسمع بهم وأبصر أي : وأبصر بهم . وكذلك التقدير في
البيت . )
وأجدر به أي : بالاستغناء .
وقال العيني : به أي : بكونه حميداً . فتأمل .
وهذا البيت آخر قصيدة لعروة بن الورد اختار منها أبو تمام ثمانية أبيات أوردها في
الحماسة وهي : ( لحا الله صعلوكاً إذا جن ليله ** مصافي المشاش آلفاً كل مجزر ) (
يعد الغنى من نفسه كل ليلة ** أصاب قراها من صديق ميسر ) ( ينام عشاءً ثم يصبح
ناعساً ** يحت الحصا عن جنبه المتعفر ) ( يعين نساء الحي ما يستعنه ** ويمسي
طليحاً كالبعير المحسر ) ( ولكن صعلوكاً صفيحة وجهه ** كضوء شهاب القابس المتنور )
( مطلاً على أعدائه يزجرونه ** بساحتهم زجر المنيح المشهر )
____________________
(
فذلك إن يلق المنية يلقها ** حميداً وإن يستغن يوماً فأجدر ) وقوله : لحا الله
صعلوكاً . . . إلخ قال المرزوقي : لحا الله : كلمة تستعمل في السب وأصله اللوم
والقشر .
يقول : زاد الله فقراً لكل فقير يرضى من عيشه بأن يطوف في المجازر إذا أظلم الليل
ويلتقط المشاش منها كأنه يصافيها ويلازمها حباً .
وإنما قال هذا على وجه الإنكار أي : لم يقنع بذلك وماله يسف لمثل هذه المطامع
الخسيسة ولا يطلب معالي الأمور .
والمشاش : كل عظم هش دسم . ومصافي المشاش صفة لصعلوك والإضافة لفظية وسكن الياء من
مصافي ضرورة . والمجزر بفتح الزاء وكسرها : الموضع الذي ينحر فيه الإبل .
وقوله : يعد الغنى . . . إلخ يقول : لفرحه بما يناله من كسبه الدنيء يعد إذا أصاب
القرى لدى صديق ولدت له شياه فاتسع اللبن عنده الغنى حاصلاً عنده .
والميسر : ضد المجنب يقال : يسر الرجل ويسرت غنمه وجنب الرجل إذا قلت الحلوبة في
إبله وغنمه وأضاف القرى إلى ضمير الليلة مجازاً والمراد قراه فيها .
وقوله : ينام عشاء . . . إلخ يقول : ينام هذا الصعلوك لدناءة عمته واستيلاء الكسل
عليه ومكسبه قبل الليل لأن همته في راحته وحرصه على ما يسد جوعه به ثم يأتي الصباح
عليه )
وهو ناعس بعد غير قاض حاجته من الرقاد ولا ضجر في مضطجعه بالتساقط ينفي عن جنبه ما
لصق به من الحصا والتراب لأنه نام بلا وطاء .
____________________
وقوله
: يحت الحصا أي : يسقطه فهو قريب من يحط . والعفر : التراب .
وقوله : ولكن صعلوكاً . . . إلخ صفحة الرجل وصفيحته : عرض وجهه أي : ضوء صفحة وجهه
. يقول : ولكن فقيراً مشرق الوجه صافي اللون لا يتخشع لفقره فكأن ضوء وجهه ضوء
القابس أي : ذي القبس أي : النار . والمتنور : المستضيء بضوء النار .
وقوله : مطلاً على أعدائه . . . إلخ اطل على كذا : أوفى عليه . والمنيح : قدح لا
نصيب له .
يقول : ولكن الفقير المضيء الوجه الذي يسعى في غناه فيشرف على أعدائه غازياً وهم
يزجرونه وقتاً بعد وقت كما يزجر هذا القدح في خروجه ومع ذلك يرد .
قال التبريزي : كان الأيسار يقفون عند المفيض فيتكلم كل واحد منهم كأنه يخاطب قدحه
فيأمره بالفوز ويزجره من أن يخيب فذلك زجره .
وقوله : إذا بعدوا . . . إلخ يقول : لا يأمنونه وإن بعدوا بل يتشوفونه تشوف الغائب
المنتظر .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه :
____________________
(
وبلدة ليس بها أنيس ** إلا اليعافير وإلا العيس ) على أن الواو في وبلدة واو رب
وبلدة مجرورة برب المحذوفة .
وكذا أنشده سيبويه في باب ما يضمر فيه الفعل المستعمل إظهاره بعد حرف على أن بلدة
جر بإضمار رب . وجعل هذا تقويةً لإضمار الفعل مع قوته إذ جاز إضمار حرف الجر مع
ضعفه .
والواو عنده حرف عطف غير عوض من رب إلا أنها دالة عليها وأضمرت لذلك وهي عنده غير
عوض من رب .
وقد أوضحه ابن الأنباري في مسائل الخلاف وبينه دلائل : أن رب محذوفة وأن الجر بها
وأن الواو للعطف لا لأنها عوض عنها . وحقق أن رب حرف لا اسم خلافاً للكوفيين في
المسألتين .
وأنشده سيبويه ثانياً في باب ما يختار فيه النصب لأن الآخر ليس من نوع الأول من
أبواب الاستثناء قال : النصب لغة الحجاز وذلك ما فيها أحد إلا حماراً جاؤوا به على
معنى )
ولكن حماراً وكرهوا أن يبدلوا الآخر من الأول فيصير كأنه من نوعه .
وأما بنو تميم فيقولون : لا أحد فيها إلا حمار أرادوا : ليس فيها إلا حمار ولكنه
ذكر أحد توكيداً ليعلم أن ليس بها آدمي ثم أبدل فكأنه قيل : ليس فيها إلا حمار وإن
شئت جعلته إنسانها كقولك : ما لي عتاب إلا السيف . ومثل ذلك : ( وبلدة ليس بها
أنيس ** إلا اليعافير . . . . . . . البيت ) فاليعافير بدل من أنيس .
وكذا اورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : إلا قوم يونس شاهداً
____________________
للإبدال
في الاستثناء المنقطع على لغة تميم .
وكذا أورده صاحب الكشاف عند تفسير قوله تعالى : قل لا يعلم من في السموات والأرض
الغيب إلا الله .
والبلدة : القطعة من الأرض ومطلق الأرض . والأنيس : من يؤنس به من الناس .
واليعافير : جمع يعفور وهو ولد الظبية وولد البقرة الوحشية أيضاً .
وقال بعضهم : اليعفور : تيس الظباء . والعيس : إبل بيض يخالط بياضها شقرة جمع اعيس
والأنثى عيساء .
والبيتان من رجز لجران العود وأوله : ( قد ندع المنزل يا لميس ** يعتس فيه السبع
الجروس ) ( إلا اليعافير وإلا العيس ** وبقر ملمع كنوس ) كأنما هن الجواري الميس
هذا ما رأيته في ديوانه .
وقال شارحه محمد بن أبي القاسم بن عروة الأزدي : لميس : اسم امرأة . ويعتس : يطلب
بالليل ما يأكله . والجروس : بالجيم : فعول من الجرس وهو الصوت الخفي .
والذئب بدل من السبع . وذو لبد : الأسد . ولبد بكسر ففتح : جمع لبدة بكسر فسكون
وهو ما بين كتفيه من الوبر المتلبد . والهموس : الخفيف الوطء .
ويروى :
____________________
بسابساً
ليس بها أنيس )
بدل قوله : وبلدة ليس بها أنيس .
فلا شاهد فيه وهو جمع بسبس وهو القفر والملمع : الذي فيه لمع جمع لمعة وهي بياض
وسواد . والكنوس : المتخذة كناساً . والكناس : مأوى الظباء وبقر الوحش .
والجواري : جمع جارية . والميس : جمع ميساء من الميس وهو التبختر في المشي . ( دار
لليلى خلق لبيس ** ليس بها من أهلها أنيس ) ( إلا اليعافير وإلا العيس ** وبقر
ملمع كنوس ) والخلق : الداثر الدارس . واللبيس : المتلبس على من كان يعرفه فلا
يتحققه .
ورأيته أيضاً في كتاب أبيات المعاني بخط أبي الفتح بن جني وعليه إجازة بخط أبي علي
الفارسي كتبها لابن جني لما قرأه عليه وهو تأليف أبي عثمان الأشنانداني سعيد بن
هارون من رواية ابن دريد كذا : ( يا ليتني وأنت يا لميس ** في بلد ليس به أنيس )
إلا اليعافير وإلا العيس وعلى هاتين الروايتين لا شاهد فيه .
وجران العود لقب شاعر من بني ضنة بن نمير بن عامر بن صعصعة . والجران
____________________
بكسر
الجيم .
والعود بفتح العين المهملة وسكون الواو وآخره دال مهملة هو المسن من الإبل .
كتب ياقوت بن عبد الله الحموي في حاشية مختصر جمهرة ابن الكلبي : ومن بني ضنة بن
نمير : جران العود الشاعر واسمه عامر بن الحارث بن كلفة وقيل : كلدة .
وإنما سمي جران العود لقوله يخاطب امرأتيه : ( خذ حذراً يا ضرتي فإنني ** رأيت
جران العود قد كاد يصلح ) والجران : باطن العنق الذي يضعه البعير على الأرض إذا مد
عنقه لينام وكان يعمل منه الأسواط . فهو يهددهما . انتهى .
وكتب أيضاً في الهامش الداخل : ومن بني ضنة بن نمير جران العود صاحب الضرتين
اللتين ضربتاه وخنقتاه فعمد إلى جمل فنحره وسلخ جرانه وهو جلد ما بين اللبة إلى
اللحيين من باطن ثم مرنه وجعل منه سوطاً وهو يقول : )
عمدت لعود فالتحيت جرانه . . . . . . . . . . . . . البيتين فسمي جران العود وذهب
اسمه فلا يعرف . انتهى .
وضنة بكسر المعجمة وتشديد النون .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء كان جران العود والرحال خدنين
____________________
فتزوج
كل واحد منهما امرأتين فلقيا منهما مكروهاً فقال جران العود قصيدةً يذمهما ويشكو
منهما تقدم منها بيتان .
ومنها : ( ألا لا تغرن امرأ نوفلية ** على الرأس بعدي أو ترائب وضح ) ( ولا فاحم
يسقى الدهان كأنه ** أساود يزهيها لعينك أبطح ) وفيها يقول : ( جرت يوم جئنا
بالركاب نزفها ** عقاب وتشحاج من الطير متيح ) ( فأما العقاب فهي منا عقوبة **
وأما الغراب فالغريب المطوح ) ( هي الغول والسعلاة حلقي منهما ** مكدح ما بين
التراقي مجرح ) ( خذا نصف مالي واتركا لي نصفه ** وبينا بذم فالتعزب أروح ) وقال
الرحال : ( فلا بارك الرحمن في عود أهلها ** عشية زفوها ولا فيك من بكر )
____________________
(
ولا الزعفران حين مسحنها به ** ولا الحلي منها حين نيط إلى النحر ) ( ولا فرش
ظوهرن من كل جانب ** كأني أطوى فوقهن من الجمر ) ( فيل ليت أن الذئب خلل درعها **
وأن كان ذا ناب حديد وذا ظفر ) ( وجاؤوا بها قبل المحاق بليلة ** وكان محاقاً كله
ذلك الشهر ) ( لقد أصبح الرحال عنهن صادفاً ** إلى يوم يلقى الله في آخر العمر )
وقوله : وكان محاقاً كله ذلك الشهر فيه إقواء .
وروى : وكان محاقاً كله آخر الشهر ( الشاهد الخامس بعد الثمانمائة )
____________________
(
رسم دار وقفت في طلله ** كدت أقضي الحياة من جلله ) على أن رسماً مجرور برب
المحذوفة وهو شاذ في الشعر كما بينه الشارح المحقق .
وهو مطلع قصيدة لجميل بن معمر العذري . وبعده : ( موحشاً ما ترى به أحداً ** تنسج
الريح ترب معتدله ) إلى أن قال : ( يا خليلي إن أم جسير ** حين يدنو الضجيع من
غلله ) ( روضة ذات حنوة وخزامى ** جاد فيها الربيع من سبله ) ( بينما نحن بالأراك
معاً ** إذ بدا راكب على جمله ) ( فتأطرت ثم قلت لها ** أكرميه حييت في نزله ) (
فظللنا بنعمة واتكأنا ** وشربنا الحلال من قلله ) ( قد أصون الحديث دون أخ ** لا
أخاف الأذاة من قبله )
____________________
(
وخليل صافيت مرتضياً ** وخليلاً فارقت من ملله ) وقوله : رسم دار . . . إلخ الرسم
: ما كان لاصقاً بالأرض من آثار الدار كالرماد ونحوه .
والطلل : ما شخص من آثارها كالوتد والأثافي وإضافته إلى ضمير الرسم بتقدير مضاف أي
: طلل داره .
وقيل : ينبغي أن يراد بالرسم هنا الأثر أو بقيته لإضافة الطلل إلى ضميره إن لم
تجعل الإضافة لأدنى ملابسة .
وجملة : وقفت في محل الصفة لرسم . وكدت : جواب رب . وكاد من أفعال المقاربة .
وأقضي الحياة : خبر كاد من قضيت الشيء إذا أديته .
وروي : كدت أقضي الغداة من قضى فلان إذا مات . والغداة : ظرف بمعنى الضحوة .
وقال الدماميني : الغداة ما بين صلاة الفجر وطلوع الشمس .
وقوله : من جلله بفتح الجيم فيه تفسيران قال القالي في أماليه : قرأت على أبي بكر
بن دريد كتاب الأبواب للأصمعي فعلت ذلك من جلل كذا أي : من عظمه في صدري . وقال
أبو نصر : فعلت ذلك لجللك وجلالك أي : لعظمتك في صدري . )
وأنشد الأصمعي لجميل : رسم دار وقفت في طلله البيت ورويت من غير هذا الوجه تفسير
من جلله : من أجله ويقال : فعلت ذلك من أجلك وجلك وجلالك .
____________________
وأنشد
الأصمعي في جلالك : ( وغيد نشاوى من كرىً فوق شزب ** من الليل قد نبهتهم من جلالك
) أي : من أجلك . انتهى .
وقال ابن السكيت في كتاب الأضداد : يقال : فعلته من أجلك أي : من أجل عظمتك عندي .
قال جميل : كدت أقضي الغداة من جلله أي : من عظمته في صدري .
وبهذا المعنيين ذكره ابن هشام : في جلل من المغني .
وبما نقلنا يضمحل كلام الدماميني ليس بمعنى العظم حتى يفسر به وإنما هو بمعنى
العظيم . فلو قيل : أراد من عظم أمره في عيني لكان مناسباً . انتهى .
وأي فرق بين من عظمه ومن عظم أمره وهل هما إلا سواء .
وأعجب من هذا قول ابن الملا : وقع في الصحاح تفسير الجلل في البيت بالعظم لكن لا
على أنه ولا يخفى أن كليهما جامد والمادة متحدة ومعناهما متقارب والجلل يأتي بمعنى
الجليل والعظيم كما قال الشاعر في قتل قومه أخاه : ( فلئن عفوت لأعفون جللاً **
ولئن سطوت لأوهنن عظمي ) ويأتي بمعنى الحقير كقول امرئ القيس في قتل أبيه :
____________________
ألا
كل شيء سواه جلل قال القالي في أماليه هناك : الجلل : اليسير . وقال أبو نصر :
والجلل : العظيم أيضاً .
وكان الأصمعي قول : الجلل : الصغير اليسير ولا يقول الجلل للعظيم . والجلى : الأمر
العظيم .
وجل كل شيء : العظيم منه . انتهى . وأراد باليسير الحقير فإنه الغالب . وقوله :
موحشاً : حال وجملة : ما ترى به أحداً صفة كاشفة له . وقوله : تنسج الريح إلخ نسج
الريح : هبوبها من جهات )
شتى فتثير التراب فتغطي المعالم فلا تعرف . والترب بالضم : لغة في التراب وفيه حذف
مضاف أي : ترب مكانه المعتدل . وروى : تمسح الريح يقال : مسحته الريح إذا غيرته .
وأم جسير بضم الجيم . والغلل بفتح الغين المعجمة واللام : داء . وقال العيني : هو
الماء بين الأشجار .
وروضة خبر لإن . والحنوة بفتح المهملة وسكون النون : نبت طيب الريح .
____________________
والخزامى
بضم المعجمة والقصر هو خيري البر . والسبل بفتحتين : المطر . وقوله : بينما نحن
بالأراك قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : هو موضع بعرفة . روى مالك بن
علقمة عن أمه أن عائشة أم المؤمنين كانت تنزل بعرفة بنمرة ثم تحولت إلى الأراك
فالأراك من مواقف عرفة من ناحية الشام ونمرة من مواقف عرفة من ناحية اليمن انتهى .
وزعم العيني وتبعه السيوطي أن الأراك هنا هو الشجر المعروف .
وهذا البيت أورده ابن هشام في بحث ما الكافة من المغني . وقوله : فتأطرت أي : ملت
نحوه من تأطر الرمح إذا تثنى . والنزل بضمتين : طعام النزيل الذي يهيأ له .
وقوله : فظللنا بنعمة . . . إلخ واتكأنا مهموز قال ابن قتيبة : معناه طعمنا وأكلنا
من قوله تعالى : وأعتدت لهن متكأً أي : طعاماً .
وقال البيضاوي : وقيل : متكأً طعاماً أو مجلس طعام فإنهم كانوا يتكئون للطعام
والشراب تترفاً ولذلك نهي عنه . قال جميل : فظللنا بنعمة واتكأنا البيت وقيل :
المتكأ : طعام يحز حزاً . كان القاطع يتكئ عليه بالسكين . انتهى . والحلال على لفظ
ضد الحرام . قال العلامة الشيرازي : هو النبيذ وسماه حلالاً على وجه الخلاعة . ولا
يخفى أن حمله على ظاهره أنسب لأن قائله مؤمن وكان في عرفة في موسم الحج . ويبعد أن
يكون على ما قاله الشيرازي .
____________________
وأغرب
من هذا ما قاله الخضر الموصلي : ويجوز أن يكون تسميته بالحلال على رأي من يراه
حلالاً كالحنفية مثلاً . هذا كلامه ولا يخفى قبحه . والقلل : جمع قلة وهو إناء
للعرب كالجرة . وقوله : غير أني أشحت من وجله أشاح بالشين المعجمة والحاء المهملة
بمعنى حذر وخاف .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : )
وقاتم الأعماق خاوي المخترق على أن رب المحذوفة بعد الواو تجر في الشعر وقاتم :
مجرور بها .
قال الأصمعي : القتمة : الغبرة . وأسود قاتم . أي : رب بلد مغبر . والأعماق : جمع
عمق بفتح العين وضمها وهو ما بعد من أطراف المفاوز . والخاوي : الخالي .
____________________
والمخترق
بفتح الراء : مكان الاختراق من الخرق وهو الشق استعمل في قطع المفازة . تقول :
خرقت الأرض إذا قطعتها . ومخترق الرياح ونحوها : ممرها .
وهذا البيت من أرجوزة لرؤبة تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( فإن أهلك فذي حنق لظاه ** علي تكاد تلتهب التهابا ) على أن رب
المحذوفة بعد الفاء تعمل الجر في الشعر . وذي حنق مجرور بها .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : ذي مجرورة برب أي : فرب ذي حنق . وحذفها للعلم
بموضعها كقول الآخر : ورسم دار وقفت في طلله كدت أقضي الغداة من جلله أي : ورب رسم
دار . وهذا يدفع قول أبي العباس إن الواو في نحو قوله :
____________________
وبلد
تحسبه مكسوحاً هي التي جرت بلداً لما خلفت رب فكانت عوضاً .
ألا ترى أنه قال : فذي حنق أي : فرب ذي حنق . ولا يقول أحد إن الفاء عوض من رب .
وقول الآخر : بل بلد ملء الفجاج قتمه ولا يدعي أحد أن بل عوض من رب . فإذا صح هذا
وثبت في الفاء وبل كانت الواو محمولة على حكمه . انتهى .
ورواية بيت جميل بالخزم وهو زيادة الواو في أوله هنا رواية غير مشهورة وبها يخرج
البيت ولظاه : مبتدأ والهاء ضمير ذي حنق . وجملة : تكاد تلتهب خبره وكل منهما مسند
إلى ضمير مؤنث يعود إلى اللظى فهما بالمثناة الفوقية . وجوز الشمني بالمثناة
التحتية مسندين إلى ضمير مذكر يعود إلى اللظى لاكتسابه التذكير من الضمير المضاف
إليه . )
وعلي متعلق بتلتهب وقيل : متعلق بلظاه لما فيه من معنى الاشتداد والتوقد . وفيه
نظر لأن المعنى ليس عليه . واللظى : النار استعيرت للحنق بفتح المهملة والنون وهو
الغيظ وقيل : شدته . وهلك جاء من بابي ضرب وعلم .
وذو بمعنى صاحب والفاء معها للربط للجواب بالشرط فإنها تجب مع كل جواب لا يصح
وقوعه شرطاً والجواب هنا في الحقيقة هو جواب رب وهو
____________________
مخضت
أول البيت الآتي . وإنما قدمت رب عليه لأن لها الصدر ورب تحذف بعد الفاء مطلقاً
سواء كانت فاء الجواب كما هنا أو عاطفة كما في قول امرئ القيس : ( فمثلك حبلى قد طرقت
ومرضع ** فألهيتها عن ذي تمائم محول ) قال ابن هشام في بحث الفاء من المغني :
السادسة أي : من المسائل التي تكون فيها الفاء رابطة للجواب حيث لا يصح أن يقع
شرطاً : أن يقترن بحرف له الصدر كقوله : فإن أهلك فذي حنق البيت وقوله : لها الصدر
جواب سؤال مقدر وهو أن جواب الشرط في مثل هذا إنما هو جواب رب وهو فعل ماض يجب معه
ترك الفاء فكيف وجبت الفاء أجاب بأن رب لما وجب تقديمها على جوابها لصدارتها كانت
في الظاهر هي الواقعة جواب الشرط وهي لا تصح أن تقع شرطاً فوجب أن تقترن بالفاء
وفاء بمقتضى الضابط .
ولم أر أحداً من شراح المغني بين معنى قوله : وأنها لها الصدر .
وقال الإمام المرزوقي في شرح الحماسة وتبعه جميع شراحها : فإن قيل : إن الفاء في
جواب الجزاء إنما تجيء إذا خالف الجملة التي تكون جزاء الجملة التي
____________________
تكون
شرطاً بأن تكون مبتدأ وخبراً فكيف يكون تقديرهما بعد الفاء ها هنا قلت : يكون
التقدير : إن أهلك فالأمر والشأن : رب ذي حنق بهذه الصفة فعلت به كذا . فقوله : رب
ذي حنق خبر المبتدأ الذي أظهرناه . انتهى .
وفيه نظر من وجهين : الأول : لا ينحصر وجوب اقتران الفاء بالجملة الاسمية الواقعة
جواباً لشرط بل الحصر في ست صور كما بينها صاحب المغني .
الثاني : أن رب لها الصدر لا تقع خبر مبتدأ أبداً إذ العامل في الخبر هو المبتدأ
ولم يسمع )
تقدم عامل لها عليها . على أن قوله هذا لا يصح مع قوله : إن مخضت في البيت الآتي
جواب رب . فتأمل .
والعجب من السيوطي حيث تبعه في شرح أبيات المغني فقال : قوله : فذي حنق . . . إلخ
جواب الجزاء والتقدير : إن أهلك فالأمر والشأن رب ذي حنق .
وهذا البيت من أبيات ثمانية لربيعة بن مقروم الضبي أوردها أبو تمام في الحماسة وهي
: ( أخوك أخوك من يدنو وترجو ** مودته وإن دعي استجابا ) ( إذا حاربت حرب من تعادي
** وزاد سلاحه منك اقترابا ) ( وكنت إذا قريني جاذبته ** حبالي مات أو تبع الجذابا
) فإن أهلك فذي حنق . . . . . . . . . . البيت
____________________
(
مخضت بدلوه حتى تحسى ** ذنوب الشر ملأى أو قرابا ) ( بمثلي فاشهد النجوى وعالن **
بي الأعداء والقوم الغضابا ) ( فإن الموعدي يرون دوني ** أسود خفية الغلب الرقابا
) ( كأن على سواعدهن ورساً ** علا لون الأشاجع أو خضابا ) قوله : أخوك أخوك من
تدنو . . . إلخ قال المرزوقي : أخوك مبتدأ وكرر تأكيداً ومن يدنو والمعنى : مخالصك
في الأخوة والود من يقرب مكانه منك وتحسن شفقته منك وإن استغثت به لملمة أغاثك .
ويجوز أن يكون من يدنو أراد به قرب النصح والشفقة لا تقارب الدار .
وقال ابن جني : لك في أخوك الثاني أن تجعله بدلاً وأن تجعله خبر الأول إنما يستحق
أن تدعو الرجل أخاك إذا كان أخاك في الحقيقة كقولك : فعلته إذ الناس ناس ثم أبدل
منه من يدنو .
انتهى .
وقال التبريزي : ويجوز أن يجعل أخوك الثاني خبراً للأول كقوله : ( فقلت له تجنب كل
شيء ** يعاب عليك إن الحر حر ) وأما قول الآخر : ( سلام هي الدنيا قروض وإنما **
أخوك أخوك المرتجى في الشدائد ) فهو مثل الأول .
وإن شئت جعلت قوله : أخوك الثاني توكيداً وجعلت المرتجى خبراً . وإن شئت جعلت قوله
: )
أخوك خبراً والمرتجى نعتاً له ويكون قوله : من يدنو
____________________
من
البيان الداخل في صفته بدلاً من قوله : أخوك الثاني . فهذا المعنى يحتمل أن يكون
حثاً على إكرام الغريب إذا نصح وأخلص كما قال الأعشى : ويجوز أن يكون وصاة بالأخ
المناسب وإخباراً أن المؤاخي بغير النسب لا ينتفع بإخائه . هذا كلامه .
وقوله : إذا حاربت . . . إلخ قال المرزوقي : يجوز أن يكون هذا متصلاً بما قبله
والضمير في حارب لأخوك ومن تعادي مفعول حاربت .
والمعنى إذا حاربت من تعادي حارب هذا المؤاخي لك معك وزاد نصرته وعدته منك قرباً
ما دمت محارباً .
ويجوز أن يكون منقطعاً مما قبله ويكون مثلاً مضروباً فيقول : إذا كاشفت عدوك بعثه
ذلك على مكاشفتك وازداد عدته من الكيد وغيره منك دنواً . وإذا جاملته وداجيته بقي
على ما ينطوي عليه مساتراً لا مجاهراً .
وزاد التبريزي : أراد أنك إذا حاربت قرب منك ومعه سلاحه ليعينك . فذكر قرب السلاح
ليدل على أنه أراد إعانته على عدوه . ولو ذكر أنه يقرب نفسه منه لم يدل على ذلك
لأنه يجوز أن يقرب منه ولا يعينه .
وقوله : وكنت إذا قريني . . . إلخ يقول : إذا جاذبني قرين لي حبلاً بيني وبينه
فإما أن ينقطع دون شأوي إلى الجذاب فيهلك وإما أن يتبع صاغراً فينقاد .
____________________
وقوله
: فإن أهلك . . . إلخ هذا الكلام تسل عن العيش بعد قضاء حاجته وإدراك ثأره ولولا
ما تسهل له من ذلك لكان لا يسهل عليه انقطاع العمر ولو مات لمات بغصة .
فيقول : إن أمت فرب رجل ذي غيظ وغضب تكاد نار عداوته تتوقد توقداً أنا فعلت به كذا
.
وقوله : مخضت بدلوه . . . إله هذا جواب رب يقول : رب إنسان هكذا أنا حركت بدلوه
التي أدلاها في الأمر الذي خضنا فيه حتى ملأتها . وجعل الدلو كناية عن السبب الذي
جاذبه فيه والطمع الذي جرأه عليه .
قال : فتحسى دلو الشر مملوءة أو قريبة من الامتلاء . وقراب الملء : أن يقارب
الامتلاء . ويقال : )
قراب بكسر القاف وضمها .
والمعنى : جعلت شربه من الشر شرباً مروياً . فكأن المراد أن هذا المعادي الممتلئ
غيظاً لما ألقى دلوه يستقي بها الماء من بئري ملأتها شراً وجعلته سقياه .
والمخض بالخاء والضاد المعجمتين : تحريك الدلو في البئر ليمتلئ . والذنوب : الدلو
التي يكون لها ذنب وهي هنا مثل : يقول : جنيت عليه الشر حتى مله .
وقوله : بمثلي . . . هذا البيت وما بعده لم يقع في أصل المرزوقي حتى
____________________
يشرحه
أي : جاهر بمثلي وقوله : فإن الموعدي . . . قال التبريزي : يريد الغلب رقابا
وانتصابه على التشبيه بالضارب الرجل .
وقوله : كأن على سواعدهن أي : كأن على سواعد هذا الأسود الورس أو الخضاب من كثرة
ما افترست الفرائس . والأشاجع : عروق ظاهر الكف والواحد أشجع .
وربيعة بن مقروم : شاعر مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والأربعين بعد
الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد الثمانمائة ) بل بلد ذي صعد وأصباب على أن رب
المحذوفة بعد بل تعمل الجر في الشعر .
والبلد : القفر . والصعد بضمتين : جمع صعود بفتح أوله وهو المرتفع
____________________
من
الأرض خلاف الهبوط . والأصباب بفتح الهمزة : جمع صبب بفتحتين وهو ما انحدر من
الأرض .
والبيت من ارجوزة طويلة لرؤبة بن العجاج ذكر في أولها أن امرأته لامته على كبره
وعجزه لكثرة أسفاره ومدح نفسه بأشياء : منها انه لا يسفه على الناس ولا يحقد عليهم
. ( سيعرفون الحق عند الميجاب ** دعهم سيلقون أعد الحساب ) ( والأمر يقضى في الشقا
للخياب ** بل بلد ذي صعد وأصباب ) ( قطعت أخشاه بعسف جواب ** بكل وجناء وناج هرجاب
) والميجاب بالجيم : الميعاد الذي وجب لهم . وأعد : أفعل تفضيل . والحساب : جمع
حاسب .
والشقاء : خلاف السعادة . والخياب بالضم : جمع خائب وهو الخاسر .
وقوله : بل بلد . . . إلخ بل هنا : للإضراب والانتقال وهذا يشبه الاقتضاب وهو
انتقال من كلام )
إلى آخر من غير مناسبة وليست بل هنا عاطفة كما زعم الشارح .
ثم وصف البلد بصعوبة المسالك وكثرة المهاوي والمهالك في تسعة أبيات إلى أن قال :
قطعت أخشاه . . . إلخ من قطع الطريق بمعنى سلكه وتجاوزه وهو جواب رب .
وأخشاه : أهوله وأخوفه وهو أفعل تفضيل والضمير راجع للبلد والباء في قوله : بعسف
متعلقة بقطعت وهو مضاف إلى جواب .
والعسف : سلوك الأرض على غير الجادة . والجواب : مبالغة جائب
____________________
من
جاب الأرض يجوبها جوباً إذا قطعها أراد به البعير .
وقوله : بكل وجناء . . . إلخ بدل من قوله بعسف جواب . والوجناء : الناقة الشديدة .
وناج : اسم فاعل من نجا ينجو نجاء إذا أسرع . والناجية : الناقة السريعة تنجو بمن
ركبها والبعير ناج . والهرجاب بالكسر والجيم : البعير الطويل الضخم وكذلك الناقة .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد الثمانمائة ) ( وليلة نحس يصطلي القوس ربها **
وأقطعه اللاتي بها يتنبل ) على أن واو رب إن كانت في أثناء القصيدة فهي للعطف على
سابق كهذا البيت فإنه من أواخر قصيدة لامية للشنفرى والواو فيه للعطف والمعطوف
عليه متقدم عليه بثلاثة وثلاثين بيتاً .
وينبغي أولاً أن نبين المعطوف قبل المعطوف عليه فنقول : إن ليلة مجرورة برب
المحذوفة وهي حرف زائد صناعةً عند الجمهور لا يتعلق بشيء وجوابها أول البيت بعدها
وهو : ( دعست على غطش وبغش وصحبتي ** سعار وإرزيز ووجر وأفكل )
____________________
(
فأيمت نسواناً وأيتمت إلدةً ** وعدت كما ابدأت والليل أليل ) فدعست هو : جواب رب .
قال الخطيب التبريزي في شرحه : دعست : دفعت دفعاً بإسراع وعجلة .
يقول : سريت على هذه الحال فليلة مجرورة لفظاً منصوبة محلاً على الظرفية لدعست أي
: سريت ليالي كثيرة من مثل هذه الليلة . ولا يجوز أن يكون مفعولاً به لدعست لأنه
فعل لازم . )
وهذه الصورة خارجة عن قول ابن هشام في المغني إن مجرور رب في نحو : رب رجل صالح
عندي رفع على الابتداء وفي نحو : رب رجل صالح لقيت نصب على المفعولية وفي نحو : رب
رجل صالح لقيته رفع أو نصب كما في : هذا لقيته . انتهى .
فليلة ظرف لدعست وقدمت عليه لأنها جرت برب الواجبة التصدر . فالمعطوف بالواو هو
دعست لا ليلة لما بينا . وجملة : دعست إحدى الجمل المعطوفات والمعطوف عليه بعد
عشرين بيتاً من أول القصيدة وهو : ( أديم مطال الجوع حتى أميته ** وأضرب عنه الذكر
صفحاً فأذهل ) وأديم هو المعطوف عليه عدة جمل من أحوال افتخر بها الشاعر ساقها
مساق المباهاة بها والتمدح .
أولها : افتخاره بصبره على الجوع وهو خمسة أبيات .
____________________
وأغدو
على القوت الزهيد ثالثها : افتخاره بسبقه القطا إلى المنهل وأنها لا تشرب إلا سؤره
وهو ستة أبيات أولها : وتشرب أسآري القطا رابعها : افتخاره بأنه إذا نام لا فراش
له إلا الأرض ولا وسادة له إلا ذراعه مع استطراد شيء آخر وهو تسعة أبيات أولها :
وآلف وجه الأرض عند افتراشها خامسها : افتخاره بأنه لا يجزع من فقر ولا يبطر من
غنى وهو ثلاثة أبيات وهي : ( وأعدم أحياناً وأغنى وإنما ** ينال الغنى ذو البعدة
المتبذل )
____________________
(
فلا جزع من خلة متكشف ** ولا مرح تحت الغنى أتخيل ) ( ولا تزدهي الأجهال حلمي ولا
أرى ** سؤولاً بأعقاب الأقاويل أنمل ) وليلة نحس يصطلي القوس ربها فإن قلت : لم
عطفت على الأبعد ولم تعطفه على الأقرب قلت : الأصل في المعطوفات أن تعطف على الأول
ما لم يكن مانع كأن يكون العاطف حرفاً مرتباً كالفاء وثم وحينئذ يكون العطف على
الأقرب .
فإن قلت : إن جملة أديم استئنافية لا محل لها من الإعراب فأي تشريك للعاطف بالعطف
)
عليها إذ التابع كل ثان أعرب بإعراب سابقة من جهة واحدة قلت : هذا فيما إذا كان
للمعطوف عليه إعراب وأما إذا لم يكن له إعراب فهو ما قاله السيد في شرح المفتاح :
فائدة العطف بالواو فيما لا محل له من الإعراب هي التشريك والجمع بين مضموني
الجملتين في التحقق بحسب نفس الأمر .
فإن قلت : اجتماعهما واشتراكهما في ذلك التحقق معلوم بدون الواو لدلالة الجملتين
على تحقق مضمونهما في الواقع فيجتمعان فيه قطعاً . قلت : ما ذكرته إنما هو بدلالة
عقلية ربما لم تكن مقصودة فبالعطف يتعين القصد إلى بيان الاجتماع وتتقوى الدلالة
العقلية بالوضعية ويندفع أيضاً توهم الإضراب عن الجملة الأولى إلى الثانية . انتهى
.
وقال في الهامش أيضاً ما نصه : يعني انك إذا قلت : زيد قائم وعمرو قاعد فقد دل
الجملتان على تحقق مدلوليهما في الواقع فيفهم اجتماعهما فيه بلا حاجة إلى الواو .
فأجاب بأن هذه دلالة عقلية يجوز أن تكون مقصودة وأن لا تكون فإذا أتي بالواو تعين
القصد وتأيدت الدلالة فاندفع توهم الإضراب فيما يحتمله فكأنه قيل : اجتمع قيام زيد
وقعود عمرو في الواقع .
ومنهم من جعل دفع توهم الإضراب هو المقصود الأصلي من العطف في هذا الباب .
____________________
وليس
بذاك . فإذا قيل : اكس زيداً وأطعمه كان المعنى : اجمع بينهما . فتأمل . انتهى .
وقد خلا المغني وشروحه من هذه الفائدة ومحلها هي الجملة التابعة لجملة لا محل لها
من الإعراب .
وجوز الزمخشري وغيره في شرح هذه القصيدة أن يكون جملة أديم خبر مبتدأ محذوف أي :
أنا أديم وعليه فلا إشكال .
وقد شرحنا ثمانية أبيات من أول هذه القصيدة في الشاهد السادس والعشرين بعد
المائتين وقد شرح أربعة أبيات أخر بعدها في الشاهد السادس والعشرين بعد السبعمائة
.
وقد شرح البيت المعطوف عليه مع خمسة أبيات في الشاهد الخامس والعشرين بعد
السبعمائة .
وبيت وتشرب أسآري القطا قد شرح مع خمسة أبيات في الشاهد السابع والخمسين بعد
الخمسمائة . ولنشرح هنا هذه الأبيات الستة فنقول : قوله : وأعدم أحياناً . . . إلخ
أعدم الرجل يعدم إعداماً إذا افتقر فهو معدم وعديم . وأغنى )
من غني من المال غنىً من باب رضي .
قال الزمخشري : أعدم الرجل بالألف إذا صار ذا عدم كأجرب الرجل إذا صار ذا إبل جربى
والبعدة قال الزمخشري : بضم الباء وكسرها : اسم للبعد يقال : بيننا بعدة من الأرض
والقرابة .
والمتبذل : الذي لا يصون نفسه .
____________________
وقوله
: فلا جزع . . . إلخ هذا تفريع مما قبله وجزع خبر مبتدأ أي : أنا جزع . والخلة
بفتح المعجمة : اختلال الحال بالفقر . والمتكشف : الذي يظهر فقره . والمرح بكسر الراء
: الشديد الفرح . والتخيل : التكبر . وتحت : ظرف لمرح ويجوز أن يكون لأتخيل .
وقوله : ولا تزدهي الأجهال . . . إلخ الازدهاء : الاستخفاف . والأجهال : جمع جهل
وهو قليل والكثير جهول .
والحلم بالكسر : الأناة والوقار . ولا أرى بالبناء للمفعول من رؤية العين .
وسؤولاً : حال أي : ذو سؤال وجملة : أنمل صفة لسؤول والباء متعلقة بأنمل . يقال :
أنمل الرجل إنمالاً إذا نم ونقل الكلام على وجه الإفساد . والنملة بالضم : النميمة
.
وقوله : وليلة نحس . . . إلخ النحس : ضد السعد . قال الخطيب التبريزي والزمخشري :
أراد به البرد . وجملة : يصطلي القوس ربها في موضع الصفة لليلة وربها أي : صاحبها
فاعل مؤخر .
والقوس منصوب بنزع الخافض لأنه يقال اصطليت بالنار فهو على حذف مضاف أيضاً أي :
يصطلي بنار القوس .
والقوس مؤنث سماعي ولذا أعاد ضميرها مؤنثاً . والاصطلاء هو التدفؤ بالنار وهو أن
يجلس البردان قريباً منها لتصل حرارتها إليه . وأقطعه بالنصب عطفاً على القوس وهو
جمع قطع بكسر القاف وسكون الطاء وهو سهم يكون نصله قصيراً عريضاً .
ويتنبل : يرمي بها . وإذا اصطلى الأعرابي بقوسه وسهامه لشدة البرد فليس وراء ذلك
في الشدة شيء .
____________________
وقوله
: دعست على غطش . . . إلخ الغطش بفتح المعجمة وسكون المهملة هو الظلمة من قوله
تعالى : وأغطش ليلها أي : أظلمه .
والبغش بفتح الموحدة وسكون المعجمة : المطر الخفيف . وجملة : وصحبتي سعار . . .
إلخ حال من التاء في دعست .
والصحبة بالضم : مصدر صحبه يصحبه وأراد به الصاحب . والسعار بضم السين المهملة )
بعدها عين مهملة وهو حر يجده الإنسان في جوفه من شدة الجوع والبرد . والإرزيز بكسر
الهمزة وسكون المهملة قال صاحب الصحاح : هي الرعدة .
وقال التبريزي : إرزيز إفعيل يكون من شيئين من الارتزاز أي : الثبوت يريد أن يجمد
في مكانه من شدة البرد ومن الرز وهو صوت أحشائه من الشدة .
والوجر بفتح وسكون الجيم بعدها راء مهملة قال التبريزي : هو الخوف ومنه يقال : أنا
أوجر والأفكل : أفعل قال صاحب الصحاح : هي الرعدة ولا يبنى منه فعل يقال : أخذه
أفكل إذا ارتعد من برد أو خوف وهو منصرف فإن سميت به رجلاً لم تصرفه في المعرفة
للتعريف ووزن الفعل وصرفته في النكرة . وعلى هذا فمعنى الإرزيز ما ذكره التبريزي .
قال الزمخشري : وموضع ليلة نحس نصب بدعست أي : دعست في ليلة نحس . ويجوز أن يكون
دعست صفة لليلة والعائد محذوف أي : دعست فيها ويكون جواب رب محذوفاً وهو تعمدت أو
قصدت . وعلى غطش موضعه حال أي : داخلاً في ظلمة ومطر .
وقوله : فأيمت نسواناً هو معطوف على دعست أي : جعلت النساء أيامى جمع أيم كسيد وهي
التي لا زوج لها . وأيتمت إلدة أي : جعلت الأولاد أيتاماً . يريد أنه قتل أزواج
النساء وآباء الأولاد . إلدة بكسر الهمزة أصله ولدة جمع وليد وهو الصبي . قاله
صاحب الصحاح .
____________________
قال
التبريزي : يقال : ولدة وإلدة إذا كانت الواو مكسورة قلبتها همزة مكسورة إن شئت
وكذلك إذا كانت الواو مضمومة قلبتها همزة مضمومة كما قالوا في وجوه أجوه فهذا مطرد
فيها . انتهى .
وقال المعرب : إبدال الواو المكسورة همزة قليل غير مطرد بخلاف المضمومة .
وقوله : وعدت كما أبدأت قال التبريزي : أبدأت : ابتدأت يقال من أين أبدأ الركب أي
: من أين ابتدأ وطلع . وأليل : ثابت الظلمة جداً مستحكم . يقال : نهار أنهر وشهر
أشهر ودهر أدهر إذا كمل . انتهى .
وقال صاحب الصحاح : وليل أليل أي : شديد الظلمة . قال المعرب : الكاف في كما نعت
لمصدر محذوف وما مصدرية أي : عدت عوداً كإبدائي . وجملة : والليل أليل حال من
التاء في عدت .
والشنفرى : شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين . )
وأنشد بعده : أشارت كليب بالأكف الأصابع
____________________
على
أن كليباً مجرور بإلى المحذوفة وهو شاذ .
وهذا عجز وصدره : إذا قيل أي الناس شر قبيلةً وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس
بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : تبينن ها لعمر الله ذا قسماً على أنه إذا جيء بها التنيبه بدلاً من
حرف القسم فلا بد من مجيء ذا بعد المقسم به سواء كانت لفظة الجلالة مفردة مجرورة
بالحرف المقدر نحو : لا ها الله ذا وإي ها الله ذا أي : والله فيهما أو كانت
مجرورة بإضافة لعمر إليها نحو : تبينن ها لعمر الله ذا قسماً قال سيبويه في باب ما
يكون ما قبل المحلوف به عوضاً من اللفظ بالواو : قولك : إي ها الله ذا تثبت ألف ها
لأن الذي بعدها مدغم ومن
____________________
العرب
من يقول : إي ها لله ذا فيحذف الألف التي بعد الهاء ولا يكون في المقسم به إلا
الجر لأن قولهم : ها صار عوضاً من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفاً على اللسان .
ألا ترى أن الواو لا تظهر ها هنا كما تظهر في قولك : والله . فتركهم الواو البتة
يدلك أنها ذهبت من هذا تخفيفاً على اللسان وعوضت منها ها . ولو كانت تذهب من هنا
كما تذهب من قولهم : الله لأفعلن إذاً لأدخلت الواو .
وأما قولهم : ذا فزعم الخليل أنه المحلوف عليه كأنه قال : إي والله للأمر هذا فحذف
الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا وها أنا ذا .
وهذا قول الخليل .
وقال زهير : ومن ذلك قولهم : آلله لتفعلن صارت الألف ها هنا بمنزلة ها ثم . ألا
ترى أنك لا تقول أو الله كما لا يقولون : ها والله فصارت الألف ها هنا وها يعاقبان
الواو لا يثبتان جميعاً .
وقد تعاقب ألف اللام حرف القسم كما عاقبته ألف الاستفهام وها فتظهر في ذلك الموضع
)
الذي يسقط في جميع ما هو مثله للمعاقبة وذلك قولك : أفأ لله لتفعلن .
ألا ترى لو قلت أفو الله لم تثبت وتقول : نعم الله لتفعلن وإي الله لتفعلن لأنهما
ليسا ببدل .
ألا ترى أنك تقول : إي والله نعم والله .
انتهى كلام سيبويه وإنما نقلناه برمته لتعرف ما في كلام الشارح من الخلل .
قال الأعلم : الشاهد فيه تقديم ها التي للتنبيه على ذا وقد حال بينهما بقوله :
____________________
لعمر
الله والمعنى : تعلمن لعمر الله هذا ما أقسم به . ونصب قسماً على المصدر المؤكد ما
قبله لأن معناه أقسم فكأنه قال : أقسم لعمر الله قسماً . ومعنى تعلمن اعلم ولا
يستعمل إلا في الأمر .
وقوله : فاقصد بذرعك أي : اقصد في أمرك ولا تتعد طورك . ومعنى تنسلك : تندخل .
يقول : هذا للحارث بن ورقاء الصيداوي وكان قد أغار على قومه وأخذ إبلاً وعبداً
فتوعده بالهجاء إن لم يرد عليه ما أخذ منه .
وقد تقدم شرح هذا مفصلاً في الشاهد الثاني عشر بعد الأربعمائة . ( الشاهد التاسع
بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : فقلت يمين الله هو قطعة من بيت وهو : (
فقلت يمين الله أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي ) على أن يمين الله
روي مرفوعاً ومنصوباً بالوجهين . أما الرفع فعلى الابتداء
____________________
والخبر
محذوف أي : لازمي ونحوه .
وأما النصب فعلى أن أصله أحلف بيمين الله فلما حذف الباء وصل فعل القسم إليه بنفسه
ثم حذف فعل القسم وبقي منصوباً به .
وأجاز ابنا خروف وعصفور أن ينتصب بفعل مقدر يصل إليه بنفسه تقديره ألزم نفسي يمين
الله . ورد بأن ألزم ليس بفعل قسم وتضمين الفعل معنى القسم ليس بقياس . وجوز النحاس
خفضه أيضاً بالباء المحذوفة .
ولم يذكر ابن مالك في تسهيله في نحو هذا إلا النصب قال : وإن حذفا معاً نصب المقسم
به .
يعني : إن حذف فعل القسم وحرف الجر نصب المقسم به . وهو أعم من أن يكون المقسم به
)
لفظ الجلالة أو غيرها .
قال الأعلم : النصب في مثل هذا على إضمار فعل أكثر في كلامهم من الرفع على
الابتداء .
وأنشده سيبويه بالرفع وقال : هكذا سمعناه من فصحاء العرب . والبيت من قصيدة طويلة
لامرئ القيس مطلعها .
ألا عم صباحاً أيها الطلل البالي وقد شرحنا من أولها في الشاهد الثالث من أول
الكتاب عشرين بيتاً إلى قوله : ( سموت إليها بعد ما نام أهلها ** سمو حباب الماء
حالاً على حال )
____________________
فقالت
: سباك الله إنك فاضحي ألست ترى السمار والناس أحوالي فقلت يمين الله أبرح قاعداً
. . . . . . . . . . البيت والسمو : العلو وأراد به النهوض . يقول : جئت إليها
ليلاً بعد ما نام أهلها .
والحباب بالفتح : النفاخات التي تعلو الماء وقيل : الطرائق التي في الماء كأنها
الوشي . وسباك : أبعدك وأذهبك إلى غربة . وقيل : لعنك الله .
وقال أبو حاتم : معناه سلط الله عليك من يسبيك . والسمار : المتحدثون بالليل في
ضوء القمر وقوله : أبرح قاعداً أي : لا أبرح قاعداً . فلا محذوفة من جواب القسم
باطراد كما يأتي في الشرح .
وروي أيضاً : فقلت يمين الله ما أنا بارح فلا حذف . وروي أيضاً : فقلت لها تالله
أبرح قاعداً فلا شاهد فيه هنا وإن كان فيه شاهد من جهة حذف لا . وبه أورده ابن
هشام في المغني وشرح الألفية .
وأبرح : فعل ناقص وقاعداً خبره . والأوصال : المفاصل وقيل : مجتمع العظام . وجمع
وصل بكسر الواو وضمها : كل عظم لا ينكسر ولا يختلط بغيره . كذا في القاموس .
____________________
وترجمة
امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده : كلا مركبيها تحت رجليك شاجر )
أورده مثلاً لاستبعاد أن يكون همزة أيمن في الأصل مكسورة ثم فتحت تخفيفاً إذ هو
مشكل سواء قدرتها زائدة أم أصلية فإن قدرتها زائدة لزم أن يكون وزن إيمن إفعلاً
بكسر الهمزة وإن قدرتها أصلية لزم أن يكون وزنه فعللاً بسكر الفاء وضم اللام الأولى
وهذا الوزن أيضاً غير موجود كذلك . فهو مشكل على كل اعتبار فلا يصح فرض كونها
مكسورة في الأصل .
ويجب أن تكون همزة وصل أصلها السكون كما هو أصل كل همزة وصل فإذا احتيج إلى
تحريكها بأن يبتدأ بها في النطق حركت بالكسر لدفع أصل التخلص من التقاء الساكنين .
وكذلك همزة أيمن وضعت ابتداء ساكنة في الدرج ولما ابتدئ بها حركت بالكسر ثم عرض
لها كثرة الاستعمال ففتحت تخفيفاً .
وهذا المصراع عجز وصدره : فأصبحت أنى تأتها تبتئس بها .
____________________
وهو
من شعر للبيد تقدم الكلام عليه في الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة . يقول : من أي
جانب أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لك .
وتبتئس يصبك منها بؤس أي : كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر . وشاجر : ملتبس .
ومركباها : ناحيتاها اللتان ترام منهما .
يريد أنها شموس إذا ركبها الراكب رمته عن ظهرها . يخاطب رجلاً بأنك ركبت أمراً لا
خلاص لك منه فأنت بمنزلة من ركب ناقة صعبة لا يقدر على النزول عنها سالماً لأن
رجليه قد اشتبكا بركابيها وكلا مركبيها لا يستقر عليه إن ركب على مركبها المقدم
وهو الرحل وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الثمانمائة ) بدينك هل ضممت إليك ليلى
على أن جواب قسم السؤال يكون استفهاماً . فإن قوله : هل ضممت . . . إلخ جواب القسم
الذي هو قوله : بدينك وهو قسم سؤال ويقال له : القسم الاستعطافي يستعطف به المخاطب
.
وفي جعله هذا قسماً تابع لابن مالك . قال أبو حيان : لا نعلم أحداً ذهب إلى تسمية
هذا قسماً إلا ابن مالك . وفي يعض شروح الكتاب وقد ذكر عمرتك
____________________
وعمرك
وقعدك وقعيدك ما نصه : وزعم بعض النحويين أن هذه أقسام . فابن مالك وافق من قال
بذلك . وأما أصحابنا فالجملة القسمية لا تكون إلا خبرية عندهم . انتهى .
ويؤيده أن ابن جني قال : القسم جملة إنشائية يؤكد بها جملة أخرى . فإن كانت خبرية
فهو القسم لغير الاستعطاف وإن كانت طلبية فهو الاستعطاف . انتهى .
وأغرب ابن عصفور في قوله في شرح الجمل الصغير : والقسم كل جملة أكد بها جملة أخرى
كلتاهما خبرية .
والصواب أن جملة القسم إنشائية لا خبرية كما قال ابن جني وغيره . واعتذر عنه بأن
مراده أن الجملتين إذا اجتمعا كان منهما كلام محتمل للصدق والكذب .
ثم قال ابن عصفور بعد تعريفه : فإذا جاء ما صورته كصورة القسم وهو غير محتمل للصدق
والكذب حمل على أنه ليس بقسم نحو قول الشاعر : ( بالله ربك إن دخلت فقل له ** هذا
ابن هرمة واقفاً بالباب ) وقول الآخر : ( بدينك هل ضممت إليك ليلى ** وهل قبلت قبل
الصبح فاها ) قال : فلا يكون مثل هذا قسماً لأن القسم لا يتصور إلا حيث يتصور
الصدق والحنث .
وقال في شرح الإيضاح : وأما هذان البيتان فليسا بقسمين لأن الجملتين غير محتملتين
للصدق والكذب وإنما المراد بهما استعطاف المخاطب والتقدير : أسألك بدينك وأسألك
بالله .
____________________
إلا
أنهم أضمروا الفعل لدلالة المعنى عليه . وقد يحذفون الباء وينصبون في الضرورة نحو
قوله : ( أقول لبواب على باب دارها ** أميرك بلغها السلام وأبشر ) قال : ويدلك على
أن قولك : بالله هل قام زيد وبالله إن قام زيد فأكرمه وأشباهه ليس بقسم )
ثلاثة أشياء : أحدها : أنه لم يجيء في كلام العرب وقوع الحرف الخاص بالقسم نحو
التاء والواو موقع الباء فلم يقولوا : تالله هل قام ولا : والله إن قام زيد فأكرمه
.
ثانيها : إنهم إذا أظهروا الفعل الذي يتعلق به الباء لم يكن من أفعال القسم لا
يقال : أقسم بالله هل قام زيد .
ثالثها : أن القسم لا يخلو من حنث أو بر ولا يصح ذلك إلا فيما يصح اتصافه بالصدق
والكذب . انتهى .
وقوله : إن مثل هذا استعطاف وليس بقسم هو الظاهر ولا شك أن كونه قسماً غير مذوق
لكن كلام ابن هشام ظاهره يعطي أنه سماه قسماً استعطافياً وذلك أنه لما ذكر قول أبي
علي القسم جملة يؤكد بها الخبر قال : ليس كل قسم يؤكد الخبر وقد تقدم أن الباء
يقسم بها على جهة الاستعطاف نحو : بالله أحسن إلي .
قال : ومنه أقسمت عليك لتفعلن كذا وأقسمت عليك إلا فعلت وأقسمت عليك لما فعلت .
قال سيبويه : وسألت الخليل عن قولهم : أقسمت عليك لما فعلت وإلا فعلت لم جاز هذا
في هذا الموضع وإنما أقسمت هنا كقولك والله فقال : وجه الكلام لتفعلن ولكنهم
أجازوا هذا لأنهم شبههوه بنشدتك الله إذ كان فيه معنى يريد أن العرب تقول : نشدتك الله
إلا فعلت ومعناه سألتك بالله وقالوا : إلا فعلت بمعنى إلا أن تفعل وتحقيق المعنى :
لا أطلب منك إلا أن تفعل فدخلها
____________________
معنى
النفي فصلحت إلا لذلك .
وتقول في الاستفهام : آلله لتقومن . قال : فكل هذا ليس بتأكيد ولذلك تستفهم بعد
اليمين فتقول : بالله أقام زيد لأن المعنى هنا أخبرني .
قال : وقد منع من هذا أبو علي فقال : لا يجوز في القسم الذي هو استعطاف في الحقيقة
: تالله هل قمت لأنه ليس بمقسم . انتهى كلامه .
ومقتضاه إن القسم قسمان قسم يقصد به توكيد وقسم يقصد به الاستعطاف والسؤال . وفي
تسمية ما يقصد به الاستعطاف قسماً نظر وكيف يتصور قسم دون جواب لا ملفوظ به ولا
مقدر .
ولهذا سأل سيبويه بأن أقسمت يقتضي جواباً ولما فعلت ليس بجواب فكيف جاز وأجابه )
الخليل بأنهم شبهوه بنشدتك الله إذ كان فيه معنى الطلب . فأفاد أن القسم ليس بمراد
في المشبه كما أن ذلك غير مراد في المشبه به .
فما ذكره ابن عصفور أقرب وهو كلام أبي علي كما ظهر من نقل ابن هشام .
واعلم أنه يقال : نشدتك بالله ونشدتك الله على نزع الخافض والنصب ومعناه سألتك
بالله وقال ابن مالك في شرح التسهيل : معنى قول القائل نشدتك الله : سألتك مذكراً
الله . ومعنى عمرتك الله : سألت الله تعميرك ثم ضمنا معنى القسم الطلبي .
قال أبو حيان في شرحه : إن عنى المصنف أنه تفسير معنى لا إعراب فممكن وإن عنى أنه
تفسير إعراب فليس كذلك بل نشدتك الله انتصاب الجلالة فيه على إسقاط الخافض فنصبه
ليس بمذكر .
وأما عمرتك الله فلفظ الجلالة فيه منصوب بإسقاط الخافض أيضاً والتقدير :
____________________
عمرتك
بالله أي : ذكرتك تذكيراً يعمر القلب ولا يخلو منه . انتهى .
ولا يخفى أنه أراد تفسيرهما لغة قبل أن يضمنا ما ذكره . وقوله : ثم ضمنا يدفع أن
يكون أراد تفسير الإعراب .
وعمرتك الله بتشديد الميم . واستعملوا عمرك الله بدلاً من اللفظ بعمرتك الله . قال
الشاعر : ( عمرك الله يا سعاد عديني ** بعض ما أبتغي ولا تؤيسيني ) وقال آخر : (
يا عمرك الله ألا قلت صادقةً ** أصادقاً وصف المجنون أم كذبا ) وقال الأخفش في
كتابه الأوسط : أصله أسألك بتعميرك الله وحذف زوائد المصدر والفعل والباء فانتصب
ما كان مجروراً بها . قالوا : ويدل على صحة قول الأخفش إدخال باء الجر عليه .
قال ابن أبي ربيعة : ( بعمرك هل رأيت لها سمياً ** فشاقك أم لقيت لها خدينا ) قال
ناظر الجيش : ويدل له أيضاً قولهم : لعمرك إن زيداً قائم وقال تعالى : لعمرك إنهم
لفي سكرتهم يعمهون التقدير : لعمرك قسمي فكان العمر نفسه هو المقسم به فليكن هو
المقسم به في نحو عمرك الله ويكون الأصل : بتعميرك الله . )
ويمكن أن يقال إن من نصب عمرك الله على المصدر وقال : عمرك الله تعميراً لم يجعله
قسماً وإنما يكون قسماً على قول الأخفش وهو قسم طلبي على
____________________
رأي
من لا يثبته ومسؤول به على رأي من لا يثبته .
وأجاز المبرد والسيرافي أن ينتصب على تقدير القسم كأنه قيل : أقسم عليك بعمرك الله
والأصل بتعميرك الله أي : بإقرارك له بالدوام والبقاء ويكون محذوف الجواب فتكون
الكاف في موضع رفع . والظاهر من كلام سيبويه أنه مصدر موضوع موضع الفعل على أنه
مفعول به .
قال أبو حيان : والاسم المعظم في عمرك الله ينصب ويرفع . أما النصب فقد قال صاحب
أحدهما : أن التقدير : أسألك تعميرك الله أي : باعتقادك بقاء الله فتعميرك مفعول
ثان واسم الله منصوب بالمصدر .
والثاني : أن يكونا مفعولين أي : أسأل الله تعميرك .
وأما الرفع فقد ذكر ابن مالك عن أبي علي أن المراد عمرك الله تعميراً فأضيف المصدر
إلى المفعول ورفع به الفاعل .
وكذا تقدم عن الأخفش فقد اتفق قولاهما على أن اسم الله تعالى مرفوع بالمصدر على
الفاعلية ولكن أبو علي يرى أن نصب عمرك على المصدر والأخفش يرى أنه منصوب على نزع
الخافض ولهذا كان الفعل الذي يقدره أبو علي : عمرتك والفعل الذي يقدره الأخفش :
أسألك .
وأما قعدك الله بكسر القاف وفتحها ويقال : قعيدك الله أيضاً فهما منصوبان بتقدير :
أقسم بعد إسقاط الباء وهما مصدران بمعنى المراقبة كالحس والحسيس وقيل وصفان كخل
وخليل بمعنى الرقيب الحفيظ فالمعني بهما هو الله تعالى والله بدل منهما وعلى الأول
منصوب بهما .
وهو الجيد إذ لم يسمع أنهما من أسماء الله تعالى .
وبقي على الشارح المحقق ذكر عزمت وأقسمت فإنهما يستعملان في قسم الطلب . وأما
وقوله : بدينك هل ضممت إليك ليلى .
____________________
هذه
الباء عند من لم يثبت قسم السؤال اسمها باء الطلب ويجوز ذكر متعلقها كنشدتك بالله
وأسألك بالله . وحذفه أكثر ومنه هذا البيت .
قال ابن مالك في التسهيل : ويضمر الفعل في الطلب كثيراً استغناء بالمقسم به
مجروراً بالياء )
ويختص الطلب بها . انتهى .
ولو كانت للقسم لجاز أن يقال : أحلف بالله قم ونحوه . وقد تحذف الباء مع المتعلق
في الشعر كما تقدم . وضممت إليك أي : عانقتها وحضنتها . وقوله : قبيل الصبح أوقبلت
فاها روي بدله : وهل قبلت بعد النوم فاها .
يريد : هل قبلته وشممت طيب رائحته في وقت تغير الأفواه . وخص ما بعد النوم لأن
الأفواه تتغير حينئذ . والمراد تحقيق طيب نكهتها .
وبعده : ( وهل مالت عليك ذؤابتاها ** كمثل الأقحوان على نداها ) وروي بدله : رفت
بفتح الراء المهملة من رف لونه يرف بالكسر رفيقاً ورفاً إذا برق وتلألأ . أراد شدة
سواد شعرها . والرفيف يوصف به خضرة النبات والأشجار .
____________________
قال
الشاعر : في ظل أحوى الظل رفاف الورق وصحفه ابن الملا في شرح المغني يجعل المهملة
معجمة فقال : الزفيف إهداء العروس إلى بعلها .
وغفل عن قوله : رفيف الأقحوانة وهي البابونج . وقيدها بكونها في نداها لأنها لا
أعطر منها في تلك الحالة . والقرون : الذوائب جمع قرن بفتح القاف وسكون الراء .
والبيتان أوردهما الأصفهاني في الأغاني ونسبهما إلى المجنون بن الملوح من بني عامر
وقال : مر المجنون ذات يوم بزوج ليلى وهو جالس يصطلي في يوم شات وقد أتى ابن عم له
في حي المجنون لحاجة فوقف عليه ثم أنشأ يقول : ( بربك هل ضممت إليك ليلى ** قبيل
الصبح أو قبلت فاها ) ( وهل رفت عليك قرون ليلى ** رفيف الأقحوانة في نداها ) فقال
: اللهم إذ حلفتني فنعم . قال : فقبض المجنون بكلتا يديه من الجمر قبضتين فما
فارقهما حتى سقط مغشياً عليه وسقط الجمر مع لحم راحتيه فقام زوج ليلى مغموماً
بفعله متعجباً وزاد ابن جني في شرح تصريف المازني بيتاً بعدهما وهو : ) ( كأن
قرنفلاً وسحيق مسك ** وصوب الغاديات شملن فاها )
____________________
وتقدمت
ترجمة مجنون بني عامر في الشاهد التسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : قعيدك أن لا تسمعيني ملامةً هو صدر وعجزه : ولاتنكئي قرح الفؤاد
فييجعا على أن أن فيه زائدة والجواب إنما هو النهي . وهذا جواب سؤال مقدر وتقديره
: أنك ذكرت أن جواب قسم السؤال أن يكون أمراً أو نهياً أو استفهاماً أو مصدراً
بإلا أو لما وهذا ليس أحد تلك الخمسة .
فأجاب بأن أن زائدة والجواب هو النهي . وهذا وإن أمكن هنا فلا يتأتى في نحو :
نشدتك بالله أن تقوم .
وقد اعتبره غيره قال أبو حيان في شرح التسهيل : إن الجواب يكون بأحد ستة أشياء وهي
الاستفهام والأمر والنهي وإلا ولما وأن . ومثل له بما ذكرنا . ولم يذكرا تصدر
الجواب بإن الشرطية نحو : بالله ربك إن دخلت فقل له البيت
____________________
والظاهر
أن إن إذا حلت هذا المحل يجب أن يكون جوابها فعلاً طلبياً كما في البيت لأن الطلب
هو المقصود من هذا الكلام وجملة الشرط ليس فيها طلب فتعين أن يشتمل جملة الجزاء
عليه .
وليس المراد بالطلب هنا أن يكون بصيغته بل المراد به أن يكون الجواب مطلوباً
للمتكلم سواء كان الطلب بالصيغة أم بغيرها مما يفيده سياق الكلام ولذلك جعلوا من
صور المسألة نشدتك إلا فعلت أو لما فعلت وقالوا : المعنى فيه : ما أسألك إلا أن
تفعل أو ما أطلب منك إلا أن تفعل .
وزاد الشارح المحقق على أبي حيان وقوع اللام في الجواب نحو : بالله لتفعلن . وقد
أورده الشارح هنا مكرراً مرتين مع قرب ما بينهما .
والبيت من قصيدة متمم بن نويرة الصحابي رثى بها أخاه مالك بن نويرة . وقد تقدم
الكلام عليه وعلى عمرتك وعمرك وقعدك وأمثالها في المفعول المطلق في الشاهد الخامس
والثمانين وما بعده . )
وأنشد بعده ( لأورث بعدي سنة يقتدى بها ** وأجلو عمى ذي شبهة إن توهما )
____________________
على
أن اللام فيه لام الابتداء دخلت على المضارع للتوكيد وليست في جواب قسم .
قال ابن هشام في المغني : اختلف في هذه اللام الداخلة على المضارع فأجازه ابن مالك
والمالقي وغيرهما . زاد المالقي الماضي الجامد نحو : لبئس ما كانوا يعملون .
وبعضهم المتصرف المقرون بقد نحو : ولقد كانوا عاهدوا الله من قبل لقد كان في يوسف
وإخوته آيات والمشهور أن هذه لام القسم .
وقال أبو حيان في : ولقد علمتم : هي لام الابتداء مفيدة لمعنى التأكيد ويجوز أن
يكون قبلها قسم مقدر وأن لا يكون . انتهى .
ونص جماعة على منع ذلك كله . قال ابن الخباز في شرح الإيضاح : لا تدخل لام
الابتداء على الجمل الفعلية إلا في باب إن . انتهى .
وهو مقتضى كلام ابن الحاجب وهو أيضاً قول الزمخشري قال في تفسير : ولسوف يعطيك ربك
: لام الابتداء لا تدخل إلا على المبتدأ والخبر .
وقال في لأقسم : هي لام الابتداء دخلت على مبتدأ محذوف ولم يقدرها لام القسم لأنها
عنده ملازمة للنون . وكذا زعم في : ولسوف يعطيك ربك .
وقال ابن الحاجب : اللام في ذلك لام التوكيد وأما قول بعضهم إنها لام الابتداء وإن
المبتدأ مقدر بعدها ففاسد من جهات : إحداها : أن اللام مع الابتداء كقد مع الفعل
وإن مع الاسم فكما لا يحذف الفعل والاسم ويبقيان بعد حذفهما كذلك اللام بعد حذف
الاسم .
____________________
والثانية
: أنه قدر المبتدأ في نحو : لسوف يقوم زيد يصير التقدير : لزيد سوف يقوم . ولا
يخفى ما فيه من الضعف .
والثالثة : أنه يلزم إضمار لا يحتاج إليه الكلام . انتهى .
وقول الشاعر : لأورث مضارع مبني للفاعل وهو ضمير المتكلم متعهد إلى مفعولين تقول :
ورث زيد المال فتعديه بالهمزة إلى اثنين وتقول أورثته المال أي : أكسبته إياه
والمفعول الأول هنا محذوف والتقدير : لأورث الناس وسنة المفعول الثاني . )
والسنة : السيرة حميدةً كانت أو ذميمة وهي الطريقة . وجملة : يقتدى بها بالبناء
للمفعول صفة لسنة .
وأجلو معطوف على أورث من جلوت السيف ونحوه إذا كشفت صدأه جلاء بالكسلا والمد .
والعمى هنا : عمى القلب مستعار للضلالة والعلاقة عدم الاهتداء . والشبهة : الظن
المشتبه بالعلم ذكره أبو البقاء .
وقال بعضهم : الشبهة : مشابهة الحق للباطل والباطل للحق من وجه إذا حقق النظر فيه
ذهب .
وأن توهم الألف للإطلاق ويجوز في أن الكسر والفتح وفاعل توهم ضمير ذي شبهة ومفعوله
محذوف للتعميم . والتوهم : الخطأ في درك الشيء . ويقال : توهمت أي : ظننت .
وهذا البيت للمتلمس وهو شاهر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والستين بعد
الأربعمائة .
والبيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتاً أولها :
____________________
(
يعيرني أمي رجال ولا أرى ** أخا كرم إلا بأن يتكرما ) ( ومن كان ذا عرض كريم فلم
يصن ** له حسباً كان اللئيم المذمما ) ( أحارث لو أنا تساط دماؤنا ** تزيلن حتى ما
يمس دم دما ) ( أمنتفلاً من آل بهثة خلتني ** ألا إنني منهم وإن كنت أينما ) ( ألا
إنني منهم وعرضي عرضهم ** كذي الأنف يحمي أنفه أن يهشما ) ( وهل لي أم غيرها إن
تركتها ** أبى الله إلا أن أكون لها ابنما )
____________________
(
وما كنت إلا مثل قاطع كفه ** بكف له أخرى فأصبح أجذما ) ( فلما استقاد الكف بالكف
لم يجد ** له دركاً في أن تبينا فأحجما ) ( يداه أصابت هذه حتف هذه ** فلم تجد
الأخرى عليه مقدما ) ( فأطرق إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغاً لنابيه الشجاع لصمما
) ( وقد كنت ترجو أن أكون لعقبكم ** زنيماً فما أجررت أن أتكلما ) لأورث بعدي سنة
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
قال جامع ديوانه أبو الحسن الأثرم : قال أبو عبيدة : كان سبب هذه القصيدة أن
المتلمس كان في أخواله بني يشكر يقال : إنه ولد فمكث فيهم حتى كادوا يغلبون على
نسبه فسأل عمرو بن هند ملك الحيرة يوماً الحارث بن التوأم
____________________
اليشكري
عن نسب المتلمس فقال : يزعم أنه من بني ضبيعة أضجم . فقال عمرو : ما هو إلا
كالساقط بين الفراشين . فبلغ ذلك المتلمس فقال هذه القصيدة .
والمتلمس اسمه جرير بن عبد المسيح أخو بني ضبيعة بن ربيعة بن نزار .
وقوله : أحارث منادى . وتساط : تخلط . وتزيلن : افترقن . والمنتفل والمنتفي
والمتبري سواء .
وبهثة هو ابن حرب بن وهب بن جلي بن أحمس ابن ضبيعة بن ربيعة بن نزار . وإن كنت
أينما أي : حيث ما كنت .
وقوله : جعلت لهم فوق العرانين يقول : هجوتهم هجاءً يلزمهم لزوم الميسم للأنف .
والأجذم : المقطوع إحدى يديه يقول : لو هجوت قومي كنت كمن قطع بيده يده الأخرى .
والزنيم : الملصق بالقوم وليس منهم . والإجرار : أن يشق لسان الفصيل لئلا يرضع أمه
. انتهى .
وبقي أبيات من أبيات القصيدة لا حاجة لنا بها .
وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
الثاني عشر بعد الثمانمائة ) ( وقتيل مرة أثأرن فإنه ** فرغ وإن أخاهم لم يقصد )
على أنه قد يخلو المضارع عن اللام استغناء بالنون كما هنا والأكثر لأثأرن بهما
جميعاً .
وهذا كقول ابن مالك في التسهيل : وإن كان أول الجملة مضارعاً مثبتاً مستقبلاً غير
مقارن حرف تنفيس ولا مقدم معموله لم تغنه اللام غالباً عن نون التوكيد . وقد
يستغنى بها عن اللام . انتهى .
وذهب ابن عصفور في كتاب الضرائر إلى أن حذف اللام ضرورة . وتبعه ابن هشام في
المغني فقال : حذف لام لأفعلن يختص بالضرورة . وأنشد البيت .
وهذا مذهب البصريين والأول مذهب الكوفيين كما بينه الشارح المحقق .
والبيت من قصيدة لعامر بن الطفيل العامري تقدم شرح أبيات من أولها في الشاهد
الثامن والستين بعد المائة . وقبل هذا البيت :
____________________
(
ولأثأرن بمالك وبمالك ** وأخي المروراة الذي لم يسند ) وقوله : ولأثأرن اللام في
جواب قسم مقدر أي : والله لأثأرن أي : لآخذن بثأرهم وأقتلن بهم من بني مرة من عوف
الذبياني .
والثأر بالهمزة ويخفف : الذحل يقال : ثأرت القتيل وثأرت به من باب نفع إذا قتلت
قاتله .
والمروراة بفتح الميم والرائين المهملتين وسكون الواو بينهما : أجبل لأشجع بن ريث
بن غطفان .
وأراد بأخي المروراة الحكم بن الطفيل العامري وهو أخو عامر بن الطفيل خنق نفسه تحت
شجرة بالمروراة خوفاً من الأسر كما يأتي بيانه .
وقول : الذي لم يسند أي : لم يدفن بل أكلته السباع والطيور .
وقوله : وقتيل مرة أثارن . . . إلخ قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : رواه
الضبي : بخفض أما الأول فعلى أن الواو للقسم وقتيل مقسم به وأراد به أخاه الحكم بن
الطفيل وأعاده مبهماً تفخيماً له .
ومرة : أبو قبيلة وهو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد
بن قيس بن عيلان بن مضر .
وقول بن الملا في شرح المغني : مرة : قبيلة من قريش كلام من لم يصل إلى العنقود .
وأثارن جواب )
القسم ومفعول أثرن محذوف والتقدير : أثارنه أو أثارن به . وعلى هذا يكون الاستشهاد
. وإن كانت الواو للعطف على مالك فأثرن تأكيد لقوله : لأثأرن .
____________________
وأما
النصب فعلى العطف على محل مالك وأثأرن تأكيداً لذلك وقيل مفعول بفعل يفسره أثرن .
ولا يجوز أن يكون مفعولاً له لأن المؤكد لا يتقدم عليه معموله .
وأما الرفع فعلى الابتداء وجملة : أثأرن خبره والعائد محذوف أي : أثأرن به أو
أثأرنه .
والتأكيد على هذا شاذ . والضمير في فإنه راجع لقتيل .
وفرغ بكسر الفاء وسكون الراء المهملة بعدها معجمة : الهدر يقال : ذهب دم فلان
فرغاً وهدراً إذا لم يقتل قاتله .
وقال ابن الأنباري : روى فرع أيضاً أي : بفتح الفاء والعين المهملة وهو الرأس
العالي في الشرف وضمير الجمع في أخاهم لمرة باعتبار كونه حياً وأراد بأخيهم سنان
بن أبي حارثة المري أو الحارث بن عوف فان أحدهما كان رئيس بني مرة .
قال ابن الأنباري : وقوله : لم يقصد : لم يقتل يقال : أقصد الرجل إذا قتلته .
وروى بدله في مغني اللبيب وغيره : لم يثأر وهو خطأ معنىً وقافية .
وهذا الشعر قاله عامر بن الطفيل بعد يوم الرقم بفتح الراء والقاف وهو ماء لبني مرة
وهو يوم كان لغطفان على بني عامر .
____________________
قال
ابن الأنباري : أغار بنو عامر على غطفان بالرقم فلقوا غلمة من أشجع بن ريث بن
غطفان فقتلوهم ثم استبطن عامر بن الطفيل بني عامر في الوادي فأغاروا على بني فزارة
بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان فأصاب بني سفيان بن غراب ابن ظالم بن فزارة وأتى
الصريخ بني فزارة فركبوا هم وبنو مرة بن عوف وعلى بني فزارة عيينة بن حصن وعلى بني
مرة سنان بن أبي حارثة ويقال الحارث بن عوف .
فانهزمت بنو جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر وأقبل عامر بن الطفيل منهزماُ حتى دخل
بيت أسماء بنت قدامة الفزاري وهي حديثة عهد بعرس وزوجها شبث بن حوط الفزاري ومضت
بنو جعفر فدخلوا في شعاب لا يدرون ما هي فلما انتهوا إلى أقصى الوادي لم يجدوا
منفذاً وأقبلت غطفان حتى وقفوا على فم الوادي فقال لهم عيينه : قفوا فإن القوم
منصرفون إليكم . )
فلما لم يجدوا منفذاً انصرفوا فقال بعضهم لبعض : إنه لن ينجيكم اليوم إلا الصدق
فارموهم بنواصي الخيل . ففعلوا فقتل يومئذ من بني جعفر : كنانة والحارث ابنا عبيدة
بن مالك بن جعفر وقيس بن الطفيل بن مالك .
فلما خرجت بنو جعفر من الشعب خرج عامر من بيت أسماء فرجع زوجها فقال : أصنع بك
عامر شيئاً قالت : إي والله لقد فقل ولو كنت أنت لنكحك عامر فمر جبار بن سلمى بن
مالك بن جعفر بعامر فارتدفه على فرسه وأما الحكم بن الطفيل أخو عامر فإنه انهزم في
نفر من بني عامر وفيهم رجلان من غني فنظروا إلى بني جعفر منهزمين فحسبوهم بني
ذبيان فقال الحكم : والله لا تأسرني بنو ذبيان اليوم فيتلعبون بي فمضوا حتى انتهوا
إلى موضع يقال : له المروراة وقد يكاد العطش يهلكهم فاختنق الحكم تحت شجرة مخافة
المثلة فمات وأخذت بنو عمار فرساً لهم يقال له : عزلاء فجعلوا يمرون ذكره حتى بال
فشربوا بوله من آخر النهار وقتلهم العطش وبقي الغنويان فسألهما عامر عن الحكم
فأخبراه أنه خنق نفسه .
____________________
فزعموا
أن عامراً كان يرفع يديه ويقول : اللهم أدرك لي بيوم الرقم ثم اقتلني إذا شئت .
فسمت غطفان ذلك اليوم يوم المروراة ويم التخانق . وزعمت غطفان أنهم أصابوا يومئذ
من بني عامر أربعة وثمانين رجلاً فدفعوهم إلى أهل بيت من أشجع كانت بنو عامر قد
أصابوا فيهم فجعل رجل منهم يقال له : عقبة بن حليس يقول : من أتاني بأسير فله
فداؤه . فجعلت غطفان يأتونه بالأسرى فجعل يذبحهم حتى أتى على آخرهم فسمي مذبحاً
وبنوه إلى اليوم يقال لهم : بنو مذبح . قال عروة بن الورد العبسي في بني جعفر : (
عجبت لقوم يخنقون نفوسهم ** ومقتلهم تحت الوغى كان أعذرا ) ( يشد الحليم منهم عقد
حبله ** ألا إنما يأتي الذي كان حذرا ) انتهى باختصار .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد الثمانمائة ) ( تألى ابن أوس حلفةً ليردني **
إلى نسوة كأنهن مفائد ) على أنه استغنى بلام التوكيد عن النون . وهذا ظاهر .
وروي أيضاً بكسر اللام وفتح الدال على نصب الفعل بأن مضمرة على أنها لام كي .
____________________
وذكر
سيبويه أن لام القسم يلزمها إحدى النونين .
وقال أيضاً : وقد تحذف النون في الشعر . وقد جاء أعجب من هذا وأبعد في الاستعمال
وحذف اللام وإثبات النون .
قال : وقتيل مرة أثأرن . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فأما من روى
بكسر اللام فالمعنى : حلف لهذا الأمر . وجواب القسم يكون محذوفاً مقدراً ويستدل
عليه بما ذكره .
وقال بعض المتقدمين : تقول حلف ليفعلن فإذا حذفت النون كسرت اللام وأعملتها إعمال
لام كي والموضع موضع القسم والمعنى معناه .
وقيل : مثل تألى ليردني : أراد ليفعل كذا كأن الفعل دل على المصدر . واللام مع
الاسم المجرور به في موضع الخبر لذلك المصدر المبتدأ كأنه قال : إرادتي كذا انتهى
.
وسيأتي إن شاء الله تعالى بقية الكلام على هذا في نون التوكيد .
وهذا البيت أول أبيات أربعة لزيد الفوارس بن حصين بن ضرار الضبي أوردها أبو تمام
في الحماسة . وبعده :
____________________
(
دعاني ابن مرهوب على شنء بيننا ** فقلت له إن الرماح مصايد ) ( وقلت له كن عن
شمالي فإنني ** سأكفيك إن ذاد المنية ذائد ) قال المرزوقي : آلى الرجل وتألى
بمعنىً . وهذه الأبنية من الألية وهي اليمين . وحلفة : انتصب على أنه مصدر من غير
لفظه .
والمفائد جمع المفأد بكسر الميم وفتح الهمزة وهي المسعر والسفود . والفأد في اللغة
: التحريك وقيل إن الفؤاد منه اشتق لأنه ينبض .
ومعنى البيت : حلف هذا الرجل حلفة ليأسرنني ثم يمتن علي فيردني على نسوة كأنهن
مساعير )
لاحتراقهن وجداً بي وغماً علي ففعلت أنا به مثل ما هم به في .
وقوله : دعاني ابن مرهوب إلى آخره حول كلامه إلى قصة أخرى فقال : استغاث بي هذا
الرجل على ما بيننا من عداوة وبغضاء فأجبته بعد أن هونت عليه ما خوفه وبينت أن
الرماح حبائل الرجال الكرام في الحرب ومصايدهم فلا تبال بالموت إذا كان على وجهه
لا يتعقبه عار .
وقوله : على شنء بيننا في موضع الحال يقال : شنئته ومشنأة . وقوله : وقلت له كن .
. إلخ وإنما قال له : كن عن شمالي لأن الضرب والطعن والرمي في العطف وما شاكل ذلك
من الجانب ووجه آخر وهو أن العطف في الجانب الأيسر فقال له : كن في الجانب الذي
____________________
أنا
معني به . وقيل إنما قال : كن عن شمالي لأنه موضع المعان المنصور واليمنى موضع
الناصر يقال : أنا على يمينك وعن يمينك أي : ناصرك . كأنه أمره أن يكون على ميسرة
الجيش ويكون على الميمنة لأنهم يجعلون على ميمنة العسكر كل موثوق به . وهذا أحسن
وجه .
وقال الخطيب التبريزي : قال أبو رياش : كان من خبر هذه الأبيات أن زيد الفوارس
أقبل هو وعلقمة بن مرهوب ورجل من بني هاجر ورجل من بني صبيح وحسان بن المنذر بن
ضرار حتى نزلوا ببني جديلة من طيئ وكان بنو جديلة قد ولدوا جبار بن صخر بن ضرار
فأبى زيد وعلقمة أن ينزلا مع حسان وركبا وجوههما .
فقال أوس بن حارثة بن لأم لحسان : من هذان معك قال : زيد الفوارس وعلقمة بن مرهوب
.
فقال لابنه قيس بن أوس : اركب فارددهما علي .
فركب فقال : إن أبي يقسم عليكما لترجعان . فأبيا فأغلظ لهما فرجع إليه زيد فقتله
فلما رأى ذلك ابن مرهوب وكان مصارماً لزيد قال : يا زيد أذكرك الله أن تتركني .
فربع عليه فلما أبطأ على أوس ابنه تحذر حسان الذي كان عنده فركب هو وصاحباه فلما
انتهوا إلى زيد ورأوا ما صنع قال لبريمة وهو أهون من معه : ارجع إلى درعي نسيتها
عند أوس فأتني بها فرجع بريمة إليه فقال له : من أنت فقال : أنا ابن ضرار . فقتله
وقال : كريم بكريم .
وقيل إن قيس بن أوس لما لحق زيداً ناداه : يا زيد ارجع فقال زيد : إلام أرجع فقال
قيس : واللات والعزى لأردنك أسيراً إلى نسوة تركتهن . فقتله زيد وقال : تألى ابن
أوس حلفة . . . . . . . . الأبيات . انتهى . )
____________________
وزيد
الفوارس : شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الثمانمائة ) ( لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم
** ليعلم ربي أن بيتي واسع ) على أن المضارع الواقع جواباً لقسم إن كان للحال وجب
الاكتفاء باللام كما هنا فإن المعنى : ليعلم الآن ربي .
قال ابن الناظم : ولو كان المضارع بمعنى الحال أكد باللام دون النون لأنها مختصة
بالمستقبل وذلك قوله : والله ليفعل زيد الآن .
ومنع البصريون هذا الاستعمال استغناء عنه بالجملة المصدرة بالمؤكد كقوله : والله
إن زيداً ليفعل الآن . وأجاز الكوفيون ويشهد لهم قراءة ابن كثير : لأقسم بيوم
القيامة وقول الشاعر : أنشده الفراء : لئن تك قد ضاقت عليكم بيوتكم البيت انتهى .
____________________
أقول
: أورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولقد علموا لمن اشتراه من سورة البقرة
على أن لام لقد ولام لئن هي المؤذنة بالقسم لا لكون يعلم حالاً تجرد من النون في
وقوعه جواباً للقسم .
وقد نسب العيني إلى ابن الناظم شيئاً لم يقله قال : الاستشهاد فيه في قوله : ليعلم
إذ أصله ليعلمن بنون التوكيد فحذفها . هذا كلامه ولا أدري كيف تقوله عليه وقال في
البيت : اللام في لئن للتأكيد . ولا يخفى أن هذه اللام يقال لها : اللام الموطئة
لقسم مقدر . ويقال لها أيضاً : اللام المؤذنة ولا يقال لها لام التأكيد .
وقال أيضا : وتك هذه زائدة لأن المعنى يتم بدونه . فإذا كان كان زائدة لا تعمل
شيئاً . أو تكون تامة والمعنى : لئن يكن الشأن قد ضاقت . . . إلخ . وفيه أمران :
أحدهما : المعهود زيادتها بلفظ الماضي ولا تزاد إلا بين شيئين متلازمين كالمبتدأ
وخبره والفعل ومرفوعه والموصول وصلته والموصوف وصفته وهنا ليست كذلك . ولا تزاد
بلفظ المضارع إلا بندور مع نزاع فيه تقدم الكلام عليه . )
ثانيهما : يلزم من زيادتها بلفظ المضارع أن يقال : لئن قد ضاقت وإن لا تدخل على قد
.
وقوله : أو تكون تامة والمعنى . . إلخ الرواية إنما هي تك بالمثناة الفوقية
فالواجب أن يقول لئن تكن القصة وعليه يكون جملة قد ضاقت مفسرة لضمير الشأن والقصة
.
____________________
ولا
ينبغي الحمل على هذا مع إمكان غيره . ولا مانع هنا من كونها ناقصة ويكون اسمها
ضميراً مستتراً فيها أي : هي ويفسره فاعل ضاقت وهو بيوتكم وجملة قد ضاقت . . . .
إلخ : خبرها وتكون المسألة من باب التنازع بإعمال الثاني على مذهب البصريين .
ويجوز عندهم أن يكون بيوتكم اسم تك وفي ضاقت ضميرها وعليكم متعلق بضاقت .
وقال العيني : قوله : عليكم في محل النصب على المفعولية .
وقوله : ليعلم ربي هو جواب القسم المقدر وجواب الشرط محذوف يفسره جواب القسم .
والبيت أنشده الفراء في أوائل البقرة وما عزاه لأحد . وأنشده ثانياً في آخر سورة
الإسراء عند قوله تعالى : قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن
الآية قال : أنشدني الكسائي للكميت بن معروف : وهذا الكميت شاعر إسلامي وتقدم ذكره
في ترجمة جده الكميت بن ثعلبة في الشاهد السبعين بعد الخمسمائة .
هذا . ولابن عصفور كلام في المسألة بين به مذهب البصريين فلا بأس بإيراده قال :
وإن كان المضارع حالاً فمن الناس من قال : إنه لا يجوز أن يقسم عليه لأن مشاهدته
أغنت عن أن يقسم عليه . وهذا باطل لأنه قد يعوق عن المشاهدة عائق فيحتاج إذ ذاك
إلى القسم والصحيح أنه يجوز أن يقسم عليه إلا أنه لا يخلو من أن يكون موجباً أو
منفياً .
فإن كان منفياً نفيت بما خاصة فهو قولك : والله ما يقوم زيد ولا يجوز حذفها .
____________________
وإن
كان موجباً فإنك تبني من الفعل اسم فاعل وتصيره خبر المبتدأ ثم تقسم على الجملة
الاسمية فتقول : والله إن زيداً لقائم ووالله إن زيداً قائم ووالله لزيد قائم .
وإنما لم يجز أن تبقي الفعل على لفظه وتدخل اللام لأنك لو قلت : والله ليقوم زيد
لأدى ذلك إلى الإلباس في بعض المواضع . وذلك إذا قلت : إن زيداً والله ليقومن لأن
النون تخلص للاستقبال .
وقد تدخل عليه اللام وحدها ولا يلتفت إلى اللبس إلا أن ذلك قليل جداً بابه الشعر
نحو )
قوله : انتهى .
وأنشد بعده : يميناً لنعم السيدان وجدتما على أن نعم إذا وقعت جواب قسم لا يربطها
بالقسم إلا اللام وحدها كما هنا . وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي والستين
بعد السبعمائة وفي الشاهد السادس والخمسين بعد المائة .
____________________
وأنشد
بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد الثمانمائة ) ( حلفت لها بالله حلفة فاجر ** لناموا
فما إن من حديث ولا صالي ) على أن قوله : لناموا جواب القسم وجاز الربط باللام من
غير قد لضرورة الشعر ويجب تقدير قد بعد اللام لأن لام الابتداء لا تدخل على الماضي
المجرد . وفيه أمور : أحدها : كيف يصح دعوى الضرورة مع قوله قبل : فإن كان الفعل
الماضي مثبتاً فالأولى الجمع بين اللام وقد . وهل فيه إلا ترك الأولى ولم يقل أحد
إنه ضرورة .
على أنه قد جاء في أفصح الكلام قال تعالى : ولئن أرسلنا ريحاً فرأوه مصفراً لظلوا
من بعده يكفرون وقال النبي صلى الله عليه وسلم : والذي نفسي بيده لوددت أن أقاتل
في سبيل الله فأقتل ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل أخرجه البخاري .
____________________
وفي
الحديث عن امرأة من غفار أنها قالت : والله لنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى
الصبح فأناخ .
وفي حديث سعيد بن زيد أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : من أخذ
شبراً من الأرض ظلماً الحديث .
وإنما في ثلاثة أقوال : أحدها : أنها أحد الجائزين ذكرها أكثري وحذفها كثير وذهب
إليه الزمخشري وغيره .
قال في المفصل : ولام جواب القسم في نحو : والله لأفعلن وتدخل على الماضي كقولك :
والله لكذب . )
وقال امرؤ القيس : حلفت لها بالله البيت . والأكثر أن تدخل عليه قد كقولك : والله
لقد خرج . انتهى .
وقال ابن مالك في شرح التسهيل : إن كان الفعل متصرفاً فالأكثر أن يقترن باللام مع
قد كقوله تعالى : تالله لقد آثرك الله علينا وقد يستغني باللام في النثر والنظم .
ثم أورد الآية والأحاديث والشعر .
ثانيها : أنها لابد منها إما لفظاً وإما تقديراً كالماضي الواقع حالاً . قال ابن
جني في سر الصناعة لام القسم تدخل على فعلين أحدهما الماضي
____________________
كقوله
تعالى : تالله لقد آثرك الله علينا وربما حذفت اللام قال تعالى : قد أفلح من زكاها
أي : لقد أفلح . وقد حذفت قد كقوله : حلفت بالله حلفة فاجر البيت أي : لقد ناموا .
وكذلك قال ابن هشام في المغني : قال الجميع : حق الماضي المثبت المجاب به القسم أن
يقرن باللام .
وقد قيل في : أصحاب الأخدود : إنه جواب القسم على إضمار اللام وقد جميعاً للطول .
وقال : حلفت لها بالله حلفةً . . . . . . . . . . . . . البيت أي : لقد ناموا .
فأضمر قد .
قال ابن جني : وأما قوله تعالى : ولئن أرسلنا ريحاً الآية . فقال الخليل : معناها
ليظلن فأوقع الماضي موقع المستقبل .
وقال ابن هشام : زعم قوم أن قد هنا مضمرة وهو سهو لأن ظلوا مستقبل لأنه مرتب على
الشرط وساد مسد جوابه فلا سبيل فيه إلى قد إذ المعنى ليظلن . ولكن النون لا تدخل
في الماضي .
ثالثها : إن كان الماضي قريباً من زمن الحال أدخلت عليه اللام وقد نحو : تالله لقد
آثرك الله علينا . وإن كان بعيداُ من زمن الحال أدخلت عليه اللام وحدها كهذا البيت
. وهذا مذهب ابن عصفور ومن تبعه .
____________________
قال
ابن هشام : والظاهر في الآية والبيت عكس ما قال إذ المراد في الآية : لقد فضلك
الله علينا بالصبر وسيرة المحسنين وذلك محكوم به في الأزل وهو متصف به مذ عقل .
والمراد في )
البيت أنهم ناموا قبل مجيئه .
أقول وربما أورده إنما هو بحسب نفس الأمر فيهما وأما بحسب الوقوع والظهور فزمان
الإيثار حالي قطعاً . ومراد الشاعر أنهم استغرقوا في النوم لا أنهم في أول النوم .
وهذه الإرادة كاذبة في نفس الأمر وإنما قالها للمرأة لتأمن انتباههم فتطاوعه .
ويدل على ما قلنا قوله : حلفت لها بالله حلفة فاجر ولو كان مراده أنهم في أوائل
نومهم لنفرها عن المطاوعة . فتأمل .
الأمر الثاني : أنه ذكر جواز الاقتصار على أحدهما في طول الكلام فأفهم أنه لا يجوز
حذف أحدهما دون الطول وحذفهما مع الطول .
أما الأول فقد قال أبو حيان في شرح التسهيل : لا حاجة إلى قيد الطول فقد جاء في
كلام الفصحاء حذف اللام وإبقاء قد .
قال زهير : ( تالله قد علمت نفس إذا قذفت ** ريح الشتاء بيوت الحي بالعنن ) وقال
أيضاً : تالله قد علمت سراة بني ذبيان عام الحبس والأصر
____________________
وأما
الثاني فجائز حذفهما كقوله تعالى : قتل أصحب الأخدود وهو جواب قوله : والسماء ذات
البروج .
الأمر الثالث : لم يعادل اللام مع ربما أو بما كما عادلها مع قد وقد عادلها ابن
مالك بهما أيضاً .
قال في التسهيل : ولا يخلو دون استطالة الماضي المثبت المجاب به من اللام مقرونة
بقد أو ربما أو بما مرادفتها إن كان متصرفاً وإلا فغير مقرونة . وقد يلي لقد أو
لبما المضارع الماضي ومثل في شرحه للام المقرونة بربما في الماضي بقول الشاعر : (
لئن نزحت دار للبنى لربما ** غنينا بخير والديار جميع ) وبقول عمر بن أبي ربيعة :
( فلئن بان أهله ** لبما كان يؤهل ) ومثل في المضارع بلقد قول الشاعر : ) ( لئن
أمست ربوعهم يباباً ** لقد تدعو الوفود لها وفودا ) وبلبما قول الآخر : ( فلئن
تغير ما عهدت وأصبحت ** صدقت فلا بدل ولا ميسور )
____________________
(
لبما يساعف في اللقاء وليها ** فرح بقرب مزارها مسرور ) وقال أبو حيان في لبما :
إن الباء سببية وما مصدرية ويقدر بعد اللام فعل أي : لبان بما كان يؤهل .
الأمر الرابع : لم يذكر حكم اللام مع معمول الماضي إذا تقدم عليه هل يكتفي بها أو
يجوز ضم قد إليها . وكأنه سكت عنه ليعلم حكمه بالقياس إلى معمول المضارع إذا تقدم
فإنه يجب الاكتفاء باللام .
قال ابن مالك في التسهيل : ويجب الاستغناء باللام الداخلة على ما تقدم من معمول
الماضي كما استغني بالداخلة على ما تقدم من معمول المضارع . ومثل له في شرحه بقول
أم حاتم : ( لعمري لقدماً عضني الجوع عضةً ** فآليت أن لا أمنع الدهر جائعا ) قال
: وقد اجتمع شذوذان في قول عامر بن قدامة : ( فلبعده لا أخلدن وما له ** بدل إذا
انقطع الإخاء فودعا ) أحدهما : عدم الاستغناء بتقدم اللام عن النون . والثاني :
دخولها على جواب منفي فلو كان مثبتاً لكان دخولها عليه مع تقدم اللام أسهل .
الأمر الخامس : قوله : إن هذه اللام لام الابتداء لا تدخل على الماضي المجرد فلا
بد من تقدير قد مخالف لكلام ابن السراج قال في الأصول في باب إن وأخواتها : وإذا
كان خبر إن فعلاً ماضياً لم يجز أن تدخل عليه اللام التي تدخل على خبرها إذا كان
اسماً فلا تقول : إن زيداً لقام وأنت تريد هذه اللام لأن هذه اللام لام الابتداء .
إلى أن قال : فإن قال قائل : أراني أقول : لأقومن ولينطلقن فأبدأ باللام وأدخلها
على الفعل قيل له : ليست هذه اللام تلك اللام . هذه تلحقها النون وتلزمها وليست
الأسماء داخلة في هذا الضرب وإنما سمعت والله لقام زيد .
____________________
لناموا
فما إن من حديث ولا صالي فهذه اللام التي تكون معها النون غير مقدر فيها الابتداء
. تقول : قد علمت أن زيداً ليقومن )
وأن زيداً لقام فلا تكسر إن كما كنت تكسرها في قولك : أشهد إن محمداً لرسول الله .
انتهى .
وقال ابن عصفور : ومن الناس من زعم أنه لابد من قد ظاهرة أو مقدرة فإنه قاس ذلك
على اللام الداخلة على خبر إن فكما لا تدخل تلك اللام على الماضي فكذلك هذه اللام
عنده .
وذلك باطل لأن لام إن إنما لم يجز دخولها على الماضي لأن قياسها أن لا تدخل على
الخبر إلا إذا كان المبتدأ في المعنى نحو : إن زيداً ليقوم فيقوم يشبه قائماً لأن
هذه اللام هي لام الابتداء فلما تعذر دخولها على المبتدأ دخلت في الخبر الذي هو
المبتدأ في المعنى أو ما أشبه ما هو المبتدأ في المعنى .
وليس كذلك اللام التي في جواب القسم . وأيضاً فإن قد تقرب من الحال فإذا أردنا
القسم على الماضي البعيد من زمن الحال لم يجز الإتيان بها . انتهى .
وكلام ابن السراج نص مدلل لا دافع له وهو إمام البصريين كسيبويه . وليس وراء
عبادان قرية .
وهذا البيت من قصيدة طويلة لامرئ القيس مطلعها :
____________________
وقد
شرحنا في مواضع متعددة خمسة وعشرين بيتاً من أولها إلى هنا . وبعده : ( فأصبحت
معشوقاً وأصبح بعلها ** عليه القتام كاسف الحال والبال ) وقوله : فما إن من حديث .
. . . . . . إلخ إن زائدة مؤكدة للنفي وكذلك من .
وحديث يحتمل أن يكون بمعنى الكلام فيقدر مضاف أي : ذي حديث ويحتمل أن يكون صفة
بمعنى محادث كالعشير بمعنى المعاشر .
وصالي من صلي بالنار إذا قرب منها ودفع بحرارتها ألم البرد . وحديث مرفوع تقديراً
على أنه مبتدأ وسوغ الابتداء به تقدم النفي وخبره محذوف أي : مستيقظ .
والبعل : الزوج . وأراد بالقتام سواد العرض . والكاسف : المتغير .
ذكر ابن الحباب السعدي في كتاب مساوي الخمر أن امرأ القيس لما كان منادماً لقيصر
رأته ابنته فعشقته وراسلها فصار إليها وفيها قال : حلفت لها بالله حلفة فاجر البيت
مع أبيات أخر ولم يزل يصير إليها إلى أن أخبر بذلك أصحابه وفيهم الطماح بن قيس
الأسدي فقال له : ائتنا بأمارة . فأتاه بقارورة من طيب الملك وذلك بفضل سكره . )
وكان أبو امرئ القيس قد قتل قيساً أبا الطماح فتحيل الطماح حتى أخذها فأنفذ بها
إلى قيصر وأخبره بالحديث فعرفه وعلم صحته . ثم إن امرئ القيس ندم على إفشاء سره
إلى الطماح ففي ذلك يقول :
____________________
(
إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ** فليس على شيء سواه بخزان ) فلما ذهب امرؤ القيس
بالجيش الذي أمده به قيصر أتى الطماح إلى قيصر وقد تغير على امرئ القيس فقال :
أيها الملك أهلكت جيشاً بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه وأهل بيته وما تريد إلى
نصره وكلما قتل بعض العرب بعضاً كان خيراً لك . قال : فما الرأي قال : أن تدارك
جيشك وترده وتبعث إلى امرئ القيس بحلة مسمومة . ففعل فدخل امرؤ القيس الحمام فاطلى
ولبسها وقد رق جلده لقروح كانت به فتساقط لحمه . ورد قيصر جيشه وقدم امرؤ القيس
أنقرة فأقام بها يعالج قروحه إلى أن هلك بها .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( وأقسم أن لو
التقينا وأنتم ** لكان لكم يوم من الشر مظلم ) على أن أن عند سيبويه موطئة كاللام
في : لئن جئتني لأكرمنك . فاللام في لكان إذن جواب القسم لا جواب لو .
____________________
وهذا
نص سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله تعالى : وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما
آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه فقال : ما
هاهنا بمنزلة الذي ودخلتها اللام كما في إن واللام التي في الفعل هنا . ومثل هذه
اللام الأولى أن إذا قلت : والله أن لو فعلت لفعلت . وقال : فأقسم أن لو التقينا .
. . . . . . . . . . . . . . البيت ف أن في لو بمنزلة اللام في ما فأوقعت هنا
لامين : لام للأول ولام للجواب . ولام الجواب هي التي يعتمد عليها القسم . فكذلك
اللامان في قول الله : لما آتيتكم الآية . لام للأول وأخرى للجواب .
ومثل ذلك : لمن تبعك منهم لأملأن جهنم منكم إنما دخلت اللام على نية اليمين .
انتهى )
كلامه .
قال النحاس وتبعه الأعلم أن هاهنا توكيد كاللام في لئن . ألا ترى أن اللام لا تدخل
هاهنا لو قلت : أقسم لأن لو فعلت لم يجز لأن اللام إنما تدخل في القسم أو فيما كان
من سببيه نحو : والله لئن دخلت لأقومن فدخلت في لأقومن لأنه المقسم عليه . ودخلت
في لئن لأنها من سببه فأدخلت أن مع لو تأكيداً مثل اللام . انتهى .
وكذا يكون الجواب للقسم لو عدمت نحو : والله لو قمت لأكرمتك . وعليه خرج الشارح
المحقق البيت الآتي كما أن اللام الموطئة سواء ذكرت أم لم تذكر
____________________
يكون
الجواب بعدها للقسم لا للشرط نحو : والله لئن تأتني أو والله إن تأتني أكرمك .
وقد تبع ابن عصفور سيبويه في شرح الإيضاح فقال : وإذا توسطت لو أو لولا بين القسم
والفعل الواقع جواباً له لزم أن يكون الفعل الواقع جواباً ماضياً لأنه مغن عن جواب
لو ولولا المحذوف ودال عليه . وجواب لو ولولا لا يكون إلا ماضياً فوجب أن يكون
الدال عليه كذلك .
وقد يدخلون أن على لو توطئة لجعل الفعل الواقع بعدها جواباً للقسم كما يدخلون
اللام على إن الشرطية . انتهى .
وبما نقلنا عن سيبويه يعلم أن قول ابن هشام في المغني : إن أن بين القسم ولو زائدة
عند سيبويه خلاف الواقع . وهذا كلامه : الثاني أي : من المواضع الأربعة التي تزاد
أن فيها أن تقع بين لو وفعل القسم مذكوراً كقوله : فأقسم أن لو التقينا . . . . .
. . . . . . . . . . البيت ( أما والله أن لو كنت حراً ** وما بالحر أنت ولا
العتيق ) وهذا قول سيبويه وغيره . انتهى .
وذهب ابن عصفور في شرح الجمل إلى خلاف قول سيبويه فإنه لما أنهى الكلام على روابط
الجملة الواقعة جواب قسم قال : إلا أن يكون جواب القسم لو وجوابها فإن الحرف الذي
يربط المقسم به بالمقسم عليه إذ ذاك إنما هو أن نحو : والله أن لو قام زيد لقام
عمرو ولا يجوز الإتيان باللام كراهة الجمع بين لامين فلا يجوز : والله للو قام زيد
قام عمرو . انتهى .
____________________
وأورد
عليه ناظر الجيش في شرح التسهيل وتبعه ابن هشام في المغني أن أن لو كانت للربط
لوجب ذكرها ولا شبهة في جواز قولنا : والله لو قام زيد لقام عمرو . وترك أن في
مثله أكثر من )
ذكرها .
ونقضه الدماميني في شرح المغني المزج باللام الداخلة على جواب لو المنفي كقوله : (
ولو نعطى الخيار لما افترقنا ** ولكن لا خيار مع الليالي ) قال : فإنها حرف رابط
والأكثر تركها نحو : ولو شاء ربك ما فعلوه . انتهى .
أقول : دخول اللام على حرف النفي في الجواب شاذ وهي إنما تدخل على الجواب المثبت
وبالشاذ لا يرد النقض .
وذهب ابن مالك إلى عكس مذهب سيبويه فجعل الجواب للو سواء اقترنت بأن أم لا وجعل
جواب القسم محذوفاً مدلولاً عليه بجواب لو . والصحيح مذهب سيبويه عملاً بقاعدة
اجتماع القسم والشرط .
وقوله : وأقسم لو التقينا وأنتم أن بفتح الهمزة وروى : وأقسم لو أنا التقينا فلا
شاهد فيه .
وعلى الأول همزة التقينا بالوصل نقل كسرتها إلى واو لو فبقي الجزء مفاعلن بلا ياء
. وفيه ضرورة وهي العطف على ضمير الرفع المتصل من غير تأكيد بضمير رفع منفصل أو أن
يكون في الكلام طول يقوم مقام التأكيد .
قال ابن عصفور في الضرائر : كان الوجه أن يقال : التقينا نحن وأنتم إلا
____________________
أن
ضرورة الوزن أوجبت حذف الضمير المؤكد . انتهى .
ومعنى البيت : لو التقينا متحاربين لأظلم نهاركم فصرتم منه في مثل الليل . وكان :
تامة أو ناقصة ولكم خبرها .
والبيت من أبيات للمسيب بن علس يخاطب بها بني عامر بن ذهل بن ثعلبة وعامر هو أخو
شيبان بن ذهل في شيء صنعوه بحلفائهم .
وقبله : وبعده : ( رأوا نعماً سوداً فهموا بأخذه ** إذا التف من دون الجميع المزنم
) ( ومن دونه طعن كأن رشاشه ** عزالى مزاد والأسنة ترذم ) ( ألا تتقون الله يا آل
عامر ** وهل يتقي الله الأبل المصمم ) وقوله : لينتحين أي : يميل عليه ويتعمده من
انتحى عليه بالمهملة إذا تعمده . وميسم : فاعله )
يعني أنه يهجوه هجواً يسمه به لا يفارقه عاره . وأراد بالوخم : عامر بن ذهل .
والنعم : الإبل الراعية . قال الفراء : هو مذكر لا يؤنث يقال : هذا نعم وارد .
والمزنم من الناس : المستلحق في قوم ليس منهم ومن الإبل : الذي يقطع شيء من أذنه
ويترك مغلقاً . وإنما يفعل ذلك بالكرام منها .
والعزالى : جمع عزلاء كصحارى : جمع صحراء . والعزلاء بالعين المهملة والزاي
المعجمة : فم المزادة الأسفل . والمزادة : دلو البئر الكبير يجر بالثور . وترذم
____________________
بالذال
المعجمة : تسيل وتقطر .
والأبل بالموحدة وتشديد اللام قال صاحب العباب : هو الحلاف الظلوم . وذكر أبو
عبيدة انه الفاجر . وأنشد البيت .
وقال الكسائي : هو الذي لا يدرك ما عنده من اللؤم . والمصمم : من أصمه الله فصم
ويقال : وترجمة المسيب بن علس تقدمت في الشاهد الثاني بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الثمانمائة ) ( فأقسم لو شيء أتانا رسوله **
سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ) على أن الجواب فيه محذوف وهو جواب القسم لا جواب لو
عملاً بمقتضى الضابط في اجتماع قسم وشرط .
والشارح المحقق استنبط هذا الحكم من كلام سيبويه فإنه لما ذكر أن الواقعة بعد
القسم موطئة كاللام وكان الجواب للقسم لا للشرط جعل هذا الحكم مستمراً بعد حذفها
أيضاً . وتقدير الجواب كما ذكره الفراء وغيره : لو أتانا رسول سواك لدفعناه بدليل
قوله : مدفعا .
وفيه أن الجواب مذكور في البيت الذي بعده وهو :
____________________
(
إذن لرددناه ولو طال مكثه ** لدينا ولكنا بحبك ولعا ) وعلى هذا يكون قوله : ولكن
لم نجد لك مدفعا جملة اعتراضية . وعذرهم في تقدير الجواب أن هذا البيت ساقط في
أكثر الروايات وقد ذكره الزجاجي في أماليه الصغرى والكبرى في جملة ( بعثت إليها
والنجوم خواضع ** حذاراً عليها أن تقوم فتسمعا ) ( فجاءت قطوف المشي هائبة السرى
** يدافع ركناها كواعب أربعا ) ( يزجنيها مشي النزيف وقد جرى ** صباب الكرى في
مخها فتقطعا ) ) ( تقول وقد جردتها من ثيابها ** كما رعت مكحول المدامع أتلعا ) (
وجدك لو شيء أتانا رسوله ** سواك ولكن لم نجد لك مدفعا ) ( إذن لرددناه ولو طال
مكثه ** لدينا ولكنا بحبك ولعا ) ( فبتنا نصد الوحش عنا كأننا ** قتيلان لم يعلم
لنا الناس مصرعا ) ( إذا أخذتها هزة الروع أمسكت ** بمنكب مقدام على الهول أروعا )
قوله : بعثت إليها . . . إلخ قال شارح ديوانه خواضع حائلة للمغيب من آخر الليل
حذاراً عليها أن تقوم في سمع ولدها صوتها وقوله : فجاءت قطوف . . . إلخ هذا البيت
ساقط من رواية ديوانه وفاعل جاءت ضمير المرأة وقطوف بالنصب حال منه .
والقطف : ضيق المشي كمشي المقيد والفعل من باب ضرب .
____________________
وكذلك
: هائية السرى حال .
وركناها : جانباها . والكواعب : جمع الكاعب وهي الجارية حين يبدو ثديها للنهود .
وقوله : يزجنيها . . إلخ هذا البيت أيضاً ساقط من رواية ديوانه . و يزجنيها :
يدفعنها ويسقنها .
يقال : زجيته تزجيه إذا دفعته برفق للمشي . وهو بالزاي المعجمة والجيم . والنون
ضمير الكواعب أي : يمشينها كمشي النزيف أي : السكران وهو بالنون والزاي المعجمة .
والصبابة : البقية . والكرى : النون يعني كأن فيها فتور النوم .
وقوله : تقول وقد جردتها . . . إلخ راعه يروعه روعاً إذا أفزعه . والمدامع :
الأجفان . والأتلع بالمثناة الفوقية : الطويل العنق . يقول : كأنها ظبي مكحول
الأجفان أي : أكحل .
وقوله : وجدك لو شيء . . . إلخ هذا البيت وما بعده مقول قولها . والواو للقسم وجدك
مقسم به .
والجد بالفتح : العظمة والحظ والغنى والاجتهاد في الشيء وأبو الأب . وكل من هذه
الخمسة مناسب .
والمشهور : وأقسم لو شيء فالمقسم به محذوف أي : وأقسم بما يقسم به كما نبه عليه
الشارح المحقق في آخر الفصل .
قال شارح ديوانه : شيء بمعنى أحد قال تعالى : وإن فاتكم شيء من أزواجكم إلى الكفار
أي : أحد من أزواجكم .
تريد : لو أن إنساناً أتانا رسوله سواك ما أتيته ولكن لم نجد مدفعاً ندفعك به عنا
. انتهى . )
وجملة أتانا رسوله : صفة شيء وسواك : إما ظرف متعلق بمحذوف وإما اسم خارج عن
الظرفية صفة ثانية لشيء ويجوز أن يكون حالاً من الهاء في رسوله .
____________________
وقوله
: إذن لرددناه هذا يدل على أنه جواب لو لا جواب القسم فإذا إذن في الغالب تكون
جواباً للو أو لإن الشرطيتين ظاهرتين أو مقدرتين ولم يسمع وقوعها في جواب القسم .
وهذا البيت ساقط من رواية الديوان .
وقوله : فبتنا نصد الوحش عنا . . . إلخ قال شارح ديوانه : لأن الوحش لا تقرب
القتلى ولا النيام ولا غير ذلك من الناس . وإنما قال : قتيلان لأنهما نائمان في
الفلاة .
وفي رواية الديوان بيت بعد هذا وهو : ( تجافى عن المأثور بيني وبينها ** وتدني
عليها السابري المضلعا ) تجافى : مضارع أصله تتجافى أي : ترتفع عنه .
قال شارحه : المأثور : السيف الذي به أثر أي : جوهر . والسابري : ضرب من الثياب .
والمضلع : الذي فيه طرائق .
يقول : ترتفع عنه لئلا يؤذيها يبسه . يصف أنه متقلد سيفاً وتدني عليها السابري
ليقيها من يبس السيف .
وقوله : إذا أخذتها هزة . . . إلخ الهزة بالفتح مصدر هززت الشيء هزاً فاهتز أي :
حركته فتحرك والهزة بالكسر : نوع منه . والروع : الفزع . د قال شارح ديوانه : أي
أخذتها رعدة الفزع إذا فزعت من شيء تراه أو من خوف أن يشعروا بنا .
ويقال : يعتريها رعدة الجماع ويقال : تخاف من الافتضاض فتمسك بمنكبي تضمني إليها
لتسكن من شدة الفزع لأنها لم تخرج من خدرها ولم تباشر الرجال فهي فزعة مذعورة لما
يراد منها .
____________________
وترجمة
امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين . وقد رويت هذه القصيدة لغيره .
والله أعلم .
وأنشد بعده : حسب المحبين في الدنيا عذابهم والله لا عذبتهم بعدها سقر على أن
الفعل الماضي إذا نفي بلا في جواب القسم انقلب معناه إلى الاستقبال كما هنا فيكون
ماضياً لفظاً مستقبلاً معنى لأنه حلف على نفي تعذيب النار وذلك متوقع بدليل تعلق )
الظرف به وهو بعدها أي : بعد الدنيا . فعلى هذا يجوز أن يقال : والله لا قام زيد .
نص عليه ابن السراج .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت مفصلاً في الشاهد التاسع والعشرين بعد الستمائة .
وقوله : في الدنيا متعلق بعذابهم وهو جائز في مثله على الصحيح لا بحسب لأن
المقابلة في آخر البيت تقتضيه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن عشر بعد الثمانمائة )
____________________
وأي
فعل سيئ لا فعله على أن عدم تكرر لا في الماضي خاص بالشعر بدليل أنه لا يجوز في
غير الدعاء والقسم : لا قام زيد . وأما قوله تعالى : فلا اقتحم العقبة فقد أجاب
عنه الشارح المحقق بما ذكره .
والاقتحام : الدخول في الأمر الشديد . وذكر العقبة هنا مثل ضربه الله لمجاهدة
النفس والهوى والشيطان في أعمال البر فجعله كالذي يتكلف صعود العقبة . يقول : لم
يحمل على نفسه المشقة بعتق الرقبة والإطعام .
وذهب ابن يعيش إلى أن نفي الماضي ب لا قليل وهي معه بمعنى لم سواء تكررت أم لا .
ومثل بالآيتين والبيت ثم قال : حملوا لا في ذلك على لم إلا أنهم لم يغيروا لفظ
الفعل بعد لا كما غيروه بعد لم لأن لا غير عاملة ولم عاملة فلذلك غيروا لفظ الفعل
إلى المضارع ليظهر فيه أثر وكذلك قال ابن الشجري في أماليه ولم يقيده بقلة إلا أنه
قال : وأجود ما يجيء ذلك مكرراً .
وهذا ليس بشيء لاقتضائه جوازه قياساً . والجيد قول ابن هشام في المغني : إن ترك
التكرار شاذ . والبيت آخر أبيات خمسة من رجز لشهاب بن العيف وهي :
____________________
(
لا هم إن الحارث بن جبله ** زنا على أبيه ثم قتله ) ( وركب الشادخة المحجله **
وكان في جاراته لا عهد له ) فأي أمر سيئ لا فعله قوله : لا هم . . . إلخ يريد
اللهم أي : يا الله فحذف أل لضرورة الشعر . والحارث بن جبلة بفتح الجيم والموحدة
وهو ملك من ملوك غسان بالشام في الجاهلية ويقال لهم أولاد جفنة .
والحارث بن جبلة أمه مارية ذات القرطين يضرب بهما المثل يقال : خذه ولو بقرطي
مارية . )
وهو جد جبلة بن الأيهم بن جبلة بن الحارث بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة . فالحارث أبوه
جبلة وابنه جبلة وابن ابنه جبلة .
وقوله : زنا على أبيه قال ابن السكيت في باب ما يهمز فيكون له معنى وإذا لم يهمز
كان له معنى آخر من إصلاح المنطق : يقال : قد زنا عليه بالتثقيل والهمز : إذا ضيق
عليه والزناء : الضيق .
وقال ابن الشجري في أماليه : يروى بتخفيف النون وتشديدها . فمن رواه مخففاً فمعناه
زنى بامرأته ومن رواه مشدداً فأصله زنأ مهموز ومعناه ضيق عليه . وهذا القول أوجه
وهي رواية ابن السكيت . انتهى .
وقد خاط ابن هشام في المغني فنسب المخفف إلى يعقوب بن السكيت وقال : أصله الهمز
وفسره بضيق فأخطأ في ثلاثة مواضع . ثم قال : وروي بتشديد النون والأصل زنى بامرأة
أبيه فحذف المضاف وأناب على عن الباء . فجعله غير مهموز وفسره بمعنى المخفف فهذان
خطآن .
____________________
وقوله
: وركب الشادخة . . . إلخ قال ابن السكيت : أي ركب فعلة قبيحة مشهورة . و يقال :
شدخت الغرة إذا اتسعت في الوجه . ومنه أخذ شارح أبياته البن السيرافي فقال :
الشادخة : الفعلة القبيحة التي تشدخ فاعلها والشادخة أيضاً من الغرر . يريد أنه
ركب أمراً واضحاً في القبح .
والمحجلة : المشهورة التي لا خفاء بها . وكذا قال التبريزي في تهذيب الإصلاح :
الشادخة : الغرة التي يكنى بها عن الأمر الشهير وكذا المحجلة من التحجيل وهو بياض
القوائم . وهم يقولون في الشيء المشهور : هو أغر محجل .
وقوله : وأي أمر سيئ . . . إلخ يروى بالواو وبالفاء . والسيئ كسيد من السوء وهو
الفعل المتصف به . وصفه بالغدر وقلة المعروف وأنه ضيق على أبيه فقتله وركب الخطة
الشنعاء الشهيرة ولم يرع ذمام جاراته بل انتهك حرمتهن وما ترك أمراً ذميماً إلا
ارتكبه .
وروي : أنه كان إذا أعجبته امرأة من قيس أرسل إليها فاغتصبها حتى قال بعض
الكلابيين : ( يا أيها الملك المخوف أما ترى ** ليلاً وصبحاً كيف يعتقبان ) ( هل
تستطيع الشمس أن تأتي بها ** ليلاً وهل لك بالمليك يدان ) ) ( اعلم وأيقن أن ملكك
زائل ** واعلم بأن كما تدين تدان ) وفي البيت الأخير إقواء .
وكان منشأ تلك الأبيات ما رواه أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب قال : كان من قصة
الشعر أن المنذر بن ماء السماء وهو ذو القرنين ملك الحيرة اللخمي دعا ذات يوم
الناس فقال : من يهجو الحارث بن جبلة الغساني . فقالوا :
____________________
حرملة
بن عسلة المري فقال : يا حرملة اهجه ولك مائة من الإبل .
فقال : أبيت اللعن إنهم أخوالي وإنه لا ينبغي لي أن أهجوهم . فتوعده فقال حرملة بن
حكيم بن عفير بن طارق بن قيس بن مرة بن همام وأمه عسلة بنت عامر بن شراكة قاتل
الجوع ( ألم تر أني بلغت المشيبا ** وفي دار قومي عفاً كسوبا ) ( ون الإله تنصفته
** بأن لا أعق وأن لا أحوبا ) ( وأن لا أكافر ذا نعمة ** وأن لا أخيبه مستثيبا ) (
وغسان قوم هم والدي ** فهل ينسينهم أن أغيبا ) ( فأوزع بها بعض من يعتريك ** فإن
لها من معد كليبا ) ( وإن لخالي مندوحةً ** وإن علي بغيب رقيبا ) فانبرى شهاب بن
العيف أخو بني سليمة من عبد القيس فقال : لا هم إن الحارث بن جبلة الأبيات فأسرهما
الحارث بن جبلة في هزيمة المنذر فقال : يا حرملة اختر ما شئت في ملكي . فسأله
جاريتين ضرابتين فأعطاهما إياه فنزل في النمر فقعد يشرب هو ورجل من النمر يقال له
: كعب فلما أخذ الشراب في النمري قال : يا حرملة من هذه المرأة الحمراء مرها
فلتسقني .
فغضب حرملة ثم أعادها فضربه حرملة بالسيف فقتله وقال في ذلك : ( يا كعب إنك لو
قصرت على ** حسن الندام وأنت ذو حلم ) ( وسماع مسمعة تعللنا ** حتى نؤوب تناوم
العجم )
____________________
مع
أبيات خمسة أخرى وقال لابن العيف : اختر مني ثلاث خلال : إما أن أطرحك على أسدين
ضاريين في بئر وإما أن ألقيك من سور دمشق وإما أن يقوم الدلامص سياف كان له فيضربك
بعصاه هذه ضربة . فاختار ضربة الدلامص . فضربه زعموا على رأسه )
فانكسرت فخذه فاحتمله راهب وداواه حتى برأ وهو يخمع منها فكان هذا والحارث يومئذ
بقنسرين . انتهى .
وكذا أورد هذه الحكاية محمد بن حبيب في كتاب المقتولين غيلة .
وشهاب بن العيف العبدي شاعر جاهلي . والعيف بفتح المهملة وكسر المثناة التحتية
المشددة . والعبدي : نسبة إلى عبد القيس لأنه أحد بني سلمة من عبد القيس بضم السين
وفتح اللام وهما في بني شيبان .
وقد نسب هذا الشعر إلى شهاب بن العيف محمد بن حبيب والآمدي أيضاً في كتاب أشعار
بني شيبان ووقع في كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم أن هذا الشعر لعامر بن
العيف أخي شهاب بن العيف . والله أعلم .
وأنشد بعده :
____________________
فقلت
يمين الله أبرح قاعداً على أنه يجوز حذف حرف النفي من المضارع الواقع جواب القسم
كما هنا وأصله : لا أبرح فحذف لا .
وأما حذف النافي من الماضي ومن الجملة الاسمية فغير جائز اطراداً وقل الحذف منهما
.
أما الأول فنحو قول أمية بن أبي عائذ الهذلي : فإن شئت آليت بين المقا م والركن
والحجر الأسود ( نسيتك ما دام عقلي معي ** أمد به أمد السرمد ) أي : لا نسيتك .
قال ابن مالك : ويكثر ذلك إن تقدم نفي على القسم كقوله : فلا والله نادى الحي ضيفي
أي : لا نادى . وأما الثاني فكقول عبد الله بن رواحة :
____________________
(
فوالله ما نلتم ولا نيل منكم ** بمعتدل وفق ولا متقارب ) أراد : ما نلتم فحذف ما
النافية وأبقى الموصولة . ولا يجوز العكس لأنه لا يجوز حذف الموصول وإبقاء صلته
عند البصريين . والمصراع صدر وعجزه : ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي والبيت تقدم
شرحه قريباً قبل هذا بعشرة أبيات . ) ( الشاهد التاسع عشر بعد الثمانمائة )
____________________
(
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** بمشمخر به الظيان والآس ) على أنه حذف من يبقى لا
والتقدير : تالله لا يبقى . وأنشده سيبويه بلفظ : لله يبقى على الأيام البيت على
أن اللام فيه حرف قسم وتعجب وهذا نصه : وقد تقول : تالله وفيها معنى التعجب .
وبعض العرب يقول في هذا المعنى : لله فيجيء باللام ولا يجيء إلا أن يكون فيه معنى
التعجب . وأنشد البيت . وهو من قصيدة أولها : ( يا مي إن تفقدي قوماً ولدتهم ** أو
تخلسيهم فإن الدهر خلاس ) ( عمرو وعبد مناف والذي عهدت ** ببطن عرعر آبى الضيم
عباس )
____________________
(
يا مي إن سباع الأرض هالكة ** والعفر والأدم والآرام والناس ) ( تالله لا يعجز
الأيام مبترك ** في حومة الموت رزام وفراس ) ( يحمي الصريمة أحدان الرجال له **
صيد ومستمع بالليل هجاس ) ثم وصف الأسد بثلاثة أبيات فقال : ثم وصف الوعل إلى آخر
القصيدة في سبعة أبيات والبيتان الأولان من شواهد سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد في قطع عمرو وما بعده ما قبله وحمله على الابتداء . ولو نصب
على البدل من القوم لجاز .
ومعنى تخلسيهم بالبناء للمفعول : تسلبيهم . والخلس : أخذ الشيء بسرعة . أي : إن
أفقدك الدهر إياهم فذلك شأنه .
وأراد بعمرو : عمرو بن عبد مناف بن قصي وهو هاشم بن عبد مناف . وأراد بالعباس
العباس بن عبد المطلب . وإنما ذكرهم وقال : ولدتهم لأنهم كلهم من ولد مدركة بن
إلياس بن مضر .
وعرعر : موضع . وروي بدله : ببطن مكة . وآبي من الإباء وهو الامتناع . والضيم :
الظلم .
وقد تقدم شرحهما في الشاهد الخامس والستين بعد الثلثمائة .
وقوله : والعفر والأدم . . . إلخ العفر بضم المهملة : الظباء . والأدم : المسر
منها والآرام : البيض منها . )
وقوله : تالله لا يعجز الأيام مع البيت بعده هما من شواهد سيبويه . قال
____________________
الأعلم
: الشاهد فيهما جري الصفات على ما قبلها مع ما فيها من معنى التعظيم ولو نصب لجاز
.
قال السكري : الأيام هنا : الموت . والمتبرك : المعتمد وهو الأسد . وحومة الموت :
الموضع الذي يدور فيه الموت لا يبرح منه . والرزام : المصوت . يقال : رزم الأسد
يرزم . وإذا برك الأسد على فريسة رزم . وفراس : يدق ما يصيبه .
والصريمة : موضع . وأحدان الرجال : الذين يقول أحدهم : أنا الذي لا نظير له في
الشجاعة والبأس . يقول : هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة وهو مع ذلك لا
ينجو من الموت . وقوله : يا مي لا يعجز الأيام ذو حيد هكذا وقع في جميع الروايات
ولكن سيبويه ثقة والقول ما قالت حذام . وقوله : ذو حيد رواه المبرد بفتح الحاء
المهملة والمثناة التحتية وجعله مصدراً بمنزلة العوج والأود وهو اعوجاج يكون في
قرن الوعل .
ورواه ثعلب بكسر المهملة وكذا السكري وفسره بجمع حيدة مثل حيض جمع حيضة .
والحيدة : العقدة في قرن الوعل . ومنهم من جعله جمع حيد وهو كل نتوء في القرن
والجبل وغيرهما .
وقال بعضهم : هو مصدر حاد يحيد حيداً بالسكون فحركه للضرورة ومعناه الروغان .
____________________
وروي
: ذو جيد بالجيم وهو جناح مائل من الجبل . وقيل : يعني به الظبي . والوعل : التيس
الجبلي .
وروى الحلواني بدله : ذو خدم بفتح الخاء المعجمة والدال المهملة . وقال : الخدم :
البياض المستدير في قوائم الثور واحدها خدمة .
المشمخر : الجبل الشامخ العالي . والباء بمعنى في متعلقة بمحذوف هو صفة لذي حيد .
وجملة به الظيان : صفة لمشمخر . والظيان بالظاء المعجمة وتشديد المثناة التحتية :
ياسمين البر .
والآس : الريحان . وإنما ذكرهما إشارة إلى أن الوعل في خصب فلا يحتاج إلى الإسهال
فيصاد .
وقال الحلواني : الآس : نقط من العسل تقع من النحل على الحجارة فيستدلون به
أحياناً . وهذا البيت تقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الخامس والستين بعد
الثلثمائة . )
وهذه القصيدة نسبها السكري إلى أبي ذؤيب الهذلي وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع
والستين . وعزاها الحلواني إلى مالك بن خالد الخناعي .
وخناعة بضم المعجمة وتخفيف النون هو خناعة بن سعد بن هذيل . ونسبها غيرهما إلى
أمية ابن أبي عائذ الهذلي كما تقدم هناك . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث
والخمسين بعد المائة .
وقد وقع المصراع الأول كما رواه الشارح المحقق في قصيدة لساعدة بن جؤية الهذلي
ميمية هكذا :
____________________
(
تالله يبقى على الأيام ذو حيد ** أدفى صلود من الأوعال ذو خدم ) قال السكري : يريد
: والله لا يبقى .
وقوله : ذو حيد يعني الوعل . والحيد : كعوب في القرن . والأدفى : الذي يذهب قرنه
إلى نحو ذنبه . والصلود : الذي يقرع الجبل بظلفه . والخدم : خطوط في قوائمه .
وهذه قصيدة طويلة رثى بها جماعة وغالب ألفاظها ومعانيها على النمط الأول .
وترجمة ساعدة بن جؤية تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة .
وأنشد بعده : تنفك تسمع ما حيي ت بهالك حتى تكونه على أنه يجوز حذف لا من أخوات
زال كما هنا فإن التقدير : لا تنفك تسمع . وفي غيرها لا يجوز .
وهذا وإن كان في غير جواب القسم خاص بزال وأخواتها . وسمع في الشعر حذف لا في
غيرها .
____________________
(
وقولي إذا ما أطلقوا عن بعيرهم ** تلاقونه حتى يؤوب المنخل ) وخرجه ابن مالك على
تقدير قسم مقدر أي : والله لا تلاقونه .
قال الدماميني : والظاهر أن رأيه أولى ليكون من قبيل ما حذف بقياس .
وقوله : وقولي معطوف على أبدالي في بيت قبله وهو قوله : ( لعمري لقد أنكرت نفسي
ورابني ** مع الشيب أبدالي التي أتبدل ) وأبداله : هي الشيب بعد الشباب والضعف بعد
القوة والهزال بعد المسن والسقم بعد )
الصحة . والمقول هو لا تلاقونه . . . إلخ . أي : لا تلاقون البعير بعد إطلاقكم
إياه حتى يؤوب المنخل .
وهذا القول في نفس الأمر مما يريب كأنه يدل على ذهول عقل وخرف فإن البعير إذا أطلق
ليس في مسكه جهد عظيم .
والمنخل بفتح الخاء المعجمة المشددة : اسم شاعر كان النعمان بن المنذر اتهمه مع
امرأته فدفنه حياً فلم يعرف خبره إلى الآن . والعرب تضرب المثل به لغائب لا طمع في
رجوعه .
وبعده : ( فيضحى قريباً غير ذاهب غربة ** وأرسل أيماني فلا أتحلل ) الغربة بفتح
الغين المعجمة والموحدة : البعد أي : يصير البعير الذي أطلقوه
____________________
قريباً
منهم ولا يذهب ذهاب بعد ومع ذلك أنا أذهل وأقول لهم ذلك القول فأرسل أيماني ولا
أقيدها باستثناء ولا أتحلل بقول إن شاء الله .
وهذا البيت من أبيات المغني ولم يشرحه شراحه ولهذا شرحته إجمالاً .
والنمر بن تولب صحابي عاش دهراً طويلاً . وقد ترجمناه فيما مضى . وأما قوله : تنفك
تسمع ما حييت . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقد تقدم شرحه في الشاهد
الرابع والثلاثين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : فلا وأبي دهماء زالت عزيزةً على أن أصله : فو أبي دهماء لا زالت
عزيزة ففصل بين لا النافية وبين زالت بالجملة القسمية أعني قوله : وأبي دهماء .
أقسم الشاعر بوالد هذه المرأة . وليس فيه حذف لا خلافاً للفراء في زعمه ذلك ولا ما
خلافاً لابن عصفور في دعواه .
وقد تقدم الكلام على هذا في الشاهد الثالث والثلاثين بعد السبعمائة .
____________________
وهذا
صدر وعجزه : على قومها ما فتل الزند قادح ( الشاهد العشرون بعد الثمانمائة ) ( هذا
ثنائي بما أوليت من حسن ** لا زلت عوض قرير العين محسودا ) على أن عوض قد لا
يستعمل في القسم كما هنا وهو هنا ظرف بمعنى أبداً متعلق ب لا زلت .
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد العشرين بعد الخمسمائة .
والبيت آخر قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً لربيعة بن مقروم الضبي أربع منها في
النسيب وأربع في ذكر ناقته وست في مدح مسعود بن سالم بن أبي سلمي بضم السين وشد
الياء ابن ربيعة بن ذبيان بن عامر بن ثعلبة بن ذؤيب بن السيد .
روى صاحب الأغاني عن أبي عمرو : أن ربيعة بن مقروم أسر واستيق ماله فتخلصه مسعود
المذكور فمدحه ربيعة المذكور بهذه القصيدة .
____________________
وهذه
سبعة أبيات منها يخاطب ناقته : ( لما تشكت إلي الأين قلت لها ** لا تستريحين ما لم
ألق مسعودا ) ( ما لم ألاق امرأ جزلاً مواهبه ** سهل الفناء رحيب الباع محمودا ) (
وقد سمعت بقوم يحمدون فلم ** أسمع بمثلك لا حلماً ولا جودا ) ( لا حلمك الحلم
موجود عليه ولا ** يلفى عطاؤك في الأقوام منكودا ) ( وقد سبقت بغايات الجياد وقد
** أشبهت آباءك الصيد الصناديدا ) هذا ثنائي بما أوليت . . . . . . . . . . . . .
. . إلخ وقوله : لما تشكت . . . إلخ الأين : التعب . والسيد : قبيل الممدوح من آل
ضبة . قاله صاحب الأغاني .
وقال ابن الأنباري في شرح المفصليات : قال أبو جعفر : السيد : قوم ربيعة بن مقروم
. يقول : لا أخبرهم عنك باطلاً وإنما أمدحك بالحق .
وقوله : لا حلمك الحلم . . إلخ قال ابن الأنباري : أي : لم يطش حلمك فيوجد عليه .
والصيد : جمع أصيد وهو الذي لا يكاد يلتفت من التكبر . والصناديد : الكرام .
وقوله : هذا ثنائي . . . إلخ قال ابن الأنباري : أراد بعوض الدهر وهو مبني على
الضم . يقول : لا زلت محسوداً ذا نعمة تحسد عليها . كقول الآخر : ( محسدون على ما
كان من نعم ** لا يذهب الله عنهم ما له حسدوا ) )
ومثله قول الآخر :
____________________
(
إن يحسدوني فإني غير لائمهم ** قبلي من الناس أهل الفضل قد حسدوا ) وحكى أبو عثمان
عن أبي زيد أن العرب لا تقول : حسد حاسدك أي : بالبناء للمفعول لأنه إذا قال له
ذلك دعا له بأن يكون له ما يحسد عليه ولكنهم يقولون : حسد لحاسدك . انتهى .
وترجمة ربيعة بن مقروم تقدمت في الشاهد الرابع والأربعين بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والعشرون بعد الثمانمائة ) ( وقلن على الفردوس أول
مشرب ** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره ) على أن جير قد تستعمل في غير القسم كما
هنا فإنها حرف تصديق بمعنى نعم بدون قسم .
وصنيع الجوهري يوهم أنها مع القسم لأنه قال : قولهم جير لا آتيك بكسر الراء : يمين
للعرب ومعناها حقاً . وأنشد هذا البيت بعينه .
____________________
والبيت
أورده أبو محمد بن أحمد بن الخشاب مع بيت قبله وهو : ( تحمل من ذات التنانير أهلها
** وقلص عن نهي الدفينة حاضره ) وهما من قصيدة لمضرس الأسدي أوردها الأصمعي في
الأصمعيات وهي قصائد اختارها لهارون الرشد فاشتهرت بالأصمعيات . وأورد منها ابن
المستوفي في شرح أبيات المفصل ستة تحمل من ذات التنانير أهلها ذات التنانير غير
موجود في المعجم للبكري قال ابن المستوفي : هو موضع . وقال العيني : هي عقبة بحذاء
زبالة .
قال البكري : زبالة بضم أوله بعده موحدة قال محمد بن سهل : هي بلد من أعمال
المدينة سميت بزبالة بنت مسعود من العماليق نزلت فيه فسمي بها . أي :
____________________
ارتحل
أهل هذا البلد منه .
وقلص أي : ارتفع . والنهي بفتح النون وكسرها وسكون الهاء فيهما هو الغدير .
الدفينة قال العيني : هو موضع . وقال ابن المستوفي هو فعيلة من قولهم : دفنت الشيء
فهو مدفون ودفين وركية دفين إذا اندفن بعضها . وهذه الكلمة غير موجودة أيضاً في
معجم البكري وإنما فيه الدفين بلا هاء قال : وهو واد قريب من مكة .
والحاضر : الحي العظيم قاله ابن المستوفي . وقال السيوطي : هو المقيم . )
وفي الصحاح : الحاضر : الحي العظيم وهو جمع كما يقال : سامر للسمار . وفلان حاضر
بموضع كذا أي : مقيم . ويقال : على الماء حاضر . وقوم حضار إذا حضروا المياه
ومحاضر وحضرة مثل كافر وكفرة .
وقوله : وقلن يعني النساء يعني أنهن قلن : إن ارتحلنا عن هذا الماء فإن أول مشرب
نرده قال ياقوت في معجم البلدان قال أبو عبيد السكوني : الفردوس : ماء لبني تميم
عن يمين طريق الحاج من الكوفة . وفردوس بلا لام : روضة دون اليمامة . وفردوس
الإياد في بلاد بني يربوع .
والهاء في دعاثره يجوز أن تعود على لفظ الفردوس ويجوز أن تعود على مشرب . وأول
مشرب : مبتدأ وعلى الفردوس : خبره . ثم اخبر بأجل جير أي : نعم إن كانت دعاثره
مباحة غير ممنوعة .
____________________
وهذا
من تسمية الشيء بما يؤول إليه . وجواب الشرط محذوف أي : إن كانت أبيحت دعاثره
فانزلن به .
وقال العيني : على الفردوس : حال والخبر : محذوف أي : قلن حال كونهن نازلات على
الفردوس : لنا أول مشرب .
قال ابن المستوفي : وجدته يروى : أن كانت بفتح الهمزة وتكون في موضع المفعول به .
وكسر إن أولى أي : إن أول مشرب على الفردوس كما ذكرتن ما لم تمنع دعاثره .
ودعاثره مع إن الشرطية غير مباحة لأن الشرط قد يقع وقد لا يقع ومع أن المصدرية
مباحة .
والأول أولى بالمعنى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : روي أن بفتح الهمزة وكسرها والكسر هو
رواية المفصل ولكليهما وجه : أما وجه الفتح فهو أن ذلك قد تحقق لأجل إباحة حياضه .
وأما وجه الكسر فهو أن ذلك متحقق إن كان قد حصل الإباحة لدعاثره . فظهر أن الفتح
في المعنى المراد أقوى وإن لم يبعد مع الثانية . انتهى .
وهو جمع دعثور بالضم . في الصحاح : والعثور : الحوض المتثلم . وأنشد هذا البيت .
وقياسه دعاثير إلا أنه حذف الياء ضرورة .
والمشرب : موضع الشرب . وقال بعضهم : مصدر ميمي أي : على الفردوس أول شرب نشربه .
وقوله : إن كانت أبيحت دعاثره من باب التنازع فإن رفعت دعاثره بأبيحت فاسم كان
ضمير )
الدعاثر أي : هي . وإن رفعته بكانت ففي أبيحت ضميرها . وجملة : أبيحت على الوجهين
خبر كانت . وأجل : حرف تصديق وجير توكيد له .
____________________
وهذا
البيت كذا في المفصل وغيره ولم أره كذا في شعر مضرس على ما رواه الأصمعي وإنما
الرواية كذا : ( وقلن ألا الفردوس أول محضر ** من الحي إن كانت أبيرت دعاثره )
وهذا ليس فيه أجل جير . والذي فيه الشاهد إنما هو شعر طفيل الغنوي وهو : ( فلما
بدا دمخ وأعرض دونه ** غوارب من رمل تلوح شواكله ) ( تحاثثن واستعجلن كل مواشك **
بلؤمته لم يعد أن شق بازله ) ولهذا قال الصغاني عند الكلام على جير وإنشاد البيتين
الأخيرين من شعر طفيل المذكور شاهداً ما نصه : وقد غير النحاة هذا الشاهد وجعلوه
خنثى وأنشدوا : ( وقلن على الفردوس أول مشرب ** أجل جير إن كانت أبيحت دعاثره )
وهو مغير من شعر مضرس بن ربعي وهو : ( وقلن ألا الفردوس أول محضر ** من الحي إن
كانت أبيرت دعاثره ) وقوله : فلما بدا دمخ هو بفتح الدال وسكون الميم بعدها خاء
معجمة : جبل من جبال ضرية طوله في السماء ميل .
قال ابن السكيت في شرح ديوان طفيل : غواربه : أعاليه وشواكله : نواحيه وجنوبه .
وقوله : وقلن معطوف على بدا بمعنى ظهر والنون ضمير الظعائن في
____________________
بيت
قبله وهو : ( تبصر خليلي هل ترى من ظعائن ** تحملن أمثال النعاج عقائله ) النعاج :
جمع نعجة شبه النساء بها . وعقيلة كل شيء : أفضله . ( ظعائن أبرقن الخريف وشمنه **
وخفن الهمام أن تقاد قنابله ) أبرقن : دخلت أشهر الحرم فخفن أن يغير عليهن فتنكبن
ناحيته وتباعدن عنه .
والشيم : النظر إلى موقع الغيث . والقنابل : جمع قنبلة كقنفذة وهي طائفة من الخيل
ما بين الثلاثين إلى الأربعين ونحوه : ( على إثر حي لا يرى النجم طالعاً ** من
الليل إلا وهو باد منازله ) النجم : الثريا . )
يقول : هذا الحي لا يرى النجم طالعاً بظلمة إلا رحل إلى مكان آخر يبتغي النجعة
فكأنه أبداً في قفر لا يقيمون للمياه هم أبداً سيارة . ( شربن بعكاش الهبابيد
شربةً ** وكان لها الأحفى خليطاً تزايله ) فلما بدا دمخ . . . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
عكاش
الهبابيد : ماء وهو جمع هبود جمعه بما حوله . والأحفى : بلد أي : زايلته كما تزايل
الخليط .
وقوله : ألا البردي ألا : للتنبيه فتدل على تحقق ما بعدها من جهة تركبها من همزة
الاستفهام ولا فإن الاستفهام إذا دخل على النفي أفاد التحقيق .
قال ابن السكيت : يعني بالبردي غديراً ينبت البردى . وقال البكري في معجم ما
استعجم : هو غدير لبني كلاب . وأنشد هذا البيت . والبردي : مبتدأ وأول مشرب : خبره
والجملة : مقول وقوله : أجل جير . . . إلخ مقول لقول محذوف أي : فقيل لهن أجل جير
إلخ . ورواء بالكسر والمد : جمع ريان وريا كعطاش جمع عطشان وعطشى . وأسافل : جمع
أسفل وهو المكان المنخفض .
يريد : إن اجتمع الماء في أراضيه المنخفضة حتى صار غديراً فالبردي أول مشرب وإلا
فلا .
فجواب الشرط محذوف يدل عليه ما قبله .
وقد استشهد ابن هشام في المغني بهذا المصراع فقط . وفي بعض نسخه تمام البيت من شعر
طفيل كما شرحنا . ولله دره في صنيعه .
وقوله : تحاثثن . . . إلخ هذا جواب لما والنون ضمير الظعائن . والحث : الإسراع .
وحث الفرس على العدو : صاح به أو وكزه برجل أو ضرب . وتحاثثن : تسارعن . واستعجلت
زيداً : طلبت عجلته . فهو متعد وكل مفعوله .
ومواشك : اسم فاعل
____________________
واشك
أي : سارع . ومواشك صفة محذوف أي : كل بعير مواشك .
واللؤمة بضم اللام وسكون الهمزة .
قال ابن السكيت : هي متاع الإبل وما يلقى عليها من رحل ومفارش . وجملة : لم يعد .
. إلخ صفة لمواشك وأن : مصدرية أي : لم يتجاوز شق نابه . يريد أنه كامل الفتوة .
وشق : بفتح قال ابن السكيت : يقال شق نابه وشقا نابه ونجم نابه وفطر نابه وبزل
نابه . وأصله )
الاشتقاق يقال : تبزل ما بينهم . انتهى .
قال صاحب العياب : بزل البعير بزولاً : فطر نابه أي : انشق فهو بازل وبزول ذكراً
كان أو أنثى .
وقال ابن دريد : رجل بازل إذا احتنك تشبيهاً بالبعير النازل . وفي حديث علي رضي
الله عنه : بازل عامين حديث سني أي : أنا في استكمال القوة كهذا البعير مع حداثة
السن . والبازل أيضاً : السن التي طلعت .
انتهى .
وإنما قيد بقوله : لم يعد أن شق . . . إلخ لأنه إذا تجاوزه يكون ضعيف القوى لهرمه
. وبزوله إنما يكون بدخوله في السنة التاسعة وبعدها يشرع في الهرم .
وقد رأيت البيت الشاهد في قصيدة قافية من شعر كعب بن زهير الصحابي وهو :
____________________
(
وقلن ألا البردي أول مشرب ** أجل جير إن كانت سقته بوارقه ) قال شارح ديوانه أبو
العباس الأحول : البردي : موضع . والبوارق : جمع بارقة يريد : سحابة وعدة أبياتها
خمسة عشر بيتاً . وكعب قد أخذه من طفيل الغنوي لأن طفيلاً جاهلي متقدم زمانه . وقد
مرت تراجمهم .
أما مضرس ففي الشاهد الرابع والثلاثين بعد الثلمائة وأما طفيل ففي الشاهد التسعين
بعد الستمائة وهما جاهليان . وأما كعب ففي الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الثمانمائة ) ( وقائله أسيت فقلت جير **
أسي إنني من ذاك إنه )
____________________
على
أنه استدل من ذهب إلى اسمية جير بالتنوين اللاحق له كما هنا .
وقال الشارح المحقق : هي حرف والتنوين لضرورة الشعر .
وهذا أحد أجوبة ثلاثة عنه .
ثانيها : أنه يحتمل أن يكون من تنوين الترنم تشبيهاً لآخر النصف بآخر البيت ذكره
الشلوبين .
وتنوين الترنم غير مختص بالاسم . والوصل بنية الوقف . وهو وتنوين الغالي كهاء
السكت إنما يلحقان الكلمة وقفاً لا وصلاً .
ثالثها : يحتمل أن يكون أراد توكيد جير بإن التي بمعنى نعم فحذف همزتها وخففت بحذف
النون الثانية . وهو بعيد .
وقد ذكر ابن مالك في شرح كافيته هذه الأوجه الثلاثة وقال : الصحيح أنها حرف بمعنى
نعم لأن كل موضع وقعت فيه جير يصلح أن تقع فيه نعم وليس كل موضع وقعت فيه يصلح أن
يقع حقاً . فإلحاقها بنعم أولى .
وقيل : إن جير ظرف بمعنى أبداً بني لقلة نمكنه . وقيل اسم فعل . فهذه أربعة أقوال
ذكرها ابن أبي الربيع في الملخص .
والقائل بأنها اسم فعل هو أبو علي وقد نقله ياقوت الحموي في معجم الأدباء في ترجمة
أبي علي في ضمن حكاية رأينا إيرادها هنا مناسباً قال ياقوت : وقال الأستاذ أبو
العلاء الحسين بن محمد بن سهلويه في كتابه الذي سماه أجناس الجوهر : كنت بمدينة
السلام أختلف إلى أبي علي الفارسي وكان السلطان رسم له أن ينتصب لي كل أسبوع يومين
لتصحيح كتاب التذكرة لخزانة كافي الكفاة .
____________________
فكنا
إذا قرأنا أوراقاً منه تجارينا في فنون الآداب واجتنينا من فوائد ثمار الألباب
ورتعنا في رياض ألفاظه ومعانيه والتقطنا الدر المنثور من فيه فأجرى يوماً بعض
الحاضرين ذكر الأصمعي وأسرف في الثناء عليه وفضله على أعيان وكان مما ذكر في
محاسنه أن قال : من ذا الذي يجسر أن يخطئ الفحول من الشعراء غيره فقال أبو علي :
وما الذي رد عليهم فقال الرجل : قد أنكر على ذي الرمة مع إحاطته بلغة العرب ومعانيها
وفضل معرفته بأغراضها ومراميها وأنه سلك نهج الأوائل في صوف المفاوز إذا لعب )
السراب فيها ورقص الآل في نواحيها . ونعت الحرباء وقد شبه على جذله والظليم وكيف
ينفر من ظله وذكر الركب وقد مالت طلاهم من غلبة المنام حتى كأنهم صرعتهم كؤوس
المدام فطبق مفصل الإصابة في كل باب وساوى الصدر الأول من أرباب الفصاحة وجار
القروم البزل من أصحاب البلاغة . فقال له الشيخ أبو علي : وما الذي أنكر على ذي
الرمة فقال : قوله :
____________________
وقفنا
فقلنا إيه عن أم سالم لأنه كان يجب أن ينونه . فقال : أما هذا فالأصمعي مخطئ فيه .
وذو الرمة مصيب .
والعجب أن يعقوب بن السكيت قد وقع عليه هذا السهو في بعض ما أنشده . فقلت : إن رأى
الشيخ أن يصدع لنا بجلية هذا الخطأ تفضل به . فأملى علينا : أنشد ابن السكيت : (
وقائلة أسيت فقلت جير ** أسي إنني من ذاك إنه ) ( أصابهم الحما وهم عواف ** وكن عليهم
تعساً لهنه )
____________________
(
وكيف تجيب أصداء وهام ** وأبدان بدرن وما نخرنه ) قال يعقوب : قوله : جير أي :
حقاً وهي مخفوضة غير منونة فاحتاج إلى التنوين . قال أبو علي : هذا سهو منه لأن
هذا يجري مجرى الأصوات وباب الأصوات كلها والمبنيات بأسرها لا ينون إلا ما خص منها
بعلة الفرقان فيها من نكرتها ومعرفتها التنوين فما كان منها معرفة جاء بغير تنوين
فإذا نكرته نونته .
من ذلك أنك تقول في الأمر : صه ومه تريد السكوت يا فتى فإذا نكرت قلت : صه ومه
تريد سكوتاً . وكذلك قول الغراب : غاق أي : الصوت المعروف من صوته وقول الغراب غاق
أي : صوتاً . وكذلك إيه يا رجل تريد الحديث . وإيه تريد حديثاً .
وزعم الأصمعي أن ذا الرمة أخطأ في قوله : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم وكان يجب أن
ينونه . وهذا من أوابد الأصمعي التي يقدم عليها من غير علم . فقوله : جير بغير
تنوين في موضع قوله : فقلت الحق . وتجعله نكرة في موضع آخر فتنونه فيكون معناه :
قلت حقاً . ولا مدخل للضرورة في ذلك إنما التنوين للمعنى المذكور وبالله التوفيق .
وتنوين هذا الشاعر على هذا التقدير . )
قال يعقوب : قوله أصابهم الحما يريد : الحمام . وقوله : يدرن أي : طعن في بوادرهم
بالموت .
والبادرة : النحر .
وقوله : فجئت قبورهم بدءاً أي : سيداً . وبدء القوم : سيدهم . وبدء الجزور : خير
أنصبائها .
وقوله : ولما أي : ولم أكن سيداً حين ماتوا فإني سدت بعدهم .
هذا ما أورده ياقوت بحروفه . وأورد ابن فارس في كتاب فقه اللغة هذه الأبيات عن المفضل
وزاد في أولهن بيتاً وهو : ( ألا يا طال بالغربات ليلي ** وما يلقي بنو أسد بهنه )
ويا حرف نداء والمنادى محذوف أي : يا قوم ونحوه . والغربات بضم الغين المعجمة
والراء المهملة بعدها موحدة : جمع غربة بضمتين وهي الامرأة
____________________
الغريبة
. وبدون هاء : الرجل الغريب .
يريد التزوج بالغربيات .
وليلي فاعل طال . وقال ابن الملا في شرح المغني : الغربات : موضع . ويرده الضمير
في بهنه .
والباء سببية والهاء للسكت .
وقوله : وقائلة الواو : واو رب وقائلة : صفة مجرور رب المحذوف أي : رب امرأة قائلة
.
وأسيت : بالخطاب جواب رب . والأسى : الحزن . يقال : أسي يأسى أسىً كرضي يرضى وأسي
: حزين وزناً ومعنى وهو خبر مبتدأ محذوف والتقدير : أنا أسي وخبر إنني محذوف مدلول
عليه بما قبله ومن متعلقة بالمحذوف تعليلية أي : إنني أسي من أجل ما لقي بنو أسد
بسبب التزوج بالغربيات من المصائب .
فاسم الإشارة راجع إلى ما لقي بنو أسد بسببهن . وإنه بمعنى نعم والهاء للسكت .
وقال ابن الملا : الإشارة للحزن أي : إنني مخلوق من الحزن قصداً للمبالغة . وإن
الثانية تأكيد للأولى . هذا كلامه .
وقوله : أصابهم الحما بكسر الحاء أصله : الحمام وهو الموت حذف منه الميم للضرورة
وهي ما وقع في الشعر وإن كان عنه مندوحة . وهذا هو الصحيح في تفسير الضرورة فلا
يرد قول ابن الملا : ولك أن تقول : أين الضرورة وهو متمكن من أن يقول : أصابهم
الحمام فهم عواف بسكون الميم من غير وصل على الأصل . )
وعواف : جمع عاف شذوذاً أو جمع عافية بمعنى جماعة عافية من عفا القوم بمعنى كثروا
.
وفي التنزيل : حتى عفوا .
____________________
قال
صاحب المصباح : أي كثروا . وعفا النبت والشعر وغيره يعفو فهو عاف : كثر وطال .
وفي حديث مصعب بن عمير : إنه غلام عاف أي : وافي اللحم كثيره . وجملة : وهم عواف :
حالية .
ولم يتنبه ابن الملا لهذا المعنى وظن انه من عفا المنزل بمعنى درس ففسره بالرمم
البالية وشطب الواو بقلمه ونزل فاء على هم وجعلها فهم عواف .
وهذا غير جائز في تفسير الرواية على حسب المراد وضمير جمع المذكر في جميع المواضع
لبني أسد والنون في كن ضمير النساء الغربيات .
وقوله : تعساً لهنه دعاء عليهن ومعناه : أتعسهن الله . قال صاحب المصباح : التعس :
مصدر تعس تعساً من باب نفع : أكب على وجهه فهو تاعس . وتعس تعساً من باب تعب لغة
فهو تعس مثل تعب .
وتتعدى هذه بالحركة وبالهمزة فيقال : تعسه الله بالفتح وأتعسه . وفي الدعاء :
تعساً له وتعس وانتكس .
فالتعس : أن يخر لوجهه . والنكس : أن لا يستقل بعد سقطته حتى يسقط ثانية وهي أشد
من الأولى . واللام في لهنه مبنية للمفعول مثل سقياً لزيد والهاء للسكت .
____________________
وروي
أيضاً : فنحساً خبر كن وهو ضد السعد . ولعنه بالبناء للمجهول من اللعن والهاء
للسكت والجملة دعاء عليهن .
وقوله : فجئت قبورهم بدءاً . . . إلخ البدء بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة :
السيد والشاب العاقل . ومجزوم لما محذوف .
قال ابن هشام في المغني : الخامس أي : من الأمور التي تفارق لما فيها لم : أن منفي
لما جائز الحذف لدليل كقوله : فجئت قبورهم بدءاً ولما أي : ولما أكن بدءاً قبل ذلك
أي : سيداً ولا يجوز وصلت إلى بغداد ولم تريد : ولم أدخلها . )
انتهى .
وقوله : وكيف تجيب أصداء . . . إلخ هذا استبعاد منه لإجابة القبور له .
وصحف ابن الملا هاتين الكلمتين فكتب بخطه : وكنت بدل كيف وبحيث بدل تجيب . وينبغي
أن يسأل منه ما هذه الحيثية والأصداء : جمع صدىً بالقصر وهو ذكر البوم يسكن القبور
.
وكذلك الهام وهو جمع هامة وهو من طير الليل .
وقوله : وأبدان بدرن روي أيضاً : وأجسام بدرن بضم الباء وكسر الدال أي : طعن في
بوادرهم
____________________
وقوله
: وما نخرنه من نخر العظم نخراً من باب تعب إذا بلي وتفتت . والنون : ضمير الأبدان
أو الأجسام على اختلاف الرواية . والهاء للسكت .
وأنشد بعده : فأقسم لو شيء أتانا رسوله تقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الثمانمائة ) ورث السيادة كابراً عن كابر
على أن تقديره : كابراً متجاوزاً في الفضل كابراً عن كابر آخر . وقال بعضهم : أي
بعد كابر .
والأولى إبقاء الحروف على معناها ما أمكن . وذكر متجاوزاً للإشارة إلى أن عن
متعلقة بمحذوف لا بكابر لما يأتي . وأشار بذكر الفضل إلى أن تجاوز أحدهما عن الآخر
إنما هو بالفضل فأحدهما
____________________
أفضل
من الآخر وهم متشاركون في الفضل . ولا يخفى أنه ليس المعنى على التفضيل وإنما
المعنى تساويهم في الفضائل وتناسقهم فيها واحداً بعد واحد كقول البحتري : ( شرف
تتابع كابراً عن كابر ** كالرمح أنبوباً على أنبوب ) ( وأماتنا أكرم بهن عجائزاً
** ورثن العلا عن كابر بعد كابر ) وأنشد أبو تمام في الحماسة : ( بقية قدر من قدور
تورثت ** لآل الجلاح كابراً بعد كابر ) وكذا قول حسان بن ثابت : ورثت الفعال وبذل
التلا د والمجد عن كابر كابر والمعنى عن كابر بعد كابر كقولهم : تعلمت الحساب
باباً باباً ومعناه : باباً بعد باب . وإلى ما )
قلنا ذهب ابن جني في إعراب الحماسة قال عند بيت الحماسة : هذا البيت يستفاد منه أن
عن في قول الأعشى : ( ساد وألفى قومه سادةً ** وكابراً سادوك عن كابر )
____________________
ليست
متعلقة بنفس كابر على حد قولك : كبرت عنه أي : ارتفعت عنه وإنما هي : بمعنى كابر
بعد كابر .
ألا تراه قد ظهر في بيت النابغة كابراً بعد كابر . ف عن في قول الأعشى كعن في قوله
تعالى : لتركبن طبقاً عن طبق أي : بعد طبق . وهو كقول الكافة في مخاطباتهم : فعلت
ذلك عوداً عن بدء أي : بعد بدء . ولو كانت عن متعلقة بنفس كابر لكان في ذلك تشنع
على القوم لا تمدح لهم وذلك إذا كبر بعضهم عن بعض فكان ذلك غضاً من المفضول .
وإنما ينبغي أن يقال : إنهم متتابعو الشرف متشابهو الفضل . وهذا كقول الآخر : ( من
تلق منهم تقل لاقيت سيدهم ** مثل النجوم التي يسري بها الساري ) انتهى كلامه .
ولا فرق بين أن تعلق عن بكابر أو بمتجاوز باقية على أصلها فإنه يلزم التفضيل في كل
منهما .
وكابر اختلف في معناه على ثلاثة أقوال : أحدها : أنه بمعنى كبير قاله صاحب الصحاح
وابن الشجري وغيرهما وهو المشهور .
ثانيهما : أنه اسم جمع . قال ابن جني ومثله للمرزوقي : قال أبو علي : كابر هنا ليس
باسم الفاعل كقائم وقاعد لكنه من أسماء الجمع بمنزلة الجامل والباقر والسامر فكأنه
قال : وكبراء سادوك بعد كبراء . فعن متعلقة بمحذوف هو في الأصل صفة لكبراء مثلهما
في قوله :
____________________
لآل
الجلاح كابراً بعد كابر أي : لآل الجلاح متتابعين في الفضل متشابهين في السودد .
انتهى .
ثالثها : أنه للمغالبة . قال الزمخشري في الأساس : إنه من كابرته فكبرته أي :
غلبته في الكبر فأنا كابر . انتهى .
وكابر منصوب بنزع الخافض والتقدير : من كابر لأن ورث يتعدى إلى مفعول واحد وهو
الموروث منه وتأتي بالموروث بعده بدل اشتمال تقول : ورثت أبي ماله ومالاً منه .
فإن عديته إلى الموروث جئت بالموروث منه مجروراً بمن أو عن تقول : ورثت المال من
أبي ومالاً عن )
أبي . قال صاحب الصحاح : ورثت أبي وورثت الشيء من أبي . ومثال عن ما أنشده أبو
حنيفة : ورثن العلا عن كابر بعد كابر وقول حسان المتقدم . وكذلك من محذوفة من قوله
: لآل الجلاح كابراً بعد كابر وكذا تقدر من في قوله : شرف تتابع كابراً عن كابر
وتتابع غير متعد والمعنى على من . وكذا الحال في بيت الأعشى .
ومما قررنا يضمحل ما تكلفه جماعة من أنه منصوب على الحال . ثم اختلفوا
____________________
فمنهم
من قال : كابراً عن كابر : جملة حالية نصب صدرها كما في قولهم : كلمته فاه إلى في
وأورد قول الشاعر : ( فتذاكروا آخراً عن أول ** وتوارثوها كابراً عن كابر ) ومنهم
من قال : كابراً مفرد وقع حالاً أي : ورثوه كابرين أو صاغرين وأفرد لكونه بمعنى
جمعاً كابراً .
قال السيد في حاشية الكشاف : وفيه أن هذه العبارة كما لا تختلف جمعاً وإفراداً لا
تختلف تأنيثاً وتثنية . انتهى .
ولا يخفى إن الحالية لا تتمشى في كل موضع وليس في هذه الأبيات ما هو حال . ومنشأ
هذا التكلف ظن أن كابراً الأول : هو الوارث والثاني : هو الموروث منه . وليس كذلك
وإنما الأول هو الموروث منه .
وهذا المصراع من شعر كعب بن زهير إلا أنه بضمير جمع . والشارح المحقق أورده لا على
أنه شعر ولذا قال : وكذا قولهم .
وقد ورد في شعر الفرزدق ما مثل به إلا أن فيه المكارم بدل السيادة وهو : ( كم من
أب لي يا جرير كأنه ** قمر المجرة أو سراج نهار ) ( ورث المكارم كابراً عن كابر **
ضخم الدسيعة كل يوم فخار ) وأما شعر كعب بن زهير فهو من قصيدة مدح بها الأنصار رضي
الله عنهم وهي ثلاثون بيتاً مدحهم في ثمانية عشر بيتاً منها . وسببها أن كعباً لما
مدح النبي صلى الله عليه وسلم بقصيدة )
بانت سعاد أطرى فيها بمدح المهاجرين رضي الله عنهم وعرض في آخرها بذكر الأنصار
بأنهم سود صغار القامات لا يثبتون في الحروب فغضب الأنصار فمدحهم بها .
____________________
قال
ابن هشام في السيرة : ويقال إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له بعد إنشاد القصيدة
: لولا ذكرت الأنصار بخير فإن الأنصار لذلك أهل .
وهذه بيات من أولها على رواية شارح ديوانه : ( من سره كرم الحياة فلا يزل ** في
مقنب من صالحي الأنصار ) ( ورثوا السيادة كابراً عن كابر ** إن الخيار هم بنو
الأخيار ) ( المكرهين السمهري بأذرع ** كسوافل الهندي غير قصار ) ( والناظرين
بأعين محمرة ** كالجمر غير كليلة الإبصار ) ( والذائدين الناس عن أديانهم **
بالمشرفي وبالقنا الخطار )
____________________
(
والباذلين نفوسهم لنبيهم ** يوم الهياج وقبة الجبار ) ( يتطهرون كأنه نسك لهم **
بدماء من علقوا من الكفار ) والمقنب بكسر الميم : ما بين الثلاثين إلى الأربعين .
قال شارح ديوانه : السيادة : مصدر ساد يسود سوداً وسيادة . والمشهور في مصدره
السيادة .
والسود مصدر غريب . وأما السودد بدالين فقد قال صاحب المصباح : ساد يسود سيادة
والاسم السودد وهو المجد والشرف .
وقال أيضاً : ورثوا المجد كابراً عن كابر أي : كبيراً شريفاً عن كبير شريف . وقال
المرزوقي في شرح الحماسة : لم يوجد كابر بمعنى كبير إلا في هذا المكان . وقال :
أبو علي يقول : كابر ليس باسم فاعل إنما هو صيغة للجمع كالباقر . والمراد كبراء
بعد كبراء .
والسمهري : الرمح قال شارح ديوانه : الهياج : الحرب وأصله الحركة في الشر .
____________________
وقوله
: وقبة الجبار أراد بيت الله الحرام . وقال أبو عمرو : الواو للقسم . والمشهور في
هذا المصراع : ( الباذلين نفوسهم لنبيهم ** يوم اللقا بتعانق وكرار ) وهي رواية
ابن هشام . وترجمة كعب بن زهير تقدمت في الشاهد الرابع عشر بعد السبعمائة .
وأنشد بعده : ) ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسب ** عني ولا أنت دياني فتخزوني ) على
أن أفضلت ضمن معنى تجاوزت في الفضل فلهذا تعدى بعن ولولا التضمين لقال : أفضلت علي
من قولهم : أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلاً .
____________________
وأفضل
هذه تتعدى بعلى لأنها بمعنى الإنعام أو أنه من قولهم : أعطى وأفضل إذا زاد على
الواجب . وأفضل هذه أيضاً تتعدى بعلى يقال : أفضل على كذا أي : زاد عليه فضلة .
ومراده من ذكر التضمين أن عن ليست بمعنى على خلافاً لابن السكيت ولابن قتيبة ومن
تبعهما فإنهم قالوا : عن نائبة عن على .
والأولى أن يكون أفضل من قولهم : أفضل الرجل إذا صار ذا فضل في نفسه فيكون معناه :
ليس لك فضل تنفرد به عني وتحوزه دوني . فيكون لتضمنه معنى الانفراد تعدى بعن .
فتأمل .
والديان : القيم بالأمر المجازي به . وتخزوني : تسوسني سياسة .
يقول : لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب وماثلك في الشرف فليس لك فضل تنفرد به عنه
ولا أنت مالك أمره فتتصرف به على حكمك . ومراده بابن العم نفسه فلذلك رد الإخبار
بلفظ المتكلم .
وقد تقدم شرحه بما لا مزيد عليه في الشاهد الثالث والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الثمانمائة ) تمامه : . . . . . . . . .
. . . . . وتتقي بناظرة من وحش وجرة مطفل
____________________
على
أن تبدي ضمن معنى تكشف في تعديته إلى المفعول الثاني ب عن وأما المفعول الأول فهو
محذوف كما أشار إليه الشارح المحقق .
وإنما احتاج إلى التضمين لأن تبدي فعل متعد بنفسه إلى مفعول واحد تقول : أبداه
إبداء أي : أظهره إظهاراً . فلولا التضمين لكانت عن إما زائدة بالنسبة إلى تبدي
وإما بمعنى الباء بالنسبة إلى تصد فإنه يقال : صد عنه بكذا وكلاهما خلاف الأصل .
وتكشف أيضاً متعد بنفسه إلى مفعول واحد تقول : كشفته أي : أظهرته وأوضحته . وحقيقة
الكشف رفع الساتر والحجاب . ويتعدى إلى المفعول الثاني ب عن .
وهذا البيت من باب التنازع . وأعمل ابن قتيبة الأول على مذهبه فعلق عن أسيل بتصد
وجعل عن نائبة عن الباء لأن صد إنما يتعدى بالباء تقول : صد بوجهه عني .
ويرد عليه أنه يلزمه أن يقال : تصد وتبدي عنه عن أسيل لأنه إذا أعمل الأول في
المفعول أضمر للثاني على المختار باتفاق من البصريين والكوفيين . فحذف معمول
الثاني خلاف المختار .
فعلى قوله فيه إنابة حرف مكان حرف وحذف على غير المختار .
والشارح المحقق لما رأى ورود هذين الأمرين عدل إلى إعمال الثاني على مذهب البصريين
بتضمينه معنى ما ذكر ففيه مخالفة للأصل من وجه واحد وهو أسهل من مخالفته من وجهين
.
والجيد أن يكون أبدى هنا لازماً يتعدى بعن كما قال ابن السيد في شرح أبيات أدب
الكاتب إن أبدى يعدى بعن قال : لأنك تقول : أبديت عن الشيء كما قال سحيم يصف ثوراً
يحفر في أصل شجرة كناساً له : ( يثير ويبدي عن عروق كأنها ** أعنة خراز جديداً
وباليا )
____________________
وحينئذ
لا تضمين فيكون عن على بابه . ويؤيده ما في أفعال ابن القطاع قال : بدا الشيء
بدواً وأبدى : ظهر . انتهى . فيكون أبدى جاء متعدياً ولازماً .
وهذا البيت من معلقة امرئ القيس وبعده : ( وجيد كجيد الريم ليس بفاحش ** إذا هي
نضته ولا بمعطل ) ) ( وفرع يزين المتن أسود فاحم ** أثيث كقنو النخلة المتعثكل ) (
غدائره مستشزرات إلى العلا ** يضل العقاص في مثنى ومرسل ) ( وكشح لطيف كالجديل
مخصر ** وساق كأنبوب السقي المذلل ) قوله : تصد وتبدي . . . إلخ الصد : الإعراض .
والأسيل : الخد المتطامن المستوي . والأسالة : وروي أيضاً : عن شتيت . قال شراح
المعلقات : الشتيت : المتفرق وتقديره عن ثغر شتيت .
ولم يفصحوا عن المراد والمعنى عن ثغر مفلج وهو أن تكون الأسنان متباعدة غير
متلاصقة .
____________________
يريد
: تظهر أسنانها بالتبسم بعد أن تعرض عنا استحياء . والاتقاء : الحجز بين الشيئين
يقال : اتقيته بترس أي : صيرت الترس حاجزاً بيني وبينه .
قال ابن السيد : والناظرة فيها قولان : قيل : أراد العين وقيل : أراد بقرة ناظرة
وفيه مضاف محذوف أي : بعين بقرة ناظرة فحذف المضاف وأقام المضاف إليه مقامه ثم
حذفه وأقام صفته مقامه .
ويجوز أن يريد : وتتقي من نفسها ببقرة ناظرة فيكون كقولك : لقيت يزيد الأسد أي :
لقيته فكأني لقيت الأسد ففي هذا الوجه حذف موصوف لا غير وفي الأول حذف موصوف ومضاف
.
والوحش واحده وحشي مثل : زنج وزنجي . وجرة بفتح الواو وسكون الجيم قال أبو عبيد في
معجم ما استعجم : قال الأصمعي : هو موضع بين مكة والبصرة على ثلاث مراحل من مكة
طولها أربعون ميلاً ليس فيها منزل فهي مأوى الوحوش .
وقال الطوسي : وجرة في طرف السي وهي فلاة بين مران وذات عرق وهي ثلاثون ميلاً
يجتمع وقال عمارة بن عقيل : السي : ما بين ذات عرق إلى وجرة على ثلاث مراحل من مكة
إلى البصرة .
وزعم عمارة أن وجرة ماء لبني سليم على ثلاث مراحل من مكة . وقال ابن حبيب : وجرة
من سائر وسائر قريب من عين ملل . وقال غيره : وجرة بإزاء غمرة عليها طريق حجاج
الكوفة والبصرة . انتهى باختصار .
وقال ابن السيد : وجرة : فلاة تألفها الوحوش وخصها بالذكر لأنها قليلة الماء فوحشها
يجتزئ بالنبات الأخضر عن شرب الماء فتضمر بطونها ويشتد عدوها . )
ومطفل : ذات طفل وخص المطفل لأنها تحنو على ولدها وتخشى عليه القناص والسباع فتكثر
التلفت والتشوف فذلك أحسن لها في المنظر وأصح في تشبيه المرأة بها لأنه أراد أنها
حذرة من الرقباء فهي متشوفة كتشوف هذه البقرة .
____________________
ومن
جعل الناظرة البقرة كان مطفل صفة لها ومن جعل الناظرة العين جعل مطفلاً بدلاً من
ناظرة على تقدير مضاف أي : وتتقي بناظرة ناظرة مطفل . وهو بدل كل من كل .
وذهب ابن كيسان إلى أنه أراد بناظرة مطفل بالإضافة فلما فصل بين المضاف والمضاف
إليه رد التنوين الذي كان سقط للإضافة كقوله : وهذا لقول خطأ لا يلتفت إليه لأن
العرب إذا فصلت بينهما لم تنون .
وقوله : من وحش وجرة صفة لناظرة . فإن كانت بمعنى البقرة ففيه حذف موصوف أي :
ببقرة ناظرة كائنة من وحش وجرة .
وإن كانت بمعنى العين ففيه مضاف محذوف أي : من نواظر وحش وجرة . ومطفل جاء على
النسب .
وقال الفراء : لم يقل مطفلة لأن هذا لا يكون إلا للنساء فهو مثل حائض . والدليل
على صحة قول سيبويه أنه يقال : مطفلة إذا أردت أن تأتي به على أطفلت فهي مطفلة .
ولو كان ما يقع للمؤنث لا يشركه فيه المذكر لا يحتاج فيه إلى الهاء ما جاز مطفلة .
قال تعالى : تذهل كل مرضعة عما أرضعت .
وقال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن عند معايب هذه المعلقة : قوله : تصد وتبدي
عن أسيل إنما يريد خداً ليس بكز . وهذا متفاوت لأن الكشف عن الوجه مع الوصل دون
الصد .
____________________
وقوله
: تتقي بناظرة لفظة مليحة يقال : اتقاه بحقه أي : جعله بينه وبينه . وقد أوحشها
بقوله : من وحش وجرة وكان سبيله أن يضيف إلى عيون الظباء والمها دون إطلاق الوحش
ففيه ما وحاصل المعنى : أنها تعرض عنا فتظهر في إعراضها خدأ أسيلاً وتستقبلنا بعين
مثل عيون ظباء وجرة أو مهاها التي لها أطفال . وخصهن لنظرهن إلى أولادهن بالعطف
والشفقة . وهن أحسن عيوناً في تلك الحال منهن في سائر الأحوال .
وقوله : وجيد كجيد الريم معطوف على أسيل . والجيد : العنق . والريم : الظبي الأبيض
. ونضته : )
رفعته ونصبته .
وقال العسكري في التصحيف : رواه الأصمعي : نصته بالصاد المهملة مشددة أي : رفعته
وبه سمي المنصة . ورواية غيره : نضته بالضاد المعجمة مخففة ومعناه أبرزته وكشفته .
وفي بيته الآخر : ( فجئت وقد نضت لنوم ثيابها ** لدى الستر إلا لبسة المتفضل ) نضت
: خلعت ونزعت . ونضا سيفه إذا سله من غمده . ونضا خضابه ينضو . انتهى .
وقوله : ولا بمعطل أي : من الحلي . يقال : جيد عطل بضمتين ومعطل أي : خال من الحلي
. وإذا ظرف لفاحش أي : ليس بكريه المنظر .
____________________
قال
الباقلاني : ليس بفاحش في مدح الأعناق كلام فاحش موضوع وإذا نظرت في أشعار العرب
رأيت في وصف الأعناق ما يشبه السحر .
يقول : وتبدي عن عنق كعنق الظبي غير متجاوز قدره المحمود إذا رفعت عنقها وهو غير
معطل عن الحلي . فشبه عنقها بعنق الظبية في حال رفعها عنقها . وذكر أنه لا يشبه
عنق الظبية في التعطل عن الحلي .
وقوله : وفرع يزين المتن . . . إلخ هذا معطوف أيضاً على أسيل . والفرع : الشعر
التام . والمتن والمتنة : ما عن يمين الصلب وشماله من العصب واللحم . والفاحم :
الشديد السواد كأنه لون الفحم .
والأثيث : الكثير النبت . والقنو بكسر القاف وضمها وهو العذق بالكسر . والمتعثكل :
الذي قد دخل بعضه في بعض لكثرته من العثكال والعثكول وهو الشمراخ . وقيل المتعثكل
: المتدلي .
يقول : وتبدي عن شعر طويل تام يزين ظهرها إذا أرسلته عليه .
وقوله : غدائره مستشزرات إلى العلا الغدائر : الذوائب جمع غديرة . والضمير راجع
للفرع .
قال الزوزني : الاستشزار : الرفع والارتفاع جميعاً فيكون الفعل منه تارةً لازماً
وتارة متعدياً .
فمن روى بكسر الزاي جعله من اللازم ومن روى بفتحها جعله من المتعدي . وجمله غدائره
مستشزرات صفة أخرى لفرع .
قال التبريزي : وأصل الشزر الفتل على غير جهة .
وقوله : إلى العلا يريد به شدها على الرأس بخيوط . والعقاص : جمع عقيصة وهو ما جمع
من )
____________________
الشعر
ففتل تحت الذوائب وهي مشطة معروفة يرسلون فيها بعض الشعر ويثنون بعضه .
فالذي فتل بعضه على بعض هو المثنى .
والمرسل : المسرح غير مفتول فذلك قوله في مثنىً ومرسل . ويروى : يضل العقاص بالياء
التحتية على أن العقاص واحد .
قال ابن كيسان : هو المدرى فكأنه يستتر في الشعر لكثرته . ويروى : تضل المداري أي
: من كثافة شعرها . والمدرى مثل الشوكة يصلح بها شعر المرأة .
وهذا البيت استشهد به صاحب تلخيص المعاني على أن في مستشزرات تنافراً لثقلها على اللسان
وعسر النطق بها .
وقوله : وكشح لطيف . . . إلخ هذا أيضاً معطوف على أسيل . والكشح : الخصر وأراد
باللطيف الصغير الحسن . والعرب إذا وصفت الشيء بالحسن جعلته لطيفاً . والجديل :
زمام يتخذ من السيور فيجيء حسناً ليناً يتثنى وهو مشتق من الجدل وهو شدة الخلق .
والمخصر : الدقيق . وساق أيضاً معطوف على أسيل . والأنبوب : البردي . والسقي :
النخل المسقي . والمذلل فيه أقوال : وقيل : هو الذي يفيئه أدنى الرياح لنعومته .
وقيل : الذي قد عطف ثمره ليجتنى .
وقيل : الماء الذي قد خاضه الناس . شبه ساقها ببردي قد نبت تحت نخل فالنخل يظله من
الشمس وذلك أحسن ما يكون منه .
قال الزوزني : وتبدي عن كشح ضامر يحكي في دقته زماماً من الأدم وعن ساق يحكي صفاء
لون أنابيب بردي بين نخل قد ذللت بكثرة الحمل .
____________________
شبه
ضمر بطنها بالزمام وشبه صفاء لون ساقها ببردي بين نخيل يظله أغصانها ليكون أصفى
لوناً وأنقى رونقاً . ومنهم من يجعل السقي نعتاً للبردي أيضاً والمعنى كأنبوب
البردي المسقي المذلل بالإرواء .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الثمانمائة ) إذا رضيت علي بنو قشير على
أنه إنما تعدى رضي ب على مع أنه يتعدى ب عن لحمله على ضده وهو سخط فإنه وهذا
التوجيه للكسائي . قال ابن جني في الخصائص : ومما جاء من الحروف في موضع غيره على
نحو مما ذكرنا قوله : ( إذا رضيت علي بنو قشير ** لعمر الله أعجبني رضاها ) أراد :
عني وجه ذلك أنها إذا رضيت عنه : أحبته وأقبلت عليه ولذلك
____________________
استعمل
على بمعنى عن .
وكان أبو علي يستحسن قول الكسائي في هذا لأنه لما كان رضيت ضد سخطت عدى رضيت ب على
حملاً للشيء على نقيضه كما يحمل على نظيره .
وقد سلك سيبويه هذه الطريق في المصادر كثيراً فقال : قالوا كذا كما قالوا كذا
وأحدهما ضد الآخر . ونحو منه قول الآخر : ( إذا ما امرؤ ولى علي بوده ** وأدبر لم
يصدر بإدباره ودي ) أي : ولى عني ووجهه انه إذا ولى عنه بوده فقد ضن عليه به وبخل
فأجرى التولي بالود مجرى الضنانة والبخل أو مجرى السخط لأنه توليه عنه بوده لا
يكون إلا عن سخط عليه .
وأما قول الآخر : ( شدوا المطي على دليل دائب ** من أهل كاظمة بسيف الأبحر )
فقالوا معناه : بدليل . وهو عندي أنا على حذف المضاف أي : شدوا المطي على دلالة
دليل فحذف المضاف وقوي حذفه هنا شيئاً لأن لفظ الدليل يدل على الدلالة وهو كقولك :
سر على اسم الله .
____________________
وعلى
هذه عندي حال من الضمير في سر وشدوا وليست بواصلة لهذين الفعلين ولكنها معلقة
بمحذوف حتى كأنه قال : سر معتمداً على اسم الله . ففي الظرف إذن ضمير لتعلقه
بالمحذوف . انتهى .
وقد نقل ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف هذا التوجيه عن الكسائي . وكذا ابن
هشام نقله عنه في المغني وقال : ويحتمل أن يكون ضمن رضي معنى عطف . )
وقد عد هذا ابن عصفور من الضرائر الشعرية فقال : ومنه إنابة حرف مكان حرف . أورد
هذا البيت وغيره . ولم أره لغيره . كيف وقد ورد في القرآن والحديث وغيرهما . وغاية
ما قيل انه لا يطرد في كل موضع .
وقد أفرد له ابن جني باباً في الخصائص فلا بأس بإيراد شيء منه . قال في باب
استعمال الحروف بعضها مكان بعض : هذا باب يتلقاه الناس مغسولاً وما أبعد الصواب
عنه وذلك أنهم يقولون : إن إلى تكون بمعنى مع ويحتجون بقوله تعالى : من أنصاري إلى
الله .
____________________
ولسنا
ندفع أن يكون ذلك كما قالوا لكنا نقول : إنه يكون بمعناه في موضع دون موضع على حسب
الحال الداعية إليه . فأما في كل موضع فلا .
ألا ترى أنك إذا أخذت بظاهر هذا القول لزمك أن تقول عليه : سرت إلى زيد وأنت تريد
معه وأن تقول : زيد في الفرس وأنت تريد عليه وزيد في عمرو وأنت تريد عليه العداوة
وأن تقول : رويت الحديث بزيد وأنت تريد عنه ونحو ذلك مما يطول ويتفاحش ولكن نضع في
ذلك رسماً يعمل عليه .
اعلم أن الفعل إذا كان بمعنى فعل آخر وكان أحدهما يتعدى بحرف والآخر بآخر فإن
العرب قد تتسع فتوقع أحد الحرفين موقع صاحبه إيذاناً بأن هذا الفعل في معنى ذلك
الآخر فلذلك جيء معه بالحرف المعتاد مع ما هو في معناه وذلك كقوله تعالى : أحل لكم
ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم .
وأنت لا تقول : رفثت إلى المرأة وإنما تقول : رفثت بها أو معها لكنه لما كان الرفث
هنا في معنى الإفضاء وكنت تعدي أفضيت بإلى جئت بإلى مع الرفث إيذاناً بأنه بمعناه
كما صححوا عور وحول لما كان في معنى اعور واحول وكما جاؤوا بالمصدر فأجروه على غير
فعله لما كان في معناه نحو قوله : لما كان التعاود أن يعاود بعضهم بعضاً .
____________________
وكذلك
قوله تعالى : من أنصاري إلى الله أي : مع الله . وأنت لا تقول : سرت إلى زيد أي :
معه لكنه إنما جاء لما كان معناه : من ينضاف في نصرتي إلى الله إلى أن قال : ووجدت
في اللغة من هذا الفن شيئاً كثيراُ لا يكاد يحاط به ولعله لو جمع أكثره لجاء
كتاباً ضخماً . وقد عرفت طريقه فإذا مر بك شيء منه فتقبله وأنس به فإنه فصل من
العربية لطيف حسن يدعو إلى الأنس بها والفقاهة فيها . )
وفيه أيضاً موضع يشهد على من أنكر أن يكون في اللغة لفظان بمعنىً واحد حتى تكلف
لذلك أن يوجد فرقاً بين قعد وجلس وذراع وساعد .
ألا ترى أنه لما كان رفث بالمرأة بمعنى أفضى إليها جاز أن يتبع الرفث الحرف الذي
بابه الإفضاء وهو إلى . وكذلك لما كان : هل لك في كذا . بمعنى أدعوك إليه جاز أن
يقال : هل لك إلى أن تزكى كما يقال : أدعوك إلى أن تزكى . انتهى كلامه .
وقال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكاتب عند باب دخول بعض الصفات مكان بعض :
هذا الباب أجازه أكثر الكوفيين ومنع منه أكثر البصريين . وفي القولين جميعاً نظر
لأن من أجازه دون شرط لزمه أن يجيز : سرت إلى زيد وهو يريد : مع زيد . ثم مثل بنحو
ما مثل به ابن جني وقال : وهذه المسائل لا يجيزها من يجيز إبدال الحروف . ومن منع
من ذلك على الإطلاق لزمه أن يتعسف في التأويل لكثير مما ورد في هذا الباب لأن في
هذا الباب أشياء كثيرة يتعذر تأويلها على غير وجه البدل ولا يمكن المنكرين لهذا أن
يقولوا :
____________________
إن
هذا من ضرورة الشعر . لأن هذا النوع قد كثر وشاع ولم يخص الشعر دون الكلام . فإذا
لم يصح إنكارهم له وكان المجيزون له لا يجيزونه في كل موضع ثبت بهذا أنه موقوف على
السماع غير جائز القياس عليه ووجب أن يطلب له وجه من التأويل يزيل الشناعة عنه
ويعرف كيف المأخذ فيما يرد منه .
ولم أر فيه للبصريين تأويلاً أحسن من قول ذكره ابن جني في كتاب الخصائص وأنا أورده
في هذا الموضع وأعضده بما يشاكله من الاحتجاج .
ثم نقل كلام ابن جني وزاد عليه أمثلة وشرحها وأطال الكلام وأطاب .
وكان ينبغي لنا أن نذكر هذا الفصل عند أول شاهد من حروف الجر لكننا ما تذكرناه إلا
هنا .
والبيت من قصيدة للقحيف العقيلي يمدح بها حكيم بن المسيب القشيري . وبعده : ( ولا
تنبو سيوف بني قشير ** ولا تمضي الأسنة في صفاها ) واقتصر عليهما أبو زيد في
نوادره . ومنها : ( تنضيت القلاص إلى حكيم ** خوارج من تبالة أو مناها ) وأوردهما
ابن الأعرابي في نوادره .
وقوله : إذا رضيت . . . إلخ إذا شرطية وجوابها : أعجبني رضاها
____________________
واللام
في : لعمر الله لام )
الابتداء وعمر الله : مبتدأ وخبره محذوف أي : قسمي وجواب القسم محذوف مدلول عليه
بجواب إذا كما تقدم في الشرط من الضابط في اجتماع الشرط والقسم .
وقشير بالتصغير هو قشير بن كعب بن ربيعة بتن عامر بن صعصعة . يقول : إذا رضيت عني
بنو قشير سرني رضاها . وضمير رضاها عائد إلى بنو قشير وأنثه باعتبار القبيلة .
وقوله : ولا تنبو سيوف . . . إلخ نبا السيف عن الضريبة إذا كل ولم يقطع . ولا تمضي
: لا تنفذ . والأسنة : جمع سنان وهو حديدة الرمح التي يطعن عليها .
والصفا : واحده صفاة وهي الصخرة الملساء الصماء لا يؤثر فيها الحديد . يريد أن
سيوفهم تؤثر في غيرهم وأسنة غيرهم لا تؤثر فيه فإنهم كالصخرة الملساء .
وقوله : تنضيت القلاص . . . إلخ أي : جعلتها أنضاءً : جمع نضوة بالكسر أي :
المهزولة من شدة الأسفار . يقال : أنضيت البعير وتنضيته أي : أهزلته . والقلاص
بالكسر : جمع قلوص بالفتح وهي الناقة الشابة . وحكيم هو ابن المسيب .
وخوارج : جمع خارجة . وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها موحدة : بلدة صغيرة من
اليمن .
ومنى : بكسر الميم قال البكري في معجم ما استعجم :
____________________
ومنىً
موضع آخر من بلاد بني عامر ليس منى مكة وهو محدد في رسم ضرية قرب المدينة المنورة
.
وقوله : فما رجعت بخائبة . . . إلخ أورده ابن هشام في المغني على أن الباء تزاد في
الحال المنفي عاملها . أي : فما رجعت خائبة .
وخرجه أبو حيان على أن التقدير : فما رجعت بحاجة خائبة فالجار والمجرور هو الحال
وركاب فاعل رجعت وهي الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا واحد لها من لفظها .
والخيبة : حرمان المطلوب .
يعني : أن الإبل التي انتهى سيرها إلى هذا الممدوح لم ترجع خائبة بل رجعت بنيل
المطلوب .
وحكيم : مبتدأ ومنتهاها : خبره أي : منتهى سيرها والجملة صفة ركاب .
قال السيوطي في شرح أبيات المغني : والمسيب هذا بالفتح لا غير وكذا كل مسيب إلا
والد سعيد بن المسيب فإنه فيه وجهين : الفتح والكسر .
وهذا البيت لم يعزه أحد من شراح المغني إلى أحد مع أن البيت الشاهد نسبه السيوطي
إلى القحيف ولم يقف على أن هذا البيت من تلك القصيدة . )
والقحيف العقيلي شاعر إسلامي ذكره الجمحي في الطبقة العاشرة من شعراء الإسلام .
وهو وهذا نسبه : القحيف بن خمير ين سليم الندى بن عبد الله بن عوف بن حزن بن معاوية
بن خفاجة بن عمرو بن عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . كذا في الجمهرة
والعباب للصاغاني .
والقحيف بضم القاف وفتح المهملة . وخمير بضم المعجمة وفتح الميم . وسليم
____________________
بضم
السين وفتح اللام . وأضيف إلى الندى لاشتهاره بالكرم . وقال الصاغاني : رأيت بخط
محمد بن حبيب في أول ديوان شعر القحيف البدي بالباء الموحدة وتشديد الياء .
وعقيل : بالتصغير : هو أخو قشير المنسوب إليه حكيم بن المسيب .
وأنشد بعده وهو السادس والعشرون بعد الثمانمائة : رعته أشهراً وخلا عليها تمامه :
فطار الني فيها واستغارا على أن على فيه ليست بمعنى اللام كما قاله الكوفيون وابن
قتيبة في أدب الكاتب لأنه يقال : خلا له الشيء بمعنى تفرغ له .
قال ابن السيد : كان الوجه أن يقال : وخلا لها ولكن قوله : وخلا عليها يفيد ما
يفيده قوله : إنه وقف عليها . ف خلا ضمن معنى وقف وحبس عليها .
وقول الشارح في الجواب عنه : أي على مذاقها كأنه ملك مذاقها وتسلط عليه فإنه تحريف
منه لكلمة خلا المعجمة الخاء بحلا المهملة يجعله من الحلاوة فأجاب بتقدير مضاف بعد
على وتضمين الفعل . وليست الرواية كما توهمه .
____________________
والبيت
من قصيدة للراعي مدح بها سعيد بن عبد الرحمن بن عتاب بن أسيد عدتها سبعة وخمسون
بيتاً . وقبله : ( وذات أثارة أكلت عليها ** نباتاً في أكمته قفارا ) ( جمادياً
تحن المزن فيه ** كما فجرت في الحرث الدبارا ) رعته أشهراً وخلا عليها . . . . . .
. . . . . . البيت قوله : وذات أثارة . . . إلخ قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب
الواو واو رب أي : رب ناقة ذات سمن . )
والأثارة بفتح الهمزة والمثلثة : شحم متصل بشحم آخر ويقال : هي بقية من الشحم
العتيق .
يقال : سمنت الناقة على أثارة أي : على بقية شحم .
وقوله : أكلت عليها نباتاً أي : على هذه الأثارة . وفي أكمته أي : في غلفه جمع
كمام وهو جمع كم بكسر الكاف وتشديد الميم . والكم : غطاء النور وغلافه فأكمة جمع
الجمع .
وقوله : قفاراً أي : خالياً من الناس فرعته وحدها . وقفار وصف نبات . قال صاحب
المصباح : القفر : الخلاء والمفازة . ويقولون : أرض قفار على توهم جمع المواضع
لسعتها . ودار قفر وقفار كذلك . والمعنى خالية من الناس .
____________________
وقوله
: جمادياً وصف آخر لنبات منسوب إلى جمادى بعد حذف ألفه الخامسة أي : نبت في جمادى
. وجملة تحن . . إلخ : صفة لجمادي أي : تعطف عليه . والمزن : جمع مزنة وهي السحابة
.
وقوله : كما فجرت في موضع المفعول المطلق أي : وفجرت المزن الأرض تفجيراً كما فجرت
.
والتفجير : التشقيق يقال : فجر الماء بالتخفيف أي : شق الأرض ففتح له طريقاً .
والتشديد للمبالغة .
والحرث : مصدر حرث الأرض إذا أثارها للزراعة بالمحراث . والدبار بكسر الدال قال
صاحب المصباح : الدبرة بالفتح والدبارة بالكسر : المشارة في المزرعة والجمع دبر
ودبار .
وقوله : رعته أي : رعت الناقة ذلك النبات أشهراً . وتخلت به : لم يرعه غيرها .
وطار الني أي : ارتفع الشحم . واستغار أي : هبط فيها .
والني : مصدر نويت الناقة أي : سمنت تنوى نواية ونياً فهي ناوية وجمل ناو وجمال
نواء مثل جائع وجياع .
وقال ابن السيد في شرحه : وصف ناقة فقال : رعت هذا الموضع أشهر الربيع وخلا لها
فلم يكن لها فيه منازع فسمنت . والني : الشحم . ومعنى طار : أسرع ظهوره .
وقال ابن قتيبة في كتاب المعاني : استغار وغار واحد كأنه قال : ظهر
____________________
الني
واستتر . ورواه الباهلي : فسار وقال : معنى سار : ارتفع . واستغار : انهبط من قولك
: غار يغور . وقال الحربي : يقال استغار الجرح إذا تورم . وأنشد : فطار الني فيها
واستغارا وذكر أنه يروى استعار بالعين غير معجمة أي : ذهب يميناً وشمالاً من قولهم
: عار الفرس إذا )
أفلت . وترجمة الراعي تقدمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( إن
الكريم وأبيك يعتمل ** إن لم يجد يوماً على من يتكل )
____________________
على
أن على لبست زائدة وإنما هي مقدمة من تأخير والأصل : إن لم يجد يوماً من يتكل وهذا
تخريج ابن الشجري في أماليه أورده نظيراً لقوله تعالى : يدعو لمن ضره أقرب من نفعه
قال : إن الأصل يدعو من لضره أقرب فقدمت لام التوكيد كما قدمت على في قول هذا
الراجز مع أنها عاملة وأراد : من يتكل عليه . وهذا تقديم قبيح سوغته الضرورة .
انتهى .
وهذا تعسف إذ لم يعهد تقديم الجار على غير المجرور كما لم يعهد تقديم الجازم على
غير المجزوم وإنما المعهود تقديمهما معاً . ومراد الشارح الرد على جميع تخاريجه
وهي سبعة : الأول لسيبويه : أن يكون الأصل : على من يتكل عليه فحذف العائد مع
الجار . وعلى الأولى غير زائدة .
وهذا نصه : وقد يجوز أن تقول : بمن تمرر أمرر وعلى من تنزل أنزل إذا أردت معنى
عليه وبه . وليس بحد الكلام وفيه ضعف .
ومثل ذلك قول بعض الأعراب : إن الكرم وأبيك البيتين يريد يتكل عليه . ولكنه حذف .
وهذا قول الخليل . انتهى .
قال الزجاجي في أماليه الوسطى : زعم بعض الناس أن سيبويه غلط فيه وتقديره عند
سيبويه أن يكون يجد متعدياً إلى من بعلى وليس وجدت مما يتعدى بحرف خفض فلهذا
خالفوه .
____________________
قال
المازني : تقديره صحيح جيد لأن الفعل المتعدي قد يجوز أن لا يعدى فكأنه قصد ذلك ثم
بدا له فعداه بعلى كما قال الله تعالى : عسى أن يكون ردف لكم وإنما جاز أن يحذف
عليه من قوله إن لم يجد من يتكل عليه لذكرها في أول الكلام . انتهى .
الثاني لابن جني قال : أراد إن لم يجد يوماً من يتكل عليه فحذف عليه وزاد على قبل
من عوضاً . وجوز في عن أيضاً كذلك كقوله : ) ( أتجزع أن نفس أتاها حمامها ** فهلا
التي عن بين جنبيك تدفع ) قال : أراد : فهلا عن التي بين جنبيك تدفع فحذف عن
وزادها بعد التي عوضاً وتبعه ابن مالك في هذا وقال : قد تزاد الباء كذلك .
وأنشد : ( ولا يواتيك فيما ناب من حدث ** إلا أخو ثقة فانظر بمن تثق ) قال : أراد
من تثق به وزاد الباء قبل من عوضاً . قال أبو حيان في الارتشاف : نص سيبويه على أن
عن وعلى لا يزادان وتقدم قول ابن مالك في عن : إنها تزاد عوضاً وقال : تزاد على .
وأنشد :
____________________
(
أبى الله إلا أن سرحة مالك ** على كل أفنان العضاه تروق ) قال : زاد على لأن راق
متعدية . وما استدلوا به على أن الباء وعن وعلى تزاد عوضاً لم يقم عليه دليل . ولم
يكف ابن مالك أن استدل بشيء محتمل مخالف لنص سيبويه حتى قال : ويجوز عندي أن يعامل
بهذه المعاملة من واللام وإلى وفي قياساً على عن وعلى والباء فيقال : عرفت ممن
عجبت ولمن قلت وإلى من أويت وفيمن رغبت والأصل : عرفت من عجبت منه ومن قلت له ومن
أويت إليه ومن رغبت فيه فحذف ما بعد من وزيد قبلها عوضاً .
وما أجازه ليس بصحيح ولو استدل بشيء لا يحتمل التأويل لكان من القلة بحيث لا يقاس
عليه . انتهى .
وأجاب ابن عصفور عن قوله : فهلا التي عن بين جنبيك بأنه ضرورة لأن تقديم المجرور
على حرف الجر من القلة بحيث لا يلتفت إليه .
وأجاب أبو حيان في شرح التسهيل عن قوله : فانظر بمن تثق بأن الكلام ثم عند قوله :
فانظر أي : في نفسك . ثم استفهم على سبيل الإنكار فقال : بمن تثق وأجاب أيضاً عن
قوله : على كل أفنان العضاه تروق بأن تروق : مضمن معنى تعلو وترتفع .
قال ابن هشام : ما قاله ابن مالك فيه نظر لأن راقه الشيء بمعنى أعجبه ولا معنى له
هاهنا . )
____________________
الثالث
: ليونس شيخ سيبويه وهو أن يكون التقدير : إن لم يجد يوماً شيئاً ثم يبتدئ فيقول
مستفهماً : على من يتكل أعلى هذا أم على هذا ويكون يتكل في موضع رفع ولكنه سكنه
للقافية .
ويعتمل بمعنى : يكتسب . وكان المبرد يذهب إليه قديماً وذكره في كتاب الرد على
سيبويه ثم رجع عنه .
الرابع للفراء قال : معنى لم يجد : لم يدر كأنه قال : إن لم يدر على من يتكل . قال
: وقيل لامرأة من العرب : أنزلي قدرك من النار فقالت : لا أجد بم أنزلها أي : لا
أدري بأي شيء أنزلها .
الخامس للمازني قال : معنى لم يجد : لم يعلم كأنه قال : إن الكريم يعتمل إن لم
يعلم على من يتكل . وهذا مختار المبرد أخيراً .
السادس أن يكون لم يجد في معنى : لم يكتسب كأنه قال : إن لم يكتسب على من يتكل .
نقل هذه الأقوال الأربعة الأخيرة مع قول سيبويه الزجاجي في كتابه المذكور .
السابع للأعلم في شرح أيبات سيبويه قال : يجوز أن يكون التقدير : يعتمل على من
يتكل عليه وقوله : إن الكريم خبره جملة يعتمل وقوله : وأبيك جملة قسمية حذف جوابها
معترضة بين اسم إن وخبرها .
قال صاحب الصحاح : يعتمل : يضطرب في العمل . وأنشد البيت . وهو من أبيات سيبويه
الخمسين التي لم يعرف قائلها .
وأورد السيوطي في شرح أبيات المغني بيتين قبلهما وهما :
____________________
(
إني لساقيها وإني لكسل ** وشارب من مائها ومغتسل ) ولا أعرف حقيقتهما . والله أعلم
.
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( غدت من
عليه بعد ما تم ظمؤها ** تصل وعن قيض بزيزاء مجهل ) على أن على يتعين أن يكون
اسماً إذا دخل عليها حرف جر كما هنا . وانقلاب ألفها مع الضمير ياء كانقلاب ألف
لدى معه .
وقد ذكر سيبويه معناها حقيقة ومجازاً ثم قال : فقد يتسع هذا في الكلام ويجيء
كالمثل . وهو اسم ولا يكون إلا ظرفاً . ويدلك على أنه اسم قول بعض العرب : نهض من
عليه .
____________________
وقال
الشاعر : غدت من عليه البيت قال الأعلم : الشاهد فيه دخول من على على لأنها اسم في
تأويل فوق كأنه قال : غدت من فوقه . وقال الخفاف في شرح الجمل : وقال أبو عبيدة :
المعنى : غدت من عنده لأنها بعد خروج الفرخ من البيضة انتقلت الفوقية إلى العندية
فصارت عنده لا عليه .
قال الأستاذ ابن خروف : بل الفوقية ثابتة ما دام صفة الفرخ وإن لم يكن تحت .
والفوقية بجناحها . انتهى .
وصريح كلام سيبويه أن اسميتها إذا دخلت عليها من غير مختص بالضرورة . وهو ظاهر
كلام غيره أيضاً خلافاً لابن عصفور فإنه زعم أن على في هذا البيت وفي أبيات أخر
أوردها استعملت اسماً للضرورة إجراء لها مجرى ما هي في معناه وهو فوق . ولم أر من
قال إنه ضرورة غيره . ومذهب سيبويه يرد قوليه : أحدها : للفراء ومن تبعه من
الكوفيين وهو أن : عن وعلى إذا دخل عليهما من باقيان على حرفيتهما لم ينتقلا إلى
الاسمية . وزعموا أن من تدخل على حروف الجر كلها سوى مذ واللام والباء وفي .
وثانيهما : لجماعة من البصريين وهو ابن الطراوة وابن طاهر وابن خروف وأبو علي
الرندي وأبو الحجاج بن معزوز والأستاذ أبو علي في أحد قوليه . زعموا أن على اسم
دائماً ولا تكون حرفاً . وزاد الأخفش على سيبويه موضعاً آخر من اسميتها وذلك : إذا
كان مجرورها وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد ومنه قوله تعالى : أمسك عليك زوجك
وقول الشاعر : )
____________________
(
هون عليك فإن الأمور ** بكف الإله مقاديرها ) لأنه لا يتعدى فعل الضمير المتصل إلى
ضميره المتصل في غير باب ظن وفقد وعدم .
قال أبو حيان : ولا بدل على اسميتها ما ذكره الأخفش فقد جاء : وهزي إليك و اضمم
إليك جناحك ولا نعلم أحداً ذهب إلى أن إلى اسم .
وقال ابن هشام : وفيما قاله الأخفش نظر لأنها لو كانت اسماً في هذه المواضع لصح
حلول فوق محلها ولأنها لو لزمت اسميتها لما ذكر لزم الحكم باسمية إلى في نحو :
فصرهن إليك وهذا كله يتخرج إما على التعليق بمحذوف كما قيل : في سقياً لك وإما على
حذف مضاف أي : هون على نفسك واضمم إلى نفسك .
ولا يحسن تخريج هذا على ظاهره لأن بابه الشعر ولا على قول ابن الأنباري : إن إلى
ترد اسماً يقال : انصرفت من إليك كما تقول : غدوت من عليك لأنه إن كان ثابتاً ففي
غاية الشذوذ . ولا على قول ابن عصفور : إن إليك إغراء والمعنى : خذ جناحك أي :
عصاك لأن إلى لا تكون بمعنى خذ عند البصريين ولأن الجناح ليس بمعنى العصا إلا عند
الفراء وشذوذ من المفسرين .
انتهى .
____________________
قال
أبو حيان : ومن قال : إن على لا تكون إلا اسماً يقول : إنها معربة ومن جوز أن
تنتقل إلى الاسمية بدخول من عليها أو على مذهب الأخفش اختلفوا : فقال بعض أشياخنا
: هي معربة إذ ذاك .
وقال أبو القاسم بن القاسم : هي مبنية وألفها كألف هذا فهي كعن وكاف التشبيه ومذ
ومنذ إذا كن أسماء . انتهى .
وقد ذهب صاحب الكشاف وتبعه الشارح المحقق إلى أنهما مبنيان قال في تفسير حاشا لله
من سورة يوسف : فإن قلت : فلم جاز في حاشا لله أن لا ينون بعد إجرائه مجرى براءة
لله قلت : مراعاة لأصله الذي هو الحرفية .
ألا ترى إلى قولهم : جلست من عن يمينه . تركوا عن غير معرب على أصله وعلى في قوله
: والبيت من قصيدة لمزاحم العقيلي عدتها أربعة وثمانون بيتاً مذكورة في منتهى
الطلب من أشعار العرب . وقبله : ( قطعت بشوشاة كأن قتودها ** على خاضب يعلو
الأماعز مجفل ) ) ( أذلك أم كدرية ظل فرخها ** لقىً بشرورى كاليتيم المعيل ) ( غدت
من عليه بعد ما تم ظمؤها ** تصل وعن فيض بزيزاء مجهل ) ( غدواً طوى يومين عنه
انطلاقها ** كميلين من سير القطا غير مؤتلي ) الشوشاة بفتح الشين المعجمة : الناقة
الخفيفة . والقتود بضم القاف والمثناة الفوقية : جمع قتد بفتحتين وهو خشب الرحل
ويجمع على أقتاد أيضاً . والخاضب بمعجمتين هو ذكر النعام الذي أكل الربيع فاحمر
ساقاه .
____________________
والأماعز
: جمع أمعز بالعين المهملة والزاء المعجمة وهي الأرض الكثيرة الحصباء . ومجفل :
اسم فاعل من أجفل بمعنى نفر .
وقوله : أذلك أم كدرية الإشارة إلى الخاضب . والكدرية بالضم : القطاة الغبراء
اللون . قال صاحب الصحاح : الكدري ضرب من القطا وهو ثلاثة أضرب : كدري وجوني بضم
الجيم وغطاط بفتح المعجمة بعدها مهملتان .
فالكدري : الغبر الألوان الرقش الظهور والبطون الصقر الحلوق وهو ألطف من الجوني
كأنه نسب إلى معظم القطا وهو كدر . وذلك : خبر مبتدأ محذوف . والتقدير : أتلك
الشوشاة ذلك الخاضب أم كدرية وهو تشبيه بليغ بحذف أداة التشبيه . شبه ناقته في
الخفة والسرعة بأحدهما على طريق الاستفهام التجاهلي .
ولا وجه لقول الجواليقي في شرح أدب الكاتب : يريد : أذلك الظليم أحب إليك أم قطاة
كدرية .
وقال ابن يعيش : يريد : أذلك الخاضب يشبه ناقتي في سرعتها أم كدرية يعني قطاة هذه
صفتها . وجملة : ظل فرخها لقىً . . . إلخ صفة لكدرية . واللقى بفتح اللام والقاف :
الملقى والمطروح الذي لا يلتفت إليه .
وشرورى بفتح الشين المعجمة والراءين المهملتين وسكون الواو بينهما وآخره ألف
مقصورة .
قال أبو عبيد البكري في معجمه : هو جبل بطريق مكة إلى الكوفة بين بني أسد وبني
عامر .
ومعيل بفتح المثناة التحتية المشددة : الفقير وقيل : المهمل .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : شبه فرخها في انفراده سوء حاله باليتيم .
____________________
قال
الأصمعي : وإنما قال : لقىً بشرورى لأن القطاة لا تبيض إلا بأرض في فماحص ونقر ولا
)
وقوله : غدت من عليه . . . إلخ قال الفالي : في شرح اللباب غدا بمعنى صار يقال :
غدا زيد أميراً أي : صار وأنشد البيت . وقال : أي : انصرفت القطاة من فوقه . فهو
غير مخصوص بوقت دون وقت بخلاف ما إذا استعمل في غير معنى صار فإنه يختص بوقت
الغداة . تقول : غدا زيد ذاهباً أي : ذهب بالغداة . فمعنى غدت صارت إذ لا يريد
انصرفت وانفلتت في وقت الغداة فقط . انتهى . ويؤيده ما رواه ابن السيد وغيره عن
أبي حاتم أنه قال للأصمعي : كيف قال : غدت من عليه والقطاة إنما تذهب إلى الماء
ليلاً لا غدوة فقال : لم يرد الغدر وإنما هذا مثل للتعجيل . والعرب تقول : بكر إلي
العشية ولا بكور هناك .
وأنشد أبو زيد : بكرت تلومك بعد وهن في الندى وإنما الوهن في الليل . انتهى . وبما
ذكرنا يزيف قول بعض أفاضل العجم في شرح أبيات المفصل : يقول : غدت القطاة وطارت
غدوة إلى الماء من فوق فرخها . انتهى .
واسم غدت الضمير المستتر فيها العائد إلى كدرية . وقوله : من عليه متعلق بمحذوف
على أنه خبرها .
____________________
وبعد
: ظرف لغدت وما : مصدرية وظمؤها : فاعل تم . يريد أنها أقامت مع فرخها حتى احتاجت
إلى ورود الماء وعطشت فطارت تطلب الماء عند تمام ظمئها .
وأراد بذكر الفرخ سرعة طيرانها لتعود إليه مسرعة لأنها كانت تحضنه . والظمءْ
بالكسر وسكون الميم مهموز الآخر : مدة صبرها عن الماء وهو ما بين الشرب إلى الشرب
.
قال ابن السكيت في كتاب المعاني : قوله بعد ما تم ظمؤها أي : إنها كانت تشرب في كل
ثلاثة أيام أو أربعة مرة فلما داء ذلك الوقت طارت .
وروى المبرد في الكامل : بعد ما تم خمسها بكسر الخاء . وقال : الخمس : ظمء من
أظمائها وهي أن ترد ثم تغب ثلاثاً ثم ترد فيعتد بيومي وردها مع ظمئها فيقال : خمس
. هذا كلامه .
وظاهره أن الخمس مكن أظماء القطا وليس كذلك إنما هو للإبل . قال ابن السيد : الخمس
: ورود الماء في كل خمسة أيام . ولم يرد أنها تصبر عن الماء خمسة أيام إنما هذا
للإبل لا للطير ولكنه ضربه مثلاً .
هذا قول أبي حاتم ولأجل ذلك كانت رواية من روى : ظمؤها أحسن وأصح معنى . وظاهر هذا
أيضاً أن الظمء لا يختص بالإبل . ويؤيده قول صاحب القاموس : والظمء بالكسر : ما
بين )
الشربين والوردين وهو من الظمأ كالعطش وزناً ومعنى أو أشد العطش وأهونه وأخفه .
قاله أبو زيد . لكن صاحب الصحاح خصه بالإبل قال : الظمء ما بين الوردين وهو حبس
الإبل عن الماء إلى غاية الورد .
____________________
وقوله
: تصل أي : تصوت جملة حالية وإنما يصوت حشاها من يبس العطش فنقل الفعل إليها لأنه
إذا صوت حشاها فقد صوتت . وإنما يقال لصوت جناحها الحفيف .
قال أبو حاتم : ومعنى تصل تصوت أحشاؤها من اليبس والعطش . والصليل : صوت الشيء
اليابس يقال : جاءت الإبل تصل عطشاً . وقال غيره : أراد أنها تصوت في طيرانها .
وقوله : وعن قيض إن كان معطوفاً على لعيه ففيه شاهد آخر وهو اسمية عن وإن كان
معطوفاً على من عليه فعن حرف . واقتصر اللخمي على الأول .
والقيض بفتح القاف : قشر البيضة الأعلى وإنما أراد قشر البيضة التي خرج منها فرخها
أو قشر البيضة التي فسدت فلم يخرج منها فرخ .
وقول السيرافي : وغدت عن قيض يعني وعن فراخ لا معنى له هنا لأنه إنما أراد أنها
غدت عن فرخ وعن قشر بيض خرج منه هذا الفرخ أو قشر بيض فسد فلم يخرج منه فرخ .
والأول هو الظاهر .
ويقال للقيض : الخرشاء أيضاً بكسر المعجمة وسكون المهملة بعدها سين معجمة فألف
ممدودة . والقشر الرقيق الذي تحته يقال له : الغرقئ بكسر المعجمة وسكون المهملة
بعدها قاف مكسورة فهمزة . والمح بضم الميم وتشديد المهملة : صفرة البيض . قال
اللخمي : والآح : بياض وقوله : بزيزاء مجهل الجار والمجرور متعلق بمحذوف على أنه
صفة لقيض . والزيزاء بزاءين معجمتين يروى بكسر الأولى وفتحها واقتصر المبرد على
الكسر فقال : الزيزاء : ما ارتفع من الأرض وهو ممدود منصرف في المعرفة والنكرة إذا
كان لمذكر كالعلباء والحرباء . انتهى .
____________________
يريد
أن الألف الممدودة فيه ليست للتأنيث إنما هي للإلحاق بحملاق كالعلباء فوزنه فعلال
.
وكذلك اقتصر عليه الجوهري فقال : الزيزاء بالمد : ما غلظ من الأرض . والزيزاء أخص
منه وهي الأكمة والهمزة فيه مبدلة من الياء يدل على ذلك قولهم في الجمع : الزيازي
. ومن قال الزوازي جعل الياء الأولى مبدلة من الواو مثل القوافي في جمع قيقاءة .
انتهى .
وقال في تفسير القيقاءة : إنها الأرض الغليظة والهمزة مبدلة من الياء والياء
الأولى مبدلة من )
الواو . وقصر صاحب القاموس في قوله : الزيزاء بالكسر والزيزاء والزيزى والزازية :
ما غلظ من الأرض والأكمة الصغيرة كالزيزاءة والزيزاة . انتهى .
وقال ابن يعيش : الزيزاء : الأرض الغليظة المستوية التي لا شجر فيها واحدتها
زيزاءة . وقيل : هي المفازة التي لا أعلام فيها . وهمزته للإلحاق بنحو حملاق وهي
في الحقيقة منقلبة عن ألف منقلبة عن ياء يدل على ذلك ظهورها في درحاية لما بنيت
على التأنيث عادت إلى الأصل .
ولغة هذيل زيزاء بفتح الزاء كالقلقال فالهمزة على هذا منقلبة عن ياء ووزنه فعلال
والأول فعلال . انتهى . فالهمزة في كل من المكسور الزاي ومفتوحها أصلها ياء زائدة
للإلحاق بما ذكر وليست الألف الممدودة فيهما للتأنيث .
أما الأول فلأن فعلاء المكسور الفاء وكذا المضموم الفاء عند البصريين لا يكونان
إلا للإلحاق .
وأجاز الكوفيون ترك صرف فعلاء بالكسر على أن يكون ألفها للتأنيث احتجوا بقوله
تعالى : تخرج من طور سيناء في قراءة الكسر .
____________________
وأجاب
البصريون بأن امتناعه من الصرف ليس من أجل أن الهمزة للتأنيث وإنما هو لمعنى
البقعة أو الأرض فاجتمع فيه التعريف والتأنيث . وأما الثاني فللإلحاق أيضاً .
فإن قلت : فعلاء بالفتح خاص بالمؤنث . قلت : نعم ولكن في غير المكرر . فإن قلت :
فعلال بالفتح نادر ولا يلحق بالنادر .
قلت : قال الرضي في شرح الشافية إن فعلالاً إذا كان فاؤه ولامه الأولى من جنس واحد
نحو : زلزال وخلخال غير نادر اتفاقاً فيجوز الإلحاق به . فإن قلت : قال الخفاف في
شرح الجمل : وبعضهم يرويه زيزاء بفتح الزاي والهمزة غير مصروف للتأنيث اللازم
كبيداء . انتهى . فهذا يدل على أن الهمزة للتأنيث لا للإلحاق .
قلت : يحمل حينئذ على زيادة الألف المنقلبة همزة للتأنيث . وعلى هذه الرواية يكون
مجهل صفة لزيزاء . فإن قلت : ما تصنع بالوجهين الأولين وهما كسر الزاي وفتحها مع
كسر الهمزة فيهما . قلت : قال الجواليقي وابن يعيش : من روى بزيزاء أضافه إلى مجهل
وقدر حذف الموصوف أي : مكان مجهل . وبهذا يضمحل قول ابن الملا في شرح المغني :
والعجب أن السيوطي حكى في الزاء الكسر والفتح مع أن وجه الكسر لا يستقيم في البيت
لأن الاسم معه منصرف .
انتهى . )
ووجه توقفه أن مجهلاً صفة لزيزاء والوصف إنما يتم على الفتح للزاي والهمزة . وإما
إن كسرت الأول فهو منصرف يقتضي الإضافة إلى الصفة .
وجوابه : أن المضاف إليه محذوف نابت صفته عنه كما قلنا .
وروى : ببيداء مجهل بدل قوله : بزيزاء مجهل . قال ابن السيد وغيره : البيداء :
القفر الذي يبيد من يسلكه أي : يهلكه . والمجهل : الذي ليس له أعلام يهتدى بها .
____________________
فمن
روى : ببيداء جعل المجهل صفة لها ومن روى : بزيزاء أضافها إلى المجهل . وهذه رواية
البصريين . انتهى .
وفي القاموس : وأرض مجهل كمقعد : لا يهتدى فيها لا يثنى ولا يجمع .
وزعم العيني أن زيزاء هنا علم بقعة فإنه بعد أن نقل عن الثعلبي أنها الأرض الغليظة
قال : قلت الزيزاء : منهل معين من مناهل الحج من أرض الشام ينزل منها إلى أرض معان
من بلاد الشوبك .
ويروى بفتح همزتها وكسرها ففتحها على أنه ممنوع من الصرف . فعند البصريين منع
للعلمية والتأنيث لأنه بقعة وعند الكوفيين لأن ألفه للتأنيث . فعلى هذا يكون قوله
: مجهل صفة لزيزاء .
وأما كسرها فعلى الإضافة إلى مجهل .
هذا كلامه وفيه خطأ من وجوه : أولها : لا يصح أن يكون زيزاء في البيت المنهل
المذكور لأنه لو كان كما زعم لم تفارق القطاة فرخها لطلب الماء ولم يكن لها ظمء
ولم يكن موضع فرخها مجهلاً .
ثانيها : أن ذلك المنهل إنما هو زيزاء بدون لام التعريف قال ياقوت في معجم البلدان
: زيزاء من قرى البلقاء : كبيرة يطؤها الحاج ويقال : لهم بها سوق فيها بركة عظيمة
. وأصله في اللغة المكان المرتفع وكذلك هي . انتهى .
وقال صاحب القاموس : زيزى كضيزى : موضع بالشام . فرواه بالقصر . ولا يعرف هل هو ما
ذكره ياقوت أم غيره .
ثالثها : لم يقل أحد من البصريين إن زيزاء المكسور الأول ممنوع من الصرف وموضع
الخلاف عندهما إنما هو في زيزاء بالكسر نكرة فالبصريون يوجبون صرفه لأن ألف فعلاء
بسكر الفاء ليست للتأنيث . )
____________________
والفراء
ومن تبعه يجوز منع الصرف على أن الألف للتأنيث ويستدل بقراءة من طور سيناء بالكسر
. وأجاب البصريون بأن منع صرفه إنما هو للعلمية والتأنيث لأنه علم بقعة لا لأن
ألفه للتأنيث كما تقدم . فهذا خبط منه وتخليط في تقرير المسألة عند الفريقين .
رابعها : لا يصح وصف المعرفة بالنكرة .
خامسها : لا وجه لإضافة المعرفة إلى النكرة .
ومن هذا البيت إلى آخر القصيدة خمسة وعشرون بيتاً كلها في وصف القطا .
ومزاحم العقيلي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والستين بعد الأربعمائة
.
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( ولقد
أراني للرماح درية ** من عن يميني مرةً وأمامي )
____________________
على
أن عن فيه اسم بمعنى جانب لدخول حرف الجر عليها . واستشكل هذا بأن الكلمة إنما تعد
حرفاً واسماً إذا اتحد أصل معنييهما والجانب ليس بمعنى المجاوزة .
وأجيب بأن الزمخشري بين في مفصله أن معنى : جلس عن يمينه أنه جلس متراخياً عن بدنه
في المكان الذي بحيال يمينه . فمعنى جلست عن يمينه : جلست من جانب يمينه وموضع
متجاوز عن بدنه في المكان الذي بحيال يمينه . فيكون المراد بالجانب الجهة المجاوزة
لبدنه لا مطلق الجهة فيتحد أصل معنى عن .
قال ابن هشام في المغني : اسمية عن متعينة في ثلاثة مواضع : أحدها : أن تدخل عليها
من وهو كثير . ومن الداخلة على عن زائدة عند ابن مالك ولابتداء الغاية عند غيره .
قالوا : فإذا قيل : قعدت عن يمينه فالمعنى في جانب يمينه وذلك محتمل للملاصقة
ولخلافها . فإن جئت بمن تعين كون القعود ملاصقاً لأول الناحية .
والثاني : أن تدخل عليها على وذلك نادر والمحفوظ منه بيت واحد وهو قوله : ( على عن
يميني مرت الطير سنحاً ** وكيف سنوح واليمين قطيع ) والثالث : أن يكون مجرورها
وفاعل متعلقها ضميرين لمسمى واحد قاله الأخفش كقول امرئ )
____________________
(
دع عنك نهباً صيح في حجراته ** ولكن حديثاً ما حديث الرواحل ) وذلك لئلا يؤدي إلى
تعدي فعل المضمر المتصل إلى ضميره المتصل . وتقدم الجواب عنه . ومما يدل على أنها
ليست هنا اسماً أنها لا يصح حلول الجانب محلها . انتهى .
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لقطري بن الفجاءة وهي : ( لا
يركنن أحد إلى الإحجام ** يوم الوغى متخوفاً لحمام ) فلقد أراني للرماح دريةً . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( حتى خضبت بما تحدر من دمي ** أكناف
سرجي أو عنان لجامي ) ( ثم انصرفت وقد أصبت ولم أصب ** جذع البصيرة قارح الإقدام )
قوله : لا يركنن أحد . . . إلخ لا : ناهية وركن إلى الشيء : مال إليه .
والإحجام بتقديم المهملة : التأخر والنكوص . والمتخوف : الخائف شيئاً بعد شيء .
والحمام بسكر المهملة : الموت .
وهذا البيت أورده شراح الألفية شاهداً لمجيء الحال من النكرة لوقوعها بعد النهي .
____________________
وأراني
: أعلمني ولكونه من أفعال القلوب صح أن يقع فاعله ومفعوله لمسمىً واحد . ودرية :
مفعوله الثاني .
قال ثعلب في أماليه : الدريئة بالهمز : الحلقة التي يرمي فيها المتعلم ويطعن .
والدرية بلا همز : الناقة التي ترسل مع الوحش لتأنس بها ثم يستتر بها ويرمى الوحش
. انتهى .
وقال القالي في أماليه بعد إنشاد هذه الأبيات الأربعة : الدريئة مهموزة : الحلقة
التي يتعلم عليها الطعن وهي فعلية بمعنى مفعولة . من درأت أي : دفعت . والدرية غير
المهموز : دابة أو جمل يستتر به الصائد فيرمي الصيد . وهو من دريت أي : ختلت .
قال الشاعر : ( فإن كنت لا أدري الظباء فإنني ** أدس لها تحت التراب الدواهيا )
وبنوه على وزن خديعة إذ كان في معناها . انتهى .
قال شارحها أبو عبيد البكري : هذا البيت لعبد الله بن محمد بن عباد الخولاني قاله
الهمداني في كتاب الإكليل . وكنى بالظباء عن النساء .
والصيادون يدفنون للوحش في طرقها إلى الماء حدائد أشباه الكلاليب فإذا جازت عليها
)
قطعت قوائمها . انتهى .
قال شراح الحماسة : ويمكن حمل البيت عليهما . فالمراد على الأول : أن الطعن يقع
فيه كما يقع في تلك الحلقة وعلى الثاني : أنه يصير سترة لغيره من الطعن كما تكون
تلك الدابة سترة
____________________
وإنما
اقتصر على اليمين والأمام أي : القدام لأنه يعلم أن اليسار في ذلك كاليمين . وأما
الظهر فإن الفارس لا يمكن منه أحداً . ومن على قول ابن مالك زائدة ومتعلقة بمحذوف
على قول غيره . أي : تأتيني من هذه الجهات .
وقوله : حتى خضبت . . . إلخ أكناف السرج : جوانبه جمع كنف بفتحتين . وعنان اللجام
: سيره الذي تمسك به الدابة . وأو للتقسيم وقال القالي في أماليه : أراد وعنان
لجامي .
والمعنى : انتصبت للرماح حتى خضبت بما سال من دمي جوانب السرج وعنان فرسي وذلك على
حسب مواقع الطعن فالعنان لما سال من أعاليه وجوانب السرج لما سال من أسافله .
وقيل : إنما أراد دم من قتله فأضافه إلى نفسه لأنه أراقه .
وقوله : وقد أصبت ولم أصب الأول بالبناء للفاعل والثاني للمفعول وجذع وقارح :
حالان .
والجذع بفتح الجيم والذال المعجمة : الشاب الحدث والقارح : المنتهي في السن .
قال الخطيب : هما مثلان وأصلهما في الخيل وذوات الحوافر . وذلك أن المهر يركب بعد
حول سياسة ورياضة فإذا بلغ حولين فهو جذع فحينئذ يستغني عن الرياضة .
يقول : أنا جذع البصيرة لا أحتاج إلى تهذيب كما لا يحتاج الجذع إلى الرياضة
وإقدامي قارح أي : قد بلغ النهاية كما أن القروح نهاية سن الفرس .
وهذا ما ذكره الشراح . ومعناه كما ذكره أبو العلاء المعري أنه يريد أنه لم يزل
شجاعاً فإقدامه قارح لأنه قديم .
____________________
ويعني
بجذع البصيرة أنه كان فيما سلف لا يرى رأي الخوارج ثم تبصر في آخر أمره فعلم أنهم
على لاحق فبصيرته جذعة أي : محدثة . وذلك أنه كان خارجياً سلم عليه بالخلافة ثلاث
عشرة سنة . انتهى .
وقال القالي : أي وأنا على بصيرتي الأولى . وقارح الإقدام أي : متناه في الإقدام .
وقال أبو عبيد البكري في شرحها قال النمري : يريد ثم انصرفت وقد قتلت ولم أقتل بعد
أن خضبت سرجي ولجامي . يريد أن الأجل حرز فلا يركنن أحد إلى الجبن خوف الموت . )
وقوله : جذع البصيرة يريد استبصاره الذي كان عليه في أول الأمر لم ينتقل عنه لما
ناله من الجراحات ولم يضعف فيه قارح الإقدام أي : قد بلغ إقدامه النهاية .
وقال قوم : إنما يريد بقوله : ولم أصب لم ألف على هذه الحال ولكني قارح البصيرة
جذع الإقدام أي : رأيه رأي شيخ وإقدامه إقدام غلام .
ويكون البصيرة على هذا الرأي والتدبير كالاستبصار في الأمر وهو الأعرف في كلام
العرب فإن البصيرة للقلب كالبصر للعين .
والحجة لهذا المذهب : قوله ولم أصب وهو قد قال قبل هذا : حتى خضبت بما تحدر من دمي
والإصابة قد تكون فيما دون النفس وهو الأكثر . انتهى .
وبعد هذه الأربعة بيتان لم يوردهما أبو تمام وهما : ( متعرضاً للموت أضرب معلماً
** بهم الحروب مشهر الإعلام ) ( أدعو الكماة إلى النزال ولا أرى ** نحر الكريم على
القنا بحرام ) وقطري هو رأس الخوارج كان أحد الأبطال المذكورين خرج في مدة
____________________
ابن
الزبير وبقي يقاتل ويستظهر بضع عشرة سنة وسلم عليه بإمرة المؤمنين . وجهز عليه
الحجاج جيشاً بعد جيش وهو يستظهر عليهم ويكسرهم . وتغلب على نواحي فارس وغيرها .
ووقائعه مشهورة .
وقد ذكر المبرد كثيراً من أخباره في الكامل . وكان مع شجاعته من البلغاء وله شعر
جيد .
وكان آخر أمره أن الحجاج ندب له سفيان بن الأبرد في جيش كثيف واجتمع معه إسحاق بن
محمد بن الأشعث في جيش لأهل الكوفة فأقبلا في طلب قطري فأدركوه في شعب من شعاب
طبرستان فقاتلوه فتفرق عنه أصحابه وسقط عن دابته فتدهده إلى أسفل الشعب .
وأتاه علج من أهل البلد فحدر عليه حجراً من فوقه فأصاب وركه فأوهنه وصاح بالناس
فأقبلوا نحوه وجاء نفر من أهل الكوفة فقتلوه وأرسلوا رأيه إلى الحجاج فسيره إلى
عبد الملك وقطري بفتح القاف والطاء وتشديد الياء قال الجوهري : وقطري بن فجاءة
المازني زعم بعضهم أن أصل الاسم مأخوذ من قطري النعال .
قال الصلاح الصفدي في حاشيته على الصحاح قلت : بل هو منسوب إلى قطر بالسيف على ما
ذكره بعضهم . انتهى .
أقول : السيف بكسر السين : ساحل البحر قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم :
قطر )
بفتح أوله وثانيه بعده راء مهملة : موضع بين البحرين وعمان تنسب إليه الإبل الجياد
وهي اكثر بلاد البحرين حمراً .
والفجاءة بضم الفاء والمد قال صاحب الصحاح : فاجأه الأمر مفاجأة وفجئاً وكذلك فجئه
الأمر وفجأه الأمر بالكسر والنصب فجاءة بالضم والمد . ومنه قطري بن فجاءة المازني
.
قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : اختلف في اسم الفجاءة فقيل :
____________________
اسمه
جعونة وقيل : مازن بن يزيد بن زياد بن حنثر بن كابية بن حرقوص بن مازن بن مالك بن
عمرو بن تميم .
وسمي الفجاءة لأنه غاب دهراً باليمن ثم جاءهم فجاءة . انتهى .
وجزم صاحب الجمهرة أن اسمه جعونة بن مازن فجعل مازناً والد جعونة لا والد قطري .
وهو بفتح الجيم وسكون العين وبعد الواو نون . وحنثر المشهور أنه حبتر بفتح المهملة
وسكون قال الأمير الحافظ أبو نصر علي بن ماكولا في إكماله : وقال ابن الكلبي :
قطري بن الفجاءة ورفع في نسبه إلى حنثر بن كابية بفتح المهملة وسكون النون بعدها
ثاء معجمة بثلاث . ويروى حبتر والصواب بالنون والمثلثة . والله أعلم .
وكابية بموحدة بعدها مثناة تحتية . وحرقوص بضم الحاء المهملة والقاف .
وأنشد بعده : ( باتت تنوش الحوض نوشاً من علا ** نوشاً به تقطع أجواز الفلا ) على
أن علا الاسمية لا تلزم الإضافة كما هنا بخلاف عن فإنها تلزمها .
____________________
قال
أبو علي في تذكرته : بجوز أن يكون علا مبنياً معرفة ويجوز أن يكون معرباً نكرة .
فإن كان مبنياً كانت الألف منقلبة عن الواو لتحركها بالضمة . وإن كان معرباً كانت
منقلبة عن الواو لتحركها بالجر .
فإن قيل : لا يكون إلا مبنياً لأنه معرفة لتقدم الحوض والمعنى : من علا الحوض .
قيل : قد قال الله تعالى : لله الأمر من قبل ومن بعد فهما نكرتان وإن كان ذكر
الغلبة قد تقدم وكان معلوماً إذ معنى الكلام من قبل الغلبة ومن بعدها . انتهى .
وعلى هذا يقرأ قول الشارح المحقق أي : من فوق بضم القاف وكسرها منونة .
وقد أخل ابن جني في شرح تصريف المازني في النقل عن أبي علي فإنه قال : قد كان أبو
علي يقول في علا من هذا الرجز أن الألف في علا منقلبة عن الواو لأنه من علوت وأن
الكلمة في )
موضع مبني نحو : قبل وبعد لأنه يريد نوشاً من علاه . فلما اقتطع المضاف من المضاف
إليه وجب بناء الكلمة على الضم نحو : قبل وبعد فلما وقعت الواو مضمومة وقبلها فتحة
قلبت ألفاً . وهذا مذهب حسن . انتهى .
فلله در الشارح المحقق حيث لم يقيد . لكن أنشده الشارح في أول حروف الجر على أن
علامة علا فيه مبني على الضم لحذف المضاف إليه وإرادة معناه .
وأورده ثعلب في أماليه على أنه يقال : من علو بسكون اللام وكسر الواو مع التنوين
وعلو بضم الواو وعلو بفتحها ومن علونا بضم العين وكسر الواو ومن عل ومن عال ومن
علا . وأنشد البيتين .
وقال : من قال : من علاً جعله مثل قفاً وعال مثل فاعل وعل مثل عم ومن معال مثل
مفاعل بضم الميم ومن علو مثل قبل وبعد ومن علو مثل ليت . انتهى .
____________________
وتقدم
شرحه بأبسط مما هنا في الشاهد الثالث والسبعين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده يضحكن عن كالبرد المنهم على أن الكاف يتعين اسميتها إذا انجرت كما هنا
. فالكاف اسم بمعنى مثل صفة موصوف محذوف أي : عن ثغر مثل البرد . قال أبو حيان في
الارتشاف : واختلفوا هل تكون اسماً في الكلام أو يختص ذلك بضرورة الشعر فذهب
الأخفش والفارسي في ظاهر قوله وتبعهما ابن مالك أنها تكون اسماً في الكلام وقد كثر
جرها بالباء وعلى وعن وأضيف إليها وأسند فاعلة ومبتدأة ومفعولة . لكن كل هذا في
الشعر . وذهب سيبويه إلى أن استعمالها اسماً إنما يجوز في ضرورة الشعر . انتهى .
ومثال جرها بالباء قول امرئ القيس يصف فرساً : ( ورحنا بكابن الماء يجنب وسطنا **
تصوب فيه العين طوراً وترتقي )
____________________
وابن
الماء : طائر يقال له : الغرنيق شبه الفرس به في سرعته وسهولة مشيه . ويجنب : يقاد
.
وتصوب : تنحدر . وترتقي : ترتفع . يريد أن عين الناظر إليه تصعد فيه النظر وتصوبه
إعجاباً به . ومثال جرها بعلى قول ذي الرمة : ( أبيت على مي كئيباً وبعلها ** على
كالنقا من عالج يتبطح ) )
ومثال وقوعها فاعلة البيت الآتي . ومثال وقوعها مبتدأة قول الكميت : أي : علينا
مثل النهاء . ومثال وقوعها مفعولة قول النابغة : ( لا يبرمون إذا ما الأفق جلله **
برد الشتاء من الإمحال كالأدم )
____________________
فالكاف
مفعول جلله . ومثال وقوعها مضافاً إليها قوله : ( تيم القلب حب كالبدر لا بل **
فاق حسناً من تيم القلب حبا ) والبيت الآتي وهو : فصيروا مثل كعصف مأكول وبقي عليه
جرها بالكاف وسيأتي . ومثال جرها بعن البيت الشاهد . وقبله : ( ولا تلمني اليوم يا
ابن عمي ** عند أبي الصهباء أقصى همي ) ( بيض ثلاث كنعاج جم ** يضحكن عن كالبرد
المنهم ) تحت عرانين أنوف شم أبو الصهباء : كنية رجل . والهم بالفتح الهمة بالكسر
: أول العزم وهو الإرادة وقد يطلق على العزم القوي فيقال : له همة عالية .
قال ابن فارس : الهم : ما هممت به إذا أردته ولم تفعله .
وبيض بالرفع : إما بدل من أقصى همي وإما خبر لمبتدأ محذوف أي : هو والجملة جواب
سؤال مقدر . وقيل : بيض بالجر بدل من همي
____________________
ولا
وجه له . وقيل بيض ثلاث : مبتدأ . وجملة يضحكن خبره وقيل : خبر مبتدأ محذوف أي :
هن بيض وقيل : مبتدأ خبره محذوف أي : منهن بيض . ذكر هذه الأوجه الثلاثة الأخيرة
العيني تبعاً لصاحب التخمير . والبيض : الحسان جمع بيضاء وهي الحسناء . والنعاج :
جمع نعجة في المصباح : النعجة الأنثى من الضأن . والعرب تكنى عن المرأة بالنعجة .
انتهى .
ونقل عن أبي عبيد أنه لا يقال لغير بقر الوحش نعاج . وتشبه النساء بها في العيون
والأعناق .
والجم بضم الجيم : جمع جماء وهي التي لا قرن لها يقال : جمت الشاة جمماً من باب
تعب : إذا لم يكن لها قرن فالذكر أجم والأنثى جماء وجمعهما جم بالضم . وفائدة
الوصف بجم نفي ما يكسبهن سماجة .
والبرد : حب الغمام وهو شيء ينزل من السحاب يشبه الحصى ويسمى حب المزن أيضاً . )
والمنهم : الذائب .
قال الجوهري : انهم البرد والشحم : ذاب . وهمه : أذابه . شبه ثغر النساء بالبرد
الذائب في اللطافة والجلاء . والثغر أصله المبسم ويطلق على الثنايا .
وقوله : تحت العرانين متعلق بمحذوف على أنه صفة ثانية للبرد . والعرانين : جمع
عرنين وهو ما والشمم : ارتفاع قصبة الأنف مع استواء أعلاه . فإن كان احديداب فهو
القنا والأنف والرجل أقنى والأنثى قنواء .
وهذا الرجز للعجاج . وتقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد
بعده : ( أتنتهون ولن ينهى ذوي شطط ** كالطعن يهلك فيه الزيت والفتل ) على أنه
يتعين فيه اسميتها أيضاً إذا طلبها عامل رفع كما هنا فإنها اسم بمعنى مثل وقعت
عاملة لينهى .
وقوله : إذا ارتفعت معطوف على قوله : إذا انجرت .
وتقدم كلام ابن السراج في تعين اسمية الكاف عند الكلام على هذا البيت في الشاهد
السادس والسبعين بعد السبعمائة .
وقد بسط عليها الكلام ابن جني في سر الصناعة وجوز اسميتها في الاختيار دون الضرورة
بخلاف ابن عصفور في كتاب ابن الضرائر . ولا بأس بإيراد كلامهما . ولنقدم الثاني
فإنه أخصر وأجمل قال : ومنه استعمال الحرف اسماً للضرورة كقول الأعشى : أتنتهون
البيت ( وإنك لم يفخر عليك كفاخر ** ضعيف ولم يغلبك مثل مغلب )
____________________
فجعل
الكاف فاعلة بيفخر . والدليل على أنها فاعلة في البيتين أنه لا بد للفعل من فاعل
فلا يجوز أن يكون الفاعل محذوفاً ويكون تقديره في البيت الأول ناه كالطعن وفي
البيت الثاني فاخر كفاخر . لأنه لا يخلو بعد الحذف أن يقام المجرور مقامه أو لا
يقام . فإن لم يقم مقامه لم يجز ذلك لأن الفاعل لا يحذف من غير أن يقام شيء مقامه
. وإن قدر لزم أن يكون المجرور فاعلاً والمجرور الذي حرف الجر فيه غير زائد لا
يكون فاعلاً .
فلما تعذر حذف الفاعل على التقديرين لم يبق إلا أن تكون الكاف هي الفاعلة عوملت )
معاملة مثل لأن معناها كمعناه . وحكم لها بحكمه بدلاً من حكمها للضرورة . ومما
استعملت أيضاً الكاف فيه اسماً قول ذي الرمة : وبعله على كالنقا .
وقول امرئ القيس : ورحنا بكابن الماء والدليل على أن الكاف فيهما ليست بحرف جر أن
حرف الجر لا يدخل على حرف الجر إلا أن يكونا في معنى واحد فيكون أحدهما تأكيداً
للآخر .
فإن قيل : لعل الكاف حرف جر ويكون المجرور بعلى والباء محذوفاً . والتقدير : على
كفل كالنقا وبفرس كابن الماء فالجواب : أن ذلك لا يسوغ لأنك إن لم تقدر المجرور
قائماً مقام المحذوف لزم من ذلك أن يكون الحرف الذي هو الكاف مع الاسم المجرور به
في موضع خفض بعلى والباء وذلك لا يجوز لأن حروف الجر إنما تجر الأسماء وحدها فلما
تعذر أن تكون الكاف حرفاً على التقديرين لم يبق إلا أن تكون قد جعلت اسماً . انتهى
.
____________________
وقال
ابن جني : إن قال قائل : هل يجوز أن تكون الكاف في كالطعن حرف جر وتكون صفة قامت
مقام الموصوف .
والتقدير : ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن فيكون الفاعل المحذوف الموصوف حذف جائزاً
كما حذف الموصوف في قوله : ودانيةً عليهم ظلالها أي : جنة دانية وكقول الآخر :
____________________
كأنك
من جمال بني أقيش أي : جمل من جمال بني أقيش فالجواب : أن حذف الموصوف وإقامة
الوصف مقامه قبيح وفي بعض الأماكن أقبح .
فأما دانية فالوجه أن يكون حالاً معطوفة على متكئين فهذا لا ضرورة فيه . وأما قوله
: كأنك من جمال فإنما جاز في ضرورة الشعر .
ولو جاز لنا أن نجد من في بعض المواضع قد جعلت اسماً لجعلناها هنا اسماً ولم نحمل
الكلام على إقامة الصفة .
فأما قوله : ولن ينهى ذوي شطط كالطعن فلو حملته على إقامة الصفة مقام الموصوف لكان
أقبح من تأول قوله تعالى : ودانية على حذف الموصوف لأن الكاف في بيت الأعشى هي )
الفاعلة في المعنى ودانية إنما هي مفعول والمفعول قد يكون غير اسم صريح نحو : ظننت
زيداً يقوم والفاعل لا يكون إلا اسماً صريحاً محضاً .
فإن قلت : ألست تعلم أن خبر كأن يجري مجرى الفاعل وقد قالوا : كأنك من جمال بني
أقيش وأرادوا : جمل من جمال بني أقيش فهلا أجزت حذف الفاعل وإقامة الصفة مقامه في
قول الأعشى فالجواب : أن بينهما فرقاً من وجهين : أحدهما : أن خبر كأن وإن شبه
بالفاعل في ارتفاعه فليس في الحقيقة فاعلاً وجعلهم خبرها فعلاً يدل على أنه لا
يبلغ قوة الفاعل . والآخر : أن قوله : كأنك من جما لبني أقيش اضطررنا فيه إلى
إقامة الصفة مقام الموصوف وبيت الأعشى لم نضطر فيه إلى ذلك لأنه قد قامت الدلالة
البينة عندنا على استعمالهم الكاف اسماً في نحو قوله : وبعلها على كالنقا فهذا
ونحوه يشهد بكون الكاف اسماً وبيت الأعشى أيضاً يشهد بما قلنا . ولسنا نخالف
الشائع المطرد إلى ضرورة واستقباح إلا بأمر يدعو إلى ذلك ولا ضرورة هنا . فنحن على
ما يجب من لزوم الظاهر ومخالفنا معتقد لما لا قياس يعضده . فقد صح بما قدمنا أن
كاف الجر تكون مرة اسماً ومرة حرفاً . فإذا رأيتها في موضع تصلح فيه أن تكون اسماً
وأن تكون حرفاً فجوز فيها الأمرين وذلك كقولك : زيد كعمرو فقد تصلح أن تكون الكاف
هنا اسماً كقولك : زيد مثل عمرو ويجوز أن تكون حرفاً كقولك : زيد من الكرام . فكما
أن من حرف جر وقع خبراً عن المبتدأ كذلك الكاف تصلح أن تكون حرف جر .
فإذا قلت : أنت كزيد وجعلت الكاف اسماً فلا ضمير فيها كما أنك إذا
____________________
قلت
: أنت مثل زيد فلا ضمير في مثل كما لا ضمير في الأخ ولا الابن إذا قلت : أنت أخو
زيد وأنت ابن زيد .
هذا قول أصحابنا وإن كان قد أجاز بعض البغداديين أن يكون في هذا النحو الذي هو غير
مشتق من الفعل ضمير كما يكون في المشتق .
فإذا جعلت الكاف في : أنت كزيد حرفاً ففيها ضمير كما تتضمن حروف الجر الضمير إذا واعلم
أنه كما جاز أن تجعل هذه الكاف فاعلة في بيت الأعشى وغيره فكذلك يجوز أن تجعل )
مبتدأة فنقول على هذا : كزيد جاءني وأنت تريد : مثل زيد جاءني . فإن أدخلت إن على
هذا قلت : إن كبكر غلام لمحمد فرفعت الغلام لأنه خبر إن والكاف في موضع نصب لأنها
اسم إن . وتقول : إذا جعلت الكاف حرفاً وخبراً مقدماً : إن كبكر أخاك .
واعلم أن أقيس الوجهين في أنت كزيد أن تكون الكاف حرفاً جاراً بمنزلة الباء واللام
لأنها مبنية مثلهما ولأنها أيضاً على حرف واحد ولا أصل لها في الثلاثة فهي بالحروف
أشبه . ولأن استعمالها حرفاً أكثر من استعمالها اسماً .
هذا كلام ابن جني وهو صريح في جواز اسميتها في الاختبار خلاف ما نقل عن سيبويه .
وإليه ذهب صاحب الكشاف أيضاً قال في : فأنفخ فيه : إن الضمير للكاف من كهيئة الطير
أي : فأنفخ في ذلك الشيء المماثل فيصير كسائر الطيور . انتهى .
وجميعهم امتنعوا فيما ذكرناه من جعل الكاف حرفاً تكون مع مجرورها صفة لمحذوف لأن
شرط جوازه أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في نحو : منا ظعن ومنا أقام . ولم يلتفت
أبو علي في البغداديات إلى هذا الشرط وخرجه على حذف
____________________
الفاعل
الموصوف فقال : ولو قال قائل إن الكاف بمعنى الحرف الجار لم يكن مخطئاً ويكون
التقدير : ولن ينهى ذوي شطط شيء كالطعن ونظيره من التنزيل : ومن آياته يريكم البرق
تقديره : ومن آياته أنه يريكم فيها البرق فنصب الظرف على الاتساع نصب المفعول به
كأنه يريكموها البرق . مثل ويوماً شهدناه ثم حذف الضمير . ونظير ذلك : ( وما الدهر
إلا تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) أي : منهما تارة أموت فيها
وأخرى أبتغي العيش .
ومن هذا الباب قول أبي الحسن : قوله تعالى : أو جاؤوكم حصرت صدورهم أي : جاؤوكم
قوماً حصرت صدورهم .
فكذلك قوله : ولن ينهى ذوي شطط يحتمل أن يكون على هذا الذي وصفنا من حذف الموصوف
ولكن يدل على كونها اسماً في الشعر قول القائل :
____________________
فصيروا
مثل كعصف مأكول لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف . وكذلك : وصاليات ككما يؤثفين )
تدل الكاف الأولى على أن الثانية اسم إذ لا يدخل حرف خفض على مثله انتهى كلامه .
وقد رجع عنه في المسائل البصريات وهذا نصه : لا تخلو الكاف من أن تكون اسماً أو
حرفاً .
لا يجوز أن تكون حرفاً لأنك إن جعلتها حرفاً لزم أن تجعلها صفة لمحذوف كأنك قلت :
شيء كالطعن والفاعل لا يحذف .
ألا ترى إلى أن قول من قال : ضربني وضربت زيداً إن الفاعل منه محذوف خطأ عندنا .
وكذلك إن جعلت الكاف حرفاً كان وصفاً وإذا صار وصفاً فالموصوف محذوف .
وإذا جعلته وصف محذوف بقي الفعل لبلا فاعل وذلك غير جائز عندنا . فإذا كان كذلك
جعلت الكاف نفسها فاعلة وموضعها رفع كما أن موضعها جر في قوله : ككما يؤثفين وكما
أن موضعها جر في قوله :
____________________
على
كالقطا الجوني فإن قلت : فهلا حذفت المجرور في قوله : على كالقطا الجوني لأنه ليس
بفاعل قلنا : يفسد كما يفسد حذف الفاعل فإنك إذا حذفته قدرت الكاف وصفاً له وإذا
كانت وصفاً له كانت حرفاً وإذا كانت حرفاً أدخلت حرف جر على حرف جر .
وإذا كان كذلك لم يجز فمن ثم لزمك أن تحكم بأن الكاف في قوله : على كالقطا اسم في
موضع جر بعلى كما أنها اسم في موضع رفع بأنها فاعلة في بيت الأعشى . انتهى كلامه .
وعلى هذا مشى في التذكرة القصرية وفي كتاب الشعر . ومن جميعه تعلم أن اسميتها عنده
خاصة بالشعر خلافاً لما نقل عنه . ومعنى البيت : لا يمنع الجائرين عن الجور مثل
طعن نافذ إلى الجوف يغيب فيه الزيت مع فتيلة الجراح .
وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والسبعين بعد السبعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الثمانمائة )
____________________
لواحق
الأقراب فيها كالمقق على أن الكاف فيه زائدة . قال ابن جني في سر الصناعة : المقق
: الطول ولا يقال في الشيء كالطول إنما يقال : فيه طول فكأنه قال : فيها مقق أي :
طول . انتهى .
والبيت لرؤبة بن العجاج . قال الأصمعي في شرحه : هو مثل قولهم : هو كذي الهيئة أي
: هو ذو هيئة .
وكذا قال ابن السراج في الأصول وأبو علي في البغداديات قال : وأما مجيء الكاف
حرفاً زائداً لغير معنى التشبيه فكقولهم فيما حدثناه عن أبي العباس : فلان كذي
الهيئة يريدون فلان ذو لواحق الأقراب فيها كالمقق أي : فيها مقق لأنه يصف الأضلاع
بأن فيها طولاً وليس يريد أن شيئاً مثل الطول نفسه .
ومنه : ليس كمثله شيء .
ومنه أيضاً : أو كالذي مر على قرية تقديره : أرأيت الذي حاج إبراهيم في ربه والذي
مر على قرية . انتهى .
قال أبو حيان : وحكى الفراء انه قيل لبعض العرب : كيف تصنعون الأقط قال : كهين
يريد هيناً . ومن زيادتها قول بعضهم : كمذ أخذت في حديثك جواباً لمن قال له : مذ
كم لم تر فلاناً يريد : مذ أخذت . انتهى .
ومنه يعلم أنه لا وجه لتخصيص زيادتها بالضرائر الشعرية كما زعم ابن عصفور .
واللواحق : جمع لاحقة اسم فاعل من لحق كسمع لحوقاً : ضمر وهزل .
____________________
والأقراب
: جمع قرب بضمة فسكون وبضمتين : الخاصرة وقيل : من الشاكلة إلى مراق البطن . يريد
أنها خماص البطون . وضمير فيها للأقراب .
والمقق بفتح الميم والقاف : الطول وقال الليث : الطول الفاحش في دقة . فقوله :
كالمقق مرفوع الموضع على الابتداء وخبره الظرف قبله والجملة حال من الأقراب .
والبيت من قصيدة طويلة تزيد على مائتي بيت شرحنا قطعة كبيرة منها في الشاهد الخامس
من أول الكتاب وهو من جملة أبيات كثيرة في وصف أتن حمار الوحش التي شبه ناقته بها
في الجلادة والعدو السريع لا في وصف الخيل كما زعم العيني وتبعه غيره . فينبغي أن
نشرح أبياتاً )
قبله حتى يتضح ما قلنا .
وقد وصف حمار الوحش بأبيات إلى أن قال : ( أحقب كالمحلج من طول القلق ** كأنه إذ
راح مسلوس الشمق ) في الصحاح : الأحقب : حمار الوحش سمي بذلك لبياض في حقويه
والأنثى حقباء .
والمحلج قال صاحب المصباح : حلجت القطن حلجاً من باب ضرب . والمحلج بكسر الميم :
خشبة يحلج بها حتى يخلص الحب من القطن .
قال الأصمعي : شبهه بالمحلج لصلابته . وينبغي أن يقال : ولكثرة حركته واضطرابه .
ومن طول القلق هو وجه الشبه وهو كناية عن عدم سكونه . والقلق : الاضطراب . د
____________________
وراح
: نقيض غدا يقال : سرحت الماشية بالغداة وراحت بالعشي أي : رجعت . والعامل في إذا
ما في كأن من معنى التشبيه . يصف رجوعه إلى مأواه . ومسلوس خبر كأنه وهو من السلاس
بالضم وهو ذهاب العقل .
والمسلوس : المجنون وقد سلس بالبناء للمفعول . والشمق : النشاط مصدر شمق كفرح .
وقال الليث : هو مرح الجنون . ( نشر عنه أو أسير قد عتق ** منسرحاً إلا ذعاليب
الخرق ) نشر بالبناء للمفعول بالتخفيف والتثقيل أي : كشف عنه وهو من النشرة بالضم
. قال صاحب القاموس : هي رقية يعالج بها المجنون والمريض وقد نشر عنه . وانتشر :
انبسط كتنشر .
وفي الصحاح : والتنشير من النشرة وهي كالتعويذ والرقية . وجملة : نشر حال من ضمير
مسلوس .
يقول : كان هذا الحمار الأحقب كالاً من كثرة حركته فحين أراد الرجوع إلى مأواه نشط
شوقاً إليه فكأنه مجنون نشاط زال جنونه ومريض شوق ذهب داؤه . والتعبير بالجنون عن
كثرة اللهج بالشيء وفرط الميل إليه مستفيض .
وأسير معطوف على مسلوس . وعتق العبد من باب ضرب وعتاقاً وعتاقة : صار حراً .
والاسم العتق بالكسر وهو الحرية . وهو عاتق أي : حر . وأعتقه : جعله حراً فهو معتق
بكسر التاء وذلك معتق بفتحها .
يقول : هذا الأحقب يشبه أسيراً صادف غرة فتفلت من أسره فهرب أشد الهرب . )
والمنسرح بالسين والحاء المهملتين : الخارج من ثيابه وهو حال من ضمير راح .
والذعاليب بالذال المعجمة والعين المهملة : جمع ذعلوب كعصفور .
والذعالب : جمع ذعلبة بالكسر وهما قطع الخرق وقال أبو عمرو : أطراف الثياب وقال
صاحب القاموس : أو ما تقطع نمه فتعلق . وثوب ذعاليب : خلق .
____________________
وهذا
تمثيل يؤيد أن هذا الأحقب انسرح من وبره إلا بقايا بقيت عليه . وهذا مما ينشطه .
وروى صاحب الصحاح : منسرحاً عنه ذعاليب الخرق فيكون حالاً سببياً . وضمير عنه راجع
للأحقب . وذعاليب فاعل منسرحاً . والمعنى : تساقط عنه وبره كله .
قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : الحرق بالحاء والراء المهملتين المفتوحتين
هو تحت الوبر من قولهم : حرق شعره أي : تقطع ونسل . وليس للخرق هنا بالخاء المعجمة
وجه . وهو على ما أوردته في شعر رؤبة . ( منتحياً من قصده على وفق ** صاحب عادات
من الورد الغفق ) في الصحاح : أنحى في سيره أي : اعتمد على الجانب الأيسر .
والانتحاء مثله . هذا هو الأصل ثم صار الانتحاء الاعتماد والميل في كل وجه . انتهى
.
وفيه نظر فإن حقيقة الانتحاء أخذ النحو أي : الناحية والجانب فمن أين يدخل الأيسر
في مفهومه والقصد كما في المصباح : مصدر قصدت الشيء وله وإليه من باب ضرب : طلبته
بعينه . وهو على قصد أي : رشد . ويأتي بمعنى : استقامة الطريق . والوفق بفتحتين
كما في القاموس : مصدر وفقت أمرك كرشدت : صادفته موافقاً .
وصاحب عادات ومنتحياً : حالان من ضمير الأحقب في راح . والورد بالكسر في المصباح :
ورد البعير وغيره الماء يرده وروداً : بلغه ووافاه من غير دخول وقد يكون دخولاً .
والاسم الورد بالكسر .
____________________
والغفق
بفتح الغين المعجمة والفاء هو أن ترد الإبل كل ساعة .
وقال الأصمعي : ظل يتغفق الماء إذا جعل يشرب ساعة فساعة . وهو وصف الورد بتأويله
بوصفه بالمتكرر والمتعدد . وإذا كان ورده متعدداً في اليوم فهو يسرع ليرد الماء .
فهذه العادة مما تنشطه للإسراع أيضاً . ) ( ترمي ذراعيه بجثجات السوق ** ضرجاً وقد
أنجدن من ذات الطوق ) فاعل ترمي صوادق العقب الآتي . وضمير ذراعيه للأحقب .
والجثجات بجيمين ومثلثتين قال الدينوري في كتاب النبات : هو جمع الواحدة جثجانة .
وأخبرني أعرابي من ربيعة أن الجثجاثة ضخمة يستدفئ بها الإنسان إذا عظمت . ومنابتها
القيعان ولها زهرة صفراء تنبت على هيئة العصفر .
وقال غيره من الأعراب : هو من الأمرار وهو أخضر ينبت بالقيظ له زهرة طيبة الريح
تأكله الإبل إذا لم تجد غيره . وقال أبو نصر : الجثجاث شبيه بالقيصوم . ولطيب ريحه
ومنابته في الرياض .
قال الشاعر : ( فما روضة بالحزن طيبة الثرى ** يمج الندى جثجاثها وعرارها ) ( بأطيب
من فيها إذا جئت طارقاً ** وقد أوقدت بالمجمر اللدن نارها ) والسوق بضم السين
المهملة وفتح الواو : موضع وكذلك ذات الطوق بضم الطاء المهملة وفتح الواو . ولم أر
من ذكرهما . وقد راجعت معجم ما
____________________
استعجم
ومعجم البلدان والمرصع والصحاح والعباب والقاموس فما وجدتهما فيها .
يريد أن الأحقب يسوق أتنه فهي تمشي قدامه ومن شدة سرعتها يتكسر هذا النبت فيتطاير
كسره فتصيب ذراعيه .
وضرجاً بالضاد المعجمة والجيم : مصدر ضرجه بمعنى شقه وهو هنا حال من الجثجاث
بتأويله باسم المفعول أي : مضروجة . وأنجدن : صرن إلى نجد . والنجد : ما ارتفع من
الأرض .
وجملة قد أنجدن : حال من فاعل ترمي . وفيه مبالغة في جلادتها فإن الطلوع من منخفض
إلى مرتفع أمر شاق وهي مع هذه الحال يتكسر الجثجاث من شدة وطئها . ( صوادق العقب
مهاذيب الولق ** مستويات القد كالجنب النسق ) صوادق : فاعل ترمي المتقدم وهو جمع
صادقة اسم فاعل من الصدق وهو كما يكون في القول يكون في الفعل بمعنى التحقق .
والعقب بفتح العين المهملة وسكون القاف : الجري الذي يجيء بعد الجري الأول .
يقال : لهذا الفرس عقب حسن . وفيه مبالغة حيث يتحقق جري هذه الأتن بعد تعبها
وكلالها )
فهي لا تفتر أبداً . ومهاذيب : جمع مهذابة كمطاعيم جمع مطعامة مبالغة هاذبة بمعنى
مسرعة .
يقال : هذب هذباً وهذابة أي : أسرع . ويقال أيضاً : أهذب وهذب وهاذب بمعناه .
وفي الصحاح : الإهذاب والتهذيب : الإسراع في الطيران والعدو والكلام . وهو صفة
صوادق وكذلك مستويات .
والولق بفتح الواو : مصدر ولق يلق من باب فرح بمعنى الإسراع . والإضافة بمعنى في .
يريد : أنهن سراع في عدوهن .
____________________
والقد
بكسر القاف قال صاحب القاموس : الطريقة . وقال الأصمعي : الحذاء يقال : حذاؤهن
واحد . انتهى .
وأراد بالحذاء مصدر حاذيته أي : قاربته . والجنب هو ما تحت الإبط إلى الكشح .
والنسق فعل بمعنى منسوق يقال : در نسق أي : منسوق وفعله نسقت الدر نسقاً من باب
قتل : نظمته .
يقول : كأنهن في قرب بعضهن لبعض كأضلاع الجنب فلا تتأخر إحداهن عن صاحبتها . يريد
: أنهن في السرعة سواء فلا يفضل بعضها على بعض . ( تحيد عن أظلالها من الفرق ** من
غائلات الليل والهول الزعق ) حاد عن الشيء حيدة وحيوداً : تنحى وبعد . والجملة
استئنافية . والفرق : مصدر فرق كفرح بمعنى خاف . وهو علة لقوله : تحيد . وحرفا
الجر متعلقان بتحيد . وهذا مثل قولهم : فلان يفرق من ظله .
وغائلات الليل : الصياد والأسد والذئب وما أشبه ذلك . وهذا مما يزيد الأتن نشاطاً
في الإسراع . والهول : مصدر هاله من باب قال بمعنى أفزعه .
والزعق بفتح الزاي المعجمة والعين المهملة : مصدر زعق كفرح وهو الخوف في الليل .
فهو بدل ( قب من التعداء حقب في سوق ** لواحق الأقراب فيها كالمقق ) أي : هذه
الأتن قب . والجملة استئنافية . والقب : جمع أقب وقباء من القبب ودقة الخصر وضمر
البطن أي : هن خماص من كثرة عدوهن . والتعداء : مصدر عدا من باب قال وهو أبلغ من
العدو .
والحقب خبر بعد خبر وهو جمع حقباء وتقدم شرحه . والسوق بفتحتين : طول الساق . )
والأسوق : الطويل الساقين وقال ابن دريد : غليظهما وقيل : حسنهما . وهي سوقاء .
ولواحق خبر ثالث .
____________________
فظهر
بسوق هذه الأبيات أن البيت الشاهد في وصف الأتن الوحشية لا في وصف الخيل .
والله أعلم . وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : فأصبحوا
مثل كعصف مأكول قال ابن جني في سر الصناعة : وأما قوله : فصيروا مثل كعصف مأكول
فلا بد من زيادة الكاف فكأنه قال : فصيروا مثل عصف مأكول فأكد الشبه بزيادة الكاف
كما أكد الشبه بزيادة الكاف في قوله تعالى : ليس كمثله
____________________
شيء
إلا أنه في الآية أدخل الحرف على الاسم وهذا سائغ وفي البيت أدخل الاسم على الحرف
فشبه شيئاً بشيء . انتهى .
وأنشده سيبويه على أنها فيه اسم لضرورة الشعر قال : إن ناساً من العرب إذا اضطروا
في الشعر جعلوها بمنزلة مثل . قال الراجز : فصيروا مثل كعصف مأكول وقال الآخر :
وصاليات ككما يؤثفين قال الأعلم : أدخل مثلاً على الكاف إلحاقاً لها بنوعها من
الأسماء ضرورة . وجاز الجمع بينهما جوازاً حسناً لاختلاف لفظيهما مع ما قصده من
المبالغة في التشبيه . ولو كرر المثل لم يحسن .
وقال صاحب الكشاف عند قوله : ليس كمثله شيء : ولك أن تزعم أن كلمة التشبيه كررت
للتأكيد كما كررها من قال . وأنشد البيت وما بعده .
وأورد عليه أن الكاف تفيد كونها التشبيه لا تأكيد النفي ونفي المماثلة المهملة
أبلغ من نفي المماثلة المؤكدة فليست الآية نظيراً للبيت . وأجيب بأنها تفيد تأكيد
التشبيه إن سلباً فسلب وإن إثباتاً فإثبات .
قال ابن هشام في المغني : وفي الآية قول ثالث وهو أن الكاف ومثلاً لا زائد منهما .
ثم اختلف )
فقيل : مثل بمعنى الذات . وقيل : بمعنى الصفة وقيل : الكاف اسم مؤكد بمثل كما عكس
ذلك من قال : فصيروا مثل كعصف مأكول
____________________
وأورد
عليه الدماميني بأنه يلزم عليه إضافة المؤكد إلى التأكيد والبصريون لا يعتدون بها
لأنها في غاية الندرة فلا ينبغي تخريج التنزيل عليها .
والشارح المحقق لما حكم بزيادة الكاف في البيت ورد عليه سؤال وهو ما مجرور مثل
فأجاب بجوابين : أولهما : لابن جني في سر الصناعة وثانيهما : مأخوذ أيضاً من
تقريره وقد بسط الكلام فيه فلا بأس بإيراده لكثرة فوائده قال : فإن قال قائل : إذا
جر العصف أبا لكاف التي تجاوره أم بإضافة مثل إليه على أنه فصل بالكاف بين المضاف
والمضاف إليه فالجواب : أنه لا يجوز أن يكون مجروراً إلا بالكاف وإن كانت زائدة
كما أن من وجميع حروف الجر في أي موضع وقعن زوائد فلا بد من أن يجررن ما بعدهن .
فالجواب : أن مثلاً وإن لم تكن مضافة في اللفظ فإنها مضافة في المعنى وجارة لما هي
مضافة إليه في التقدير . وذلك أن التقدير : فصيروا مثل عصف فلما جاءت الكاف تولت
جر العصف وبقيت مثل غير جارة ولا مضافة في اللفظ وكان احتمال هذه الحال في الاسم
المضاف أسوغ منه في الحرف الجار .
وذلك أنا لا نجد حرفاً جاراً معلقاً غير عامل في اللفظ وقد نجد بعض الأسماء معلقاً
عن الإضافة جاراً في المعنى غير جار في اللفظ وذلك نحو قولهم : جئت قبل وبعد وقام
زيد ليس غير . وقال :
____________________
بين
ذراعي وجبهة الأسد أي : بين ذراعي الأسد وجبهته . وهذا كثير . وإنما أردت أن أوجدك
أن الأسماء تعلق عن الإضافة في ظاهر اللفظ وأن الحروف لا يمكن أن تعلق عن الجر في
اللفظ البتة .
فأما قول الشاعر : ( جياد بني أبي بكر تسامى ** على كان المسومة العراب ) فإنما
جاز الفصل بكان من قبل أنها زائدة مؤكدة فجرت مجرى ما المؤكدة في نحو قوله : فبما
نقضهم ميثاقهم و عما قليل )
ولا يجوز في قوله : ككما يؤثفين أن تكون ما مجرورة بالكاف الأولى لأن الكاف
الثانية عاملة للجر وليست كان جارة فتجري مجرى الكاف في ككما .
فإن قبل : فمن أين جاز تعليق الأسماء عن الإضافة في اللفظ ولم يجز في حروف الجر
إلا أن تتصل بالمجرور فالجواب أن ذلك جائز في الأسماء من وجهين :
____________________
أحدهما
: أن الأسماء أقوى وأعم تصرفاً من الحروف وهي الأول الأصول فغير منكر أن يتجوز
فيها ما لا يتجوز في الحروف .
ألا ترى أن تاء التأنيث في الاسم نحو : مسلمة قد أبدلوها هاء في الوقف ولم يبدلوها
في ربت وثمت . والفعل أيضاً في هذا جار مجرى الحرف .
والثاني : أن الأسماء ليست في أول وضعها مبنية على أن تضاف ويجر بها وإنما الإضافة
فيها ثان لا أول فجاز فيها أن تعرى في اللفظ من الإضافة وإن كانت الإضافة فيها
منوية .
وأما حروف الجر فوضعت على أنها للجر البتة وعلى أنها لا تفارق المجرور لضعفها وقلة
استغنائها عن المجرور فلم يمكن تعليقها عن الجر والإضافة لئلا يبطل العرض .
فإن قيل : فمن أين جاز للاسم أن يدخل على الحرف في قوله : مثل كعصف فالجواب : أنه
إنما جاز لما بين الكاف ومثل من المضارعة في المعنى فكما حاز أن يدخلوا الكاف على
الكاف في ككما يؤثفين لمشابهته لمثل حتى كأنه قال : كمثل ما يؤثفين كذلك أدخلوا
مثلاً على الكاف في قوله : كعصف وجعلوا ذلك تنبيهاً على قوة الشبه بين الكاف ومثل
.
فإن قيل : فهل تجيز أن تكون الكاف مجرورة بإضافة مثل إليها ويكون العصف مجروراً
بالكاف فتكون قد أضفت كل واحد من مثل و الكاف فيزول عنك الاعتذار بتركهم مثلاً غير
مضافة ويكون جر الكاف بإضافة مثل إليها كجرها بدخول الكاف على الكاف في ككما
يؤثفين فكما أن الكاف الثانية
____________________
هنا
مجرورة بالأولى كما انجرت بعلى في قوله : على كالقطا الجوني فالجواب : أن قوله :
مثل كعصف قد ثبت أن مثلاً أو الكاف فيه زائدة كما أن إحداهما زائدة في ليس كمثله
شيء وإذا ثبت ذلك فلا يجوز أن تكون مثل هي الزائدة لأنها اسم والأسماء لا تزاد
إنما تزاد الحروف فالزائد الكاف فإذا كانت هي الزائدة فهي حرف وإذا )
كانت حرفاً بطل أن تكون مجرورة وإذا لم تكن مجرورة بطل أن تكون مثل مضافة إليها .
على أن أبا علي قد كان أجاز أن تكون مثل مضافة إلى الكاف وتكون الكاف هنا مجرورة
اسماً . وفيه عندي ضعف لما ذكرته .
وأما قوله : ككما يؤثفين فقد استدللنا بدخول الكاف الأولى على الثانية أن الثانية
اسم وأن الأولى حرف قد جر الثانية وهو مع ذلك زائد . ولا ينكر وإن كان زائداً أن
يكون جاراً . انتهى كلام ابن جني .
وكأن الدماميني لم يقف على كلام الشارح المحقق ولا على كلام ابن جني فقال في
الحاشية الهندية : ينبغي أن تكون الكاف في البيت اسماً أضيف إليه مثل فيكون عمل كل
من الكلمتين موفراً . أما إذا جعلت حرفاً وجعل مثل مضافاً إلى عصف لزم قطع الحرف
الجار عن عمله بلا كاف اللهم إلا أن يقال : ينزل منزلة الجزء من المجرور . هذا
كلامه .
قال العيني : البيت من شعر لرؤبة بن العجاج .
____________________
وقبله
: ( ومسهم ما مس أصحاب الفيل ** ولعبت طير بهم أبابيل ) ( ترميهم حجارةً من سجيل
** فصيروا مثل كعصف مأكول ) ولم يذكر ما مرجع الضمير ومن الذين جرى عليهم هذا
الأمر .
وأصحاب الفيل : أبرهة بن الصباح الأشرم ملك اليمن من قبل أصحمة النجاشي وجيشه .
وكان من أمر أبرهة أنه بنى كنيسة بصنعاء وأراد صرف الحاج إليها فخرج رجل من بني
كنانة فقضى حاجته فيها فأغضبه ذلك وحلف ليهدمن الكعبة . فخرج بجيشه ومعه الفيلة
وفيل قوي يسمى محموداً فلما نهي لدخول الحرم عبى جيشه وقدم الفيل فكان كلما وجهوه
إلى الحرم برك ولم يبرح وإذا وجهوه إلى اليمن أو إلى جهة أخرى هرول .
فأرسل الله طيراً أبابيل في منقار كل منها حجر وفي رجليه حجران أكبر من العدسة
وأصغر من الحمصة فرمتهم فكان الحجر يقع في رأس الرجل فيخرج من دبره . فهلكوا
جميعاً .
السجيل : الطين المتحجر . معرب : سنك كل . والأبابيل : الجماعات من الطير جمع
إبالة بكسر الهمزة وتشديد الموحدة وهي الحزمة الكبيرة شبهت بها الجماعة من الطير
لتضامها . وقيل : هي الجماعات من الطير لا واحد لها .
____________________
وقوله
: فأصبحوا روي بدله : فصيروا بالبناء للمفعول . وبه استشهد ابن هشام في شرح
الألفية )
لتعدية صير إلى مفعولين : أحدهما : نائب الفاعل .
وثانيهما : مثل . والعصف قال صاحب العباب : قال الفراء : هو بقل الزرع . وعن الحسن
البصري : الزرع الذي أكل حبه وبقي تبنه . وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من
أول الكتاب .
وأنشد بعده : وصاليات ككما يؤثفين
____________________
ولا
للما بهم أبداً دواء أوله : فلا والله لا يلفى لما بي وتقدم شرحه في الشاهد الرابع
والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده : يا تيم تيم عدي تمامه : ( . . . . . . . . . . . . . . لا أبا لكم **
لا يلقينكم في سوءة عمر ) وتقدم شرحه في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
الثالث والثلاثون بعد الثمانمائة ) ولا ترى الضب بها ينجحر على أن قوله تعالى :
ليس كمثله شيء النفي فيه منصب على مثل مثله وعلى مثله جميعاً فليس لله سبحانه
وتعالى مثل حتى يكون لمثله شيء يماثله . فالمنفي المثل ومثل المثل جميعاً وهذا
كقول عمرو بن أحمر في وصف فلاة : لم يرد أن بها أرانب لا تفزعها أهوالها ولا
ضباباً غير منحجرة ولكنه نفى أن يكون بها حيوان .
وقد أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : سنلقي في قلوب الذين كفروا الرعب بما
أشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً الآية . على أن المراد نفي السلطان يعني الحجة
والنزول جميعاً لا نفي التنزيل فقط بأن يكون ثمة سلطان لكنه لم ينزل .
كما أن المنفي في البيت الضب والانجحار جميعاً لا الانجحار فقط إذ المراد وصف هذه
المفازة بكثرة الأهوال بحيث لا يمكن أن يسكنها حيوان .
والإفزاع : الإخافة . والأرنب : مفعول مقدم وأهوالها : فاعل يفزع والضمير للمفازة
والفلاة وهي جمع هول وهي الشدائد التي تفزع . والهول : مصدر هاله الشيء أي : أفزعه
.
____________________
والضب
: حيوان معروف . والانجحار بتقديم الجيم على الحاء المهملة : الدخول في الجحر بضم
الجيم وهو ما حفره الهوام السباع لأنفسها .
وفي أساس البلاغة : جحرت الضباب فانجحرت أي : دخلت في جحرتها . يقول : لا تفزع
أهوال تلك المفازة الأرنب لأنه لا أرنب حتى تفزع من أهوالها لأنه لا يمكنها السكون
فيها لشدة أهوالها ولا تشاهد الضب فيها منجحراً لأنه لا ضب فيها فينجحر .
وهذا البيت نسبه ابن الأنباري في شرح المفضليات لعمرو بن أحمر الباهلي وهو شاعر
إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
والمشهور والمستعمل في هذا المعنى قول امرئ القيس : ( على لاحب لا يهتدى بمناره **
إذا سلفه العود الديافي جرجرا ) فإنه لم يرد أن فيه مناراً لا يهتدى به ولكنه نفى
أن يكون به منار . والمعنى : لا منار فيه فيهتدى به . واللاحب بالحاء المهملة :
الطريق الواضح . )
والمنار : جمع منارة وأصلها منورة مفعلة من النور وسمي بذلك لأنها في الأصل كل
مرتفع عليه نار ولذلك قالوا في جمعها : مناور . وسافه : شمه ومصدره السوف . والعود
: بفتح المهملة : البعير الهرم . الديافي منسوب إلى دياف : قرية بالشام وقيل :
بالجزيرة . وقيل : بل دياف أنباط بالشام . وفتح بعضهم أوله . والجرجرة : صوت يردده
البعير في حنجرته . وإنما يجرجر في الطريق إذا
____________________
شمه
لما يعرف من شدته وصعوبة مسلكه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثمانمائة ) على أن الكاف قد تدخل على
الضمير المنصوب المنفصل لضرورة الشعر كما هنا .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومنه وضع صيغة ضمير النصب المنفصل بدل صيغة ضمير
الرفع المنفصل المجعول في موضع خفض بكاف التشبيه . وذلك قوله : فأجمل وأحسن . . .
. . . . . البيت يريد : كأنت آسر فوضع إياك موضع أنت للضرورة وإنما قضى على إياك
بأنها في موضع أنت لأن الكاف لا تدخل في سعة الكلام على مضمر إلا أن تكون صيغته
ضمير رفع منفصل نحو قولهم : ما أنا كأنت ولا أنت كأنا . انتهى .
ومثله لثعلب في أماليه قال : وما رأيت كإياك إلا في الشعر . وأنشد هذا البيت .
وقال أبو حيان في أماليه : أنشد الفراء وهشام عن الكسائي : وأحسن وأجمل في أسيرك
إنه البيت
____________________
نصب
إياك في موضع الخفض لتقارب ما بين النصب والخفض والنصب على إياك أغلب كما أنت
بالرفع أشهر وأعرف . انتهى .
وقوله : فأجمل بقطع الهمزة المفتوحة وكسر الميم أي : عامل بالجميل . وأحسن بفتح
الهمزة وكسر السين أي : افعل الحسن . وأسرته أسراً من باب ضرب فهو أسير وذاك آسر .
وهو وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : (
فلا أرى بعلاً ولا حلائلا ** كه ولا كهن إلا حاظلا ) على أن الكاف قد تدخل أيضاً
على الضمير المجرور في ضرورة الشعر .
قال سيبويه في باب ما لا يكون فيه الإضمار من حروف الجر : وذلك الكاف التي في :
أنت كزيد وحتى ومذ . وذلك أنهم استغنوا بقولهم : مثلي وشبهي عنه فأسقطوه .
____________________
واستغنوا
عن الإضمار في حتى بقولهم : دعه حتى يوم كذا وكذا وبقولهم : دعه حتى ذاك .
وبالإضمار في إلى قولهم : دعه إليه لأن المعنى واحد .
كما استغنوا بمثلي وبمثله عن كي وكه . واستغنوا عن الإضمار في مذ بقولهم : مذ ذاك
لأن ذاك اسم مبهم وإنما يذكر حين يظن أنك قد عرفت ما يعني . إلا أن الشعراء إذا
اضطروا أضمروا في الكاف فيجرونها على القياس .
قال العجاج : وقال : ( فلا ترى بعلاً ولا حلائلا ** كه ولا كهن إلا حاظلا ) شبهوه
بقوله : له ولهن . ولو اضطر شاعر فأضاف الكاف إلى نفسه قال : كي . وكي خطأ من قبل
أنه ليس من حرف يفتح قبل ياء الإضافة . انتهى .
قال النحاس : هذا عند سيبويه قبيح . والعلة له أن الإضمار يرد الشيء إلى أصله .
فالكاف في موضع مثل فإذا أضمرت ما بعدها وجب أن تأتي بمثل . وأبو العباس فيما حكى
لنا علي بن سليمان يجيز الإضمار في هذا على القياس لأن المضمر عقيب المظهر وقد
نطقت به العرب .
وقد ذكرنا قبل ما ذكره بعض النحويين من إجازتهم : أنا كأنت وكإياك ورد أبي العباس
لذلك . انتهى كلامه . وقال ابن عصفور في كتاب الضرورة : ومنه أ يستعمل الحرف
للضرورة استعمالاً لا يجوز مثله في الكلام نحو قول العجاج : وأم أوعال كها أو
أقربا فجر بالكاف الضمير المتصل . وحكمها في سعة الكلام أن لا تجر إلا الظاهر أو
الضمير المنفصل لجريانه مجرى الظاهر فيقال : ما أنا كأنت ولا أنت كأنا . )
____________________
حكى
الكسائي عن بعض العرب أنه قيل له : من تعدون الصعلوك فيكم فقال : هو الغداة كأنا .
لكنه لما اضطر أبدلها من حكمها حكم ما هي في معناه وهو مثل فجعلها تجر الضمير
المتصل كما تجر الضمير المنفصل كما يجره مثل .
ومن ذلك قوله : وإذا الحرب شمرت لم تكن كي حين تدعو الكماة فيها نزال أنشده الفراء
وقال : أنشدنيه بعض أصحابنا ولم أسمعه أنا من العرب . قال الفراء : وحكي عن الحسن
البصري : أنا كك وأنت كي . واستعمال هذا في حال السعة شذوذ لا يلتفت إليه .
انتهى .
ومن دخولها على الضمير قول أبي محمد اليزيدي اللغوي النحوي أخذ عن أبي عمرو ويونس
وأكابر البصريين وكان معلم المأمون بن هارون الرشيد : ( شكوتم إلينا مجانينكم **
ونشكو إليكم مجانيننا ) ( فلولا المعافاة كنا كهم ** ولولا البلاء لكانوا كنا )
وقال آخر : ( لا تلمني فإنني كك فيها ** إننا في الملام مشتركان ) وكتب بعض
الفضلاء إلى ابن المقفع كتاباً يباريه في الوجازة : بسم الله الرحمن الرحيم . نحن
صالحون فكيف أنتم فكتب إليه ابن المقفع : نحن كك . والسلام . وبما نقلنا عن سيبويه
يعرف أن نسبه جواز ذلك إليه مطلقاً غير صحيح . وممن نسب الجواز إليه مطلقاً أبو
حيان قال في الارتشاف وفي
____________________
الواضح
: أجاز سيبويه وأصحابه أنت كي وأنا كك . وضعفه الكسائي والفراء وهشام .
وقال في تذكرته أيضاً : واختلفوا في دخول الكاف على الياء والكاف فأجاز سيبويه
وأصحابه : أنت كي وأنا كك .
وضعف هذا الكسائي والفراء وهشام واحتجوا بأنه قليل في كلام العرب . وقال الفراء :
أنشدني بعض أصحابنا : وإذا الحرب شمرت لم تكن كي البيت قال الفراء : وما سمعت أنا
هذا البيت من العرب . وقال هشام : ما قالت العرب : أنا كك )
وأنت كي . قال : والبيت الذي ينشد في كي مؤلف من قول بشار لا يلتفت إليه .
وقال الفراء : قد حكي عن الحسن البصري : أنا كك وأنت كي . وقال الفراء : لم تقل
العرب : أنت كي وآثروا أنت كأنا ولم يقولوا : أنا كك وآثروا أنا كأنت وجعلوا أنت
وأنا للخفض كما جعلوا هو للخفض فقالوا : أنا كهو .
والرفع أغلب على أنا وأنت وهو ولم يصيروهن مخفوضات والرفع أغلب عليهن إلا لأن
الكنى تجري مجرى حروف المعاني فتعرف بالدلالات فلذلك قالوا : ضربتك أنت ومررت بك
أنت فجعلوا أنت للنصب والخفض وكذلك هو وأنا .
قال الكسائي : قيل لبعض العرب : من تعدون الصعلوك فيكم فقال : هو الغداة كأنا .
ولما صلحت الكاف للرفع والنصب والخفض في قيامك وضربتك وبك لم يستنكر كون أنت
منصوباً مخفوضاً وكذلك أنا وهو . انتهى كلام أبي حيان .
____________________
ويستفاد
منه أن دخول الكاف على ضمير الرفع المنفصل جائز في السعة عند الكوفيين . ونقل عنهم
خلافه في الارتشاف قال : وفي البسيط : وقد ورد أيضاً في ضمير الرفع في قولهم : أنت
كأنا وأنا كهو . وأنكره الكوفيون . انتهى .
وكيف ينكرونه وهم الذين نقلوه عن العرب سماعاً . ولله در الشارح المحقق في قوله :
قد تدخل في السعة على المرفوع نحو أنا كأنت لورود السماع به . وفي جعله دخولها على
الضمير المنصوب والمخفوض خاصاً بالشعر لعدم ورودهما عن العرب .
وقد سوى أبو حيان في الارتشاف بين المرفوع والمنصوب فقال : وقد أدخلت العرب الكاف
على ضمير الرفع المنفصل وعلى ضمير النصب المنفصل قالت : ما أنا كأنت وقال : وهذا
غير جيد لأن الثاني إنما ورد في الشعر .
وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن دخولها على الضمير الغائب المجرور قليل وعلى
المرفوع والمنصوب أقل . ونازعه شراحه فيه فقالوا : إن لم يكونا أكثر من المخفوض
فينبغي أن يكونا مساويين له .
والبيت من أرجوزة لرؤبة بن العجاج . وقبله : ( تحسبه إذا استتب دائلاً ** كأنما
ينحي هجاراً مائلا ) وهما في صوف حمار وأتنه . وقوله : تحسبه بالخطاب والهاء ضمير
العير وهو الحمار . )
____________________
واستتب
: جد في عدوه حتى انقطع . وأصل التباب الخسران والهلاك . ودائلاً حال مؤكدة
لعاملها وهو من الدالان بفتح الدال المهملة وفتح الهمزة وهو العدو .
وجملة : كأنما ينحي إلخ مفعول ثان لحسب وجواب إذا محذوف يدل عليه الفعل قبلها .
وينحي بالنون والحاء المهملة : يعتمد .
في الصحاح : أنحى في سيره أي : اعتمد على الجانب الأيسر . هذا هو الأصل ثم صار
الانتحاء الاعتماد والميل في كل وجه .
والهجار بكسر الهاء بعدها جيم : حبل يشد به وظيف البعير . يريد أنه يعدو في شق
فكأنه وقوله : فلا ترى بعلاً . . . إلخ هو بالخطاب أيضاً . وترى بمعنى تعلم متعد
إلى مفعولين أولهما بعلاً وثانيهما ما بعد إلا . والجار والمجرور وهو كه صفة لبعل
أي : لا ترى بعلاً كهذا الحمار ولا حلائل كهذه الأتن إلا مانعاً لها عن أن يقربها
غيره من الفحول لأن الحمار يمنع أتنه من حمار آخر .
والبعل : الزوج . والحلائل : جمع حليلة وهي الزوجة . والحاظل بالحاء المهملة
والظاء المعجمة المشالة قال الأعلم : هو والعاضل سواء وهو المانع .
وقال النحاس : يقال : حظل أنثاه إذا منعها عن التزوج . كذا في نسختي التي قرأتها
على أبي إسحاق . وسألت أبا الحسن فقال : الحظلان مشية فيها تثاقل . وقوله : كه ولا
كهن أي : مثله ولا مثلهن .
وأعاد الكاف مع المعطوف لما قال جمهور البصريين : لا يعطف على الضمير المجرور إلا
بإعادة الجار نحو : مررت بك وبزيد .
ولم يشترط الكوفيون ويونس والأخفش ذلك وأجازوا في الكلام : مررت بك وزيد . وعليه
جاء البيت الآتي وهو قوله : كها وأقربا .
وهذا إذا كان الضمير المجرور بطريق الأصالة وأما إن كان بطريق الاستعارة كأن
يستعار ضمير
____________________
قال
أبو حيان في الارتشاف والتذكرة : قال الفراء : ومن لم يقل مررت بي وزيد على اختيار
قال مختاراً : أنت كأنا وزيد وأنا كأنت وزيد . انتهى .
قال الأعلم : الوقف على كه بالهاء لأنه ضمير جر متصل بالكاف اتصاله بمثل والوقف
عليه هنا كالوقف عليه ثمة . انتهى . )
ويروى في بعض النسخ من كتب النحو : كهو ولا كهن برسم ضمة الهاء المشبعة واواً .
وذلك غير جيد . ومن هنا قال المرادي في شرح التسهيل : ولا حجة في قوله : كهن ولا
كه لاحتمال أن يكون كهو ويجعل هو وكهن ضمير رفع منفضل بنيابة ضمير الرفع عن ضمير
الجر .
وقد شرح العيني هذين البيتين بما لا يظهر معه معناهما بل يزيد الطالب خبط عشواء .
قال : استتب : استقام . ودائلاً من الدألان وهو مشي يقارب فيه الخطو كأنه مثقل من
الحمل .
والهجار : حبل يشد في رسغ رجل البعير ثم يشد إلى حقوه إن كان عرياً وإن كان
مرحولاً يشد في الحقب .
تقول منه : هجرت البعير أهجره هجراً . وهجار القوس : وترها . وبعلاً : زوجاً .
وحليلة الرجل : امرأته . والحاظل : المانع من التزويج كالعاضل بالضاد .
وجملة لا ترى : منفية من الفعل والفاعل وبعلاً مفعوله ولا حلائلاً عطف عليه .
وقوله كه : الكاف للتشبيه ومحله النصب لأنه مفعول ثان لترى ولا كهن عطف على كه
وحاظلاً استثناء من قوله بعلاً ولا حلائلاً . هذا كلامه فتأمل واعجب .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
السادس والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : وأم أوعال كها أو اقربا لما
تقدم قبله .
وهو من أرجوزة للعجاج مطلعها : ( ما هاج دمعاً ساكباً مستسكبا ** من أن رأيت
صاحبيك أكأبا ) أي : دخلا في الكآبة وهي الحزن . ثم وصف فيها حمار الوحش وأتنه
أراد أن يرد الماء فرأى الصياد فهرب بأتنه .
إلى أن قال : ذات اليمين غير ما أن ينكبا نحاه تنحية : أبعده عنه وجعله في ناحية .
وفاعل نحى ضمير يعود إلى حمار وحش ذكره . يعني أنه مضى في عدوه ناحية فجعل
الذنابات في جانب شماله وأم أوعال في ناحية يمينه . وروى خلى الذنابات وشمالاً على
الأول ظرف وعلى الثاني ظرف أيضاً في وضع المفعول الثاني لتضمين خلى معنى جعل .
____________________
والذنابات
قال الأندلسي في شرح المفصل : هو جمع ذنابة بكسر الذال وهي آخر الوادي ينتهي إليه
السيل . وكذلك آخر النهر . ووجدتها في موضع آخر : الذبابات بالموحدتين وهي الجبال
الصغار . انتهى .
وقال غيره : الذنابات بالذال والنون : اسم موضع . ولم أره في المعجم لأبي عبيد
البكري ولا في معجم البلدان لياقوت الحموي ولا في كتب اللغة المدونة .
وفسره شارح اللباب بالجبال الصغار وقيده العيني بفتح الذال وقال : اسم موضع بعينه
.
والكثب بفتح الكاف والمثلثة : القرب وأراد القريب وهو صفة الشمال .
وأم أوعال قال البكري : على لفظ جمع وعل : هضبة في ديار بني تميم ويقال لها : ذات
أوعال .
وأنشد هذا الشعر .
وقال ياقوت : هضبة معروفة قرب برقة أنقد وهي أكمة بعينها . قال ابن السكيت : ويقال
لكل هضبة فيها أوعال : أم أوعال . وأنشد هذا الشعر وغيره وقال : والوعل : كبش
الجبل . )
والهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض . والأكمة : تل وقيل : شرفة كالرابية وهو
ما اجتمع في مكان واحد وربما لم يغلظ .
وقوله : كها الضمير للذنابات . قال ابن السيرافي : أم أوعال : مبتدأ وكها هو الخبر
وأقرب معطوف على مجرور الكاف من غير إعادة الجار .
يعني أنه مضى في عدوه ناحية من الذنابات فكأنه نحاها عن طريقه وهي عن شماله في الموضع
الذي عدا فيه بالقرب من الموضع وليست ببعيدة . وأم أوعال من الموضع الذي عدا فيه
كالذنابات منه أو اقرب إليه منها . انتهى .
____________________
وقال
ابن يعيش وصدر الأفاضل : المحفوظ أن أم أوعال بالنصب فيكون معطوفاً على الذنابات .
وقال صدر الأفاضل : والمعنى نحى الذنابات عن طريقه جانب شمال قريب منه بأن مضى
ناحية منها ونحى أم أوعال في جانب يمينه مثل الذنابات في القرب منه أو أقرب منها
إليه .
وقوله : غير ما أن ينكبا بنصب غير على الاستثناء وما زائدة وأن ناصبة وفاعل ينكب
قال الأصمعي في كتاب الإبل : نكب ينكب نكباً ونكوباً إذا انحرف عن الطريق . وأنشد
هذا البيت . وهو من باب نصر .
قال ابن السيرافي : يقول : هما عن يمين طريقه وشماله ومقدار ما بين كل واحد من
الموضعين وبين طريقه متقارب إلا أن يجوز في عدوه فتصير الذنابات إن مال إليها أقرب
من أم أوعال وإن مال في العدو إلى أم أوعال صارت أقرب إليه من الذنابات .
وقال العيني : أم أوعال : مبتدأ وخبره : كها وأقرب : معطوف على الضمير المجرور .
ويجوز نصب أم أوعال بالعطف على الذنابات على معنى جعل أم أوعال كالذنابات أو أقرب
فيكون أقرب حينئذ معطوفاً على محل الجار والمجرور . هذا كلامه .
يريد أن موضع الجار والمجرور النصب على أنه مفعول ثان لجعل وأقرب معطوف على المحل
.
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
السابع والثلاثون بعد الثمانمائة ) ( فإن الحمر من شر المطايا ** كما الحبطات شر
بني تميم ) على أن الكاف المكفوفة بما . قد تكون لتشبيه مضمون جملة بمضمون جملة
أخرى . ومضمون الأولى كون الحمر من شر المطايا ومضمون الثانية كون الحبطات سر بني
تميم . فشبه ذاك الكون بهذا الكون وهما مضمونا الجملتين ووجه الشبه الحصول في الوجود
. وكذا تقول في الآية قبله .
وكذا الحال إن كان بعد كما أن .
وقد فرق بينهما ابن الخباز في النهاية قال : قد كفوا الكاف بما كما كفوا رب فتليها
الجملة الاسمية والفعلية . تقول : زيد قاعد كما عمرو قائم شبهت جملة بجملة بكونهما
حاصلين في الوجود .
وتقول : زيد قاعد كما أن عمراً قائم والمعنى : قعود زيد لا محالة وقيام عمرو لا
محالة . فالأولى فيها تشبيه جملة بجملة وهذه توجب حصول الأمرين في الوجود . فهذا
فرق ما بينهما . وتقول : زرني كما أزورك فتحتمل ما أن تكون مصدرية أي : زرني
كزيارتي إياك أو تكون بمعنى لعل أي : لعلي أزورك . انتهى .
وزعم أبو علي أن ما في الآية والبيت موصولة وصدر الصلة محذوف قال : وأما قوله :
قالوا يا موسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة فالتقدير : اجعل لنا إلهاً مثل التي هي
لهم آلهة وحذف المبتدأ من الصلة كما حذف في قوله تعالى : تماماً على الذي أحسن
بالرفع التقدير : الذي هو أحسن . ومثله قراءة رؤبة : مثلاً ما بعوضة برفع بعوضة .
فالتقدير أن يضرب الذي هو بعوضة مثلاً . وعلى هذا حمل الأخفش قول الشاعر :
____________________
وجدنا
الحمر من شر المطايا البيت قال : معناه كالذين هم الحبطات . قال : وإن شئت جعلت ما
زائدة وجررت الحبطات بالكاف . انتهى .
وهذا غير جيد فإنه تخريج على القليل النادر مع إمكانه على التخريج الكثير الشائع .
وكأنه مبني على أن الكاف لا تكف بما كما زعمه صاحب المستوفي .
ورد عليه بقوله : ( أعلم أنني وأبا حميد ** كما النشوان والرجل الحليم ) )
قال ابن هشام في المغني : وإنما يصح الاستدلال بهذا إذا لم يثبت أن ما المصدرية
توصل بالجمل الاسمية . انتهى .
فما اللاحقة للكاف عند البصريين ثلاثة أقسام على خلاف فيها : مصدرية وموصولة وكافة
.
وهذه قسمان : أحدهما : كافة ومهيئة فقط .
وثانيهما : تغيير معنى الكلمة معها . ولها معنيان حينئذ إما معنى : لعل وإما معنى
: القران في
____________________
ومما
قيل إن ما فيه موصولة قولهم : كن كما أنت . وللنحويين فيه خمسة أقوال : قولان على
الموصولية وقولان على أنها كافة وقول بزيادتها .
الأول : أن الكاف بمعنى علي وما موصولة وأنت مبتدأ حذف خبره أي : كن على ما أنت
عليه .
الثاني : أنها موصولة وأنت : خبر محذوف مبتدؤه أي : كالذي هو أنت . وقد قيل به في
قوله تعالى : اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة كما تقدم .
الثالث : أن ما كافة وأنت مبتدأ حذف خبره أي : عليه أو كائن . وقد قيل في كما لهم
آلهة أيضاً .
الرابع : أن ما كافة وأنت فاعل والأصل كما كنت ثم حذفت كان فانفصل الضمير .
الخامس : أن ما زائدة والكاف جارة كما في قوله : كما الناس مجروم عليه وجارم وأنت
ضمير رفع أنيب عن المجرور والمعنى : كن فيما يستقبل مماثلاً لنفسك فيما مضى .
حكى هذه الخمسة ابن هشام في المغني وقال : تقع كما بعد الجمل كثيراً صفة في المعنى
فتكون نعتاً لمصدر أو حالاً ويحتملهما قوله تعالى : يوم نطوي
____________________
السماء
كطي السجل للكتاب كما بدأنا فإن قدرته نعتاً لمصدر فهو إما معمول لنعيده أي : نعيد
أول خلف إعادة مثل ما بدأناه أو لنطوي أي : نفعل هذا الفعل العظيم كفعلنا هذا
الفعل .
وإن قدرته حالاً فذو الحال مفعول نعيده أي : نعيده مماثلاُ للذي بدأناه . وتقع
كلمة كذلك أيضاً كذلك . فإن قلت : فكيف اجتمعت مع مثل في قوله تعالى : وقال الذين
لا يعلمون لولا يكلمنا الله أو تأتينا آية كذلك قال الذين من قبلهم مثل قولهم ومثل
في المعنى نعت لمصدر قال المحذوف أي : كما أن كذلك نعت له ولا يتعدى عامل واحد
لمتعلقين بمعنى واحد لا تقول : )
ضربت زيداً عمراً .
ولا يكون مثل توكيداً لكذلك لأنه أبين منه كما لا يكون زيد من قولك : هذا زيد يفعل
كذا توكيداً لهذا كذلك ولا خبراً لمحذوف بتقدير : الأمر كذلك لما يؤدي إليه من عدم
ارتباط ما بعده بما قبله .
قلت : مثل بدل من كذلك أو بيان أو نصب بيعلمون أي : لا يعلمون اعتقاد اليهود
والنصارى .
فمثل بمنزلتها في : مثلك لا يفعل كذا أو نصب بقال . والكاف : مبتدأ والعائد محذوف
أي : قاله .
ورد ابن الشجري ذلك على مكي بأن قال : قد استوفى معموله وهو مثل . وليس بشيء لأن
والبيت من أبيات ثلاثة لزياد الأعجم وهي : ( وأعلم أنني وأبا حميد ** كما النشوان
والرجل الحليم )
____________________
(
أريد حباءه ويريد قتلي ** وأعلم أنه الرجل اللئيم ) ( فإن الحمر من شر المطايا **
كما الحبطات شر بني تميم ) كذا أوردها العيني ولم ينبه على أن البيت الأخير فيه
إقواء .
وقوله : وأعلم أنني فعل مضارع وروى بدله : لعمرك إنني . وعلى الأول همزة أنني
مفتوحة وعلى الثاني مكسورة . وقوله : كما النشوان . . . إلخ أورده المرادي في شرح
الألفية وابن هشام في المغني على أن ما كفت الكاف عن عمل الجر . والنشوان :
السكران . والنشوة : السكر .
والحليم : الذي عنده تأن وتحمل لما يثقل على النفس .
يقول : أنا وأبو حميد كالسكران والحليم أتحمل منه وهو يعبث بي كالسكران يسفه على
الحليم وهو متحمل . وهذا تشبيه تمثيلي شبه حالته معه بحالة الحليم مع السكران .
والمخبر عنه اثنان وما بعد كما خبرهما إلا أنه أخبر عن الثاني بالأول وعن الأول
بالثاني لظهور المعنى وعدم اللبس .
وتكلف الدماميني فجعل النشوان : مبتدأ والرجل : معطوفاً عليه وخبرهما محذوفاً أي :
وتبعه ابن الملا ولم يكتف به بل أطال لسانه على الجلال السيوطي وقال : النشوان :
مبتدأ لا خبر كما وهم الجلال : ( وكم من عائب قولاً صحيحاً ** وآفته من الفهم
السقيم ) )
وروي : كما النشوان . . . إلخ يجرهما على جعل ما زائدة لا كافة فيكون الإقواء في
البيت الثاني ويروى : لكالنشوان . واللام للتوكيد في خبر إن وعلى هذا لا شاهد في
البيت .
____________________
وقوله
: أريد حباءه ويريد قتلي أخذ هذا المصراع من قول عمرو بن معديكرب الصحابي في ابن
أخته قيس بن المكشوح المرادي : ( أريد حباءه ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مراد
) والحباء : بكسر المهملة بعدها موحدة : العطية . حدث أمر بينهما أوجب التقاطع .
يقول : أريد نفعه وحباءه مع إرادته قتلي وتمنيه موتي فمن يعذرني منه .
ويروى : أريد حياته بلفظ ضد الممات . وكان علي رضي الله عنه ينشد هذا البيت كلما
يرى عبد الرحمن بنم ملجم قاتله الله .
والبيت من شواهد سيبويه . قال الأعلم : الشاهد فيه نصب عذيرك ووضعه موضع الفعل
بدلاً منه . والمعنى : هات عذرك وقرب عذرك . والتقدير : اعذرني منه عذرا .
واختلف في العذير فمنهم من جعله مصدراً بمعنى العذر وهو مذهب سيبويه . ومنهم من
جعله بمعنى عاذر كعليم وعالم . والمعنى عنده : هات عذرك . وامتنع أن يجعله بمعنى
العذر لأن فعيلاً لا يأتي مصدراً إلا في الأصوات نحو : الصهيل .
ورد بأن المصدر يطرد وضعه موضع الفعل بدلاً منه ولا يطرد ذلك في اسم الفاعل وقد
جاء فعيل في غير الصوت كقولهم : وجب القلب وجيباً إذا اضطرب . انتهى .
وروى الدماميني المصراع الأول كذا : ( أريد هجاءه وأخاف ربي ** واعلم أنه عبد لئيم
) وقال : ادعى الحلم لكنه أبان عن عدم حلمه بهذا البيت . وأي حلم وأي كف عن الهجاء
مع التسجيل عليه بهذا الوصف الذميم . وغرضه أن ما ذكره لا يعد
____________________
هجواً
لاتصافه بما يكون هذا المذكور بالنسبة للمسكوت عنه من أوصافه كالمدح له . وفي
الحقيقة هذا غاية الذم والهجاء .
وقوله : فإن الحمر . . . إلخ هو جمع حمار . والمطايا : جمع مطية . قال صاحب
المصباح : والمطا على وزن العصا : الظهر ومنه قيل للبعير : مطية فعيلة بمعنى
مفعولة لأنه يركب مطاه ذكراً كان أو أنثى ويجمع على مطي ومطايا فلا يصح جعل الحمير
من شر المطايا لأن الحمير غير الإبل .
والجيد قول صاحب القاموس : المطية : الدابة التي تمطو في السير أي : تجد وتسرع .
وفيه رواية )
فإن النيب من شر المطايا والنيب : جمع ناب وهي الناقة المسنة . وأغرب العيني هنا
فقال : الحمر جمع حمار هكذا وجدته مضبوطاً في نسخة صحيحة لأبي علي أعني التذكرة .
ووجدت في موضع آخر : فإن الخمر بفتح الخاء المعجمة وهي التي تشرب وهذا أقرب وإن
كان ذاك أصوب . وقد شبه الخمر بالمطية التي لا خير فيها ووجه الشبه حصول الشر من
كل منهما .
هذا كلامه .
وهذه غفلة فإنه لا تشبيه هنا وإنما أخبر عن الحمر بكونها من شر المطايا . ورواية
الخمر بالمعجمة تحريف على تصحيف .
والحبطات بفتح المهملة وكسر الموحدة وهم بنو الحارث بن عمرو بن تميم . قال صاحب
الصحاح : الحبط بالتحريك : أن تأكل الماشية فتكثر حتى تنتفخ لذلك بطونها ولا يخرج
عنها ما فيها .
____________________
وقال
ابن السكيت : وهو أن ينتفخ بطنها عن أكل الذرق وهو الحندقوق . ويقال : حبطت الشاة
بالكسر وفي الحديث : وإن مما ينبت الربيع ما يقتل حبطاً أو يلم .
ومنه سمي الحارث بن عمرو بن تميم : الحبط بفتح فكسر وقيل له : الحبط لأنه كان في
سفر فأصابه مثل ذلك . وولده هؤلاء الذين يسمون الحبطات من بني تميم والنسبة إليهم
حبطي .
انتهى .
قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : الحبطي بفتح الباء كراهة الكسرات .
قال المبرد في الكامل : يروى أن الفرزدق بلغه أن رجلاً من الحبطات بن عمرو بن تميم
خطب امرأة من بني دارم بن مالك بن حنظلة بن زيد مناة بن تميم فقال الفرزدق : ( بنو
دارم أكفاؤهم آل مسمع ** وتنكح في أكفائها الحبطات ) آل مسمع : بيت بكر بن واائل
في الإسلام وهم من بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل .
والحبطات هم بنو الحارث بن عمرو بن تميم : فقال رجل من الحبطات يجيبه : ( أما كان
عباد كفيئاً لدارم ** بلى ولأبيات بها الحجرات ) يعني بني هاشم من قول الله عز وجل
: إن الذين ينادونك من وراء الحجرات . انتهى . )
____________________
قال
ابن السيد : عباد هذا هو ابن حصين صاحب البغلة . والكفيء : فعيل بمعنى الكفء .
وقال بعضهم : غنما سمي الحارث حبطاً لأنه كان في سفر فأكل أكلاً فانتفخ بطنه فمات
فسمي حبطاً وعيروا بذلك . فانحطاط قدره وقدر أولاده إنما هو لهذا لا لما زعم ابن
نباتة في وجدنا النيب من شر المطايا البيت فلزمهم هذا القول . انتهى .
ولا يخفى أن هذا البيت لزياد الأعجم وهو من معاصري الفرزدق وتقدمت ترجمته في
الشاهد الثاني بعد الثمانمائة . وتسميتهم بالحبطات قديم جداً قبل أن يخلق أجداد
زياد فكيف لقبوا بقوله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
لا
تشتم الناس كما لا تشتم على أن كما أصلها كاف التشبيه المكفوفة بما قد تغير معناها
بالتركيب فصارت بمعنى لعل أي : لعلك لا تشتم . وهي مهملة لا تعمل شيئاً ولا يلزم
من كونها بمعنى لعل أن تعمل عملها .
وتقدم نقل كلام سيبويه وغيره في الشاهد السابع والخمسين بعد الستمائة .
وفي الارتشاف لأبي حيان : وذهب الفراء إلى أن قولهم : انتظرني كما آتيك ولا تشتم
الناس كما لا تشتم الكاف فيهما للتشبيه والكاف صفة لمصدر محذوف أي : انتظرني انتظاراً
مثل إتياني لك أي : ف لي بالانتظار كما أفي لك بالإتيان وانته عن شتم الناس
كانتهائهم عن شتمك . انتهى .
وقوله : لا تشتم لا : ناهية . وقوله : كما لا تشتم بالبناء للمفعول ورفع الفعل .
وهو من أرجوزة لرؤبة بن العجاج وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(
وإنا لمما نضرب الكبش ضربةً ** على رأسه تلقي اللسان من الفم ) على أن من الجارة
لما كفت بما تغير معناها وصارت بمعنى ربما مفيدة للتكثير أو للتقليل على خلاف في
مدلولها .
قال سيبويه في باب من أبواب أن التي تكون والفعل بمنزلة مصدره ما نصه : وتقول :
إني مما أن أفعل ذاك كأنه قال : أني من الأمر أو من الشأن أن أفعل ذاك . فوقعت ما
في هذا الموضع كما تقول العرب : بئسما يريدون بئس الشيء . إلى أن قال : وإن شئت
قلت : إني مما أفعل فتكون ما مع من بمنزلة كلمة واحدة نحو : ربما . قال أبو حية
النميري : وإنا لمما نضرب الكبش . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في قوله : لمما ومعناه لربما وهي من زيدت إليها ما وجعلت معها
على معنى ربما فركبت تركيبها . انتهى .
وفي البغداديات لأبي علي : قال أبو العباس : إن أراد سيبويه أن ما كافة لمن أنها
كافة لرب فهو كما قال سيبويه . وإن أراد أنه للتقليل كما أن ربما للتقليل كان ذلك
مسوغاً إذا ثبت مسموعاً .
ويبعد ذلك في البيت فإنه ينبغي أن يكون غير مقلل لضربه للكبش على رأسه انتهى .
وإنما قال هذا لأن رب وربما عنده لا تفيد إلا القلة . وكأن أبا حيان لم يقف على ما
قدمناه .
قال في الارتشاف : وزعم السيرافي والأعلم وابن طاهر وابن خروف
____________________
أن
من إذا كان بعدها ما كانت بمعنى ربما وزعموا أن سيبويه يشير إلى هذا المعنى في كلامه
.
وأنكر الأستاذ أبو علي وأصحابه ذلك وردوه وتأولوا ما زعموه من ذلك . هذا كلامه .
وتبعه ابن هشام في موضعين من المغني أحدهما : في من قال عند معانيها : العاشر
مرادفة ربما وإنا لمما نضرب الكبش البيت قاله السيرافي وابن خروف وابن طاهر
والأعلم وخرجوا عليه قول سيبويه : إنهم مما يحذفون كذا . والظاهر أن من فيهما
ابتدائية وما مصدرية وأنهم جعلوا كأنهم خلقوا من الضرب والحذف مثل : خلق الإنسان
من عجل . انتهى . )
وثانيهما : في ما الكافة قال : إنها تتصل بأحرف فتكفها من عمل الجر . الرابع : من
كقول أبي حية : وإنا لمما نضرب الكبش البيت قاله ابن الشجري . والظاهر أن ما
مصدرية وأن المعنى مثله في : خلق الإنسان من عجل وقوله :
____________________
وضنت
علينا والضنين من البخل فجعل الإنسان والبخيل مخلوقين من العجل والبخل مبالغة .
انتهى .
وسياق الكلام منهما ظاهر في أن المعنى الأول لم يقل به سيبويه وإنما هو شيء
استنبطه خدمة كتابه من كلامه وليس كذلك .
وتخريج ابن هشام فاسد وذلك أن فعل الصلة في المثالين الأولين مسند إلى ضمير المحدث
عنه فيلزم عند السبك إضافة المصدر إلى ذلك الضمير فيؤول الأمر إلى جعلهم كأنهم
خلقوا من ضربهم ومن حذفهم . وذلك غير متصور البتة . ولا يلزم هذا في الآية والبيت
الأخير .
والكبش هنا : الرئيس وسيد القوم لأنه يقارع دونهم ويحميهم . قال ابن النحاس : وإن
شئت جعلت ما بمعنى الذي ورفعت الكبش . انتهى .
أقول : هذا لا يصح . فتأمل . ومثل هذا البيت قول الفرزدق : ( وإنا لمما نضرب الكبش
ضربةً ** على رأسه والحرب قد لاح نارها ) والظاهر أن أبا حية ألم ببيت الفرزدق
فإنه قبل أبي حية وأبو حية توفي في بضع وثمانين ومائة .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : وكان يروي عن الفرزدق . وهو بفتح الحاء المهملة
وتشديد المثناة التحتية . وصحفه ابن الملا بالموحدة قال : ورأيت من صحفه بمثناة
تحتية . انتهى .
واسمه الهيثم بن الربيع وينتهي نسبه إلى نمير بن عامر بن صعصعة .
____________________
قال
صاحب الأغاني : وهو شاعر مجيد متقدم من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية . وقد
مدح الخلفاء فيهما جميعاً . وكان فصيحاً مقصداً راجزاً من ساكني البصرة . وكان
أهوج جباناً بخيلاً كذاباً معروفاً بذلك أجمع . وكان أبو عمرو بن العلاء يقدمه .
وقيل : إنه كان يصرع . وكان من أكذب الناس : حدث يوماً أنه يخرج إلى الصحراء فيدعو
)
الغربان فتقع حوله فيأخذ منها ما شاء . فقيل : يا أبا حية أفرأيت إن أخرجناك إلى
الصحراء فدعوتها فلم تأتك فماذا تصنع بك قال : أبعدها الله إذن وحدث يوماً قال :
عن لي ظبي يوماً فرميته فراغ عن سهمي فعارضه السهم ثم راغ فعارضه فما زال والله
يروغ ويعارضه حتى صرعه ببعض الجبانات .
وإلى هذا السهم لمح ابن نباتة المصري بقوله : ( وبديع الجمال لم ير طرفي ** مثل
أعطافه ولا طرف غيري ) ( كلما حدت عن هواه أتاني ** سهم ألحاظه كسهم النميري )
وقال يوماً : رميت والله ظبية فلما نفذ سهمي عن القوس ذكرت بالظبية حبيبة لي فعدوت
خلف السهم حتى قبضت على قذذة قبل أن يدركها .
وكان لأبي حية سيف يسميه : لعاب المنية ليس بينه وبين الخشبة فرق . وكان أجبن
الناس حدث جار له قال : دخل ليلة إلى بيته كلب فظنه لصاً فأشرفت عليه وقد انتضى
سيفه لعاب المنية وهو واقف في وسط الدار وهو يقول : أيها المغتر بنا والمجترئ
علينا بئس والله ما اخترت لنفسك : خير قليل وسيف صقيل لعاب المنية الذي سمعت به
____________________
مشهور
ضربته لا تخاف نبوته اخرج بالعفو عنك قبل أن أدخل بالعقوبة عليك . إني والله إن
أدع قيساً إليك لا تقم لها وما قيس تملأ والله الفضاء خيلاً ورجلاً سبحان الله ما
أكثرها وأطيبها .
فبينا هو كذلك إذ الكلب قد خرج فقال : الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفاني حرباً
ونظير هذه الحكاية ما رواه أبو إسحاق الحصري صاحب زهر الآداب في كتاب الجواهر في
الملح والنوادر قال : نزل أعرابي من بني نهشل يكنى أبا الأغر على بني أخت له من
قريش بالبصرة وذلك في شهر رمضان فخرج الرجال إلى ضياعهم وخرج النساء يصلين في
المسجد ولم يبق في الدار إلا الإماء فدخل كلب فرأى بيتاً فدخله وانصفق الباب فسمع
الإماء حركة فظنن أن لصاً قد دخل الدار فذهبت إحداهن إلى أبي الأغر فأخبرته فأخذ
عصا وجاء حتى وقف على باب البيت فقال : أيها اللص والله أما إني بك لعارف فهل أنت
من لصوص بني مازن شربت نبيذاً حامضاً خبيثاً حتى إذا دارت الأقداح في رأسك منتك
نفسك الأماني . فقلت : أطرق دور بني عمرو والرجال خلوف والنساء يصلين في مسجدهن
فأسرقهن سوءة لك والله ما يفعل هذا )
الأحرار بئسما منتك نفسك فاخرج بالعفو عنك وإلا دخلت بالعقوبة عليك وايم الله
لتخرجن أو لأهتفن هتفة
____________________
يلتقي
فيها الحيان : عمرو وحنظلة وتسيل عليك الرجال من هنا ولئن فعلت لتكونن أشأم مولود
في بني تميم فلما رأى أنه لا يجيبه أخذه باللين فقال : اخرج بأبي أنت مصوناً
مستوراً إني والله ما أراك تعرفني ولئن عرفتني لقد وثقت بقولي واطمأننت إلي . أنا
أبو الأغر النهشلي وأنا خال القوم وجلدة ما بين أعينهم لا يعصون لي رأياً وأنا
كفيل خفير أجعلك بين شحمة أذني وعاتقي فاخرج فأنت في ذمتي وإلا فعندي قوصرتان
أهداهما إلي ابن أختي البار الوصول فخذ إحداهما فانتبذها حلالاً من الله ورسوله .
فكان الكلب إذا سمع هذا الكلام أطرق وإذا سكت وثب ويروم الخروج . فتهاتف أبو الأغر
ثم قال : يا ألأم الناس وأوضعهم أراني لك الليلة في واد وأنت في آخر والله لتخرجن
أو لألجن فلما طال وقوفه جاءت جارية وقالت : أعرابي مجنون والله ما أرى في البيت
أحداً . ودفعت الباب فخرج الكلب مبادراً ووقع أبو الأغر مستلقياً فقلن له : قم
ويحك فإنه كلب فقال : الحمد لله الذي مسخه كلباً وكفى العرب حرباً . انتهى . ( تتمة
) قال الشارح المحقق : وقال بعضهم : إن بما تجيء أيضاً بمعنى ربما نحو : إني بما
____________________
أفعل
أي : ربما .
هذا قول ابن مالك قال : إن ما الكافة أحدثت مع الباء معنى التقليل بالقاف كما
أحدثت في قال ابن هشام في المغني : والظاهر أن الباء والكاف للتعليل وأن ما معهما
مصدرية : وقد سلم أن كلاً من الكاف والباء يأتي للتعليل مع عدم ما كقوله تعالى :
فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات . وقرئ : وي كأنه لا يفلح الكافرون .
وقال : التقدير : أعجب لعدم فلاح الكافرين . ثم المناسب في البيت معنى التكثير لا
التقليل .
انتهى . وهذا مأخوذ من شرح التسهيل لأبي حيان . ومثاله ما أنشده ابن مالك والمرادي
فيشرح الألفية وابن هشام في المغني : ( فلئن صرت لا تحير جواباً ** لبما قد ترى
وأنت خطيب ) تحير : مضارع أحار بالحاء المهملة أي : أجاب . يقال : كلمته فلم يحر
جواباً أي : لم يرده . واللام في لئن موطئة للقسم لا للتأكيد كما وهم العيني .
وقوله : لبما اللام في جواب القسم وما بعدها جواب القسم لا جواب الشرط كما وهم
العيني )
أيضاً .
وقد ترى بالبناء للمفعول . والرؤية بصرية لا ظنية كما زعم العيني . وجملة وأنت
خطيب : حالية .
____________________
والبيت
في رثاء ميت يقول : إن صرت الآن لا ترد جواباً لمن يكلمك فكثيراً ما ترى وأنت خطيب
بلسان الحال فإن من نظر إلى قبرك وتذكر ما كنت عليه وما ألت الآن إليه اتعظ بذلك .
ويحتمل أن يكون المراد كثيراً ما رئيت في حال الحياة خطيباً . إلا أنه عبر
بالمضارع لاستحضار تلك الحالة . قال العيني : وقائل البيت مجهول .
أقول : قال صاحب تهذيب الطبع لما مات الاسكندر ندبه أرسطاليس فقال : طالما كان هذا
الشخص واعظاً بليغاً وما وعظ بكلامه موعظة قط أبلغ من موعظة اليوم بسكوته فأخذه
صالح بن عبد القدوس فقال :
____________________
(
وينادونه وقد صم عنهم ** ثم قالوا وللنساء نحيب ) ( ما الذي عاق أن ترد جواباً **
أيها المقول الخطيب الأريب ) ( إن تكن لا تطيق رجع جواب ** فبما قد ترى وأنت خطيب
) ( ذو عظات وما وعظت بشيء ** مثل وعظ السكوت إذ لا تجيب ) واختصره أبو العتاهية
في بيت فقال : ( وكانت في حياتك لي عظات ** فأنت اليوم خير منك أمس ) انتهى .
ورأيت في أمالي القالي : أنشدنا أبو عبد الله نفطويه أنشدنا ثعلب لمطيع بن إياس (
وينادونه وقد صم عنهم ** ثم قالوا وللنساء نحيب ) ( ما الذي غال أن تحير جواباً **
أيها المصقع الخطيب الأديب ) ( في مقال وما وعظت بشيء ** مثل وعظ بالصمت إذ لا
تجيب ) هذا ما أورده ولم يذكر البيت الشاهد .
وأورده أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي كصاحب تهذيب الطبع وقال : مطيع بن
إياس بن أبي قزعة سلم بن نوفل من بني الدول ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة .
وقيل : من بني ليث بن بكر بن عبد مناة . والدؤل وليث أخوان لأم وأب وأم أمهما أم
خارجة )
وهي التي يضرب بها المثل فيقال : أسرع من نكاح أم خارجة . ويكنى مطيع أبا سليم .
أدرك الدولتين . وكان شاعراً ظريفاً حلو العشرة مليح النادرة . وكان متهماً
بالزندقة .
وكان يحيى بن زياد الحارثي وحماد الراوية وحماد عجرد وابن المقفع ووالية ابن
____________________
الحباب
لا يفترقون ولا يستأثر أحدهم على صاحبه بمال ولا ملك شيء قل أو كثر . وكانوا
جميعاً مطعونين في دينهم . انتهى باختصار .
وأنشد بعده : لا تظلموا الناس كما لا تظلموا وتقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد
السابع والخمسين بعد الستمائة .
وقد نقل ابن الأنباري في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف اختلاف أهل البلدين في هذه
المسألة فلا بأس بإيراده هنا قال : ذهب الكوفيون إلى أن كما تأتي بمعنى كيما
وينصبون بها ما بعدها ولا يمنعون جواز الرفع . واستحسنه أبو العباس المبرد من
البصريين . وذهب البصريون إلى أن كما لا تأتي بمعنى كيما ولا يجوز نصب ما بعدها .
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الفعل ينصب بها أنه قد جاء ذلك
كثيراً في كلامهم قال صخر الغي : ( جاءت كبير كما أخفرها ** والقوم صيد كأنهم
رمدوا ) أراد : كيما أخفرها ولهذا انتصب أخفرها .
وقال الآخر :
____________________
(
وطرفك إما جئتنا فاصرفنه ** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ) أراد : كيما يحسبوا .
وقال رؤبة : لا تظلموا الناس كما لا تظلموا راد : كيما لا تظلموا . وقال عدي بن
زيد العبادي : وقال آخر : ( يقلب عينيه كما لأخافه ** تشاوس رويداً إنني من تأمل )
أراد : كيما أخافه إلا انه أدخل اللام توكيداً ولهذا المعنى كان الفعل منصوباً .
فهذه الأبيات كلها تدل على صحة ما ذهبنا إليه . وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا :
)
إنما قلنا : إنه لا يجوز النصب بها لأن الكاف في كما كاف التشبيه أدخلت عليها ما
وجعلا بمنزلة حرف واحد كما أدخلت ما على رب وجعلا بمنزلة حرف واحد ويليها الفعل
كربما .
وكما أنهم لا ينصبون الفعل بعد ربما فكذلك هاهنا .
____________________
وأما
الجواب عن كلمات الكوفيين : أما البيت الأول فلا حجة لهم فيه لأنه روي : كما
أخفرها بالفرع لأن المعنى جاءت كما أجيئها .
وكذلك رواه الفراء من أصحابكم واختار الرفع في هذا البيت . وهذه الرواية الصحيحة .
وأما البيت الثاني فلا حجة فيه أيضاً لأن الرواية : لكي يحسبوا .
وأما البيت الثالث فلا حجة لهم فيه أيضاً لأن الرواية فيه بالتوحيد : لا تظلم
الناس كما لا تظلم كالرواية الأخرى : وأما البيت الرابع فليس فيه أيضاً حجة لأن
الرواة اتفقوا على أن الرواية كما يوماً تحدثه بالرفع كقول أبي النجم : ( قلت
لشيبان ادن من لقائه ** كما تغدي القوم من شوائه ) ولم يروه أحد كما يوماً تحدثه
بالنصب إلا المفضل الضبي وحده فإنه كان يرويه منصوباً وإجماع الرواة من نحويي
البصرة والكوفة على خلافه والمخالف له أقوم منه بعلم العربية . وأما البيت الخامس
ففيه تكلف قبيح والأظهر فيه : يقلب عينيه لكيما أخافه على أنه لو صح ما رووه من
هذه الأبيات على مقتضى مذهبهم فلا يخرج ذلك عن حد الشذوذ والقلة فلا يكون فيه حجة
. والله أعلم .
____________________
هذا
ما أورده الأنباري .
وأنشده بعده ( الشاهد الأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( صددت
وأطولت الصدود وقلما ** وصال على طول الصدود يدوم ) على أن ما في قلما عند بعضهم
زائدة ووصال : فاعل قلما . وهي عند سيبويه كافة ووصال : مبتدأ . أورده سيبويه في
بابين من كتابه الأول في باب ما يحتمل الشعر قال : إنما الكلام : وقلما يدوم وصال
. والثاني في باب الحروف التي لا يليها بعدها إلا الفعل ولا تغير الفعل عن حاله .
قال : ومن تلك الحروف ربما وقلما وأشبههما جعلوا رب مع ما بمنزلة كلمة واحدة
وهيؤوها ليذكر بعدها الفعل لأنهم لم يكن لهم سبيل إلى رب يقول ولا إلى قل يقول
فألحقوهما وأخلصوهما للفعل .
____________________
ومثل
ذلك : هلا ولولا وألا ألزموهن لا وجعلوا كل واحدة مع لا بمنزلة حرف واحد وأخلصوهن
للفعل حيث دخل فيهن معنى التحضيض . وقد يجوز في الشعر تقديم الاسم قال : صددت
وأطولت الصدود . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال النحاس : أخبرنا علي بن سليمان عن محمد بن يزيد المبرد أنه خالف سيبويه في هذا
وجعل ما زائدة وقدره : وقل وصال يدوم على طول الصدود . قال : والصواب عندي ما ذهب
إليه سيبويه لأنه إنما أراد تقليل الدوام وقلما نقيضه كثر ما . وجعل سيبويه ما
كافة . انتهى .
وقول الشارح المحقق : ووصال مبتدأ ظاهره أنه عند سيبويه مبتدأ . وليس كذلك وقصد به
أحدها : ما قدمه من أن بعضهم ذهب إلى أن ما في الأفعال الثلاثة مصدرية والمصدر
فاعل الفعل .
قال ابن خلف : لا يجوز أن تكون ما مصدرية لأنها معرفة وقل تطلب النكرة تقول : قل
رجل يفعل ذلك فلذلك حكمت على من في قولهم : قل من يفعل ذلك أنها نكرة موصوفة .
وأيضاً لو كانت مصدرية لجاز أن تدخل على الماضي والمستقبل وهي هاهنا لا تدخل إلا
على المستقبل . انتهى .
ثانيها : قول المبرد وهو أن ما : زائدة ووصال : فاعل قل . قال الأعلم : وهو ضعيف
لأن ما إنما تزاد في قل ورب لتليهما الأفعال ويصيرا من الحروف المخترعة لها . )
ثالثها ورابعها : ما ذهب إليه الأعلم قال : أراد : وقلما يدوم وصال فقدم
____________________
وأخر
مضطراً لإقامة الوزن والوصال على هذا التقدير فاعل مقدم والفاعل لا يتقدم في
الكلام إلا أن يبتدأ به وهو من وضع الشيء غير موضعه .
ونظيره قول الزباء : ما للجمال مشيها وئيدا أي : وئيداً مشيها فقدمت وأخرت ضرورة .
وفيه تقدير آخر وهو أن يرتفع بفعل مضمر يدل عليه الظاهر فكأنه قال : وقلما يدوم
وصال يدوم . وهذا أسهل في الضرورة والأول أصح معنى وإن كان أبعد في اللفظ . انتهى
.
وإلى الأول منهما ذهب ابن عصفور في الضرائر قال : يريد : وقلما يدوم وصال على طول
الصدود . ففصل بين قلما والفعل بالاسم المرفوع وبالمجرور .
خامسها : ما ذهب إليه ابن السراج قال في فصل الضرائر من الأصول : ليس يجوز أن ترفع
وصالاً يدوم ولكن يجوز عندي على إضمار يكون كأنه قال : قلما يكون وصال يدوم على
طول الصدود .
ولا يخفى أن هذا ليس من مواضع حذف كان . وقال أبو علي : فاعل ليثبت أو يبقى ونحوه
مما يفسره يدوم .
وقد رد أبو علي وابن يعيش ما اختاره الشارح قال في البغداديات : ولا يصلح ارتفاع
وصال بالابتداء لأنه موضع فعل كما لا يصلح أن يرتفع الاسم عند سيبويه يعد هلا التي
للتحضيض وإن التي للجزاء وإذا الدالة على الزمان بالابتداء
____________________
ولكن
يكون العامل في الاسم الواقع بعد هذه الحروف فعلاً يفسروه ما يظهر بعدها من
الأفعال .
وقد لخص ابن هشام في المغني هذه الأقوال فقال : وأما قوله : فقال سيبويه : ضرورة .
فقيل وجه الضرورة أن حقها أن يليها الفعل صريحاً والشاعر أولاها فعلاً مقدراً فإن
وصال مرتفع بيدوم محذوفاً مفسراً بالمذكور . وقيل : وجهها أنه قدم الفاعل .
ورده ابن السيد بأن البصريين لا يجيزون تقديم الفاعل في شعر ولا نثر . وقيل :
وجهها أنه أناب الجملة الاسمية عن الفعلية كقوله : فهلا نفس ليلى شفيعها )
وزعم المبرد أن ما زائدة ووصال فاعل ى مبتدأ . وزعم بعضهم أن ما مع هذه الأفعال
مصدرية لا كافة . انتهى .
وأورد على ابن السيد بأن نص سيبويه ظاهر بأن وجه الضرورة تقديم الاسم على رافعه .
وإليه ذهب ابن عصفور .
وليس هذا معنى كلام سيبويه فإن معناه لما اضطر الشاعر قدم الاسم بعد قلما
____________________
وأضمر
الفعل لأن قلما من أدوات الفعل فإنها بمنزلة حرف النفي . كذا قرره خلف وغيره .
وقول ابن هشام : ووصال فاعل لا مبتدأ غير جيد فإن المبرد مراده أن وصالاً فاعل قل
لا أنه فاعل يدوم ولا غيره من الأوجه المذكورة .
واختار أبو علي على مذهبه وأيده فقال : ولو قال قائل إن ما في البيت صلة ووصال :
فاعل قل ومرتفع به ويدوم : صفة لوصال فلا يكون التأويل على ما ذكره سيبويه لأن
الفعل يبقى بلا فاعل ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل .
وأيضاً فإن الفعل على تأويله يصير داخلاً على فعل وهذا أيضاً غير موجود لكان عندي
أثبت .
ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه عليه تجده دالاً على ما كان يدل عليه قبل دخول
هذا الحرف من الحدث والزمان فحكمه أن يقتضي الفاعل ولا يخلو منه كما لا يخل منه
قبل .
ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل من انتصابه
بالظرف وتعلقه بالفعل . فقوله : ( أعلاقة أم الوليد بعدما ** أفنان رأسك كالثغام
المخلس ) بعد منتصب بما نصب به المصدر الذي هو علاقة فكذلك ينبغي أن يكون الفعل
على ما كان عليه قبل دخول هذا الحرف من اقتضائه للفاعل وإسناده إليه . هذا كلامه .
وقوله : ولم نر في سائر كلامهم الفعل بلا فاعل يرد عليه زيادة كان في نحو : ما كان
أحسن زيداً .
____________________
وفيه
أيضاً دخول فعل على فعل . فقوله : غير موجود ممنوع .
وقوله : ويقوي هذا أن الفعل مع دخول ما هذه تجده دالاً إلى آخره يرد عليه أن الحرف
المكفوف وقوله : ألا ترى أن الاسم في حال دخول هذا الحرف إياه على ما كان عليه قبل
انتصابه بالظرف وتعلقه بالفعل . . . إلخ هذا يشهد عليه لا له فإن الكلام في طلب
المعمول لا في طلب العامل )
والمعمول لبعد بالإضافة مفقود لوجود المانع وهو الكف . وهذا هو المدعى . فلا يرد
على سيبويه شيء مما ذكره . والله أعلم .
وروى أبو محمد الأعرابي : ( صددت فأطولت الصدود ولا أرى ** وصالاً على طول الصدود
يدوم ) وعليه لا شاهد فيه . والبيت من أبيات للمرار الفقعسي أوردها أبو محمد
الأعرابي في ضالة الأديب وفي فرحة الأديب وهي : ( صرمت ولم تصرم وأنت صروم ** وكيف
تصابى من يقال حليم ) ( صددت فأطولت الصدود وقلما ** وصال على طول الصدود يدوم ) (
وليس الغواني للجفاء ولا الذي ** له عن تقاضي دينهن هموم ) ( ولنما يستنجز الوعد
تابع ** هواهن حلاف لهن أثيم ) الصرم : القطع صرمه صرماً من باب ضرب والاسم الصرم
بالضم . وكيف استفهام إنكاري .
وتصابي : مصدر تصابى : تكلف الصبوة وهو الميل إلى الجهل والفتوة . يقال :
____________________
صبا
يصبو والصدود كالإعراض . وأطولت كان القياس فيه أطلت لكنه جاء مصححا على الأصل
كاستحوذ .
والغواني : جمع غانية الجارية التي غنيت بزوجها وقد تكون التي غنيت بحسنها وجمالها
عن الزينة . والجفاء : خلاف البر وجفوته أجفوه إذا أعرضت عنه . والتقاضي والاقتضاء
: طلب الدين بفتح الدال . وهموم : جمع هم مبتدأ وله خبر مقدم . ويستنجز : يطلب
النجاز وهو الوفاء . ويروى : مناهن بدل هواهن .
قال أبو محمد : يقول : صرمت ولم تصرم صرم بتات ولك صرم دلال . يخاطب نفسه ويلومها
على طول الصدود أي : لا يدوم وصال الغواني إلا لمن يلازمهن ويخضع لهن . وفسر ذلك
بالبيتين بعدهما . انتهى . ولما كان العاشق لا يحصل منه صرم وإنما الصرم يكون من
المعشوق أجاب بأنه صرم دلالاً . وأجاب غيره بأنه صرم تجلد لا إعراض .
وظن ابن هشام أن الخطاب مع الحبيبة لا مع النفس فقال في بعض تعاليقه : إن الصواب
في البيت أن يقال : وقلما وداد عوض وصال وإن كان سيبويه وغيره أورده كذلك .
ونقله الدماميني عنه في الحاشية الهندية وقال : يعني أن تسليط النفي على دوام
الوصال يقتضي )
ودود أصله وليس كذلك فإنه لا وصال أصلاً مع الصدود طال أو لم يطل . انتهى .
ولا يخفى أنه إذا كان خطاباً مع النفس فلا يرد هذا إذ من الجائز أن يبقى الوصال من
المحبوبة مع صدود المحب .
ولما لم يقف الدماميني على الأبيات ظنه وارداً فأجاب عنه بقوله : قد يقال عبر
بالوصال عن إرادته وتوقعه أو على حذف مضاف للقرينة فإن المحب قد ييأس
____________________
من
الوصل بطول الصدود واستمرار الإعراض فينقطع رجاؤه منه وتوقعه له فيكون ذلك سبباً
لسلوه وعدم إرادته للوصال . وكثيراً ما يقع ذلك لبعض الناس . انتهى .
وأجاب غيره أيضاً بأنه إن أراد لا وصال مع الصدود في زمنه فمسلم لكن من أين أن ذلك
مراد الشاعر .
وإن أريد أنه لا وصال منه مطلقاً فممنوع لجواز تقدم الوصال على الصدود أو تأخره
عنه .
هذا كلامه . ولو وقفوا على الأبيات لما فتحوا باب الإيراد والجواب .
وترجمة المرار الفقعسي تقدمت في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : يجرح في عراقيبها نصلي هو قطعة من بيت وهو : فاعل تعتذر ضمير الإبل .
والمحل : انقطاع المطر ويبس الأرض . والمراد بذي ضروعها : اللبن .
والنصل : حديدة السيف . ومعنى اعتذارها للضيف أن لا يرى في ضروعها لبن .
____________________
يريد
إن عدم لبنها عرقبتها بالسيف وأطعمت لحمها للضيوف بدل لبنها . وتقدم شرحه في
الشاهد الثالث بعد المائة .
____________________
( الحروف
المشبهة بالفعل ) أنشد فيها ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من
شواهد س : يا ليت أيام الصبا رواجعا على أن الفراء استشهد به على نصب المبتدأ
والخبر ب ليت .
وقدر الكسائي رواجع خبراً لكان المحذوفة لأن كان تستعمل كثيراً هنا قال تعالى : يا
ليتها كانت القاضية وقال تعالى : يا ليتني كنت معهم وقال الشاعر : يا ليتها كانت
لأهلي إبلاً وقد بين الشارح المحقق ضعفه . ومثله في مغني اللبيب واعترض عليه بأن
____________________
تقدم
إن ولو الشرطيتين شرط لكثرة حذف كان مع اسمها وبقاء خبرها . ولا محذور في كون
البيت من القليل . والبصريون يقدرون خبر ليت محذوفاً ورواجع : حال من ضميره
والتقدير : يا ليت لنا أيام الصبا رواجع ويا ليتها أقبلت رواجع .
قال سيبيويه في باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة يعني إن وأخواتها
نحو : إن مالاً وإن ولداً .
إلى أن قال : ومثل ذلك قول الشاعر : يا ليت أيام الصبا رواجعا فهذا كقولك : ألا
ماء بارداً كأنه قال : ألا ماء لنا بارداً . وكأنه قال : يا ليت لنا أيام الصبا
رواجع أي : يا ليت أيام الصبا أقبلت رواجع . انتهى .
وقال أبو حيان في الارتشاف : المشهور رفع أخبار هذه الحروف . وذهب ابن سلام في
طبقات الشعراء وجماعة من المتأخرين إلى جوار نصبه والكسائي إلى جوازه في ليت .
وكذا في نقل عن الفراء وعنه أيضاً في ليت وكأن ولعل . وزعم ابن سلام أنها لغة رؤبة
وقومه وحكي عن تميم أنهم ينصبون بلعل وسمع ذلك في خبر غن وكأن ولعل وكثر في خبر
ليت قال ابن المعتز : ( مرت بنا سحراً طير فقلت لها ** طوباك يا ليتني إياك طوباك
) )
ولم يحفظ في خبر أن ولا في خبر لكن . انتهى .
____________________
قال
ابن هشام : ويصح بيت ابن المعتز على إنابة ضمير النصب عن ضمير الرفع . انتهى .
وزعم أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات أن نصب الجزأين بليت لغة بني تميم . قال
عند ذكر أسماء القوس وأورد مثلاً من أمثالهم ما هذا نصه : وزعم أبو زياد أن يد
القوس السية اليمنى . قال : واليمنى ما يكون عن يمينك حين تقبض عليها وترمي ورجلها
عن يسارك حين ترمي . وقال : رجل القوس أتم من يدها . قال : ومن أمثال العرب : ليت
القياس كلها أرجلاً .
كذا قالها نصباً وهي لغة لبني تميم . وقال ابن الأعرابي : أرجل القسي إذا أوترت :
أعاليها وأيديها : أسافلها وأرجلها أشد من أيديها .
وأنشد : ليت القسي كلها من أرجل والقول ما قال أبو زياد . انتهى .
وظهر من كلام ابن الأعرابي أن المثل المذكور بيت وأن خبر ليت فيه الجار والمجرور
لا كما والبيت الشاهد من الأبيات الخمسين التي ما عرف قائلوها . والله أعلم .
وبيت ابن المعتز من أبيات قالها حين ما سلم لمؤنس للقتل وهي :
____________________
(
يا نفس صبراً لعل الخير عقباك ** خانتك من بعد طول الأمن دنياك ) ( مرت بنا سحراً
طير فقلت لها ** طوباك يا ليتني إياك طوباك ) ( إن كان قصدك شوقاً بالسلام على **
شاطي الفرات ابلغي إن كان مثواك ) ( من موثق بالمنايا لا فكاك له ** يبكي الدماء
على إلف له باكي ) إلى أن قال : ( أظنه آخر الأيام من عمري ** وأوشك اليوم أن يبكي
له الباكي ) وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الثمانمائة ) ( كأن أذنيه
إذا تشوفا ** قادمةً أو قلما محرفا ) على أن أصحاب الفراء جوزوا نصب الجزأين
بالخمسة الباقية أيضاً ومنها كأن وقد نصب الشاعر بها الجزأين : الأول أذنيه
والثاني قادمة .
____________________
فإن
قلت : كيف أخبر عن الاثنين بالواحد قلت : إن العضوين المشتركين في فعل واحد مع
اتفاقهما في التسمية يجوز إفراد خبرهما لأن حكمهما واحد .
وقد ذكرناه مفصلاً في باب المثنى . وقد أجيب عن نصب الخبر بأجوبة : أحدها : ما
قاله الشارح المحقق أنه لحن وقد خطئ قائله وقت إنشاده وأصلح له بما ذكر .
قال المبرد في الكامل : حدثت أن العماني الراجز أنشد الرشيد في صفة فرس : ( كأن
أذنيه إذا تشوفا ** قادمةً أو قلما محرفا ) فعلم القوم كلهم أنه قد لحن ولم يهتد
أحد منهم لإصلاح البيت إلا الرشيد فإنه قال له : قل : تخال أذنيه إذا تشوفا
والراجز وإن كان قد لحن فقد أحسن التشبيه . انتهى .
وكذا نقل ابن عبد ربه في العقد الفريد وكذا روى الصولي في كتاب الأوراق عن الطيب
بن محمد الباهلي عن موسى بن سعيد بن مسلم أنه قال :
____________________
كان
أبي يقول : كان فهم الرشيد فهم العلماء أنشده العماني في صفة فرس : كأن أذنيه
البيت فقال له : دع كأن وقل : تخال أذنيه حتى يستوي الشعر .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل أخطأ قائله وقد أنشده بحضرة الرشيد فلحنه أبو عمرو
والأصمعي . وهذا وهم فإن أبا عمرو توفي قبل الرشيد . وتعقبه شراحه بأن هذا لا يصلح
تعليلاً للوهم فإن سبق وفاة أبي عمرو الرشيد لا ينافي حضور مجلسه ولو غير خليفة
إلا أن يراد وهو خليفة لأن أبا عمرو توفي سنة أربع وخمسين ومائة والرشيد إنما ولي
الخلافة سنة سبعين ومائة .
واعترض ابن السيد البطليوسي في حاشية الكامل على المبرد بأن هذا لا يعد لحناً لأنه
قد حكي أن من العرب من ينصب خبر كأن ويشبهها بظننت . وعلى هذا أنشد قول ذي الرمة :
) ( كأن جلودهن مموهات ** على أبشارها ذهباً زلالا ) وعليه قول النابغة الذبياني :
( كأن التاج معصوباً عليه ** لأذواد أصبن بذي أبان ) في أحد التأويلين . انتهى .
ويمنع الأول بجعل مموهات حالاً من جلودهن لأنه مفعول في المعنى والخبر هو قوله :
على أبشارها . والرواية مموهات على الخبرية . يصف النساء . والمموهات : المطليات .
والأبشار : جمع بشرة وهي ظاهر الجلد . وذهباً : المفعول الثاني
____________________
لمموهات
. يقال : موهه ذهباً .
ويمنع الثاني أيضاً بجعل عليه هو الخبر ومعصوباً حالاً من التاج . وذو أبان : موضع
. يريد أنه أغار على قوم فأخذ منهم أذواد إبل فيظن نفسه ملكاً . يهزأ به .
والجواب الثاني أن خبر كأن محذوف وقادمة مفعوله والتقدير : يحكيان قادمة .
والثالث : أن الرواية : قادمتا أو قلما محرفا بألفات من غير تنوين على أن الأصل
قادمتان وقلمان محرفان فحذفت النون لضرورة الشعر .
وعليه اقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : هكذا أنشده الكوفيون ونظروا به قول
أبي حناء : قد سالم الحيات منه القدما بنصب الحيات وحذف النون من القدمان .
والرابع : أن الرواية : تخال أذنيه لا : كأن أذنيه .
حكى هذه الأجوبة ابن هشام في المغني . والعامل في إذا ما في كأن من معنى التشبيه .
وتشوف : تطلع . والمراد
____________________
نصب
الأذن للاستماع . ويجوز أن تكون ضمير الأذنين وأن تكون للإطلاق .
والقادمة : إحدى قوادم الطير وهي مقاديم ريشه في كل جناح عشرة . والقلم : آلة
الكتابة .
والمحرف : المقطوط لا على جهة الاستواء بل يكون الشق الوحشي أطول من الشق الإنسي .
وهذا المعنى أصله لعدي بن زيد العبادي وهو : ( يخرجن من مستطير النقع داميةً **
كأن آذانها أطراف أقلام ) والعماني من مخضرمي الدولتين عاش مائة وثلاثين سنة . قال
ابن قتيبة في كتاب الشعراء : )
العماني الفقيمي : هو محمد بن ذؤيب ولم يكن من أهل عمان ولكن نظر إليه دكين الراجز
فقال : من هذا العماني . وذلك أنه كان مصفراً مطحولاً وكذلك أهل عمان . وقال
الشاعر : ( ومن يسكن البحرين يعظم طحاله ** ويغبط بما في بطنه وهو جائع ) ودخل على
الرشيد لينشده وعليه قلنسوة وخف ساذج فقال : إياك وأن تدخل إلي إلا وعليك خفان
دمالقان وعمامة عظيمة الكور .
____________________
فدخل
عليه وقد تزيا بزي الأعراب فأنشده وقبل يده وقال : يا أمير المؤمنين قد والله
أنشدت مروان ورأيت وجهه وقبلت يده وأخذت جائزته . ثم يزيد بن الوليد وإبراهيم بن
الوليد ثم السفاح ثم المنصور ثم المهدي كل هؤلاء رأيت وجههم وقبلت أيديهم وأخذت
جوائزهم لا والله ما رأيت فيهم يا أمير المؤمنين أندى كفاً ولا أبهى منظراً ولا
أحسن وجهاً منك . فأجزل له الرشيد الجائزة وأضعفها له على كلامه وأقبل عليه فبسطه
حتى تمنى جميع من حضر أنه قام ذلك المقام . انتهى .
وزعم ابن الملا في شرح المغني أن العماني كنيته أبو نخيلة . وهو خلاف الواقع بل
هما راجزان .
وعمان بضم العين وتخفيف الميم : بلد على شاطئ البحرين بين البصرة وعدن وإليه يضاف
الأزد فيقال : أزد عمان . كذا بخط مغلطاي على هامش معجم ما استعجم للبكري .
وقال البكري : عمان : مدينة معروفة إليها ينسب العماني الراجز سميت بعمان بن سنان
بن إبراهيم عليه السلام كان أول من اختطها ذكر ذلك الشرقي بن القطامي . وأما عمان
بفتح العين وتشديد الميم فهي قرية من عمل دمشق سميت بعمان بن لوط عليه السلام .
انتهى . ( تتمة ) قول الشارح المحقق : ويجوز عند بعض أصحاب الفراء نصب الجزأين
بالخمسة الباقية أيضاً تقدم عن أبي حيان أنه لم يرد نصب خبر أن المفتوحة الهمزة
وخبر
____________________
لكن
فالوارد عندهم إنما هو في أربعة منها : في ليت وفي كأن وتقدما .
الثالث : إن المكسورة .
وأنشدوا : وخرج على حذف الخبر ونصب أسداً على الحالية أي : تلقاهم أسداً .
وأما الحديث فقد أورده ابن هشام في المغني كذا : إن قعر جهنم سبعين خريفاً بلا لام
وقال : )
خرج الحديث على أن القعر مصدر قعرت البئر إذا بلغت قعرها . وسبعين : ظرف أي : إن
بلوغ قعرها يكون في سبعين عاماً . وهذا التخريج والرواية غير ما ذكره الشارح .
والرابع : لعل . قال ابن هشام في المغني : قال بعض أصحاب الفراء : وقد تنصبهما .
وزعم يونس أن ذلك لغة لبعض العرب وحكى لعل أباك منطلقاً وتأويله عندنا على إضمار
يوجد وعند الكسائي على إضمار يكون . انتهى .
وذاك الحديث هو كلام أبي هريرة لا من كلام النبي صلى الله عليه وسلم والمروي :
لسبعين باللام .
والحديث رواه مسلم في أحاديث الشفاعة في أواخر كتاب الإيمان من أول صحيحه عن أبي
هريرة وحذيفة قالا : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يجمع الله تبارك وتعالى
الناس فيقوم المؤمنون حتى تزلف لهم الجنة فيأتون آدم فيقولون : يا أبانا استفتح
لنا الجنة . فيقول : وهل أخرجكم من الجنة إلا خطيئة أبيكم آدم .
____________________
وذكر
الحديث بطوله وآخره : والذي نفس أبي هريرة بيده إن قعر جهنم لسبعون خريفاً .
قال النووي : وقع في بعض الأصول لسبعون بالواو وهو ظاهر وفيه حذف تقديره : إن
مسافة قعر جهنم سير سبعين سنة . ووقع في معظم الأصول والروايات : لسبعين بالياء
وهو صحيح أيضاً إما على مذهب من يحذف المضاف ويبقي المضاف إليه على جره فيكون
التقدير : سير سبعين .
وإما على أن قعر جهنم مصدر يقال : قعرت الشيء إذا بلغت قعره ويكون سبعين ظرف زمان
وفيه خبر غن والتقدير : إن بلوغ قعر جهنم لكائن في سبعين خريفاً . انتهى .
وقال القرطبي : الأجود رفع لسبعون على الخبر وبعضهم يرويه : لسبعين يتأول فيه
الظرف . وفيه بعد . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الثمانمانة ) ( يا ليت أني وسبيعاً في
غنم ** والخرج منها فوق كراز أجم ) على أن أن مع اسمها وخبرها مغنية عن المعمولين
وهذا مما انفردت به ليت .
قال أبو حيان في الارتشاف : ولا يجوز دخول لعل على أن فتقول :
____________________
لعل
أن زيداً قائم ولا كأن فتقول : كأن أنك ذاهب ولا لكن فتقول : لكن أنك منطلق خلافاً
للأخفش في هذه الثلاثة . ولا دخول إن على أن فتقول : إن أن زيداً منطلق حق وإن أنك
قائم يعجبني . خلافاً للفراء وهشام .
ومذهب سيبويه أنه لايجوز شيء من هذا إلا بفصل أخبار بينها وبين أن إلا ما جاء في
ليت .
فتقول : إن عندي أنك فاضل وكأن في نفسك أنك عالم وكذا ما قبلها . انتهى .
وقال ابن الخباز في النهاية : يجوز إدخال إن وأن على أن المصدرية من غير فعل نحو :
إن أن تزورنا خير لك وعلمت أن أن تطيع الله خير لك . انتهى .
واعلم أنه قد تزاد الباء في أن بعد ليت نحو قوله : فليت بأنه في جوف عكم كما نبه
عليه الشارح المحقق في خبر ما ولا وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والسبعين
بعد المائتين .
والبيت أنشده ابن السكيت في إصلاح المنطق قال فيه : يقال : جعل متاعه في خرجه
وكرزه والكرز والخرج سواء . ويقال للكبش الذي يحمل خرج الراعي : كراز . قال الراجز
:
____________________
يا
ليت أني وسبيعاً إلخ وقال أبو عبيدة : الكرز : الجوالق الصغير وإنما سمي الكبش
كرازاً لأنه يحمل خرج الراعي بزاده وبأداة كنفه وحجارته وزناده .
وقوله : إن الخرج والكرز واحد هو الصحيح لأن الكبش لا يحمل الجوالق إنما يحمل
الخرج .
وقوله : يا ليت أني البيت يقول : يا ليتني وهذا الرجل في غنم نسوقها وقد علقت على
كبش منها خرجاً فيه زادي .
انتهى . وقال شارح أبياته يوسف بن السيرافي : الأجم بالجيم : الذي لا قرن له .
وإنما تمنى أن )
يكون الخرج على كبش أجم لأنه لا ينطح ولا يؤذي . وسبيع : اسم رجل . يجوز أن يكون
ابنه أو صاحبه . انتهى .
وأورده الجوهري في موضعين من الصحاح أولهما في كرز قال فيه : ابن السكيت : الكرز :
الخرج . قال : والجمع الكرزة مثل جحر وجحرة .
والكراز : الكبش الذي يحمل كرز الراعي ولا يكون إلا أجم لأن الأقرن يشتغل بالنطاح
.
وأنشد : يا ليت أني وسبيعاً إلخ ولم يكتب ابن بري في حاشيته عليه هنا شيئاً .
وكذلك الصفدي . وحذا حذوه الصاغاني في العباب ولم أر منهم من ذكر قائله .
____________________
وقوله
: والخرج : مبتدأ وفوق : ظرف خبره ومنه حال من الضمير المستتر في أجم .
وأنشد بعده : جاؤوا بمذق هل رأيت الذئب قط على أن جملة هل رأيت . . . إلخ في موضع
الصفة لمذق بتأويل وهو أن تكون محكية بقول محذوف هو الوصف والتقدير : جاؤوا بمذق
مقول فيه : هل رأيت إلخ .
وتقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الثمانمائة )
____________________
(
ولو أرادت لقالت وهي صادقة ** إن الرياضة لا تنصبك للشيب ) على أن الجملة الطلبية
يجوز أن تقع خبراً ل إن كما هنا فإن جملة النهي وهي جملة : لا تنصبك خبر إن . وكذا
قال أبو علي في كتاب الشعر وأنشد هذا البيت : وفي الارتشاف : وفي دخول إن على ما خبره
نهي خلاف صحح ابن عصفور جوازه في شرحه الصغير للجمل وتأول ذلك في شرحه الكبير في
قوله : إن الرياضة لا تنصبك للشيب وعلى المنع نصوص شيوخنا .
وقال في شرحه الصغير لكتاب الجمل : أما الجملة غير المحتملة للصدق والكذب ففي
وقوعها خبراً لهذه الحروف خلاف والصحيح أنها تقع في موضع خبرها . انتهى .
فأطلق . ولا يصح أن يكون في ليت ولعل ولا كأن . وإن ألحق لكن بإن فيمكن . انتهى .
وكان عليه أن يضم إلى هذه الثلاثة أن المفتوحة الهمزة كما بينه الشارح المحقق .
فظهر أن وقوع الطلبية في إن المكسورة فيه خلاف : منهم من أجاز ومنهم من منع .
____________________
ولم
يصب ابن هشام في النقل عن النحويين أنهم منعوا وقوع الطلبية خبراً لها وأضمر القول
في قوله : ( إن الذين قتلتم أمس سيدهم ** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ) وقول
الآخر : ( إني إذا ما القوم كانوا أنجيه ** واضطرب القوم اضطراب الأرشيه ) والبيت
من قصيدة عدتها اثنا عشر بيتاً للجميح الأسدي ذكر فيها نشوز امرأته لقلة ماله
أوردها المفضل الضبي في المفضليات وأولها : ( أمست أمامة صمتاً ما تكلمنا **
مجنونة أم أحست أهل خروب ) ( مرت براكب ملهوز فقال لها ** ضري الجميح ومسيه بتعذيب
) ( ولو أصابت لقالت وهي صادقة ** إن الرياضة لا تنصبك للشيب )
____________________
أمامة
: زوج الجميح . وصمتاً : مصدر وقع حالاً . وأهل خروب بفتح الخاء المعجمة وتشديد
الراء : قومها . )
قال ابن الأنباري في شرحه : يقول : ما لها أمست صامتة أي : ساكنة لا تكلمنا
أخالطها جنون أم لقيت أهل خروب وهم قومها فأفسدوها فغضبت .
وقوله : مرت براكب . . . إلخ يقول : مرت براكب جمل ملهوز فأفسدها على زوجها .
والملهوز : الموسوم في أصل لحييه أي : أمرها بمضارة زوجها ليطلقها فيتزوجها .
قال ابن الأنباري : ملهوز : موسوم بغير ميسمه . يقول : مرت برجل من أعدائه ومن
ميسمه غير ميسمي فأمرها بمضارتي .
ويقال : مرت برجل من قومها فأفسدها عليه ليتزوجها . وضري بضم الضاد : أمر بالضر .
ومسيه بفتح الميم أي : أوصلي إليه العذاب . في المصباح : مسسته من باب تعب وفي لغة
مسسته مساً من باب قتل : أفضيت إليه من غير حائل . هكذا قيدوه .
وقوله : ولو أرادت لقالت رواية ابن الأنباري : ولو أصابت لقالت . والرياضة : تهذيب
الأخلاق النفسية .
وتنصبك : مضارع أنصبه إنصاباً أي : أتعبه متعدي نصب نصباً من باب فرح إذا تعب
وأعيا . وللشيب متعلق برياضة وهو جمع أشيب .
____________________
في
المصباح : شاب يشيب شيباً وشيبة والرجل أشيب على غير قياس والجمع شيب . ولا يقال :
امرأة شيباء وإن قيل : شاب رأسها .
والمشيب : الدخول في حد الشيب . وقد يستعمل المشيب بمعنى الشيب وهو ابيضاض الشعر
المسود .
قال ابن الأنباري : يقول : أنا شيخ مجرب لا أحفل بمضارتها لعلمي بإرادتها . وقال
الأصمعي : قوله : لا تنصبك للشيب نهاه عن رياضة المسان .
يقول : ولو أصابت الصواب ووفقت له لقالت للرجل الذي أمرها بمضارتي : لا جعلك الله
ممن ينصب برياضة المسان فإن رياضتك إياهم عناء عليك وتعب لا يجدي عليك شيئاً لأنهم
قد يئسوا عن ذلك وجربوا فلا يسمعون ما يؤمرون به لما معهم من التجربة . وهذا دعاء
في صورة النهي .
قال بعض المحدثين : ( كبر الكبير عن الأدب ** أدب الكبير من التعب ) )
والجميح بضم الجيم وفتح الميم مصغر قال ابن الأنباري : هو لقب واسمه منقذ بن
الطماح بن قيس بن طريف بن عمرو بن قعين بن طريف بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن
أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان .
قال أحمد : والطماح بن منقذ هو صاحب امرئ القيس الذي دخل معه بلاد الروم ووشى به
إلى قيصر فصار سبباً لهلاكه .
وإياه عنى امرؤ القيس بقوله : ( لقد طمح الطماح من بعد أرضه ** ليلبسني من دائه ما
تلبسا ) انتهى .
____________________
وقال
أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : الجميح لقبه واسمه منقذ بن الطماح بن قيس
الأسدي . وهو فارس شاعر جاهلي قتل يوم جبلة . انتهى .
إن الذين قتلتم أمس سيدهم إلخ لم يعرفه شراح المغني .
وقد أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب من جملة أبيات . قال : خرج غلام من
بني سعد بن ثعلبة وغلام من بني مالك بن مالك في إبل لهما ومع السعدي سيف له فقال
المالكي : والله ما في سيفك هذا خير لو ضربت به عنقي ما قطعه .
قال : فمد عنقك . ففعل فضرب السعدي عنقه فقطعه . فخرجت بنو مالك بن مالك وأخذوا
السعدي فقتلوه فاحتربت بنو سعد بن ثعلبة وبنو مالك بن مالك فمشت السفراء بينهم
فقالت بنو يعد بن ثعلبة : لا نرضى حتى نعطى مائة من صاحبنا وتعطى بنو مالك سبعين .
فغضب لهم بنو سعد بن مالك فقال أبو مكعت أخو بني سعد بن مالك : ( إن الذين قتلتم
أمس سيدهم ** لا تحسبوا ليلهم عن ليلكم ناما ) ( من يولهم صالحاً نمسك بجانبه **
ومن يضمهم فإيانا إذن ضاما ) ( أدوا الذي نقضت سبعين من مائة ** أو ابعثوا حكماً
بالحق علاما ) أي : أدونا مائة كاملة فإذا وضعت سبعين من مائة بقيت ثلاثون فكأنه
قال : أدوا الدية التي التزمتم منها سبعين من مائة .
____________________
(
أبلغ بني مالك عني مغلغلةً ** أن السنان إذا ما أكره اعتاما ) )
وأبو مكعت هو الذي كان يحيض في الجاهلية . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( قالت
ألا ليتما هذا الحمام لنا ** إلى حمامتنا أو نصفه فقد ) على أن ليت إذا اتصل بها
ما جاز أن تعمل وأن تلغى .
وقد روي هذا البيت بالوجهين والإلغاء أكثر . قال سيبويه : وأما ليتما زيداً منطلق
فإن الإلغاء فيه حسن وقد كان رؤبة بن العجاج ينشد هذا البيت رفعاً وهو قول النابغة
الذبياني : ألا ليتما هذا الحمام البيت
____________________
فرفعه
على وجهين : على أن يكون بمنزلة قول من قال مثلاً ما بعوضة أو يكون بمنزلة قوله :
إنما زيد منطلق .
وأما لعلما فهو بمنزلة كأنما . قال الشاعر : وقال الخليل : إنما لا تعمل فيما
بعدها كما أن أرى إذا كانت لغواً لم تعمل فجعلوا هذا نظيرها من الفعل كما كان نظير
إن من الفعل ما يعمل . ونظير إنما قول الشاعر : ( أعلاقةً أم الوليد بعدما **
أفنان رأسك كالثغام المخلس ) جعل بعد مع ما بمنزلة حرف واحد وابتدأ ما بعده .
انتهى .
ونقل ابن الشجري هذا الكلام وقال : سيبويه وغيره من النحويين يرون إلغاء ما في ليتما
حسناً فيرجحون النصب في ليتما زيداً منطلق ويجيزون أن تكون كافة .
وتشبيهه لها بأرى يدل على أنها ربما أعملت لأن أرى ليست تلغى على كل حال وتشبيهه
إنما ببعدما مانع من إعمال إنما كما أن قوله : بعدما لا يصح إعماله .
وقوله : لعلما بمنزلة كأنما يغلب عليها أن تكون ما فيها كافة وإنما ولكنما في هذا
نظيرتان ليس فيهما في الأغلب الأكثر إلا الكف فهما في إلغاء ما دون لعلما وكأنما .
وإنما غلب على ليتما العمل لقوة شبه ليت بالفعل .
ألا ترى أن وددت بمعنى تمنيت وليت هي علم التمني فلذلك حسن نصب
____________________
الجواب
في قولك : وددت أنه زارني فأكرمه . انتهى . )
فظهر بما نقلنا إن إلغاء ليتما جائز حسن وإعمالها أحسن وأكثر خلاف ما زعمه الشارح
وذهب الفراء إلى أنه لا يجوز كف ما لليت ولا للعل بل يجب إعمالهما .
وقول الشارح المحقق لأنها تخرج بما عن اختصاصها بالجملة الاسمية يعني فتدخل على
الجملة الفعلية . وفيه خلاف .
قال صاحب الارتشاف : وأما مجيء الفعل بعد لعلما وليتما فهو مذهب البصريين أجازوا :
ليتما ذهبت ولعلما قمت .
وزعم الفراء أن ذلك لا يجوز فلا تجيء الجملة الفعلية بعدهما . ووافقه على ذلك في
ليتما خاصة أصحابنا المتأخرون وزعموا أن ليتما باقية على اختصاصها بالجملة الاسمية
. انتهى .
وجزم ابن هشام في المغني بالاختصاص تبعاً لابن الناظم وغيره قال : وتقترن بها ما
الحرفية فلا تزيلها عن الاختصاص بالأسماء لا يقال : ليتما قال زيد خلافاً لابن أبي
الربيع وطاهر القزويني .
ويجوز : ليتما زيداً ألقاه على الإعمال ويمتنع على إضمار فعل على شريطة التفسير .
انتهى .
وهذا هو الجيد إذ لم يسمع دخولها على الفعلية . وقول سيبويه فرفعه على وجهين : على
أن يكون بمنزلة من قال : مثلاً ما بعوضة . . . إلخ قال النحاس : يريد أن ما موصولة
وأنه يضمر مبتدأ أي : فيا ليت الذي هو هذا الحمام لنا . ويريد بالوجه الثاني أن ما
كافة . ويجوز النصب على أن تكون ما زائدة للتوكيد ويكون الحمام بدلاً من هذا .
وضعف ابن هشام في المغني موصولية ما في بحث ليت وفي بحث ما الكافة قال : هو مرجوح
لأن حذف العائد المرفوع بالابتداء في صلة غير أي مع عدم طول الصلة قليل . وزاد في
بحث ما : وسهل ذلك تضمنه إبقاء الإعمال . ورد عليه
____________________
بأن
الصلة هنا قد طالت بالصفة ومع احتمال الموصولية لا دليل على إهمالها ولولا أن
سيبويه ذكر الإهمال لمنع .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يخاطب بها النعمان بن المنذر ويعاتبه ويعتذر
إليه مما اتهم به عنده . وقد مضى شرح سببها وأكثرها في ماوضع عديدة فلنذكر هنا
منها ما يتم معنى البيت . وقبله : ( فاحكم كحكم فتاة الحي إذ نظرت ** إلى حمام
شراع وارد الثمد ) ( يحفه جانبا نيق وتتبعه ** مثل الزجاجة لم تكحل من الرمد ) (
قالت ألا ليتما هذا الحمام لنا ** إلى حمامتنا أو نصفه فقد ) ) ( فحسبوه فألفوه
كما ذكرت ** تسعاً وتسعين لم تنقص ولم تزد ) ( فكملت مائة فيها حمامتها ** وأسرعت
حسبةً في ذلك العدد ) قوله : فاحكم كحكم أي : كن حكيماً كهذه الفتاة أي : أصب في
أمري كإصابتها في حدسها بالنظر الصحيح .
وكذا في شرح ابن السيد قال : هو من الحكم الذي يراد به الحكمة لا من الحكم الذي
يراد به القضاء . قال تعالى : ولما بلغ أشده واستوى آتيناه حكماً
____________________
وعلماً
أي : حكمة يقال من ذلك : حكم الرجل يحكم من باب نصر إذا صار حكيماً .
قال النمر بن تولب : ( أحبب حبيبك حباً رويداً ** فليس يعولك أن تصرما ) ( وأبغض
بغيضك بغضاً رويداً ** إذا أنت حاولت أن تحكما ) انتهى .
وأراد بفتاة الحي : زرقاء اليمامة . قال الزمخشري في أبصر من الزرقاء من مستقصى
الأمثال : هي من بنات لقمان بن عاد ملكة اليمامة . واليمامة اسمها فسميت البلدة
باسمها . وقيل اسمها : عنز وهي إحدى الزرق الثلاث أعينها والزباء والبسوس .
وكانت جديسية وحين قتل جديس طسماً استجاش قبيلة طسم حسان بن تبع إلى اليمامة فلما
صاروا من جو على مسيرة ثلاث ليال صعدت الأطم الذي يقال له : الكلب فنظرت إليهم وقد
استتر كل بشجرة تلبيساً عليها فارتجزت بقولها :
____________________
(
أقسم بالله لقد دب الشجر ** أو حمير قد أخذت شيئاً تجر ) فكذبها قومها فقالت :
والله لقد أرى رجلاً ينهش كتفاً أو يخصف نعلاً . فما تأهبوا حتى صبحهم الجيش .
ولما ظفر بها حسان قال : ما كان طعامك فقالت : درمكة في كل يوم بمخ قال : فبم كنت
تكتحلين قالت : بالإثمد .
وشق عينها فرأى عروقاً سوداً من الإثمد . وهي أول من اكتحل بالإثمد من العرب .
انتهى المقصود منه .
وقال ابن المستوفي : كانت زرقاء اليمامة تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام ويضرب
بها المثل يقال : أبصر من زرقاء اليمامة . واليمامة بلد وكان اسمها الجو فسميت
باسم هذه المرأة لكثرة )
ما أضيف إليها وقيل : جو اليمامة .
وقالوا : هي من بنات لقمان بن عاد وقيل : هي من جديس . انتهى .
والحمام قال ابن قتيبة في أدب الكاتب : يذهب الناس إلى أنها الدواجن التي تستفرخ
في البيوت وذلك غلط إنما الحمام ذوات الأطواق وما أشبهها مثل الفواخت والقماري
والقطا . قال ذلك الأصمعي ووافقه عليه الكسائي .
قال حميد بن ثور : ( وما هاج هذا الشوق إلا حمامة ** دعت ساق حر ترحةً وترنما )
____________________
وقال
النابغة : واحكم كحكم فتاة الحي . . . . . . . . . . . البيت قال الأصمعي : هذه
زرقاء اليمامة نظرت إلى قطاً . قال : أما الدواجن في البيوت فإنها وما شاكلها من
طير الصحراء : اليمام . انتهى .
قال ابن السيد في شرحه : ما نقله عن الأصمعي والكسائي صحيح وقد يقال لليمام حمام
أيضاً . حكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي أنه قال : اليمام ضرب من الحمام
بري .
وحكى أبو حاتم عن الأصمعي في كتاب الطير الكبير : واليمام واحده يمامة الحمام
البري .
وحمام مكة يمام أجمع .
قال أبو حاتم : والفرق بين الحمام الذي عندنا واليمام : أن أسفل ذنب الحمام مما
يلي ظهرها إلى البياض وكذا حمام الأمصار وأسفل ذنب اليمامة لا بياض فيه .
وليس في بيت النابغة من الدليل على أنه أراد بالحمام القطا مثل ما في بيت حميد بن
ثور من الدليل على أنه أراد بالحمامة القمرية . وإنما علم ذلك بالخبر المروي عن
زرقاء اليمامة أنها نظرت إلى قطاً فقالت : ( يا ليت ذا القطا لنا ** ومثل نصفه معه
)
____________________
وقد
روي أنها قالت : ( ليت الحمام ليه ** إلى حمامتيه ) ( ونصفه قديه ** تم الحمام ميه
) ثم قال : وكان الأصمعي يروي : شراع بالشين المكسورة المعجمة يريد : التي شرعت في
الماء . )
وروى غيره : سراع بالسين غير معجمة وهنا جمع شارعة وسريعة . والرواية الثانية أولى
لاستغنائها عن دعوى التأكيد . و الثمد : الماء القليل .
وأفرد وارداً وإن كان صفة لحمام حملاً على معنى الجمع كما قال تعالى : من الشجر
الأخضر . انتهى .
فإن الحمام اسم جنس يفرق بينه وبين واحده بالتاء ومثله يجوز أن يعتبر جمعاً
ومفرداً كما هنا فإن وصفه جمع تارة وهو شراع وأفرد أخرى وهو وارد .
وهذا البيت من شواهد سيبويه قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة وارد إلى الثمد على نية
التنوين والنصب ولذلك نعت به النكرة مع إضافته إلى المعرفة إذ كانت إضافته غير
محضة .
وقوله : يحفه جانبا نيق . . . إلخ أي : أحاط به . والضمير للحمام . و جانبا : مثنى
جانب حذفت نونه للإضافة وهو فاعل يحفه . و النيق
____________________
بكسر
النون قال ابن قتيبة في أبيات المعاني : يقول : كان الحمام في موضع ضيق قد ركب
بعضه بعضاً فهو أشد لعده . وقوله : وتتبعه . . . إلخ مضارع أتبعه وفاعله ضمير
الفتاة والهاء ضمير الحمام ومثل مفعول صفة لمحذوف .
قال ابن قتيبة : أي : تتبعه عيناً مثل الزجاجة . لم تكحل تلك الفتاة من الرمد أي :
لم يكن بها رمد فتكحل منه .
مثل قول الآخر : على لاحب لا يهتدى بمناره وقوله : قالت ألا ليتما . . . الخ قال
ابن قتيبة : أو نصفه أرادت ونصفه أو بمعنى الواو .
قال ابن هشام في المغني : هذا قول الكوفيين والأخفش والجرمي . واحتجوا بأبيات منها
هذا البيت . ويقويه أنه روى : ونصفه بالواو . انتهى .
____________________
ورد
ابن الأنباري في مسائل الخلاف على الكوفيين بأن الرواية بالواو لا بأو ولو سلمنا
فنقول : أو فيه باقية على أصلها وهو أن يكون التقدير ليتما هذا الحمام أو هو ونصفه
فحذف المعطوف وحرف العطف كقوله تعالى : فقلنا اضرب بعصاك الحجر فانفجرت أي : فضرب
فانفجرت .
ألا فالبثا شهرين أو نصف ثالث )
أي : أو شهرين ونصف ثالث .
ألا ترى أنك لا تقول مبتدئاً نصف ثالث . وإذا وجب أن يكون المعطوف عليه محذوفاً
كانت أو باقية على أصلها . هذا كلامه .
ولا يخفى أن تخريجه لا يتمشى على رواية النصب وإنما هو على رواية الرفع مع أن
المعنى ليس عليه فإنها لم تتمن أحدهما وإنما تمنت كليهما وإن كان لرفع نصفه مه نصب
الحمام وجه ذكره ابن هشام في شرح الشواهد قال : وقد يجوز الرفع مع نصب الحمام .
وذلك على أن تجعله معطوفاً على الضمير المستتر في لنا وحسن ذلك لأجل الفصل .
وقوله : فحسبوه فألفوه حسب بتشديد السين بمعنى المخفف أي : عدوه . والهاء في
موضعين ضمير الحمام . و ألفوه : وجدوه .
قال ابن قتيبة : نظرت هذه المرأة إلى حمام مر بها بين جبلين وكان ستاً وستين فقالت
: ليت لي هذا الحمام ونصفه وهو ثلاث وثلاثون إلى حمامتي فيتم لي مائة . فنظروا
فإذا هو كما قالت .
____________________
قال
حمزة الأصفهاني في أمثاله : قال بعض أصحاب المعاني : إن النابغة لما أراد مدح هذه
الحكيمة الحاسبة بسرعة إصابتها شدد الأمر وضيقه ليكون أحسن له إذا أصاب فجعله حزر
طير إذ كان الطير أخف ما يتحرك ثم جعله حماماً إذ كان الحمام أسرع الطير ثم كثر
العدد إذ كانت المسابقة والمنافسة ثم ذكر أنها صارت بين نيقين لأن الحمام إذا كان
في مضيق من الهواء كان أسرع طيراناً منه إذا اتسع عليه الفضاء ثم جعلها واردة
للماء لأن الحمام إذا وردت الماء أعانها الحرص للماء على سرعة الطيران . انتهى .
وأغرب الجواليقي هنا فقال : قال الأصمعي : سمعت ناساً يحدثون أن ابنة الخس كانت
قاعدة في جوار فمر بها قطاً وارد في مضيق من الجبل فقالت : ( يا ليت ذا القطا لنا
** ومثل نصفه معه ) ( إلى قطاة أهلنا ** إذن لنا قطاً ميه ) فأتبعت القطا فعدت على
الماء فإذا هي ست وستون . انتهى . و ابنة الخس بضم الخاء المعجمة وتشديد السين
المهملة واسمها عند الإيادية . وهي جاهلية قديمة وقد أدركت القلمس أحد حكام العرب
في الجاهلية
____________________
تحاكمت
هي وأختها خمعة إليه في كلام لهما ومدحته بأبيات منها : ) ( إذا الله جازى منعماً
بوفائه ** فجازاك عني يا قلمس بالكرم ) وبعض الرواة يزعم أنها ماتت في زمن النعمان
عند هند ابنته ويستشهد على ذلك بقول ( وفيت بعهد كان منك تكرماً ** كما لابنة الخس
الإيادي وفت هند ) وليس الأمر كذلك وإنما مراد الفرزدق أن هنداُ وفت لأختها خمعة
ابنة الخس لا أنها عند ابنة النعمان .
وقد ترجمها الشريف المرتضى في أماليه وذكر طرفاً من أمورها .
وقد أجحف الزمخشري في قصة الزرقاء فنقول : إن اليمامة كان اسمها جواً في الزمن
الأول وكان لأمتين إحداهما : طسم بن لوذ بن سام بن نوح والأخرى : جديس بن جاثر بن
إرم بن سام بن نوح عليه السلام وكانوا أصحاب زرع ونخيل ومواش وكان ملكهم من طسم
يقال له : عملوق أو عمليق أفرط في جوره على جديس حتى أمر أن لا تزف امرأة من جديس
إلا أتي بها إليه حتى يفتضها قبل زوجها فلما افتض بنت غفار خرجت من عنده رافعة
صوتها ملطخة بدمها وهي تقول :
____________________
( لاأحد
أذل من جديس ** أهكذا يفعل بالعروس ) في أبيات كما تقد م شرح هذه القصة مفصلاً في
الشاهد الخامس والعشرين بعد المائة . فلما سمع قومها ذلك اشتد غضبهم ومشى بعضهم
إلى بعض وكان أخوها ابن غفار سيدهم فلما رأى ذلك من حال القوم قال : اطيعوني وإلا
قتلت نفسي . قال : اكتب إلى الملك : إني قد زوجت أختي فليحضر الملك وجميع أهله إلى
طعامي . فإذا أتوكم قام كل واحد منكم على رأس رجل منهم وقد دفن سلاحه تحت رجله
فإذا قرب الطعام فليقل كل رجل منكم من يليه .
فقتلوا جميعهم إلا رجلاً يقال له : رياح بن مرة فإنه أفلت منهم واستصحب كلبة له
وأخذ جريدة من جرائد نخلهم فطلاها بالطين ثم توجه حتى أتى حسان بن تبع مذعوراً
فقال له : ما وراءك قال : أتيتك من عند قوم كنا ملوكهم وساداتهم وقد وثبوا علينا
ظلماً وذكر القصة وفيهم زروع ومواش وتبر وورق ومسك وعنبر وجميع آلة الدنيا وفيهم
امرأة يقال لها : عنز تغذى بالزبد والشهد والمخ كأنها القمر ليلة البدر . )
فلما سمع ذلك حسان دعا قومه وأسمعهم كلام رياح فقالوا : ما لنا ولأمة قتلت أختها
ليس بيننا وبينهم حرب على أن بلدهم شاسع ومسلكهم بعيد .
قال الملك : أرأيتم إن ظلم أخ أخاه أليس يجب على الملك أن ينصره قالوا : بلى . قال
لهم رياح : كيف يكون بلدي شاسعاً وهذه جريدة من نخلها رطبة فلو
____________________
كان
بعيداً يبست وهذه كلبتي قد تبعتني عرجاء . وكان قد ضربها عند دخوله فعرجت فلم يزل
بهم حسان حتى أجابوه إلى المسير فساروا في ثلثمائة ألف فلما كان من جو على مسيرة
ثلاثة أيام قال لهم رياح : إن فيهم امرأة يقال لها : اليمامة تبصر الراكب من مسيرة
ثلاثة أيام فاقطعوا الشجر وليضع كل راكب منكم بين يديه غصناً من أغصانها ليشتبه
عليها .
فقامت اليمامة على رأس حصن لهم يقال له : البتيل فقالت : أي قوم زحفت إليكم حمير
وأرى شجراً وخلفها بشراً .
فكذبوها وقالوا : ما تزالين تأتينا بالإفك ثم رجعت بصرها فوضح لها صدق ما رأت
فقالت : ( خذوا حذاركم يا قوم ينفعكم ** فليس ما قد أرى بالأمس يحتقر ) ( إني أرى
شجراً من خلفها بشر ** وكيف تجتمع الأشجار والبشر ) ( خذوا طوائفكم من قبل داهية
** من الأمور التي تخشى وتنتظر ) ( فقد زجرت سنيح القوم باكرةً ** لو كان يعلم ذاك
القوم إذ بكروا ) ( إني أرى رجلاً في كفه كتف ** أو يخصف النعل خصفاً ليس يبتدر )
( فغوروا كل ماء قبل ثالثة ** فليس من بعده ورد ولا صدر ) ( وناهضوا القوم بعض
الليل إذ رقدوا ** ولا تخافوا لهم حرباً وإن كثروا )
____________________
فلم
يلبثوا أن صبحهم حسان بعد أربعة فقتل الرجال وسبى النساء ودعا باليمامة فقلع عينها
فوجد فيها عروقاً سوداً فسأل : ما الذي كانت تكتحل به فقالوا : حجر يقال له الإثمد
فاكتحل بالإثمد من ذلك اليوم .
فلما قتلها صلبها على باب جو فسميت بذلك اليمامة . وأتيت عنز بالجمل فلم تدر ما
الجمل من العزة .
وإن الأسود بن غفار أفلت فلحق بجبلي طيئ فقتله عمرو بن لاغوث بن طيئ كما تقدم شرحه
)
في الشاهد الثامن والثمانين من أوائل الكتاب .
وترجمة النابغة الذبياني تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(
وكنت أرى زيداً كما قيل سيداً ** إذا إنه عبد القفا واللهازم ) قال سيبويه : سمعت
رجلاً من العرب ينشد هذا البيت كما أخبرك به أي : بالكسر فحال إذا هاهنا كحالها
إذا قلت : هو عبد القفا واللهازم . وإنما جاءت إن هنا لأن هذا المعنى أردت كما
أردت في حتى معنى حتى هو منطلق .
ولو قلت : مررت فإذا أنه عبد تريد فإذا العبودية واللؤم كأنك قلت : مررت فإذا أمره
العبودية واللؤم ثم وضعت إن في هذا الموضع جاز . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في جواز فتح إن وكسرها بعد إذا . الكسر على نية وقوع المبتدأ
والخبر بعد إذا والتقدير : إذا هو عبد القفا . والفتح على تأويل المصدر مبتدأ
والإخبار عنه بإذا .
انتهى .
والإخبار بإذا مبني على كونها اسماً وليس الإخبار بها واجباً عند القائل به . قال
ابن هشام في شرح الشواهد كما قال ابن يعيش : من يرى أن ذا ظرف صح تقديرها خبراً
ولم يقدر محذوفاً أي : فبالحضرة العبودية .
وصح تقديرها متعلقة بخير محذوف أي : فبالحضرة العبودية موجودة . وإن قيل : إنها
حرف وجب دعوى الحذف . انتهى .
وإذا عند الشارح المحقق حرف كما قرره في باب المبتدأ وباب الظروف ولهذا قدر الخبر
.
وكذا هي حرف عند السيرافي إلا أنه جعل المحذوف المبتدأ قال : وإذا فتحت قدر ما
بعدها المصدر أي : فإذا أمره العبودية وذاك أن أن
____________________
المفتوحة
مقدرة بالمصدر وإذا حرف لا عامل لها لأنها دخلت لمعنى المفاجأة وهي في معنى حروف
العطف . انتهى .
وقد فرق ابن يعيش معنى الكسر عن معنى الفتح قال : إذا فتحت أردت المصدر وكأنك قلت
: فإذا العبودية واللؤم كأنه رأى فعل العبد . وإذا كسرت كأنه قد رآه نفسه عبداً .
)
وقوله : وكنت أرى بضم الهمزة بمعنى أظن متعد إلى ثلاثة مفاعيل : أولها : نائب
الفاعل وهو ضمير المتكلم وثانيها : زيد وثالثها : سيد .
وقول الشارح المحقق : أي عبد قفاه برفع عبد منوناً أشار بهذا التفسير إلى أن عبد
القفا من إضافة الصفة المشبهة إلى فاعلها .
وقصد به الرد على صاحب المقتبس في زعمه أن القفا مقحم ثم فسر كون قفاه عبداً
باللئيم لأنه حاصل المعنى . و اللئيم : المهين والدنئ النفس والشحيح ونحو ذلك لأن
اللؤم ضد الكرم ولهذا يضاف اللؤم إلى القفا كما يشاف الكرم إلى الوجه فيقال : لئيم
القفا وكريم الوجه .
ثم فسر الشارح جهة كونه لئيماً بصفعان وهو من يمكن من صفع قفاه ليأخذ شيئاً . ولا
قال الجوهري : الصفع كلمة مولدة والرجل صفعان . انتهى .
ولم يتعرض له ابن بري ولا الصفدي بشيء . ورد عليه الفيومي في المصباح قال : صفعه
صفعاً .
والصفعة : المرة وهو أن يبسط الرجل كفه فبضرب بها قفا إنسان أو بدنه . فإذا قبض
كفه ثم ضربه فليس بصفع بل يقال : ضربه بجمع كفه . قاله الأزهري وغيره . ورجل صفعان
لمن يفعل به ذلك . ولا عبرة بقول من
____________________
جعل
هذه الكلمة مولدة مع شهرتها في كتب الأئمة . انتهى .
وقول الشارح المحقق : واللهزمتان : عظمان . . . إلخ اللهزمة بكسر اللام والزاي وسكون
الهاء . والناتئ : اسم فاعل من نتأ الشيء بالهمز ينتأ بفتحتين نتوءاً إذا خرج من
موضعه وارتفع من غير أن يبين .
ويجوز تخفيف الفعل كما يخفف قرأ فهو نات منقوص . واللحي بفتح اللام وسكون الحاء
المهملة : عظم الحنك وهو الذي يثبت عليه الأسنان .
وقوله : جمعهما الشاعر بما حولهما يريد أن لكل حيوان لهزمتين لا غير فالجمع على
تأويل جب مذاكير فلان بضم الجيم وتشديد الباء .
قال صاحب المصباح : جببته جباً من باب قتل : قطعته ومنه جببته فهو مجبوب بين
الجباب بالكسر إذا استؤصلت مذاكيره .
وما ذكره الشارح من تفسير اللهزمتين هو كلام صاحب الصحاح وقال بعده : ويقال هما
مضغتان علبتان تحتهما . والمضغة اللحم سمي بها لأنها مقدار ما يمضغ . )
والعلبة بالموحدة من غلب اللحم بكسر اللام واستعلب إذا غلظ . وروي أيضاً : عليتان
بالمثناة التحتية المشددة .
وقال أبو جعفر أحمد بن محمد : اللهازم : عروق في القفا . والصحيح ما قاله الجوهري
.
قال الأعلم : ومعنى عبد القفا واللهازم أن من بنظرهما يتبين عبوديته ولؤمه لأن
القفا موضع الصفع واللهزمة موضع اللكز وهو بفتح اللام وسكون الكاف وآخره زاء معجمة
: مصدر لكزه لكزاً من باب قتل إذا ضربه بجمع كفه بضم الجيم وسكون الميم . يقال :
ضربه بجمع كفه أي : مقبوضة .
والمعنى : كنت أظن زيداً سيداً شريفاً كما قيل فيه إنه سيد فظهر انه لئيم وكان ما
قيل فيه باطلاً .
____________________
وهذا
البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائل كل بيت منها . والله اعلم .
وانشد بعده وهو من شواهد س : ( إني إذا خفيت نار لمرملة ** ألفى بأرفع تل رافعاً
ناري ) ( ذاك وإني على جاري لذو حدب ** أحنو عليه بما يحنى على الجار ) على أن إن
في هذا البيت ليس فيها إلا الكسر .
قال سيبويه : تقول ذاك وأن لك عندي ما أحببت . وقال عز وجل : وذلكم وأن الله موهن
كيد الكافرين وقال جل ثناؤه : ذلكم فذقوه وأن للكافرين عذاب النار . وذلك لأنها
شركت ذلك فيما حمل عليه كأنه قال : الأمر ذلك وأن الله .
ولو جاءت مبتدأة لجازت يدلك على ذلك قوله تعالى : ذلك ومن عاقب
____________________
بمثل
ما عوقب به وليس محمولاً على ما حمل عليه ذلك فكذلك يجوز أن تكون إن منقطعة من ذلك
.
قال الأحوص : ( عودت قومي إذا ما الضيف نبهني ** عقر العشار على عسري وإيساري )
إني إذا خفيت نار لمرملة . . . . . . إلى آخر الشعر فهذا لا يكون إلا مستأنفاً غير
محمول على ما حمل عليه ذاك . فهذا أيضاً يقوي ابتداء إن في الأول . انتهى . )
قال النحاس : إنما لم يجز في إن هاهنا إلا الكسر لأن بعدها اللام كما قال تعالى :
إن ربهم بهم يومئذ لخبير .
وقال الأعلم : الشاهد في كسر إن لدخول لام التأكيد ولو لم تدخل لفتحت حملاً على ما
قبلها . انتهى .
ولما كان سيبويه فيه بعض خفاء لخصه الشارح المحقق وأوضحه . وذلك أن محصل كلام
سيبويه جواز الوجهين في إن المذكورة وقد جاء على الفتح وهو أحد الجائزين من قوله
تعالى : ذلكم وأن الله موهن كيد الكافرين وقوله تعالى : ذلكم فذقوه وأن للكافرين
عذاب النار .
فاسم الإشارة في الآية الأولى خبر مبتدأ محذوف التقدير : الأمر ذلكم وأن مع
معموليها في تأويل مصدر مرفوع معطوف على ذلك وقد شاركته أن مع معموليها في الخبرية
للمبتدأ المقدر .
وهذا معنى قول سيبويه : وذلك لأنها شركت ذلك فيما حمل عليه كأنه قال : الأمر ذلك
وأن الله .
____________________
قال
البيضاوي : ذلكم إشارة إلى البلاء الحسن أو القتل أو الرمي ومحله الرفع : أي :
المقصود أو الأمر ذلكم . وقوله تعالى : وأن الله . . . إلخ معطوف عليه أي :
المقصود إبلاء المؤمنين وتوهين وهذا يكون من عطف المفردات . وأما قول الشارح
المحقق : أي : الأمر ذلكم والأمر أيضاً أن الله موهن فتكرير المبتدأ للإيضاح لا
أنه من عطف الجمل .
ثم قال سيبويه : ولو جاءت مبتدأة لجازت . . إلخ يريد : لو جاءت إن بعد اسم الإشارة
مكسورة كما تكسر في ابتداء الكلام لجازت . وهذا الوجه الثاني من الجائزين وقد جاء
عليه قوله تعالى : هذا ذكر وإن للمتقين لحسن مآب وقوله تعالى : هذا وإن للطاغين
لشر مآب فذلك في الأولى وهذا في الثالثة خبر مبتدأ محذوف أي : الأمر ذلك والأمر
هذا .
وجملة إن معطوفة على الجملة قبلها في الثلاث وهذا من عطف الجمل وليس من العطف على
اسم الإشارة حتى تشاركه في الخبرية .
ومثل هذه الآيات قول الشاعر : ذاك وإني على جاري لذو حدب فذاك : خبر مبتدأ محذوف
والتقدير : شأني ذاك وأمري ذاك . وجملة : إني على )
جاري . . . إلخ معطوفة على الجملة قبلها .
ويدل على أن هذا من عطف الجمل قوله تعالى في سورة الحج : ذلك ومن عاقب بمثل ما
عوقب به ثم بغي عليه لينصرنه الله فقوله : لينصرنه الله جواب قسم مقدر وجملة القسم
المقدر مع جوابه خبر من عاقب . . . إلخ وجملة : من
____________________
عاقب
. . . إلخ معطوفة على الجملة المحذوف مبتدؤها أي : الأمر ذلك ومن عاقب . . . إلخ .
فالبيت المذكور مثل هذه الآية في الإعراب .
وقول الشارح المحقق : فالجملة القسمية عطف على الجملة المقدمة فيه مسامحة وأراد
الجملة التي خبر مبتدئها جملة قسمية .
ولنرجع إلى شرح الأبيات فنقول : قوله : عودت قومي . . . إلخ أراد بقوله : نبهني :
طرقني ليلاً فنبهني .
وعقر : المفعول الثاني لعود ومفعوله الأول : قومي وهو مصدر عقرت البعير من باب ضرب
إذا ضربت قوائمه بالسيف .
ولا يكون العقر في غير القوائم وربما قيل : عقره إذا نحره . و العشار : جمع عشراء
وهي الناقة التي أتى على حملها عشرة أشهر ومثله نفاس جمع نفساء . ولا ثالث لهما .
والعشار عند العرب أعز الإبل فذبحها للضيف يكون غاية في الجود والإكرام . وقوله :
على عسري وإيساري أي : أعقرها على كل حالة سواء كنت معسراً أو موسراً .
والعسر : الفقر وهو اسم للإعسار . يقال : أعسر الرجل إذا افتقر . والإيسار : مصدر
أيسر وقوله : إني إذا خفيت . . . إلخ ألفى جواب إذا وجملة : إذا خفيت . . . إلخ
خبر إني .
قال الأعلم : قوله أن بالفتح محمول على البدل من العقر لأن عقر العشار مشتمل على
إيقاد النار ودال عليه فكأنه قال : عودت قومي أني أوقد النار للطارق . وكسر إن
هاهنا أجود على الاستئناف والقطع . و المرملة : الجماعة التي نفذ زادها . ورجل
مرمل : لا شيء له مشتق من الرمل كأنه لا يملك غيره كما يقال : ترب الرجل إذا افتقر
. يقال : أرمل الرجل إذا نفذ زاده وافتقر فهو مرمل .
وجاء أرمل على غير قياس والجمع أرامل .
____________________
وأرملت
المرأة فهي أرملة للتي لا زوج لها لافتقارها إلى من ينفق عليها . )
وقال الأزهري : لا يقال لها أرملة إلا إذا كانت فقيرة فإن كانت موسرة فليست بأرملة
. والجمع أرامل . وألفى بالبناء للمجهول من ألفيته إذا وجدته متعد لمفعولين :
أحدهما : نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم وثانيهما : قوله رافعاً . و التل : ما
ارتفع من الأرض . وإيقاد النار في الأماكن العالية من أخلاق الكرام حتى يهتدي
الضيف إليه في الليل المظلم ويأتي .
يقول : إذا خفيت نار غيري بأن لا توقد في أيام الجدب والقحط فأنا أوقدها في تلك
الأيام .
وقوله : ذاك إشارة إلى عقر العشار وإيقاد النار . فإن قلت : كيف أشير بذاك إلى
اثنين قلت : صح لأنه بتأويل ما ذكر . وكذا قوله : عوان بين ذلك أي : بين الفارض
والبكر . و ذاك : خبر مبتدأ محذوف أي : شأني وأمري ذاك .
وجملة : إني لذو حدب : معطوفة على الجملة المحذوف صدرها وأوجب كسر إن هنا لوجود
اللام في الخبر ولولاها لجاز فتح إن وكانت مؤولة مع معموليها بمصدر مرفوع معطوف
على ذاك عطف مفرد على مفرد . و الحدب بفتح الحاء المهملة والدال : مصدر حدب عليه
كفرح إذا عطف عليه و أحنو خبر بعد خبر والحنو بمعنى الحدب .
في المصباح : حنت المرأة على ولدها تحنى وتحنو حنواً : عطفت وأشفقت فلم تتزوج بعد
أبيهم . وقوله : بما يحنى بالبناء للمفعول .
والأحوص بمهملتين شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين من أوائل
الكتاب .
____________________
وأنشد
بعده وهو من شواهد س : أحقاً أن أخطلكم هجاني على أن حقاً في معنى الظرف فأن مع
معموليها مؤولة بمصدر فاعل لثبت محذوفاً أو فاعل للظرف على الخلاف في نحو : أعندك
زيد أو مبتدأ مؤخر والظرف قبله خبر .
وإنما قال في معنى الظرف لأنه ظرف مجازي مشتمل على المحقق كاشتمال الظرف على
المظروف . والدليل على أنه جار مجرى الظرف وقوعه خبراً عن المصدر دون الجثة كما أن
)
ظرف الزمان كذلك .
قال الأعلم : جاز وقوعه ظرفاً وهو مصدر في الأصل لما بين الفعل والزمان من
المضارعة وكأنه على حذف الوقت وإقامة المصدر مقامه كما قالوا : أتيتك خفوق النجم
فكأن تقديره : أفي وقت حق . انتهى .
وهذا الوجهان معروفان في الظرف المعتمد . هذا إن كان حقاً منصوباً على المصدر فأن
فاعل لا غير تقول : أحقاً أنك ذاهب أي : أحق ذلك حقاً . فقولك : حق فعل ماض هو
الناصب لحقاً وأن فاعل المصدر أو فاعل الفعل على الخلاف فيه والهمزة للاستفهام .
فإن قلت : إذا كان حقاً تفسيراً لأما فمن أين جاء الاستفهام حتى قال الشارح المحقق
: أي : قلت : تفسيرها بحقاً أحد قولين والثاني : أنها بمعنى أحقاً مع همزة
الاستفهام وهو الصحيح .
____________________
فإن
قلت : ظاهر أما أنها حرف فكيف تكون بمعنى حقاً أو أحقاً وكيف تكون أن في قولهم :
أما أنك قائم فاعلاً أو مبتدأ قلت : قال ابن هشام في المغني قال بعضهم : هي اسم
بمعنى حقاً وقال آخرون : هي كلمتان الهمزة للاستفهام و ما اسم بمعنى شيء حق
فالمعنى أحقاً .
وهذا هو الصواب وموضع ما النصب على الظرفية كما انتصب حقاً على ذلك في نحو قوله :
أحقاً أن جيرتنا استقلوا وهو قول سيبويه وهو الصحيح بدليل قوله : أفي الحق أني
مغرم بك هائم فأدخل عليها في وأن وصلتها : مبتدأ والظرف : خبره . وقال المبرد :
حقاً مصدر لحق محذوفاً وأن وصلتها : فاعل . انتهى .
____________________
ووجه
الصواب في كونها بمعنى أحقاً : أنك إذا قلت : أما أنك قائم فيه معنى الاستفهام فلو
كان أما مجموعها بمعنى حقاً لزم إما أن لا يكون استفهام وهو خلاف المعنى وإما أن
يقدر أداته دائماً .
ويرد أنه لم يلفظ به معها في وقت قط مع أن حذف الهمزة بدون أن شاذ عند سيبويه
ضرورة عند غيره وكلها بعيدة عن الصواب .
وإذا كانت مركبة من الهمزة وما كان كل معنى مستفاداً من لفظه الموضوع له . و ما
هذه )
نكرة تامة لا تحتاج إلى صفة أو صلة عامة بمعنى شيء ومن ما صدقاتها حق . ولذلك قال
: بمعنى شيء وذلك حق ولم يقل ابتداء بمعنى حق .
وليست التامة التي في قوله تعالى : إن تبدوا الصدقات فنعمل هي لأنها بمعنى الشيء
خلافاً لابن الملا فإنه زعم أنها كالتي في الآية وقال : أي فنعم شيئاً هي . فأخطأ
في موضعين .
وإذا كان مجموع أما بمعنى حقاً غير صواب فما الظن بالقول بحرفيتها قال ابن هشام :
وهي حرف عند ابن خروف وجعلها مع أن ومعموليها كلاماً تركب من حرف واسم كما قال
الفارسي في : يا زيد . انتهى .
وهذا بعيد عن الصواب بمراحل كما لا يخفى .
وقول ابن هشام : وأن وصلتها : مبتدأ والظرف : خبره هذا مرجوح والراجح كونه فاعلاً
للظرف أو لثبت محذوفاً . وما نقله عن المبرد هو المشهور .
وزعم العيني أن مذهبه كون حقاً صفة لمصدر محذوف أي : أهجاني أخطلكم هجواً حقاً .
وفي التذكرة القصرية : قلت لأبي علي : قوله : أحقاً أن أخطلكم هجاني يدل على أن
حقاً بمعنى : أفي الحق لأنه ليس يريد أتحقون حقاً أن أخطلكم هجاني وإنما يريد أفي
الحق أي : أخبروني هل هجاني أخطلكم وليس يريد : أتحقون هذا الخبر فلم ينكر أبو علي
هذا وصححه وصوبه . انتهى .
____________________
وبهذا
يعلم أنه ليس المعنى أهجاني هجواً حقاً .
وهذا نص سيبويه وفيه فوائد كثيرة قال في باب من أبواب إن تكون أن فيه مبنية على ما
قبلها : وذلك قولك : أحقاً أنك ذاهب والحق أنك ذاهب وكذلك : أأكبر ظنك أنك ذاهب
وأجهد رأيك أنك ذاهب . وكذلك هما في الخبر .
وسألت الخليل رحمه الله فقلت له : ما منعهم أن يقولوا : أحقاً إنك ذاهب على القلب
. كأنك قلت : إنك ذاهب حقاً وإنك ذاهب الحق فقال : لأن إن لا تبتدأ في كل موضع ولو
جاز هذا لجاز يوم الجمعة إنك ذاهب تريد إنك ذاهب يوم الجمعة . ولقلت أيضاً : لا
محالة إنك ذاهب تريد : إنك لا محالة ذاهب .
فلما لم يجز ذلك حملوه على أحق أنك ذاهب وأفي أكبر ظنك أنك ذاهب وصارت أن مبنية
عليه كما تبني الرحيل على غد إذا قلت : غداً الرحيل . والدليل على ذلك إنشاد العرب
كما أخبرتك . زعم يونس أنه سمع العرب يقولون في بيت الأسود بن يعفر : )
فزعم الخليل أن التهدد هنا بمنزلة الرحيل بعد غد وأن أن بمنزلته وموضعه كموضعه .
____________________
ونظير
أحقاً أنك ذاهب من أشعار العرب قول العبدي : ( أحقاً أن جيرتنا استقلوا ** فنيتنا
ونيتهم فريق ) وقال عمر بن أبي ربيعة : ( أألحق إن دار الرباب تباعدت ** أو انبت
حبل أن قلبك طائر ) وقال النابغة الجعدي : ( ألا أبلغ بني خلف رسولاً ** أحقاً أن
أخطلكم هجاني ) فكل هذه البيوت سمعناها من أهل الثقة هكذا والرفع في جميع هذا جيد
قوي . وذلك أنك إن شئت قلت : أحق أنك ذاهب وأأكبر ظنك أنك منطلق تجعل الآخر هو
الأول . انتهى .
يريد أنك تجعل أن مبتدأ مؤخراً وما قبلها خبراً مقدماً .
وقد تقدم ما يتعلق به في الشاهد الرابع والستين في باب المبتدأ والخبر . وقوله : (
ألا أبلغ بني خلف رسولاً ** أحقاً أن أخطلكم هجاني ) الأخطل هنا هو الشاعر المشهور
النصراني وكانت بينه وبين النابغة الجعدي الصحابي مهاجاة .
وبنو خلف : رهط الأخطل من بني تغلب . وروي :
____________________
و
جشم بضم الجيم وفتح الشين المعجمة من بني تغلب أيضاً . قال الأعلم : الرسول هاهنا
بمعنى الرسالة وهو مما جاء على فعول كالوضوء والطهور . ونظيرها الألوك وهي الرسالة
أيضا . انتهى .
وقال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : رسولاً حال من الفاعل أو اسم للمصدر أو
بمعنى الرسالة مثلها في قوله : ( لقد كذب الواشون ما بحت عندهم ** بليلى ولا
أرسلتهم برسول ) فيكون مفعولاً ثانياً . ولو منع مانع مجيء رسول بمعنى الرسالة
محتجاً بأنهم لم يستندوا في ذلك إلا إلى هذا البيت وهو محتمل للوصفية على أنه حال
لم يحسن لأنه يلزم عنه كون الحال مؤكدة لعاملها لفظاً ومعنى ومجيء فعول للجماعة
وزيادة الباء في الحال .
وهذه وإن كانت أموراً ثابتة نحو : وأرسلناك للناس رسولاً ونحو : فإنهم عدو لي ونحو
: ( فما رجعت بخائبة ركاب ** حكيم بن المسيب منتهاها ) )
إلا أن اجتماعها بعيد . انتهى .
وقد أخذ العيني هذا الكلام بإخلال فيه ولم يعزه إليه .
وهذا البيت استشهد به ابن الناظم في شرح الألفية على أنه إذا غلب الاسم بالألف
واللام لم يجز نزعها منه إلا في نداء
____________________
نحو
: يا نابغة ويا أخطل أو إضافة نحو : نابغة بني ذبيان وأخطلكم في هذا البيت .
والاستفهام هنا للتقرير ومعناه حملك المخاطب على الإقرار والاعتراف بأمر قد استقر
عنده ثبوته أو نفيه .
وقال العيني : الهمزة للإنكار التوبيخي فيقتضي تحقق ما بعدها وأن فاعله ملوم على
ذلك وكلاهما خارجان عن الاستفهام الحقيقي .
والبيت من قصيدة للنابغة الجعدي هجا بها الأخطل وبني سعد بن زيد مناة ومدح بها كعب
بن جعيل لقضائه له على بني سعد .
وبعده : ( فلولا أن تغلب رهط أمي ** وكعب وهو مني ذو مكان ) ( تراجمنا بصدر القول
حتى ** نصير كأننا فرسا رهان ) ومطلع القصيدة : ( وظل لنسوة النعمان منا ** على
سفوان بوم أروناني ) ( فأعتقنا حليلته وجئنا ** بما قد كان جمع من هجان )
____________________
و
سفوان بالتحريك : اسم ماء . و أروناني : شديد . و الحليلة : الزوجة . و الهجان :
كرائم الأموال وأشرفها .
وترجمة النابغة الجعدي تقدمت في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد الثمانمائة ) ( أفي حق مواساتي أخاكم **
بمالي ثم يظلمني السريس ) على أن مجيء في مع حق يدل على أن حقاً إنما ينصب على
الظرفية بتقدير في . وهذا ظاهر .
والبيت من قصيدة لأبي زبيد الطائي النصراني أولها : ( ألا أبلغ بني عمرو بن كعب **
بأني في مودتكم نفيس ) وفيها يقول : ( فما أنا بالضعيف فتظلموني ** ولا حظي اللفاء
ولا الخسيس ) ( أفي حق مواساتي أخاكم ** بمالي ثم يظلمني السريس )
____________________
كان
أخوال أبي زبيد تغلب وكان يقيم فيهم أكثر أيامه وكان له غلام يرعى إبله فغزت بهراء
بني تغلب فمر بنو تغلب بغلامه فدفع إليهم إبل أبي يزبيد وقال : انطلقوا أدلكم على
عورة القوم وأقاتل معكم . والتقوا فانهزمت بهراء وقتل الغلام ولم يبعث إليه بنو
تغلب دية غلامه وما ذهب له من إبله . فقال في ذلك هذه القصيدة . و نفيس : راغب فيه
لنفاسته يقال : نفست فيه نفاسة أي : رغبت فيه ونافست في الشيء منافسة ونفاساً إذا
رغبت فيه على وجه المباراة في الكرم . و اللفاء بفتح اللام بعدها فاء قال صاحب
الصحاح : هو الخسيس من الشيء وكل شيء يسير حقير فهو لفاء . وأنشد هذا البيت وقال :
يقال : رضي فلان من الوفاء باللفاء أي : من حقه الوافي بالقليل . ويقال : لفاه حقه
أي : بخسه . الخسيس : الدنيء . و المواساة : مصدر واساه بماله قال صاحب الصحاح :
آسيته بمالي مؤاساة أي : جعلته أسوتي فيه . وواسيته لغة ضعيفة فيه . وفي المصباح :
آسيته بنفسي بالمد : سويته .
ويجوز إبدال الهمزة واواً في لغة اليمن فيقال : واسيته . و السريس بسينين مهملتين
قال صاحب الصحاح : هو الذي لا يأتي النساء . قال أبو عبيد : هو العنين . د وأنشد
لأبي زبيد الطائي : أقول : أنشده أبو عبيد في الغريب المصنف .
قال شارح أبياته ابن السيرافي : يقول : أيكون في الحق أن أبذل مالي وأتفضل بإعطاء
ما لا )
يستحق علي ثم أظلم وأمنع مالي ويتم علي ذلك من رجل سريس . يريد أن الذي ظلمه ليس
بكامل من الرجال . انتهى .
____________________
وفي
درة الغواص للحريري : العرب تسمي العنين السريس كما قال الشاعر : ( ألا حييت عنا
يا لميس ** علانيةً فقد بلغ النسيس ) ( رغبت إليك كيما تنكحيني ** فقلت بأنه رجل
سريس ) ( ولو جربتني في ذاك يوماً ** رضيت وقلت : أنت الدردبيس ) انتهى . و لميس :
اسم امرأة . و النسيس بالنون بعدها سين مهملة : بقية الروح . و الدردبيس : الداهية
.
وترجمة أبي زبيد تقدمت في الشاهد الثاني والثمانين بعد المائتين .
وأنشد بعده : أحقاً بني أبناء سلمى بن جندل تهددكم إياي وسط المجالس في أنه مثل
قوله : أفي حق مواساتي أخاكم في أن تهددكم فاعل أحقاً أو مبتدأ وأحقاً ظرف وقع
خبراً له . وكذلك مواساتي
____________________
فاعل
والظرف قبله خبره . وقد جاء فيهما الفاعل الصريح أو المبتدأ الصريح موضع أن
المؤولة بأحدهما . و بني : منادى . وقد أنشد الشارح هذا البيت ابتداء في باب
المبتدأ وفي باب المفعول المطلق وفي باب الحال ولهذا قال البيت ولم ينشده كاملاً .
وقد شرحناه في الشاهد الرابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( ولقد طعنت
أبا عيينة طعنةً ** جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ) على أن سيبويه قال : جرم في
البيت : فعل ماض بمعنى حق و فزارة : فاعل و أن وقال الفراء : بل الرواية بنصب
فزارة أي : كسبت الطعنة فزارة الغضب أي : جرمت لهم الغضب . هذا كلام الشارح وليس
في كلام سيبويه ما نقله عنه وهذا نصه : وأما قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار
وأنهم مفرطون فإن جرم عملت لأنها فعل ومعناها : لقد حق أن لهم النار ولقد استحق أن
لهم النار .
وقول المفسرين : معناها حقاً أن لهم النار يدلك على أنها بمنزلة هذا الفعل إذا
مثلت .
____________________
فجرم
بعد لا عملت في أن عملها في قول الفزاري : ( ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً ** جرمت
فزارة بعدها أن يغضبوا ) أي : أحقت فزارة .
وزعم الخليل أن جرم إنما تكون جواباً لما قبلها من الكلام يقول الرجل : كان كذا
وكذا فتقول : لا جرم أنهم سيندمون وأنه سيكون كذا وكذا . انتهى كلامه .
فليس فيه ما يقتضي أن فزارة : فاعل وأن يغضبوا : بدل وإنما أورد البيت تأييداً
لكون جرم في الآية ونحوها في الأصل فعلاً يرفع الفاعل وفاعلها في البيت ضمير
الطعنة ولا يريد أن فزارة مرفوع بها وإلا لما كان لقوله : أحقت فزارة وجه . وإنما
أتى به ليفرق بين ما في الآية وبين ما في البيت فأفاد أنها في البيت متعدية ولذا
قال أحقت بالألف .
قال أبو جعفر النحاس : وعندي عن أبي الحسن في كتاب سيبويه : أي : أحقت فزارة
بالألف .
انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله : جرمت فزارة ومعناه على مذهب سيبويه حقتها للغضب .
وغيره يزعم أن معنى : جرمت فزارة أن يغضبوا أكسبتهم الغضب من قوله عز وجل : لا
يجرمنكم شنآن قوم . ويقال : حققته أن يفعل بمعنى أحققته . وحققته أي : جعلته
حقيقاً بفعله . انتهى .
وكأن روايته في الكتاب : أي : حقت فزارة بلا ألف . وحقت متعدية كما بينها . )
ويدل لما قلنا أيضاً قول ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب قال : قوله : جرمت
فزارة بعدها أن يغضبوا أي : كسبت فزارة الغضب عليك . وقول
____________________
الفراء
: وليس قول من قال : حق لفزارة الغضب بشيء رداً منه على سيبويه والخليل لأن معناه
عندهما : أحقت فزارة الغضب .
فأن يغضبوا على تأويلهما مفعول سقط منه حرف الجر وهو على قول الفراء مفعول لا
تقدير فيه لحرف الجر . وكلا التأويلين صحيح وجملة جرمت فزارة : صفة لطعنة كأنه قال
: طعنة جازمة . انتهى .
وكأنه لم يقف على كلام الفراء . وهذا نصه في تفسيره عند قوله تعالى : لا جرم أنهم
في الآخرة هم الأخسرون من سورة هود قال قوله : لا جرم أنهم كلمة كانت في الأصل
والله أعلم بمنزلة لا بد أنك قائم ولا محالة أنك ذاهب فجرت على ذلك وكثر استعمالهم
إياها حتى صارت بمنزلة حقاً .
ألا ترى أن العرب تقول : لا جرم لآتينك لا جرم لقد أحسنت . وكذلك فسرها المفسرون
بمعنى الحق وأصلها من جرمت أي : كسبت الذنب . وليس قول من قال : إن جرمت كقولك :
حققت أو حققت بشيء وإنما لبس على قائله قول الشاعر : ولقد طعنت أبا عيينة . . . .
. . . . . . البيت فرفعوا فزارة وقالوا : نجعل الفعل لفزارة كأنه بمنزلة حق أو حق
لها أن تغضب . وفزارة منصوبة في قول الفراء أي : جرمتهم الطعنة أن يغضبوا أي :
كسبتهم .
وموضع أن مرفوع كقول الشاعر : ( أحقاً عباد الله جرأة محلق ** علي وقد أعييت عاداً
وتبعا ) و محلق : رجل . انتهى كلامه ونقلته من خط الخطيب البغدادي المحدث المشهور
.
____________________
فجرم
عند الفراء اسم وعند سيبويه فعل ماض . وليس ما رده الفراء موجوداً في كلام سيبويه
حتى يكون رداً على كلام سيبويه والخليل وإنما هو رد على من قاله غير سيبويه كأبي
عمرو بن العلاء وأبي زيد ويونس وأضرابهم .
ويؤيده أن الشريف المرتضى نقل كلام الفراء وما رده في أماليه ولم يجر لسيبويه
ذكراً . قال : فأما قوله لا جرم فقال قوم : معنى جرم كسب . )
وقالوا في قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار إن لا رد على الكفار ثم ابتدأ فقال :
جرم أن لهم النار بمعنى كسب قولهم أن لهم النار .
وقول الشاعر : ( نصبنا رأسه في رأس جذع ** بما جرمت يداه وما اعتدينا ) أي : بما
كسبت . وقال آخرون : معنى جرم حق وتأولوا الآية بمعنى حقق قولهم أن لهم النار .
وأنشدوا : ولقد طعنت أبا عيينة طعنةً البيت أراد : حققت فزارة . وروى الفراء :
فزارة بالنصب على معنى كسبت الطعنة فزارة الغضب .
وقال الفراء : لا جرم في الأصل مثل لا بد ولا محالة ثم استعملته العرب في معنى
حقاً وجاءت فيه بجواب الأيمان . انتهى .
وقد نقل الجوهري كلام الفراء بعينه في الصحاح . العجب من ابن بري في قوله تبعاً
لابن السيد : هذا رد على الخليل وسيبويه لأنهما قدراه أحقت فزارة الغضب أي :
بالغضب فأسقط الباء .
____________________
وفي
قول الفراء لا يحتاج إلى إسقاط حرف الجر فيه لأن تقديره كسبت فزارة الغضب عليك .
انتهى .
وما نقله منهما حق لا شبهة فيه . وأما ما وجه التعجب فإنه كيف يصح قوله : هذا رد
على الخليل وسيبويه لأنهما قدراه : أحقت فزارة الغضب مع قول الفراء : فرفعوا فزارة
بجعله قول سيبويه والخليل والذي قاله الشارح . رأيته في تفسير الزجاج وهو متأخر عن
الفراء قال عند قوله تعالى : لا جرم أن الله يعلم ما يسرون وما يعلنون من سورة
النحل ما نصه : معنى لا جرم حق أن الله ووجب أن الله . وقوله : لا رد لفعلهم .
قال الشاعر : ولقد طعنت أبا عيينة . . . . . . . . . البيت المعنى : حقت فزارة
بالغضب . انتهى .
وقال أيضاً في هذه السورة عند قوله تعالى : لا جرم أن لهم النار : لا رد لقولهم .
المعنى والله )
أعلم : ليس ذلك كما وصفوا جرم فعلهم هذا أي : كسب . وقيل : إن أن في موضع رفع .
ذكر ذلك قطرب . انتهى . وقطرب تلميذ سيبويه .
وقول الشارح رحمه الله : أي جرمت لهم الغضب كقوله تعالى : ولا يجرمنكم شنآن قوم أي
: لا يجرمن لكم ظاهره أن هذا من كلام الفراء . وليس كذلك كما نقلنا كلامه .
وهذه عبارته في آية المائدة : وقوله : ولا يجرمنكم شنآن قوم أن صدوكم عن المسجد
الحرام أن تعتدوا قرأ يحيى بن وثاب والأعمش : ولا يجرمنكم من أجرمت .
____________________
وكلام
العرب وقراءة القراء يجرمنكم بفتح الياء جاء التفسير : ولا يحملنكم بغض قوم .
قال الفراء : وسمعت العرب تقول : فلان جريمة أهله يريدون كاسب لأهله . وخرج يجرمهم
: يكسب لهم والمعنى فيهما متقارب أي : لا يكسبنكم بغض قوم أن تفعلوا شراً فأن في
موضع نصب .
فإذا جعلت في أن تعتدوا على ذهبت إلى معنى لا يحملنكم بغضهم على أن تعتدوا فيصح
طرح على كما تقول : حملتني أن أسوءك وعلى أن أسوءك . انتهى كلامه .
وقد أخذه صاحب الكشاف وأوضحه قال : جرم يجري مجرى كسب في تعديته إلى مفعول واحد
واثنين تقول : جرم ذنباً نحو كسبه وجرمته ذنباً نحو كسبته إياه . ويقال : أجرمته
ذنباً على نقل المتعدي إلى مفعول بالهمزة إلى مفعولين كقولهم : أكسبته ذنباً .
وعليه قراءة عبد الله : لا يجرمنكم بضم الياء وأول المفعولين على القراءتين ضمير
المخاطبين والثاني أن تعتدوا وأن صدوكم بفتح الهمزة متعلق بالشنآن بمعنى العلة .
والشنآن : شدة البغض . والمعنى : لا يكسبنكم بغض قوم لأن صدوكم الاعتداء ولا
يحملنكم عليه . انتهى .
وقال أيضاً في قوله تعالى : لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم من سورة هود : جرم مثل كسب
في تعديه إلى مفعول واحد وإلى مفعولين . تقول : جرم ذنباً وكسبه . وجرمته ذنباً
وكسبته إياه .
____________________
قال
: جرمت فزارة بعدها أن يغضبوا ومنه قوله تعالى : لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم أي :
لا يكسبنكم شقاقي إصابة العذاب .
وكذا قال الزجاج في تفسيره قال : أي : لا يحملنكم بغضكم المشركين على ترك العدل .
يقال : أجرمني كذا وجرمني وجرمت وأجرمت بمعنى واحد . وقيل لا يجرمنكم : لا يدخلنكم
في )
الجرم كما تقول آثمته : أدخلته في الإثم . انتهى .
وحاصله أن لا جرم فعل عند سيبويه بمعنى حق يطلب فاعلاً ومصدر عند الفراء يطلب
فاعلاً أيضاً . وهذا عندهما إذا كانت أن بعدها وأما في القسم نحو : لا جرم لقد كان
كذا فلا . ولا عند سيبويه زائدة إلا أنها لزمت جرم لأنها كالمثل . كذا قال الأعلم
.
وقال أبو حيان في الارتشاف : والوقف على لا عند سيبويه ولا يجوز أن توصل بجرم
لأنها ليست نفيها . انتهى .
وعند الفراء لا ركبت مع جرم وصارت بمعنى لا بد ولا محالة ثم استعملت بمعنى حقاً
كما تقدم .
وقال أبو حيان : وذهب الفراء إلى أن جرم بمعنى كسب ركبت مع لا وصارت بمنزلة لا بد
.
ولا يقف على لا . وأن بعدها على تقدير من كما تقول : لا بد أنك ذاهب أي : من أنك
ذاهب . هذا كلامه وفيه نظر .
وأما جرم بدون لا المتصرفة كالتي في البيت فهي فعل متعد عند سيبويه كما يظهر من
قوله : أي : أحقت فزارة بالألف .
وعند الفراء متعدية تارة إلى مفعولين كقوله في سورة هود وليس الأول على تقدير حرف
الجر كما أوله الشارح وإلى واحد تارة كقوله في سورة المائدة .
____________________
وعليه
مشى الزجاج والزمخشري . ولم يقل أحد فيما رأيت إنها فعل لازم غير قطرب .
وقول الشارح المحقق : وحكى الكوفيون فيها عن العرب وجوهاً من التغيير حكى الفراء
منها وجهين : قال في تفسير آية هود : ولكثرتها في الكلام حذفت منها الميم فبنو
فزارة يقولون : لا جر أنك قائم وتوصل من أولها بذا .
أنشدني بعض بني كلاب : ( إن كلاباً والدي لا ذا جرم ** لأهدرن اليوم هدراً في
النعم ) هدر المعنى ذي الشقاشيق اللهم انتهى .
قال السيد المرتضى في أماليه وذكر هذين الوجهين والشعر : المعنى : الذي يدخل العنة
من الإبل وهي الحظيرة . وذلك أن الفحل اللئيم إذا هاج حبس حتى لا يضرب في النوق
الكرام ومنه قول )
الوليد بن عقبة : ( قطعت الدهر كالسدم المعنى ** تهدر في دمشق فلا تريم ) وأصله
المعنن فقلبت إحدى النونات ياء . و اللهم بكسر اللام وفتح الهاء : الذي يلتهم كل
شيء : أي : يبتلعه .
وقد زاد لغة ثالثة وهي لا جرم بضم الجيم وتسكين الراء مع الميم . انتهى .
____________________
وهذه
زيادة على ونقل المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر وجهي الفراء وقال : وحكى غير الفراء
لا أن ذا جرم ولا ذو جرم . انتهى . وهذه الأخيرة زيادة على ما ذكره الشارح .
وزاد ابن الأعرابي ذي على ما نقله عنه ابن مكرم فقال : قال ثعلب : الفراء والكسائي
يقولان : لا جرم تبرئة بمعنى لا بد ويقال : لا جرم ولا ذا جرم ولا عن ذا جرم ولا
جر بلا ميم . وذلك أنه كثر في الكلام فحذفت الميم كما قالوا : حاش لله والأصل :
حاشا . وسو أفعل والأصل : سوف أفعل . انتهى .
ولنرجع الآن إلى شرح البيت فنقول : قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : البيت
لأبي أسماء بن الضريبة وقيل بل هو لعطية بن عفيف . ويقرأ طعنت بضم التاء وهو غلط
والصواب فتحها لأن الشاعر خاطب بها كرزاً العقيلي ورثاه وكان طعن أبا عيينة وهو
حصن بن حذيفة بن بدر الفزاري يوم الحاجر . ويدل على ذلك قوله قبله : ( يا كرز إنك
قد فتكت بفارس ** بطل إذا هاب الكماة وجببوا ) و جببوا بالجيم والباء الأولى مشددة
. قال صاحب الصحاح : التجبيب : النفار . يقال : جبب فلان فذهب . وقال غيره :
التجبيب : الفرار .
____________________
وكرز
بضم الكاف .
وأبو أسماء جاهلي . والضريبة فعيلة من الضرب . وكذا عطية بن عفيف جاهلي . ( الشاهد
الحادي والخمسون بعد الثمانمائة ) أعن ترسمت من خرقاء منزلةً تمامه : ماء الصبابة
من عينيك مسجوم على أن عن أصلها أن فأبدلت الألف عيناً . وسيأتي الكلام عليه إن
شاء الله تعالى في حروف المصدر .
____________________
والهمزة
للاستفهام وعن مصدرية واللام مقدرة قبلها علة للمصراع الثاني . و ترسمت الدار :
تأملت رسمها . والتاء للخطاب . و خرقاء : اسم معشوقة ذي الرمة غيلان وهو قائل
البيت وهو مطلع قصيدة . و منزلة مفعول ترسمت . و الصبابة : رقة الشوق و مسجوم من
سجمت العين الدمع أي : أسالته والتقدير : ألأجل ترسمك ونظرك دارها التي نزلت فيها
بكت عينك . ويأتي إن شاء الله بقية الكلام هناك .
وذو الرمة تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن من أول الكتاب . ( الشاهد الثاني والخمسون
بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاةً ما بقينا في
شقاق ) على أن سيبويه استشهد به على العطف على محل اسم إن المكسورة بتقدير حذف
الخبر من الأول والتقدير : إنا بغاة وأنتم بغاة .
هذا نقله ولم يقل سيبويه كذا وإنما قال : أنتم في نية التأخير وبغاة في نية
التقديم وهذا نصه .
____________________
واعلم
أن ناساً من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد ذاهبان . وذلك
أن معناه معنى الابتداء فيرى أنه قال : هم كما قال : ولا سابق شيئاً إذا كان جائيا
على ما ذكرت لك .
وأما قوله عز وجل و الصائبون فعلى التقديم والتأخير كأنه ابتداء على قوله :
والصابئون بعد ما يمضي الخبر .
وقال الشاعر : كأنه قال : نحن بغاة ما بقينا وأنتم . انتهى كلامه .
قال النحاس : يعني أنه عطف أنتم على الموضع مثل : إني منطلق وزيد . انتهى .
وكذا نقل الزمخشري في المفصل .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله : وأنتم على التقديم والتأخير أي : فاعلموا
____________________
أنا
بغاة وأنتم فأنتم : مبتدأ والخبر : محذوف لعلم السامع والمعنى : وأنتم بغاة .
ويجوز أن يكون المحذوف خبر أن كما تقول : إن هنداً وزيد منطلق . والمعنى إن هنداً
منطلقة وزيد منطلق فحذفت خبر الأول لدلالة الآخر عليه .
والآية التي استشهد بها سيبويه مع البيت إنما هي آية الصائبين كما رأيت .
وأما آية براءة فلم يوردها سيبويه مع البيت وإنما أوردها قبله بثلاثة أبواب وهو
باب العطف على اسم إن قال : تقول : إن عمراً منطلق وسعيد فسعيد يرتفع على وجهين :
حسن وضعيف .
فأما الحسن فأن يكون محمولاً على الابتداء لأن معنى : إن زيداً منطلق زيد منطلق
وإن دخلت توكيداً . وفي القرآن مثله : وأذان من الله ورسوله إلى الناس يوم الحج
الأكبر أن الله بريء )
من المشركين ورسوله .
وأما الوجه الآخر الضعيف فأن يكون محمولاً على الاسم المضمر في المنطلق . فإذا
أردت ذلك وإن شئت جعلت الكلام على الأول فقلت : إن زيداً منطلق وعمراً ظريف فجعلته
على قوله عز وجل : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر يمده من بعده .
وقد رفعه قوم على : لو ضربت عمراً وزيد قائم ما ضرك أي : لو ضربت عمراً وزيد في
هذه الحال كأنه قال : ولو أن ما في الأرض من شجرة أقلام والبحر هذا أمره ما نفذت
كلمات الله . انتهى .
____________________
قال
الشاطبي في شرح الألفية : يمكن أن يكون رفع البحر في الآية على مثل الرفع في إن
المكسورة لا على أنها حالية وإن أجاز ذلك سيبويه بدليل القراءة الأخرى بالنصب
ليتحد معنى القراءتين . انتهى .
وإنما فسر الشارح المحقق أذان بإعلام لأن شرط أن المفتوحة في العطف على اسمها عند
المصنف أن تقع بعد ما يفيد العلم . وإليه ذهب ابن مالك في شرح التسهيل قال : ومثل
إن ولكن في رفع المعطوف : أن إذا تقدمها علم أو معناه ثم مثل العلم بالبيت ومعناه
بهذه الآية .
وقال السيرافي بعد أن قرر كلام سيبويه على التقديم والتأخير : يجوز أن يكون خبر
الذين محذوفاً لدلالة خبر : والصابئون عليه وهو قوله : من آمن بالله فيكون على حد
قول الشاعر : ( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف ) أراد : نحن بما
عندنا راضون وأنت بما عندك راض . ونظم الآية هو : إن الذين آمنوا والذين هادوا
والصابئون والنصارى من آمن بالله واليوم الآخر وعمل صالحاً فلا خوف عليهم وإن فيها
مكسورة وفي البيت مفتوحة .
وقد سوى بينهما سيبويه في الحكم . وكلام المصنف الذي رده الشارح مذكور في شرحه وفي
أماليه قال فيها : إنما سدت أن المشددة والمخففة منها مسد المفعولين في باب ظننت
وأخواتها لاشتمالها على محكوم به ومحكوم عليه وهو ما يقتضيه .
وتتعلق بهما في المعنى على حسب ما كان فلم تقتض أمراً آخر ومن هاهنا
____________________
جاز
كسرها عند إدخال اللام كقولك : ظننت إن زيداً لقائم . ولولا أن معناها ما ذكرناه
لم يجز ذلك .
ألا ترى أنك لا تقول : أعجبني إن زيداً لقائم لتعذر تقديرها في معنى الجملة
المستقلة لكونه )
فاعلاً . ومن هاهنا أيضاً عطف على موضعها بالرفع وإن كانت مفتوحة لفظاً لأنها في
معنى المكسورة باعتبار ما ذكرناه فتقول : ظننت أن زيداً قائم وعمرو كما تقول : إن
زيداً قائم وعمرو .
ولا يجوز ذلك في المفتوحة في غيرها كقولك : أعجبني أن زيداً قائم وعمرو لكونها
ليست في معنى الجملة . انتهى .
وهو مسبوق بابن جني قال : فأما وجه القياس فهو أن المفتوحة وإن لم تكن من مواضع
الابتداء فإنها في التحقيق مثل المكسورة فلما استويا في المعنى والعمل وتقاربا في
اللفظ صارت كل واحدة كأنها أختها .
يزيد ذلك وضوحاً أنك تقول : علمت أن زيداً قائم وعلمت إن زيداً لقائم فتجد معنى
المكسورة كمعنى المفتوحة تؤكد في الموضعين كليهما قيام زيد لا محالة والقيام مصدر
كما ترى .
وتأتى هنا بصريح الابتداء فتقول : قد علمت لزيد أفضل منك كما تقول : علمت أن زيداً
أفضل منك .
أفلا ترى إلى تجاري هذه التراكيب إلى معنى وتناظر بعضها إلى بعض . وسبب ذلك كله ما
ذكرت لك من مشابهة أن لإن لفظاً ومعنى وعملاً . انتهى .
وقد رد ابن جني كلام السيرافي قياساً وسماعاً كما يأتي في البيت الآتي .
وأما قول سيبويه : واعلم أن ناساً من العرب يغلطون يأتي إن شاء الله شرحه في البيت
الثاني بعد هذا البيت .
وهو من قصيدة لبشر بن أبي خازم الأسدي مطلعها :
____________________
وفيها
يقول : ( وسوف أخص بالكلمات أوساً ** فيلقاه بما قد قلت لاقي ) إلى أن قال : ( فإذ
جزت نواصي آل بدر ** فأدوها وأسرى في الوثاق ) ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة
ما بقينا في شقاق ) وسبب هذا الشعر كما في شرح ديوانه ونقله ابن السيرافي في شرح
أبيات سيبويه : )
أن قوماً من آل بدر الفزاريين جاوروا بني لأم من طيئ فعمد بنو لأم إلى الفزاريين
فجزوا تواصيهم وقالوا : قد مننا عليكم ولم نقتلكم وبنو فزارة حلفاء بني أسد فغضب
بنو أسد لأجل ما صنع بالبدريين فقال بشر هذه القصيدة يذكر فيها ما صنع ببني بدر
ويقول للطائيين : فإذ قد جززتم نواصيهم فاحملوها إلينا وأطلقوا من قد أسرتم منهم
وإن لم تفعلوا فاعلموا أنا نبغيكم ونطلبكم فإن أصبنا أحداً منكم طلبتمونا به فصار
كل واحد منا يبغي صاحبه فنبقى في شقاق وعداوة أبداً .
وقد تحرف هذا الكلام على ابن هشام فقال في شرح الشواهد وتبعه العيني : والسبب فيه
أن قوماً من آل بدر جاوروا الفزاريين من بني لأم من طيئ فجزوا نواصيهم وقالوا :
مننا عليكم ولم ولا يصح هذا إلا إذا كان بشر فزارياً وإنما هو من أسد بن خزيمة .
____________________
وقوله
: وسوف أخص بالكلمات أوساً هو أوس بن حارثة بن لأم الطائي أحد الأجواد المشهورين .
وقوله : فإذ جزت نواصي . . . إلخ جزت بالبناء للمفعول . والجز : بالجيم والزاي :
قطع الصوف والشعر . و النواصي : جمع ناصية وهي الشعر في مقدم الرأس فوق الجبهة .
وكانت العرب إذا أنعمت على الرجل الشريف بعد أسره جزوا ناصيته وأطلقوه فتكون
الناصية عند الرجل يفخر بها . و أسرى : جمع أسير . و الوثاق : القيد والحبل ونحوه
.
وقوله : وإلا أي : وإن لم تؤدوا النواصي المجزوزة مع الأسرى . وأخطأ العيني في
قوله : أي وإن لم تجزوا نواصيهم وتطلقوا أسراهم . انتهى . و بغاة : جمع باغ وهو
الطالب أو معناه يبغي بعضنا على بعض . وفي ديوانه : بغاء بكسر الموحدة وضمها مع
المد . أما المكسورة فهو مصدر بغى أي : سعى في الفساد .
وأما المضموم فهو اسم للمصدر يقال : بغيته بغياً : طلبته والاسم البغاء بالضم
وعليهما يكون فيهما مضاف محذوف أي : ذو بغاء . وما : مصدرية ظرفية أي : مدة بقائنا
.
وروى بدله : ما حيينا من الحياة . و الشقاق : مصدر شاقه مشاقة وشقاقاً أي : خالفه
.
وحقيقته أن يأتي كل منهما ما يشق على صاحبه فيكون كل منهما في شق غير شق صاحبه . و
الشق بالكسر : الجانب والمشقة ونصف الشيء . )
____________________
وأورد
عليه بأن فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني وإنما الكثير العكس . وخرجه بعضهم كما
نقله العيني على أن : بغاة خبر إنا وخبر انتم محذوف والتقدير : إنا بغاة وأنتم
كذلك فيكون جملة أنتم كذلك فيكون جملة وأنتم كذلك اعترض بها بين المبتدأ والخبر .
ويرد على التخاريج الثلاثة أن المتكلم لا يثبت لنفسه البغي والعدوان وإنما ينسبه
إلى المخاطب .
ويجاب بأن المعنى ما ذكر في سبب هذا الشعر كما تقدم وليس معناه ما أورد . وكأن
الشارح المحقق لحظ هذا الورود فخرجه على أن قوله ما بقينا في شقاق خبر إنا وجملة
وأنتم وهذا التخريج لا غبار عليه جيد إعراباً ومعنىً . وجعل الجملة اعتراضية أحسن
من جعلها عاطفة لأنه يلزم عليه العطف قبل تمام المعطوف عليه .
وإلى هذا ذهب صاحب اللباب قال : وقد يتوهم أن أن المفتوحة في باب علمت لها حكم
المكسورة في صحة العطف على المحل كقوله : وإلا فاعلموا أنا وأنتم البيت وليس بثبت
لاحتمال أن يكون العطف باعتبار الجمل لا باعتبار التشريك في العامل . وإنه جائز في
الجميع .
قال شارحه الفالي : يعني يحتمل أن لا يكون معطوفاً عليه عطف المفرد باعتبار
تشريكهما في عامل واحد بل باعتبار عطف الجملة على الجملة بأن يكون خبر إنا هو في
شقاق إذ ليس ينسبون البغي إلى أنفسهم بل إلى المخاطبين خاصة . فالعطف باعتبار
الجمل لا باعتبار التشريك . والعطف باعتبار الجمل جائز في الجميع .
وقد أوضح صاحب الكشاف في تفسير سورة المائدة وتبعه البيضاوي كلام
____________________
سيبويه
في التقديم والتأخير فقال : والصائبون رفع على الابتداء وخبره محذوف والنية به
التأخير عما في حيز إن من اسمها وخبرها كأنه قيل : إن الذين آمنوا والذين هادوا
والنصارى حكمهم كذا )
وأنشد سيبويه شاهداً له : ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما بقينا في شقاق ) أي
: فاعلموا أنا بغاة وأنتم كذلك .
فإن قلت : هلا زعمت أن ارتفاعه للعطف على محل أن واسمها قلت : لا يصح ذلك قبل
الفراغ من الخبر لا تقول : إن زيداً وعمرو منطلقان .
فإن قلت : لم لا يصح والنية به التأخير فكأنك قلت : إن زيداً منطلق وعمرو قلت :
لأني إذا رفعته رفعته عطفاً على محل إن واسمها والعامل في محلها هو الابتداء فيجب
أن يكون هو العامل في الخبر لأن الابتداء ينتظم الجزأين في عمله كما تنتظمهما إن
في عملها فلو رفعت الصابئون المنوي به التأخير بالابتداء وقد رفعت الخبر بإن
لأعملت فيهما رافعين مختلفين .
فإن قلت : فقوله : والصابئون معطوف لا بد له من معطوف عليه فما هو قلت : هو مع
خبره المحذوف جملة معطوفة على جملة قوله : إن الذين آمنوا إلخ ولا محل لها كما لا
محل للتي عطفت عليها .
فإن قلت : ما التقديم والتأخير إلا لفائدة فما فائدة هذا التقديم قلت : فائدته
التنبيه على أن الصابئين يتاب عليهم إن صح منهم الإيمان والعمل الصالح فما الظن
بغيرهم وذلك أن الصابئين أبين هؤلاء المعدودين ضلالاً وأشدهم غياً وما سموا صابئين
إلا لأنهم صبؤوا عن الأديان كلها أي : خرجوا .
كما أن الشاعر قدم قوله : وأنتم تنبيهاً على أن المخاطبين أوغل في الوصف بالبغاة
من قومه حيث عاجل به قبل الخبر الذي هو بغاة لئلا يدخل قومه في البغي قبلهم مع
كونهم أوغل فيه منهم . وأثبت قدماً . انتهى .
وكون هذا عند سيبويه من عطف الجمل لا من عطف المفردات هو صريح كلامه .
____________________
قال
الشاطبي : والذي عليه الأكثر أن الرفع في المعطوف على الابتداء هو استئناف جملة
معطوفة على أخرى وهو الأظهر من كلام سيبويه .
ونقل عن الأخفش والفراء والمبرد وابن السراج والفارسي في غير الإيضاح وابن أبي
العافية والشلوبين في آخر قوليه وجماعة من أصحابه .
ومنهم من جعل ذلك عطفاً حقيقة من باب عطف المفردات وأن قولك : إن زيداُ قائم وعمرو
)
عطف فيه عمرو على موضع زيد وهو الرفع كما عطف على موضع خبر ليس في نحو : فلسنا
بالجبال ولا الحديدا وإليه ذهب الشلوبين في أول قوليه وابن أبي الربيع . وهو ظاهر
الإيضاح وجمل الزجاجي ومال وذهب ابن مالك في شرح التسهيل إلى الأول ونصره وزيف
غيره وهو الصحيح من المذهبين المعتمد المعضود بالدليل .
وقد تصدى ابن أبي العافية لنصره في مسألة أفردها وابن الزبير من شيوخ شيوخنا اعتنى
بالمسالة جداً وطول فيها الكلام . وهو الذي ذهب إليه من اعتمدناه من شيوخنا فتلقيناه
عنهم .
فمن أراد الترجيح بين المذهبين فعليه بكلام ابن الزبير ففيه غاية الشفاء في
المسألة .
____________________
وقد
احتج له ابن مالك بأنهم اقتصروا في هذا العطف على الإتيان به بعد تمام الجملة .
ولو كان من عطف المفردات لكان وقوعه قبل التمام أولى لأن وصل المعطوف بالمعطوف
عليه أجود من فصله .
وأيضاً لو كان كذلك لجاز وقوع غيره من التوابع . ولم يحتج سيبويه في قوله تعالى :
قل إن ربي يقذف بالحق علام الغيوب إلى أن يجعله خبر مبتدأ أو بدلاً من فاعل يقذف .
واستدل بغير ذلك مما يطول به الكلام . انتهى كلامه المقصود منه .
وبشر بن أبي خازم شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين بعد
الثلثمائة .
وأنشد بعده ( فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ** لشيء ولا أني من الموت أفرق ) ( ولا
أنا ممن يزدهيه وعيدكم ** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق )
____________________
على
أن تخريج البيت السابق وهو جعل جملة وأنتم بغاة اعتراضاً بين أنا وخبره وهو قوله :
ما بقينا في شقاق لا يتمشى مثله هنا لأن قوله : ولا أنني بالمشي في القيد أخرق عطف
على أني تخشعت . فلو جعل قوله : ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم جملة اعتراضية لكان لا
داخلة على معرفة بلا تكرير ولا يجوز ذلك إلا عند المبرد .
ولو روى : ولا إنني بالمشي بالكسر لارتفع الإشكال وكان قوله : ولا أنا ممن يزدهيه
مستأنفاً )
ولا مكررة . يريد أن قوله : ولا أنا ممن . . . إلخ معطوف على اسم أن المفتوحة في
قوله : فلا تحسبي أني تخشعت البتة كما أجاز سيبويه رفع المعطوف على اسم أن
المفتوحة ولا يمكن على وجه لا يكون فيه العطف على اسم المفتوحة كما أمكن تخريج
الآية والبيت قبله .
وإن جعل جملة و لا أنا ممن . . . إلخ معترضة بين المتعاطفين منع بعدم تكرر لا
فإنها يجب تكررها عند الجمهور في غير دعاء وغير جواب قسم .
ولو كانت الرواية في أنني الثالثة الكسر لجعلت الواو في ولا أنا استئنافية وكان
مدخولها مع ما بعده جملتين مستأنفتين وزال الإشكال بتكرر لا . وحينئذ لم يتعين
التخريج على قول سيبويه .
لكنه لم يرو الكسر فتحتم التخريج على قول سيبويه .
وتخريج الآية والبيت على ما ذكره الشارح السيرافي فإنه خالف سيبويه وزعم أن أن
المفتوحة لا تلحق بالمكسورة في ذلك لأن المكسورة على شرط الابتداء وليست المفتوحة
كذلك إنما تجعل الكلام شاناً وحديثاً بمنزلة المفرد . وليس في
____________________
قوله
تعالى : أن الله بريء من المشركين ورسوله دليل له لصحة حمله على وجهين جيدين :
أحدهما : أن يكون ورسوله عطفاً على أن وما بعدها لأنها اسم مفرد فالتقدير : براءة
الله من المشركين ورسوله أي : وبراءة رسوله . وهذا وجه جيد كما تقول : أعجبني أنك
منطلق وإسراعك .
والثاني : أن يكون ورسوله معطوفاً على الضمير في بريء وحسن للفصل . وإذا كان كذلك
لم يكن في الآية دليل على ما قالوه . فالاستشهاد بها وهم جرى على سيبويه والنحويين
.
وقد رد عليه ابن جني في إعراب الحماسة وأثبت ما ذهب إليه سيبويه سماعاً وقياساً .
وهذه عبارته : وفي قوله : شاهد لجواز استدلال سيبويه بقول الله سبحانه : أن الله
بريء من المشركين ورسوله بالرفع على معنى الابتداء ورد وردع لإنكار من أنكر ذلك
عليه من بعض المتأخرين .
وقوله : إن هذا إنما يسوغ بعد إن المكسورة لأنها على شرط الابتداء وليس في الآية
إن مكسورة وإنما فيها أن مفتوحة والمفتوحة لا تصرف الكلام إلى معنى الابتداء وإنما
تجعل الكلام شأناً وحديثاً ومواضعها تختص بالمرد لا بالجملة .
هذا معنى ما أورده هذا المنكر على صاحب الكتاب في هذا الموضع . والقول فيما بعد مع
)
صاحب الكتاب لاعليه سماعاً وقياساً .
أما السماع فما جاء في هذا البيت وهو قوله : فلا تحسبوا أني تخشعت بعدكم
____________________
ثم
قال : ولا أنا ممن يزدهيه وعيدكم فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على قوله : أني
تخشعت وهو يريد معنى أن المفتوحة . يدل على ذلك رواية من روى : ولا أن نفسي
يزدهيها وعيكم وقد جاء ذلك أيضاً في التنزيل قال الله عز اسمه : وأن هذه أمتكم
أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقوني . فعطف الجملة من المبتدأ والخبر على أن وفيها معنى
اللام كما تقدم . وهذا يزيل معنى الابتداء عنده ويصرف الكلام إلى معنى المصدر أي :
ولكوني ربكم فاتقوني .
ونحوه أيضاً قوله تعالى : ضرب لكم مثلاً من أنفسكم هل لكم مما ملكت أيمانكم من
شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء أي : فتستووا .
____________________
قال
أبو علي : فأوقع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر موقع الفعل المنصوب بأن والفعل
إذا انتصب انصرف القول به والرأي فيه إلى مذهب المصدر .
ومعلوم أن المصدر أحد الآحاد ولا نسبة بينه وبين الجملة وقد ترى الجملة التي هي
قوله : وأنا ربكم معطوفة على أن المفتوحة وعبرتها عبرة المفرد من حيث كانت مصدراً
المصدر أحد الأسماء المفردة .
ووجدت أنا في التنزيل موضعاً لم أر أبا علي ذكره على سعة بحثه ولطف مأخذه وهو قوله
تعالى : أعنده علم الغيب فهو يرى أي : فيرى .
ألا ترى أن الفاء جواب الاستفهام وهي تصرف الفعل بعدها إلى الانتصاب بأن مضمرة وأن
الفعل المنصوب بها مصدر في المعنى لا محالة حتى كأنه قال : أعنده علم الغيب فرؤيته
كما أن وأما وجه القياس فهو أن أن المفتوحة وإن لم تكن من مواضع الابتداء فإنها من
مواضع التحقيق والاعتلاء كما أن إن المكسورة كذلك فلما استوتا في العمل والمعنى
تقاربتا في اللفظ صارت كل واحدة كأنها أختها . )
يزيد ذلك وضوحاً أنك تقول : علمت أن زيداً قائم وعلمت إن زيداً لقائم فتجد معنى
المكسورة كمعنى المفتوحة ويؤكد في الموضعين كليهما قيام زيد لا محالة والقيام مصدر
كما ترى . نعم وتأتي هنا بصريح الابتداء فتقول : علمت لزيد أفضل منك كما تقول :
علمت أن زيداً أفضل منك .
أفلا ترى إلى تجاري هذه التراكيب إلى معنىً واحد وتناظر بعضها إلى بعض . وسبب ذلك
كله ما ذكرته لك من مشابهة أن لإن لفظاً وعملاً . فإذا كان كذلك سقط اعتراض هذا
المتأخر على ما أورده سيبويه وأسقط كلفته عنه .
____________________
ويزيد
فيما نحن عليه وضوحاً قوله فيما بعد : ولا أنني بالمشي في القيد أخرق فعاد إلى أن
البتة . انتهى كلام ابن جني .
والبيتان من أبيات سبعة لجعفر بن علبة الحارثي أوردها أبو تمام في أول الحماسة وهي
: ( عجبت لمسراها وأنى تخلصت ** إلي وباب السجن دوني مغلق ) ( عجبت لمسراها وسرب
أتت به ** بعيد الكرى كادت له الأرض تشرق ) ( ألمت فحيت ثم قامت فودعت ** فلما
تولت كادت النفس تزهق ) ( فلا تحسبي أني تخشعت بعدكم ** لشيء ولا أني من الموت
أفرق ) ( ولا أن نفسي يزدهيها وعيدكم ** ولا أنني بالمشي في القيد أخرق ) ( ولكن
عرتني من هواك ضمانة ** كما كنت ألقى منك إذ أنا مطلق ) قوله : هواي مع الركب . .
. إلخ أورده القزويني في تلخيص المفتاح
____________________
على
أن تعريف المسند إليه بالإضافة لكونه أخصر طريق .
قال السعد في شرحه : هواي أي : مهويي وهذا أخصر من الذي أهواه ونحو ذلك .
والاختصار مطلوب لضيق المقام وفرط السآمة لكونه في السجن وحبيبته على الرحيل . و
مصعد : ذاهب في الأرض . و الجنيب : المجنوب المستتبع . و الجثمان : الشخص . و
الموثق : المقيد . ولفظ البيت خبر ومعناه تأسف وتحسر على بعد الحبيب . انتهى .
وقال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : الركب : جمع راكب مثل صحب جمع صاحب و
الجثمان الجسم قاله الأصمعي . )
ومعنى البيت : هواي راحلة مبعدة مع ركبان الإبل القاصدين نحو اليمن وبدني مقيد
بمكة .
وإنما قال هذه الأبيات لما كان محبوساً بمكة لدم كان عليه لبني عقيل . وذكر في هذه
الأبيات صبره على البلاء وعدم خوفه من الموت واستهانته بوعيد المتوعد وحذقه بمشي
المقيد .
____________________
وقوله
: عجبت لمسراها المسرى : مصدر ميمي بمعنى السرى والضمير لخيال الحبيبة وهي مؤنثة
وهي وإن لم يجر لها ذكر لكنها معلومة من المقام . وأنى معناه كيف أو من أين و
تخلصت : توصلت . يقول : تعجبت من سير هذه الخيال ومن توصلها إلي مع هذه الحال وهو
أن باب السجن مغلق علي .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : لا يجوز عطف أنى على مسراها لأن الاستفهام لا يعمل
فيه ما قبله بل هي منصوبة بقوله : تخلصت وتم الكلام على قوله : عجبت لمسراها ثم
استأنف كلاماً آخر بقوله : وأنى تخلصت أي : ومن أين تخلصت .
هذا وضع الإعراب ومقتضى الصنعة فيه . فأما حقيقة المعنى فكأنه قال : عجبت لمسراها
ولتخلصها إلي لأن العجب اشتمل عليهما جميعاً . ولا يستنكر أن يكون وضع الإعراب
مخالفاً لمحصول المعنى .
ألا تراك تقول : أهلك والليل فمعناه الحق أهلك قبل الليل وإعرابه على غير ذلك .
انتهى .
وقوله : وسرب أتت به السرب بالكسر : الجماعة من النساء يريد نساء رآهن معها في
نومه . و أتت به أي : بالسرب . و أشرقت الأرض : أضاءت . وقوله : ألمت فحيت . . .
إلخ الإلمام : الزيارة الخفيفة . و حيت من التحية . وزهقت النفس : خرجت مسرعة .
حكى حال الخيال فقال : جاءتنا فسلمت علينا ثم لم تلبث إلا قليلاً حتى قامت وأعرضت
فلما تولت كادت النفس تخرج في أثرها .
وقوله : فلا تحسبي أني . . إلخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . و تخشع : تكلف
الخشوع .
والخشوع يكون في الصوت والبصر والخضوع في البدن .
وقال ابن جني : تخشعت بمعنى خشعت وقد جاء تفعل بمعنى فعل . و أفرق : أخاف وفعله من
باب فرح .
وقوله : ولا أنا ممن . . . إلخ غالب رواية الحماسة : ولا أن نفسي يزدهيها . . .
إلخ ونبه شراحها على الروايتين . وازدهاه : استخفه من الزهو وهو الخفة . والأخرق
الذي لم يحسن )
عمل شيء يقال : فلان أخرق إذا لم يحسن
____________________
شيئاً
وفلان صنع بفتحتين إذا أحسن عمل كل شيء .
يقول : لا تظني أن نفسي تستخف من الوعيد ولا أنها تضجر من المشي في القيد . يستهين
بما اجتمع عليه من الحبس والقيد ويبجح بالصبر على الشدائد . وبهذين البيتين أدخلت
هذه الأبيات في باب الحماسة .
وقوله : ولكن عرتني . . . إلخ عراه يعروه : أصابه ونزل به . و الضمانة : الزمانة
وهو عدم الاستطاعة على النهوض والقيام .
قال ابن جني : يجوز أن تعلق منك بنفس عرتني فلا يكون فيها ضمير ولا يجوز أن تكون
حالاً من ضمانة على أنها صفة في الأصل لضمانة فلما قدمت صارت حالاً ففيها إذن ضمير
لتعلقها بالمحذوف .
وأما الكاف فيجوز أن تكون وصفاً لضمانة فتعلق بمحذوف وتتضمن ضميرها ويجوز أن تكون
منصوبة على المصدر أي : عرتني ضمانة عرواً مثل ما كانت تعروني وأنا مطلق .
أي : لم ينسني ما أنا فيه من الشدة ما كنت عليه أيام الرخاء . فيجري هذا مجرى قولك
: قمت في حاجتك كما كنت أنهض بها . انتهى .
وروى : صبابة بدل ضمانة وهي رقة الشوق . قال الطبرسي : والأجود حينئذ أن تكون ما
موصوفة لا موصولة لأن القصد تشبيه صبابة مجهولة بمثلها والتقدير : عرتني صبابة
تشبه صبابة كما كنت أكابدها فيك زمن إطلاقي . و جعفر بن علبة بضم العين المهملة
وسكون اللام بعدها موحدة ينتهي نسبه إلى كعب بن الحارث . والحارث : قبيلة من اليمن
.
قال الأصفهاني في الأغاني : ويكنى جعفر أبا عارم بولد له . وهو من مخضرمي الدولتين
الأموية والعباسية . وجعفر شاعر مقل غزل فارس مذكور في قومه .
____________________
وقتل
جعفر في قصاص اختلف في سببه على ثلاثة أقوال ثالثها : أنه كان يزور نساء من عقيل
بن كعب وكانوا متجاورين هم وبنو الحارث .
فأخذته عقيل وكشفوا عورته وكتفوه وضربوه بالسياط ثم أقبلوا به إلى النسوة اللاتي
كان يتحدث إليهن ليغيظوهن ويفضحوه عندهن فقال لهم : يا قوم لا تفعلوا فإن هذا
الفعل مثلة )
وأنا أحلف لكم أن لا أزور بيوتكم أبداً . فلم يقبلوا منه فقال لهم : حسبكم ما مضى
ومنوا علي بالكف عني فإني أعده نعمة لكم لا أكفرها أبداً أو فاقتلوني وأريحوني
فأكون رجلاً آذى قومه في دارهم فقتلوه . فلم يفعلوا .
وجعلوا يكشفون عورته بين أيدي النساء ويضربونه ويغرون به سفهاءهم حتى شفوا أنفسهم
منه ثم خلوا سبيله فلم تمض إلا أيام قليلة حتى عاد جعفر ومعه صاحبان له فدفع
راحلته حتى أولجها البيوت ثم مضى .
فلما كان في نقرة من الرمل أناخ هو وصاحباه وكانت عقيل أقفى خلق الله لأثر فتبعوه
حتى انتهوا إليه وليس معهم سلاح ولا عصاً فوثب عليهم جعفر وصاحباه بالسيوف فقتلوا
منهم رجلاً وجرحوا آخر وافترقوا .
فاستعدت عليهم عقيل السري بن عبد الله الهاشمي عامل المنصور على مكة فأحضرهم
وحبسهم وأقاد من الجارح ودافع عن جعفر وكان يحب أن يدرأ عنه الحد لخؤولة السفاح في
بني الحارث ولأن أخت جعفر كانت تحت السري وكانت حظيةً عنده إلى أن قاموا عنده
قسامة أنه قتل صاحبهم وتوعدوه بالخروج إلى أبي جعفر المنصور والتظلم إليه فحينئذ
دعا جعفر وأقاد منه .
فلما خرج جعفر إلى القود انقطع شسع نعله فوقف فأصلحه فقال له رجل : ما يشغلك عن
هذا ما أنت فيه فقال :
____________________
(
أشد قبال نعلي أن يراني ** عدوي للحوادث مستكينا ) وهن أبي عبيدة أنه قال : لما
قتل جعفر قام نساء الحي يبكين عليه وقام أبوه إلى كل شاة وناقة فنحر أولادها
وألقاها بين أيديها وقال : ابكين معنا على جعفر . فما زالت النوق ترغو والشياه
تثغو والنساء يصحن ويبكين وهو يبكي معهن فما رئي يوم كان أوجع وأحرق مأتماً وأطال
صاحب الأغاني ترجمته وفي هذا القدر كفاية .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : (
فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقيار بها لغريب ) على أن قوله : قيار مبتدأ :
حذف خبره والجملة اعتراضية بين اسم إن وخبرها والتقدير : فإني وقيار بها كذلك
لغريب .
____________________
وإنما
لم يجعل الخبر لقيار ويكون خبر إن محذوفاً لأن اللام لا تدخل في خبر المبتدأ حتى
يقدم نحو : لقائم زيد . وكذلك الصابئون في الآية مبتدأ خبره محذوف الجملة اعتراض
كذلك كما قرره الشارح .
وهذا تخريج له خلاف مذهب سيبويه فإن الجملة عنده في نية التأخير وهي معطوفة لا
معترضة كما تقدم نصه وإيضاحه في كلام الكشاف . وكأنه عدل عنه لئلا يلزم تقديم
الجملة المعطوفة على بعض الجملة المعطوف عليها كما أورده عليه ابن هشام في المغني
.
وجوز السيرافي أن يكون الخبر للصائبين ويكون خبر إن محذوفاً كما تقدم عنه . وأورد
عليه أيضاً ابن هشام بأن فيه الحذف من الأول لدلالة الثاني وإنما الكثير العكس .
وذهب الفراء إلى أن الصابئون معطوف على اسم إن فيشاركه في الخبر فهو من عطف مفرد
على مفرد وهذا نصه في تفسير الآية وقال : وأما الصابئون فإن رفعه على أن عطف على
الذين والذين حرف على جهة واحدة في رفعه ونصبه وخفضه فلما كان إعرابه واحداً وكان
نصب إن ضعيفاً وضعفه أنه يقع على الاسم ولا يقع على خبره جاز رفع الصابئين .
ولا أستحب أن أقول : إن عبد الله وزيد قائمان لتبين الإعراب في عبد الله . وقد كان
الكسائي يجيزه لضعف غن .
وقد أنشدوا هذا البيت رفعاً ونصباً : ( فمن يك أمسى بالمدينة رحله ** فإني وقياراً
بها لغريب ) و قيار . وليس هذا بحجة للكسائي في إجازته : إن عمراً وزيد قائمان لأن
قياراً قد عطف على اسم مكني عنه والمكني لا إعراب له فسهل ذلك كما سهل في الذين
إذا عطفت عليه الصابئون .
وهذا أقوى في الجواز من الصابئون لأن المكني لا يتبين فيه الرفع في حال . والذين
قد يقال )
____________________
وأنشدني
: ( وإلا فاعلموا أنا وأنتم ** بغاة ما حيينا في شقاق ) وقال آخر : ( يا ليتني
وأنت يا لميس ** ببلد ليس به أنيس ) وأنشدني بعضهم : ( يا ليتني وهما نخلو بمنزلة
** حتى يرى بعضنا بعضاً ونأتلف ) قال الكسائي : نرفع الصابئون على إتباعه الاسم
الذي في هادوا ونجعله من قوله : إنا هدنا إليك لا من اليهودية .
وجاء التفسير بغير ذلك لأنه وصف الذين آمنوا بأفواههم ولم تؤمن قلوبهم ثم ذكر
اليهود والنصارى فقال : من آمن منهم فله كذا فجعلهم يهوداً ونصارى . انتهى كلام
الفراء .
قال الزجاج في تفسير الآية بعد أن نقل مذهب الكسائي والفراء : هذا التفسير إقدام
عظيم على كتاب الله وذلك أنهم زعموا أن نصب إن ضعيف لأنها إنما تغير الاسم ولا
تغير الخبر .
وهذا غلط لأن إن قد عملت عملين : الرفع والنصب وليس في العربية ناصب ليس معه مرفوع
لأن كل منصوب مشبه بالمفعول والمفعول لا يكون بغير فاعل إلا فيما لم يسم فاعله .
وكيف يكون نصب إن ضعيفاً وهي تتخطى الظروف فتنصب ما بعدها نحو : إن فيها قوماً
جبارين ونصب إن من أقوى المنصوبات .
____________________
وقال
الكسائي : الصابئون نسق على ما في هادوا كأنه قال : هادوا هم والصابئون .
وهذا القول خطأ من جهتين : إحداهما : أن الصابئ لا يشارك اليهودي في اليهودية .
وإن ذكر أن هادوا في معنى تابوا فهذا خطأ في هذا الموضع أيضاً لأن معنى الذين
آمنوا هاهنا إنما هو إيمان بأفواههم لأنه يعنى به المنافقون .
وقال سيبويه والخليل وجميع البصريين : إن الصابئين محمول على التأخير ومرفوع
بالابتداء المعنى : إن الذين آمنوا والذين هادوا من آمن بالله واليوم الآخر فلا
خوف عليهم والصابئون والنصارى كذلك أيضاً .
وأنشدوا في ذلك قول الشاعر : وإلا فاعلموا أنا وأنتم البيت )
المعنى : أنا بغاة وأنتم أيضاً كذلك .
وزعم سيبويه أن قوماً من العرب يغلطون فيقولون : إنهم أجمعون ذاهبون وإنك وزيد
ذاهبان .
فجعل سيبويه هذا غلطاً وجعله كقول الشاعر : انتهى كلام الزجاج .
ومراد سيبويه بالغلط توهم عدم ذكر إن لا حقيقة الغلط . كيف وهو القائل إن العرب لا
تطاوعهم ألسنتهم في اللحن والخطأ كما نقل عنه في المسألة الزنبورية .
قال الشاطبي في شرح الألفية : يعني سيبويه أنهم توهموا أن ليس ثم إن حتى كأنهم
قالوا : هم أجمعون ذاهبون وأنت وزيد ذاهبان . وأنس بهذا عدم ظهور الإعراب في اسم
إن في الموضعين .
والدليل على صحة هذا أنه لم يجيء فيما ظهر فيه الإعراب نحو : إن زيداً وعمرو
____________________
قائمان
إذ لو كان الرفع على غير التوهم لكان خليقاً أن يجيء مع ظهوره . فلما لم يكن كذلك
دل على أنهم اعتقدوا أن المنصوب مرفوع فعطفوا على اللفظ كما قال الشاعر : ولا سابق
شيئاً بالخفض متوهماً أنه قال : لست بمدرك ما مضى فلذلك جعله سيبويه من باب الغلط
. والله أعلم .
انتهى .
وكذا في المغني لابن هشام قال : أجيب عنه بأمرين : أحدهما : أنه عطف على توهم عدم
ذكر إن .
والثاني : أنه تابع لمبتدأ محذوف أي : إنك أنت وزيد ذاهبان . وعليهما خرج قولهم :
إنهم أجمعون ذاهبون . انتهى .
وفي أمالي الزجاجي الصغرى : أخبرنا أبو جعفر أحمد بن محمد بن رستم الطبري قال :
أخبرنا أبو عثمان المازني قال : قرأ محمد بن سليمان الهاشمي وهو أمير البصرة على
المنبر : إن الله وملائكته يصلون على النبي بالرفع فعلم أنه قد لحن فبعث إلى
النحويين وقال لهم : خرجوا له وجها . فقالوا : نعطف به على موضع إن لأنها داخلة
على المبتدأ والخبر . فأحسن صلتهم ولم يرجع عنها لئلا يقال : لحن الأمير .
وأخبرنا أبو إسحاق الزجاج قال : أخبرنا أبو العباس المبرد عن المازني قال : حدثني
الأخفش قال : كان أمير في البصرة يقرأ على المنبر : إن الله وملائكته يصلون على
النبي بالرفع فصرت إليه ناصحاً له ومنبهاً فتهددني وأوعدني وقال : تلحنون أمراءكم
ثم عزل وتقلد محمد بن )
سليمان الهاشمي فكأنه تلقنها من في المعزول فقلت : هذا هاشمي نصيحته واجبة فجبنت
عنه وخشيت أن يتلقاني بمثل ما تلقاني به الأول .
____________________
ثم
حملت على نفسي فأتيته فإذا هو في غرفة له وعنده أخوه والغلمان على رأسه فقلت : هذا
. وأومأت إلى أخيه فنهض أخوه وتفرق الغلمان فقلت : أصلح الله الأمير أنتم أهل بيت
النبوة ومعدن الرسالة والفصاحة وتقرأ : إن الله وملائكته بالرفع وهو لحن ولا وجه
له فقال : جزاك الله خيراً قد نبهت ونصحت فانصرف مشكوراً . فانصرفت فلما صرت في نصف
الدرجة إذا قائل يقول لي : قف . فوقفت وخفت أن يكون أخوه أغراه بي فإذا بغلة سفواء
وغلام وبدرة وتخت ثياب وقائل يقول : هذا لك قد أمر به الأمير . فانصرفت مغتبطاً .
انتهى كلامه .
هذا وقد أنشد سيبويه البيت بنصب قيار وأورده في باب التنازع من أول الكتاب مستشهداً
به لتقوية ما جاز من حذف المفعول الذي هو فضلة مستغنى عنها في قولهم : ضربت وضربني
زيد .
قال السيرافي : يجوز أن يكون لغريب خبر إني وخبر قيار محذوفاً . ويجوز العكس .
انتهى .
وكذلك أورده أبو زيد في نوادره بالنصب لا غير .
قال السكري : أراد : فإني لغريب وإن قياراً أيضاً لغريب . ولو قال لغريبان كان
أجود .
قال أبو عمر : بعضهم ينشد فإني وقيار بالرفع والنصب أجود كأنه أراد فإني لغريب
وقيار ثم قدم هذا بعد ما كان موضعه التأخير . فعلى هذا يجوز الرفع . انتهى ما في
نوادر أبي زيد .
وكذلك رواه المبرد في الكامل بالنصب وقال : فإن وقياراً بها لغريب أراد : فإني
لغريب بها وقياراً . ولو رفع لكان جيداً . تقول : إن زيداً منطلق وعمراً وعمرو .
انتهى .
____________________
واعلم
أن العيني قد خبط هنا وخلط فإن ابن هشام أنشد البيت في شرح الألفية بالرفع وهو
قوله : فإني الضمير اسم إن وخبرها محذوف . ويقال لغريب خبر إني وقيار مبتدأ وخبره
محذوف . ويقال : لغريب خبر عن الاسمين جميعاً لأن فعيلاً يخبر به عن الواحد فما
فوقه نحو : والملائكة بعد ذلك ظهير .
ورده شيخ شيخي الخلخالي بأنه لا يكون للاثنين وإن كان يجوز كونه للجمع . وكذلك قال
في فعول فقال : لا يقال رجلان صبور وإن صح في الجمع . وقد قيل في قوله تعالى : عن
اليمين )
وعن الشمال قعيد إن المراد قعيدان .
ثم كلامه يوهم أن ذلك يقال بالقياس وليس كذلك وإنما المانع في البيت من أن يكون
غريب خبراً عن الاسمين هو لزوم توارد عاملين على الخبر وإنما يصح هذا على رأي
الكوفيين . هذا كلامه .
وقوله : خبر إن محذوف هذا أحد وجهي ما جوزه السيرافي في رواية النصب كما تقدم .
وأما على رواية الرفع فيتعين جعل قوله : لغريب خبر إني ولا يجوز أن يكون خبراً
لقيار لأن خبر المبتدأ لا يجوز أن يقترن باللام إلا إذا تقدم على المبتدأ نحو :
لقائم زيد .
وقوله : ويقال لغريب خبر عن الاسمين جميعاً هذا إنما يتصور على رواية نصب قيار لا
على رواية رفعه . وفي بقية كلامه ما لا يخفى على المتأمل .
وهذا البيت أورده صاحب تلخيص المفتاح في أول باب المسند على أنه قد يحذف المسند
لقصد الاختصار والاحتراز عن العبث في الظاهر مع ضيق المقام بسبب التحسر ومحافظة
الوزن .
وهذه النكتة تجري فيه على رواية نصب قيار ورفعه فلا ينبغي قصرها على رواية الرفع
كما صنع السعد في المطول وتبعه العباسي في معاهد التنصيص وكأنه لم تبلغهما رواية
النصب .
____________________
ولفظ
البيت خبر ومعناه التحسر على الغربة والتوجع من الكربة . و قيار بفتح القاف وتشديد
المثناة التحتية قال أبو زيد في نوادره : هو اسم جملة . ونقل عن الخليل أنه اسم
فرس له غبراء وإليه ذهب أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب وقال : هو الفرس الذي
أوطأه ضابئ بعض صبيان أهل المدينة حين أخذه عثمان وحبسه . وقيل : اسم رجل .
قاله العيني .
والسر في تقديمه على الأولين قصد التسوية بينهما في التحسر على الاغتراب كأنه أثر
في غير ذوي العقول أيضاً . ولو قال : إني غريب وقيار لجاز أن يتوهم أن له مزية على
قيار في التأثر عن الغربة لأن ثبوت الحكم أولاً أقوى فقدمه لذلك . قاله السعد .
من يك أمسى بالمدينة رهطه بدون الفاء في أوله على الخرم بالراء المهملة . وكذا
رواية المبرد في الكامل . وهو أول أبيات )
لضابئ بن الحارث البرجمي قالها وهو محبوس بالمدينة في زمن عثمان بن عفان رضي الله
عنه .
وبعده أبيات ثلاثة أوردها المبرد في الكامل وهي :
____________________
(
وما عاجلات الطير تدني من الفتى ** نجاحاً ولا عن ريثهن يخيب ) ( ورب أمور لا
تضيرك ضيرةً ** وللقلب من مخشاتهن وجيب ) ( ولا خير فيمن لا يوطن نفسه ** على
نائبات الدهر حين تنوب ) وزاد بعدها بيتاً ابن قتيبة في ترجمة قائلها من كتاب
الشعراء وهو : ( وفي الشك تفريط وفي الحزم قوة ** ويخطئ الفتى في حدسه ويصيب )
وزاد بعده بيتاً أبو تمام في مختار أشعار القبائل وهو : ( ولست بمستبق صديقاً ولا
أخاً ** إذا لم تعد الشيء وهو يريب ) قوله : أمسى بالمدينة رحله الرحل : المنزل .
وروي : رهطه رهط الرجل : قومه وقبيلته الأقربون .
وقوله : وما عاجلات الطير . . . إلخ قال المبرد في الكامل : يقول : إذا لم تعجل له
طير سانحة فليس ذلك بمبعد خبراً عنه ولا إذا أبطأت خاب فعاجلها لا يأتيه بخير
وآجلها لا يدفع عنه إنما له ما قدر له . والعرب تزجر على السانح وتتبرك به وتكره
البارح وتتشاءم به . و السانح : ما أراك مياسره فأمكن الصائد . و البارح : ما أراك
ميامنه فلم يمكن الصائد إلا أن يتحرف له .
قال الشاعر : ( لا يعلم المرء ليلاً ما يصبحه ** إلا كواذب مما يخبر الفال ) (
والفال والزجر والكهان كلهم ** مضللون ودون الغيب أقفال ) انتهى .
____________________
وقال
ابن خلف : إذا خرج الإنسان من منزله فأراد أن يزجر الطير فما مر به في أول ما يبصر
فهو عاجلات الطير . وإن أبطأت عنه وانتظرها فقد راثت أي : أبطأت . والأول عندهم
محمود والثاني مذموم .
يقول : ليس النجح بأن يعجل الطائر الطيران كما يقول الذين يزجرون الطير ولا الخيبة
في إبطائها . وهذا رد على مذهب الأعراب . )
وقوله : ورب أمور لا تضيرك . . . إلخ قال المبرد : تقول ضاره يضيره ضيرة ولا ضير
عليه ويقال : أصابه ضر بالضم وأصابه ضر بمعنى . والضر بالفتح : مصدر والضر بالضم :
اسم .
وقد يكون الضر من المرض والضر عاماً . وهذا معنىً حسن .
وقد قال أحد المحدثين وهو أبو العتاهية : ( وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو
بإذن الله من حيث يحذر ) وقال الله عز وجل : فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه
خيراً كثيراً . انتهى . و المخشاة : مصدر ميمي بمعنى الخشية وهي الخوف . و الوجيب
: السقوط والخفقان والاضطراب .
وقوله : ولا خير فيمن لا يوطن نفسه قال المبرد : نظيره قول كثير :
____________________
(
أقول لها يا عز كل مصيبة ** إذا وطنت يوماً لها النفس ذلت ) وكان عبد الملك بن
مروان يقول : لو كان هذا البيت في صفة الحرب لكان أشعر الناس .
وحكي عن بعض الصالحين أن ابناً له مات فلم ير به جزع فقيل له في ذلك فقال : هذا
أمر كنا نتوقعه فلما وقع لم ننكره .
وقوله : إذا لم تعد الشيء أي : إذا لم تتعده وتتجاوزه . ويريب من أراب الشيء إذا
أوقع في ريبة وشبهة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الثمانمائة ) أم الحليس لعجوز شهربه على
أنه دخول اللام على خبر المبتدأ المؤخر مجرداً من إن كما هنا . وقدر
____________________
بعضهم
: لهي عجوز لتكون في التقدير داخلة على المبتدأ .
قال ابن السراج في الأصول : قال أبو عثمان : وقرأ سعيد بن جبير : إلا أنهم ليأكلون
الطعام فتح أن وجعل اللام زائدة كما زيدت في قوله : ( أم الحليس لعجوز شهربه **
ترضى من اللحم بعظم الرقبه ) انتهى .
وعند ابن جني غير زائدة لكنها في البيت ضرورة . قال في سر الصناعة : وأما الضرورة
التي تدخل لها اللام في غير خبر إن فمن ضرورات الشعر ولا يقاس عليها . والوجه أن
يقال : لأم الحليس عجوز شهربه كما يقال : لزيد قائم .
وقال الآخر : فهذا يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون أراد : لخالي أنت فأخر اللام
إلى الخبر ضرورة .
والآخر : أن يكون أراد : لأنت خالي فقدم الخبر على المبتدأ وإن كانت فيه اللام
ضرورة .
وأخبرني أبو علي أن أبا الحسن حكى : إن زيداً وجهه لحسن . فهذه أيضاً ضرورة .
وربما أدخلوها في خبر أن المفتوحة أخبرنا علي بن محمد يرفعه بإسناده إلى قطرب :
____________________
(
ألم تكن حلفت بالله العلي ** أن مطاياك لمن خير المطي ) والوجه هنا كسر إن لنزول
الضرورة إلا أنا سمعناها مفتوحة الهمزة . انتهى .
وكذا عد هذا ابن عصفور من الضرائر مع أنه أورد الآية وما حكاه أبو الحسن الأخفش
وجعلهما من الشاذ .
وأما التخريج على إضمار المبتدأ فلم يرتضه ابن جني لما فيه من الجمع بين حذف
المؤكد وتوكيده .
قال بعد ما نقلنا عنه : وأخبرنا أبو علي أن أبا إسحاق ذهب في قوله تعالى : إن هذان
لساحران إلى أن إن بمعنى نعم وهذان مرفوع بالابتداء وأن اللام في لساحران داخلة في
)
موضعها على غير ضرورة والتقدير على هذا : نعم هذان لهما ساحران .
وحكي عن أبي إسحاق أنه قال : هذا الذي عندي فيه . والله أعلم . وكنت عرضته على
عالمنا محمد بن يزيد وعلى إسماعيل بن إسحاق فقبلاه وذكرا أنه أجود ما سمعناه .
واعلم أن هذا الذي رواه أبو إسحاق في هذه المسألة مدخول غير صحيح وأنا أذكره لتقف
منه على ما في قوله .
ووجه الخطأ فيه أن هما المحذوفة التي قدرها مرفوعة بالابتداء لم تحذف إلا بعد
العلم بها والمعرفة بموضعها .
وكذلك كل محذوف لا يحذف إلا مع العلم به ولولا ذلك لكان في حذفه مع
____________________
الجهل
بمكانه ضرب من تكليف علم الغيب للمخاطب . وإذا كان معروفاً فقد استغني بمعرفته عن
تأكيده باللام .
ألا ترى أنه يقبح أن تأتي بالمؤكد وتترك المؤكد فلا تأتي به أو لا ترى أن التأكيد
من مواضع الإسهاب والإطناب والحذف من مواضع الاكتفاء والاختصار فهما إذن لما ذكرت
من ذلك ضدان لا يجوز أن يشتمل عليهما عقد كلام .
ويزيدك وضوحاً امتناع أصحابنا من تأكيد الضمير المحذوف العائد على المبتدأ في نحو
: زيد ضربت فيمن أجازه فلا يجيزون : زيد ضربت نفسه على أن تجعل النفس توكيداً
للهاء المرادة في ضربته لأن الحذف لا يكون إلا بعد التحقق والعلم وإذا كان ذلك
كذلك فقد استغني عن تأكيده .
ويؤكد عندك ما ذكرت لك أن أبا عثمان وغيره من النحويين حملوا قول الشاعر : ام
الحليس لعجوز شهربه على أن الشاعر أدخل اللام على الخبر ضرورة . ولو كان ما ذهب
إليه أبو إسحاق جائزاً لما عدل عنه النحويون ولا حملوا الكلام على الاضطرار إذا
وجدوا له وجهاً ظاهراً قوياً .
وحذف المبتدأ وإن كان سائغاً في مواضع كثيرة فإنه إذا نقل عن أول الكلام قبح حذفه
.
ألا ترى إلى ضعف قراءة من قرأ : تماماً على الذي أحسن قالوا : ووجه قبحه انه حذف
المبتدأ في موضع الإيضاح والبيان لأن الصلة وقعت في الكلام فغير لائق به الحذف .
وإذا طال الكلام جاز فيه من الحذف ما لا يجوز فيه إذا قصر . )
ألا ترى إلى ما حكاه الخليل من قولهم : ما أنا بالذي قائل لك شيئاً . ولو قلت :
____________________
ما
أنا بالذي قائم لقبح . انتهى .
وذهب صاحب اللباب إلى أن اللام إنما دخلت على الخبر لتوهم ذكر إن فكأنه قيل : إن
أم الحليس .
وهذا البيت نسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروس قال في مادة شهرب : الشهربة
: العجوز الكبيرة مثل الشهبرة .
قال عنترة بن عروس : أم الحليس البيت . قال بعض الناس : اللام مقحمة في لعجوز .
وأنشد الآمدي في ترجمة عنترة هذا : رب عجوز من سليم شهربه انتهى .
وقد رجعت إلى المؤتلف والمختلف من أسماء الشعراء للآمدي ولم أر فيه البيت الذي
نقله عنه . وهذا ما فيه : ومنهم : عنترة بن عروس مولى ثفيف وكان عروس مولداً ولد
في بلاد أزد شنوءة شاعراً .
وكان يزيد بن ضبة الثقفي هجاه فقال يهجو عمارة امرأة يزيد : ( تقول عمارة لي يا
عنترة ** شق حري هذا العظيم الحوثره )
____________________
وهي
أبيات تسعة وقافيتها رائية خلاف ما نقل . والله أعلم .
وعروس فيه بلفظ العروس المعروف لا بالشين المعجمة على وزن جعفر كما في خطه .
وهذا الشعر مذكور في صحاح الجوهري أيضاً في تلك المادة . ولم يتعرض له ابن بري ولا
وقال العيني : قائله رؤبة بن العجاج . ونسبه الصاغاني في العباب إلى عنترة بن عروس
وهو الصحيح . هذا كلامه . و الحليس بضم الحاء المهملة وفتح اللام و من في البيت
الثاني للبدل أي : ترضى بدل اللحم . وقدر العيني مضافاً قبل عظم وقال : التقدير
ترضى بدل اللحم بلحم عظم الرقبة . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد الثمانمائة ) ( مروا عجالاً وقالوا : كيف
صاحبكم ** قال الذي سألوا : أمسى لمجهودا ) على أن دخول اللام على خبر أمسى شاذ .
وهذا البيت أنشده ثعلب في آخر الجزء الثالث من أماليه مع بيت بعده وهو : ( يا ويح
نفسي من غبراء مظلمة ** قيست على أطول الأقوام ممدودا )
____________________
و
مروا من المرور . و عجالاً : جمع عجل بضم الجيم كرجال جمع رجل . ورواه العيني :
عجالى وقال : هو جمع عجلان كسكارى جمع سكران .
ووقع في شرح ابن عقيل على الألفية : سيدكم موضع : صاحبكم .
وقوله : قال الذي سألوا . . . إلخ الذي : فاعل قال و سألوا : صلته والعائد محذوف
ضرورة أي : سألوا عنه . وجملة أمسى لمجهودا : مقول القول . واسم أمسى ضمير الصاحب
.
يريد : إن المريض نفسه أجابهم على طريق الغيبة بقوله : أمسى لمجهودا ثم رجع إلى
التكلم بقوله : يا ويح نفسي . . إلخ .
وقوله : من غبراء مظلمة أي : تربة غبراء يريد : القبر . وقيست من القياس أي : خفرت
تلك التربة الغبراء على قياس أطول الأقوام حال كونه ممدوداً فيها يريد به نفسه .
وهذا البيت شائع في كتب النحو ذكره أبو علي في غالب كتبه وابن جني كذلك وكلهم
يرويه عن ثعلب وثعلب أنشده غير معزو إلى أحد . والله أعلم بقائله .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الثمانمائة )
____________________
(
وما زلت من ليلى لدن أن عرفتها ** لكالهائم المقصى بكل مذاد ) على أن زيادة اللام
في خبر زال شاذة .
هكذا رواه ابن جني في سر الصناعة ونسبه لكثير عزة . و المذاد : مصدر ميمي بمعنى
الذود وهو الطرد .
ووقع في المغني وغيره : بكل مراد بفتح الميم والراء وهو المكان الذي يذهب فيه
ويجاء من الرود وهو التردد في المجيء والذهاب . والرود أيضاً : طلب الكلأ أي :
العشب .
والهائم من الإبل : الذي يصيبه داء الهيام بالضم وهو الجنون . والمقصى : اسم مفعول
من أقصاه أي : أبعده .
شبه نفسه في طرد ليلى له بالبعير الذي يصيبه داء الهيام فيطرد عن الإبل خشية أن
يصيبها ما أصابه . والهائم أيضاً : اسم فاعل من هام على وجهه أي : ذهب من عشق أو
غيره .
والبيت قافيته مغيرة وصوابه : بكل سبيل .
وأول القصيدة : ( ألا حييا ليلى أجد رحيلي ** وآذن أصحابي غداً بقفول ) ومنها : (
أريد لأنسى ذكرها فكأنما ** تمثل لي ليلى بكل سبيل ) وروي البيت أيضاً كذا :
____________________
ولا
شاهد على هذه الرواية . وفي الروايتين استعمال لدن بغير من ولم تأت في التنزيل إلا
مقرونة بها .
وطر النبت يطر طروراً : نبت . ومنه طر شارب الغلام فهو طار . وظن ابن هشام في شرح
أبيات ابن الناظم أن البيت بالرواية الأولى بالقافية الدالية ليس من شعر كثير فإنه
قال : ولكثير عزة بيت يشبه هذا في معناه وغالب لفظه فلا أدري من الآخذ منت صاحبه .
وقد يكونان تواردا عليه . انتهى .
وترجمة كثير تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن والخمسون بعد الثمانمائة ) ( وأعلم أن تسليماً
وتركاً ** للا متشابهان ولا سواء ) على أن دخول اللام على حرف النفي شاذ .
قال ابن جني في سر الصناعة : إنما أدخل اللام وهي للإيجاب على لا وهي للنفي من قبل
أنه شبهها بغير فكأنه قال : لغير متشابهين كما شبه الآخر ما التي للنفي بما التي
في معنى الذي
____________________
(
لما أغفلت شكرك فاصطنعني ** فكيف ومن عطائك جل مالي ) ولم يكن سبيل اللام الموجبة
أن تدخل على ما النافية لولا ما ذكرت من الشبه اللفظي . انتهى .
وظاهر كلام الشارح أن إن في البيت مكسورة لوجود اللام ولو كانت مفتوحة لقال أشذ
لدخولها في خبر أن المفتوحة وعلى حرف النفي فلما لم يقل أشذ عرف أنها مكسورة .
وبه صرح ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم قال : إن بالكسر لدخول اللام في الخبر
ومثله : والله يعلم إنك لرسوله .
والرواية فيه فتح أن نقله ابن عصفور في كتاب الضرائر عن الفراء . فيكون شذوذ اللام
فيه من جهتين كما بيناه .
قال ابن هشام : تكرار لا هنا واجب لكون الخبر الأول مفرداً . وإفراد سواء واجب وإن
كان خبراً عن متعدد لأنه في الأصل مصدر بمعنى الاستواء فحذف زائده ونقل إلى معنى
الوصف .
ومثله قول السموءل : ( سلي إن جهلت الناس عنا وعنهم ** فليس سواءً عالم وجهول )
وربما ثني كقول قيس بن معاذ :
____________________
ومعنى
البيت أن التسليم على الناس وعدمه ليسا مستويين ولا قريبين من السواء . وكان حقه
لولا الضرورة أن يقول : للا سواء ولا متشابهان . انتهى .
قال العيني : وقد قيل إن المعنى : أعلم أن تسليم الأمر لكم وتركه ليسا متساويين
ولا متشابهين .
انتهى .
قال ابن جني في المحتسب : مفاد نكرة الجنس مفاد معرفته من حيث كان في كل جزء منه
معنى ما في جملته . )
ألا ترى إلى قوله : واعلم أن تسليماً وتركاً البيت فهذا في المعنى كقوله : إن
التسليم والترك لا متشابهان ولا سواء . انتهى .
ونسب ابن جني في سر الصناعة هذا البيت إلى أبي حزام العكلي واسمه غالب بن الحارث .
وعكل بضم العين وسكون الكاف : قبيلة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الثمانمائة ) على أن دخول اللام على كأن
شاذ أيضاً . و باد الشيء : هلك وتلف وفاعله ضمير الهالك المتقدم في بيت قبله . و
حتى للغاية وهي ابتدائية . و كأن بسكون النون مخففة واسمها محذوف وهو ضمير الشيء
الهالك وجملة لم يكن : خبرها .
____________________
بقول
: لم يبق أثر لذلك الهالك حتى كأنه لم يكن موجوداً . وكسرت النون من يكن للقافية .
وقوله : فاليوم أبكي أي : عليه . يقال : بكيته وبكيت عليه وبكيت له وبكيته
بالتشديد .
كذا في المصباح . و اليوم : ظرف لأبكي .
وقوله : ومتى لم يبكني استفهام إنكاري . يريد : إنه يبكيني في جميع الأوقات .
وهذا البيت لم أره إلا في سر الصناعة لابن جني ولم أقف على ما قبله ولا على شيء من
خبره .
قال ابن جني : اعلم أن اللام قد لحقت بعض الحروف للتوكيد نحو : لعل زيداً قائم
إنما هو عل واللام زائدة مؤكدة .
وقال الراجز : فأكد الحرف باللام . وقال الآخر : للولا قاسم ويدا بسيل البيت وأنشد
بعده ( الشاهد الستون بعد الثمانمائة )
____________________
( للولا
قاسم ويدا بسيل ** لقد جرت عليك يد غشوم ) على أن اللام الداخلة على لولا زائدة
وأما لام لقد بدون لولا فالمشهور أنها لام القسم وأما معها فقد قال ابن جني في :
ومثل لام القسم اللام التي دخلت في جواب لو نحو : والله لو قمت لقمت . وقد تحذف
هذه اللام من بعد لو إذا لم يكن القسم ظاهراً .
قال : ( فلو أن قومي أنطقتني رماحهم ** نطقت ولكن الرماح أجرت ) أي : لنطقت . ومثل
هذه اللام اللام التي في جواب نحو قوله تعالى : ولولا رهطك لرجمناك وقال الشاعر :
( فوالله لولا الله لاشيء غيره ** لزعزع من هذا السرير جوانبه ) قال :
____________________
(
وكم من موطن لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلة النيق منهوي ) أي : لطحت . ولا
تدخل اللام في جواب لو ولولا إلا على الماضي دون المستقبل . وكان أبو علي قال لي
قديماً : إن اللام في جواب لولا زائدة مؤكدة واستل على ذلك بجواز سقوطها .
وكذلك مذهبه في لو على هذا القياس لجواز خلو جوابها من اللام . انتهى . و قاسم
وبسيل : رجلان . و البسيل في اللغة : الكريه الوجه . و جرت من جر عليهم جريرة أي :
جنى جناية . ويد فاعل جرت . و غشوم : جائرة والغشم : الظلم . والحرب غشوم لأنها
تنال غير الجاني . وهو بالغين والشين المعجمتين .
وهذا أيضاً لم أره إلا في سر الصناعة ولم أقف له على خير . والله أعلم .
وأنشد بعده : ولقد علمت لتأتين منيتي على أن علمت منزل منزلة القسم وجملة لتأتين
منيتي : جواب القسم .
وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس عشر بعد السبعمائة .
____________________
إن
المنايا لا تطيش سهامها )
وأنشد بعده : إني وجدت ملاك الشيمة الأدب على أن اللام المعلقة محذوفة والأصل :
إني وجدت لملاك .
وتقدم شرحه في الشاهد الثالث عشر بعد السبعمائة .
وهو عجز وصدره : كذاك أدبت حتى صار من خلقي وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والستون
بعد الثمانمائة ) لهنا لمقضي علينا التهاجر
____________________
على
أن بعض العرب يقول : لهنك لرجل صدق بلامين كما في المصراعين . وقد تحذف الثانية
فيقال : لهنك رجل صدق كما في البيت . ويريد أن الثانية لام الابتداء التي تكون مع
إن .
ولا وجه لتقييد الحذف بالقلة إذ لم يغلب ذكرها مع إن ولم يكثر حتى يقال إن حذفها
قليل قال ابن جني في سر الصناعة : وإذا كانت إن مشددة فأنت في إدخال اللام في
الخبر وتركها مخير فإن خففت لزمت اللام لئلا تلتبس بإن النافية . وأما اللام
الأولى فهي مع الهاء على قول الفراء والمفضل بن سلمة بقية لفظ الجلالة .
وأما على قول سيبويه بجعل الهاء بدلاً من همز إن فلم يظهر من كلام الشارح ما هي
عنده .
وربما يؤخذ منه أنها زائدة عنده ولهذا أورد كلامه في ذيل مبحث اللام الزائدة .
وهو مذهب ابن مالك . قال في التسهيل : وربما زيدت اللام قبل همزتها مبدلة مع هاء
مع تأكيد الخبر وتجريده .
وهذا ظاهر قول الجوهري في الصحاح : اللام الأولى للتوكيد والثانية لام إن .
وهذا ليس مذهب سيبويه وإنما هي عنده لام جواب قسم مقدر وهذا نصه ونقله ابن السراج
في الأصول : لهنك لرجل صدق : هذه كلمة تتكلم بها العرب في حال اليمين وليس كل
العرب يتكلم بها فهي إن ولكنهم أبدلوا الهاء مكان الألف كقولك : هرقت .
ولحقت هذه اللام إن كما لحقت ما حين قلت : إن زيداً لما لينطلقن فلحقت إن اللام في
اليمين كما لحقت ما . )
فاللام الأولى في لهنك لام اليمين والثانية لام إن وفي : لما لينطلقن اللام الأولى
لإن والثانية
____________________
وفي
شرح قديم لهذه المقدمة : مذهب سيبويه في اللام الواحدة : أنها لام التأكيد دخلت
على إن لما غيرت بإبدال همزتها هاء . وفي اللامين : أن الأولى جواب قسم والثانية
لتأكيد الخبر .
انتهى .
ويدل ما ذهب إليه سيبويه قول المرار الفقعسي : وأما لهنك من تذكر أهلها لعلى شفا
يأس وإن لم تيأس ووجه الدليل أن أما بالتخفيف يكثر الإتيان بها قبل القسم .
وجوزه أبو علي في التذكرة القصرية قال : ويجوز أن تكون اللام في لهنك اللام في
لأفعلن التي لا تدخل إلا على الفعل . ويدل على ذلك لزوم لهنك لليمين وأنها لا تقال
إلا في اليمين .
فإن قلت : لام لأفعلن لا تقع إلا على الفعل . قلت : إنما جاز لهنك وإن لم يكن
فعلاً لأن الجملة الاسمية وقعت موقع الجملة الفعلية . انتهى .
وذهب الزجاج إلى أن اللام الأولى هي لام إن واللام الثانية زائدة . واختاره أبو
علي في التذكرة القصرية وأيده وأوضحه . وتبعه تلميذه أبو الفتح بني جني .
والتذكرة القصرية : هي المسائل التي جرت بينه وبين صاحبه أبي الطيب محمد بن طوسي
المعروف بالقصري قال فيها : لهنك لرجل صدق بمنزلة ما جاء على أصله من العينات
المعتلة أوقعت اللام التي كانت في الخبر إنك لرجل صدق قبل إن ليدل ذلك على أن حقها
أن تقع قبل إن فأتوا بهذا على أصله وأبدلوا الهمزة هاء فراراً من إيقاع اللام قبل
إن فغير اللفظ على ذلك لأنه ليس يخلو امتناعهم من إيقاع اللام قبل إن من أن يكون
ذلك من جهة المعنى أو من جهة اللفظ .
____________________
فلا
يجوز أن يكون من جهة المعنى بدلالة قولهم : إن في الدار لزيداً فاللام قد وليت إن
من جهة المعنى فثبت أن المكروه لفظهما فإبدال الهمزة هاء بمنزلة الفصل بين إن
واللام بالظرف فجاز لهنك .
ويؤكد أن اللام في لهنك لام الابتداء بإبدال الهاء من الهمزة . وإبدال الهاء من
الهمزة يؤكد أن اللام غير زائدة واللام التي في لرجل زائدة لأنه لا يجوز أن يكونا
جميعاً غير زائدتين لأنك إن فعلت ذلك لزمك أن تدخل اللام في لرجل على اللام التي
في لهنك . )
فإن قلت : أجعل لام لهنك زائدة . قلت : ذلك غير جائز لأن لام لهنك قد وقعت موقعها
فلا يستقيم أن تقدرها أنها ليست واقعة في غير هذا الموضع وهذا يجوز في لام لرجل
لأنها لم تقع موقعها الذي هو قبل إن .
ومثل امتناع تقدير لام لهنك زائدة لأنها قد وقعت موقعها فلا يستقيم أن يقدر بها
غير ذلك قولك : ضرب زيداً غلامه لا يجوز فيه أن تقول : ضرب غلامه زيداً لأن الغلام
قد وقع موقعه فلا يستقيم أن يقدر به غير ذلك . انتهى .
وحققه ابن جني أيضاً في باب إصلاح اللفظ من الخصائص وقال : ويدل على أن موضع اللام
في خبر إن أول الجملة قبل إن أن العرب لما جفا عليها اجتماع هذين الحرفين قلبوا
الهمزة هاء ليزول لفظ إن فيزول أيضاً ما كان مستكرهاً من ذلك فقالوا : لهنك قائم .
وعليه قوله فيما رويناه عن محمد بن سلمة عن أبي العباس : ( ألا يا سنا برق على قلل
الحمى ** لهنك من برق علي كريم ) فإن قلت : فما تصنع بقول الآخر : ( ثمانين حولاً
لا أرى منك راحةً ** لهنك في الدنيا لباقية العمر ) وما هاتان اللامان قيل : أما
الأولى فلام الابتداء على ما تقدم . وأما الثانية
____________________
في
لباقية العمر فزائدة كزيادتها في قراءة سعيد بن جبير : ألا إنهم ليأكلون الطعام .
فإن قلت : فلم لا تكون الأولى هي الزائدة والأخرى غير زائدة قيل : يفسد ذلك من
جهتين : إحداهما أنها قد ثبتت في قوله : لهنك من برق علي كريم وثانيهما : أنك لو
جعلت الأولى هي الزائدة لكنت قد قدمت الحرف الزائد والحروف إنما تزاد لضرب من
الاتساع . فإذا كانت للاتساع كان آخر الكلام أولى بها من أوله .
ألا تراك لا تزيد كان مبتدأة وإنما تزيدها حشواً أو آخراً . انتهى .
وقد رجع أبو علي عن هذا التحقيق وزيفه في كتابه نقض الهاذور وهو كتاب نقض ما طعن
به ابن خالويه على كتاب الأغفال لأبي علي الذي صنفه إصلاحاً لمسائل الزجاج .
واختار مذهب الفراء وأيده وأدرج فيه مذهب المفضل بن سلمة وجعلهما قولاً واحداً
ونسبه إلى أبي زيد الأنصاري . وهذه عبارته . )
قال أبو زيد : قال أبو أدهم الكلابي : له ربي لا أقول ذلك بفتح اللام وكسر الهاء
في الإدراج .
ومعناه : والله ربي لا أقول ذلك .
____________________
وأنشد
أبو زيد : ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** لدومة بكراً ضيعته الأراقم ) وأنشد
أيضاً : ( أبائنة حبى نعم وتماضر ** لهنا لمقضي علينا التهاجر ) قال : يقول لله
إنا . ( وأما لهنك من تذكر عهدها ** لعلى شفا يأس وإن لم تيأس ) وأنشد غير أبي زيد
: ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على هنوات كاذب من يقولها ) ووجه الدلالة أن اللام لا
تخلو من أن تكون الجارة من قولهم : لله أو التي للتعريف أو التي هي عين الفعل .
فلا يجوز أن تكون التي للتعريف لأن تلك ساكنة وهذه متحركة .
فإن قلت : ألقى عليها حركة الهمزة . قلت : لا يجوز ذلك لأن حركة الهمزة كسرة
واللام مفتوحة لأن أبا زيد قال بفتح اللام .
ولا يجوز أن تكون الجارة لأنها مكسورة .
____________________
فإن
قلت : إن أناساً فتحوا الجارة مع المظهر . قلت : ذلك لا يجوز لئلا يبقى الاسم على
حرف واحد وليس في الأسماء المتمكنة اسم على حرف واحد .
فثبت أنها عين الفعل وأن الهمزة فاء حذفت كما حذفت من قوله : ( يابا المغيرة رب
أمر معضل ** فرجته بالنكر مني والدها ) فإن قلت : يكون قوله : له من القول الآخر
في الاسم لا من القول الذي الهمزة فيه فاء الفعل .
قلت : هذا بعيد لأنه يحذف على هذا التقدير عين الفعل والعين لم تحذف إلا فيما لا
حكم له ولا اعتداد به قلة فإذا كان كذلك وجب العدول به والاعتداد له وكان الأخذ
بالقول الآخر أولى لأن الألف تحذف فيه كما يقصر الممدود . وهذا قد جاء في كلامهم .
ألا تراهم قالوا : الحصد والحصاد . وقد جاء ذلك في الاسم نفسه في قوله : ) ( ألا
لا بارك الله في سهيل ** إذا ما الله بارك في الرجال ) فعلى هذا حذفت الألف في
الاسم من قوله : له ربي على أن القول الآخر في الاسم ليس بالشائع ولم نعلم أحداً
من السلف ذهب إليه .
وهذا القول قد روي مسنداً عن ابن عباس فروى عن النبي صلى الله عليه
____________________
وسلم
أن عيسى بن مريم قال لرجل : أتدري ما الله الله إله الآلهة . وعن ابن عباس : الله
ذو الألوهية والعبودية على خلقه أجمعين .
فإن قلت : هلا قلت إن قوله : لهني لأشقى الناس ولهنا لمقضي علينا إنما هو لإني
ولإنا خلافاً لأبي زيد قلت : هذا لا يسوغ لأنه يجمع فيه بين إن واللام ولم يجمعوا
بينهما .
ألا تراهم أخروها إلى الخبر من قولهم : إن زيداً لمنطلق وفصلوا في نحو : إن في ذلك
لآية .
فإن قلت : يكون القلب فيها بالتغيير لها كالفصل بينهما قلت : لا يصح لأن البدل في
حكم المبدل منه عندهم . ألا ترى أنك لو سميت رجلاً بهرق لم تصرفه كما لا تصرفه لو
كانت الهمزة نفسها ثابتة .
ألا ترى أن الهمزة في حمراء لما كانت منقلبة عن ألف التأنيث كان حكمها حكمها في
منع الصرف فكذلك يكون البدل في لهنك في حكم المبدل منه في الامتناع من الجمع
بينهما .
على أن هذا السؤال لا يلزم من وجه آخر وهو أن ما حكاه أبو زيد من قوله : له ربي لا
يجوز أن يظن فيه أن الهاء بدل من الهمزة فإذا كان كذلك رددت المواضع إلى هذا
الموضع الذي لا يجوز فيه إبدال وعلمت أن المعنى : لله إني .
فإن قلت : لم لا تقول في قولهم : لهنا ولهني ولهنك : إنما هو له إنا لأن قطرباً قد
حكى أنهم يقولونه بالإسكان وإذا كانت الهاء ساكنة وألقيت عليها حركة الهمزة وجب أن
تقول : لهنا فتكون الأبيات على هذا التأويل لا على الوجه الذي ذكرته قلت : يفسد
هذا تحريكها الهاء بالجر في له ربي .
____________________
فكما
كانت متحركة في الجر ولا همزة مكسورة بعدها فتحذف وتلقى حركتها عليها كذلك تكون
الكسرة في لهني ولهنك ولهنا الجرة لا حركة الهمزة المحذوفة للتخفيف على ما حكاه
قال ابن جني في الخصائص : وأما من قال : إن لهنك أصله لله إنك فقد ذكرنا ما عليه
فيه في )
موضع آخر . على أن أبا علي قد كان قواه بأخرة وفيه تعسف . انتهى .
ورأيت في شرح قديم لهذه المقدمة : ومذهب أبي زيد وقواه أبو علي أن أصل لهنك لاه
إنك فحذفت همزة إن وألف لاه فبقي لهنك .
ومذهب سيبويه أقوى لأنه ليس فيه إلا إبدال الهمزة وفي هذا توالى حذفان بعد حذف
سابق في لاه . انتهى .
أقول : ما نسبه أبو علي إلى أبي زيد لعله في غير النوادر وإلا فما في النوادر
موافق لسيبويه .
وهذا ما في نوادره .
قال المرار بن سعيد الفقعسي وهو إسلامي : وأما لهنك من تذكر أهلها البيت يريد :
أما إنك . أبو حاتم : لهنك يريد لله إنك فحذف ثم حذف . انتهى .
قال الأخفش فيما كتب على النوادر : قول أبي حاتم ليس بشيء عند أصحابه البصريين
لأنه حذف مخل بالكلام . وذلك أنه حذف حرف الجر وجملة من الاسم المجرور .
وهذا لا يجوز عند أهل العربية ولا نظير له ولكن تأويل لهنك بلإنك صحيح وفيه إبدال
ونقل صاحب الصحاح عن أبي عبيد أن ما نسبه أبو علي لأبي زيد هو قول الكسائي قال :
قال أبو عبيد :
____________________
أنشدنا
الكسائي : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على هنوات كاذب من يقولها ) وقال : أراد لله
إنك من عبسية فحذف اللام الأولى من الله والألف من إنك كما قال الآخر : لاه ابن
عمك لا أفضلت في حسب أراد : لله ابن عمك . والقول الأول أصح أي : القول بأن أصله
لإنك ذكره مادة لهن .
ونقل أبو حيان في تذكرته المذاهب الثلاثة طبق ما نقله الشارح المحقق إلا أنه نسب
الثالث للمفضل بن سلمة كابن الأنباري في مسائل الخلاف لا أنه حكاه عن بعضهم .
واعلم أن المصراع الشاهد عجز بيت وصدره ما أورده أبو علي وهو : أبائنة حبى نعم وتماضر
ولم أر من ذكره غيره ولم أقف على قائله .
والهمزة : للاستفهام . و بائنة : اسم فاعل من البين وهو الفراق والهجر . وبائنة :
مبتدأ )
____________________
استغنى
بمرفوعه وهو حبى عن الخبر لاعتماده على الاستفهام . و حبى : بضم المهملة وتشديد
الموحدة بعدها ألف مقصورة من أعلام النساء غير منصرف .
وكذلك تماضر : علم امرأة بضم المثناة الفوقية بعدها ميم فألف فضاد معدمة مكسورة .
منقول من فعل مضارع من المضر مصدر مضر اللبن كنصر وفرح وكرم أي : حمض . وهو معطوف
على حبى عطفاً تلقينياً . و نعم تصديق للاستفهام . و المقضي : اسم مفعول من قضى
عليه قضاء بالمد ويقصر .
والقضاء : الحكم والحتم . و التهاجر : نائب الفاعل وهو تفاعل من الهجر .
وينبغي أن نشرح الأبيات التي أوردها أبو علي تكميلاً للفائدة . فقوله : لهني لأشقى
الناس إن كنت غارماً يأتي شرحه بعد هذا وقوله : وأما لهنك من تذكر عهدها نسبه أبو
زيد للمرار كما تقدم وقال : شفا الشيء : حرفه وناحيته وشرفه . ويقال : هو على شرف
خير أو شر .
وقوله : لهنك من عبسية لوسيمة ( وبي من تباريح الصبابة لوعة ** قتيلة أشواقي وشوقي
قتيلها )
____________________
وروى
المصراع الثاني غير الكسائي كذا : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على كاذب من وعدها
ضوء صادق ) ولم أقف على قائلهما . و عبسية : امرأة منسوبة إلى عبس وهو أبو قبيلة
وهو تمييز مجرور بمن . و الوسيمة : الجميلة خبر لهنك . و الهنوات : الفعلات
القبيحة جمع هنة وهو ما يستهجن التصريح بذكره . و كاذب : صفة سببية لهنوات و من
فاعل هنوات .
وأنشد أبو زيد : )
لهن الذي كلفتني ليسير وهو من شعر رواه أبو بكر التاريخي ومحمد بن الحسين اليمني
كل منهما في طبقات النحاة في ترجمة الرياشي لأنه قال : أنشدني غلام إسماعيل بن
محمد بن أيوب بالمدينة وكان لبني سليم : ( وقالت : ألا هل تقضم الحب موهناً ** من
الليل إن الكاشحين حضور ) و القضم : الأكل بأطراف الأسنان وفعله من باب علم . و
الحب بفتح المهملة : حب البطيخ ونحوه . و الموهن بفتح الميم وكسر الهاء : نحو من
نصف الليل .
وقال الأصمعي : هو حين يدبر الليل . و أقتلد بالقاف قال اليمني : القلد : الشرب .
وفي القاموس : قلد الماء في الحوض واللبن في السقاء والشراب في البطن يقلده : جمعه
فيه .
____________________
وأنشد
أبو زيد أيضاً : لهنك في الدنيا لباقية العمر هو خطاب لمؤنث وصدره : ثمانين حولاً
لا أرى منك راحةً وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد الثنمانمائة ) لهني
لأشقى الناس إن كنت غارماً لما تقدم قبله .
ورأيت هذا المصراع صدر بيت من أشعار ثلاثة .
لدومة بكراً ضيعته الأراقم و أشقى أفعل تفضيل . و غارماً من غرمت الدية والدين
وغير ذلك من باب تعب إذا أديته غرماً بالضم وغرامة ومغرماً بفتحهما . وغرمته
تغريماً
____________________
وأغرمته
: جعلته غارماً . وغرم في تجارته مثل خسر : خلاف ربح . و دومة بفتح الدال : اسم
امرأة خمارة . و البكر بفتح الموحدة : الفتي من الإبل هو مفعول لغارم وجملة ضيعته
الأراقم : نعت بكر أي : جعلته ضائعاً . و الأراقم : ستة أحياء من تغلب وهو جشم
وعمرو ومالك وثعلبة ومعاوية والحارث .
وهو بنو بكر بن حبيب بضم المهملة وفتح الموحدة الأولى ابن عمرو بن غنم بفتح
المعجمة وسكون النون ابن تغلب بن وائل .
وقال ابن دريد في الجمهرة : الأراقم : بطون من تغلب يجمعهم هذا الاسم ذكر أبو عبيد
أن أباهم نظر إليهم لما ترعرعوا فإذا لهم جراءة وحدة فقال لغلام له : ذا جاء الليل
فاستغث حتى أنظر ما يصنع أولادي هؤلاء .
فذهب إلى حيث أمره فاستغاث فسمعوا صوته فقصدوا قصده وقالوا : ويلك ما دهاك وأين
القوم وأقبلوا يتجاذبونه بينهم حتى جاء أبوهم فقال له : كف بنيك عني فإن عيونهم
وقال ابن الكلبي : إنما سموا بذلك لأن امرأة دخلت على أمهم وهم نيام ورؤوسهم خارجة
من قطيفة فقالت : كأن عيونهم عيون الأراقم فسموا به .
وصاحب القاموس لم يحقق النظر هنا فقال : تبعاً لصاحب الصحاح : الأراقم : حي من
تغلب وهو جمع أرقم وهو أخبث الحيات وأطلبها للناس . وقيل : ما فيه سواد وبياض وقيل
: ذكر الحيات .
ثانيها : صدر بيت من قصيدة لخداش بن زهير العامري الصحابي وكان ممن شهد وقعة حنين
مع المشركين ثم أسلم بعد زمان . )
تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة . ومن قصيدته :
____________________
(
فيا راكباً إما عرضت فبلغن ** عقيلاً إذا لاقيتها وأبا بكر ) ( بأنكم من خير قوم
لقومكم ** على أن قولاً في المجالس كالهجر ) ( دعوا جانباً إنا سنترك جانباً **
لكم واسعاً بين اليمامة والقهر ) إلى أن قال : ( وإنا لمن قوم كرام أعزة ** إذا
لحقت قوم بفرسانها تجري ) ( ونحن إذا ما الخيل أدرك ركضها ** لبسنا لها جلد
الأساود بالنمر ) ( أبي فارس الضحياء عمرو بن عامر ** أبى الذم واختار الوفاء على
الغدر ) ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** لعاقبة قتلى خزيمة والخضر )
____________________
و
عرضت : أتيت العروض وهي مكة والمدينة حرسهما الله تعالى وما حولهما يقال : عرض
الرجل إذا أتى العروض . و أخبث إذا اتخذ أصحاباً خبثاء و الضحياء : فرس عمرو بن
عامر . واللام في العاقبة بمعنى بعد . و قتلى : مفعول غارماً جمع قتيل . و الخضر
بضم الخاء وسكون الضاد المعجمتين قال صاحب القاموس : وبنو الخضر : بطن من قيس
عيلان منهم أبو شيبة الخضري .
ثالثها : ما رأيته في كتاب اللصوص للسكري في شعر تليد الضبي بفتح المثناة الفوقية
وكسر اللام وكان أحد اللصوص على عهد عمر بن عبد العزيز أخذ وأقيم للناس بأمره
ليدفع ما أخذه منهم فقال في ذلك : ( ولو أن بعض الناس يفقد أمه ** لقيل احتواها في
الرحال تليد ) ( لهني لأشقى الناس إن كنت غارماً ** قلائص بين الجلهتين ترود ) (
قلائص معزاب أتى الليل دونها ** وما الناس إلا عاجز وجليد ) ( تبدلت من سوق
الأباعر في الضحى ** ومن قنص الغزلان بني المساجد ) ( فأصبحت قد أحدثت لله توبةً
** وخير عباد الله في زي عابد ) ( على أن في نفسي إلى البيض طربةً ** وأني قد أهوى
ركوب الموارد ) وقال أيضاً : ) ( يقولون : جاهد يا تليد بتوبة ** وفي النفس مني
عودة سأعودها ) ( ألا ليت شعري هل أقودن عصبةً ** قليلاً لرب العالمين سجودها ) (
وهل أطردن الدهر ما عشت هجمةً ** معرضة الأنجاد سجحاً خدودها )
____________________
و
الرحال : جمع رحل بسكون المهملة : المأوى والمنزل . و قلائص : مفعول غارم جمع قلوص
وهي الناقة الشابة . و الجلهة بفتح الجيم وسكون اللام : ناحية الوادي .
والمعزاب من الإبل والشاء : التي تعزب أي : تبعد عن أهلها في المرعى وهو بالعين
المهملة والزاي . والجليد ومثله الجلد بفتح فسكون من الجلد بفتحتين وهو الشدة
والقوة .
يقول : إني أشقى الناس إن كنت أغرم كل ما سرق للناس . و البني بفتح الموحدة وسكون
النون : مصدر بنى يبني . و الهجمة بفتح الهاء وسكون الجيم : القطيع من الإبل أولها
الأربعون إلى ما زادت . و الأنجاد : جمع نجد وهو الطريق الواضح المرتفع . و السحج
بتقديم الجيم على المهملة : جمع أسحج وسجحاء من سجح الخد كفرح : سهل ولان وطال في
اعتدال وقل لحمه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد الثمانمائة ) ( ألا يا سنا برق على قلل
الحمى ** لهنك من برق علي كريم )
____________________
على
أنه حذف اللام من خبر لهنك حيث لم يقل : ل علي كريم والكثير إثباتها . وتقدم ما
فيه .
وهو من جملة أبيات لرجل من بني نمير . قال أبو هلال العسكري في ديوان المعاني
أخبرنا أبو أحمد . وقال القالي في أماليه : حدثني أبو يعقوب وراق أبي بكر بن دريد
قالا : حدثنا أبو بكر بن دريد قال : حدثنا الفضل بن محمد بن العلاف قال : لما قدم
بغا ببني نمير أسرى كنت كثيراً ما أذهب إليهم فأسمع منهم وكنت لا أعدم أن ألقى
الفصيح منهم فأتيتهم يوماً في عقب مطر وإذا فتىً حسن الوجه قد نهكه المرض ينشد : (
ألا يا سنا برق على قلل الحمى ** لهنك من برق علي كريم ) ( فهل من معير طرف عين
خلية ** فإنسان عين العامري كليم ) ( رمى قلبه البرق الملالئ رميةً ** بذكر الحمى
وهناً فبات يهيم )
____________________
فقلت
: يا هذا إنك لفي شغل عن هذا . فقال : صدقت ولكني أنطقني البرق .
زاد عليه القالي : ثم اضطجع فما كان ساعة حتى مات فما يتوهم عليه غير الحب .
وروى السيوطي في شرح أبيات المغني عن ثعلب في أماليه بسند إلى محمد بن معن الغفاري
قال : أقحمت سنة بالمدينة ناساً من الأعراب فيهم صرم من بني كلاب فأبرقوا ليلة في
النجد وغدوت عليهم فإذا غلام منهم قد عاد جلداً وعظماً ورفع عقيرته بأبيات قد
قالها من الليل .
وأورد الأبيات .
قال : فقلت له : في دون ما بك ما يفحم عن الشعر قال : صدقت ولكن البرق أنطقني .
قال : ثم والله ما لبث يومه تاماً حتى مات قبل الليل ما يتهم عليه غير الحب .
وفي رواية وكيع زيادة بيت بعد البيت الثاني وهو : ( فبت بحد المرفقين أشيمه **
كأني لبرق بالستار حميم ) وقد تصفحت أمالي ثعلب مراراً ولم أر فيها هذه الأبيات
ولعل ثعلباً رواها في غير الأمالي ولهذا لم يقيد ابن جني في سر الصناعة النقل عنه
بالأمالي قال : قرأت على محمد بن الحسن وقرئ عليه وأنا حاضر عن أحمد بن يحيى .
وحدثنا به أيضاً عن أبي العباس محمد بن يزيد بن )
سلمة : ألا يا سنا برق . البيت .
____________________
فأحمد
بن يحيى هو ثعلب ومحمد بن يزيد هو المبرد ومحمد بن سلمة هو الراوي عن المبرد .
وكذا صنع في الخصائص . وكان ابن بري وقع نظره على سند ابن جني ولم يحقق النظر فنسب
الشعر في حاشية الصحاح إلى محمد بن سلمة وتبعه العيني في ذلك . و السنا بالقصر :
ضوء البرق . و القلل : جمع قلة وهي من كل شيء : أعلاه .
ورواه ابن بري : قنن الحمى جمع قنة بمعنى القلة . و الحمى هو المكان الذي يحمى من
الناس فلا يقربه أحد وأراد به حمى حبيبته . و من برق : تمييز مجرور بمن . و كريم :
خبر لهنك . و علي : متعلق به والكريم : من كرم الشيء أي : نفس وعز .
وقوله : لمعت . . . إلخ لمع الشيء : أضاء . و اقتذاء بالقاف والذال المعجمة قال
ابن بري : اقتذاء الطير هو أن يفتح عينه ثم يغمضها إغماضة . انتهى . وكذا في
القاموس .
والمصدر هنا قائم مقام الظرف . يريد : أن البرق لمع وقت فعل الطير ذلك وذلك يكون
قبيل الصبح . يقال : إن كل طائر إذا كان آخر الليل فتح عينه ثم أغمضها ثم فتح .
وأصل ذلك من وروى أبو هلال : الطرف بدل الطير . فالطرف هنا العين وهو في الأصل نظر
العين مصدر طرف البصر من باب ضرب .
____________________
قوله
: فبت بحد . . . إلخ حد كل شيء : طرفه . و أشيم : مضارع شمت البرق إذا نظرت إلى
سحابته أين تمطر . أراد إني اتكأت على طرفي مرفقي فنظرت إليه . و الستار بكسر
السين المهملة بعدها المثناة الفوقية قال البكري في المعجم : هو جبل معروف بالحجاز
.
وهذا البيت يبين أن الحكاية وقعت في مدينة الرسول صلى الله عليه وسلم . والحميم :
القريب .
وقوله : البرق الملالي قال البكري في شرح أمالي القالي : هكذا رواه أبو علي القالي
وقال : ملال : موضع نسب البرق إليه . وغيره ينشد : البرق الملألئ بالهمز من
التلألؤ . ونقل هذا الكلام بعينه في معجم ما استعجم ولم يعين الوضع . ولم يورده
ياقوت في معجم البلدان أصلاً . وروى أبو هلال بدله : البرق اليماني . و العقيرة :
الصوت وأصله أن رجلاً قطعت إحدى رجليه فرفعها ووضعها على الأخرى )
وصرخ فقيل لكل رافع صوته قد رفع عقيرته . و الصرم بالكسر : أبيات من الناس مجتمعة
. و بغا : أعظم قائد من قواد الواثق بالله بن المعتصم بن هارون الرشيد العباسي نقل
النويري في تاريخه نهاية الأرب أن بني سليم كانت تفسد حول المدينة فقويت شوكتهم
واغتصبوا أموال الناس فوجه الواثق بغا في سنة ثلاثين بعد المائتين إلى الأعراب
الذين أغاروا بنواحي المدينة فقتل منهم خلقاً وأسر من أكابر مفسديهم زهاء ألف رجل
وحبسهم في المدينة فنقبوا السجن وخرجوا فأحس بهم أهل المدينة فقتلهم سودانها .
____________________
وقال
البكري في شرح أمالي القالي : ذكر أبو علي عن مفضل بن أحمد قال : لما قدم بغا ببني
نمير أسرى كان هذا الذي ذكره في سنة اثنتين وثلاثين ومائتين آخر أيام الواثق .
وذلك أن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير امتدح الواثق بقصيدة فأمر له بثلاثين ألف
درهم ثم كلم عمارة الواثق في بني نمير وأخبره بعيثهم وإفسادهم في الأرض وغاراتهم
على اليمامة وغيرها فكتب الواثق إلى بغا وهو بالمدينة أمره بحربهم وأنهم قتلوا أبا
نصر بن حميد بن عبد الحميد الطوسي الذي رثاه الطائي .
فسار إليهم حتى وافاهم في بطن نخل من عمل اليمامة فهزمه بنو نمير حتى بلغ معسكره
وأيقن بالهلكة ثم تشاغلوا بالنهب حتى ثاب إلى بغا من كان انكشف من أصحابه فكروا
على بني نمير فهزموهم وقتلوا منهم زهاء ألف وخمسمائة ونقل إلى بغداد منهم نحو ألفي
رجل ومن بني كلاب وبني مرة وفزارة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد الثمانمائة ) ( ألا لا بارك الله في سهيل
** إذا ما الله بارك في الرجال ) على أنه حذف الألف من لفظ الجلالة الأول قبل
الهاء .
____________________
وهذا
الحذف لضرورة الشعر ذكره ابن عصفور في كتاب الضرائر .
وأنشد بعده : ( أقبل سيل جاء من عند الله ** يحرد حرد الجنة المغلة ) وقال :
أنشدهما قطرب .
وقال القاضي البيضاوي : حذف ألفه لحن تفسد به الصلاة ولا ينعقد به صريح اليمن .
وقد جاء لضرورة الشعر : ألا لا بارك الله في سهيل البيت وهو : فاعل لا بارك مرفوع
بضمة ظاهرة .
وظن العصام في حاشية القاضي أن الهاء ساكنة فقال : كما أن حذف الألف للضرورة كذا
والألف المحذوفة هي ألف فعال إذ أصل الله الإله فتكون زائدة وليست عين الفعل بناء
على أصله لاه مصدر لاه يليه ليهاً إذا احتجب وارتفع فيكون أصله ليه تحركت الياء
وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً .
قال ابن جني في المحتسب بعد إنشاد هذا البيت : حذف الألف قبل الهاء وينبغي أن تكون
ألف فعال لأنها زائدة كقوله تعالى : إله الناس ولا تكون الألف التي هي عين فعل في
أحد قولي س أن أصله لاه كناب لأن الزائد
____________________
أولى
بالحذف من الأصلي . انتهى .
وكون الله أصله لاه في أحد قولي س نقله الزجاج عنه فقال : قال سيبويه : سألت
الخليل عن هذا الاسم يعني قولنا الله فقال : إله وقال مرة أخرى : الأصل لاه .
ورد عليه الفارسي في الأغفال بأن هذا الذي حكاه عن سيبويه عن الخليل سهو لأن
سيبويه لم يحك عن الخليل أن الله أصله إله ولا قال : سألته عنه ولا حكى عن الخليل
القول الآخر الذي قاله أنه لاه .
ورد ابن خالويه على أبي علي : بأنه قد صح القولان عن سيبويه . ولا ننكر أن تكون
هذه الحكاية قد ثبتت عند أبي إسحاق الزجاج برواية له عن سيبويه من غير جهة كتابه
فلا يكون )
حينئذ سهواً . وقد وقعت إلينا مسائل جمة روى سيبويه الجواب فيها عن الخليل ولم
يضمن ورد عليه أبو علي في نقض الهاذور بأن الذي يحكي هذه الحكايات عن سيبويه عن
الخليل وهن أبي الحسن متقول كذاب ومتخرص أفاك لا يشك في ذلك أحد له أدنى تنبه
وتيقظ .
ولم يصغ إلى القبول منه والاشتغال به إلا الأغمار والأغفال الذين لا معرفة لهم
بالرواة ورواياتهم وتمييز صادقهم من كاذبهم وضابطهم من مجازفهم ومتجوزهم في
الرواية .
وما علمت أحداً من شيوخنا الذين أدركناهم منهم أبو إسحاق روى حكاية واحدة فضلاً عن
حكاية عن الأخفش عن الخليل ولا عن سيبويه عن الخليل إلا ما ثبت في كتابه .
بل رأيت رجلاً روى حكاية واحدة أسندها إلى الأخفش عن الخليل في شيء من العروض ولم
يكن هذا الرجل موثوقاً به في خبره ولا مسكوناً إلى حكايته .
____________________
فأما
نحن فلم يقع إلينا من الحكايات عن سيبويه ما لم يثبت في كتابه إلا حكايتان أو ثلاث
: إحداها : عن محمد بن يزيد عن أبي زيد عنه وهي أن محمد بن السري روى عن محمد بن
يزيد أنه قال : لقي أبو زيد سيبويه فقال أبو زيد لسيبويه : إني سمعت من العرب من
يقول : قريت وتوضيت بالياء فيبدل الياء من الهمزة . فقال : فكيف تقول أفعل قال :
أقرأ ولا ينبغي أن تقول أقري .
والحكاية الأخرى أو الحكايتان حكاهما أو حكاها ابن سلام عنه على عادة نقلة الآثار
. هذا مع ما تصفحنا ما أخذه محمد بن السري عن محمد بن يزيد أو عامته وتصفح ما جمعه
أبو عبد الله الفزاري وغيره ومع صحبة علي بن سليمان وإبراهيم بن السري وغيرهم فلم
نسمع أحداً روى شيئاً من ذلك . وإنما عمل هذا الإسناد هذا الكذاب الأفاك .
ومما يدل على غرة هذا الإسناد أنا لم نجد أبا الحسن يسند إلى الخليل شيئاً إلا على
جهة الإرسال فيقول : قال الخليل أو على جهة الحكاية عن غيره فيقول : زعموا أن الخليل
كان يقول .
ولم نعلمه قال : سمعت الخليل أو حدثني الخليل كما يقول ذلك في عيسى ويونس . والذين
يحكي عنهم عن الخليل ممن كان اختص بملازمته وصحبته نفر . منهم سيبويه والنضر بن
شميل ومؤرج السدوسي وعلي بن نصر .
ثم رد على ابن خالويه في نقله بأن من النحويين من يقول أصله وله وغلطه فيه بأنه
تحريف في الرواية وتزييف . )
قال : ولم نعلم من النحويين بصريهم ولا كوفيهم من ذهب في هذا الاسم إلى أنه من
الوله وإنما ذهب إليه من ليس من أهل النظر في العربية لوضوح خطأ القول
____________________
بذلك
فيها من جهة اللفظ .
ألا ترى أن من أجاز أن يبدل من الفاء التي هي واو الهمزة لأنها مكسورة في قول من
رأى البدل من المكسورة على الاطراد كما يرى الجميع بدل الهمزة من المضمومة فإنهم
لم يذهبوا إلى ألا ترى أن من يقول في الوشاح : إشاح وفي الوسادة : إسادة يقول :
توشح وتوسد . والمستعمل في هذا الاسم تأله . قال : سبحن واسترجعن من تألهي ولو كان
من الوله لكان توله . ولو كان في الكلام لغتان لتعاقب الحرفان على الكلمة كما جاء
ذلك في سنة .
فللخطأ الظاهر من جهة اللفظ لم يذهب إلى هذا القول نحوي فيما علمناه .
ومما يدا على فساد القول بذلك أيضاً من جهة اللفظ أنهم قالوا في جميع إله آلهة كما
قالوا في جمع إناء آنية وأوان آونة .
ولو كان من الوله لوجب أن يكون الجمع أولهة كما قالوا أوعية . فللفساد الظاهر من
جهة اللفظ لم يذهب إليه أحد من أهل العربية .
فأما من جهة المعنى فليس بممتنع ولا فيه شيء ينبغي أن يجتنب لأن الذي يقول من غير
النحويين إن إله فعال من الوله إنما هو لوله العباد إليه ودعائهم له وإسراعهم إلى
ذلك عندما يدهمهم من الأمور وهذا لا يمتنع الوصف به كما لا يمتنع فيه التسمية
بإلاه .
____________________
ومعنى
الإلاهة في اللغة : العبادة قال ابن عباس في قوله عز وجل : ويذرك وإلهتك قال :
عبادتك . فكما أن العبادة لا تكون من الله سبحانه إنما تكون من عباده له كذلك لا
يكون الوله من الله سبحانه وإنما يكون من عباده إليه . إلى آخر ما ذكره أبو علي .
وأما البيت الثاني فقد قال المبرد في الكامل ذكر أبو عبيد أن أبا حاتم قال : هذا
البيت مصنوع صنعه من لا أحسن الله ذكره . يعني قطرباً .
قال ابن الشجري في أماليه : قائل هذا الرجز إنما حذف الألف للضرورة وأسكن آخره
للوقف عليه ورقق لامه لانكسار ما قبلها ولو لم يأت على قافية البيت المغله لأمكن
أن يقول : جاء من أمر اللاه فيثبت ألفه ويقف على الهاء بالسكون . انتهى . )
وأورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : وغدوا على حرد قادرين قال : على حرد على
حد وقدرة في أنفسهم . والحرد أيضاً : القصد كما يقول الرجل للرجل : قد أقبلت قبلك
وقصدت قصدك وحردت حردك .
وأنشد بعضهم : ( وجاء سيل كان من أمر الله ** يحرد حرد الجنة المغله ) يريد : يقصد
قصدها . انتهى .
واستشهد به ابن السكيت في إصلاح المنطق وابن الأنباري في شرح المفضليات والبيضاوي
في قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : الجنة : البستان . و المغلة : التي
فيها الغلة . يقال : أغلت إذا خرجت فيها غلة .
____________________
وقال
ابن السيد في شرح الكامل : هذا الرجز لقطرب بن المستنير ورواه بعضهم : حرد الحية
المغله بالحاء غير المعجمة والياء . ويجوز أن يريد بالحية الأرض المخصبة . يقال :
حييت الأرض إذا أخصبت وماتت إذا أجدبت فيكون مثل رواية من روى : الجنة ويكون معنى
المغلة ذات الغلة . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والستون بعد الثمانمائة ) ولكنني من حبها لعميد على أن
الكوفيين استدلوا به على جواز دخول اللام في خبر لكن . ومنعه البصريون وأجابوا عن
هذا بأنه : إما شاذ وإما أن أصله لكن إنني .
ومثله لابن هشام في المغني قال : ولا تدخل اللام في خبرها خلافاً للكوفيين احتجوا
بقوله : ولكنني من حبها لعميد ولا يعرف له قائل ولا تتمة ولا نظير . ثم هو محمول
على زيادة اللام أو على أن الأصل : لكن إنني ثم حذفت الهمزة تخفيفاً ونون لكن
للساكنين . انتهى .
____________________
وهذا
نص إمام الكوفيين الفراء في تفسيره : وإنما نصبت العرب إذ شددت نونها لأن أصلها إن
زيدت على إن : لام وكاف فصارتا جميعاً حرفاً واحداً .
ألا ترى أن الشاعر قال : ولكنني من حبها لكميد فلم تدخل اللام إلا أن معناها إن
وهي فيما وصلت به من أولها بمنزلة قول الشاعر : ( لهنك من عبسية لوسيمة ** على
هنوات كاذب من يقولها ) وصل إن هاهنا بلام وهاء كما وصلها ثم بلام وكاف . والحرف
قد يوصل من أوله وآخره .
انتهى .
ونسب ابن الأنباري في مسائل الخلاف هذا الكلام إلى الكوفيين وقال : أجاب البصريون
عنه بأنه محمول على أن التقدير : ولكن إنني فحذفت الهمزة من إن تخفيفاً فاجتمع
أربع نونات فحذفوا نون لكن استثقالاً لاجتماع الأمثال . ولو حمل على ما زعمتم فهو
شاذ لا يكاد يعرف له نظير . ولو كان قياساً لكثر في الكلام كما في خبر إن .
وأما قولهم إن الأصل إن ثم زيدت عليها اللام والكاف قلنا : لا نسلم فإنه دعوى بلا
دليل ولا نسلم أيضاً أن الهاء في لهنك مع اللام زائدة وإنما هي مبدلة من ألف إن
فإن الهاء تبدل من الهمزة ولهذا جاز أن يجمع بين اللام وبينها لتغير صورتها . وقد
حكي عن أصحابكم فيه وجهان .
أحدهما : قول الفراء وهو أن أصله : والله إنك فحذفت الهمزة من إنك والواو وإحدى )
اللامين والألف فبقي لهنك .
____________________
والوجه
الثاني وهو قول المفضل بن سلمة أن أصله لله إنك فحذفت لامان والهمزة من إن .
فسقط الاحتجاج به على كلا المذهبين .
وأما قولهم : إن الحرف قد يوصل في أوله قلنا : إنما جاء قليلاً على خلاف الأصل فلا
يقاس عليه . انتهى باختصار .
واقتصر الزمخشري في المفصل على الجواب الثاني فقال : وقوله : ولكنني من حبها لعميد
أصله : ولكن إنني كما أن أصل قوله تعالى : لكنا هو الله ربي : لكن أنا . انتهى .
ونقل العيني عن البعلي بأن البصريين أجابوا عنه بأن أصله ولكن أنا من حبها لعميد
فحذفت أقول : هذا فاسد فإنه يكون حينئذ من قبيل : أم الحليس لعجوز شهربه ولا يجوز
تخريج الشاذ على الشاذ . مع أن البصريين لم يقولوا ما نقله عنهم . و العميد : الذي
هده العشق . قال الجوهري : عمده المرض إذا فدحه . ورجل معمود وعميد أي : هده العشق
. و الكميد : وصف من الكمد وهو الحزن .
____________________
وأنشد
بعده : أم الحليس لعجوز شهربه وتقدم شرحه قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الثمانمائة ) إن الخليفة إن الله سربله هو
صدر وعجزه : لباس ملك به تزجى الخواتيم وهنا وقعت جملة : إن الله سربله : خبراً
لقوله : إن الخليفة والرابط الهاء في سربله . ولا يجوز فتح إن هنا لأنه يصير في
تقدير . إن الخليفة سربلته ولا يصح الإخبار بالحدث عن اسم العين ولهذا وجب كسرها .
و سربله : ألبسه يتعدى لمفعولين أولهما ضمير الخليفة والثاني اللباس بمعنى الثوب .
وجملة به تزجي الخواتيم : صفة لملك والربط الهاء في به .
____________________
ويجوز
أن تكون الجملة خبراً لإن الخليفة وحينئذ جملة إن الله سربله لباس ملك : معترضة
بين اسم إن وخبرها كما قال أبو حيان فتكون الهاء في به ضمير الخليفة .
ويجوز أيضاً أن تفتح أن على تقدير اللام . و تزجي بالزاي والجيم . والإزجاء :
السوق . و الخواتيم : جمع خاتام لغة في الخاتم .
يريد : إن سلاطين الآفاق يرسلون إليه خواتمهم خوفاً منه فيضاف ملكهم إلى ملكه .
ويروى : ترجى بالراء المهملة من الرجاء . وهذه الراوية أكثر من الأولى .
ومثل الوجه الأول آية سورة الحج وهي : إن الذين أمنوا والذين هادوا والصابئين
والنصارى والمجوس والذين أشركوا إن الله يفصل بينهم يوم القيامة قال الزجاج وتبعه
صاحب الكشاف : خبر الأولى جملة الكلام مع إن الثانية . وقد زعم أن قولك : إن زيداً
إنه قائم رديء وأن هذه الآية صلحت في الذين . ولا فرق بين الذين وغيره في باب إن .
قلت : إن زيداً إنه قائم كان جيداً .
ومثله قول الشاعر : إن الخليفة إن الله سربله وليس بين البصريين خلاف في أن تدخل
على كل ابتداء وخبر تقول : إن زيداً إنه قائم . انتهى كلامه .
وهذا تعريض بالفراء فإنه قال في تفسيره : وقوله : إن الذين أمنوا والذين هادوا إلى
قوله : )
____________________
وأنت
لا تقول : إن أخاك إنه ذاهب فجاز ذلك لأن المعنى كالجزاء أي : من كان مؤمناً أو
على شيء من هذه الأديان ففصل بينهم وحسابهم على الله .
وربما قالت العرب : إن أخاك إن الدين عليه لكثير فيجعلون إن في خبره إذا كان إنما
يرفع باسم مضاف إلى ذكره كقول الشاعر : ( إن الخليفة إن الله سربله ** سربال ملك
به ترجى الخواتيم ) ومن قال هذا لم يقل : إنك إنك قائم ولا إن أباك إنه قائم لأن
الاسمين قد اختلفا فحسن رفض ومثل البيت في الوجهين آية سورة الكهف وهي قوله تعالى
: إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً . أولئك لهم جنات
عدن فيجوز أن يكون إنا لا نضيع . . . إلخ خبر إن الذين والرابط العموم . ويجوز أن
يكون الخبر جملة أولئك لهم جنات عدن ويكون جملة إنا لا نضيع . . . إلخ معترضة بين
اسم إن وخبرها .
قال الزجاج : يجوز أن يكون الخبر إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً ومعناه : إنا لا
نضيع أجرهم لأن ذكر من كذكر الذي وذكر حسن العمل كذكر الإيمان فيكون كقولك : إن
الله لا يضيع أجره .
ويجوز أن يكون خبر إن أولئك لهم جنات عدن ويكون قوله : إنا لا نضيع أجر
____________________
من
أحسن عملاً قد فصل به بين الاسم وخبره لأن فيه ذكر ما في الأول لأن من أحسن عملاً
بمنزلة الذين آمنوا . انتهى .
وزاد الفراء وجهين آخرين : أحدهما : أن يكون جملة إنا لا نضيع : بدلاً من إن الذين
.
والثاني : أن يكون الذين متضمناً لمعنى الشرط لعمومه وجملة إنا لا نضيع الجزاء
بتقدير الفاء . وهما ضعيفان لا يجوزان .
إن الخليفة إن الله سربله كأنه في المعنى : إنا لا نضيع أجر من عمل صالحاً فترك
الكلام الأول واعتمد على الثاني بنية التكرير كما قال : يسئلونك عن الشهر الحرام
ثم قال : قتال فيه يريد عن قتال فيه بالتكرير .
ويكون أن تجعل إن الذين آمنوا في مهب جزاء كقولك : إن من عمل صالحاً فإنا لا نضيع
أجره . )
فتضمر الفاء وإلقاؤها جائز . وهو أحب الوجوه إلي . وإن شئت جعلت الخبر أولئك لهم
جنات عدن . هذا كلامه .
والبيت الشاهد من قصيدة لجرير . لكن الذي رأيته في ديوانه بنسخة صحيحة قديمة :
يكفي الخليفة أن الله سربله وعليه لا شاهد فيه .
____________________
وهذه
القصيدة مدح بها العزيز بن الوليد بن عبد الملك بن مروان ومطلعها : ( أواصل أنت
سلمى بعد معتبة ** أم صارم الحبل من سلمى فمصروم ) ( قد كنت أضمر حاجات وأكتمها **
حتى متى طول هذا الوجد مكتوم ) وبعد البيت الشاهد : ( من يعطه الله منكم يعط
نافلةً ** ويحرم اليوم منكم فهو محروم ) ( قوم أبوهم أبو العاصي وأورثهم **
جرثومةً لا تساميها الجراثيم ) ( قد فاز بالغاية العليا فأحرزها ** سام خروج إذا
اصطك الأضاميم ) ( ما الملك منتقل عنكم إلى أحد ** ولا بناؤكم العادي مهدوم ) وهذا
آخر القصيدة . وجرير تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الثمانمائة )
____________________
(
لقد علم الحي اليمانون أنني ** إذا قلت أما بعد إني خطيبها ) على أنه روي أني
الثانية بكسر الهمزة وفتحها .
أما الكسر فعلى أن جملة : إني خطيبها : خبر أنني المفتوحة الهمزة ولا يجوز فتحها
لئلا يؤدي إلى الإخبار بالحدث عن اسم العين كما تقدم قبله .
وأما فتحها فعلى أنها تكرير للأولى على وجه التأكيد و خطيبها : خبر أن الأولى ولا
خبر لأن الثانية لأنها جاءت مؤكدة للأولى فهي عينها كما قرره الشارح في الآية .
قال شارح اللباب : كان القياس إذا قلت : أما بعد خطيبها بدون أني ليكون خطيبها خبر
أنني والبيت لسحبان وائل .
وروي صدره : وقد علمت قيس بن عيلان أنني و قيس : قبيلة كبيرة ولها أنث علمت له .
وهو في الأصل أبو قبائل شتى . وهو لقب واسمه الناس بالنون ابن مضر بن نزار بن معد
بن عدنان . و عيلان بالعين المهملة وليس في العرب عيلان غيره .
واختلف فيه : فقيل : عيلان لقب مضر وقيل : عيلان عبد لمضر فحضن الناس فغلب عليه
ونسب إليه وقيل : عيلان : اسم فرس لقيس يضاف إليه فيقال : قيس عيلان كقول العجاج :
____________________
وقيس
عيلان ومن تقيسا وقيل غير ذلك . و خطيب القوم هو المتكلم عنهم لكونه أفصح منهم
وأبلغ مأخوذ من الخطاب وهو القول الذي يفهمه المخاطب . ويقال لمن يعظ القوم : خطيب
أيضاً .
يقال : خطبهم وخطب عليهم من باب قتل خطبة بالضم وهي فعلة بمعنى مفعولة نحو : نسخة
بمعنى منسوخة وغرفة من ماء بمعنى مغروفة . ومصدره الخطابة وهو قياس مركب من مقدمات
مقبولة أو مظنونة من شخص معتقد فيه والغرض منها ترغيب الناس فيما ينفعهم معاشاً
ومعاداً .
وأنني الأولى في تأويل مفعول ساد مسد مفعولي علم وإذا ظرف لعلم . )
وكثيراً ما تأتي عقب الحمد لله وتسمى حينئذ فصل الخطاب كأنها فصلت بين الكلام
الأول والثاني . وتأتي عقب البسملة . وتأتي ابتداء كأنها عقب الفكر والروية .
واختلف في أول من قالها . قال الزبير بن بكار : أول من قال : أما بعد كعب بن لؤي
كان يجمعهم يوم الجمعة ويخطبهم وكان من قوله : أما بعد فعطموا حرمكم وزينونه
وكرموه فإنه يخرج منه نبي كريم .
وقيل : أول من قالها قس بن ساعدة الإيادي كان يجمع بنيه ويقول لهم : أما بعد فإن
المعى تكفيه البقلة وترويه المذقة إلى آخر كلامه .
____________________
وقيل
أول من قالها داود النبي عليه السلام قال أبو موسى الأشعري والشعبي : أما بعد هي
فصل الخطاب في قوله تعالى : وآتيناه الحكمة وفصل الخطاب . والصحيح أنه داود وإنما
قيس وقيل فصل الخطاب في الآية : البينة على المدعى واليمين على من أنكر وقيل :
الفصل بين الحق والباطل وقيل : الفقه في القضاء . و سحبان أورده ابن حجر في
الإصابة في قسم المخضرمين الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يجتمعوا به وهو سحبان بن زفر بن إياس الوائلي وائل باهلة . خطيب مفصح يضرب به المثل
في البيان . أدرك الجاهلية وأسلم ومات سنة أربع وخمسين .
وحكى الأصمعي قال : كان إذا خطب يسيل عرقاً ولا يعيد كلمة ولا يتوقف ولا يقعد حتى
يفرغ .
وقدم على معاوية وفد من خراسان فيهم سعيد بن عثمان فطلب سحبان فأتي به فقال : تكلم
.
فقال : انظروا لي عصاً تقوم من أودي . فقالوا : وما تصنع بها وأنت بحضرة أمير
المؤمنين قال : ما كان يصنع بها موسى وهو يخاطب ربه وعصاه في يده .
فضحك معاوية وقال : هاتوا عصاه فأخذها ثم قام فتكلم من صلاة الظهر إلى أن قامت
صلاة العصر ما تنحنح ولا سعل ولا توقف ولا ابتدأ في معنى فخرج منه وقد بقي عليه
شيء . )
فما زالت تلك حالته حتى أشار معاوية بيده فأشار إليه سحبان أن لا تقطع علي كلامي .
فقال معاوية : الصلاة . فقال : هي أمامك ونحن في صلاة
____________________
وتحميد
ووعد ووعيد . فقال معاوية : أنت أخطب العرب فقال سحبان : والعجم والإنس والجن .
ومما روي من خطبه البليغة : إن الدنيا دار بلاغ والآخرة دار قرار . أيها الناس
فخذوا من دار ممركم لدار مقركم ولا تهتكوا أستاركم عند من لا تخفى عليه أسراركم
وأخرجوا من الدنيا قلوبكم قبل أن تخرج منها أبدانكم ففيها حييتم ولغيرها خلقتم .
إن الرجل إذا هلك قال الناس : ما ترك وقالت الملائكة : ما قدم .
قال حمزة الأصبهاني في أمثاله في قولهم : هو أبلغ من سحبان وائل : كان من خطباء
العرب وبلغائها .
وفي نفسه يقول : لقد علم الحي اليمانون أنني البيت وهو الذي يقول لطلحة الطلحات
الخزاعي : ( يا طلح أكرم من مشى ** حسباً وأعطاهم لتالد ) ( منك العطاء فأعطني **
وعلي مدحك في المشاهد ) فقال طلحة : احتكم . فقال : برذونك الورد وقصر بزرنج
وغلامك الخباز وعشرة آلاف درهم . فقال طلحة : أف لم تسألني على قدري وإنما سألت
على قدرك وقدر باهلة ولو سألتني كل قصر وعبد ودابة لأعطيتك .
____________________
ثم
أمر له بما سأله ولم يزده شيئاً وقال : تالله ما رأيت مسألة محكم ألأم منها .
وزرنج : مدينة بسجستان مات بها طلحة الطلحات .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد الثمانمائة ) ( تالله ربك إن قتلت لمسلماً
** وجبت عليك عقوبة المتعمد ) على أن الكوفيين استدلوا به على جواز دخول إن
المخففة على غير الأفعال الناسخة .
وهذا عند البصريين شاذ لأن مذهبهم إذا خففت إن وأهملت لا يليها غالباً إلا فعل
ناسخ كما قال الشارح . ولم يقيده بالماضي كما قيده ابن مالك لأن شراحه قالوا : ليس
بصحيح لقوله تعالى : وإن نظنك لمن الكاذبين
____________________
وقوله
تعالى : وإن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم .
وأما الكوفيون غير الكسائي فلا يثبتون إن مخففة لا عاملة ولا مهملة وإنما هي عندهم
إن النافية واللام بمعنى إلا . وهي عند الكسائي مخففة إن دخلت على اسم ونافية إن
دخلت على فعل .
فقوله : إن قتلت لمسلماً عند جميع الكوفيين إن فيه نافية واللام بمعنى إلا .
وعند البصريين مخففة مهملة واللام فارقة ومسلماً : مفعول قتلت وجملة إن قتلت
لمسلماً : جواب القسم و ربك : صفة لله وجملة وجبت . . . إلخ استئناف بياني كأنه
قال : ما شأني في قتل مسلم . وتنوين مسلم للتعظيم والتهويل . وعقوبة المتعمد فاعل
وجبت أي : إنك تعاقب بما يعاقب به من تعمد قتل مسلم .
وقال العيني : جملة وجبت عليك جواب شرط محذوف والتقدير : إنك إن قتلت مسلماً وجبت
عليك عقوبة المتعمد . هذا كلامه مع أنه لم يذكر ما موقع جملة إن قتلت من الإعراب .
ورواية صدر البيت عنده : شلت يمينك إن قتلت وعليه فالجملة استئناف لبيان سبب
الدعاء عليه .
قال ثعلب في الفصيح في باب فعلت بكسر العين : وقد شلت يده تشل ولا تشلل يدك أي :
وروى أيضاً : هبلتك أمك إن قتلت و ثكلتك أمك وهما بمعنى ومن باب فرح . يقال : هبلته
أمه أي : ثكلته ومصدرهما الهبل والثكل بفتحتين واسم الثاني الثكل كقفل وهو أن تفقد
المرأة ولدها . و وجبت معناه حقت وثبتت . وروي أيضاً : حلت بدل وجبت وهو من الحلول
بمعنى )
____________________
النزول
. وروي أيضاً : إن قتلت لفارساً .
قال أبو علي في البغداديات : إن المخففة قد دخلت على الفعل في نحو : إن كان ليضلنا
و إن كانوا ليقولون .
فيقول القائل : كيف دخلت على الفعل مخففة وامتنعت من الدخول عليه مثقلة فالجواب
أنها امتنعت من ذلك مثقلة لشبهها بالفعل في إحداثها الرفع والنصب كمل يحدثهما
الفعل فمن حيث لم يدخل الفعل على الفعل لم تدخل هي أيضاً عليه .
وأصلها أنها حرف تأكيد وإن كان لها هذا الشبه الذي ذكرنا بالفعل . وإذا خففت زال
شبه الفعل عنها فلم تمتنع من الدخول على الفعل إذ كانت الجمل الخبرية على ضربين :
مبتدأ وخبر وفعل وفاعل .
وقد تحتاج المركبة من الفعل والفاعل من التأكيد إلى مثل ما تحتاج إليه المركبة من
المبتدأ والخبر فدخلت المخففة على الفعل مؤكدة إذا كان أصلها التأكيد وزال المعنى
الذي له كان امتنع من الدخول على الفعل وهو شبهها به .
ولزوال شبهه بالفعل اختير في الاسم الواقع بعده الرفع وجاء أكثر القراءة على ذلك .
ومن حيث اختير الرفع في الاسم الواقع بعدها جاز دخولها على الفعل .
فأما اللام التي تصحبها مخففة ف هي للفرق بينها وبين إن التي تجيء نافية بمعنى ما
وليست هذه اللام بالتي تدخل على خبر إن المشددة التي هي للابتداء لأن تلك كان
حكمها أن تدخل على إن فأخرت إلى الخبر لئلا يجتمع تأكيدان إذ كان الخبر هو المبتدأ
في المعنى وما هو واقع موقعه وراجع إليه .
____________________
فهي
لا تدخل إلا على المبتدأ أو على خبر إن إذ كان إياه في المعنى أو متعلقاً به .
ولاتدخل من الفعل إلا على ما كان مضارعاً واقعاً في خبر إن وكان فعلاً للحال .
فإذا لم تدخل إلا على ما ذكرنا لم يجز أن تكون هذه اللام التي تصحب إن الخفيفة
إياها إذ لا جائز دخول لام الابتداء على الفعل الماضي . وقد وقع بعد إن هذه الفعل
نحو : إن كادوا و إن وجدنا أكثرهم لفاسقين وقد جاوزت الأفعال الواقعة بعد إن فعملت
فيما بعد اللام . ومعلوم أن لام الابتداء التي تدخل في خبر إن الشديدة لا يعمل
الفعل الذي قبلها فيما بعدها وذلك نحو : وإن كنا عن عبادتكم )
لغافلين وقول القائل : ( هبلتك أمك إن قتلت لفارساً ** حلت عليك عقوبة المتعمد )
فلما عمل الفعل فيما بعد اللام علم أنها ليست التي تدخل في خبر إن الشديدة . وليست
أيضاً التي تدخل على الفعل المستقبل والماضي للقسم نحو : ليفعلن ولفعلوا .
ولو كانت تلك للزم الفعل الذي تدخل عليه إحدى النونين فلما لم تلزم علم أنها ليست
إياه . قال تعالى : إن كاد ليضلنا عن آلهتنا و إن كانوا ليقولون فلم تلزم النون .
وحكى سيبويه أن هذه النون قد لا تلزم الفعل المستقبل في القسم فيقال : والله لتفعل
وهو يريدون لتفعلن . قال : إلا أن الأكثر على ألسنتهم ما أعلمتك من دخول إحدى
النونين فلا ينبغي أن تقول : إن هذه اللام هي التي في لتفعلن فتحمل الآي التي
تلوناها على الأقل في الكلام .
____________________
على
أن هذه اللام لو كانت هي التي ذكرنا أنها للقسم وتدخل على المستقبل والماضي لم
تدخل على الأسماء في مثل : إن كنا عن عبادتكم لغافلين و إن قتلت لفارساً .
والدليل على ذلك أنها لا تعلق الأفعال الملغاة قبل إن إذا وقعت في حيزها كما
تعلقها التي تدخل على الخبر . فقد ثبت بما ذكرنا أن هذه اللام مع إن المخففة ليست
التي مع إن المشددة ولا التي تدخل على الفعل للقسم لكنها للفصل بينها وبين إن
النافية . فهذا حقيقة إن الخفيفة واللام التي معها عندي . انتهى كلامه .
وقد نقل الشارح المحقق الجواب عن عدم تعليق اللام .
ثم قال أبو علي : وإذا ثبت أن هذه اللام ليست للابتداء لم يمتنع أن تنفتح أن إذا
كانت هذه اللام معها ودخل عليه ما يوجب فتحها إذ اللام المانعة من انفتاح أن غيرها
.
فلو أدخلنا علمت في مثل : إن وجدك زيد لكاذبا وجب انفتاح أن إذ ليس في الكلام شيء
يعلق الفعل عنها ولم يجب أن يكون في أن ضمير القصة من هذه المسألة كما تقول : إن
في مثل قوله تعالى : أن سيكون منكم ضميراً لأن هذا الضمير إنما يكون في أن المخففة
من أن المشددة .
وليست هذه تلك إنما هي التي قبل دخول الفعل عليها أن التي لا تمتنع من الدخول على
الفعل لزوال العلة التي كانت تمنعه من الدخول عليه وهي ثقيلة .
فكما تقول في حال انكسارها : لا ضمير فيها كذلك تقول في حال انفتاحها بعد الفعل
فإذا )
قلنا : علمت أن وجدك زيد كاذبا لم تدخل اللام كما كانت تدخل قبل دخول علمت ولم
يمنع الفعل من فتح أن شيء وارتفعت الحاجة إلى اللام مع دخول علمت .
وإذا فتحت لم تلتبس بإن التي معناها ما ولولا فتحها إياها لاحتيج إلى اللام لأن
علمت من المواضع التي يقع فيها النفي كما وقع بعد ظننت في نحو قوله :
____________________
وظنوا
ما لهم من محيص فلو بقيت إن على كسرها بعد علمت للزمتها اللام وكان ذلك واجباً
لتخليصه من النفي . فإذا لم تبق على الكسرة فلا ضرورة إلى اللام .
فإن شئت قلت : إذا أدخلت علمت عليها حذفت اللام لزوال المعنى الذي كانت اللام
اجتلبت له بدون علمت . وإن شئت قلت : أتركها ولا احذفها فتكون كالأشياء التي تذكر
تأكيداً من غير ضرورة إليه . وذلك كثير في الكلام . انتهى كلامه . ولم أره لغيره
وهو غريب يحتاج في إثباته إلى السماع .
هذا والبيت لعاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل من أبيات رثت بها زوجها الزبير بن
العوام وقد قتله عمرو بن جرموز المجاشعي غدراً بعد انصرافه من وقعة الجمل .
وذلك أن الزبير كان خرج مع عائشة رضي الله عنهما في وقعة الجمل ولما حمي القتال
ناداه علي رضي الله عنه فقال له : أنشدك الله يا زبير أما تذكر يوم قال لك رسول
الله صلى الله عليه وسلم : يا زبير أتحب علياً قلت : وما يمنعني من حبي وهو ابن
خالي فقال : ستقاتله وأنت ظالم له . فقال : اللهم بلى قد كان ذلك ولكني قد أنسيت
ذلك .
فانصرف الزبير من الحرب آخذاً طريق مكة فنول على قوم من تميم فأضافه ابن جرموز
وخرج معه إلى وادي السباع وهو على أربعة فراسخ من البصرة وأراد أنه يريد مسايرته
فقتله غيلة وذلك في سنة ست وثلاثين من الهجرة . ورثته زوجته بهذه الأبيات : ( غدر
ابن جرموز بفارس بهمة ** يوم اللقاء وكان غير معرد ) ( يا عمرو لو نبهته لوجدته **
لا طائشاً رعش الجنان ولا اليد )
____________________
(
شلت يمينك إن قتلت لمسلماً ** حلت عليك عقوبة المتعمد ) ( إن الزبير لذو بلاء صادق
** سمح سجيته كريم المشهد ) ( كم غمرة قد خاضها لم يثنه ** عنها طرادك يا ابن فقع
القردد ) ( فاذهب فما ظفرت يداك بمثله ** فيما مضى ممن يروح ويغتدي ) )
قال الزبير بن بكار في أنساب قريش : تزوج عبد الله بن أبي بكر الصديق رض الله
تعالى عنهما عاتكة بنت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت حسناء جميلة ذات خلق بارع فشغلته
عن مغازيه فأمره أبوه بطلاقها فقال : ( يقولون طلقها وخيم مكانها ** مقيماً عليك
الهم أحلام نائم ) ( وإن فراقي أهل بيت جمعتهم ** على كبرة مني لإحدى العظائم )
____________________
ثم
طلقها فمر به أبوه وهو يقول : ( فلم أر مثلي طلق اليوم مثلها ** ولا مثلها في غير
جرم تطلق ) ( لها خلق جزل ورأي ومنصب ** وخلق سوي في الحياة ومصدق ) فرق له أبوه
وأمره فراجعها . ثم شهد مع النبي صلى الله عليه وسلم غزوة الطائف فأصابه سهم فمات
منه بعد بالمدينة فقالت عاتكة تبكيه : ( فآليت لا تنفك عيني حزينةً ** عليك ولا
ينفك جلدي أغبرا ) ( فلله عينا من رأى مثله فتىً ** أكر وأحمى في الهياج وأصبرا )
( إذا شرعت فيه الأسنة خاضها ** إلى الموت حتى يترك الرمح أحمرا ) ثم تزوجها عمر
بن الخطاب فأولم عليها فكان فيمن دعا علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنهما فقال
له علي : دعني أكلم عاتكة . فقال : كلمها يا أبا الحسن فأخذ علي بجانب الخدر ثم
قال : يا عدية نفسها : ) ( فآليت لا تنفك عيني حزينةً ** عليك ولا ينفك جلدي أغبرا
) فبكت فقال عمر : ما دعاك إلى هذا يا أبا الحسن كل النساء يفعل هذا .
____________________
ثم
قتل عنها عمر رض الله تعالى عنه فقالت تبكيه : ( عين جودي بعبرة ونحيب ** لا تملي
على الجواد النجيب ) ( فجعتني المنون بالفارس المع ** لم يوم الهياج والتثويب ) (
قل لأهل الضراء والبأس موتوا ** مذ سقته المنون كأس شعوب ) ثم تزوجها الزبير بن
العوام رض الله تعالى عنه فكانت تخرج إلى المسجد ليلاً وكان يكره خروجها ويحرج من
منعها فخرجت ليلة إلى المسجد وخرج الزبير فسبقها إلى مكان مظلم من طريقها فلما مرت
به وضع يده على بعض جسدها فرجعت تبكي ثم لم تخرج بعدها فقال لها الزبير : ما لك لا
تخرجين إلى المسجد كما كنت تفعلين فقالت : فسد الناس فقال : أنا فعلت ذلك فقالت :
أليس يقدر غيرك أن يفعل مثله فلم تخرج حتى قتل عنها الزبير فقالت ترثيه : غدر ابن
جرموز بفارس بهمة الأبيات السابقة .
وخطبها علي بن أبي طالب رضي الله تعالى عنه بعد قتل الزبير فأرسلت إليه تقول : إني
لأضن بابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتل . انتهى . كلام الزبير بن
بكار .
وقد تقدم ترجمة والدها زيد في الشاهد الثامن والسبعين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده :
____________________
(
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني ** طلاقك لم أبخل وأنت صديق ) على أن أن المخففة
المفتوحة لا تعمل في الضمير إلا في الشعر .
وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثامن بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( بأنك ربيع وغيث مريع ** وأنك هناك تكون الثمالا ) لما تقدم قبله .
ومثله في المغني لابن هشام قال : وشرط اسم أن المخففة أن يكون ضميراً محذوفاً
وربما ثبت كقوله : )
فلو أنك في يوم الرخاء سألتني . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
وهو
مختص بالضرورة على الأصح . وشرط خبرها أن يكون جملة ولا يجوز إفراده إلا إذا ذكر
الاسم فيجوز الأمران .
وقد اجتمعا في قوله : بأنك ربيع وغيث مريع . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وتقدم في شرح البيت السابق من باب المضمر أن اسمها عند التخفيف يجب أن يكون ضمير
شأن محذوف . ونقلنا هناك نص سيبويه .
ففي هذا البيت شذوذ من وجه آخر وهو كون اسمها غير ضمير شأن . وجوزه بعضهم . وإلى
الأول يشير كلام ابن هشام حيث قال : وربما ثبت أي : اسمها . وإلى الثاني ذهب ابن
مالك وأبو قال الأول : إذا أمكن جعل الضمير المحذوف ضمير حاضر أو غائب غير الشأن
فهو أولى .
وقال الثاني : لا يلزم أن يكون ضمير الشأن كما زعم بعض أصحابنا بل إذا أمكن تقديره
بغيره قدر .
قال سيبويه في : وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت بأنك قد صدقت . وفي قولهم : أرسل
إليه أن ما أنت وذا أي : بأنك ما أنت وذا . انتهى .
هذا . وقد روى البيت أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات وإبراهيم الحصري في زهر
الآداب والشريف في حماسته هكذا : ( بأنك كنت الربيع المغيث ** لمن يعتريك وكنت
الثمالا ) وحينئذ لا شاهد فيه .
والبيت من قصيدة عدتها عشرون بيتاً أوردها صاحب زهر الآداب . وأورد
____________________
الشريف
منها في حماسته ثمانية أبيات وأبو حنيفة ثلاثة أبيات وقالوا : هي لجنوب رثت بها
أخاها عمراً ذا الكلب وهي : ( سألت بعمرو أخي صحبه ** فأفظعني حين ردوا السؤالا )
( فقالوا : أتيح له نائماً ** أعر السباع عليه أحالا ) ( فأقسمت يا عمرو لو نبهاك
** إذن نبها منك أمراً عضالا ) ) ( إذن نبها ليث عريسة ** مفيداً مفيتاً نفوساً
ومالا ) ( إذن نبها غير رعديدة ** ولا طائشاً دهشاً حين صالا ) ( هزبراً فروساً
لأعدائه ** هصوراً إذا لقي القرن صالا ) ( هما مع تصرف ريب المنون ** من الأرض
ركناً ثبيتاً أمالا ) ( هما يوم حم له يومه ** وقال أخو فهم بطلاً وفالا ) (
وقالوا قتلناه في غارة ** بآية أن قد ورثنا النبالا ) ( فهلا إذن قبل ريب المنون
** فقد كان رجلاً وكنتم رجالا ) ( وقد علمت فهم عند اللقا ** بأنهم لك كانوا نفالا
) ( كأنهم لم يحسوا به ** فيخلوا النساء له والحجالا ) ( ولم ينزلوا بمحول السنين
** به فيكونوا عليه عيالا ) ( وقد علم الضيف والمرملون ** إذا اغبر أفق وهبت شمالا
) ( بأنك كنت الربيع المغيث ** لمن يعتريك وكنت الثمالا ) ( وخرق تجاوزت مجهوله **
بوجناء حرف تشكى الكلالا )
____________________
(
وحي أبحت وحي منحت ** غداة اللقاء منايا عجالا ) ( وكم من قبيل وإن لم تكن **
أردتهم منك باتوا وجالا ) قال السكري في شرح هذه القصيدة قال أبو عمرو : قالت هذه
القصيدة عمرة بنت العجلان أخت عمرو ذي الكلب بن العجلان الكاهلي ترثي أخاها عمراً
. انتهى .
ونسبها غيره لأخته جنوب . قال الشريف : كان عمرو خرج غازياً فهبط وادياً من
أوديتهم فنام فيه فوثب عليه نمران فأكلاه .
وقال صاحب زهر الآداب : قال عمر بن شبة : كان عمرو هذا يغزو فهماً فيصيب نمهم
فوضعوا له رصداً على الماء فأخذوه فقتلوه ثم مروا بأخته جنوب فقالوا : طلبنا أخاك
فقالت : لئن طلبتموه لتجدنه منيعاً ولئن وصفتموه لتجدنه مريعاً ولئن دعوتموه
لتجدنه سريعاً .
والله لئن سلبتموه لا تجدون ثنته وافية ولا حجزته جافية ولرب ثدي منكم قد افترشه
ونهب قد احتوشه وضب قد احترشه . ثم قالت هذه الأبيات . انتهى .
____________________
وقولها
: سألت بعمرو الباء بمعنى عن وأخي : عطف بيان وصحبه : مفعول سألت وهو )
مضاف إلى ضمير عمرو . و صحب : جمع صاحب كشهد جمع شاهد . و أفظعني : هدني قبحه
وشدته . يقال : أفظع الأمر إفظاعاً وفظع فظاعة إذا جاوز الحد في و أتيح : مجهول
أتاح الله له بالمثناة والحاء المهملة بمعنى قضى وقدر . والهاء في له لعمرو
ونائماً : حال منها وأعر السباع : نائب فاعل أتيح وهو من العرارة بالعين والراء
المهملتين وهو سوء الخلق . و أحال بالحاء المهملة قال السكري : أي ركب عليه فقتله
وأكله . و نمرا أجبل : مثنى نمر مضاف إلى أجبل : جمع جبل .
وتصحفت هذه الكلمة على العيني فقال : قولها نمرا جيئل أي : نمران من جيئل أي :
سبعان من جيئل . والنمر : السبع . والجيئل بفتح الجيم وسكون الياء وفتح الهمزة وهو
الضبع . وهذا كلامه وهو تحريف قطعاً .
وروى العيني : وثالا بدل منالا وقال : ثالا بالثاء المثلثة يقال : ثال عليه القوم
إذا علوه بالضرب . و المنون : الموت . و حمام المنون : المقدر . قال السكري : قال
أبو عمرو : فنالا وما نال ثم قبالا وهذا البيت ساقط من رواية العيني .
وقولها : فأقسمت . . . إلخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . وضمير المثنى في
نبهاك
____________________
وقولها
: ليث عريسة قال الجوهري : العريس والعريسة : مأوى الأسد . والمفيد معناه معطي
الفائدة وآخذ الفائدة كذا ورد بالمعنيين . و مفيت بالفاء قال السكري : أي مهلك
النفوس والمال .
وتصحفت هذه الكلمة على العيني فرواها بالقاف وقال : مقيتاً أي : مقتدراً كالذي
يعطي كل رجل قوته . ويقال المقيت : الحافظ للشيء والشاهد له . والنفوس يرجع إلى
المقيت والمال يرجع إلى المفيد . هذا كلامه . و الهزبر : الأسد الضخم الشديد . و
الفروس : الكثير الافتراس للمصيد . و هصور من الهصر وهو الجذب والأخذ بقوة . و
القرن بالكسر . وهذا البيت ساقط من رواية العيني . و ريب المنون : حوادث الدهر .
قال السكري : ثبيت : ثابت وروى غيره بدله : شديداً . )
وقولها : هما يوم حم . . . إلخ قال السكري : هما يعني النمرين . و حم : قضى وقدر .
و فال بالفاء أي : اخطأ . رجل فائل الرأي وفيل أي : ضعيف الرأي . و فهم : قبيلة
ولهذا منعه الصرف .
وقولها : ونحن قتلناه في غارة و رجل قال السكري : هو الرجل يقال : رجل ورجل أي :
بسكون الجيم وضمها .
وروى غيره : فذاً بدل رجلاً . والفذ بالفاء والذال المعجمة هو الفرد . و النفال :
الغنائم جمع نفل بفتحتين وهي الغنيمة .
____________________
وقولها
: كأنهم لم يحسوا به . . إلخ من حسست بالخبر من باب تعب أي : علمته وشعرت به . و
يخلوا من أخليته أي : جعلته خالياً . و الحجال : جمع حجلة بالتحريك وهي بيت يزين
بالثياب والأسرة والستور . و المحول : جمع محل وهو القحط .
وقولها : وقد علم الضيف والمرملون هو من أرمل القوم إذا نفد زادهم . وروى بدله
السكري : والمجتدون وقال : هم الطالبون الجدا وهي العطية . وفاعل هبت ضمير الريح
وإن لم يجر لها ذكر لفهمها من قولها إذا اغبر أفق فإن اغبراره إنما يكون في الشتاء
لكثرة الأمطار واختلاف الرياح . و الشمال بالفتح ويكسر : ريح تهب من ناحية القطب
وهو حال وإنما خصت هذا الوقت بالذكر لأنه وقت تقل فيه الأرزاق وتنقطع السبل ويثقل
فيه الضيف فالجود فيه غاية لا تدرك . ( وخلت عن اولادها المرضعات ** ولم تر عين
لمزن بلالا ) وقال : إنما خلت أولادها من الإعواز لم يجدن قوتاً . واغبرار الأفق
من الجدب . وأراد : هبت الريح شمالاً . وهي تضمر وإن لم تذكر لكثرة ما تذكر .
انتهى . و المزن : السحاب . و البلال بالكسر : البلل .
قولها : بأنك ربيع . . إلخ الربيع هنا : ربيع الزمان . قال ابن قتيبة في باب ما
يضعه الناس غير موضعه وهو أول كتابه أدب الكاتب : ومن ذلك الربيع يذهب الناس إلى
أنه الفصل الذي يتبع )
الشتاء ويأتي فيه الورد والنور ولا يعرفون الربيع غيره . والعرب تختلف في ذلك :
____________________
فمنهم
من يجعل الربيع الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف وفصل الشتاء بعده ثم فصل
الصيف بعد الشتاء وهو الوقت الذي تدعوه العامة الربيع ثم فصل القيظ بعده وهو الذي
تدعوه العامة الصيف .
ومن العرب من يسمي الفصل الذي تدرك فيه الثمار وهو الخريف : الربيع الأول . ويسمي
الفصل الذي يتلوه الشتاء ويأتي فيه الكمأة والنور : الربيع الثاني . وكلهم مجمعون
على أن الخريف هو الربيع . انتهى .
قال شارحه ابن السيد : مذهب العامة في الربيع هو مذهب المتقدمين لأنهم كانوا
يجعلون حلول الشمس برأس الحمل أول الزمان وشبابه . وأما العرب فإنهم جعلوا حلول الشمس
برأس الميزان أول فصول السنة الأربعة وسموه الربيع .
وأما حلول الشمس برأس الحمل فكان منهم من يجعله ربيعاً ثانياً فيكون في السنة على
مذهبهم ربيعان .
وكان منهم من لا يجعله ربيعاً ثانياً فيكون في السنة على مذهبهم ربيع واحد . وأما
الربيعان من الشهور فلا خلاف بينهم أنهما اثنان : ربيع الأول وربيع الآخر . انتهى
. و الغيث : المطر والكلأ ينبت بماء السماء والمراد به هذا لوصفه بالمريع وهو
الخصيب بفتح الميم وضمها . وفي القاموس : مرع الوادي مثلثة الراء مراعة : أكلأ
كأمرع . و الثمال بكسر المثلثة قال الدينوري : هو الذخر وقال غيره : هو الغياث .
وقولها : خرق هو بفتح الخاء المعجمة : الفلاة الواسعة تتخرق فيها الرياح . و
مجهولة : الذي لا يسلك . و الوجناء بالجيم : الناقة الشديدة . و الحرف : الضامرة
الصلبة . و تشكى مضارع أصله تتشكى بتاءين . و الكلال : الإعياء .
وقولها : وحي أبحت أي : رب قبيلة جعلتها مباحة للناهبين ورب قبيلة أعطيتهم المنايا
يوم
____________________
وروي
أيضاً : وحياً أبحت وحياً منحت و المنايا : جمع منية وهي الموت . و العجال بالكسر
: جمع عجل بفتح فضم بمعنى عاجل )
كما يجمع رجل على رجال . و القبيل هنا : جمع قبيلة . و الوجال : جمع وجل بفتح فكسر
وهو الخائف من الوجل بفتحتين وهو الخوف . و جنوب صاحبة الشعر هي امرأة شاعرة
جاهلية بفتح الجيم وضم النون . وأخوها عمرو جاهلي أيضاً وهو ابن العجلان بن عامر
بن برد بن منبه أحد بني كاهل بن لحيان بن هذيل .
وسمي ذا الكلب لأنه كان لا يفارقه كلب له قاله ابن الأعرابي .
وقال أبو عبيدة : لم يكن له كلب لا يفارقه وإنما خرج غازياً ومعه كلب يصطاد به
فقال له أصحابه : يا ذا الكلب . فثبتت عليه . ومن الناس من يقول له عمرو الكلب
بغير ذو . والله أعلم .
وقيل إن جنوب هي عمرة لا أنهما ثنتان . وله أخت أخرى اسمها ريطة هي شاعرة أيضاً
ومن شعرها فيه : ( وكل حي وإن عزوا وإن سلموا ** يوماً طريقهم في الشر دعبوب )
____________________
(
أبلغ هذيلاً وأبلغ من يبلغها ** عني رسولاً وبعض القول تكذيب ) ( بأن ذا الكلب
عمراً خيرهم نسباً ** ببطن شريان يعوي حوله الذئب ) ( الطاعن الطعنة النجلاء
يتبعها ** مثعنجر من نجيع الجوف أسكوب ) ( والتارك القرن مصفراً أنامله ** كأنه من
نجيع الجوف مخضوب ) ( المخرج العاتق العذراء مذعنةً ** في السبي ينفح من أردانها
الطيب ) ( تمشي النسور عليه وهي لاهية ** مشي العذارى عليهم الجلابيب ) وأنشد بعده
:
____________________
أن
هالك كل من يحفى وينتعل هذا عجز وصدره : في فتية كسيوف الهند قد علموا وتقدم شرحه
في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الستمائة من نواصب الفعل .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : )
كأن وريديه وشاءا خلب على أن إعمال كأن المخففة فصيح والأفصح إلغاؤها . وقد جاء
إعمالها في هذا . وما بعده .
وأراد بالإلغاء عدم إعمالها لفظاً بدليل قوله : وإذا لم تعملها لفظاً ففيها ضمير
____________________
شأن
مقدر عندهم كما في أن المخففة . وعلى هذا فهي عاملة إما لفظاً وإما تقديراً .
وهذا مأخوذ من كلام ابن يعيش فإن الزمخشري لما قال في المفصل : وتخفف فيبطل عملها
ومنهم من يعملها وأنشد البيتين قال ابن يعيش : قوله : فيبطل يريد عملها ظاهراً .
وأما قوله : كأن ثدياه حقان فالمراد كأنه أي : الأمر والشأن والجملة بعد كأن خبرها
ومراده إرجاع كلام المفصل إلى كلام سيبويه فإن مذهب سيبويه أن كأن إذا خففت لا
يكون اسمها إلا ضميراً محذوفاً وعملها في الاسم الظاهر خاص بالضرورة .
ولما كان ظاهر قول الزمخشري فيبطل عملها محتملاً لإلغائها عن العمل لفظاً وتقديراً
أوله بما ذكره . إلا أن قوله : ومنهم من يعملها لا يفيد أنه مختص بالضرورة .
وقيد المصنف هنا الإلغاء بقيد الأفصحية فقال : وتخفف فتلغى على الأفصح . ولا يمكن
تأويل كلامه بما ذكره ابن يعيش لأن إعمالها في الاسم الظاهر ليس بفصيح فكان ينبغي
للشارح المحقق أن ينبه عليه ولا يجاريه في كلامه .
وقد شرحه التبريزي على ظاهره فقال : أي : تخفف كأن فتلغى على الأفصح وجاء إعمالها
على غير الأفصح . د أما إلغاؤها فلفوات مشابهتها بالماضي لزوال فتحها بالتخفيف
وأما إعمالها فلبقاء ثلاثة أحرف والمعنى المقتضى للاسم وهو التشبيه . وذهب بعضهم
إلى أن كأن المخففة مثل أن المفتوحة تعمل في ضمير الشأن المقدر وغيره . انتهى .
وهذا نص سيبويه : والخامسة أن غضب الله عليها كأنه قال : أنه غضب
____________________
الله
عليها لا تخففها في الكلام أبداً وبعدها الأسماء إلا وأنت تريد الثقيلة مضمراً
فيها الاسم يعني الهاء ونحوها .
فلو لم يريدوا ذلك نصبوا كما ينصبون إذا اضطروا في الشعر بكأن إذا خففوا يريدون
معنى كأن ولم يريدوا الإضمار .
وذلك قوله : )
كأن وريديه وشاءا خلب وهذه الكاف إنما هي مضافة إلى أن فلما اضطررت إلى التخفيف
فلم تضمر لم يغير ذلك أن ومثل ذلك قول الأعشى : ( في فتية كسيوف الهند قد علموا **
أن هالك كل من يحفى وينتعل ) كأنه قال : أنه هالك . وإن شئت رفعت في قول الشاعر :
كأن وريداه على مثل الإضمار الذي في قوله : من يأتنا نعطه أو يكون هذا المضمر وهو
الذي ذكر كما قال :
____________________
كأن
ظبية تعطو إلى وارق السلم انتهى كلامه .
وقوله : وهذه الكاف المضافة إلى أن يريد الكاف من كأن المتقدمة على أن .
وقوله : أو يكون هذا المضمر . . . إلخ يعني أن الضمير المقدر يجوز أن يكون ضمير
الشأن كما في : إنه من يأتنا ويجوز أن يكون ضمير مذكور مقدر كما في كأن ظبية
بالرفع أي : إن تلك المرأة كأنها ظبية .
وإلى مذهب سيبويه ذهب ابن مالك فقال في التسهيل : وتخفف كأن فتعمل في اسم كاسم أن
والمقدر والخبر جملة اسمية أو فعلية مبدوءة بلم أو قد أو مفرد . وقد يبرز اسمها في
الشعر .
انتهى .
قال المرادي : إذا خففت كأن لم تلغ بل تعمل في اسم كاسم أن المفتوحة إذا خففت
ويكون كأن ثدياه حقان والمبدوءة بلم : كأن لم تغن بالأمس وبقد : وكأن قد أي :
____________________
قد
زالت . والمفرد : كأن ظبية .
واسمها البارز كأن ظبي بالنصب .
ثم قوله : ظاهر كلام سيبويه أن ذلك لا يختص بالضرورة خلاف ما نقلنا عنه . وكذا عده
من الضرورة ابن عصفور في كتاب الضرائر .
قال الأعلم في كأن وريديه : الشاهد في إعمال أن المخففة تشبيهاً بما حذف من الفعل
ولم يتغير عمله نحو : لم يك زيد منطلقاً . والوجه الرفع إذا خففت لخروجها عن شبه
الفعل في اللفظ .
قال صاحب الكشاف : والوريدان : عرقان يكتنفان صفحتي العنق في مقدمهما متصلان
بالوتين يردان من الرأس إليه . )
وقيل : سمي وريداً لأن الروح ترده . وقال صاحب المصباح : الوريد : عرق قيل هو
الودج وقيل : بجنبه .
وقال الفراء : عرق بين الحلقوم والعلباوين . وهو ينبض أبداً فهو من الأوردة التي
فيها الحياة ولا يجري فيها دم بل هي مجاري النفس بالحركات .
والرشاء بكسر الراء والمد : الحبل وجمعه أرشية وهو هنا مثنى مرفوع بالألف وأصله
رشاوان بهمزة بين ألفين حذفت نونه عند الإضافة لخلب بضم الخاء المعجمة واللام
وبتسكينها .
قال صاحب الصحاح : والخلب : الليف .
قال : كأن وريداه رشاءا خلب
____________________
ويروى
: وريديه على إعمال كأن وترك الإضمار . وكذلك الخلب بالتسكين . والليفة خلبة وخلبة
. انتهى .
وكذا قال في مادة أنن . وقال النحاس : قال أبو إسحاق : الليف وقال غيره : الخلب :
البئر البعيدة القعر . انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ونحن أقرب إليه من حبل الوريد من سورة ق .
قال : حبل الوريد مثل في فرط القرب .
قال ذو الرمة : والموت أدنى لي من الوريد و الحبل : العرق شبه بواحد الحبال .
ألا ترى إلى قوله : كأن وريديه رشاءا خلب أحدهما : أن تكون الإضافة للبيان كقولهم
: بعير سانية .
والثاني : أن يراد حبل العاتق فيضاف إلى الوريد كما يضاف إلى العاتق . لاجتماعهما
في عضو واحد كما لو قيل : حبل العلباء مثلاً . انتهى .
والبيت غفل في الكتاب ولم ينسبه أحد من خدمة الكتاب . وقال العيني : قائله رؤبة بن
العجاج .
____________________
وهكذا
أنشده سيبويه في كتابه . وهذا بخلاف الواقع . )
ورأيت في التخمير وهو شرح أبيات المفصل لبعض فضلاء العجم وتبعه الكرماني في شرح
أبيات الموشح وهو شرح الكافية للخبيصي أن ما قيل هذا البيت : ومعتد فظ غليظ القلب
وبعده : غادرته مجدلاً كالكلب وقالا : المعتدي : المتجاوز عن الحد . والفظ من
الرجال : الغليظ . والمجدل : الملقى على الجدالة وهي الأرض .
والمعنى : رب خصم معتد متجاوز عن الحد في كل ما يفعله فظ غليظ القلب قاسيه كأن
وريديه حبلان فتلا من ليف النخل لضخامة عنقه غادرته وتركته ملقىً على الأرض كالكلب
في الذلة . والشجعان يوصفون بما ذكر من الاعتداء والفظاظة وغلظة القلب وعبالة
الأعناق .
انتهى .
وقول الشاعر : كأن وريديه رشاءا خلب كأن فيه عاملة و وريديه : اسمها و رشاءا خلب :
خبرها وهو مرفوع بالألف لأنه مثنى كما تقدم . ويوجد في بعض الكتب : رشاء خلب
بالإفراد ولا يصح لأنه خبر عن مثنى . وضمير وريديه للمعتدي .
وقول سيبويه وإن شئت رفعت في قول الشاعر : كأن وريداه على مثل الإضمار الذي في
قوله : إنه من يأتنا نعطه .
____________________
يريد
: أنه إذا رفع ما بعد كأن يكون اسمها ضمير شان كما في المثال ويكون جملة : ورداه
رشاءا خلب من المبتدأ والخبر خبر كأن .
وقوله : أو يكون هذا المضمر وهو الذي ذكر كما قال : كأن ظبية يريد : أن اسم كأن
يكون ضميراً محذوفاً عائداً على متقدم مذكور وهو المعتدي والتقدير : كأنه وريداه
رشاءا خلب .
فالهاء المحذوفة وهي ضمير المعتدي اسم كأن والجملة بعدها خبرها كما في قوله : كأن
ظبية بالرفع التقدير : كأنها ظبية . فالهاء المحذوفة ضمير المرأة المتقدمة الذكر
وهي اسم كأن وظبية : خبرها . )
وفي الحقيقة ليس فيه شيء يستشهد به . وهذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(
وصدر مشرق النحر ** كأن ثدييه حقان ) لما تقدم قبله . ويأتي فيه ما ذكرناه .
قال ابن الشجري في أماليه : وقد خفف الشاعر وأعملها في الاسم الظاهر في قوله :
وصدر مشرق النحر . . . إلخ . وأنشد بعضهم : ثدياه رفعاً على الابتداء وحقان :
الخبر والجملة من المبتدأ والخبر خبرها واسمها محذوف فالتقدير : كأنه ثدياه حقان .
انتهى .
والذي أنشده مرفوعاً سيبويه . قال : وروى الخليل أن ناساً يقولون : إن بك زيد
مأخوذ فقال : هذا على قوله : إنه بك زيد مأخوذ . وشبهه بما يجوز في الشعر نحو قوله
وهو ابن صريم اليشكري : ( ويوماً توافينا بوجه مقسم ** كأن ظبية تعطو إلى وارق
السلم ) أي : كأنها ظبية . وقال الآخر : ( ووجه مشرق النحر ** كأن ثدياه حقان )
لأنه لا يحسن هاهنا الإضمار . وزعم الخليل أن هذا يشبه قول الفرزدق : ( ولو كنت
ضبياً عرفت قرابتي ** ولكن زنجي عظيم المشافر ) والنصب أكثر في كلام العرب . انتهى
.
وقوله : هذا على قوله إنه بك . . . إلخ يريد أن اسم إن ضمير شأن محذوف
____________________
وأما
اسم كأن في البيتين ولكن في بيت الفرزدق فغير ضمير الشأن ومراده التشبيه بمطلق
الحذف لا بخصوص ضمير الشأن بدليل قوله : أي كأنها ظبية والضمير للمرأة المحدث عنها
وبدليل بيت الفرزدق .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر وحذف اسم لكن ضرورة والتقدير : ولكنك
)
زنجي .
وكذا البيت الثاني . قال ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : قوله كأن ثدياه أصله
كأنه والضمير للوجه أو للصدر أو للشأن والجملة الاسمية خبر . انتهى .
فجوز أن يكون ضمير شأن ولم يوجبه لضعفه لأنه لا يصار إليه إلا إذا لم يكن للضمير
مرجع .
ومنه تعلم أن الأولى أن يقدر الضمير في قوله تعالى : فلما كشفنا عنه ضره مر كأن لم
يدعنا للرجل المحدث عنه لا ضمير شأن خلافاً للبيضاوي تابعاً للكشاف في قوله :
الأصل كأنه لم يدعنا فخفف وحذف الشأن كقول الشاعر : كأن ثدياه حقان واقتصر ابن
يعيش على الشأن فقال : المراد كأنه أي : الأمر والشأن وجملة ثدياه حقان : خبر كأن
.
والعجب من العيني في قوله : الاستشهاد فيه على تخفيف كأن وإلغاء عملها وحذف اسمها
ووقوع خبرها جملة . وأصله : كأنه والضمير للوجه أو للنحر أو للشأن . انتهى .
وأعجب منه إنكار ابن الأنباري رواية الرفع فيه مع أن سيبويه لم يرو غيرها .
كأن ثدييه حقان
____________________
و :
كأن وريديه رشاءا خلب ولا يجوز أن يقال الإنشاد في البيتين : كأن ثدياه و : كأن
وريداه لأنا نقول : بل الرواية المشهورة بالنصب . هذا كلامه .
وقوله : وصدر مشرق . . . إلخ المشهور جر صدر بواو رب . وقال ابن هشام في شرح أبيات
ابن الناظم : مرفوع على الابتداء والخبر محذوف أي : لها . و مشرق : من أشرق أي :
أضاء . و النحر : موضع القلادة من الصدر والهاء من ثدييه للصدر .
وروى سيبويه : ووجه مشرق النحر وروى غيره : )
ونحر مشرق اللون فالهاء من ثدييه للوجه أو للنحر بتقدير مضاف أي : ثديي صاحبه كذا
قال الأعلم وابن يعيش ( وصدراً مثل حق العاج رخصاً ** حصاناً من أكف اللامسينا )
ولا حاجة إلى قول صاحب التخمير : الحقة بالضم معروفة وأراد حقتان . ويجوز أن يكون
____________________
مما
يحذف منه تاء التأنيث عند التثنية وشبه الثديين بالحقتين في نهودهما واكتنازهما .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الثمانمائة ) ( عبأت له رمحاً طويلاً
وألةً ** كأن قبس يعلى بها حين تشرع ) على أن كأن المهملة لفظاً يجيء يعدها جملة
اسمية خبراً لها واسمها المقدر هنا ضمير الشأن .
وهذا تقرير كلامه . وفي كل منهما نظر : أما أولاً فلأنه لا جملة اسمية بعد كأن
وإنما بعدها مفرد موصوف بجملة فعلية فإن قبساً : نكرة وجملة يعلى : صفته والرابط
الضمير المستتر النائب عن الفاعل والباء للإلصاق متعلقة بمحذوف حال من الضمير
والهاء ضمير الألة .
ولا يجوز أن يكن مبتدأ خبره جملة يعلى لئلا يلتبس المبتدأ حينئذ بالخبر كما قاله
الشارح في فإن قلت : يكون جملة يعلى : خبراً إذا نصبت قبساً . قلت : الإخبار عن
النكرة في باب إن جائز كما حققه الشارح في آخر الباب . نعم يجوز أن يكون بها ظرفاً
مستقراً لقبس . وإنما لم نحمل كلامه عليه ابتداء لأن كلامه الآتي في رفع ظبية لا
يلائمه .
____________________
وأما
ثانياً فلما تقدم من أن ضمير الشأن لا يصار إليه مع إمكان المرجع وقد أمكن هنا
يجعله راجعاً إلى الألة وهي الحربة .
وقال المرزوقي في شرح الحماسة : قوله : كأن قبس يجوز فيه الرفع والنصب والجر .
فإذا رفعت فعلى الضمير يريد : كأنها قبس يعلى بها حين أشرعت . و القبس : النار .
ومن نصب فلأنه أعمل كأن مخففة عملها مثقلة يريد : كأن قبساً يعلى بها ويكون الخبر
يعلى بها ومن جر فقال : كأن قبس جعل أن زائدة وأعمل الكاف . انتهى . )
ويجوز على النصب أن يكون يعلى صفة لقبس والخبر قوله بها .
والبيت من أبيات عشرة أوردها أبو تمام في الحماسة لمجمع بن هلال . قال : غزا مجمع
بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن تيم الله يريد بني سعد بن زيد مناة
فلم يصب شيئاً فرجع من غزاته تلك فمر بماء لبني تميم عليه ناس من بني مجاشع فقتل
فيهم وأسر فقال في ( إن أمس ما شيخاً كبيراً فطالما ** عمرت ولكن لا أرى العمر
ينفع ) ( مضت مائة من مولدي فنضيتها ** وخمس تباع بعد ذاك وأربع ) ( وخيل كأسراب
القطا قد وزعتها ** لها سبل فيه المنية تلمع ) ( شهدت وغنم قد حويت ولذة ** أتيت
وماذا العيش إلا التمتع )
____________________
(
وعاثرة يوم الهييما رأيتها ** وقد ضمها من داخل الخلب مجزع ) ( لها غلل فالصدر ليس
ببارح ** شجىً نشب والعين بالماء تدمع ) ( تقول وقد أفردتها من حليلها ** تعست كما
أتعستني يا مجمع ) ( فقلت لها : بل تعس أخت مجاشع ** وقومك حتى خدك اليوم أضرع ) (
عبأت له رمحاً طويلاً وألة ** كأن قبس يعلى بها حين تشرع ) ( وكائن تركت من كريمة
معشر ** عليها الخموش ذات حزن تفجع ) قال المرزوقي : قوله : إن أمس ما شيخاً ما :
زائدة .
يقول : إن صرت شيخاً طاعناً في السن هدفاً لسهامه فذلك حق لأن من يعيش يكبر ومن
يكبر يهرم وطول العمر لا يجدي إذ كان مؤداه إلى الضعف وغايته الموت . ومعنى عمرت :
بقيت وحييت . و العمر : الحياة والبقاء .
وقوله : مضت مائة يقول : أتت علي مائة سنة من ميلادي فألقيتها ورائي كأني لبستها
ثم خلعتها واستتبعت بعدها تسعاً توالت . ويروى : فنضونها يقال : نضى ثوبه ينضو
وينضي إذا نزعه لغتان .
وقوله : وخمس تباع يقال : تبع تباعاً فهو مصدر وصف به . ويقال أيضاً رميته بسهمين
تباعاً ولاء وتابع بينهما تباعاً .
وقوله : وخيل كأسراب . . . إلخ تذكر بما كان منه عند تناهي عمره ما كان منه في
ريعان شبابه فيقول : رب خيل تتوالى مبادرة إلى الملتقى
____________________
وتسترسل
استرسال فرق القطا عند )
اندفاعها للورد أنا بعثتها ولها عارض يمطر بالموت ويلمع . و السبل : المطر .
ووزعتها يجوز أن يكون معناه كففتها عن التعجل ويجوز أن يكون قسمتها للتعبية أو
للغارة لأنه يقال : وزعت الشيء ووزعته جميعاً . وعلى الوجهين فتدبيرها كان إليه .
وجملة قد وزعتها : من صفة الخيل لأن جواب رب فيما بعده . ولها سبل في موضع الحال
وفيه المنية من صفة السبل وتلمع حال من المنية والعامل ما يدل عليه الظرف .
وقوله : شهدت وغنم . . . إلخ يقول : رب خيل على هذه الصفة حضرتها مدبراً لها ورب
غنيمة تغنمتها ورب لذة أتيتها . ثم أقبل كالملتفت فقال : وما العيش إلا التمتع
بهذه الأشياء . و وقوله : وعاثرة يوم . . . إلخ يقول : رب امرأة في هذا اليوم
لتمكن الخوف منها وتملك الجزع قلبها رأيتها تعثر لوجهها مخافة السباء وقد ضمها
مجزع أي : استولى عليها الخوف والقلق .
وقوله : من داخل الخلب بين به منشأ الجزع ومقره . والخلب : حجاب القلب .
وقوله : لها غلل في الصدر . . إلخ الجملة صفة لعاثرة . والغلل بفتحتين أصله الماء
الجاري بين الشجر فاستعاره لما تداخلها من الشجا .
وروى : غلل بالضم : جمع غلة . ولو كان كذا لقال ليست ببارحة . والبارح : الزائل .
وموضع قوله شجاً نشب رفع على البدل من غلل . ويريد بنشب أنه علق به كما ينشب الصيد
في الحبالة .
وقوله : تقول وقد أفردتها . . إلخ تقول جواب رب . والمراد : رب عاثرة هذه صفتها في
يوم الهييما قالت لي بعد أن سبيتها وفرقت بينها وبين زوجها
____________________
بالقتل
: سقطت لوجهك ولا انتعشت من عثرتك يا مجمع .
وقوله : فقلت لها . . . إلخ يقول : أجبتها بأن قلت : بل التعس لك ولقومك حين ضيعوك
وفعلوا ما أدى وباله إلى أن صار خدك اليوم ضارعاً . وبل للإضراب عن الأول والإثبات
للثاني .
وأجرى تعساً في الإضافة مجرى ويل وذاك أن المصادر التي اشتق الأفعال منها إذا دعي
بها وما لم يشتق الفعل منه وهو ويل وويح وويس إذا كان معها اللام رفعت وصارت
باللام جملاً . وإذا أفردت عن اللام أضيفت ونصبت . تقول : ويل لزيد وويح لعمرو
فترفع وويل زيد وويح عمرو فتنصب .
وهذا الشاعر قال : بل تعس أخت مجاشع فأجراه مجرى ويل والفعل منه يشتق منه . ومجاشع
: )
قبيلة يقال : أخت مجاشع كما يقال : يا أخا بكر ويا أخا تميم . وأضرع بمعنى ضارع .
والضراعة : الانسفال في خضوع .
وقوله : عبأت له . . إلخ أخذ يبين كيف تمكن من قتل زوجها . ويقال : عبأت الخيل
وعبأتها إذا هيأتها للحرب وعبيتها أيضاً . والمراد هيأت له رمحاً طويلاً وسناناً
لماعاً براقاً كأنما يعلى به نار إذا أشرع للطعن . و الألة بفتح الهمزة وتشديد
اللام تستعمل في الحرب وتشهر بها . وأصل الأليل البريق والمراد بها هنا السنان .
وفي لسان العرب لابن مكرم : الألة : الحربة العظيمة النصل سميت بذلك لبريقها
ولمعانها . وفرق بعضهم بين الألة والحربة فقال : الألة كلها حديدة والحربة بعضها
خشب وبعضها حديد والجمع أل بحذف الهاء والإل ككتاب
____________________
والأل
أيضاً : مصدر أله يؤله ألا : طعنه بالألة . وتشرع من وقوله : وكائن تركت . . إلخ
نبه بهذا الكلام على أن ما حكاه من حديث العاثرة لم يكن بدعاً منه بل ذلك دأبه مع
أمثالها . وكائن : لغة في كأين بالتشديد بمعنى كم للتكثير .
يقول : كم امرأة كانت كريمة عشيرتها تركتها وهي تخمش وجهها وتتفجع جزعاً على قيمها
من بعل أو أخ أو ابن . والخمش في الوجه وفي سائر البدن مثل الخدش .
ومجمع على وزن اسم الفاعل من جمع يجمع تجميعاً . وهو شاعر جاهلي أورده أبو حاتم
السجستاني في المعمرين ونسبه كذا .
قالوا : وعاش مجمع بن هلال بن خالد بن مالك بن هلال بن الحارث بن هلال بن تيم الله
بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . عاش مائة سنة وتسع عشرة سنة
فقال في ذلك : ( إن أمس ما شيخاً كبيراً فطالما ** عمرت ولكن لا أرى العيش ينفع )
إلى آخر الأبيات .
وأنشد بعده :
____________________
(
أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما نزل برحالنا وكأن قد ) على أن كأن المهملة لفظاً
يجيء بعدها جملة خبراً وهي هنا محذوفة والتقدير : قد زالت بها .
وجاز حذفها لدلالة قوله : لما تزل برحالنا . واسمها المحذوف عند الشارح ضمير الشأن
. والأولى جعله ضمير الركاب لما تقدم وهي الإبل التي يسار عليها الواحدة راحلة ولا
واحد لها من )
لفظها . و أزف بفتح الهمزة وكسر الزاي بمعنى قرب ودنا . وروى بدله : أفد بكسر
الفاء وهو بمعناه . و الترحل : الرحيل . و لما نافية بمعنى لم و تزل بضم الزاي من
زال يزول بمعنى ذهب وانفصل .
يقال : زال عن موضعه يزول زوالاً . ويتعدى بالهمزة والتضعيف فيقال : أزلته وزولته
. والباء للمعية . و الرحال بالحاء المهملة : جمع رحل وهو كل شيء يعد للرحيل من
وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن وما يستصحبه المسافر من المتاع والأثاث . وغير
هنا للاستثناء المنقطع .
والمعنى قرب الارتحال لكن إبلنا لم تذهب بمتاعنا إلى الآن مع عزمنا على الرحيل
وكأنها ذهبت . فجملة قد زالت بها المحذوفة في محل رفع خبر لكأن . و قد تروى بكسر
دالها للروي وبتنوينه للترنم أي : لقطعه فإن الترنم هو التغني والتغني يحصل بألف
الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاؤوا بهذا التنوين .
وبهذين الوجهين أورده ابن هشام في موضعين من المغني .
ونقل ابن الملا في شرحه عن ابن جني في الخصائص أن الرواية هنا قدي بمعنى حسبي
والياء ضمير لا حرف إطلاق . وعليه يكون خبر كأن مفرداً
____________________
لا
جملة ويكون اسمها ضمير الترحل أي : كأنه قدي أي : كأن ذلك الترحل حسبي .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني تقدم في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الثمانمائة ) ( تمشي بها الدرماء تسحب
قصبها ** كأن بطن حبلى ذات أونين متئم ) على أن كأن إذا وقع بعدها مفرد فاسمها
يكون غير ضمير شأن . والتقدير : كأن بطنها بطن حبلى . وإنما عدل عن ضمير الشأن لأن
خبره لا يكون إلا جملة .
وهذا البيت ثاني بيتين أوردهما ابن دريد عن أبي عثمان سعيد بن هارون الأشنانداني
في كتاب أبيات المعاني قال : أنشدني لرجل من بني سعد بن زيد مناة : ( وخيفاء ألقى
الليث فيها ذراعه ** فسرت وساءت كل ماش ومصرم ) تمشي بها الدرماء تسحب قصبها . . .
. . . . . . . . . . . . البيت خيفاء : روضة فيها رطب ويبيس وهما لونان : أخضر
وأصفر . وكل لونين خيف وبه سمي الفرس إذا كانت إحدى عينيها كحلاء والأخرى زرقاء .
وسمي الخيف خيفاً لأن فيه حجارة سوداً وبيضاً .
____________________
وقوله
: ألقى الليث فيها ذراعه يقول : مطرت بنوء الذراع وهي ذراع الأسد فسرت الماشي أي :
صاحب الماشية وساءت المصرم : الذي لا مال له لأن الماشي يرعيها ماشيته والمصرم
يتلهف على ما يرى من حسنها وليس له ما يرعيها .
وقوله : تمشي بها الدرماء يعني الأرنب وإنما سميت الدرماء لتقارب خطوها وذلك لأن
الأرانب تدرم درماً تقارب خطوها وتخفيه لئلا يقص أثرها فيقال : درماء . وكان ينبغي
أن يقول : دارمة .
وقوله : تسحب قصبها وهذا مثل . و القصب : المعى مقصور والجمع أقصاب .
وإنما أراد بالقصب البطن بعينه واستعاره . يقول : فالأرنب قد عظم بطنها من أكل
الكلأ وسمنت فكأنها حبلى . و الأونان : العدلان .
يقول : كأن عليها عدلين لخروج جنبيها وانتفاجهما . ويقال : أون الحمار وغيره إذا
شرب حتى ينتفخ جنباه . انتهى .
ونقلته من نسخة بخط أبي الفتح عثمان بن جني وعليها خط أبي علي الفارسي في أولها
وآخرها بالإجازة له ورواها عن ابن دريد عن الأشنانداني . وكذا شرحهما عبد اللطيف
البغدادي في شرح نقد الشعر لقدامة . )
وقوله : فيها رطب ويبيس الرطب بضم الراء : المرعى الأخضر من بقول الربيع .
وبعضهم يقول : الرطبة كغرفة : الخلا وهو الغض من الكلأ . واليبيس من النبات على
فعيل : ما يبس منه . و النوء : سقوط نجم من المنازل في المغرب مع الفجر وطلوع
رقيبه من
____________________
المشرق
يقابله من ساعته إلى ثلاثة عشر يوماً . وهكذا كل نجم منها إلى انقضاء السنة .
وكانت العرب تضيف الأمطار والرياح والحر والبرد إلى الساقط منها . وقال الأصمعي :
إلى الطالع منها في سلطانه فتقول : مطرنا بنوء كذا . وذراع الأسد : كوكبان نيران
ينزلهما القمر .
والليث من أسماء الأسد . و الماشية : المال من الإبل والغنم وبعضهم يجعل البقر من
الماشية . ومشى الرجل وأمشى إذا كثرت ماشيته . والمصرم : اسم فاعل من أصرم الرجل
أي : افتقر . و تمشي بتشديد الشين المكسورة : مبالغة تمشي . وضمير بها لخيفاء
والدرماء بالدال وجملة تسحب : حال من الدرماء . و القصب بضم القاف وسكون الصاد
المهملة : اسم فرد كعسر .
في الصحاح : هو المعى يقال هو يجر قصبه . وذات : صفة أولى لحبله ومتئم : صفة ثانية
. و الأون بفتح الألف وسكون الواو في الصحاح : هو أحد جانبي الخرج . تقول : خرج ذو
أونين وهما كالعدلين .
ومنه قولهم : أون الحمار إذا أكل وشرب وامتلأ بطنه وامتدت خاصرتاه فصار مثل الأون
. و الانتفاج بالجيم : الارتفاع يقال : انتفج جنبا البعير أي : ارتفعا . ومتئم :
اسم فاعل من أتأمت المرأة كأفعلت إذا وضعت اثنين في بطن فهي متئم فإذ كان ذلك
عادتها فهي متآم كمفعال . والولدان توأمان يقال : هذا توأم هذا على فوعل وهذه
توأمة هذه .
وأنشد بعده
____________________
( الشاهد
الرابع والسبعون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد سيبويه : ( ويوماً توافينا بوجه
مقسم ** كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم ) أما الرفع فيحتمل أن تكون ظبية مبتدأ
وجملة تعطو : خبره وهذه الجملة الاسمية خبر كأن واسمها ضمير شأن محذوف . ويحتمل أن
تكون ظبية خبر كأن وتعطو صفته واسمها محذوف وهو ضمير المرأة لأن الخبر مفرد .
هذا تقرير كلامه على وجه الرفع . ويرد على الوجه الأول انه لا يصح الابتداء بظبية
لما تقدم في قوله : كأن قبس يعلى بها حين تشرع والوجه الثاني هو الظاهر وهو كلام
سيبويه كما تقدم . وقال الأعلم : الشاهد فيه رفع ظبية على الخبر وحذف الاسم والتقدير
: كأنها ظبية . وكذا قال ابن الشجري وابن يعيش وغيرهم .
____________________
قال
ابن هشام في شرح أبيات ابن الناظم : وفيه شذوذ لكون الخبر مفرداً مع حذف الاسم .
وقال ابن الملا في شرح المغني : توافينا إما بلفظ الغيب أو بلفظ الخطاب للمرأة على
ما صرح به العيني فيكون التقدير في حذف الاسم على الاحتمالين : كأنها أو كأنك .
هذا كلامه .
وما نقله عن العيني لا أصل له وإنما قال توافينا فعل مضارع وفاعله ضمير مستتر فيه
وهو الضمير الراجع إلى المرأة التي يمدحها .
وقول الشارح : ويروى بنصب ظبية على إعمال كأن هذا الإعمال مع التخفيف خاص بضرورة
كأن وريديه وشاءا خلب وعليه يكون جملة تعطو : صفة ظبية ولا يجوز أن تكون خبر كأن
كما جوزه العيني واقتصر عليه السيوطي في شرح أبيات المغني وإن جاز الإخبار عن
النكرة في باب إن لما قاله الشارح المحقق في آخر الباب لأنه ليس مراد الشاعر الإخبار
عن الظبية بما ذكر وإنما مراده تشبيه المرأة بالظبية فالخبر محذوف قدره ابن الناظم
ظرفاً قال : والتقدير : كأن مكانها ظبية .
وقدره الأعلم وابن الشجري وابن السيد في أبيات المعاني وابن يعيش وغيرهم ضميرها أو
اسم إشارتها والتقدير : كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم هي أو هذه المرأة . قال ابن
هشام : وهذا إنما يصح على جعل المشبه مشبهاً به وبالعكس لقصد المبالغة . )
ومن روى بجر ظبية فعلى أن أن زائدة بين الجار والمجرور والتقدير : كظبية . وعد ابن
عصفور زيادة أن هنا من الضرائر الشعرية . وقال ابن هشام في المغمي : هو نادر .
وقد أورد المبرد هذه الأوجه الثلاثة في الكامل قال : حدثني التوزي عن أبي زيد قال
: سمعت العرب تنشد هذا البيت فتنصب الظبية وترفعها وتخفضها :
____________________
أما
رفعها فعلى الضمير يريد : كأنها ظبية . وهذا شرط أن وكأن إذا خففتا إنما هو على
حذف الضمير . وعلى هذا : علم أن سيكون منكم .
ومن نصب فعلى غير ضمير واعملها مخففة عملها مثقلة لأنها تعمل لشبهها بالفعل فإذا
خففت عملت عمل الفعل المحذوف كقولك : لم يك زيد منطلقاً .
فالفعل إذا حذف يعمل عمله تاماً فيصير التقدير : كأن ظبية تعطو إلى وارق السلم هذه
المرأة وحذف الخبر لما تقدم من ذكره .
ومن قال : كأن ظبية جعل أن زائدة وأعمل الكاف أراد : كظبية وزاد أن . انتهى .
وهذا البيت اختلف في قائله : فعند سيبويه هو لابن صريم اليشكري . وكذا قال النحاس
والأعلم .
وقال القالي في أماليه : هو لأرقم اليشكري . وقال أبو عبيد البكري فيما كتبه عليها
: هو لراشد ببن شهاب اليشكري . ولم يرو المفضل هذا البيت في قصيدته .
أقول : رأيت القصيدة التي أشار إليها لراشد وليس فيها هذا البيت ولا الأبيات
الآتية .
وقال ابن المستوفي : هو لابن أصرم اليشكري . ووجدته لعلباء بن أرقم اليشكري .
وقال ابن بري في حاشية الصحاح : هو لباغت بن صريم ويقال : لعلباء بن أرقم اليشكري
قاله في امرأته وهو الصحيح . وبعده :
____________________
(
ويوماً تريد مالنا مع مالها ** فإن لم ننلها لم تنمنا ولم تنم ) ( فقلت لها : إلا
تناهي فإنني ** أخو الشر حتى تقرعي السن من ندم ) انتهى .
وضبط ابن هشام باغتاً فقال : هو منقول من بغته بالأمر إذا فاجأه به . ونقله العيني
عنه ولم يزد عليه .
ونسب ابن الملا إلى العيني شيئاً لم يقله قال : قال العيني : هو بالثاء المثلثة .
)
وقوله : ويوماً توافينا . . . إلخ يوم : ظرف متعلق بتوافينا ولا يجوز أن يجر بجعل
الواو واو رب لأنه لم يرد إنشاء التكثير أو التقليل وإنما أخبر عن أحوالها في
الأيام .
ولم يتنبه له العيني وله العذر لأنه لم يقف على ما بعده فقال : وأنشده بعض شراح
المفصل بالجر وقال : الواو فيه واو رب . وتوافينا : تأتينا يقال : وافيته موافاة :
إذا أتيته .
وقال العيني وتبعه السيوطي : الموافاة : هي المقابلة بالإحسان والخير والمجازاة
الحسنة . وفاعل توافينا ضمير المرأة التي يمدحها والباء في قوله : بوجه بمعنى مع .
هذا كلامه .
قال الأعلم : المقسم : المحسن وأصله من القسمات وهي مجاري
____________________
الدموع
وأعالي الوجه ويقال لها أيضاً : التناصف لأنها في منتصف الوجه إذا قسم وهي أحسن ما
في الوجه وأنوره فينسب إليه الحسن فيقال له : القسام لظهوره هناك وتبينه . انتهى .
وقال المبرد في الكامل : زعم أبو عبيدة أن القسمات مجاري الدموع واحدتها قسمة بكسر
السين فيهما .
وقال الأصمعي القسمات : أعالي الوجه . ولم يبينه بأكثر من هذا . وقول أبي عبيدة
مشروح .
ويقال من هذا : رجل قسيم ورجل مقسم ووجه قسيم ووجه مقسم . وأنشد البيت .
وقال القالي في أماليه : يقولون قسيم وسيم . فالقسيم : الحسن الجميل . والقسام :
الحسن والجمال .
وأنشد يعقوب بن السكيت : يسن على مراغمها القسام وقال العجاج :
____________________
ورب
هذا البلد المقسم أي : المحسن . وقال أرقم اليشكري . وأنشد البيت مع البيت الذي
بعده فقط ثم قال : والوسيم : الحسن الجميل أيضاً . والميسم : الحسن والجمال .
انتهى .
وفرق بينهما الثعالبي في فقال : إن المرأة إذا كان حسنها فائقاً كأنه قد وسيم فهي
وسيمة فإذا قسم لها حظ وافر من الحسن فهي قسيمة . و تعطو فسره المبرد قال : تعطو :
تناول يقال : عطا يعطو إذا تناول . وأعطيته : ناولته .
وعليه لابد من تضمينه معنى تميل لتعديه بإلى . وفي القاموس : العطو : التناول ورفع
الرأس واليدين وظبي عطو مثلثة وكعدو : يتطاول إلى الشجر ليتناول منه . انتهى .
وعليه فلا )
تضمين . و وارق : لغة في مورق فإن يقال : ورق الشجر يرق وأورق يورق وورق توريقاً
إذا خرج ورقه . وروي بدله : إلى ناضر السلم من النضارة وهي الحسن . وأراد به خضرته
. والسلم بفتحتين : ضرب من شجر البادية يعظم وله شوك واحدته سلمة . وقال المبرد :
السلم شجر بعينه كثير الشوك فإذا أرادوا أن يحتطبوه شدوه ثم قطعوه . ومن ذلك قول
الحجاج : والله لأحزمنكم حزم السلمة .
وقوله : ويوماً تريد مالنا . . . إلخ ما : موصولة في الموضعين واللام مفتوحة فيهما
أي تطلب ما في أيدينا من المال مع ما في يدها من المال فإن
____________________
لم
نعطها مطلوبها آذتنا وكلمتنا بكلام يمنعنا النوم ولم تنم هي لتحزننا .
قال ابن السيرافي : يريد أنه يستمتع بحسنها يوماً وتشغله يوماً آخر بطلب ماله فإن
منعها آذته وكلمته بكلام يمنعه من النوم . والخصوم : جمع خصم وهو مصدر إي : في
مخاصمات وهو منون . وعرامة بالنصب وهي مصدر عرم يعرم من بابي نصر وضرب وعرامة
بالفتح وهي والمآلي : جمع مئلاة قال صاحب الصحاح : والمئلاة بالهمز على وزن
المعلاة : الخرقة التي تمسكها المرأة عند النوح وتشير بها والجمع المآلي .
ورأيت في كتاب النساء الناشزات تأليف أبي الحسن المدائني قال : كانت امرأة علياء
بن أرقم اليشكري قد فركته فقال : ( ألا تلكم عرسي تصد بوجهها ** وتزعم في جاراتها
أن من ظلم ) ( أبونا ولم أظلم بشيء علمته ** سوى ما ترون في القذال من القدم ) (
نظل كأنا في خصوم عرامة ** تسمع جيراني التألي والقسم ) فيوماً تريد مالنا مع ما
لها . . . . . . . إلى آخر الأبيات وكذا رأيت فيما كتبه ابن السيد على كامل المبرد
إلا أنه قال : لعلباء بن أرقم العجلي . وكأنه تحريف من الناسخ .
وروي البيت الثاني كذا : سوى ما أبانت في القذال من القدم ومن نسب إليهم هذا الشعر
كلهم شعراء جاهليون . وأنشد بعده )
____________________
وهو
من شواهد س : ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) على أن
حذف النون من لكن لالتقاء الساكنين ضرورة تشبيهاً بالتنوين أو بحرف المد واللين
ومن حيث كانت ساكنة وفيها غنة وهي فضل صوت في الحرف كما أن حرف المد واللين ساكن
والمد فضل صوت .
وكذا أورده سيبويه في باب ضرورة الشعر من أول كتابه قال الأعلم : حذف النون
لالتقاء الساكنين ضرورة لإقامة الوزن وكان وجه الكلام أن يكسر لالتقاء الساكنين
شبهها في الحذف بحرف المد واللين إذا سكنت وسكن ما بعدها نحو : يغزو العدو ويقضي
الحق ويخشى الله ومما استعمل محذوفاً نحو : لم يك ولا أدر . انتهى .
والبيت من قصيدة للنجاشي الحارثي .
وقبله : ( وماء كلون الغسل قد عاد آجناً ** قليل به الأصوات في بلد محل ) ( وجدت
عليه الذئب يعوي كأنه ** خليع خلا من كل مال ومن أهل )
____________________
(
فقلت له : يا ذئب هل لك في فتى ** يواسي بلا من عليك ولا بخل ) ( فلست بآتيه ولا
أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) ( فقلت عليك الحوض إني تركته ** وفي
صغوه فضل القلوص من السجل ) ( فطرب يستعوي ذئاباً كثيرة ** وعديت كل من هواه على
شغل ) وهذه القطعة أوردها ابن قتيبة في كتاب أبيات المعاني والشريف المرتضى في
أماليه والشريف الحسيني في حماسته .
وكان النجاشي عرض له ذئب في سفر له فدعاه إلى الطعام وقال له : هل لك ميل في أخ
يعني نفسه يواسيك في طعامه بغير من ولا بخل فقال له الذئب : قد دعوتني إلى شيء لم
يفعله السباع قبلي من مؤاكلة بني آدم وهذا لا يمكنني فعله ولست بآتيه ولا أستطيعه
ولكن إن كان في مائك الذي معك فضل عما تحتاج إليه فاسقني منه .
وهذا الكلام وضعه النجاشي على لسان الذئب كأنه اعتقد فيه أنه لو كان ممن يعقل أو
يتكلم لقال هذا القول . وأشار بهذا إلى تعسفه للفلوات التي لا ماء فيها فيهتدي
الذئب إلى )
مظانه فيها لاعتياده لها .
والغسل بكسر الغين المعجمة : ما يغسل به الرأس من سدر وخطمي ونحو ذلك . يريد أن
ذلك الماء كان متغير اللون من طول المكث مخضراً ومصفراً ونحوهما . و الآجن بالمد
وكسر وقوله : قليل به الأصوات يريد أنه قفر لا حيوان فيه و البلد : الأرض والمكان
و المحل : الجدب وهو انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ و الخليع : الذي خلعه أهله
لجناياته وتبرؤوا منه . و عليك : اسم فعل بمعنى الزم والحوض مفعوله . و الصغو بفتح
الصاد المهملة وسكرها وسكون الغين المعجمة : الجانب المائل . و السجل بفتح
____________________
السين
المهملة وسكون الجيم : الدلو العظيمة . وطرب في صوته بالتشديد : رجعه ومدده . كذا
في المصباح . و النجاشي اسمه قيس بن عمرو بن مالك من بني الحارث بن كعب . قال ابن
قتيبة في كتاب الشعراء : كان النجاشي فاسقاً رقيق الإسلام ومر في شهر رمضان بأبي
سمال الأسدي بالكوفة فقال له : ما تقول في رؤوس حملان في كرش في تنور قد أينع من
أول الليل إلى آخره .
قال : ويحك في شهر رمضان تقول هذا قال : ما شهر رمضان وشوال إلا سواء . قال : فما
تسقيني عليه قال : شراباً كأنه الورس يطيب النفس ويجري في العظام ويسهل الكلام .
ودخلا المنزل فأكلا وشربا فلما أخذ فيهما الشارب تفاخرا وعلت أصواتهما فسمع جار
لهما فأتى علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخبره فأرسل في طلبهما . فأما أبو سماك
فإنه شق الخص فهرب وأخذ النجاشي فأتي به علي بن أبي طالب فقال : ويحك ولداننا صيام
وأنت مفطر فضربه ثمانين سوطاً وزاده عشرين سوطاً فقال : ما هذه العلاوة يا أبا
الحسن قال : هذه لجراءتك على الله في شهر رمضان . ثم رفعه للناس في تبان . فهجا
أهل الكوفة فقال : ( إذا سقى الله قوماً صوب غادية ** فلا سقى الله أهل الكوفة
المطرا )
____________________
(
التاركين على طهر نساءهم ** والناكحين بشطي دجلة البقرا ) ومن جيد شعره في معاوية
: ( يا أيها الملك المبدي عداوته ** روئ لنفسك أي الأمر تأتمر ) ( وما شعرت بما
أضمرت من حنق ** حتى أتتني به الأنباء والنذر ) ( فإن نفست على الأقوام مجدهم **
فابسط يديك فإن المجد مبتدر ) ) ( واعلم بأن علي الخير من بشر ** شم العرانين لا
يعلوهم بشر ) ( نعم الفتى هو إلا أن بينكما ** كما تفاضل نور الشمس والقمر ) ( وما
أظنك إلا لست منتهياً ** حتى يمسك من أظفارهم ظفر ) ( إني امرؤ قلما أثني على أحد
** حتى أرى بعض ما يأتي وما يذر ) ( لا تحمدن أمرأً حتى تجربه ** ولا تذمن من لم
يبله الخبر ) انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الثمانمائة ) ( لعاء الله فضلكم علينا **
بشيء أن أمكم شريم )
____________________
على
أن لعاء لغة في لعل كما في البيت . ولم أر من أنشده كذا إلا ابن الأنباري في كتاب
الإنصاف في مسائل الخلاف قال : إنما حذفت اللام الأولى من لعل كثيراً في أشعارهم
لكثرتها في استعمالهم ولهذا تلعبت العرب بهذه الكلمة فقالوا : لعل ولعلن ولعن
بالعين غير المعجمة .
قال الراجز : ( حتى يقول الراجز المنطق ** لعن هذا معه معلق ) ولغن بالغين المعجمة
. وأنشدوا : ( ألا يا صاحبي قفا لغنا ** نرى العرصات أو أثر الخيام ) ورعن وعن وغن
ولغل وغل ولعاء . قال الشاعر : ( لعاء الله فضله عليكم ** بشيء أن أمكم شريم )
وقال الآخر : فلما كثرت هذه الكلمة في استعمالهم حذفوا اللام . وكان حذف اللام
أولى من العين وإن كان أبعد من الطرف لأنه لو حذف العين لأدى إلى اجتماع ثلاث
لامات . انتهى .
____________________
والهمزة
من لعاء مفتوحة كما في لعل . ولفظ الجلالة في البيتين منصوبة على إعمال لعاء عمل
إن . ولا يجوز جرها فإن الجارة إنما هي : لعل وعل بفتح لامهما وكسرهما .
والمشهور في إنشاد هذا البيت : لعل الله فضلكم علينا )
وكذا أنشده ابن السكيت بكسر لام لعل وجر الجلالة وكذا رواه المرادي في الجنى الداني
وابن الناظم وابن عقيل وابن هشام في شروحهم الألفية .
واللغات العشرة التي ذكرها الشارح المحقق غير لعاء ذكرها ابن مالك في التسهيل وزاد
عليها المرادي في الجنى الداني لغة أخرى وهي رعل بالراء بدل اللام الأولى .
وأورد ابن الأنباري في لغاتها لعلن بإبدال اللام الثالثة نوناً . وأراد صاحب
القاموس أيضاً في لغاتها لون بفتح اللام والواو وتشديد النون المفتوحة فتصير
لغاتها أربع عشرة لغة .
وقد اختلف أهل المصرين في اللغة الأصلية : فقال البصريون : الأصل عل . وقال
الكوفيون : الأصل لعل .
ونقل ابن الأنباري دليل الفريقين ورجح قول الكوفيين . ولا بأس بإيراده مختصراً قال
: ذهب الكوفيون إلى أن اللام الأولى في لعل أصلية وقالوا : لأنها حرف وحروف الجر
كلها أصلية لأن حروف الزيادة تختص بالأسماء والأفعال . والذي يدل على ذلك أيضاً أن
اللام خاصة لا تكاد تزاد بما تجوز فيه الزيادة إلا شاذاً نحو : زيدل وعبدل وفحجل
في كلمات معدودة .
وذهب البصريون إلى أنها زائدة : وقالوا : لأنا وجدناهم يستعملونها كثيراً عارية
____________________
عن
اللام ولهذا حكمنا بزيادة اللام في : عبدل ونحوه لأن عبداً أكثر استعمالاً منه .
والذي يدل على زيادتها أنها مع أخواتها إنما عملت النصب والرفع لشبهها بالفعل لأن
أن : مثل مد وليت مثل ليس ولكن أصلها كن ركبت معها لا كما ركبت لو مع لا وكأن
أصلها أن أدخلت عليها كاف التشبيه .
فلو قلنا إن لعل أصلية لأدى ذلك إلى أن لا تكون على وزن من الأفعال الثلاثية
والرباعية .
والصحيح مذهب الكوفيين .
وقول البصريين : إنا وجدناهم يستعملون لعل بغير لام فجوابهم : إنما حذفت كثيراً
لكثرة الاستعمال .
وأما قولهم : لما وجدناهم يستعملونها مع حذف اللام في معنى إثباتها دل على أنها
زائدة كلام عبدل فجوابهم : أن هذا إنما يعتبر فيما يجوز أن يدخل فيه حروف الزيادة
. وأما الحروف فلا يجوز أن يدخل فيها حروف الزيادة .
وأما قولهم : إن هذه الحروف إنما عملت لشبه الفعل فجوابهم : أنا لا نسلم أنها إنما
عملت لشبه )
الفعل في لفظه فقط وإنما عملت لأنها أشبهته لفظاً ومعنى من عدة وجوه : أحدها :
أنها تقتضي الاسم كما أن الفعل يقتضيه .
والثاني : أن فيها معنى الفعل فإن وأن بمعنى أكدت . وكأن بمعنى شبهت ولكن بمعنى
استدركت وليت بمعنى تمنيت ولعل بمعنى ترجيت . وأنها مبنية على الفتح كالماضي .
وهذه الوجوه من المشابهة بين لعل والفعل لا تبطل بأن لا تكون على وزن من أوزانه
وهي كافية في إثبات عملها بحكم المشابهة . انتهى .
____________________
وقول
الشاعر : لعاء الله فضلكم علينا جملة فضلكم : في موضع رفع خبر للعاء بمعنى لعل .
وأما على رواية : لعل الله فضلكم بجر الجلالة فلعل حرف جر لا يتعلق بشيء لأنه يشبه
الزائد ولفظ الجلالة في موضع رفع بالابتداء منع رفعه حركة الجر وجملة فضلكم : خبر
المبتدأ . والشريم وكذلك الشروم : المرأة المفضاة وهي التي صار مسلكاها واحداً .
والبيت لم أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الثمانمائة )
____________________
فقلت
: ادع أخرى وارفع الصوت جهرةً لعل أبي المغوار منك قريب على أن لعل في لغة عقيل
جارة كما في البيت . ولهم في لامها الأولى الإثبات والحذف وفي الثانية الفتح
والكسر .
قال ابن جني في سر الصناعة : حكى أبو زيد أن لغة عقيل لعل زيد منطلق بكسر اللام
الآخرة من لعل وجر زيد .
قال كعب بن سعد الغنوي : ( فقلت ادع أخرى وارفع الصوت ثانياً ** لعل أبي المغوار .
. . . . . البيت ) وقال أبو الحسن : ذكر أبو عبيدة أنه سمع لام لعل مفتوحة في لغة
من يجر في قول الشاعر : انتهى .
ونقل ابن مالك وغيره اللغتين الأخريين في عل كما نقل الشارح المحقق . وعقيل
بالتصغير : أبو قبيلة وهو عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر
بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة بعدها فاء
ابن قيس بن عيلان بن مضر . كذا في جمهرة الكلبي .
وقول الشارح المحقق : وهي مشكلة لأن جرها عمل مختص بالحروف . . . إلخ أقول : لا
إشكال فإنها موضوعة بوضعين : فهي موضوعة عند قوم لعمل النصب
____________________
والرفع
معاً وعند قوم أخر لعمل الجر كوضع لفظ لأمرين مختلفين . فعملهما للرفع والجر
بوضعين لا بوضع واحد خلافاً للشارح في قوله : وكون حرف عامل عمل الحروف والأفعال
في حالة واحدة مما لم يثبت .
وإن أراد من الحالة الواحدة كونها لمعنىً واحد وهو الترجي في العملين فلا بدع ولها
نظائر منها : خلا وعدا وحاشا في الاستثناء فإنها تكون تارة فعلاً فترفع وتنصب
وتارة حرفاً فتجر والمعنى في العملين واحد .
وإن أراد الحرفية في العملين فممنوع أيضاً فإن لات تعمل عمل ليس وتكون حرف جر
أيضاً وهي حرف في العملين .
بل في عمل لعل الجر إدخالها في قولهم : ما اختص بقبيل ولم يكن كالجزء منه حقه أن
يعمل العمل الخاص به . ففيه مراجعة أصل مرفوض . وإنما خرجت مع أخواتها عن هذا
الأصل لشبهها )
بالفعل ولذلك قال الجزولي : وقد جروا بلعل منبهة على الأصل .
وقول الشارح المحقق : وأيضاً الجار لا بد له من متعلق ولا متعلق ها هنا . . إلخ
أقول : هي من جملة حروف جر لا تتعلق بشيء .
قال ابن هشام في المغني : اعلم أن مجرور لعل في موضع رفع بالابتداء لتنزيل لعل
منزلة الجار الزائد في نحو : بحسبك درهم بجامع ما بينهما من عدم التعلق بعامل .
وقوله : قريب خبر ذلك المبتدأ . ومثله لولاي لكان كذا على قول سيبويه إن لولا جارة
وقولك : رب رجل يقول ذلك ونحوه . انتهى . وقد ذكر في الباب الثالث منه الحروف التي
لا تتعلق بشيء قال : يستثني من قولنا : لا بد لحرف الجر من متعلق ستة أمور : أحدها
: الحرف الزائد كالباء ومن في قوله : وكفى بالله شهيداً و هل من خالق غير الله .
وذلك لأن معنى التعلق الارتباط المعنوي . والأصل أن أفعالاً قصرت عن الوصول إلى
الأسماء فأعينت على ذلك بحروف الجر والزائد إنما
____________________
دخل
في الكلام تقوية له وتوكيداً ولم يدخل للربط .
الثاني : لعل في لغة عقيل لأنها بمنزلة الحرف الزائد . ألا ترى أن مجرورها في موضع
رفع لعل أبي المغوار منك قريب ولأنها لم تدخل لتوصيل عامل بل لإفادة معنى التوقع .
ثم إنهم جروا بها منبهةً على أن الأصل في الحروف المختصة بالاسم أن تعمل الإعراب
المختص به كحروف الجر .
الثالث : لولا فيمن قال : لولاي ولولاك ولولاه على قول سيبويه : أن لولا جارة
للضمير فإنها أيضاً بمنزلة لعل في أن ما بعدها مرفوع المحل بالابتداء فإن لولا
الامتناعية تستدعي جملتين كسائر أدوات التعليق .
والرابع : رب في نحو : رب رجل صالح لقيته أو لقيت لأن مجرورها مفعول في الثاني
ومبتدأ في الأول أو مفعول على حد : زيداً ضربته ويقدر الناصب بعد المجرور لا قبل
الجار لأن رب لها الصدر من بين حروف الجر وإنما دخلت في المثالين لإفادة التكثير
أو التقليل لا لتعدية عامل .
الخامس : كاف التشبيه قاله الأخفش وابن عصفور مستدلين بأنه إذا قيل : زيد كعمرو
فإن كان المتعلق استقر فالكاف لا تدل عليه وإن كان فعلاً مناسباً للكاف وهو أشبه
فهو متعد بنفسه . والحق أن جميع الحروف الجارة الواقعة في موضع الخبر ونحوه تدل
على الاستقرار . )
السادس : حروف الاستثناء وهي : خلا وعدا وحاشا إذا خفضن فإنهن لتنحية الفعل عما
دخلن عليه كما أن إلا كذلك وذلك عكس معنى التعدية وهو إيصال معنى الفعل إلى الاسم
.
انتهى باختصار .
وقول الشارح المحقق وفي البيت الذي أنشدناه : إن روي بفتح اللام الأخيرة
____________________
يحتمل
أن يقال : اسم لعل وهو ضمير الشأن مقدر . . . إلخ ويكون لأبي المغوار خبر مقدم
وقريب : مبتدأ مؤخر بتقدير موصوف ومنك حال من ضمير قريب والجملة : خبر ضمير الشأن
. وهذا قول ابن عصفور قال في شرح الجمل : واستدل الذي ذهب إلى أن لعل مفتوحة اللام
من حروف الخفض بقوله : لعل أبي المغوار .
وهذا لا حجة فيه عندي لإنه قد استقر في لعل المفتوحة اللام أن تنصب وترفع فإن أمكن
إبقاؤها على ما استقر فيها كان أولى . وقد أمكن ذلك بأن يكون اسم لعل ضمير الشأن
محذوفاً يريد لعله على حد حذفه في قول الآخر : ( إن من لام في بني بنت حسا ** ن .
. . . . . . . . . . . البيت ) ويكون أبي المغوار مخفوضاً بحرف جر محذوف لفهم
المعنى تقديره : لعل لأبي المغوار منك جواب قريب .
ونظيره قول الآخر : لاه ابن عمك يريد : لله ابن عمك ويكون قريب صفة موصوف محذوف .
وحمله على هذا أولى وإن كان فيه ضرورتان : حذف ضمير الشأن وحذف حرف الجر وإبقاء
عمله .
واستدل الذي ذهب إلى أن لعل المكسورة اللام حرف جر بقوله : لعل الله فضلكم علينا .
. . . . . . . . . البيت بخفض اسم الله . وهذا عندي ينبغي أن يحمل على ظاهره لأنه
لم يستقر في المكسورة اللام عمل النصب والرفع . انتهى كلامه .
____________________
وكأنه
لم يبلغه فتح لام الجارة عن أبي عبيدة كما نقلناه .
وقول الشارح المحقق : ويجوز أن يقال : ثاني لامي لعل محذوف . . . إلخ هذا القول
وما بعده في رواية كسر اللام للفارسي قال في كتاب الشعر في باب ما لحق الحروف من
الحذف : يجوز تخفيف لعل كما يخفف أن وكأن . وعلى التخفيف يعلم ما أنشده أبو زيد :
)
لعل أبي المغوار إن فتحت اللام أو كسرت فوجه الكسر ظاهر . وأما الفتح فلأن لام
الجر يفتحها قوم مع المظهر كما تفتح مع المضمر فإنما خفف لعل وأضمر فيه القصة
والحديث كما أضمر في إن وأن والتقدير : لعله لأبي المغوار قريب أي : جواب قريب
فأقام الصفة مقام الموصوف . انتهى .
وكذا قال المرادي في شرح التسهيل وتأوله الفارسي على تخفيف لعل وأن فيها ضمير
الشأن ووليها في اللفظ لام الجر مفتوحة ومكسورة . فالجر باللام ولعل على أصلها .
انتهى .
وكذا لابن هشام في المغني قال : وزعم الفارسي أنه لا دليل في ذلك لأنه يحتمل أن
الأصل لعله لأبي المغوار جواب قريب فحذف موصوف قريب وضمير الشأن ولام لعل الثانية
تخفيفاً وأدغمت الأولى في لام الجر ومن ثم كانت مكسورة .
ومن فتح فهو على لغة من يقول : المال لزيد بالفتح . وهذا تكلف كثير . ولم يثبت
تخفيف لعل .
انتهى .
وقال المرادي في الجنى الداني : وهذا التخريج ضعيف من أوجه : أحدها : أن تخفيف لعل
لم يسمع في غير هذا البيت .
والثاني : أنها لا تعمل في ضمير الشأن .
والثالث : أن فتح لام الجر مع الظاهر شاذ . انتهى .
____________________
وقد
أخذ ابن الشجري قول الفارسي وتصرف فيه ولم يعتبر ضمير الشأن قال في أماليه : سألني
حبشي بن محمد بن شعيب الواسطي عن قول كعب بن سعد : لعل أبي المغوار فأجبت بأنه
أراد لعل لأبي المغوار منك مكان قريب فخفف لعل وألغاها كما يلغون إن وأن ولما حذف
اللام المتطرفة بقي لعل ساكن اللام فأدغمها في لام الجر لاستثقال الكسرة على
المضاعف . والقياس في الخط أن تكتب منفصلة من لعل . انتهى كلامه .
وقيل جر أبي المغوار على الحكاية نقله المرادي . وهذا كله تكلف . وإذا صحت اللغة
بنقل الأئمة كأبي زيد والفراء فلا معنى لتأويل بعض شواهدها .
قال ابن مالك في التسهيل : والجر بلعل ثابتة الأول أو محذوفته مفتوحة الآخر أو
مكسورته لغة عقيلية . انتهى .
وقول الشارح المحقق : نقل عن الأخفش أنه سمع من العرب فتح لام الجر إلخ نقل هؤلاء
الجماعة )
إنما هو في لام كي لا في اللام الداخلة على الاسم المظهر كما يأتي نقله عن الفارسي
في شرح البيت الآتي .
وقول الشارح المحقق : ويجوز في هذه الرواية أن يقال : الأصل لعاً . . إلخ رواية في
البيت أثبتها أبو زيد في نوادره . قال : ويروى : لعاً لأبي المغوار قال أبو الحسن
الأخفش فيما كتبه على نوادره : فلعاً على هذه الرواية رفع بالابتداء ولأبي المغوار
الخبر ولعاً مقصور مثل عصا وهي كلمة تستعملها العرب عند العثرة والسقطة .
ويقولون : لعاً لك أي : أنهضك الله . وإن كان مبتدأ ففيه معنى الدعاء . ألا
____________________
ترى
أن القائل إذا قال الحمد لله وما أشبهه فهو وإن كان مبتدأ ففيه معنى الفعل يريد :
أحمد الله . وعلى هذا يجري الباب كله .
قال الأعشى : ( بذات لوث عفرناة إذا عثرت ** فالتعس أدنى لها من أن أقول لعا )
يقول : أدعو عليها أحرى من أن أدعو لها . ثم اتسع هذا فصار مثلاً حتى يقال لكل
منكوب : لعاً ولعاً له . انتهى .
ولكون لعاً في معنى الدعاء أي : انتعش بالفعل الماضي على وجه الدعاء . يقال :
انتعش العاثر من عثرته أي : نهض . ونعشه الله وأنعشه : أقامه . وتنوينه للتنكير
كما في صه . وهو مبني على السكون وإنما جاز الابتداء به مع التنكير لأنه في معنى
الدعاء .
قال ابن هشام في بحث مسوغات الابتداء بالنكرة : السابع أن تكون في معنى الفعل وهذا
شامل لنحو : عجب لزيد . وضبطوه بأن يريد بها التعجب . ولنحو : سلام على آل ياسين و
ويل للمطففين . وضبطوه بأن يراد بها الدعاء . انتهى .
ولا يجوز أن تكون اللام للتبيين وهي متعلقة بمحذوف استؤنف للتبيين مع رفع لعاً .
قال ابن هشام في بحث اللام المبينة : ومثال المبينة للفاعلية تباً لزيد وويحاً
فإنهما
____________________
في
معنى خسر وهلك .
فإن رفعتهما بالابتداء فاللام ومجرورها خبر ومحلهما الرفع ولا تبيين لعدم تمام
الكلام . انتهى .
ومنه يظهر سقوط قول ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : لعاً مبتدأ وقوله : لأبي
المغوار في موضع الصفة له وقريب : خبر المبتدأ . وإنما اضطر إلى جعل لأبي المغوار
صفة )
لتنكير المبتدأ مع أنه ليس المعنى على الإخبار بالقرب عن لعا وإنما قريب خبر مبتدأ
محذوف هو ضمير أبي المغوار . والجملة استئنافية في مقام العلة لقوله : ارفع الصوت
.
ونقل أبو زيد في نوادره عن أبي عمرو أنه رواه : لعل أبا المغوار منك قريب بالنصب .
هذا . والبيت من قصيدة مرثية جيدة لكعب بن سعد الغنوي رواها القالي في أماليه
ومحمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب قال : رثى بها كعب أخاه شبيباً .
وقال القالي : قرأت على أبي بكر محمد بن الحسن بن دريد هذه القصيدة في شعر كعب
الغنوي وأملاها علينا أبو الحسن الأخفش قال : قرئ على أبي العباس محمد بن الحسن
الأحول ومحمد بن يزيد وأحمد بن يحيى .
قال : وبعض الناس يروي هذه القصيدة لكعب بن سعد الغنوي وبعضهم يرويها بأسرها لسهم
الغنوي وهو من قومه وليس بأخيه .
وبعضهم يروي شيئاً منها لسهم . والمرثي بهذه القصيدة يكنى أبا المغوار واسمه هرم
وبعضهم يقول : اسمه شبيب ويحتج ببيت روي في هذه القصيدة .
أقام وخلى الظاعنين شبيب وهذا البيت مصنوع والأول أصح لأنه رواه ثقة . وأولها في
رواية الجميع :
____________________
(
تقول سليمى ما لجسمك شاحباً ** كأنك يحميك الشراب طبيب ) ( فقلت ولم أعي الجواب
لقولها ** وللدهر في صم السلام نصيب ) ( تتابع أحداث تخرمن إخوتي ** وشيبن رأسي
والخطوب تشيب ) ( لعمري لئن كانت أصابت مصيبة ** أخي والمنايا للرجال شعوب ) ( لقد
عجمت مني الحوادث ماجداً ** عروفاً لريب الدهر حين يريب ) ( وقد كان : أما حلمه
فمروح ** علينا وأما جهله فعزيب ) ( فتى الحرب إن حاربت كان سمامها ** وفي السلم مفضال
اليدين وهوب ) ( هوت أمه ماذا تضمن قبره ** من الجود والمعروف حين يثيب ) ( جموع
خلال الخير من كل جانب ** إذا جاء جياء بهن ذهوب ) ( هوت أمه ما يبعث الصبح غادياً
** وماذا يرد الليل حين يؤوب ) ( مغيث مفيد الفائدات معود ** لفعل الندى والمكرمات
كسوب ) ) ( غنينا بخير حقبةً ثم جلحت ** علينا التي كل الأنام تصيب ) ( ولو كان حي
يفتدى لفديته ** بما لم تكن عنه النفوس تطيب ) ( بعيني أو يمنى يدي وإنني ** ببذل
فداه جاهداً لمصيب ) ( فإن تكن الأيام أحسن مرةً ** إلي فقد عادت لهن ذنوب ) ( أخي
كان يكفيني وكان يعينني ** على نائبات الدهر حين تنوب )
____________________
(
عظيم رماد القوم رحب فناؤه ** إلى سند لم تحتجنه غيوب ) ( حليم إذا ما الحلم زين
أهله ** مع الحلم في عين العدو مهيب ) ( إذا ما تراءاه الرجال تحفظوا ** فلم
ينطقوا العوراء وهو قريب ) ( أخي ما أخي لا فاحش عند بيته ** ولا ورع عند اللقاء
هيوب ) ( على خير ما كان الرجال خلاله ** وما الخير إلا قسمة ونصيب ) ( حليف الندى
يدعو الندى فيجيبه ** قريباً ويدعوه الندى فيجيب ) ( هو العسل الماذي ليناً وشيمةً
** وليث إذا يلقى العدو غضوب ) ( حليم إذا ما سورة الجهل أطلقت ** حبى الشيب للنفس
اللجوج غلوب ) ( كعالية الرمح الرديني لم يكن ** إذا ابتدر الخير الرجال يخيب ) (
حبيب إلى الزوار غشيان بيته ** جميل المحيا شب وهو أديب ) ( كأن بيوت الحي ما لم
يكن بها ** بسابس لا يلقى بهن عريب ) ( وداع دعا يا من يجيب إلى الندى ** فلم
يستجبه عند ذاك مجيب ) ( فقلت ادع أخرى وارفع الصوت دعوةً ** لعل أبا المغوار منك
قريب ) ( يجبك كما قد كان يفعل إنه ** مجيب لأبواب العلاء طلوب ) ( فإني لباكيه
وإني لصادق ** عليه وبعض القائلين كذوب ) ( إذا ذر قرن الشمس عللت بالأسى ** ويأوي
إلي الحزن حين تغيب )
____________________
وهذا
آخر القصيدة وحذفت منها أبياتاً كثيرة .
وقوله : هوت أمه ما يبعث الصبح البيت قال القالي : أي هلكت أمه كأنها انحدرت إلى
الهاوية .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فأمه هاوية على أنه من قولهم : إذا دعوا على
)
الرجل بالهلكة لأنه إذا هلك هوت أمه كما في البيت .
والمراد ليس الدعاء بالوقوع بل التعجب والمدح كقولهم : قاتله الله ما أفصحه يعني
أنه مستحق لأنه يحسد ويدعى عليه بالهلاك . وما : نكرة موصوفة أي : أي شيء يبعث
الصبح منه حين يغدو إلى الحرب وأي شيء يرد الليل منه حين يرجع إلى أهله . وفيه
معنى التجريد .
وقوله : وداع دعا يا من يجيب البيت الواو واو رب . والداعي هنا السائل ويجيب من
أجابه أي رد جوابه ومفعوله محذوف أي : يجيب الداعي .
والندى : الغاية وبعد ذهاب الصوت والجود . كذا في الصحاح .
وقوله : فلم يستجبه أورده ابن قتيبة في الأفعال التي تتعدى تارة بنفسها وتارة
باللام من أدب الكاتب قال : يقال : استجبتك واستجبت لك .
قال شارحه ابن السيد : كذلك قال يعقوب ومن كتابه نقل ابن قتيبة أكثر ما أورده هنا
. وقد يمكن أن يريد فلم يجبه .
ويدل على ذلك أنه قال : مجيب ولم يقل مستجيب فيكون الشاعر قد أجرى استفعل مجرى أفعل
كما يقال استخلف لأهله بمعنى أخلف واستوقد بمعنى أوقد .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فاستجاب لهم ربهم على أن الاستجابة تتعدى
بنفسها كما في البيت وباللام كما في الآية . واستجاب له أكثر شيوعاً من استجابة .
هذا في التعدية إلى الداعي .
____________________
وأما
إذا عدي إلى الدعاء فبدون اللام أكثر شيوعاً نحو : استجاب الله دعاءه . ولهذا قال
في سورة القصص : البيت على حذف مضاف أي : لم يستجب دعاءه . والمعنى رب داع دعا هل
من أحد يمنح المستمنحين فلم يجبه أحد .
وقوله : فقلت ادع أخرى أي : دعوة أخرى . وقوله : لعل أبي المغوار هذا الترجي من
شدة ذهوله من عظم مصابه بأخيه .
وكعب بن سعد الغنوي شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين بعد
الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الثمانمائة ) ( لعل الله يمكنني عليها **
جهاراً من زهير أو أسيد ) على أنه تتعذر هنا تلك التخريجات المتقدمة في البيت قبله
. فيتعين كون لعل فيه حرف جر ولفظ الجلالة مجروراً به .
ولا يصح أن يدعي أن الأصل لعاً لله وهو ظاهر تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
ولا يمكن أن يقال تقديره : لعله لله يمكنني بتقدير ضمير الشأن وجر الجلالة إما
بلام مقدرة كما قال ابن عصفور وإما باللام المدغمة في لام لعل المخففة كما قال أبو
علي سواء كانت لام لعل مكسورة أم مفتوحة في لعل الله فإن ذلك لا وجه له لا معنىً
ولا صناعةً .
____________________
أما
الأول فظاهر . وأما الثاني فلأنه لا يصح أن يكون لله خير ضمير الشأن لأنه ليس
بجملة إذ لم يقع خبر المبتدأ .
فإن قلت : قدر له مبتدأ نحو : القدرة لله . قلنا : يجب التصريح بجزأي الجملة
الواقعة خبراً لضمير الشأن ولا يجوز حذف أحدهما .
فإن قلت : قدره مع متعلقه جملة . قلنا : فاعله مجهول ولا يصح أن يكون يمكنني خبره
لأنه يبقى لله غير متعلق بشيء إذا لا معنى لتعلقه به .
والعجب من أبي علي في تجويزه الوجهين قال في المسائل البصرية قال : أبو الحسن
الأخفش : زعم يونس أن ناساً من العرب يفتحون اللام التي في مكان كي .
وزعم خلف الأحمر أنها لغة لبني العنبر . وقد سمعت أنا ذلك من العرب . وذلك أن
أصلها الفتح وكسرت في الإضافة للفصل بينها وبين لام الابتداء . وأحفظ في كتاب أبي
الحسن : ( تواعدوني ربيعة كل يوم ** لأهلكها وأقتني الدجاجا ) لعل الله يمكنني
عليها . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو علي : يكون هذا على إضمار الحديث في
لعل مخففة كإضماره في إن وأضمر مبتدأ والظرف في موضع الخبر ويمكنني : حال كأنه قال
: لعل القصة الأمر لله ممكناً لي .
وإن شئت جعلت يمكنني في موضع خبر لعل وأضمرت الحديث كأنه قيل : لعله يمكنني الأمر
لله أي : لقوة الله . هذا كلامه .
ونقله ابن السيد في كتاب أبيات المعاني ولم يتعقبه بشيء . وفيه نظر من وجوه : )
أما أولاً : فلأنه لا مناسبة لذكر فتح لام كي هنا فإن اللام التي ادعاها داخلة على
الاسم الصريح لا على الفعل .
____________________
وأما
ثانياً : فلأنه لا يجوز حذف أحد جزأي الجملة كما تقدم .
وأما ثالثاً : فلأنه قدر ليمكنني فاعلاً وهذا ليس من المواضع التي يحذف فيها . وإن
أراد أنه تفسير الضمير المستتر في يمكنني العائد إلى ضمير الشأن ففيه أن شرط ضمير
الشأن أن لا يعود إليه ضمير من جملة خبره .
وأما رابعاً : فلأنه قدر مضافاً بعد اللام ولا دليل عليه .
ثم قال بعد هذا : فإن قلت فهل يجوز في لعل فيمن خفف أن يدخلها على الفعل بلا شريطة
إضمار القصة كما جاز ذلك في إن إذا خففت أن تدخل على الفعل نحو : إن كاد ليضلنا
قلت : ينبغي عندي أن يبعد إدخال لعل على الفعل .
ألا ترى أن إن لا معنى فيها إلا التأكيد ومع ذلك فقد أعملت مخففة في الاسم ونصب
بها .
وإذا كان كذلك وكانت لعل أشبه بالفعل للمعنى الذي لها وجب أن لا تكون إذا خففت إلا
على شريطة الإضمار إذا أدخلت على الفعل . ويؤكد ذلك أن المفتوحة المخففة .
ألا ترى أنها لا تخفف إلا على إضمار القصة والحديث . وكذلك كأن في قوله : كأن
ثدياه حقان على أن كأن إنما هي أن أدخلت الكاف عليها . فإذا لم تكن إن إلا على
شريطة إضمار فيها وإذا كان كذلك لم يكن قوله : لعل أبي المغوار ولعل الله يمكنني
إلا على إضمار القصة والحديث وما بعده في موضع الخبر . هذا كلامه .
وبناؤه على غير أساس فإنه لم يثبت تخفيف لعل في موضع وإنما كلامه هذا بمجرد توهم
تخفيفها . والله أعلم .
والبيت من قصيدة لخالد بن جعفر . وهذه أبيات من أولها :
____________________
(
أريغوني إراغتكم فإني ** وحذفة كالشجا تحت الوريد ) ( لعل الله يقدرني عليها **
جهاراً من زهير أو أسيد ) الإراغة بالراء المهملة والغين المعجمة : الطلب .
في الصحاح : أريغوني إراغتكم أي : اطلبوني طلبتكم . وأنشد هذا البيت . وحذفة بضم
الحاء )
المهملة وسكون الذال المعجمة بعدها فاء : اسم فرس الشاعر وهو جعفر بن خالد .
والشجا بفتح الشين والجيم : ما ينشب في الحلق من عظم أو غيره . شبه نفسه بالشجا .
ومقربة : مفعول : أريغوني . والمقرب من الخيل على اسم المفعول من الإقراب والتقريب
: الذي يدنى ويكرم والأنثى مقربة ولا تترك أن ترود .
قال ابن دريد : إنما يفعل ذلك بالإناث لئلا يقرعها فحل لئيم . و الإلحاف التغطية .
والجليد : الصقيع يريد : في شدة البرد .
وزهير هو ابن جذيمة بن رواحة العبسي . وأسيد هو أخو زهير وهو بفتح الهمزة وكسر
السين . وضمير عليها راجع إلى مقربة .
وسبب الشعر هو ما رواه صاحب الأغاني والسيد المرتضى في أماليه قالا : إن هوازن لا
ترى زهير بن جذيمة إلا ربا وهوازن يومئذ لا خير فيها ولم
____________________
تكثر
عامر بن صعصعة بعد فهم أذل من يد في رحم إنما هم رعاء الشاء في الجبال وكان زهير
يعشرهم فكان إذا كان سوق فجاءت عجوز من هوازن بسمن في نحي واعتذرت إليه وشكت
السنين التي تتابعت على الناس فذاقه فلم يرض طعمه فدفعها بقوس كانت في يده فسقطت
فبدت عورتها فغضبت من ذلك هوازن وحقدته إلى ما كان في صدرها من الغيظ وكانت قد
كثرت عامر .
فآلى خالد بن جعفر فقال : والله لأجعلن ذراعي وراء عنقه حتى أقتل أو أقتل . وفي
ذلك قال هذا الشعر .
واتفق نزول زهير بالقرب من أرض بني عامر وكانت تماضر بنت عمرو بن الشريد امرأة
زهير بن جذيمة وأم ولده فمر به أخوها الحارث بن عمرو فقال زهير لبنيه : إن الحمار
طليعة عليكم فأوثقوه . فقالت أخته لبنيها : أيزوركم خالكم فتوثقونه ثم حلبوا له
وطباً من لبن وأخذوا منه يميناً أن لا يخبر عنهم فخرج حتى أتى بني عامر فأخبرهم
فركب خالد بن جعفر وحندج بن البكاء ومعاوية بن عبادة
____________________
وثلاثة
من فوارس بني عامر واقتصوا فرأوا إبل بني جذيمة فنزلوا عن الخيل فقالت النساء :
إنا لنرى غابة رماح بمكان كنا نرى به شيئاً . ثم جاءت الرعاء فخبرت بهم وأتى أسيد
أخاه زهيراً فأخبره بالخبر وقال : قد رأت راعيتي خيل بني عامر ورماحها .
فقال زهير : كل أزب نفور فذهبت مثلاً . وكان أسيد كثير الشعر . قال : فتحمل عامة
بني رواحة وحلف زهير لا يبرح مكانه حتى يصبح . وتحمل من كان معه غير ابنيه : ورقاء
)
والحارث . فلم يشعر إلا والخيل أحاطت به . قال زهير وظنهم أهل اليمن : يا أسيد ما
هؤلاء قال : هم القوم الذين تغضب في شأنهم منذ الليلة .
قال : وركب أسيد فرسه ونجا ووثب زهير على فرسه القعساء وكانت متمردة فلحقه خالد
راكباً فرسه حذفة وهو يقول : لا نجوت إن نجا زهير فاعتنق خالد زهيراً وخرا عن
فرسيهما ووقع خالد فوق زهير واستغاث ببنيه فأقبل إليه ورقاء بن زهير فضرب خالداً
ثلاث ضربات فلم يغن شيئاً وكان على خالد درعان . ثم ضرب جندج رأس زهير فقتله .
وفي ذلك يقول ورقاء بن زهير : ( رأيت زهيراً تحت كلكل خالد ** فأقبلت أسعى كالعجول
أبادر ) ( إلى بطلين ينهضان كلاهما ** يريدان نصل السيف والسيف داثر )
____________________
(
فشلت يميني يوم أضرب خالداً ** ويستره مني الحديد المظاهر ) ( فيا ليت أني قبل
ضربة خالد ** ويوم زهير لم تلدني تماضر ) وخالد فارس شاعر جاهلي وهو ابن جعفر بن
كلاب بن ربيعة بن عامر ابن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن عكرمة بن
خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : ( فلو كنت ضبياً عرفت قرابتي ** ولكن زنجي عظيم
المشافر ) على أنه لا يجوز حذف أسماء هذه الحروف غير ضمير الشأن إلا في الشعر على
قلة وضعف كما في هذا البيت . والتقدير : ولكنك زنجي .
في الأصول لابن السراج قال سيبويه : النصب أكثر في كلام العرب كأنه قال : ولكن
زنجياً عظيم المشافر لا يعرف قرابتي ولكنه أضمر هذا .
قال : والنصب أجود لأنه لو أراد الإضمار لخفف ولجعل المضمر مبتدأ كقولك : ما أنت
صالحاً ولكن طالح . انتهى .
____________________
قال
الأعلم : الشاهد فيه رفع زنجي على الخبر وحذف اسم لكن ضرورة . والتقدير : لكنك
زنجي . والنصب أقيس . انتهى .
وتقييد الشارح المحقق حذف الاسم بالضرورة أجود من إطلاق ابن هشام في المغني في
قوله : )
وقد يحذف اسمها . وإن كانت قد تفيد القلة .
وزعم الخفاف في شرح الجمل أنه يجوز حذف أسماء هذه الحروف في فصيح الكلام إذا كان
في الكلام ما يدل عليها . وأنشد هذا البيت . وقوله : أي : فليتك . إلا إن كانت
ضمير شأن فلا يجوز حذفه إلا في الشعر . وروي أيضاً : ولكن زنجياً بالنصب والخبر
محذوف . وتقديره عند سيبويه : لا يعرف قرابتي .
وقال ثعلب في أماليه : وقال سيبويه : زنجياً غليظ المشافر تشبه فأضمر الخبر . هذا
نقله وهو خلاف الواقع مع أن هذا التقدير يقتضي أن ونجياً مفعول تشبه لا اسم لكن .
ثم قال : وقال الفراء : غليظ المشافر تابع سد مسد الخبر . وقال الكسائي : ولكن بك
زنجياً أي : يشبهك .
انتهى .
والمشافر : جمع مشفر بكسر الميم وفتح الفاء وهو شفة البعير واستعير هنا لشفة
الإنسان لما قصد من بشاعة الخلقة .
____________________
والبيت
للفرزدق في هجو رجل من ضبة نفاه عن ضبة ونسبه إلى الزنج . وأما القرابة التي بينه
وبينه فهي أن الفرزدق من تميم بن مر بن أد بن طانجة وضبة هو ابن أد بن طانجة .
واعلم أن قافية البيت اشتهرت كذا عند النحويين وصوابه : ولكن زنجياً غلاظاً مشافره
وهو من قصيدة هجا بها أيوب بن عيسى الضبي . وبعده : ( متت له بالرحم بيني وبينه **
فألفيته مني بعيداً أواصره ) ( فسوف يرى النوبي ما اكتدحت له ** يداه إذا ما الشعر
عنت نوافره ) ( ستلقي عليك الخنفساء إذا فست ** عليك من الشعر الذي أنت حاذره ) (
وتأتي ابن زب الخنفساء قصيدة ** تكون له مني عذاباً يباشره ) والسبب في هذا ما
حكاه صاحب الأغاني أن الفرزدق هجا خالداً القسري وذكر المبارك : النهر الذي حفره
بواسط فبلغه ذلك فكتب خالد إلى مالك بن المنذر : أن احبس الفرزدق فإنه هجا نهر
أمير المؤمنين بقوله : ( أهلكت مال الله في غير حقه ** على النهر المشووم غير
المبارك ) فأرسل مالك إلى أيوب بن عيسى الضبي فقال : ائتني بالفرزدق . فلم يزل
يعمل فيه حتى أخذه )
____________________
فلما
قيل لمالك : هذا الفرزدق انتفخ وريده غضباً فلما أدخل عليه قال : ( أقول لنفسي حين
غصت بريقها ** ألا ليت شعري ما لها عند مالك ) ( لها عنده أن يرجع الله روحه **
إليها وتنجو من عظيم المهالك ) فسكن مالك وأمر به إلى السجن فهجا أيوب بن عيسى
الضبي بتلك القصيدة ثم مدح خالد بن عبد الله ومالك بن المنذر فلما لم ينفعه مدحهما
مدح هشاماً واعتذر إليه : ( ألكني إلى راعي البرية والذي ** له العدل في الأرض
العريضة نورا ) ( أينطقها غيري وأرمى بجرمها ** وكيف ألوم الدهر أن يتغيرا ) ( لئن
صبرت نفسي لقد أمرت به ** وخير عباد الله من كان أصبرا ) ( وكنت ابن أحذار ولو كنت
خائفاً ** لكنت من العصماء في الطود أحذرا ) ( ولكن أتوني آمناً لا أخافهم **
نهاراً وكان الله ما شاء قدرا ) ثم إنه مدحه بقصيدة وأشخص بها ابنه إلى هشام
فأعانته القيسية وقالوا : كلما ظهر شاعر أو سيد وثب عليه خالد وكان كتب الفرزدق
أبياتاً إلى سعيد بن الوليد بن الأبرش يكلم له هشاماً وهي :
____________________
(
إلى الأبرش الكلبي أسديت حاجتي ** تواكلها حياً تميم ووائل ) ( على حين أن زلت بي
النعل زلةً ** وأخلف ظني كل حاف وناعل ) ( فدونكما يا ابن الوليد فقم بها ** قيام
امرئ في قومه غير خامل ) فكلم هشاماً فكتب بتخليته . انتهى باختصار .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : ( إن من لام في بني أخت حسا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) ( إن من
يدخل الكنيسة يوماً ** يلق فيها جآذراً وظباء ) على أن ضمير الشأن يجوز حذفه في
الشعر كثيراً بخلاف حذف اسم هذه الحروف فإنه وإن اختص حذفه في الشعر لكنه بضعف
وقلة وذلك كما في البيتين .
والتقدير : إنه من لام وإنه من يدخل الكنيسة . ومن فيهما اسم شرط جازم والجملة خبر
ضمير الشأن فيهما . )
____________________
وتقدم
الكلام على البيت الأول في الشاهد السابع بعد الأربعمائة وعلى البيت الثاني في
الشاهد الثامن والسبعين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الثمانمائة ) ( كأن على عرنينه وجبينه ** أقام
شعاع الشمس أو طلع البدر ) على أن حذف ضمير الشأن في غير الشعر يجوز بقلة إن لم يل
هذه الأحرف فعل صريح كما في البيت . ومثله في الكلام جائز بقلة نحو : إن بك زيد
مأخوذ .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومنه حذف ضمير الشأن أو القصة إذا كان اسماً لإن
( فلا تشتم المولى وتبلغ أذاته ** فإن به تثأى الأمور وترأب ) يريد : فإنه تثأى
الأمور . وقول الآخر : كأن على عرنينه وجبينه . . . . . . . . . . . . البيت يريد
: كأنه على عرنينه . وقول الآخر :
____________________
إن
من يدخل الكنيسة يريد : إنه من يدخل الكنيسة . ولا يجوز أن يكون من اسم إن لأنها
اسم شرط وأسماء الشرط لا يتقدمها عامل إلا الخافض بشرط أن يكون معمولاً لفعل الشرط
نحو قولك : بمن تمرر أمرر . ومثل ذلك قول الأعشى : ( إن من لام في بني بنت حسا **
ن . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ) يريد : إنه من لام .
وقول أمية بن أبي الصلت : ( ولكن من لا يلق امرأً ينوبه ** بعدته ينزل به وهو أعزل
) يريد : ولكنه من . ومن ذلك قول جميل : ( ألا ليت أيام الصفاء جديد ** ودهر تولى
بابثين يعود ) في رواية من رفع الأيام يريد : ليتها أيام فحذف هذا الضمير يحسن في
الشعر ولا يقبح في الكلام إلا أن يؤدي حذفه إلى أن تكون إن وأخواتها داخلة على فعل
فإنه إذ ذاك يقبح في الكلام والشعر لأنها حروف طالبة للأسماء فاستقبحوا لذلك
مباشرتها للأفعال . )
وإنما قبح حذفه في الكلام وإن لم يؤد الحذف إلى مباشرة إن وأخواتها للأفعال لأنه
مفسر بالجملة التي بعده فأشبهت الجملة الواقعة صفة في نحو قولك : رأيت رجلاً
____________________
يحبه
عمرو في أن كل واحدة من الجملتين مفسره لما قبلها .
والجملة الواقعة صفة يقبح حذف موصوفها وإبقاؤها فكذلك أيضاً يقبح حذف ضمير الشأن
والقصة وإبقاء الجملة المفسرة له . وأيضاً يستعمل في موضع التعظيم والحذف مناقض
لذلك .
وأما قول الراعي : ( فلو أن حق اليوم منكم إقامة ** وإن كان سرح قد مضى فتسرعا )
وقول الآخر : ( فليت دفعت الهم عني ساعةً ** فبتنا على ما خيلت ناعمي بال ) فيحتمل
أن يكون المحذوف منها ضمير الشأن فيكون التقدير : فلو أنه حق اليوم منكم إقامة
وفليته دفعت ويكون البيتان إذ ذاك من قبيل ما يقبح في الكلام والشعر لما يلزم في
البيت الأول ويحتمل أن يكون المحذوف ضمير المخاطب فيكون التقدير : فلو أنكم حق
منكم وليتك دفعت الهم . وحملها على هذا الوجه أولى لأنه لا يلزم فيه من القبح ما
يلزم في الوجه الأول . انتهى كلام ابن عصفور .
والعرنين بالكسر قال صاحب المصباح : هو من كل شيء : أوله ومنه عرنين الأنف لأوله
وهو ما تحت مجتمع الحاجبين وهو موضع الشمم وهم شم العرانين . وقد يطلق العرنين على
الأنف .
____________________
وقال
أيضاً : الجبين ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ وهما جبينان عن يمين
الجبهة وشمالها . قاله الأزهري وابن فارس وغيرهما . فتكون الجبهة بين الجبينين .
والجبهة : موضع السجود بين الجبينين .
ولم أقف على قائل البيت ولم أره إلا في كتاب الضرائر وهو أحسن من قول عويف القوافي
أ ابن عنقاء الفزاري : ( كأن الثريا علقت في جبينه ** وفي خده الشعرى وفي انفه
القمر ) ومن قول خارجة بن فليح المللي : ( كأن على عرنينه وجبينه ** شعاعين لاحا
من سماك وفرقد ) وقد اتفقا في المصراع الأول ولم أدر السابق منهما . وبعده : )
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س :
____________________
(
إن محلاً وإن مرتحلا ** وإن في السفر إذ مضوا مهلا ) على أنه إذا علم الخبر جاز
حذفه سواء كان الاسم نكرة أم معرفة وسواء كررت إن أم لا .
فالأول كما في المصراع الأول من البيت والتقدير إن لنا محلاً في الدنيا ما عشنا
وإن لنا مرتحلا إلى الآخرة .
والثاني : ما حكاه سيبويه قبل إنشاد ذلك البيت قال : ويقول الرجل للرجل هل لكم أحد
إن الناس ألب عليكم فيقول : إن زيداً وإن عمراً أي : إن لنا . انتهى .
وفيه رد على الكوفيين في اشتراطهم تنكير الاسم .
والثالث : نحو ما تقدم من البيت وحكاية سيبويه .
والرابع : هو كقول سيبويه : وتقول إن غيرها إبلاً وشاء كأنه قال : إن لنا غيرها
إبلاً وشاء وعندنا غيرها إبلاً وشاء . فالذي تضمر هذا النحو وشبهه . وانتصب الإبل
والشاء كانتصاب وفيه رد على الفراء فإنه ذهب إلى أنه لا يجوز حذف الخبر إلا مع
تكرير إن سواء كان الاسم معرفة أم نكرة .
____________________
ويرد
عليه وعلى الكوفيين قول الشاعر : أو أن الأكارم نهشلاً . . . . . . . . . . . . .
. . البيت الآتي فإن خبر أن المفتوحة محذوف تقديره : تفضلوا بدلالة ما قبله واسمها
معرفة وهي غير مكررة . وسيأتي الكلام عليه .
وكذلك يرد عليهم الحديث وأثر عمر المسطوران فإن اسم إن فيهما معرفة وهو اسم
الإشارة مع عدم تكرر إن فيهما .
قال ابن يعيش : وكان الفراء يذهب إلى أنه : إنما يحذف مثل هذا إذا كررت إن ليعلم
أن أحدهما مخالف عند من يظنه غير مخالف .
وحكي أن أعرابياً قيل له : الزبابة : الفأرة قال : إن الزبابة والفأرة . ومعناه إن
هذه مخالفة لهذه . والخلاف الذي بين الاسمين يدل على الخبر وهو غير مرضي عند
أصحابنا فإنه مردود )
في الواحد الذي لا مخالف معه .
قال الأخطل : وقالوا : إن غيرها إبلاً وشاء . فقولهم : غيرها اسم إن واخبر مضمر
كأنه قال : إن لنا غيرها وانتصب إبلاً وشاء على التمييز . ويجوز أن يكون : إبلاً
اسم إن وغيرها حال . ولا يحسن أن يكون عطف بيان لأن عطف البيان لا يكون إلا في
المعارف .
فأما ما حكي عن عمر بن عبد العزيز أنه قال لقرشي وقد مت إليه بقرابة : إن ذلك . ثم
ذكر حاجته فقال : لعل ذاك . فالخبر محذوف أي : إن ذلك مصدق ولعل مطلوبك حاصل .
____________________
وإنما
ساغ حذف الخبر هنا وإن لم يكن ظرفاً لدلالة الحال عليه كما يحذف خبر المبتدأ عند
الدلالة عليه نحو قولك : من القائم فيقال : زيد أي : زيد القائم .
والجيد أن يقدر المحذوف ظرفاً نحو : إن لك ذلك أي : حق القرابة ولعل لك ذلك
والمعنى واحد إلا أنه من جهة اللفظ صار على منهاج القياس . انتهى كلامه .
وقال قبل هذا : اعلم أن أخبار هذه الحروف إذا كانت ظرفاً أو جاراً ومجروراً فإنه
يجوز حذفها والسكوت على أسمائها وذلك لكثرة استعمالها والاتساع فيها إلى أن قال :
ولم يأت ذلك إلا فيما كان الخبر فيه ظرفاً أو جاراً ومجروراً . انتهى .
وقول الشارح المحقق : إن الخبر في الآية محذوف تقديره : هلكوا قدره الزمخشري
بدلالة جواب الشرط عليه أي : نذيقهم من عذاب أليم فإن الآية هي إن الذين كفروا
ويصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام الذي جعلناه للناس سواءً العاكف فيه والباد
ومن يرد فيه بإلحاد بظلم نذقه من عذاب أليم وهي آية سورة الحج .
والعجب من ابن هشام فإنه قال في حذف الخبر من بحث المحذوفات من أواخر الباب الخامس
بعد أن أورد البيت : وقد مر البحث في إن الذين كفروا ويصدون عن سبيل الله و إن
الذين كفروا بالذكر لما جاءهم مستوفىً مع أن الآية الأولى لم يمر لها ذكر ولا وقع
له عنها بحث في المغني لا مستوفىً ولا غير مستوفىً .
وأما الآية الثانية وهي آية حم فصلت فقد مر منه البحث عنه مفصلاً مستوفى في المثال
الأول من أمثلة الجهة الرابعة .
____________________
وقوله
: إن محلاً . . . إلخ المحل والمرتحل : مصدران ميميان بمعنى الحلول والارتحال أو
اسما زمان )
أي وقت حلول ووقت ارتحال . والحلول بالمكان : النزول به . والارتحال عنه :
الانتقال عنه .
وبالأول فسرها صاحب التلخيص . أي : إن لنا في الدنيا حلولاً وإن لنا عنها ارتحالاً
.
قال السعد : حذف المسند وهو هنا ظرف قطعاً لقصد الاختصار والعدول إلى أقوى
الدليلين أعني العقل مع اتباع الاستعمال لاطراد الحذف في نحو : إن مالاً وإن ولداً
وإن زيداً وإن عمراً . وقد وضع سيبويه لهذا باباً فقال : هذا باب إن مالاً وإن
ولداً .
قال عبد القاهر : لو أسقطت إن لم يحسن الحذف أو لم يجز لأنها الحاضنة له والمتكلفة
بشأنه والمترجمة عنه . وفيه أيضاً ضيق المقام والمحافظة على الشعر . انتهى .
وقوله : أقوى الدليلين . . . إلخ أشار إلى أن قرينة الحذف في البيت حالية بخلاف ما
قبله من الأمثلة فإن مقالتها لفظية .
قال ابن يعيش : قولهم : إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً كأنه وقع في جواب : ألهم مال
وولد وعدد فقيل : ذلك أي : إن لهم مالاً وإن لهم ولداً . ولم يحتج إلى إظهاره
لتقدم السؤال عنه .
وقول السعد : وقد وضع سيبويه لهذا باباً فقال : هذا باب إن مالاً أقول : ليست
ترجمة الباب ما ذكره وإنما هي : هذا باب ما يحسن عليه السكوت في هذه الأحرف الخمسة
لإضمارك ما يكون مستقراً لها وموضعاً لو أظهرته .
وليس هذا المضمر بنفس المظهر . وذلك إن مالاً وإن ولداً وإن عدداً أي : إن لهم
مالاً إلى آخر ما ذكره .
____________________
وتقدير
الخبر مقدماً في البيت وغيره إنما هو الأولى وليس بواجب لتنكير الاسم لأن الإخبار
عن النكرة في باب إن جائز كما قاله ابن مالك وتبعه الشارح هنا .
وكأن ابن الملا لم يمر به هذا لأنه قال في شرح المغني : وإنما جعل التقدير إن لنا
حلولاً دون إن حلولاً لنا مع أنه الأصل لما أن هذا الخبر لو ذكر لكان واجب التقديم
لكون الاسم نكرة وكل مقدر صناعة إنما قدر في الموضع الذي يليق به . هذا كلامه .
وقوله : وإن في السفر : هو جمع سافر قال صاحب الصحاح : سفرت أسفر سفوراً : خرجت
إلى السفر فأنا سافر وقوم سفر مثل صاحب وصحب وسفار مثل راكب وركاب .
والسفر بفتحتين : قطع المسافة . انتهى .
وإليه ذهب السعد فقال : السفر : جمع سافر . قال : والسفر : الرفاق قد توغلوا في
المضي لا )
رجوع لهم . ونحن على إثرهم عن قريب .
وقد غفل صاحب القاموس عن كلام الصحاح فقال : السافر : المسافر ولا فعل له . وتبعه
ابن الملا فقال : السفر اسم مفرد وضع لمعنى الجمع عند سيبويه بدليل تصغيره على
لفظه فهو اسم جمع لسافر بمعنى مسافر لا فعل له كما نص عليه صاحب القاموس أو جمع
مكسر له عند الأخفش .
وهذا الخلاف جار في كل ما يجيء من تركيبه اسم يقع على الواحد كصاحب من صحب وراكب
من ركب بخلاف نحو غنم ورهط فإنه اسم جمع اتفاقاً . والسافر : الخارج إلى السفر .
والسفر : الخارجون إليه . هذا كلامه .
وإنما قدر الشارح المحقق مضافاً قبل السفر تبعاً لابن يعيش ليصح الحمل فإن الظرف
خبر عن قوله : مهلا بفتحتين .
قال ابن يعيش : يقول : في رحيل من رحل ومضى مهل أي : لا يرجع . والمهل : السبق .
انتهى .
____________________
ومجيئه
بها المعنى معروف . قال السكري في شرح ديوان الأخطل عند قوله في عبد الله بن
معاوية : ( قرم تمهل في أمية لم يكن ** فيها بذي أبن ولا خوار ) المهل : السبق
والتقدم . والأبن : العوج والعقد تكون في العود . والخوار : الضعيف .
ولم يذكر هذا المعنى في الصحاح ولا في القاموس إلا أنه فيه : المهل : التقدم
بالخير . وأراد بالسبق والفوت عدم الرجوع .
وسبقهما الأعلم قال : أراد بالسفر من رحل من الدنيا . فيقول : في رحيل من رحل ومضى
مهل أي : لا يرجع . انتهى .
وذهب ابن الحاجب في أماليه إلى أن المهل فيه بمعنى الإمهال والتأني . قال : معناه
أنهم يقولون إن لنا محلاً فغي الدنيا وارتحالاً بالموت وإن في مضي من قبلنا يعني :
موت من يموت مهلة لنا .
لأنا نبقى بعدهم وهو معنى الإمهال .
وتبعه ابن هشام في المغني فقال : أي إن لنا حلولاً في الدنيا وارتحالاً عنها إلى
الآخرة وإن في الجماعة الذين ماتوا قبلنا إمهالاً لنا لأنهم مضوا قبلنا وبقينا
بعدهم .
قال ابن الحنبلي فيما كتبه على المغني : فيه تنبيه على أن المهل هو الإمهال
المتعدي بمعنى )
الإنظار .
ولم أر في كتب اللغة مهلته مهلاً بالفتح : أنظرته . ولكن مهل مهلاً بالفتح : ضد
عجل . وأمهلته : أنظرته .
وفي الحديث : إذا سرتم إلى العدو فمهلاً مهلاً وإذا وقعت العين على العين
____________________
فمهلاً
مهلاً .
فالأولان بالسكون بمعنى التأني والآخران بالفتح بمعنى التقدم . أي : إذا سرتم
فتأنوا وإذا لقيتم فاحملوا . انتهى .
ونقل ابن الملا عن أبي عبيدة انه قال : المعنى : إن منا مقيماً وإن منا مسافراً
وإن في السفر إذا مضوا مهلاً أي : ذهاباً لا يرجعون بعده ويجوز أن يكون مهلاً
بمعنى عبرة . يريد : إن فيمن مات عبرة للأحياء . وإذ هنا : ظرف عامله ما بعده .
وظاهر كلام ابن الحاجب السابق أنها بدل من قوله : في السفر . وقيل : هي للتعليل
هنا . وهل هذه حرف بمنزلة لام العلة أو ظرف والتعليل مستفاد من قوة الكلام لا من
اللفظ قولان .
ورواية سيبويه : وإن في السفر ما مضى مهلا وعليها يكون السفر مفرداً وصفاً كصعب
بمعنى المسافر . قال في القاموس : يقال : رجل سفر .
وروي في كتابه أيضاً : وإن في السفر ما مضى مثلا قال الأعلم : أي : فيمن مضى مثل
لمن بقي أي : سيفنى كما فني هذا . والبيت مطلع قصيدة للأعشى ميمون مدح بها سلامة
ذا فائش الحميري . وبعده :
____________________
(
استأثر الله بالوفاء وبال ** عدل وولى الملامة الرجلا ) إلى أن قال : ( أصبح ذو
فائش سلامة ذو التف ** ضال هشاً فؤاده جذلا ) ( أبلج لا يرهب الهزال ولا ** ينقض
عهداً ولا يخون إلا ) ( يا خير من يركب المطي ولا ** يشرب كأساً بكف من بخلا ) (
قلدتك الشعر يا سلامة ذا ال ** تفضال والشعر حيثما جعلا ) ( والشعر يستنزل الكريم
كما اس ** تنزل رعد السحابة السبلا ) )
روى صاحب الأغاني بسنده إلى سماك بن حرب أن الأعشى قال : أتيت سلامة ذا فائش وأطلت
المقام ببابه حتى وصلت إليه بعد مدة وأنشدته هذه القصيدة قال : صدقت الشعر حيثما
جعل . وأمر لي بمائة من الإبل وكساني حللاً وأعطاني كرشاً مدبوغة مملوءة عنبراً
فبعتها بالحيرة بثلثمائة ناقة حمراء .
____________________
وترجمة
الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . واستأثر الله بكذا أي :
اختص به .
وانشد بعده ( الشاهد الثاني والثمانون بعد الثمانمائة ) ( خلا أن حياً من قريش
تفضلوا ** على الناس أو أن الأكارم نهشلا ) على أن هذا البيت يرد على الكوفيين في
اشتراطهم لحذف الخبر تنكير الاسم وعلى الفراء في اشتراطه تكرير أن فإنه حذف خبر أن
المفتوحة الهمزة الثانية وبدلالة ما قبله تقديره : تفضلوا .
واسمها معرفة وهي غير مكررة . وأما أن الأولى المفتوحة الهمزة أيضاً فخبرها مذكور
.
وقول الشارح : وقال الشاعر معطوف على قوله : روي أن المهاجرين قالوا : يا رسول
الله . . إلخ .
إن محلاً وإن مرتحلا وأصحابنا
____________________
يجيزون
حذف خبر إن مع المعرفة والكوفيون يأبون حذف خبرها إلا مع النكرة .
فأما احتجاج أبي العباس عليهم بقوله : ( خلا أن حياً من قريش تفضلوا ** على الناس
أو أن الأكارم نهشلا ) أي : وأن الأكارم نهشلاً فضلوا . فقد قال أبو علي : هذا لا
يلزمهم لأن لهم أن يقولوا : إنما منعنا حذف خبر المعرفة مع إن المكسورة فأما مع أن
المفتوحة فلا نمنعه .
قال : ووجه فصلهم فيه بين المكسورة والمفتوحة أن المكسورة حذف خبرها كما حذف خبر
نقيضها وهو قولهم : لا بأس ولا شك أي : عليك وفيه . فكما أن لا تختص بالنكرات
فكذلك إنما يشبهها نقيضها في حذف الخبر مع النكرة أيضاً . انتهى .
وقد أجرى الخلاف بين البصريين والكوفيين ولم يجر للفراء ذكراً وأفاد أن أو بمعنى
الواو وخلا من أدوات الاستثناء وأن في الموضعين مفتوحة .
والحي : القبيلة . وكأنه أراد بتنكيره بني هاشم . ومن قريش صفة لحي . وتفضلوا :
خبر أن . )
ومعناه : رجحوا على الناس بالفضل والمزية . والأكارم : جمع أكرم .
ونهشلاً : بدل من الأكارم . ونهشل هو أبو قبيلة وهو نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة
بن والبيت نسبه ابن يعيش إلى الأخطل . وله في ديوانه قصيدة على هذا الوزن والروي
ولم أجده فيها . والله أعلم .
وكذا نسبه ابن الشجري في أماليه إلى الأخطل وقال : أراد : أو أن الأكارم
____________________
نهشلاً
تفضلوا على الناس . والبيت آخر القصيدة . هذا كلامه .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : ( ليت
شعري مسافر بن أبي عم ** رو وليت يقولها المحزون ) على أن الاستفهام بعد ليت شعري
قد يحذف كما في البيت وتقديره : ليت شعري أتجتمع أم لا .
وهو في هذا تابع لابن الحاجب في شرح المفصل وهو مبني على رواية صاحب الأغاني
والسهيلي لهذا الشعر فإنهما رويا بعده : ( بورك الميت الغريب كما بو ** رك غصن
الريحان والزيتون ) ( أي شيء دهاك أم غال مرآ ** ك وهل أقدمت عليك المنون ) فهذا
هو الاستفهام الذي يأتي بعد ليت شعري فلا حذف فيه . غايته أنه
____________________
فصل
بينهما باعتراض بجملتين : إحداهما : مسافر بن أبي عمرو .
والثانية : وليت يقولها المحزون . وكأنهما لم يقفا عليه .
وقول الشارح المحقق : ومسافر منادى يعني أنه مبني على الضم . ويجوز فتحه لوصفه
بابن لأن ابناً مضاف إلى ما هو كالعلم لشهرته به .
قال النحاس : مسافر : نداء وهو مضموم فيما قرأته على أبي إسحاق . وقد قيل : إنه
مفتوح كما تقول : يا زيد بن عبد الله . انتهى .
ومراده الرد على الأعلم الشنتمري . من وجهين فإنه قال : نصب مسافر على معنى شعري
خبر )
مسافر أي : ليتني أعلم خبره فحذف الخبر المنصوب بالمصدر وأقام مسافر مقامه . ويجوز
رفعه على خبر ليت . انتهى .
ولغفلته عن كونه منادى توهم الفتح أنه مفعول شعري على حذف مضاف . وفيه غفلة أخرى
عن أن مفعول شعري هنا إنما يكون جملة استفهام وتوهم الضم أنه خبر ليت . وفيه غفلة
وقول الشارح : وهذا الاستفهام مفعول شعري . . إلخ هذا التحقيق لابن جني كما يأتي .
وقوله أيضاً : وقال المصنف : الاستفهام قائم مقام الخبر هذا القول ليس له وإنما هو
تابع .
قال المرادي في شرح التسهيل وغيره : وذهب المبرد والزجاج إلى أن جملة الاستفهام هي
الخبر وموضعها رفع وشعري ملغى . ورد بأن الطلب لا يكون خبراً لليت وبأن الجملة لا
رابط فيها . ونسبه في الإفصاح إلى سيبويه قال : وتحقيقه أن شعري بمعنى مشعوري
فالجملة نفس المبتدأ فلا يحتاج إلى رابط . انتهى .
قال الدماميني في شرح التسهيل بعد نقل هذا : قلت : ينبغي أن يكون أصل التقدير :
ليت مشعوري جواب هل قام زيد فالجملة مراد بها لفظها أي : جواب هذا اللفظ ثم حذف
المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . والمعنى : ليت معلومي
____________________
قيام
زيد أو عدم قيامه لأن أحد هذين الأمرين جواب الاستفهام فلو لم يعتبر هذا الحذف لم
يستقم ظاهراً . انتهى .
وقوله أيضاً : وقال ابن يعيش الاستفهام ساد مسد الخبر هذا أيضاً ليس لابن يعيش
وإنما هو لغيره .
قال ابن جني عند قول الحماسي : ( ليت شعري ضلةً ** أي شيء قتلك ) وذلك أن قوله :
أي شيء قتلك جملة استفهامية منصوبة الموضع بشعري الذي هو مصدر شعرت .
تقول : شعرت به شعرة فهي فعلة كالدرية والفطنة غير أن الهاء حذفت مع الإضافة
كقولهم : هو أبو عذرها وإنما هي العذرة . قال : ( دماؤهم ليس لها طالب ** مطلولة
مثل دم العذره ) فهو كقولك : ليتني أشعر أي شيء قتلك كقولك : قد علمت أي شيء قتلك
والخبر محذوف تقديره : ليت شعري أي شيء قتلك واقع أو كائن أو نحو ذلك . فحذف الخبر
وصار طول )
الكلام بمعمول شعري بدلاً في اللفظ منه وساداً بطوله مسده . وانتصب صلة بما دل
عليه ليت شعري .
ألا ترى أنه إذا تمنى علم الشيء فقد اعترف بضلاله عنه . والتقدير : ضللت عن
____________________
معرفة
قاتلك ضلة . انتهى .
فصاحب هذا القول اعترف بحذف الخبر لطول الكلام بجملة الاستفهام وجملة الاستفهام
نائبة عن الخبر فورد عليه ما ذكره الشارح المحقق .
فإن قلت : أليس هذا مثل ضربي زيداً قائماً فإن الحال سدت مسد الخبر كما ذكره
الشارح قلت : الخبر يقدر قبلها وليست حالاً من زيد . والتقدير عند سيبويه والجمهور
: ضربي زيداً إذا كان قائماً فالخبر زمان مضاف إلى فعل صاحبها المستتر في كان .
وعند الأخفش : ضربي زيداً ضربه قائماً . فالخبر ضربه المحذوف وصاحبها الهاء .
فليست الحال في التقديرين من ذيول المصدر المذكور . فظهر وجه اعتراض الشارح المحقق
.
هذا . وقد أورد سيبويه البيت في باب تسمية الحروف والكلم التي تستعمل وليست ظروفاً
ولا أسماء ولا أفعالاً .
قال الأعلم : الشاهد في إعراب ليت وتأنيثها لأنه جعلها اسماً للكلمة وأخبر عنها
كما يخبر عن الاسم المؤنث .
والبيتان المذكوران أولاً من تسعة أبيات لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم
رثى بها مسافراً المذكور . وبعدهما :
____________________
(
أنا حاميك مثل آبائي الزه ** ر لآبائك التي لا تهون ) ( ميت صدق على هيالة أمسي **
ت ومن دون ملتقاك الحجون )
____________________
(
بورك الميت الغريب كما بو ** رك نضح الرمان والزيتون ) ( كنت لي عدةً وفوقك لا فو
** ق فقد صرت ليس دونك دون ) ( كنت مولىً وصاحباً صادق الخب ** رة حقاً وخلةً لا
تخون ) ( فعليك السلام مني كثيراً ** أنفدت ماءها عليك الشؤون ) هذا ما في ديوان
أبي طالب . وروى صاحب الأغاني ما بعد البيت الأول كذا : ( رجع الركب سالمين جميعاً
** وخليلي في مرمس مدفون ) ) ( بورك الميت الغريب كما بو ** رك غصن الريحان
والزيتون ) ( ميت صدق على هبالة قد حا ** لت فياف من دونه وحزون ) ( مدرة يدفع
الخصوم بأيد ** وبوجه يزينه العرنين ) ( كم خليل رزئته وابن عم ** وحميم قضت عليه
المنون ) ( فتعزيت بالتأسي وبالصب ** ر وإني بصاحبي لضنين ) ونسب السهيلي هذا
الشعر لأبي سفيان وأورد بعد البيت الأول : بورك الميت الغريب إلخ وقال : قاله في
مسافر بن أبي عمرو بن أمية واسم أبي عمرو ذكوان وكان مسافر مات في حب صعبة بنت
الحضرمي .
وهذا بخلاف ما أورده صاحب الأغاني قال : إن مسافر بن أبي عمرو كان من فتيان قريش
جمالاً وسخاء وشعراً عشق بنت عتبة بن ربيعة فعشقته واتهم بها فحملت منه فلما بان
حملها أو كاد قالت : اخرج . فخرج حتى أتى الحيرة . ثم إنه ألقى أبا سفيان فسأله عن
حال قريش والناس فأخبره وقال فيما قاله : وتزوجت عند بنت عتبة . فدخله من ذلك ما
أعله حتى استسقى بطنه فدعي له بالأطباء فقالوا : لا دواء له غير الكي فأحمى الذي
يعالجه المكاوي فلما صارت كالنار قال : ادع أقواماً يمسكونك . فقال مسافر : لست
أحتاج إلى ذلك .
فجعل يضع المكاوي عليه فلما رأى جلده ضرط الطبيب فقال مسافر : العير يضرط والمكواة
في النار فذهبت مثلاً . فلم يزدد إلا ثقلاً فخرج يريد مكة فلما انتهى إلى موضع
يقال له : هبالة مات فدفن بها ونعي إلى قريش فقال أبو طالب هذا الشعر .
وقال النوفلي في خبره : وحدثني أنه إنما ذهب مسافر إلى النعمان بن المنذر يتعرض
لإصابة مال ينكح به هنداً فأكرمه النعمان واستظرفه ونادمه وضرب عليه قبة من أدم .
وكان الملك إذا فعل برجل عرف قدره منه ومكانه عنده .
وقدم أبو سفيان بن حرب في بعض تجاراته فسأله مسافر عن حال الناس بمكة
____________________
فذكر
أنه تزوج هنداً فاضطرب مسافر واعتل حتى مات . قال بعض الناس : إنه استسقى بطنه
فكوي فمات بهذا السبب .
ثم أورد صاحب الأغاني حكاية هند بنت عتبة وطلاقها من زوجها الفاكه بن المغيرة )
وتزوجها بأبي سفيان . انتهى .
وكذا أورد الحكاية المفضل بن سلمة في كتاب الفاخر قال : روى أبو الحسن الدمشقي أن
مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس كان يهوى هنداً بنت عتبة وكانت تهواه فقالت
له : إن أهلي لا يزوجونني منك لأنك معسر فلو وفدت إلى بعض الملوك لعلك تصيب مالاً
. فرحل إلى الحيرة وافداً إلى النعمان فبينا هو مقيم عنده . إذ قدم عليه قادم من
مكة فسأله عن خبر أهل مكة بعده فأخبره بأشياء كان فيها أن أبا سفيان تزوج هنداً .
فطعن من الغم فأمر النعمان بن أن يكوى فأتاه الطبيب بمكاويه فجعلها في النار ثم
وضع مكواة منها عليه وعلج من علوج النعمان واقف فلما رآه يكوى ضرط فقال مسافر : قد
يضرط العير والمكواة في النار . ويقال إن الطبيب ضرط . انتهى .
وأثنى عليه الزبير بر بكار في أنساب قريش قال : كان أزواد الركب من قريش ثلاثة :
مسافر بن أبي عمرو بن أمية وزمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى وأبو
أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وإنما قيل لهم أزواد الركب لأنهم
كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحد .
وقوله : أي شيء دهاك من دهاه الأمر يدهاه دهياً إذا نزل به ما لا يطيق
____________________
دفعه
بغتة . ومنه الداهية وهي النائبة والنازلة . وغاله غولاً إذا أهلكه على غفلة .
والاسم الغيلة بالكسر .
والمرأى بفتح الميم : المنظر الحسن . والمنون بفتح الميم : الموت .
وقوله : أنا حاميك . . إلخ حماه يحميه إذا دفع عنه ما يكره من سوء المقال . والزهر
: جمع أزهر وهو الأبيض يريد به النقي من الذم والعيب . واللام بمعنى من أجل .
وتهون : مضارع هان هوناً بالضم إذا ذل وحقر . والمهانة : الذل والضعف .
وقوله : ميت صدق . . إلخ قال الصاغاني : كل ما نسب إلى الصلاح والخير أضيف إلى
الصدق فقيل : رجل صدق وصديق صدق .
قال تعالى : ولقد بوأنا بني إسرائيل مبوأ صدق أي : أنزلناهم منزلاً صالحاً .
وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها موحدة : اسم قرية بالطائف .
وقال أبو هفان : تبالة عرض من أعراض مكة . وأمسيت بالخطاب . والحجون بفتح الحاء
المهملة وضم الجيم : جبل مشرف بمكة . )
وقوله : بورك الميت . . إلخ جملة دعائية . والبركة : الزيادة . والنضح بفتح النون
وسكون الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة قال أبو هفان : النضح : القليل والنضخ :
الكثير .
في الصحاح : الأصمعي : نضح الشجر إذا تفطر ليخرج ورقه . وأراد به اسم المفعول أي :
الفروع المنشقة عندما يخرج . والزيتون : معطوف على نضح .
____________________
وقوله
: كان منك اليقين . . . إلخ قال أبو هفان : يقول : لا أصدق باليقين في موتك
استعظاماً لموته . ورجمتك بتشديد الجيم : مبالغة رجمه بالغيب أي : ظن فيه من غير
دليل .
وقوله : كنت مولى . . إلخ قال أبو هفان : المولى : ابن العم . والخلة بضم الخاء
المعجمة : الصديق وأصله المصدر أطلق مبالغة .
وقوله : فعليك السلام . . إلخ هذا سلام مودع . وأنفدت بالدال المهملة بمعنى أفنت .
وماءها : مفعول مقدم . والشؤون : مواصل قبائل الرأس وملتقاها ومنها تجيء الدموع .
وقوله في الرواية الثانية : في مرمس مدفون المرمس كالمدفن وزناً ومعنى .
وقوله : مدره يدفع . . إلخ المدره بكسر الميم وآخره هاء قال الجوهري : درهت عن
القوم : دفعت عنهم مثل درأت وهو مبدل منه . والمدره : زعيم القوم والمتكلم عنهم .
والأيدي : جمع يد وهي القوة .
ومسافر المذكور مات في الجاهلية . وتقدمت ترجمة أبي طالب في الشاهد الحادي
والتسعين .
____________________
وأنشد
بعده : على أنه يجوز في باب إن الإخبار عن نكرة بنكرة كما في هذا المصراع . وتمامه
: فهل عند رسم دارس من معول وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الحادي والأربعين بعد
السبعمائة .
وأنشد بعده : أظبي كان أمك أم حمار على أنه يجوز في باب كان الإخبار عن النكرة
بالمعرفة كما في هذا المصراع . وهو عجز وصدره : فإنك لا تبالي بعد حول وتقدم شرحه
هناك في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة . )
____________________
وأنشد
بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الثمانمائة ) ( فليت كفافاً كان خبرك كله **
وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي ) على أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت وجملة كان :
خبرها واسمها الضمير المستتر فيها الراجع إلى كفاف وخبرها خيرك بالنصب فيكون اسم
كان أيضاً نكرة كاسم ليت لكونه راجعاً إلى كفاف .
وهذا كما قدمه في باب النكرة والمعرفة وفي باب كان : أن الضمير العائد إلى نكرة
نكرة . وهذا مذهب بعض النحويين . وعند الجمهور معرفة مطلقاً .
وقد تكلم على هذا البيت أبو علي في تذكرته وتلميذه أبو طالب العبدي وابن الشجري في
مجلسين من أماليه ولخص منها ابن هشام في المغني وابن الحاجب في أماليه وأبو حيان
في تذكرته وغيرهم .
ولم يذكر أحد منهم رواية نصب خيرك إلا صاحب اللباب قال فيما علقه عليه : ذكر عبد
القاهر في هذا البيت وجهاً آخر يخرجه عما نحن فيه من إضمار الشأن : أن كفافاً اسم
ليت وفي كان ضميره وخيرك منصوب بالخبرية . وكذا شرك على معنى : فليت شيئاً مكفوفاً
كان هو خيرك كله وشرك . انتهى .
وأفاد فائدتين : إحداهما : أن قوله : وشرك منصوب في رواية نصب خيرك والثانية : أن
كفافاً مصدر مؤول باسم المفعول على تقدير موصوف .
وفي مسائل الخلاف لابن الأنباري ما يشير إلى رواية النصب أيضاً ولكن
____________________
المعنى
عليها يكون على القلب كما يشهد به الذوق السليم . وعلى هذه الرواية يكون عني
متعلقاً بمحذوف على أنه حال من شر أي : حال كونه منفصلاً عني .
ولا يجوز أن يتعلق بالضمير في كان العائد على كفاف كما ذكروا أن الظرف يتعلق
بالضمير في قوله : ( وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ** وما هو عنها بالحديث المرجم
) ولا بكفاف المذكور أيضاً لأن المبتدأ لا يعمل بعد مضي خبره ويكون مرتوي فاعل
ارتوى )
والماء : منصوب بنزع الخافض وما : مصدرية ظرفية أي : مدة دوام المرتوي بالماء .
وقول الشارح المحقق : وإن روي برفعه أي : برفع خيرك فاسم ليت ضمير شأن محذوف .
وهذا على ما تقدم منه قريباً من أن أسماء هذه الحروف لا يجوز حذفها في الشعر إلا
إذا كانت ضمائر الشأن . وهو مذهب صاحب اللباب قال : ولا يحذف اسمها إلا إذا كان
ضمير الشأن .
وكذا قال ابن الحاجب في أماليه على هذا البيت .
وجوز غيرهم أن يكون المحذوف ضمير المخاطب . قال ابن الشجري في المجلس الأول وهو
المجلس الثامن والعشرون وتبعه ابن هشام : إن اسم ليت ضمير محذوف . وحذف هذا النحو
مما فإن شئت قدرته ضمير الشأن والحديث وإن شئت قدرته ضمير المخاطب . وكفافاً معناه
كافاً وهو خبر كان وخيرك اسمها والجملة خبر اسم ليت .
والتقدير على الأول فليته كان خيرك كفافاً ولا يحتاج إلى الضمير الرابط لأن الجملة
نفسها هي الشأن . وعلى التقدير الثاني : فليتك كان كفافاً خيرك والعائد على اسم
ليت الكاف من خيرك . ومثله في حذف الضمير على التقديرين قول الآخر :
____________________
(
فليت دفعت الهم عني ساعةً ** فبتنا على ما خيلت ناعمي بال ) أراد : فليته أو فليتك
. انتهى .
وظاهر كلام هؤلاء أنه لا يجوز جعل كفافاً اسم ليت مع رواية الرفع . وهو مسلم إن
كانت كان تامة .
قال ابن الشجري وتبعه ابن هشام : فإن قلت : هل يجوز أن ينصب بليت وتجعل كان
مستغنية بمرفوعها بمعنى حدث ووقع ويخبر بالجملة التي هي كان وفاعلها عن كفاف .
فالجواب : أن ذلك لا يصح لخلو الجملة عن عائد . فلو قلت : ليت زيداً قام عمرو لم
يجز لعدم ضمير في اللفظ وفي التقدير .
فإن قلت : إليه أو معه أو نحو ذلك صح الكلام . انتهى .
وأما إن كانت ناقصة فجائز . قال أبو حيان في تذكرته : يصح جعل كفافاً اسم ليت
وخيرك اسم كان وتضمر الخبر عائداً على كفافاً والتقدير : كأنه خيرك . ونظيره أحد
قولي سيبويه في : إن أفضلهم كان زيد .
ومنع الفارسي من هذا في التذكرة وقال : لقبح الابتداء بالنكرة ولأنه ليس بعده في
الجملة ذكر )
يعود عليه ولا هو هي . ويا لها من غفلة من إمام حبر . وإضمار خبر كان لا يحصى
وحذفه كحذف سائر الضمائر إذا كان في حكم الموجود مثل إن زيداً ضرب عمرو وإن كان
ضعيفاً .
فأما نصب هذه الحروف المنكرات فلا ينحصر . انتهى .
وقد تبع ابن الحاجب أبا علي فقال في أماليه : ولا يستقيم أن يكون كفافاً اسماً
لليت لأنه نكرة : فلا يصلح ولو صلح لم يستقم المعنى لأن قوله : كان خيرك وما بعده
لا يصلح خبراً . انتهى .
وقول الشارح : وقوله خيرك وشرك اسم كان وكفافاً خبرها ولم يثن لكونه مصدراً في
الأصل .
مثله لابن الحاجب في أماليه قال : كفافاً خبر عن
____________________
الخير
والشر معاً أي : ليت خيرك وشرك بالنسبة إلي لا يفضل أحدهما عن الآخر لأن الكفاف هو
الذي ليس فيه فضل .
يريد : إن شرك زائد على خيرك فأنا أتمنى لو كان غير زائد . انتهى .
وفيه رد على ابن الشجري في زعمه أن كفافاً إنما هو خبر خيرك وخبر شرك محذوف مدلول
وقال في المجلس الثاني وهو المجلس السادس والثلاثون : ومن روى : وشرك رفعه بالعطف
على خيرك فدخل في حيز كان فغير أبي علي يقدر خبر كان المضمر محذوفاً دل عليه خبر
كان المظهر ويقدر المحذوف بلفظ المذكور وهو القياس . ونظير ذلك قوله : ( نحن بما
عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف ) أراد : نحن بما عندنا راضون . انتهى .
وتبعه ابن هشام في المغني .
وتنبه الدماميني من كلام الشارح فقال معترضاً عليه : لا حاجة إلى هذا التقدير فإن
كفافاً يصح كونه خبراً عنهما إذ هو صالح للإخبار عن الاثنين وغيرهما .
وقول الشارح : وعني متعلق بكفافاً لأنه خبر كان فهو متأخر في التقدير إلى جنبه
والمعنى عليه .
____________________
وقوله
: والماء على هذا الوجه منصوب على وجه أن يكون كفافاً خبراً عنهما . أي : ويكون
مرتوي فاعل ارتوى وهو مطاوع أرويته ورويته من الماء فارتوى منه وتروى .
يقال : روي من الماء بكسر الواو إذا شبع منه يروى بفتحها رياً والاسم الري بالكسر
فهو ريان والمرأة ريا كغضبان وغضبى . ويعدى بالهمزة والتضعيف كما تقدم . كذا في
المصباح .
وقال ابن الشجري : ارتوى بمعنى روي جاء افتعل بمعنى فعل كقولهم : رقي وارتقى .
ومثله )
من الصحيح خطف واختطف . انتهى .
ونصب الماء بنزع الخافض . قال ابن الشجري : يقال : ارتويت منه أو به .
وإليه أشار الشارح بقوله : أي : ما ارتوى من الماء مرتو . والمراد من هذا التأبيد
كقوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض الآية . قال ابن الشجري : وأما
نصب الماء فبتقدير حذف الجار أي : ما ارتوى من الماء أو بالماء . وحذف الجار
وإيصال الفعل إلى المجرور به مما كثر استعماله في القرآن والشعر . فمن ذلك قوله
تعالى : واختار موسى قومه سبعين رجلاً أراد من قومه . ومن حذف الباء قوله تعالى :
إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه أي : يخوفكم بأوليائه فلذلك قال : فلا تخافوهم .
وقول الشارح : وقيل شرك مرتو بتقدير مرتوياً إلى آخره . هذا قول أبي علي في تذكرته
فيكون على قوله : كفافاً خبراً لقوله : خيرك فقط على معنى أنه ما بلغ ذلك إلى أن
يكون فيه كفاف كما تقول : ليت نفقتك كفافاً أي : ليتها مقدار الحاجة .
تريد أنها انقص فكذلك هاهنا ويكون العطف على الأول من عطف مفرد على مفرد شاركه في
خبره . وعلى قول أبي علي من عطف الجمل أخبر عن كل مفرد منهما بخبر خاص .
____________________
قال
ابن الشجري : وأما قوله وشرك فمن رفعه فبالعطف على اسم كان ومرتوي في رأي أبي علي
خبره . وكان حق مرتوي أن ينتصب لأنه معطوف على كفافاً كما تقول : كان زيد جالساً
وبكر قائماً تريد : وكان بكر قائماً فكأنه قال : ليتك أو ليت الشأن كان خيرك
كفافاً وكان شرك مرتوياً عني .
وأسكن ياء مرتوي في موضع النصب لإقامة الوزن كقول بشر : كفى بالنأي من أسماء كافي
وكان حقه : كافياً .
وقال في المجلس الثاني : وذهب أبو علي على رواية رفع وشرك إلى أن الخبر مرتوي وكان
حقه مرتوياً ولكنه أسكن الياء لإقامة الوزن والقافية وهو من الضرورات المستحسنة
لأنه رد حالة إلى حالتين .
أعني أن الشاعر حمل حالة النصب على حالة الرفع والجر وحسن الإخبار عن الشر بمرتوي
لأن الارتواء يكف الشارب عن الشرب فجاز لذلك تعليق عني بمرتوي . انتهى . )
وكلهم حمل تسكين مرتوي على الضرورة ولم يذكر أحد منهم أنه وقف على لغة ربيعة فإن
لغتهم الوقف على المنصوب المنون بالسكون .
قال ابن الحاجب : ولا يجوز أن يكون شرك مرتوي مبتدأ وخبراً كقولك : كان زيد قائماً
وعمرو منطلق لفساد المعنى لأنه يكون حينئذ جملة مستقلة منقطعة عن التمني في المعنى
مثلها في قولك : ليت زيداً قائم وعمرو منطلق لأن عمرو
____________________
منطلق
في مثل ذلك مثبت له الانطلاق غير داخل في حيز التمني بخلاف ليت زيداً قائم وعمراً
منطلق .
وإذا ثبت ذلك كان جعلك وشرك مرتوي مرفوعاً على الابتداء يوجب أن يكون مخبراً
بإثبات فيوجب إخباره بأن شره منكف فيفسد المعنى إذ المعنى أن شره زائد وأنه يتمنى
أن لا يكون كذلك فكيف يحمل على وجه يثبت ما مقصود المتكلم نفيه . انتهى .
وقول الشارح : ويكون الماء على هذا الوجه مرفوعاً أي : على وجه جعل مرتوي خبراً
لقوله : وشرك .
وقوله : فاعل ارتوى أي مادام الماء ريان هذا أحد وجهين فيه . قال ابن الشجري :
وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان رفع الماء بتأويلين : أحدهما : تقدير
حذف مضاف أي : ما ارتوى أهل الماء كما جاء : واسأل القرية أي : أهل القرية و حتى
تضع الحرب أوزارها أي : يضع أهل الحرب أسلحتهم . ومن كلامهم : صلى المسجد أي : أهل
المسجد . وقد كثر حذف المضاف جداً .
وثانيهما : ما أجازه بعض المتأخرين وهو أن يكون الماء فاعل ارتوى من غير تقدير
مضاف .
قال : وجاز وصف الماء بالارتواء للمبالغة كما جاز وصفه بالعطش لذلك قال المتنبي :
وجبت هجيراً يترك الماء صاديا
____________________
وقد
تكلف بعض المتأخرين نصب الماء في القول الذي ذهب إليه أبو علي وذلك على إضمار فاعل
ارتوى قياساً على ما حكاه سيبويه من قولهم : إذا كان غداً فأتني أي : إذا كان ما
نحن فيه من الرخاء أو البلاء غداً . فقدر ما ارتوى الناس الماء .
وأنشد على هذا قول الشاعر : ( إذا كان لا يرضيك حتى تردني ** إلى قطري ما إخالك
راضيا ) أراد : إن كان لا يرضيك شأني أو ما أنا عليه فأضمر ذلك للعلم به . وأقول :
إن الإضمار فيما )
حكاه سيبويه حسن لأنه معلوم . وتقدير إضمار الناس في قوله : ما ارتوى الماء بعيد .
انتهى .
ولا يخفى أن هذا القول تعسف من وجهين : أحدهما : حذف الفاعل من غير الصور المعدودة
.
وثانيهما : حذف الباء وحرف الجر لا يحذف إلا سماعاً .
ثم قال ابن الشجري : وغير أبي علي ومن اعتمد على قوله رووا نصب الماء ولم يرووا
فيه وأبو طالب العبدي منهم وذلك أنه ذكر لفظ أبي علي في تعريب البيت ثم قال : وأنا
مطالب بفاعل ارتوى . ثم مثل قوله ما ارتوى الماء مرتوي بقوله : ما شرب أي : أبداً
. فدل كلامه على أنه لم يعرف المعنى الذي ذهب إليه أبو علي من نصب مرتوي على أنه
خبر كان أو رفعه على أنه خبر ليت .
والقول عندي فيه أن الالتزام بالظاهر على ما ذهب إليه العبدي أشبه بمذاهب العرب
فيما يريدون به التأييد كقولهم : لا أفعل كذا ما طار طائر ولا أكلمك ما سمر سامر .
____________________
وقد
مر بي كلام لأبي علي ذهب عني مكانه يتضمن تجويز رفع مرتوي بارتوى . وأما منذ زمان
أجيل فكري وطرفي في تعرف الكلام الذي سنح لي فيه كلامه فلا أقف عليه . انتهى .
وقال أبو حيان : جعل ابن بابشاذ مرتوي منصوباً على المصدر أي : ارتواء ورد عليه
بأن اسم الفاعل فيما زاد على الثلاثة لا يكون مصدراً وإنما يكون ذلك في اسم
المفعول نحو : ضاربته مضارباً . قال : ( أقاتل حتى لا أرى لي مقاتلاً ** وأنجو إذا
لم ينج إلا المكيس ) وكأنه قاسه على الثلاثي نحو : قم قائماً وأ قائماً وقد قعد
الناس . انتهى .
أقول : تجويز هذا إنما يتصور في رفع الماء وجعل المعطوف مشاركاً للمعطوف عليه في
خبره .
قال ابن الشجري : ومن قال : وشرك بالنصب حمله على ليت ولا يجوز أن يكون محمولاً
على ليت المذكورة لأن ضمير الشأن لا يصح العطف عليه لو كان ملفوظاً به فكيف وهو
محذوف .
وإذا امتنع حمله على ليت المذكورة حملته على أخرى مقدرة . وحسن ذلك لدلالة
المذكورة عليها كما حسن حذف كل فيما أورد سيبويه من قول الشاعر :
____________________
(
أكل امرئ تحسبين امرأً ** ونار توقد بالليل نارا ) أراد : وكل نار فكأنه قال :
وليت شرك مرتو عني . )
وقال ابن هشام : يروى بنصب شرك إما على أنه اسم لليت محذوفة وإما على العطف على
اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب . انتهى .
وقد غفل صاحب اللباب فيما علقه عليه عن عدم جواز العطف على ضمير الشأن فقال : شرك
بالنصب عطف على اسم ليت ضمير الشأن .
ثم قال ابن الشجري : فمرتوي في هذا التقدير على ما يستحقه من إسكان يائه لكونه
خبراً لليت . وعلى مذهب أبي علي في كون مرتوي خبراً لكان أو لليت يجوز في الماء
الرفع والنصب وتقدما .
وأبو طالب العبدي لم يعرف إلا نصب الماء ولم يتجه له إلا إسناد ارتوى إلى مرتوي
وذلك انه ثم قال : وأما ما ذكره الشيخ أبو علي من قوله : وإن حملت العطف على كان
كان مرتوي في موضع نصب . وإن حملته على ليت نصبت قوله : وشرك ومرتو مرفوع فكلام لم
يفسره رحمه الله .
ثم قال : ومر بي بعد هذا في تعليقي كلام الشيخ أبي علي أنا حاكيه على الوجه وهو
أنه أورد البيت ثم قال بعد إيراده : ليت محمول على إضمار الحديث وكفافاً خبر كان .
فأما قوله : وشرك عني ما ارتوى الماء مرتوي فقياس من أعمل الثاني أن يكون شرك
مرتفعاً بالعطف على كان ومرتوي في موضع نصب إلا أنه أسكن في الشعر مثل :
____________________
كفى
بالنأي من أسماء كافي ومن أعمل الأول نصب شرك بالعطف على ليت ومرتوي في موضع رفع
لأنه الخبر وما ارتوى الماء في موضع نصب ظرف يعمل فيه مرتوي . هذا ما ذكره أبو علي
.
ثم قال العبدي : وقد تقدمت مطالبتي بفاعل ارتوى وإذا ثبت ما ذكرته علم أن الأمر ما
قلته والمعنى عليه لا محالة . انتهى .
فملخص ما تقدم : أنه يجوز أن يكون كفافاً اسم ليت مع نصب خيرك وشرك عني عند عبد
القاهر ومع رفعهما بتقدير خبر كان ضميراً عند أبي حيان .
ويجوز أن يكون اسم ليت ضمير شأن أو مخاطب واسم كان خيرك وشرك وكفافاً خبر كان
عنهما أو عن أولهما وخبر الثاني محذوف وعني متعلقه وجملة : كان خيرك وشرك كفافاً
عني : خبر ليت عند الجمهور ومرتوي فاعل ارتوى والماء مفعوله عند الجميع . )
وعند أبي علي جملة : كان خيرك كفافاً خبر ليت وشرك عني مرتوياً معطوفان على خيرك
كفافاً . وإن نصب شرك بتقدير ليت فجملة : وشرك عني مرتوي معطوفة على جملة ليت
المتقدمة . وعني في الوجهين عنده متعلقة بمرتوي . وكذلك الماء في الوجهين عنده
يجوز رفعه ونصبه .
هذا تحرير الأقوال في البيت وتمييز ما لكل قول عن الآخر .
وقد لخص ابن هشام في المغني كلام ابن الشجري في غير وجهه فإنه لم يبين ما ينبني
على كل قول من الأقوال . قال : في البيت إشكال من أوجه : أحدها : عدم ارتباط خبر
ليت باسمها إذ الظاهر أن كفافاً اسم ليت وأن كان تامة وأنها وفاعلها الخبر ولا
ضمير في هذه الجملة .
والثاني : تعليق عني بمرتو .
الثالث : إيقاع الماء فاعلاً بارتوى وإنما يقال ارتوى الشارب .
____________________
والجواب
عن الأول أن كفافاً إنما هو خبر لكان مقدم عليها وهو بمعنى كاف واسم ليت ضمير
الشأن أو المخاطب وخيرك اسم كان وكله توكيد له والجملة خبر ليت .
وأما شرك فيروى بالرفع عطفاً على خيرك فخبره إما محذوف تقديره كفافاً فمرتوي فاعل
بارتوى وإما مرتوي على أنه سكن للضرورة . ويروى بالنصب إما على أنه اسم لليت
محذوفة وإما على العطف على اسم ليت المذكورة إن قدر ضمير المخاطب ومرتو على
الوجهين مرفوع خبر لليت المحذوفة أو المذكورة .
وعن الثاني : أنه ضمن مرتو معنى كاف لأن المرتوي يكف عن الشرب .
وعن الثالث : أنه إما على حذف مضاف أي : شارب الماء وإما على جعل الماء مرتوياً
مجازاً .
ويروى بالنصب على تقدير من ففاعل ارتوى على هذا مرتو . هذا تلخيصه .
ولا يخفى أن تضمين مرتو معنى كاف ورفع الماء يختصان بقول أبي علي . ونصب الماء مع
جعل مرتو فاعلاً إنما هو على غير قوله كما ذكرنا .
والبيت من قصيدة ليزيد بن الحكم وتقدمت مع ترجمته في الشاهد الثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده )
____________________
فلو
أن واش باليمامة داره على أنه حذف النصب من واش لضرورة الشعر وكان القياس أن يقول
: فلو أن واشياً لأن إعراب نحو القاضي يقدر في الرفع والجر لثقل الضمة والكسرة على
الياء وتلفظ به في النصب لخفة الفتحة . وإسكان الياء ضرورة .
قيل إنه من أحسن الضرورات وقد حذفت هنا لالتقائها ساكنة مع سكون نون التنوين .
وروي فلو كان واش فهو على القياس .
والمصراع من قصيدة لمجنون بني عامر وهذه أبيات منها : ( خليلي لا والله لا أملك
الذي ** قضى الله في ليلى ولا ما قضى ليا ) ( قضاها لغيري وابتلاني بحبها ** فهلا
بشيء غير ليلى ابتلائيا ) ( فلو كان واش باليمامة داره ** وداري بأعلى حضرموت
اهتدى ليا ) ( وماذا لهم لا أحسن الله حفظهم ** من الحظ في تصريم ليلى حباليا )
وهذه أشهر قصائده وهي طويلة جداً .
وقوله : قضاها لغيري البيت روى صاحب الأغاني بسنده أن المجنون لما قاله نودي في الليل
: أأنت المتسخط لقضاء الله وقدره والمعترض في أحكامه واختلس عقله وتوحش منذ تلك
والواشي : الذي يزوق الكلام ليفسد بين شخصين وأصله من وشى الثوب يشيه وشياً إذا
نقشه وحسنه .
واليمامة : اسم بلد وكان اسمها في الجاهلية الجو بفتح الجيم وتشديد الواو .
واليمامة : اسم جارية زرقاء كانت تبصر الراكب من مسيرة ثلاثة أيام سمي البلد
باسمها لكثرة ما كان يضاف إليها فيقال : جو اليمامة . وحضرموت بفتح
____________________
الميم
وضمها مدينة باليمن . وقوله : اهتدى ليا اللام بمعنى إلى .
وروي بدله : وداري بأعلى حضرموت أتى ليا بتنوين حضرموت للضرورة .
وقوله : وماذا لهم استفهام والضمير للوشاة وجملة : لا أحسن الله حفظهم : دعاء
عليهم . ومن )
الحظ متعلق بما تعلق به لهم . وتصريم : تقطيع وهو مصدر مضاف إلى فاعله وهو ليلى :
اسم عشيقته . وحاليا مفعوله : جمع حبل وهو مستعار للوصلة والألفة بين شخصين .
وترجمة مجنون بني عامر تقدمت في الشاهد التسعين بعد المائتين .
____________________
بسم
الله الرحمن الرحيم ( الحروف العاطفة ) وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد
الثمانمائة ) الكامل أو جونةٍ قدحت وفض ختامها على أن الواو لا تدل على ترتيب بل تدخل
على متقدم على ما قبله كما هنا فإن فض الختام قبل القدح .
وهذا المصراع عجز وصدره : أغلي السباء بكل أدكن عاتقٍ يقال : أغليت الشيء :
اشتريته غالياً . والسباء بكسر السين المهملة بعدها موحدة : اشتراء الخمر ولا يقال
في غيرها . يقال : سبأت الخمر بالهمز أسبؤها سباء بفتح عين الماضي والمضارع فيكون
في الأول تجريد أي : أدفع الثمن الغالي في اشتراء الخمر . والباء في بكل : ظرفية
متعلقة بحال محذوفة إذا المراد : أغلي سباء
____________________
الخمر
كائنه في أدكن بالدال المهملة وهو الزق .
قال الجوهري : الدكنة : لون يضرب إلى السواد . وقد دكن الثوب من باب فرح والشيء
أدكن .
وأنشد البيت وقال : يعني زقاً قد صلح وجاد في لونه ورائحته لعتقه .
والزق كما قال صاحب المصباح : هو بالكسر : الظرف وبعضهم يقول : ظرف زفت أو قير .
وعاتق بمعنى عتيق صفة أدكن .
قال الدينوري : في كتاب النبات عند إنشاده هذا البيت : ذهب بعضهم إلى أن العاتق
الخمر التي لم تفض في بعد . ذهب إلى معنى الجارية العاتق وهي البكر وليس كذلك بل
هو من عتق القدم يقال في كل ما تقادم : عتق يعتق ويعتق أي من باب ضرب ونصر فهو
عاتق .
والأدكن : الزق . وقد أخطأ العيني هنا في قوله : وإنما منع أدكن الجر لامتناعه من
الصرف )
للعلمية ووزن الفعل .
وقوله أو جونة بالجر عطف على أدكن وهي بفتح الجيم . قال أبو حنيفة : هي الخابية
والباطية المقيرة .
وكذا قال الجوهري : الجونة : الخابية مطلية بالقار . وقدحت بالبناء للمفعول الجملة
صفة لجونة .
وقدحت : غرفت . والمقدحة : المغرفة .
قال أبو حنيفة : إذا استخمرت الخمر فضوا عنها ختامها ثم استخرجوها من أعلى الوعاء
اغترافاً وهو القدح وقد قدحت فهي مقدوحة . انتهى .
وقيل : معنى قدحت مزجت وقيل معناه بزلت يقال : بزلت الشيء بزلاً إذا ثقبته
واستخرجت ما فيه والمبزل : المثقب . وفض بضم الفاء أي : كسر . وختامها : طينها .
والضمير للجونة .
قال أبو حنيفة : الفتق والفك والفض شيء واحد . وقد فتق دنه وفضه فاقتدح ما فيه .
في المصباح : فضضت الختم فضاً من باب قتل : كسرته . وفضضت البكارة : أزلتها على
التشبيه بالختم .
____________________
قال
الفرزدق : الوافر ( فبتن بجانبي مصرعاتٍ ** وبت أفض أغلاق الختام ) مأخوذ من فضضت
اللؤلؤة إذا خرقتها وفي الصحاح : الختام : الطين الذي يختم به وقوله تعالى : ختامه
مسكٌ أي : آخره لأن آخر ما يجدونه رائحة المسك .
والبيت من معلقة لبيد الصحابي قال شارحها أبو الحسين الزوزني : يقول أشتري الخمر
غالية السعر باشتراء كل زقً أدكن أو خابية سوداء قد فض ختامها وأغترف منها .
وتحرير المعنى : اشتراء الخمر للندماء عند غلاء السعر واشتراء كل زقً مقير أو
خابية مقيرة . وإنما قيرا لئلا يرشحا بما فيهما وليسرع صلاحه وانتهاؤه وهو إدراكه
.
وقوله : قدحت وفض ختامها فيه تقديم وتأخير تقديره : فض ختامها وقدحت لأنه ما لم
يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها من الخمر انتهى .
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده : السريع
____________________
) (
يا لهف زيابة للحارث الصا ** بح فالغانم فالآيب ) وتقدم شرحه في الشاهد الحادي
والخمسين بعد الثلثمائة في أول باب العطف .
وأنشده بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الثمانمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
( فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ** لما نسجتها من جنوبٍ وشمأل ) على أن الفاء
الداخلة على الأماكن بمعنى إلى أي : منازل بين الدخول إلى حومل إلى توضح إلى
المقراة .
____________________
وهذا
أحد جوابين أجاب بهما الشارح عن إشكاله وهو أن الفاء تقتضي التفريق وهو منافٍ لما
تفهمه بين من الاجتماع لأن البينية نسبة وأقل ما تستدعيه منتسبان . وأنت إذا قلت :
المال بين زيد وعمرو فقد أفدت احتواءهما واجتماعهما على ملكه .
ولهذا الإشكال أنكر الأصمعي ومن تبعه رواية الفاء وقال : إنما الرواية : وحومل
وتوضح والمقراة .
قال العسكري في كتالب التصحيف : تكلم الناس في قوله : بين الدخول فحومل قال أبو
إسحاق الزيادي : الرواية : بين الدخول فحومل ولا يكون فحومل . لأنك لا تقول :
رأيتك بين زيد فعمرو .
وهذا سمعه الزيادي من الأصمعي فسألت ابن دريد عن الرواية فحكى ما قال الأصمعي ولم
يزد عليه فسألت أبا بكر محمد بن علي بن إسماعيل فقلت : قال الأصمعي : لا يجوز أن
تقول : رأيته بين زيد فعمرو .
وكان ينكر بين الدخول فحومل . فأملي علي الجواب فقال : إن لكل حرف من حروف العطف
معنى فالواو تجمع بين الشيئين نحو : قام زبد وعمرو فجائز أن يكونا كلاهما قاما في
حالة واحدة وأن يكون قام الأول بعد الثاني وبالعكس . والفاء إنما هي دالة على أن
الثاني بعد الأول ولا مهلة بينهما .
فقال الأصمعي وكان ضعيفاً في النحو غير أنه كان ذا فطنة : أطبقت الرواة على بين
الدخول وحومل ولا يجوز فحومل لأنه ليس يقصد أن يكون بياناً لشيئين أحدهما بعد
الآخر ثم يكون الشيء بينهما إنما يريد أنهما لا يجتمعان وهو بينهما كما تقول : زيد
بين الكوفة )
والبصرة ولا تقول : فالبصرة فقد أجاد فطنة . انتهى .
____________________
وقد
أجاب الشارح على تقدير صحة رواية الفاء بجوابين : أحدهما : أنها بمعنى إلى لدخولها
في الأماكن فلا تدل على الترتيب المقتضي للتفريق . وهذا الجواب مركب من قولين لأن
الذي يقول : إن الفاء بمعنى إلى لا يشترط في مدخولها أن يكون مكاناً . ومن ذكر
دخولها على المكان لا يقول إنها بمعنى إلى وإنما هي عنده بمعنى الواو لمطلق الجمع
ولا تفيد ترتيباً والأول قول بعض البغداديين .
قال العسكري : قال بعض البغداديين : أراد قفا نبك ما بين الدخول إلى حومل إلى توضح
إلى المقراة . فالفاء في موضع إلى فأضمر ما مع بين كقولك : هو أحسن الناس قرناً
فقدماً ولم يضمر ونقله ابن هشام أيضاً في المغني فقال : وقال بعض البغداديين :
الأصل ما بين الدخول فحذف ما دون بين كما عكس من قال : البسيط يا أحسن الناس ما
قرناً إلى قدمٍ أصله ما بين قرن فحذف بيناً وأقام قرناً مقامها ومثله : إن الله لا
يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةً فما فوقها قال : والفاء نائبة عن إلى ويحتاج على
هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة بين إلى الدخول لا شتماله على مواضع أو لأن
التقدير بين مواضع الدخول انتهى .
والثاني : هو قول الجرمي قال أبو حيان في الارتشاف وابن هاشم في المغني : وقال
الجرمي : لا تفيد الفاء الترتيب في البقاع ولا في الأمطار بدليل
____________________
قوله
: بين الدخول فحومل وقولهم : مطرنا مكان كذا فمكان كذا وإن كان وقوع المطر فيهما
في وقت واحد . انتهى .
وهذا أقرب من القولين الآخرين وأسهل . والقول الثاني يحتاج إلى معونة وقد بينها
ابن هشام بقوله : ويحتاج على هذا القول إلى أن يقال : وصحت إضافة بين إلى الدخول
لاشتماله على المواضع . . . . إلخ .
وذلك لأن الدخول مفرد والفاء غاية وبين موضع للتوسط إنما بين اثنين منفصلين نحو :
المال بين زيد وعمرو وإما بين اثنين مجتمعين في لفظة نحو : المال بين الرجلين وإما
بين جماعة مفرقة نحو : المال بين زيد وعمرو وبكر وإما بين جماعة مجتمعة في لفظه
نحو : المال بين الرجال أو بين القوم فلا تضاف إلى مفرد لفظاً ومعنىً إلا أن أول
بما يدل على التعدد . وفيه أيضاً تكلف وهو ادعاء حذف ما . )
وهذا لا يجوز عند البصريين سواء كانت ما موصولة إذ لا يحذف الموصول وتبقى صلته أم
موصوفة إذ شرط حذف الموصوف بالجملة أو بالظرف أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في .
وإنما احتاج إلى تقديرها لأن نبك فعل متعد بنفسه يطلب مفعولاً يقال : بكيته ويتعدى
بالحرف أيضاً يقال : بكيت عليه وله . وأما بكيته بالتشديد فمعناه : جعلته باكياً
كأبكيته بالهمزة .
وتقدير الشارح : أي منازل بين الدخول خير منه أشار به إلى أن بين مفعول لنبك
بتقدير مضاف أي : قفا نبك منازل بين الدخول .
وفي القولين إشارة إلى أن بين ليس حالاً من سقط اللوى ولا صفة له .
قال ابن الملا تبعاً للعيني : بسقط اللوى : صفة منزل وبين الدخول صفة سقط اللوى أي
: من منزل كائن بسقط اللوى الكائن بين الدخول .
وإنما قدرنا متعلق الصفة الثانية اسماً معرفاً وإن كان المشهور تقديره فعلاً أو
اسماً منكراً رعاية لجانب المعنى . ولا يحسن جعل الظرف حالاً إذ ليس القصد إلا
التقييد .
____________________
ولنا
عنهما غنية بجعله صفة ثانية لمنزل أو بدلاً من سقط اللوى مع أن في قوله مخالفة
لقولهم : الجمل والظروف بعد المعارف أحوال وبعد النكرات صفات .
ولا يخفي أنه لا حاجة إلى ادّعاء حذف ما أو حذف مضاف لأن المبكيّ من أجله مذكور
وهو قوله : من ذكرى حبيب ومنزل ومن فيه بمعنى اللام تعليلية والمبكيّ من أجله
والمبكيّ عليه مآلهما واحد .
والأولى حمل تقدير الشارح هذا المضاف عليه بجعله ظرفاً لنبك أو بدلاً من منزل
فيقرأ بالجر فيكون أشار به إلى أن المبكيّ من أجله منازل لا منزل واحد لأن المواضع
أربعة وأقلّ منازلها مثلها .
والقول الثالث وهو قول الشارح المركّب منهما محتاج إلى المعونة التي ذكرناها إذ لا
يصحّ إلاّ بتقدير بين أماكن الدخول إلى حومل .
وقد أشار إليها ابن جني في سر الصناعة قال : إذا قلت : مطرنا بين زبالة فالثّعلبية
أردت أن المطر انتظم الأماكن التي ما بين القريتين يقروها شيئاً فشيئاً بلا فرجة
فإذا قلت : مطرنا ما بين زبالة فالثّعلبية أردت أن المطر وقع بينهما ولم ترد أنه
اتصل في هذه الأماكن من أولها إلى آخرها انتهى . )
وفي صنيع الشارح أمور : أحدها : قوله : وقد تجيء الفاء العاطفة للمفرد بمعنى إلى
أراد أنها كانت عاطفة قبل مجيئها بمعنى إلى وأما بعده فهي متمحّضة للغاية كما هو
ظاهر من
____________________
كلامه
على البيت . ولا ينافيه قوله : حذفه أي : حذف الواو مع فاء العطف . . . إلخ لأن
المراد فاء العطف صورة لا حقيقة وفيه أنه لا ضرورة إلى تقدير واو العطف معها فإنها
عاطفة .
ولا يمنع من عطفها كونها بمعنى إلى فإن أو العاطفة تأتي بمعنى إلى وبمعنى إلا ولم
يقل أحد إنها مجردة من العطف فيهما والعطف بها واقع قطعاً كما في المثال والشعر
وهي نائبة عن إلى لا أنها بمعناها .
ثانيها : قوله : على ما حكى الزجاجي : مطرنا ما بين زبالة فالثعلبيّة هذه الحكاية
والتوجيه إنما هما للكسائي والفراء قال في تفسير الآية : وأما الوجه الثالث وهو
أحبّها إليّ فأن تجعل المعنى على : إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً ما بين بعوضة
إلى ما فوقها .
والعرب إذا ألقت بين من كلام تصلح إلى في آخره نصبوا الحرفين المخفوضين اللذين خفض
أحدهما ببين والآخر بإلى فيقولون : مطرنا ما زبالة فالثّعلبية وله عشرون ما ناقة
فجملاً وهي ويجوز أن تجعل القرن والقدم معرفة فتقول : هي حسنة ما قرنها فقدمها .
فإذا لم تصلح إلى في آخر الكلام لم يجز سقوط بين من ذلك أن تقول : داري ما بين
الكوفة فالمدينة فلا يجوز أن تقول : داري ما بين الكوفة والمدينة لأن إلى إنما
تصلح إذا كان ما بين المدينة والكوفة كله من دارك كما كان المطر آخذاً ما بين
زبالة إلى الثعلبية .
قال الكسائي : سمعت أعرابياً يقول ورأى الهلال : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك
يريد : ما بين إهلالك إلى سرارك . فجعلوا النصب الذي في بين فيما بعدها إذا سقطت
ليعلم أن معنى بين يراد .
وحكى الكسائي عن بعض العرب : الشّنق ما خمساً إلى خمس وعشرين . والشّنق ما لم تجب
فيه الفريضة من الإبل .
____________________
ولا
تصلح الفاء مكان الواو فيما لم تصلح فيه إلى كقولك : دار فلان بين الحيرة والكوفة
محال وجلست بين عبد الله فزيد محال إلاّ أن يكون مقعدك آخذاً للفضاء الذي بينهما
وإنما امتنعت )
الفاء من الذي لا تصلح فيه إلى لأن الفعل فيه لا يأتي فيتّصل وإلى يحتاج إلى اسمين
يكون الفعل بينهما كطرفة عين .
وصلحت الفاء في إلى لأنك تقول : أخذ المطر أوله فكذا وكذا إلى آخره . فلما كان
الفعل كثيراً وفيه فوائد : منها قوله : هي حسنة ما قرنها فقدمها . وبه يردّ على
الدماميني في قوله : على ما قرناً إلى قدم : كون أصله : ما بين قرنٍ دعوى لا دليل
عليها . ويجوز أن تكون ما زائدة وقرناً تمييز أو منصوب على نزع الخافض . انتهى .
ويأتي في كلام أبي حيان حقيقة ما . والقرن بفتح القاف وسكون الراء : الخصلة من
الشعر بضم الخاء المعجمة .
ومنها ضابط سقوط بين وهو غير موجود في الشرح .
ثالثها : قوله : ولا يجوز حذف ما لكونه موصولاً فإنه لم يشبع الكلام على ما
الواقعة مع بين فإنه يجوز حذفها في غير هذين المثالين ولم يشرح وجه موصوليتها
فيهما .
وقد تكفّل ببيان ذلك جميعه أبو حيان في تذكرته قال : إذا أتيت ببين
____________________
صلة
ل ما فقيل أعجبني ما بينكما فسقوط ما جائز وتقضي على بين بالرفع ولفظها منصوب .
ولك أن ترفع بين الفعل وتعطي حقّ الأسماء فتضمر ما ولا تضمر الذي فإنها تكون وقتاً
ومحلاً فالأول كقولهم : لا أكلّمك ما دام للزّيت عاصر فما موضوعة في موضع أبداً
وانتصابها فيه كانتصاب لا أكلّمك القارظ العنزيّ .
والثاني كقولهم : جلس ما بين الدارين واستوى ما بين المنزلتين وأقام ما بين
المسجدين فلما أتت ما محلاًّ أي : ظرفاً ووقتاً ضارعت المحلّ الذي بعدها فكفى منها
. واختصت بين بالنيابة عن ما لأنّ ما تكون شرطاً وبين يشرط بها في قولهم : بينما
أنصفني ظلمني وبينما اتصل بي قطعني .
وأما الذي فلا يعرف له ذلك ولا يستعمل فيه . ول ما معنىً ثانٍ هو الجزاء في أصل
البنية وإقرارها على لفظ الذي وذلك قول العرب : مطرنًا ما زبالة فالثّعلبية فزرود
.
حكاه الكسائي عن العرب ومعناه : مطرنا ما بين زبالة إلى الثعلبية فنابت زبالة عن
بين وجعل نصب بين فيها ونسقت الثعلبية فزرود عليها ونصبت ما بمطرنا على أن لفظها
الذي ولزمت الفاء مكان إلى ولم يصلح مكانها واو ولا ثم ولا أو ولا لا لأنها تحفظ
تأويل الجزاء )
وتجري في هذا الكلام مجراها في : إن زرتني فأنت محسن ولا يجوز : و أنت لأنه لا
يوصل الشرط إلا بالفاء
____________________
إذ
كانت تفعل ذلك في ضربته فبكي .
وأصل الكلام : إن اتّصل المطر إلى زبالة فالثعلبية فهو مطرنا فذلك الذي ينبغي .
فتحوّلت ما إلى لفظ الذي وأصلها الشرط ولزمت الفاء مراقبة لذلك الأصل ونابت عن إلى
ولولا الشرط الذي بنيت المسألة عليه لم يعطف واحد بالفاء على مخفوض بين إذ لا يقال
فيما تعرّى من معنى الشرط : المال بين أبيك فأخيك .
وحكى الكسائي والفراء بن العرب : هي أحسن الناس ما قرناً فقدماً معناه : ما بين
قرن إلى قدم فلزمت الفاء لأنّ ما شرط في الأصل ومحسّنة ذلك حسن إلى في موضع الفاء
وانتصب ما في هذه المسألة على التفسير وانتصب القرن بنصب بين المسقط وعطفت القدم
على القرن .
ثم نقل كلام الفراء وقال : وما في ذا المعنى لا تسقط فخطأ أن يقال : مطرنا زبالة
فالثّعلبية لأن ما وبين اسم واحد يدخل طرفاه فيه وما هي الحدّ بين الشيئين دليل
هذا : أن الذي يقول : له عليّ ما بين الألف إلى الألفين يدل ب ما على استيفاء ما
بين الألف والألفين .
ولو قال : جلست ما بين الدارين لم يكن جامعاً لكل ما بينهما فأتت الفاء لمذهب
الشرط وإن لم يذكر حرف الشرط كما لزمت الفاء مع أما فقيل : أمّا عبد الله فقائم
لأن المعنى : مهما يكن من شيء فعبد الله قائم .
والفرق بين جلست ما بين عبد الله فزيد وجلست بين عبد الله فزيد : أن ما إذا حضرت
كان الذي بين الطرفين مجلوساً في جميعه وإذا لم تكن ما احتمل الكلام جلوساً في بعض
الذي بين المكانين .
فإذا قيل : عبد الله ما بين أخيك وأبيك فما منتصبة على انتصاب المحلّ وأصلها الشرط
وما فإن قيل : عبد الله بين أخيك فأبيك فموضع عبد الله بعض ما بين الموضعين
____________________
ويجوز
استغراق المكان كلّه .
ولم يذكر الفراء : زيد ما أخاك وأباك . قال أبو بكر : هو عندي خطأ لأن ما موضوعة
للعموم وبين لا تحذف إلاّ بعدها اعتماداً عليها مع خلافة الذي يليها لها .
وبين من أسماء المواضع التي ليست ناساً فلا يخلف بين بعدها إلاّ ما لا يكون من
أسماء )
الأناسيّ مثل القرن والقدم والإهلال والسّرار والناقة والجمل وما يجري مجرى ذلك .
ومن قال : داري ما الكوفة فالحيرة وهو يذهب إلى ما بين الكوفة إلى الحيرة لم يصب
لأنّ هذا الكلام لا يستقيم إلاّ بأن تكون الدار مالئة كلّ الموضع الذي بين الكوفة
والحيرة وما شوهدت دار كذا .
فإن لم تذكر ما لم يبطل أن يقال : داري بين الكوفة فالحيرة على أن الدار آخذة بعض
ما بين الكوفة والحيرة ولو قال : له عليّ ما الألف والألفين يريد ما بين الألف إلى
الألفين كان الكلام مستقيماً لوقوع ما وبين على جميع ما بين الطرفين ودخول الطرفين
فيهما أعني في ما وبين .
هذا ما لخّصناه من تذكرة أبي حيان وفيها فوائد تتعلق ببين دون ما تركناها لعدم
تعلّق غرضنا بها .
وقول الشارح : ومثل قوله قفا نبك . . . إلخ مثل : مبتدأ مضاف وقوله : الفاء فيه
بمعنى إلى هذه الجملة خبر المبتدأ ويروى في بعض النسخ : ومثله قوله بالضمير على أنه
مبتدأ وخبر وهذه رواية فاسدة .
وقوله : البيتان مبتدأ محذوف الخبر أي مقروءان والمعهود في مثله البيتين بالنصب
بتقدير : اقرا والجملة فيهما اعتراض . وإنما لم يكتبهما لشهرتهما .
وهذا هو الجواب الأول .
وأما الجواب الثاني فهو قوله : ويجوز أن يكون المعنى : قفا نبك بين منازل الدخول
يريد أنّ المتعدد الذي تضاف إليه بين محذوف دلّ عليه ما قبله وقدّر في المواضع
الأربع لأن المعطوف شرطه غالباً أن يحلّ موضع المعطوف عليه .
____________________
وقدّره
بعضهم بين مواضع الدخول فتكون بين مضافة إلى متعدد محذوف . وأجاب بعضهم بأنّ كلاً
من الدخول وحومل وتوضح والمقراة موضع وسيع يشتمل على منازل ومواضع فأضيف بين إليها
لاشتماله على متعدد تقديراً فلا حذف وعليهما تكون الفاء عاطفة وتفيد ترتيب البكاء
بين منازل هذه المواضع .
ولم يقدّر الشارح هنا مفعولاً لنبك فيحتمل أنه جعل المفعول بين ويحتمل أنّ نبك
لازم أي : نحدث البكاء بين منازل هذه المواضع فتكون بين ظرفاً للبكاء . وهذا أولى
لأنّ المبكيّ من أجله تقدّم . )
وهذا الجواب هو الجيّد والجواب الأول غير جيد كما بيّنّاه .
وقول الشارح المحقق : وكذا في غير هذا الموضع أشار به إلى ما تقدم من قولهم :
مطرنا ما بين زبالة فالثعلبية فإن التقدير ما بين أماكن زبالة فأماكن الثعلبية .
ومن قولهم : هي أحسن الناس ما بين قرن إلى قدم فإنّك تقدّر ما بين أجزاء قرن وما
بين قرن فقدم أي : ما بين أجزاء قرن فأجزاء قدم وما قرناً فقدماً : ما بين أجزاء
قرن فأجزاء قدم .
وكذا تقدّر في قوله تعالى : مثلاً ما بعوضة فما فوقها على قول الفراء : ما بين
أمثال بعوضة فأمثال فوقها . وكذا يقدّر في قولهم : الحمد لله ما إهلالك إلى سرارك
: ما بين أوقات إهلالك .
وسكت ابن هشام عن الآية وعن قولهم : ما قرناً إلى قدم لوضوح التقدير .
وقال الدماميني : لم يتعرض إلى الاعتذار عن بعوضة وقرن على هذا القول فتأمّله .
وقد تأمّله بعضهم فقال : وغاية ما يظهر أن تكون إلى التي الفاء بمعناها للمعيّة
على ما يقول الكوفيون ومعنى : ما بين قرن مع قدم وما بين بعوضة مع ما فوقها : ما
بينهما .
____________________
وأما
إن بقيت إلى على معناها فلا يظهر لصحة إضافة بين إلى قرن وبعوضة وجه إذ لايمكن هذا
كلامه وهو غنيّ عن الردّ لظهور خلله .
هذا وقد أورد سيبويه المصراع الأول في باب وجوه القوافي في الإنشاد من أواخر كتابه
قال : أما إذا ترنّموا فإنهم يلحقون الألف والياء والواو ما ينوّن وما لا ينوّن
لأنهم أرادوا مدّ الصوت وذلك كقول امرىء القيس : قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلي
البيت إلى آخر ما ذكره .
قال الأعلم : الشاهد فيه وصل اللام في حال الكسر بالياء للترنّم وهو مد الصوت .
وقوله : قفا نبك فيه أربعة أقوال : أحدها : لأكثر أهل اللغة أنه خطاب لرفيق واحد
قالوا : لأن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين قال الله تعالى مخاطباً لمالك :
ألقيا في جهنّم وقال الشاعر : الطريل ( فإن تزجراني يا ابن عفان أنزجر ** وإن
تدعاني أحم عرضاً ممنّعا ) وقال آخر : الوافر (
____________________
وقلت
لصاحبي لاتحبسانا ** بنزع أصوله واجدزّ شيحا ) )
وحكي عن الحجاج أنه قال : يا حرسي اضربا عنقه . ولعلة فيه أن أقل أعوان الرجل في
إبله وماله اثنان وأقل الرفقة ثلاثة فجرى كلام الرجل على ما قد ألف من خطابه
لصاحبيه . قالوا : والدليل على أن امرأ القيس خاطب واحداً قوله في هذه القصيدة :
الطويل أصاح ترى برقاً أريك وميضه البيت وقال ابن النحاس : هذا شيء ينكره حذاق
البصريين لأنه إذا خوطب الواحد مخاطبة الاثنين وقع الإشكال . وفيه نظر فإن القرينة
تدفع اللبس .
ثانيها : للمبرد قال : التثنية لتأكيد الفعل والأصل : قف قف بالتكرير للتأكيد فلما
كان الفعل لا يثني ثني ضميره . وكذا ألقيا واضربا وتزجراني وتدعاني وتحبسانا .
ثالثها : للزجاج أنه مثنى حقيقة خطاباً لصاحبيه . وكذا ألقيا خطاب للملكين . ويرد
عليه ما عداهما فإنه لا يتصور فيه ما زعمه .
رابعها : أن أصله قفن بنون التوكيد الخفيفة فأبدل النون ألفاً إجراء للوصل مجرى
الوقف . ونبك مجزوم في جواب الشرط . وبه استشهد المرادي في شرح الألفية .
والسقط مثلث الأول : ما تساقط من الرمل . واللوى كإلى : ما
____________________
النوى
من الرمل . وسقط اللوى : حيث يسترق الرمل فيخرج منه إلى الجدد . وإنما وصف المنزل
به لأنهم كانوا لا ينزلون إلا في صلابة من الأرض لتكون أثبت لأوتاد الأبنية
والخيام وأمكن لحفر النؤي وإنما يكون ذلك حيث قال التبريزي في شرح المعلقات :
الباء من بسقط يجوز أن تتعلق بقفا وبنبك وبمنزل . وقال الزوزني : هي صفة لمنزل أو
لحبيب أو متعلق بنبك . فتأملها مع ما سبق .
والدخول بفتح الدال وضم الخاء المعجمة قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : هو
موضع اختلف في تحديده فقال محمد بن حبيب : الدخول وحومل في بلاد أبي بكر بن كلاب
وأنشد لكثير : الكامل ( أمن ال قتلة بالدخول رسوم ** وبحوملٍ طللٌ يلوح قديم )
وقال أبو الحسن : الدخول وحومل : بلدان بالشام . وأنشد : قفا نبك البيتين . وقال
أبو الفرج : هذه كلها مواضع ما بين أمرة إلى أسود العين إلا أن أبا عبيدة يقول :
إن المقراة ليس موضعاً وإنما يريد الحوض الذي يجتمع فيه الماء .
وقال في أمرة : بفتح الهمزة والميم والراء المهملة : هي بلد كريم سهل في حمى ضرية
من ناحية )
البصرة وبينه وبين الستار الذي هو جبل من حمى ضرية خمسة أميال . وأسود العين : جبل
على طريق الحاج البصري للمصعد بينه وبين حمى ضرية سبعة وعشرون ميلاً فيكون ما بين
أمرة وأسود اثنين وعشرين ميلاً .
وقال في حومل : هو اسم رملةٍ تركب القف وهي بأطراف الشقيق وناحية الحزن لبني يربوع
وقال في توضح : بضم أوله وكسر الضاد المعجمة بعدها حاء مهملة : موضع ما بين رمل
السبخة وأود . وقال الحربي : توضح من حمى ضرية .
____________________
وقال
في أود : هو بضم الهمزة وبالدال المهملة : موضع ببلاد مازن . وقال ابن حبيب : أود
لبني يربوع بالحزن . وقيل : أود والمقراة : حدا اليمامة . وفي شعر جرير أود لبني
يربوع .
وضبط المقراة هي بكسر الميم وإسكان القاف .
وقال التبريزي : هذه المواضع التي ذكرها ما بين أمرة إلى أسود العين وهو جبل وهي منازل
بني كلاب . والمقراة في غير هذا الموضع : الغدير الذي يجتمع فيه الماء من قولهم :
قريت الماء في الحوض إذا جمعته .
وزبالة بضم الزاي المجمعة بعدها باء موحدة قال البكري : بلد ويدلك أنها قريب من
زرود قول الشماخ يصف ناقته : الطويل ( وراحت رواحاً من زرود فنازعت ** زبالة
جلباباً من الليل أخضرا ) قال محمد بن سهل : زبالة من أعمال المدينه سميت بضبطها
الماء وأخذها منه كثيراً من قولهم : إن فلاناً لشديد الزبل للقرب .
وقال ابن الكلبي عن أبيه : سمّيت بزبالة بنت مسعود من العماليق نزلت موضعها فسمّيت
بها .
وقال أيضاً في الثعلبية : بفتح الثاء المثلثة وسكون العين المهملة هي بئر منسوبة
إلى ثعلبة بن مالك بن دودان بن أسد هو أول من احتفرها وهي من أعمال المدينة وهي
ماء لبني أسد .
وزرود : حبل رمل .
____________________
وقوله
: لم يعف رسمها هو موضع التعليل للبكاء لأنه لو عفت هذه المواضع أو عفا رسمها
لاستراح العاشق وفي بقائها أشد حزن له كقول ابن أحمر : الوافر ( ألاليت المنازل قد
بلينا ** فلا يرمين عن شزنٍ حزينا ) أي : فلا يرمين عن تحرّف . )
يقال : شزن فلان ثم رمى أي : تحرّف في أحد شقّيه وذلك أشدّ لرميه أي : ليتها بليت
حتى لاترمي قلوبنا بالأحزان والأوجاع .
وعفا الشيء يعفو عفواً وعفوّاً وعفاء : درس وانمحى وعفاه غيره : درسه . والرسم :
ما لصق بالأرض من آثار الديار مثل البعر والرّماد .
وقوله : لم نسجتها تعليل لعدم العفاء والامّحاء . قال الأصمعي : إن الرّيحين إذا
اختلفتا على الرسم لم يعفواه فلو دامت عليه واحدة لعفته لأن الريح الواحدة تسفي
على الرسم فيدرس وإذا اعتورته ريحان فسفت عليه إحداهما فغطّته ثم هبّت الأخرى كشفت
عن الرسم ما وقيل : معناه : لم يعف رسمها للريح وحدها إنما عفا للريح والمطر
وترادف السنين .
وقيل : معناه لم يعف رسم حبّها من قلبي وإن نسجتها الرّيحان فعفتها مع الأمطار
والسنين .
والمعنى الجيد هو الأول . وفاعل نسجت ضمير ما و ها ضمير المواضع الأربعة . ومن
بيان لما فتكون ما عبارة عن ريح الجنوب والشمال وهما ريحان متقابلان .
=================
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق