مصاحف انواع

المصحف تنزيلات

فهرس القرآن الكريم الكريمmp3 القرآن الكريم مكتوب

9مصاحف
/ / / /  / / /

Translate k..k..520....

الجمعة، 6 مايو 2022

ج 1 و 2. رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني

 

ج1.  رفع الإصر عن قضاة مصر  ابن حجر العسقلاني

 بسم الله الرحمن الرحيم

وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت الحمد لله الذي لا معقّب لحُكمه ولا رادّ لقضائه، واشهد أن لا إله إلا الله وحده ولا شريك له، شهادةً أعدها ليوم لقائه، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله خاتم أنبيائه، وعلى آله وصَحبه وخلاصة أصفيائه.
أما بعد، فقد وقفت على رَجَز في ذكر مَن ولى القضاء بالديار المصرية، من نَظم الأديب المشهور، شمس الدين محمد بن دانيال الكحّال، نظمه لقاضي القُضاة بدر الدين أبي عبد الله محمد إبراهيم بن سعد الله ابن جماعة. سُئلتُ أن أُترجم لمن تَضمنه الرجز المذكور، فأجبت إلى ذلك، وجعلتُهم طبقاتٍ على السنين، منذ فُتحت مصر إلى آخر المائة الثامنة، وذكرت في ترجمة كل واحد منهم ما وقفت عليه، من اسمه ونسْبته ومُنتهى غاية نَسبه، إن احتيج إلى ذلك، وذكر مولده وحاله ومذهبه ونِحْلَتِه، والوقت الذي ولي فيه، والوقت الذي صُرف فيه، والوقت الذي مات فيه، بحسب ما أتصل إلى علمي من ذلك. اعتمدت في الأول على أخبار القضاة لأبي عُمر الكِنْدي ثم على ذَيله لصاحبه أبي محمد ابن زولاق، ثم على كتاب ابن مُيسِّر، ثم على أخبار مصر لشيخ شيوخنا الحافظ قُطب الدِّين الحلبي، وهو في نحو عشرين مجلدة بيّض منه (المحمدين) في أربعة، واستفدت كثيراً من ذلك من تاريخ رفيقي الإمام الأوحد المُطلع تَقّي الدين أبي محمد أحمد بن علي بن عبد القادر التميمي. وقد جمع شيخنا العلامة، ذو التصانيف الواسعة، سراج الدين ابن المُلقَّن شيئاً من ذلك، وقفت عليه، فلم يشفِ لي غليلاً.
أنبأنا الحافظ أبو الحسن علي بن أبي بكر بن سُليمان مُشافهةً عن أبي عمرَ بن أبي عبد الله بن أبي إسحاق الكناني، قال: أنشدنا ابن دانيال لنفسه:
يقول راجي كَرمِ الله العَلِي ... محمدُ بن دانِيَال المَوْصلٍي
من بَعد حَمْدٍ للعلِّي الحاكم ... غامِرنا بالجُودِ والمَراحم
ثم الصلاةُ بعد تَرتيل اسمه ... على النَّبي الهادي أمين حُكمه
وآله وصَحبه العُدول ... شُهودِ حُجَّة الرِّضَى الرَّسول
فإنني ضَمَّنتُ هذا الشعرَا ... أنباء كُل من تولَّى مِصْرا
من سائر القُضاة والحُكَّام ... مذ ملكتْها دولةُ الإسلام
من لدُنِ ابن العاص أغنى عَمْرَا ... من فَتحْها ثم هلُمَّ جرَّا
لكنِّني اخترتُ الكلام الرَّجَزا ... في حَصرهم إذ كان لفظاً مُوجزا
ليَغْتدي عِقداً من اللآلئ ... يُنْفِسه ذِكْرُ الجَناب العالي
العالمي العامِلي الأوحدى ... بَدْر التَّمام ذي السَّنا محمد
أَعني الكِنَانِيَّ ابن إبراهيما ... السيدَ المُفضَّلَ الكريما
فتى القُضاة وإمام العَصر ... مُفتي الفريقَيْن بأرض مِصر
نظمتُها وسيلةً إليه ... مُعتمداً دون الورَى عليه
لا زال سِتراً مُسبَلاً علينا ... يَبعثُ فَضل رِفْده إلينا
وها أنا بذكر ذاك مُبتدي ... بحمد ذي الحَمد البديع الصَّمد
أولُ مَن وَلى القَضا للحُكم ... قيسٌ فتَى عديٍّ ابن سَهْم
وآل بعده لكَعبِ عَبْسِ ... ثم لعُثمان بغَير لَبْس
ثم وَلِى سُلّيم نَجْل عِتْر ... وبعده السّائب نجلُ عَمرو
ثم وَلِيه عابسُ المُرادِي ... وبعده ابنُ النَّضر في البلاد
وآل بعده لعبد الرحمن ... ثم إلى مالك نَجل خَولان
ويونس من بعده ولي القضا ... ثم ولي أوس بعزم يُنتضى
ثم تولى الحكم عبد الرحمن ... ثم ولِيَه بعد ذاك عِمران
وبعده صار لعَبد الأعلى ... وابن حديج ذي الفخار الأعلى
ثم لعبد الله ذاك القاضي ... أتى ومن بعدُ إلى عياض
وعاد للقضا بحكم ثاني ... نجل حُجيرة الفتى الخَوْلاني

ثم إلى عياض آل ثانية ... ثم لعبد الله غير وانية
والحضرمي ثم للخيار ... ثم يزيد جاء في الآثار
وآل بعد توبة وخير ... إلى ابن سالم بكل خير
هذا وفي عصر بني العباس ... عاد ابن نعيم ثابت الأساس
وعاد غوث بعد ذاك يحكمُ ... ثم ولى يزيد بعد فاعلموا
وعاد غَوث بعد إبراهيما ... والحضرمي بعده مأموما
ثم لإسماعيل نجل اليَسَع ... ثم تلاه غوث خير تبع
وبعد هذا ولى المُفضَّل ... ثم أبو الطاهر ذاك الأفضل
ثم وليها بعده التجيبي ... والعُمَرِيّ، أيما نَجيب
وبعده البكري وابن البَكّا ... ثم ابن عيسى وهو أزكى نسكا
والأسلمي حاكم الشريعة ... ثم ابنُ عيسى واسمه لَهيعة
ثم لإبراهيم نجل القاري ... ثم لإبراهيم ذي الفخار
ثم لعيسى آلت الأحكام ... وبعده هارون الإمام
ثم ولى الأحكام نجل شداد ... وبعده الحارث خير من جاد
وبعدها ولي دحيم الأنصار ... وصار بها قاضي القضاة بكّار
محمد بن عبدة تولى ... ثم أبو زرعة لما ولَّى
ثم ابن عبدة تولى الحكما ... وكان فيه بالمحل الأسمى
ثم ابن حرب وأبو الذكر حكم ... قبل الكُريزي زمانا في الأمم
والجوهري وهو نعم القاضي ... ومن به قد وقع التراضي
وبعده أحمد وابن أحمدا ... وأحمد ثانية فيها اغتدى
وصرفوه بابن زَبْر فقضى ... من قبل إسماعيل فيما قد مضى
ثم ابن مسلم ونجل حماد ... والسرخسي والصيرفي بإِسناد
وبعد عبد الله نجل زبر ... ولى أبو بكر جميع الأمر
ثم ابن أبي زرعة ونجل بدر ... من قبل عبد الله نجل زبر
ثم ابن بدر بعد عبد الله ... أمسى عليها آمرا وناهي
ثم أبو الذكر تولى والحسن ... وبعده الكشى في ذاك الزمن
ثم تولى حكمها ابن الحداد ... وبعده ابن أخت وليد قد عاد
وبعد ذاك ولد الخطيب ... ولي القضا وولد الخصيب
وبعده محمد قد حكما ... ثم أبو الطاهر فيما علما
وبعد ذاك ولد النعمان ... ونجله في ذلك الزمان
ثم ابنه وصِنوه الحسين ... ولم يشنه في القضاء شَيْن
وبعد ذاك مالك تولى ... ثم أبو العباس فيما يتلى
وقاسم ثم أبو الفتح ولي ... وهو بغير قاسم لم يعزل
وصرفوه بأبي محمد ... قبل أبي علي المسدد
ثم ابن وهب جاءها في الأثر ... ونالها من قبل نجل زكري
ثم أعيد أحمد للحكم ... ثم ابن وهب فاستمع لنظمى
ثم ولي الحكم ابن عبد الحاكم ... ثم أعيد بعده للقاسم
ثم لعبد الحاكم الإمامي ... وقاسم وجه بالأحكام
وبعده ولي القضا نجل أسد ... وبعده أحمد ذو الحكم الأسد
ثم أُعيد ابن أبي كدينه ... لما ارتَضوا سِيرته ودِينه
ثم علىِّ بعده الميسر ... ثم الرصافي الجميل الذكر
وبعده ولي القضا ابن وهب ... وابن أبي كدينة ذو اللُّب
وبعده المليجي في المدينة ... ولي القضا وابن أبي كدينه
ثم وليه بعده اليازوري ... وابن كدينة بغير زور
وبعده العرقي والقضاعي ... ولي القضا حقاً بلا نزاع

ثم جلال الدولة أبو القاسم ... عاد وولَّى وهو غير حاكم
وبعده نجل نباته ولي ... وولد الكحال ذو التفضل
وبعده المليجي والمكرمي ... ثم أبو الطاهر ذو التكرم
وبعده ولي القضا نجل ذكا ... وبعده الحسين وهو ذو ذكا
ثم ابن بدر وأبو الفضل قضى ... قبل الصقلي وأبو الفضل الرضا
وبعده ابن ظافر تولّى ... ثم الحسين ذو المقام الأعلى
ثم أبو الفتح ويوسف ولي ... وكان كل ذا محل أفضل
ثم وليه ولد الميسر ... أغنى سناء الملك رب المفخر
ثم أبو الفخر ونجل جعفرا ... ثم محمد ولي بلا مرا
وبعد هذا ولي الرعيني ... ثم سَنا الملك بغير مَيْن
وبعده نجل عقيل لم يزل ... وابن حسين صار حاكم العمل
وابن سلامة ونجل المقدسي ... فكان فيها ذا محل أنفس
ثم الأعز وأبو الفتح ولي ... وبعده أعيد نجل كامل
وبعد ذاك في زمان الغُزّ ... ذوي الفخار والعلا والعز
وَلِيه عبد الملك بن عيسى ... قبل على الفتى الرئِيسا
ثم ابن عصرون تولى الحكما ... وعاد صدر الدين وهو الأَسْمَى
والسكري وأبو محمد ... قبل ابن عين الدولة الممجد
ثم وليه يوسف السنجاري ... وجاء عز الدين في الآثار
وبعده موهوب أعنى الجزري ... والخونجي ثم العماد الحموي
ثم أعيد يوسف السنجاري ... ثم تلاه التاج ذو الفَخَار
وولى البرهان أعنى الخضرا ... وعاد تاج الدين فيما غبرا
ثم ولى الأحكام محيى الدين ... وابن رزين ذو الحِجَا الرَّزين
وبعد عزله تولاه عُمر ... أعنى العلامى وبالعدل أمَرْ
ثم أعيد ابن رَزين فحكم ... من بعد صدر الدين عدلا في الأمم
ثم الوجيه البَهنسي للقَضا ... عُيّن من بعد التقى إذا قضَى
وعندما استعفى لبعده القاهرة ... عن مصر خص بها أوامره
ثم الشّهاب رفعوا محله ... واستحضروه من قضا المحله
ولم يزل حتى تَوفاه الرًّدَى ... وولى الشام الفتَى ابن أحمدَا
ثم ولي القضا التقى بن خلف ... بعد الوجيه والشهاب المنصرف
وعزلوه عن قضاء القاهرة ... ثم وَلِيَه سيد السناجره
ثم ولي التقي عبد الرحمن ... وابن بدر الدين لما بان
وعاد بدر الدين للشام ... ثم ولي الحكم الفتى العلامي
ولم يزل حتى توفاه القَضَا ... ثم ولي التقي أبو الفتح الرضا
وإذ أتاه نازل الحِمَام ... عاد إليها البدر في التَّمام
بدر منير كامل الأوصاف ... ذو المنهل العذْب النَّمِير الصافي
قاضي القضاة حاكم الحكام ... واسطة العقود في النظام
لا برحت نافذة أحكامه ... وخلدت زاهرة أيامه
ما لاح بدر كامل الإِبْدار ... وما انجلَى الهلال من سِرَار
والحمدُ لله على إنعامه ... وفضل ما سدد من أَحكامه
وأفضل الصلاةِ والسلامِ ... على النبي سيد الأنَام
وآله وصَحْبه وعِتْرته ... وكل من أخلص في مَحبته
آخرها وقد ذيَّل عليها بعضُ أصحابنا إلى عصرنا، فسرد الشافعية على منوال ابن دَانيال، ثم سرد القضاة الثلاثة مذهباً بعد مذهب إلى عصرنا، وهذا صورة ما نظم: أنشدنا العز أحمد بنُ إبراهيم العسقلاني لنفسه مُكاتبة، قال:
والزرعي والبدر والقزويني ... والعز والبها وعز الدين

أبو البقا البرهان ثم البدر ... وعاد برهان لها وبدر
وبعده ابن الميلق المناوي ... والبدر والعماد والمناوي
وبعد هذا البدر والمناوي ... ثم الزبيري مع المناوي
والصالحي مع جلال الدين ... والصالحي ثم شمس الدين
ثم جلال الدين والإخنائي ... ثم جلال الدين والإخنائي
ثم جلال الدين ثم الشمس ... ثم جلال الدين ثم الشمس
ثم الجلالي ولي الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
والهروي مع شهاب الدين ... والعلمي مع شهاب الدين
عين الوجود ثم رأس المحتفي ... ومن به منصبه تشرفا
كما قلد الأعناق منَّا منه ... مواسي القلب الضعيف منه
وأوصل الإِجداء في الإجْدَاب ... واستَعمل الإعْضَاء في الإَغْضاب
دام عُلاه في سما السعود ... ما أمطرت بَوَارق الرُّعُود
قضاة الحنفية
وابن أبي العز معز الدين ... ثم السروجي حُسام الدين
ثم السروجي مع الحريري ... ثم ابن عبد الحق ثم الغوري
والزين والعَلا جمال الدين ... كذلك الهندي صدر الدين
والنجم والصدر كذا ابن منصور ... والجار والصدر هو ابن منصور
والشمس والمجد كذاك العجمي ... والشمس ثم الملطي فاعلمِ
ثم أمين الدين والعديمي ... ونجله الأمين والعديمي
والأدمى وابن العديم فاعلم ... والمقدسي وبالتفهني اختمِ
عينيُّهم ثم التفهني يا فتى ... عينيهم والسعد بعده أتى
قضاة المالكية
والحسنى وابن شكر وابن شأس ... ثم ابن شكر قد تلاه ابن شأس
ثم ابن مخلوف تقي تاج ... ثم السخاوي تلاه التاج
وبعده البرهان بدر وعلم ... أعنى البساطي وبدر وعلم
ثم ابن خلدون مع ابن خير ... بهرام ثم العدني النحريري
والتنسي وابن خلدون ولي ... وابن الجَلال والجمال قد ولي
ثم ابن خلدون مع البساطي ... ثم ابن خلدون مع البساطي
ثم ابن خلدون مع البساطي ... والتنسي هكذا البساطي
ثم ابن خلدون جمال الدين ... ثم البساطي شمس الدين
ثم البساطي المدني الأموي ... ثم الجمال والبساطي المحتوى
قضاة الحنابلة
وابن العماد وقد تلاه ابن عوض ... بعد الغني والحارثي وابن عوض
ثم موفق الدين تلاه الناصر ... ثم ابنه ثم أخوه الآخر
وبعده الحكري والموفق ... سالم ثم ابن مغلي يلحق
ثم محب ثم عز والمحب ... والبدر والناظم نال ما يحب
القضاة على ترتيب المعجم
حرف الألف
ذكر مَن اسمه إبراهيم
إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن ابن عبد الله بن عَمرو بن حبيب بن سعد بن حبيب بن كليب بن شجنه بن غالب ابن عائذ بن يَيْثَع بن مُليح بن الهوُن بن خزيمة القاريِّ، بتشديد المثناة من تحت. نسبة إلى القارَة القبيلة المعروفة، وهم حلفاء بني زُهرة، ولذلك يقال له الزهري. مصري من أهل المائة الثالثة، كان ممن أخذ عن مالك واللّيث وابن لَهِيعة. روى عنه عثمان بن صالح وسعيد بن كثير بن عُفَير وغيرهما.
قال أبو عمر الكندي: لما مات لَهيعة بن عيسى في ذي القعدة سنة أربع ومائتين، ولاَّه السري بن الحَكَم أميرُ مصر القضاءَ لعشر بقين من ذي القعدة، وجمع له القضاء والقصص.

وذكره ابن يونس في تاريخه فقال: كان صالحاً صَدوقاً، متشدداً، أغل للسّرى في القول، وقال له: تحدّون الزاني وأنتم تزنون! وتقطعون السارق وأنتم تسرقون! وتجلدون في الخمر وأنتم تشربون؟ فلم يزل يرفق به حتى وُلّى. وشدد على الناس وصمم في الحق، فاختصم إليه رجلان في شيء، فأمر بالكتابة على أحدهما بإِنقاذ الحكم، فتشفع المحكوم عليه بابن أبي عون إلى الأمير السري بن الحكم، فأرسل إليه السرى أن يتوقف عن الحكم إلى أن يصطلحا، فإن لم يصطلحا أنفذ الحكم. فجلس إبراهيم في منزله، وامتنع عن القضاء، فركب إليه السرى وسأله الرجوع، فقال لا أعود إلى ذلك المجلس أبداً، ليس في الحكم شفاعة. فلما صمم على الامتناع، ولي السرى إبراهيمَ بن الجراح، وذلك في جمادى الأولى سنة خمس ومائتين.
ومات إبراهيم بن إسحاق بعد انفصاله بشهر واحد في جمادى الآخرة من السنة.
قال الدَّارَقُطني في كتاب الرواة عن مالك، حدثنا الحسن بن رشيق، حدثنا الحسن بن آدم العسقلاني، حدثنا يحيى بن عثمان بن صالح، حدثني أبي، حدثنا إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر، قال: أنا حملت رسالة الليث إلى مالك وأخذتُ جوابها، فكان مالك يسألني عن ابن لَهِيعة فأخبُره بحاله فيقول لي: فابن لهيعة ليس يذكر الحج؟ فسبق إلى قلبي أنه يريد السماع منه. وأخرجها البَيْهَقي. وفي روايته يريد مشافهته والسماع منه.
وذكره ابن الجوزي في حوادث سنة خمس ومائتين من المُنتظم، قال: جُمع له القضاء والقصص بمصر، وكان رجلاً صالحاً، مات في جمادى الآخرة.
إبراهيم بن البكاء. هو ابن محمد البجلي. يأتي.
إبراهيم بن الجراح بن صَبِيح التميمي، ثم المازني، مولى بني تميم. أصله من مَرْو الرّوذ، وسكن الكوفة ثم مصر، فولاّه السرى بن الحكم بعد امتناع إبراهيم بن إسحاق. وذلك في مستهل جمادى الأولى سنة خمس ومائتين، فاستكتب عمرو بن خالد الحراني، وجعل على مسائله معاوية بن عبد الله الأسواني، وكان قد سمع من يحيى بن عقبة بن أبي العيزار، وأبي يوسف، وكتب عنه الأمالي، روى عن علي بن الجعد وأحمد بن عبد المؤمن وأحمد بن عبد الله البكري، وذكره ابن حِبان في الثقات، وقال: كان من أصحاب الرأي، سكن مصر، يُخْطِئُ.
قال يحيى بن عثمان بن صالح: لما ولَّي السًّرىُّ إبراهيمَ بنَ الجراح القضاءَ أمر بمصلاّه، فوضع في المسجد الجامع، فاجتمع المصريون فألقوه في الطريق، فجلس إبراهيم للحكم في منزله، ولم يعد إلى الجامع.
وقال الطَّحاوي حدثنا علي بن عمرو بن خالد الحراني قال: سمعت أبي يقول ما أصبحت أحداً من القضاة مثل إبراهيم بن الجراح، كنت إذا علمت له المحضر وقرأته عليه أقام عنده ما شاء الله أن يقيم، حتى ينظر فيه ويرى فيه رأيه، فإذا أراد أن يُمضي ما فيه، دفعه إليَّ لأنشئ له منه سجلاً فأجد بحافته: قال أبو حنيفة كذا، قال ابن أبي ليلى كذا، قال مالك كذا. قال أبو يوسف كذا. وعلى بعضها علامة له كالخط. فأعلم أن اختياره وقع على ذلك القول فأنشئ عليه السِّجل.
وقال عبد الرحمن بنُ عبد الله بن عبد الحَكَم: لم يكن إبراهيم بن الجراح بالمذموم في أول ولايته، حتى قدم عليه ابنه إسحاق من العراق، فتغيّرت حاله وفسَدت أحكامه.
ويقال إن إسحاق أخذ من معاوية بن عبد الله الأسواني ألف دينار حتى قرره أبوه على مسائله. روى ذلك أبو عمر الكندي من طريق أمَنة بن عيسى، أن إبراهيم قال لأبيه: أرى أن تولى علي مسائل المصريين رجلاً منهم وتستريح. فولي معاويةَ فأخذ ابن إبراهيم منه القدر المذكور فلما ولي عيسى بن المنكدر بلغه ذلك، فسجن معاوية الأسواني بسبب ذلك.
وقال أبو الرِّقْراق: انحرف الناس عن عمرو بن خالد، لما كتب لإبراهيم بن الجراح، فأمره إبراهيم يوماً باكتتاب شيء فكتبه. ثم أرسل إليه إبراهيمُ فأمره أن يتوقف عن كتابته. فبحث عمرو بن خالد عن سبب التوقف، فإذا هو من قبل إسحاقَ بن إبراهيم بن الجراح. فقال عمرو: لله علي ألاّ أعود إلى مجلسه.
قال: فرجع الناس إلى عمرو بن خالد، فأقبلوا عليه.
وقال علي بن معبد بن شدَّاد: شهد الخصيب بن ناصح عند إبراهيم بن الجراح، فأتاني صاحب مسائله يسألني عن الخصيب فقلت: لا أعلم فيه شيئاً أعيبه عليه، إلا أنه شهد إبراهيم بن الجرَّاح.

ولم يزل إبراهيم بن الجراح على القضاء حتى توجه عبد الله بن طاهر بن الحسين من قبل المأمون إلى مصر، ليحارب عبيدَ الله بن السِّريِ، فحكى يحيى ابن عثمان بن صالح قال: قال عبيد الله بن السري لابن عبد الحَكَم لما حاربه عبد الله بن طاهر، ثم وقع بينهما الصالح: اكتب كتاب أمانٍ في أمر ابن طاهر. فقال له عبد الله بن عبد الحكَم: أصلَح الله الأمير، لست من أصحاب الوثائق. ولكن القاضي له علم بذلك، فأمر عبيدُ الله بن السّرى، القاضِي إبراهيمَ بن الجراح فكتب له الكتاب، فكان سبب سقوطه عند ابن طاهر.
وقال يونس بن عبد الأعلى: كان إبراهيم بن الجراح من أدهى الناس، فكتب الكتاب لابن السّرى، فنسى أن أخذ لنفسه أماناً، مع شدة استظهاره لابن السّرى، وجميع جنده، فحقدها عليه ابن طاهر وفعل به ما فعل.
وقال خلف بن ربيعة: لما طال على ابن السرى الحصار، طلب الصلح وشرط لنفسه شروطاً، فأجابه عبد الله بن طاهر إليها. وكتب له بذلك كتاباً فيه شروط فنظر فيها القاضي، فقال: ليست هذه الشروط بشيء، ولكن يجب أن تكتب كذا وكذا. فقال له: اكتب لي نسخة بما قلت، فكتب له نسخة بخطه وبعث بها إلى ابن طاهر فأجابه. ثم لما استقرت قدمه بمصر عزله، وأسقط مرتبته وأمر بكشفه ومحاسبته.
وقال علي بن أبي جعفر الطحاوي حدثني أبي قال: كان إبراهيم بن الجراح راكباً في موكب فيه جمع كثير من الناس، فبلغهم أنه عزل، فتفرقوا أولاً فأولا إلي أن لم يبقَ معه أحد. فقال لغلامه ما بال الناس؟ قال: بلغهم أنك عزلت فقال: سبحان الله! ما كنا إلا في موكب ريح.
ولما صرف عن القضاء قال: سمعت أبا يوسف يقول: سمعت أبا حنيفة في جنازة رجل، ينشد هذه الأبيات عند القبر:
لما رأيت المشيبَ قد نَزَلا ... وبَانَ عنِّي الشبابُ فارتَحلا
أيقنتُ بالموت فانكَسرتُ له ... وكل حيٍّ يوافِقُ الأجَلاَ
كم من أخٍ لي قد كان يُؤنسني ... فصار تحت الترابِ مُنجَدِلاَ
لا يسمع الصوتَ إن هتفتُ به ... ولا يردُّ الجواب إن سُئِلاَ
لو خلَّد الله فاعلموا أحداًلَخَلَّدَ الأنبياءَ والرُّسُلاَ
وكان عبد الله قد صرفه عن القضاء في جمادى الأولى سنة إحدى عشرة ومائتين. فكانت مدة ولايته ست سنين إلا شهرين. وأقام عبد الله بن طاهر عطَّاف بن غَزْوَان ينظر في المظالم.
وقال أبو عمر الكندي: حدثني أبو الطاهر المديني: سمعت حَرملة بن يحيى يقول: مرض إبراهيم بن الجراح وهو على قضاء مصر فأوصى بوصية، وأمر بإحضار الشهود ليشهدوا على وصيته. فقرئت عليهم الوصية فكان فيها، وإن الدين كما شرع، وإن القرآن كما خلق. قال حرملة فقلت: أشهد عليك بهذا؟ قال: نعم.
وقال سعد بن عبد الله بن عبد الحكم: انصرف أبي من عند ابن طاهر وقد ألقى إليه كتاباً من ابن السرى فيه أيْمان بالإطلاق والعتاق. فقال: مثله يستحلف بهذه الأيمان؟ فقلت: أصلح الله الأمير. إن الذي يجري الله عز وجل على يديك من حقن الدماء وصلاح ذات البَيْن، يسهل مثل هذا عليك. قال: أشهد عليّ بما فيه.
وقال أبو سعيد بن يونس، حدثنا علي بن سعيد وغيره، قالوا حدثنا أحمد ابن عبد المؤمن، حدثنا إبراهيم بن الجراح، حدثنا يحيى بن عقبة بن أبي العَيزار قال: كنت مع أبي فلقي محمد بن سُوقَة، فسلم عليه وسأله. ثم افترقا، ثم التقيا، فسلم عليه وسأله، فقال أبي: ألم ألقك آنفاً؟ قال بَلَى، ولكن أخبرني نافع عن ابن عمر قال، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: إذا لقي أحدكم أخاه في اليوم مراراً فليسلم عليه، فإن الرحمة ربما حدثت.
وقال ابن الجوزي في المنتظم: أصله من مَروْ الرّوذ وعُزل سنة عشر ومائتين وعاش إبراهيم بعد ذلك إلى أن مات بالرملة سنة سبع عشرة.
وقال أبو سعيد بن يونس: مات في المحرم بمصر.
إبراهيم بن عبد الرحيم بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة، تأتى تتمة نسبه في ترجمة جده محمد بن إبراهيم.

هو القاضي برهان الدين ابن الخطيب زين الدين ابن القاضي بدر الدين ابن جماعة، من أهل المائة الثامنة. ولد في نصف شهر ربيع الآخر سنة خمس وعشرين وسبعمائة وحفظ التنبيه بعد القرآن. واشتغل وأحضر على جَده. وأسمع عليه وعلى أبي نُعَيم ابن الإسعردي وأحمد بن كُشْتُغْدي وإسماعيل التفليسي وطبقتهم من أصحاب النجيب وابن عزون وابن علاق. ثم رحل إلى دمشق وسمع بعدة بلاد، ونسخ الأجزاء، وسمع الكثير من المِزِّي والجزري والذَّهبي وحصَّل الأجزاء وكتب بخطه. ثم لما مات أبوه في سنة تسع وثلاثين وسبعمائة استقر في خطابه القدس. وكان جهوري الصوت مديد القامة وقوراً، فاشتهر ذكره وعظم قَدْره. ثم استقر في تدريس المدرسة الصلاحية بعد موت الحافظ صالح الدين العلائي، فازداد رفعة. وكان قد لازَم الذهبي فأكثر عنه. وذكره الذهبي في المعجم المختص بالمحدّثين. قال: (الفقيه المحدّث المفيد، أحد من طلب وعنى بتحصيل الأجزاء وقرأ وتميز، وهو في ازدياد من الفضائل. وقد ولي خطابة القدس بعد والده وقرأ علي كثيراً) انتهى. وقد رأيت بخطه أجزاء تدل على أنه لم يمهر في فن الحديث. ورأيت له جُزْءاً خَرَّجه لبعض الرَّحّالة، يدل على قصور كثير، مع كثرة ما كان عنده من المواد. ثم ولي قضاء القضاة بالديار المصرية بعد صرف أبي البقاء، مطلوباً من بيت المقدس بعناية بعض أمراء الدولة فحضر على البريد يوم الأربعاء رابع جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة. وبات في تلك الليلة في صهريج منجك وأصبح يوم الخميس فخلع عليه. وركب معه معظم الأمراء على العادة إلى الصالحية وباشر بحُرمة ومَهابة وعِفة ونَزاهة.
قرأت بخط صاحبنا جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي رحمه الله، رأيته يوم ولي وقد خلع عليه بالطيلسان المقور. ثم ركب إلى أعيان الأمراء فسلم عليهم على العادة. قال: فاتفق أن بعض الفقهاء ازدراه لأنه لم يكن مشهوراً بالمهارة في الفقه. فوصفه بقلة المعرفة. فاتفق أنه دخل عليه فرأى كتبه مصفوفة فقال: يا مولانا قاضي القضاة، ما أحسن تصفيف هذه الكتب! ورمز إلى أنه قليل الاشتغال فيها، لأن كثرة الاستغلال تنافي حسن التصفيف غالباً. ففهمها وأسَرّها في نفسه. وكان ذلك الرجل يلي عقود الأنكحة، فالتمس منه الإذن بذلك، فأذن له. فاتفق أنه وقع له عقدٌ عقَده المذكور فيه خلل. فأحضره واستكشفَ أمره، فوجده فاسداً. فأمر بتعزيره، فضرب وصفع، وكشف رأسه وأرسل إلى الحبس حاسراً.
ثم اتفق أن بعض نواب القضاء بالشرقية دخل إليه، فسأله عن شيء فأجابه وشر كالضاحك، فتوهم القاضي أنه يستهزئ به، وليس كذلك، بل كان ذلك خلقة في ذلك الرجل. فأمر به فعُزِّر نظير ما عزّر الأول. فارتدع أهل البلد وهابوه.
وقرأت بخط صاحبنا الشيخ تقي الدين أحمد بن علي المقريزي: (كان خطيباً بليغاً، حسن الصوت، مهاباً عفيفاً، تاركاً للأغراض الدنيوية، جليلاً مليح الوجه جميل المحيّا، زائد الوقار، كثير الإفضال، عالي الهِمة، ماجداً جواداً ممدحاً، عَزوفاً عن الضّيم)، إلى أن قال: (وبالجملة فقد كان مفخراً تتجمل به الدولة، وتتبرك بوجوده الملوك).
وقال البشبيشي أيضاً: (كان مهيباً عظيم القدر عند الملوك، محبباً للناس، على غاية من العفة والصيانة، والوقوف مع الحق، الجليلُ والوضيعُ عند سواه. مع عدم الغرض في أمور الدنيا. وكان يقرر فيما يشغر من الوظائف من يسبق، إذا كان مستحقاً. ولو طرأ عليه مَن هو أولى منه، أو مَن له جاه، فلا يلتفت إلى ذلك، بل السابق عنده هو المستحق).
ثم اتفق أن محبّ الدين ناظر الجيش، عارضه في قضية من القضايا، فقال البرهان: (أنا لا أرضى أن أكون تحت حَجْر كاتب). فصرف أتباعه، وصرح بعزل نفسه وأغلق بابه. فبلغ ذلك الملكَ الأشرف فانزعج، وأرسل إليه يسترضيه، فامتنع. فراسَله مراراً، فأصرَّ. فأرسل إليه أخيراً: (إن لم تحضر وإلا حضرت إليك). فركب متخففاً بملوطة. واجتمع بالسلطان فرضّاه فَرَضِي بعد جهد. واشترط أشياء أجابه إليها. وخلع عليه ونزل إلى منزله بجامع الأقمر، ومعه جَمْع من الأمراء والأعيان. فازداد بعد ذلك رفعة وعظمة وازداد مهابة عند الأمراء والعامة.
وكان عارفاً بالفقه، فصيحاً بليغاً، حسن الصوت بالقراءة. وله مشاركة في التفسير والعربية، ومحبة في الحديث وأهله.

ذكر لي القاضي جلال الدين البلقيني، أنه حضر دروسه، ووصفه بكثرة الاستحضار. قال: وكانت طريقته أنه يلقي الآية أو المسألة، فيتجاذب الطلبةُ القولَ في ذلك والبحث، وهو مُصْغ إليهم، إلى أن يتناهى ما عندهم، فيبتدئ فيقرر ما ذكروه، ثم يستدرك مَا لم يتعرضوا له، فيفيد غرائب وفوائد.
وذكر لي القاضي ولي الدين العراقي، أنه عرض له مراراً، أنه يُخرج له معجماً أو مشيخة، فلم يقدّر ذلك. ولم يزل أمره مستقيماً، إلى أن تجهز الملك الأشرف إلى الحج. فلما وصلوا إلى ساحل البحر بأيلة غدر مماليك الأشرف به، وأرادوا القبض عليه فهرب، ورجع أكثر الناس. فصادف أن البرهان لقي طشتمر الدوادار وكان هو القائم في خلع الأشرف، فأغلظ له البرهان، وكان فِي جملة ما خاطَبه به: (أنت أثرتَ هذه الفتنة، وشققتَ عصا المسلمين. لئن أظفرني الله بك لأضرِبن عنقك) فأسرَّها طشتمر في نفسه، إلى أن صرفه عن القضاء بعد أن قرر عند الأمراء، أن القاضي برهان الدين كان يستقل الأشرف. فكيف تعظمون في عينه؟ وسمعه البرهان الإخنائي قاضي المالكية، لما خاطب طشمتر بذلك الكلام، فلامه على ما خاطب به طشتمر، وقال: (لا بأس أن تقتلونا جميعاً). فما التفت إلى كلامه بل خاطبه بالسّب، ونسبه للعجز. ودخل الجميع إلى القاهرة فصرف بعد قليل وكان صرفه عن القضاء في الثامن عشر من شعبان سنة تسع وسبعين. وكان مدة ولايته الأولى ست سنين وأياماً. وتوجه إلى وظائفه بالقدس. واستقر القاضي بدر الدين ابن أبي البقاء، فباشر إلى أن كثر القول فيه، فاجتمع رأي بركة وبرقوق إلى صرفه، وإعادة البرهان. فطلب من القدس فحضر على البريد. وبات في صهريج منجك ليلة الخميس، ثالث عشرين شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة ثم صعد القلعة يوم الخميس فخلع عليه وشيّعه أكثر الأمراء. ووصل إلى الصالحية وصلى بها على العادة، وقال: (مَن فارقناه على شيء فهو على حاله). وأبطل من استجده ابن أبي البقاء. فباشر البرهان بعظمة وعفة ونزاهة، وصلابة فِي الحكم وترفع على العظماء، وتواضع مع الفقراء، وبذلك المجهود من الإحسان إلى الفقهاء والفقراء.
ومن جملة ما اتفق له، أن حاجب الحجاب آقبغا الكوكائي، كان في إقطاعه شيء موقوف، فأرسل القاضي عرفه به، وأن يسأل في التعويض عنه. فأجاب قاصده بأن السلطان أقطعني هذا. فاجتمع به بالقلعة فأعرض عنه. فأكب آقبغا على يد القاضي فلم يلتفت إليه. فقال ما ذنبي؟ قال: ( ثبت عندي فسقك)، وذكر له القضية. فأظهر التوبة والاستغفار، ونزل في الحال إلى بيت القاضي، والمنشور معه فقال: (خذ هذا الإقطاع كله، تصرَّف فيه كيف شئت). فقال: (بل نقتصر على القدر الموقوف).
وفي هذه الولاية كتب مرسوم عن سلطان أن يكون للشافعي من النواب أربعة. ولكل من الثالثة اثنان اثنان. وصعب عليه ذلك لكونه نوعاً من الحجر عليه. وكثر اعتراض أهل الدولة عليه في الأمور، فاظهر السآمة مع استمراره على عادته في التصميم فيما لا يسوغ، إلا أن اتفقت له كائنة ابن نهار وكان من أبناء الأجناد، وله وقف أراد أن يبيع منه شيئاً. فامتنع القاضي فألحّ عليه بالرسائل، فأصرَّ. فسأل في عقد مجلس بين يدي برقوق. فعقد فوقع من ابن نهار مخاطبة للقاضي بما لا يحتمله. فنفر البرهان من ذلك، وتوجه إلى ظاهر البلد. وشرع يتجهز إلى القدس. فبلغ ذلك الأميرَ فعرِّف القصة، فأمَر بضب ابن نهار بالسياط، وَطيفَ به. وأرسل إلى البرهان من ردَّة إلى منزله مكرَّماً. ثم صار يسارع إلى عزل نفسه إذا ألزم بما لا يسوغ عنده. فقلق الأمير من ذلك، وأكثر من شكواه إلى الأمراء. وكان له غرض صحيح في عزله، لأنه كان يخشى أنه لا يطاوعه على ما في نفسه من الاستبداد بالسلطنة. فصرفه في آخر يوم من صفر سنة أربع وثمانين وسبعمائة. فأقام بالقاهر قليلاً. وتوجه إلى بيت المقدس على وظائفه. فلم يزل إلى أن مات ولي الدين ابن أبي البقاء قاضي الشام. فأرسل برقوق إلى البرهان بتقليده قضاء الشام. فقبل وباشره أحسن مباشرة، بحيث إنه لم يجد في المودع الحكمي مالاً. فنمَّاه وَثَمَّرَه إلى أن صار فيه ما يفيض عن ألفي ألف درهم فضة كاملية.

وذكر الركراكي أنه عاتب برقوق، وكان صديقه، في عزل البرهان فقال: ما يجيب إلى ما أريد، ولا يزال يخالف. قال: فقلت له: ما أردت إلا من تزين مملكتك به. فقال: صدقت إلا أنه لا يداري الوقت بما يليق.
وذكر لي القاضي كريم الدين ابن عبد العزيز ناظر الجيش، أنه كان بدمشق لما ورد أمر برقوق بولاية البرهان قضاء الشام. قال: كان البرهان قدم دمشق من بيت المقدس في أمر مهم. فلما قضى أرَبه خرج منها وشيعه الأكابر، متوجهاً لبيت المقدس، فورد التقليد والخلعة بعد رحيله. فشيع نائب الشام في إِثْرهِ من أعاده، وقرأ عليه مرسوم السلطان، فأجاب بأن قال: لو ولاني قرية لقبلت. فلبس الخلعة وباشر، وتوجه إلى بيت المقدس، فخطبهم خطبة بليغة وودعهم. ورجع إلى دمشق فأقام بها، وكانت وفاته بدمشق وهو على قضائها في ثامن عشر شعبان سنة تسعين وسبعمائة.
إبراهيم بن علي بن أحمد بن علي بن محمد بن أحمد بن يوسف بن إبراهيم بن علي الدمشقي، ابن قاضي حصن الأكراد، برهان الدين ابن كمال الدين المعروف بابن عبد الحق. حنفي من المائة الثامنة.
وعبد الحق الذي نسب إليه هو الواسطي ابن خلف الحنبلي، وهو جده لأمه ولد سنة سبع أو تسع وستين وستمائة. وتفقه على الظهير أبي الربيع سليمان وغيره.
وأخذ الأصول والعربية عن ظهير الدين الرومي، والصفي الهندي، والمجد التونسي وغيرهم.
ورحل إلى القاهرة، فأخذ عن ابن دقيق العيد وأذن له بالإفتاء. وأخذ عن السروجي وغيره. وكان ذلك في سنة ست وتسعين وستمائة.
وسمع على أبيه كمال الدين علي، وعمه نجم الدين إسماعيل. وشرف الدين الفَزَاري والفخر ابن البخاري وغيرهم. وتصدر للتدريس بدمشق، وحدث وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخةً، حدث بها بالقاهرة، بقراءة التاج ابن مكتوم.
ثم طلب إلى مصر بعد وفاة شمس الدين الحريري فوصل في جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وسبعمائة، فولاه الناصر محمد بن قلاوون القضاء بالديار المصرية. ودرس في عدة أماكن. ولم يزل بها قاضياً إلى أن صرف عن الوظيفة هو والقاضي جلال الدين القزويني معاً. فرجع إلى دمشق واستقر مكانه الحسام الغوري.
وكان القاضي برهان الدين هذا، قد شرح الهداية، وصنف المنتقى في فروع المسائل ، ونوازل الوقائع في مجلد، وإجارة الإقطاع في مجلد، ومسألة قتل المسلم بالكافر، ومسألة إجارة الأوقاف. واختصر السنن الكبرى للبيهقي واختصر التحقيق لابن الجوزي في أحاديث الخلاف.
وكان يقال إنه انتهت إليه رياسة المذهب في عصره. وكان يقرر الهداية تقريراً بليغاً.
وصرف عن القضاء في النصف من جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فرجع إلى الشام، فدرس بالعذراوية والخاتونية، رافعاً أعلام العلم إلى أن مضى لسبيله في ذي الحجة سنة أربع وأربعين بدمشق.
إبراهيم بن محمد بن عبد الله بن عبيد الله بن عبد العظيم بن عبد الأعلى بن عبد الله بن عبد الكبير بن عامر بن كريز - براء ثم زاي مصغراً - ابن ربيعة بن حبيب بن عبد شمس القرشي العبشمي الكُزَيْزِي البغدادي، من المائة الرابعة، ويكنى أبا محمد. ولد.. ونشأ بدمشق الشام وولى قضاء مصر من قبل أبي يحيى عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم. لعشرين من المحرم.
ولما ولي تَكِين إمرة مصر، أعيد إليها، فصرف أبا الذِّكْر الأسواني، وقرر مكانه أبا محمد الكريزي. وقدم مصر في صفر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة، فتسلم القضاء من أبي الذكر لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر.
قال ابن ميسر في تاريخه: قدم تَكِين من العراق لعشر بقين من المحرم منها فصرف أبا الذكر، وولي مكانه أبا محمد الكريزي، نيابة عن أبي يحيى ابن مُكْرَم.
قال أبو محمد بن زولاق: لَمْ يكن بالمحمود في ولايته فنظر في الأحكام وتسلم ما في المودع من المال.
وغلب على أمره أبو علي أحمد بن علي بن أبي الحسن الصغير. ولم يكن بالماهر في العلم، ولكن كان يعرف العربية. وكان قد سمع من محمد بن أحمد ابن الجنيد، وغيره، وحدّث. أخرج عنه أبو بكر بن العربي في معجمه.

قال الحسن بن زولاق: تراءى الناس هلال رمضان. وخرج القاضي الكريزي على العادة فرجعوا. فأرسل تكين أمير مصر إلى الكريزي يسأله: (أَيْشٍ صح عندك من الشهر؟( يعني رمضان. فأجابه: إن الذي صح عندي أن غداً لا من شعبان ولا من رمضان. فقال تَكِين: (الله المستعان. يصرف أبو عبيد بمثل هَذَا)؟.
وقال أيضاً: كان القضاة إذا قدموا البلد بدأوا بدار أمير مصر. فلما قدم الكُزَيْزِي بدأ بالجامع فصلى فيه ركعتين، وقرئ عهده فيه. ثم راح إلى دار الأمير وتسلم ما في المودع، وكان تحت يد جماعة من أمناء القاضي أبي عبيد، منهم علاَّن بن سليمان. وكان عنده خمسون ألف دينار، دفنها تحت درجة. وكان عند غيره أكثر من ذلك. وتصرف الكريزي في ذلك. وتصرف في شيء كثير من أموال الأحباس.
ثم قدم كتاب هارون بن إبراهيم بن حماد، الذي ولي قضاء بغداد، بعد ابن مُكرَم، يأمر بتسليم القضاء لعبد الرحمن بن إسحاق بن محمد الجوهري، فتسلمه من الكريزي لثمان بقين من شهر ربيع الأول سنة ثلاث عشرة. وكانت ولايته سنة واحدة وأياماً. وعاش بعد ذلك إلى أن مات بحلب، في سنة سبع عشرة وثلاثمائة. وأرخه مسلمة بن قاسم سنة ثماني عشرة.
إبراهيم بن محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران بن رحمة السعدي الإخْنائي المالكي، من المائة الثامنة، يلقب برهان الدين ابن علم الدين. ولد بالقاهرة سنة.. وسافر مع أبيه إلى الشام، لما ولى قضاء دمشق. فسمع بها من أبي العباس الحجار والماكسيني، وإبراهيم بن ألواني، وتفقه شافعياً وحفظ التنبيه. ثم رجع إلى القاهرة فأقام بها، واشتغل في مذهب مالك، فمهر وتميز. ثم ولي الحسبة ونظر المارستان، ونظر الخزانة السلطانية. ثم قرر في قضاء المالكية بعد موت أخيه تاج الدين محمد، وكان ينوب عنه، وذلك في صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة واستمر إلى أن مات في ثاني شهر رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
وكان مهيباً صارماً نَزِهاً عفيفاً، نافذ الكلمة، عظيم الحرمة، مفضالاً، مصمماً لا يقبل رسالة ولا شفاعة. بل يصدع بالحق، ولا يغضي على باطل أصلاً، ولا يولي إلا مستحقاً، وكان مع ذلك كثير الحلم والستر على من لم يجاهِر، فمن جاهَر تصدى له وقمعه. وكان قد اشتهر صيته بذلك. وكان مسعوداً في مباشراته.
وقد تعرض له جماعة من المغاربة في أمر منصب القضاء، فانتصف منهم، فَنَكل ببعضهم وشرَد منه بعضهم. فلم يَعُد إلى البلد إلا بعد موته.
وكان له في كل قلب رهبة، ولكل أحد إليه رغبة. وكان كثير الإفضال على أهل مذهبه وأصحابه.
إبراهيم بن محمد البَجَلي، أبو يحيى ابن البكَّاء المصري من المائة الثانية.
ولاه جابر بن الأشعث القضاء والنظر بين الناس، بعد موت هاشم البكري وكان موته في المحرم سنة ست وتسعين ومائة، وذلك أيام حصار الأمين ببغداد من جهة طاهر بن الحسين. فوثب الجند بمصر على جابر فخلعوه، وأمَّرُوا عليهم عباد بن محمد، وكان من شيعة المأمون. فعزل ابن البكاء وأعاد لَهِيعة بن عيسى إلى القضاء، وذلك في رجب سنة ست وتسعين ومائة فكانت ولاية ابن البكاء خمسة أشهر، وصرف في شهر رجب. وعند عزله اجتهد عباد في أن ابن وهب يلي القضاء، فامتنع واستتر، ومات في خلال ذلك.
وقال ابن يونس: كان إبراهيم من أصحاب جابر بن الأشعث، فقرره في القضاء فمكث أشهرا، ثم عزل.
قلت: وذكر سعيد بن عُفَيْر أن ولايته كانت شهراً واحداً، ولم أقف له على ترجمة شافية.

إبراهيم بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم بن نصر الله العسقلاني الأصل، ثم القاهري الكناني الحنبلي، برهان الدين ابن ناصر الدين، من المائة التاسعة. ولد في شهر رجب سنة ثمان وستين وسبعمائة بالقاهرة، واشتغل على أبيه وغيره، ونشأ على طريقة حسنة، وفوض إليه أبوه نيابة الحكم عنه، فباشرها بعقل وسكون. ثم لما مات أبوه ولي القضاء بعده في الثاني من شعبان سنة خمس وتسعين ولم يكمل الثلاثين. فسلك في المنصب طريقة مُثْلى من العفَّة والصيانة وبشاشة الوجه، والتواضع والتودُّد. وأحبه الناس ومالوا إليه أكثر من والده، لما كان عند أبيه من التشدُّد والانقباض، ومات في ثامن شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة وله أربع وثلاثون سنة. واستقر بعده أخوه موفق الدين أحمد وكان أصغر سناً منه. وأنجب البرهان ولدَه عز الدين أحمد ففاق سلفه في سعة العلم، ومعرفة الأدب. وناب في الحكم، ثم تركه تعففاً وتنزهاً، ودرس في عدة أماكن أمتع الله ببقائه.
إبراهيم بن يزيد بن مرة بن شرحبيل بن حَمِيَّة بن زَكّة بن عمرو بن شرحبيل بن هَرِم بن آزاد بن شرحبيل بن حُمْرَة بن ذي بَكْلان بن ثاَت بن زيد بن رُعَيْن، أبو خزيمة الرعيني المصري الثاتي بمثلثة ثم مثناة نسبة إلى ثات جده الأعلى. ولاه يزيد بن حاتم أمير مصر بعد غوث بن سليمان، وذلك في شهر رمضان سنة أربع وأربعين ومائة في خلافة المنصور. كذا قال أبو عمر الكندي. وفيه نظر. لأنه ذكر أن ولاية يزيد بن حاتم كانت في ذي القعدة من هذه السنة. فكيف يوليه قبل أن يتأمّر؟. وفي قول أبي سعيد بن يونس: إن الأمير حينئذ كان عبد الملك، نظرٌ أيضاً.
وكان عرض القضاء على حَيْوَة بن شريح، فقال: لست أفعل. فاصنع ما أنت صانع. فتركه وولَّي أبا خزيمة.
وقال أبو سعيد بن يونس: ولي قضاء مصر بعد أن عرضه الأمير أبو عون عبد الملك بن يزيد على السيف فقبل ذلك.
وقال أبو القاسم بن عبد الحكم في كتابه (فتح مصر): كان سبب ولاية أبي خزيمة أن أبا عون شاور فِي رجل يوليه القضاء، ويقال إن الذي شاور في ذلك هو صالح بن علي بن عبد الله بن عباس. فأشير عليه بواحد من ثلاثة، وهم: عبد الله بن عياش القِتْبَاني وحَيْوَة بن شُرَيْح وأبو خُزَيْمة، وكان حينئذ بالإسكندرية فأحضر، وعُرض عليه القضاء فامتنع. فأحضر السيف والنَّطْع، فخاف وأجاب. وكان قد عرض ذلك على حيوة بن شريح فأخرج لهم مفتاح بيته ودفعه لهم، وقال: لقد اشتقت إلى لقاء ربي.
كذا قال. ولم يكن يومئذ عبدُ الملك أميرَ مصر، إنما كان أميرُها يومئذ حميدَ ابن قَحْطبة.
والذي يزيل هذا الخلاف أن إمْرَة مصر حينئذ كانت إلى صالح بن علي عم المنصور. وكان من ذكر من الأمراء نواباً عنه.
قال يحيى بن عبد الله بن بكير: سمعت ابنَ لَهيعة، وسئل هل كان أبو خزيمة القاضي فقيهاً؟ قال: والله ما كان يفتح لنا السؤال عند يزيد بن أبي حَبِيب إلا أبو خزيمة. وكان نافذاً في البيوع والطلاق والأحكام.
وقال ابن يونس: كان من الزاهدين العابدين. يقال إنه دخل على عبد الله ابن الحارث بن جَزْء الزَّبيدي الصحابي. وحدث عنه المُفَضَّل بن فَضَالة وخالد ابن حميد وجرير بن حازم والصباح بن أبان ورِشْدِين بن سعد.
وقال المُفضَّلُ بنُ فَضَالة: كان أبو خزيمة يعمل الأرسان، فيبيع كل يوم رَسَنَيْن واحداً ينفقه على نفسه وأخر ينفذه إلى إخوانه بالإسكندرية. فلما ولي القضاء. كتبوا إليه في ذلك، فقال معاذ الله أن أترك. فكان يعملها ويبعث بها إليهم.
وكان إذا غسل ثيابه أو شهد جنازة أو اشتغل بشغل له يختص به يأخذ من رزقه بقدر ما اشتغل، فيعيده إلى بيت المال، ويقول: إنما أنا عامل المسلمين، فإذا اشتغلت بشيء عن عملهم، لم أستحق أن آخذ من مالهم شيئاً. وكان يقول أنا بين رجلين: إما حامد وإما ذام. ويدخل علي في اليوم الواحد خلقٌ كثير من الناس، أريد أن أُعد لكل واحد منهم جواباً، مخافة أن يَخْتِلَنِي عن ديني.
وقال إدريس بن يحيى الخولاني: أبو خزيمة خيرٌ مني، اختير فصلح وأنا لم أختر. فلم يزل أبو خزيمة على ولايته إلى أن مات في ذي القعدة سنة أربع وخمسين ومائة. فكانت مدة ولايته عشر سنين.

وذكر أبو عمر الكندي أن أبا خزيمة رفع إلى بعضُ بني مسكين شيئاً من أمر حُبُسهم. وكان بعضُ مَن مضى من القضاة ينظر فيه، فأراد أبو خزيمة ردَّ ذلك فقال له: إذا نحن لم ننتفع بقول من قبلك من القضاة عندك، كذلك لا يُنتفع عند من يجئ من بعدك من القضاة بقولك، فأنفذ ذلك.
ومما وقع في ولايته أن عبد الأعلى بنَ سعيد الجَيْشَاني تزوج امرأة من بني عبد كُلال، فقام بعض أوليائها في إنكار ذلك، وترافعوا إلى يزيد بن حاتم المهلَّبي أمير مصر، فأمر أبا خزيمة أن يفسخ نكاحها، لأنه ليس من أكفائها. فقال أبو خزيمة: ما أحلُّ ما حرم الله ولا أحرِّم ما أحل الله. إذا زوجها الولي بإذنها فالنكاح ماض. فعادوا إلى يزيد بن حاتم. ففرق بينهما فقال في ذلك:
أأُعلنت الفَوَاحش في البَوَادي ... وصار الناسُ أعوانَ المُرِيبِ
إذا ما عبتُهم عابوا مَقَالي ... لما في القوم من تلك العُيوب
وودُّوا لو كفرنا فاستَوينا ... وصار الناسُ كالشيء المَشُوب
وكنا نَسْتَطِبُّ إذا مَرِضنا ... فصَار هَلاكُنا بيدِ الطبيب
قال أبو عمر الكندي: هذه المرأة هي أم شُرَحبيل بنت عبد الرحمن بن عبد الله بن مُرّة بن اليَسَع بن عبد كُلال. وكان الذي عقد نكاحها عمُّها يَعْفُر بن عبد الله. وكان الصَّداق ألف دينار. وكان التفريق بينهما قبل الدخول.
ذكر مَن اسمه أحمد
أحمد بن إبراهيم بن حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن يزيد ابن درهم البصري الأصل، أبو عثمان البغدادي، المالكي، من المائةِ الرابعة. ولد سنة خمس وسبعين ومائتين، وولاه أخوه هارون، لما ولي قضاء مصر من قِبَل الخليفة، خلافَته بمصر، فَقدِمها بنفسه. فأمر إن كان أرسل إلى عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري، أن يسلم القضاء، ثم قدم أبو عثمان فتسلمه لسبع خلون من شهر ربيع الآخر سنة أربع عشرة وثلاثمائة فتسلم القضاء من عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري، ونزل من الغد إلى الجامع في السَّواد فقٌرئ عهدُه من قبل أخيه، وعهدُ أخيه من قبل الخليفة، وأمير مصر يومئذ تَكِين، وأكرمه من أجل أهله. وكان أبوه يومئذ في قيد الحياة وأمه بنت القاضي إسماعيل ابن إسحاق المشهور. وقريبه أبو عمر محمد بن يوسف بن يعقوب قاضي القضاة ببغداد. فنظر أبو عثمان من الأحكام والأحباس والمواريث. وكان قليل الكلام كثيرَ الحياء جميلَ الصورة.
فحكم ابن زولاق عن أبي بكر بن الحداد قال: كان أبو عثمان إذا جاء إلي دار تكين أمير مصر، نزل في موضع دون الموضع الذي كان ينزل فيه أبو عبيد، فتكلم معي في ذلك، فتكلمت مع تكين. فقال لي: إذا قدم أخوه هارون أين ينزل؟ ثم قال له: أتريد أن ينزل موضع أبي عبيد؟ قال: نعم. قال: لا ولا كرامة، ولو كان أبو عمر. قال: فشكا إلى أبي عثمان ذلك. فقلت لا تعُد تتكلم بعد هذا في شيء من هذا. قال: وسرتني معرفة تكين بقدر القاضي أبي عبيد.
قال ابن زولاق: وحدث أبو عثمان بمصر عن جدّه إسماعيل بن إسحاق، وإبراهيم الحربي، ويوسف بن يعقوب، ومحمد بن يحيى المروزي، وبهلول ابن إسحاق وغيرهم.
وأقام على قضاء مصر إلى ذي الحجة سنة ست عشرة وثلاثمائة.
وكانت مدة ولايته سنتين وتسعة أشهر، فصرف بعزل أخيه هارون. ثم أعيد هارون في جمادى الآخرة سنة سبع عشرة، فعاد أبو عثمان إلى النظر في الحكم. وركب إلى الجامع وقرئ كتابه وقام الأمير تكين بحقه.
قال ابن زولاق: وجرت في ولايته أبي عثمان حوادث، منها: أنه ورد عليه كتاب من بغداد بتوريث ذوي الأرحام، وكان لشدة حيائه لا يفهم أكثر كلامه، فجرت بسبب ذلك أمور. قال ولقد حدثني أبو الطاهر الذُّهلي أنه لما حج كان يلبي فلا يسمع صوته، بل كان النساء يرفعن أصواتهن بالتلبية أجهر منه لشدة خجله.
فلم يزل حتى صرف أخوه في ربيع الآخر سنة عشرين. فصرف هو أيضاً. وكانت ولايته الثانية سنتين وتسعة أشهر، ثم ورد عليه كتاب القاهر من بغداد بتوليته استقلالاً، وذلك في شهر رمضان سنة إحدى وعشرين. فكانت هذه أجلَّ ولاياته، وواصل فيها النزول إلى الجامع. وسكن في دار محمد بن عَبْدة، وكانت داراً عظيمة سيأتي ذكرها في ترجمته.

وكان في طول ولايته يتردَّد إلى أبي جعفر الطَّحَاوي يسمع عليه تصانيفه، بقراءة الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري. فقال أبو القاسم القرشي: حضرت مجلس الطحاوي وعنده أبو عثمان وهو يومئذ قاضي مصر. فدخل رجل من أهل أسوان، فسأل أبا جعفر عن مسألة، فقال له الطحاوي: مذهب القاضي أيده الله كذا وكذا. فقال له: ما جئت إلى القاضي إنما جئتُ إليك. فقال يا هذا، هو كما قلت. فأعاد. فقال له أبو عثمان: أَفْتِه أيدك الله برأيك. فقال: إذا أذن القاضي أيده الله، أفتيته. ثم أفتاه. فكان ذلك يُعد من أدب الطحاوي وفضله.
ووصف أبو القاسم القرشي أبا عثمان بالزهد والعبادة، وقيام الليل، وهو أول من خرج بالناس إلى مسجد محمود بالقرافة، لرؤية هلال رمضان.
وقال أبو سعيد بن يونس في تاريخه: كان كريماً كثير الحياء. حدث عن إسماعيل بن إسحاق وخلق كثير من أهل بغداد. وكان ثقة كثير الحديث. وعاش إلى شهر رمضان سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. فمات ببغداد في هذه السنة بعد أخيه بنحو السنة.
أحمد بن إبراهيم بن عبد الغني بن أبي إسحاق العباسي، شمس الدين السَّرُوجِي الحنفي، من الثامن. ولد سنة سبع وثلاثين وستمائة أو بعدها. وتفقه على مذهب أحمد، فحفظ بعض المقِنع. ثم تحول حنفياً فحفظ الهداية. وأخذ عن الشيخ نجم الدين أبي الطاهر إسحاق بن علي بن يحيى، وصاهره على ابنته وأخذ عن القاضي صدر الدين بن العز وغيرهما وبرع في المذهب، وأتقن الخلاف، واشتغل في الحديث والنحو، وشارك في الفنون، وصار من أعيان الفقهاء، وشرع في شرح على (الهداية) أطال فيه النَّفَس، وهو مشهور ولم يكمل، وتكلم فيه على الأحاديث وعللها.
وكان قد سمع الحديث من محمد بن أبي الخطاب ابن دحية وغيره. فلما مات معز الدين النعمان قُرِّر في قضاء الحنفية وذلك في شعبان سنة إحدى وتسعين وستمائة.
وحكى عنه أن شرب ماء زمزم لولاية القضاء فحصل له. ثم صرف في سلطنة المنصور لاجين في سنة ست وتسعين بالحسام الرازي، ثم أعيد في أول ذي الحجة سنة ثمان وتسعين بعد قتل لاجين، بعناية الأمير بيبَرْس الجَاشْنَكِير. واستمر إلى أن صرف حين عاد الناصر من الكَرك، فاستقر عوضه شمس الدين محمد بن عثمان الحريري، فانتزع منه جميع ما معه من التداريس. فسعى فِي أن تبقى معه الصالحية والسكن بها. فأجيب إلى ذلك فغضب الحريري وأخرجه من الصالحية قهراً، وذلك في ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة. فتألم ومرض فمات في شهر رجب.
وكان مشهوراً بالمهابة والعفة، والصيانة والسماحة، وطلاقة الوجه، مع عدم مراعاة أصحاب الجاه، فلما عزل لم يجد معه من يساعده. ولعل الله أراد به خيراً وادّخر له ذلك عنده.
ومن تصانيفه: الرد على ابن تيمية، وهو فيه منصف متأدب، صحيح المباحث. وبلغ ذلك ابن تيمية فتصدى للرد على ردِّه. وذكره الذهبي في تاريخه فقال: كان نبيلاً وقوراً فاضلاً، كثير المحاسن والبر، وما أظنه روى شيئاً من الحديث. انتهى.
ولما كان في شهر رجب سنة سبعمائة، طلب بَطْرَك النصارى، وربان اليهود، وجمع القضاة والعلماء، ففوضوا إليه أخذ العهد عليهم. فجددوه، وشرط عليهم ألا يركب أحد منهم فرساً ولا بغلة، وأن يلبس النصارى العمائم الزرق، واليهود العمائم الصفر. فالتزموا بذلك واستمروا عليه ويقال إنه كان له دفتر يكتب فيه ما يستدينه، فأوصى عند موته أن يعتمد ما فيه، فجاء شخص فذكر أن له عنده مائتي درهم، فلم يجدوها في الدفتر، فرآه شخص من أصدقائه فقال: إن الرجل صادق، وإنها في الدفتر بقلم دقيق، فانتبه الرجل فوجد الأمر كما قال. ويقال: إنه حج فسأل الله حاجة ولم يذكر ذلك لأحد، فجاءه شخص بعد مدة فقال: رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم، فامرني أن أقول لك: أعطني جميع ما عندك والأمارة الحاجة التي سألتها بمكة، فقال نعم. واخرج له ما عنده وهو مائة دينار وألف درهم. وقال: لو كان عندي أكثر من هذا لدفعته لك، فإن الأمَارة صحيحة.

أحمد بن إبراهيم بن أحمد الأندلسي الفقيه المالكي، من المائة الرابعة وكان من عدول عمر بن الحسن العباسي. وكان يحفظ مذهب مالك، مع فصاحة وكفاية وسعة حال وكان يتشوف لولاية قضاء مصر، لما يرى من حصوله لأقرانه ومن دونهم. وكان يتأدب مع عمر بن الحسن أن يسعى له فيه. فلما وقع بين الخَصِيبِي وولده ما سيأتي في ترجمة عبد الله بن محمد الخصيبي، استعان بعلي بن صالح الرُّوذْبَارِي وبذلك لذلك مالاً جزيلاً، فبلغ ذلك الخصيبي، فوشى به عند كافور. فأمر كافور بالقبض عليه وَهَمّ بقتله. فقام أبو جعفر مسلم الشريف ودافع عن الأندلسي، وبَيّن لكافور تزييف كلام الخصيبي.
ثم سَعى الأندلسي بعد ذلك، سعى له علي بن صالح وغيره من وجوه بغداد، إلى أن أمر بكتابة تقليده فكُتب. واتصل الخبر بالخصيبي فقلق لذلك، وكثر الإرجاف بذلك بمصر. فاتفق أن الأندلسي اعتل فأقام في علته أياماً قلائل لا يلي القضاء ومات، وذلك في سنة اثنتين وأربعين وثلاثمائة. ووصل تقليده بعد موته بخمسة أيام، وكفى الخصيبي أمره.
أحمد بن إسماعيل بن محمد بن أبي العز بن صالح بن أبي العز ابن وُهَيْب بن عطاء بن جُبَير بن جابر بن وهَيْب الأَذْرَعي الأصل الدمشقي، نجم الدين المعروف بابن الكِشْك الحنفي، من المائة الثامنة. ولد سنة عشرين وسبعمائة تقريباً. وأجاز له أبو محمد القاسم بن المُظفَّر بن عَساكر الطبيب، ويحيى بن محمد بن سعد وأبو بكر بن مُشَّرف وأبو عبد الله بن أبي الهيجاء بن الزَّرَّاد وزينب بنت عمر بن شُكر وجماعة وغيرهم.
وسمع الصحيح من أبي العباس ابن الشحنة، وسمع من غيره وتفقه واشتغل. وقدم القاهرة ، فقُرِّرَ في قضاء الحنفية بعد موت صدر الدين ابن التُّرْكُماني، في ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وسيأتي بيان ذلك في ترجمة شرف الدين أحمد بن علي.
وكان خبيراً بمذهبه. كثير الاستحضار، درس بأماكن بدمشق وغيرها، وحدث بالصحيح بالقاهرة. ولم تطب له الإقامة بمصر، فترك المنصبَ واسْتَعْفَى، ورجع إلى دمشق ولزم داره. ثم ولى قضاء دمشق في سنة اثنتين وتسعين، وكانَ وَلِيَهُ قبلَ ذلك. واتفق أنه كان له قريب اعتراه في عقله شيء، فجاء إلى فطلب منه شيئاً فمنعه، فضربه بسكين فمات منها، وذلك في ذي الحجة سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فقبض على القاتل فقتل نفسه أيضاً. وهو آخر من بقي من قدماء المدرسين والقضاة. وقد أجاز لي غير مرة وأنجب أولاداً تولوا بعده المنصب. وكانت فيهم حشمة ورياسة، وتودد للناس، ونفع للقادمين. وكان آخر من بقي منهم القاضي شهاب الدين أحمد بن محمود ابن صاحب الترجمة النجم أحمد. وقد طلب لولاية القضاء بالديار المصرية مرة. ولكتابة السّر أخرى، فاستعفى من ذلك. وكانت وفاته بدمشق في سنة تسع وتسعين وسبعمائة. ولم يُخَلِّف بعده أَرْأَسَ منه.
أحمد بن بدر: هو أحمد بن محمد بن بدر.
أحمد بن الحسين أبو علي الصغير.
أحمد بن حمزة العِرْقي يأتي تحرير القول فيه من حرف الحاء المهملة في حمزة بن أحمد إن شاء الله تعالى.
أحمد بن أبي دُوَاد بن حَرِيز بن مالك بن عبد الله بن سلام بن مالك، متصل نسبة بإياد بن نزار بن معد بن عدنان الإيادي. أبو عبد الله القاضي.
أصله من البصرة، وسكن بغداد. ويقال إن اسم والده فرج ويقال دُعْمِيّ، والصحيح أنه اسمه كنيته. قال الخطيب، ونقل عن أبي العيناء أنه سمعه يقول: ولدت سنة ستين ومائة. وكان أسن من يحيى بن أكثم.
قال الخطيب: ولي القضاء للمعتصم والواثق. وكان موصوفاً بالجود وحسن الخلق ووفور الأدب. غير أنه أعلن بمذهب الجَهْمِيَّة. وحمل الخليفة على امتحان العلماءِ بخلق القرآن.
وقال الدَّارَقُطْنِي: هو الذي كان يمتحن العلماءَ في زمانه. وولي قضاء القضاة للمعتصم والواثق. وكان هو الذي يولي قضاة البلاد كلها، ومن تحت يده. واستمر في أوائل دولة المتوكل، ثم صرف وصودر.
وقال أبو العيناء: كان أحمد بن أبي دُوَاد شاعر مجيداً فصحياً بليغاً، ما رأيت رئيساً أفصح منه.
وقال الصولي: كان يقال أكرم من كان في دولة بني العباس، البرامكة، ثم أحمد بن أبي دُوَاد لولا ما وضعه به نفسه من محبة المحنة بخلق القرآن، والمبالغة في ذلك، واللجاج فيه، وحَمْل الخلفاء عليه. ولولا ذلك لاجتمعت الألسن على الثناء عليه، ولم يُضَف إلى كرمه كَرم أحد.

قال الصولي: ولقد حدثني عون بن محمد الكندي، قال: لعهدي بالكَرْخ، ولو قال فيها أحد: إن ابن أبي دُوَاد مسلم، لقتل في مكانه، حتى وقع الحريق في الكرخ، وهو الذي لم يكن قبله مثلهُ. كان الرجل يقوم في صُبَيْبَة شارع الكرخ فيرى السفن في دجلة، فكلم ابن أبي دُوَاد المعتصم في الناس وقال: يا أمير المؤمنين رعيتك في بلد أبائك ودار ملكهم، نزل بهم هذا الأمر، فاعطف عليهم بشيء يُفرَّق فيهم مما يُمسك أرماقهم، ويبنون به ما انهدم فلم يزل ينازله حتى أطلق لهم خمسة آلاف ألف درهم. فقال يا أمير المؤمنين: إن فرقها عليهم غيري، خِفْت ألا تُقَسّم بينهم بالسوية. قال: ذاك إليك. فقسمها على مقادير ما ذهب منهم. وغرم من ماله في ذلك جملة.
وقال أبو رَوْق الهِزَّاني: حكى لي ابن ثعلبة الحنفي عن أحمد بن المُعّذَّل، أن ابن أبي دُوَاد كتب إلى جرل من أهل المدينة: (إن تابعتَ أمير المؤمنين في مقالته استوجبتَ منه المكافأة فكتب إليه: " عصمنا الله وإياك من الفتنة. الكلام في القرآن بدعةٌ يشترك فيها السَّائلُ والمجيب، لتعاطي السائل ما ليس له. وتكلُّف المجيب ما ليس عليه. ولا نعلم خالقاً إلا الله وما سواه مخلوق. والقرآن كلام الله، لا نعلم غير ذلك والسلام).
وقال خالد بن خِدَاش: رأيت في المنام كأن آتيا أتاني بطبق فقال: اقرأ. فَقَرَأتُ بسم الله الرحمن الرحيم، ابن أبي دواد يريد أن يمتحن الناس. فمن قال: القرآن كلام الله، كسى خاتماً من ذهب، فصُّه ياقوتة حمراء، وأدخل الجنة وغفر له. ومن قال: القرآن مخلوق، جعلت يمينهُ يمينَ قرد، فيعيش بعد ذلك شيئاً يسيراً ثم يصير إلى النار: ورأيت قائلاً يقول: مسخ ابن أبي دُوَادم، ومسخ شعيب، يعني ابن سهل القاضي. وأصاب ابن سماعة الفَالِج، وفلانا الذبحة. وعن أبي الحسين ابن الفضل أنه سمع عبدَ العزيز بن يحيى المكي قال: دخلت على أحمد بن أبي دُوَاد وهو مفلوج، فقلت له: لم آتك عائداً، ولكن جئت لأحمد الله على سجنك في جلدك.
وقال الصولي: لولا ما وضع به أحمد بن دُوَاد نفسه من محبة المحنة، لاجتمعت الألسن على مدحه.
ولم يذكر الخطيب في ترجمته شيئاً يدل على أنه له رواية. لكن قال الذهبي في الميزان: قلَّ ما روى.
وقال ابن النديم في الفهرست: كان من كبار المعتزلة، جَرَّد في إظهار المذهب وذَبَّ عن أهله، وبالغ في العناية به وكان من صنائع يحيى بن أكثم وهو الذي أوصله إلى المأمون. ثم اتصل بالمعتصم، فغلب عليه. ولم يكن يقطع أمراً دونه ولم يُر في أبناء جنسه أكرمه منه. ويقال: إنه لم يكن له أخ من إخوانه إلا بَني له داراً ووقف على ولده ما يغنيهم أبداً. ولم يكن لأخ من إخوانه ولد إلا من جارية وهبها له.
ومما يحكي من كرمه أن انقطع شِسْعه فناوله رجل شسعاً، فوهب له خمسمائة دينار.

وكان سبب اتصاله بالمعتصم وتمكنه منه أنه كان يتردد إليه أحياناً، فلما فوض المأمون أمر الشام ومصر لأخيه أبي إسحاق، وأمره بالمَصِير إلى عمله ليكشف عن أحواله، قال المأمون ليحيى بن أَكْثَم: انظر لي رجلاً حصيفاً لبيباً، له علم ومعرفة وثقة، أنفذه مع أبي إسحاق، وأوليه المظالم في أعماله، وأتقدم إليه في مكاتبتي بجميع الأخبار سراً، ولا يترك شيئاً من أمور القواد والعمال والخاصة والعامة إلا طالعني به، فإني لا أثق بمن يتولى البريد. وتكون مكاتبته إليك، وأنت تقرؤها علي. فقال: يا أمير المؤمنين عندي رجل من أصحاب أبي إسحاق أثق بدينه، ورأيه وصدقه، ونزاهته. فقال: جِئْ به يوم كذا. ففعل فكلّمه فوجده فَهماً راجحاً. فقال له عما أراد أن يندبه إليه، فتلقى ذلك بالقبول. فقال له: أني أشهرك بولاية المظالم. وآمره بمشورتك في جميع الأحوال، فاظهر السرور بذلك والتزام جميع ما كلفه به. فجمع المأمون بين أبي إسحاق وابن أبي دُوَاد. فقال لأبي إسحاق: إنك تحضر بشخصك في هذا العسكر وفيه أوباش الناس وأخلاطهم. ولا بد للعسكر من صاحب مظالم. وقد اخترت صاحبك هذا، فضمه إليك وأحسن إليه. فقال أفعل. وتوجهوا فوافت كتب أصحاب الأخبار لما وصلوا بالأثقال. فقال المأمون ليحيى بن أكثم: ما بال صاحبك ما كتب إلينا شيئاً! أترى لم يحدث شيء قال: عسى. فوصلوا إلى الرحبة ولم يكتب شيئاً فتغيظ المأمون على يحيى فبادر فكتب إلى أحمد بن دُوَاد يعنفه ويستبطئه، ويخبره: إن أمير المؤمنين أنكر علي واتهمك فلم يُعد إليه جوابا. والمأمون يزداد على يحيى بن أكثم تغيظاً، ويحيى يبالغ في الكتابة إلى أحمد. فلما طال الأمر، أمر المأمون عمرو بن مسعدة أن يكتب إلى المعتصم يأمره أن يجهز أحمد بن أبي دُوَاد إلى الحضرة مشدودة يده إلى عنقه في الحديد على قِتْبٍ بغير وطاء. فلما قرأ المعتصم الكتاب أرسل إلى أحمد فرمى إليه الكتاب، وقد أظهر له الغم والحزن عليه، وقال له: هل تعرف لي ذنباً عند أمير المؤمنين؟ فقال لا. إلا أن أمير المؤمنين لا يستحل هذا مني إلى بحجة. فما الذي عند الأمير فيما كُتب به إليه في، فقال: لا أستطيع مخالفة أمر أمير المؤمنين. لكن أعفيك من الغل والحديد، وأحملك على حال حسنة فقال: جزاك الله أيها المرء خيراً. أتأذن لي أن أتوجه إلى منزلي صحبة من تثق به؟ فقال: نعم امض. وأرسل معه خادماً فاستخرج تلك الكتب التي كان يحيى يكتبها له في تعنيفه، فيما قصر فيه مما أمره به المأمون، من نقل أخبار المعتصم. فنثرها بين يديه، فلما قرأها عليه استشاط المعتصم غضباً، وتكلم في يحيى بكل سوء. وقال لأحمد: لقد رعيت من حقي رعايةً لا أقوم بجزائها، ومعاذ الله أن أسلمك أو ينالك بسبب هذا سوء. وترك مراسلة المأمون فيما يتعلق بأحمد وطوى ذلك عنه. واستمر أحمد مع المعتصم حتى وصل إلى مصر. وذلك في سنة خمس عشرة ومائتين.
وعن أبي مالك حَرِيز بن أحمد بن أبي دُوَاد قال: كان أبي إذا صلى رفع يديه وقال:
ما أنت بالسَّببِ الضَّعِيفِ وإنما ... نُجْحُ الأمور بقوة الأَسْبَاب
فاليومَ حاجتُنا إليك وإنما ... يُدْعَى الطبيبُ لسَاعَةِ الأوْصَابِ
وقال أبو العيناء: كان أحمد في غاية التأدب، ما خرجتُ من عنده يوماً فقال يا غلام خذ بيده، بل كان يقول: أخرج معه. فكنت أفتقد هذا الكلام فما أخلَّ به قط. وما كنت أسمعه من غيره.
وقال محمد بن عمر الرومي: ما رأيت أحضر حجة من أحمد بن أبي دُوَاد. قال له الواثق يوماً: يا أبا عبد الله، رُفعت إلي رقعة فيك، فيها أنك وليت القضاء رجلاً أعمى، قال: نعم يا أمير المؤمنين، هذا رجل من أهل الفضل. ولّيته ثم بلغني أنه أصيب ببصره، فأردت أن أصرفه. فبلغني أن عمي من كثرة بكائه على أمير المؤمنين المعتصم. فحفظت له ذلك، وأمرته أن يَستخلف.
قال: وفيها أنك أجزتَ شاعراً مدحك بألف دينار، قال نعم: لكن أجزته بدونها، وهذا شاعر طائي محسن يعني أبا تمام. لو لم أحفظ إلا قولَه لأمير المؤمنين المعتصم يحرضه على استخلافك في قصيدة مدحه بها:
واشدد بهارون الخلافة إنه ... سَكَنٌ لوحشتها ودار قرارِ
فلقد علمت بأن ذلك مِعصمٌ ... ما كنتَ تتركه بغير سِوارِ
فطرب وأمر لأبي تمام بجائزة.

وقال له الواثق يوماً آخر. يا أحمد، قد اختلت بيوت المال بطلباتك للائذين بك، فقال: إن نتائج شكرها متصلة بك. وذخائر أجرها مكتوبةٌ لك فقال لا منعتك بعدها.
وذكر الخطيب في غير التاريخ بسند له محمد بن عبد الملك الزيات الوزير. قال: كان رجل من ولد عمر بن الخطاب، لا يلقى أحمد بن أبي دُوَاد إلا لعنه ودعا عليه، سواء وجده منفرداً أو في محفل، وأحمد لا يرد عليه. فاتفق أن عرضت للعمري حاجة عند المعتصم. فسألني أن أرفع قصته فخشيت أن يعارضني أحمد. فامتنعت فألحّ علي، فأخذت قصته ودخلت إلى المعتصم، فلم أجد أحمد. فاغتنمت غيبته ودفعت له قصة الرجل، فدخل أحمد وهي في يده فناولها له. فلما رأى اسمه، وفيه أنه من ذرية عمر بن الخطاب، قال: يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، يا أمير المؤمنين عمر بن الخطاب! تُقضى لولده كل حاجة، فوقّع بقضاء حاجته. وأخذت القصة فدفعتها للرجل. وقلت له: اشكر القاضي فهو الذي اعتنى بك حتى قضيت حاجتك. فجلس الرجل حتى خرج أحمد فقام إليه فجعل يدعو له ويشكره. فالتفت إليه أحمد، فقال: اذهب عافاك الله، فإني إنما فعلك ذلك لعُمر لا لك.
وقال أبو الفرج الأصبهاني في ترجمته أبي تمام الشاعر: أخبرنا أبو الحسن الأسدي، حدثنا الحسن بن عليل العنزي حدثني إسحاق بن يحيى الكاتب قال: قال الواثق لأحمد بن أبي دُوَاد: بلغني أنك أعطيت أبا تمام في قصيدة مدحك بها ألف دينار، فذكر ما تقدم.
قرأت في كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصبهاني، في ترجمة أبي دلف القاسم ابن عيسى العجلي، الأمير المشهور ما نصه: قال أبو الفضل أحمد بن أبي طاهر: كان أبو دلف القاسم بن عيسى، في جملة من كان مع الأفشَين حيدر بن كاوس لما خرج لمحاربة بَابَك، ثم تنكر له، فوجه يوماً بمن جاء به ليقتله وبلغ المعتصم الخبر، فبعث إليه بأحمد بن أبي دُوَاد وقال له: أدركه وما أراك تلحقه واحتل في خلاصه منه كيف شئت. قال أحمد فمضيت ركضاً حتى وافيته فإذا أبو دلف واقف بين يديه، وقد أخذ بيديه غلامان تركيان. فرميت بنفسي على الأرض، وكنت إذا جئته دعا لي بمصلَّى. فقال سبحان الله ما حملك على هذا؟ قلت: أنت أجلستني هذا المجلس. ثم كلمته في القاسم وخضعت له. فجعل لا يزداد إلى غلظة. فلما رأيت ذلك قلت: هذا عبد، وقد أغرقتُ في الرفق به، وليس ينفع إلا أخذه بالرهبة والشدة. فقمت وقلت: كم تراك قَدَّرت في نفسك أن تقتل أولياء أمير المؤمنين واحد بعد واحد، وتخالف أمره في قائد بعد قائد، قد حملت إليك هذه الرسالة عن أمير المؤمنين، فهات الجواب. فَذَلَّ حتى لصق بالأرض. وبان لي الاضطراب فيه. فلما رأيت ذلك نهضت إلى أبي دلف، فأخذت بيده وقلت: قد أخذته بأمر أمير المؤمنين. فقال: لا تفعل يا أبا عبد الله. فقلت: قد فعلت وأخرجت القاسم فحملته على دابة ووافيت المعتصم. فلما بَصُر بي قال: مرحباً بك يا أبا عبد الله، أوريت زنادي. ثم ردّ علي خبري مع الأفشين حدساً بظنه ما أخطأ فيه حرفا. ثم سألني عما ذكر لي وهل هو كما قال؟ فأخبرته أنه لم يخطئ حرفا.
وقرأت في الكتابة المذكور: كان أحمد بن أبي دُوَاد ينكر أمر الغناء إنكاراً شديداً فأعلمه المعتصم أن صديقه أبا دلف يغني. فقال: ما أراه مع عقله يفعل ذلك! فستر المعتصم أحمدَ بن أبي دواد في موضع، وأحضر أبا دلف، وأمره أن يغني، ففعل ذلك وأطال. ثم أخرج أحمد بن أبي دُوَاد عليه من موضعه، والكراهية بينه ظاهرة في وجهه. فلما رآه قال: سوأةً لهذا مِنْ فِعْل! أبعد السن وهذا المحل، تضع نفسك كما رأى! فخجل أبو دُلف وتسوَّر، وقال: إنهم أكرهوني. فقال: هبهم أكرهوك على الغناء أفأكرهوك على الإحسان فيه والإصابة! قال أبو الفرج في الأغاني: أخبرني هاشم بن محمد الخزاعي، حدثني العباس بن ميمون. قال: هجا أبو الأسد الحمامي، واسمه نباتة بن عبد الله أحمدَ بن أبي دُوَاد، فقال:
أنت امرؤ غثُّ الصنيعة رثُّها ... لا تُحسن النعمي إلى أمثالي
نعماك لا تعدوك إلا في امرئ ... في سلك مثلك من ذوي الأشكال
وإذا نظرت إلى صنيعك لم تجد ... أحداً سموت به إلى الإفضال
فاسلم لغير سلامة ترجى لها ... إلا لسدّك خلة الأَنذال

قال: فبلَّغ عبد الرحمن بنُ عبيد الله بن عائشة الأبياتَ لأحمد، فبعث إلى أبي الأسدِ ببرٍّ واسْتَكَفَّه. وبعث ابن عائشة على مظالم ما سَبذَان، وقال له: قد شركت أبا الأسد في التوبيخ لنا، فشر كناك معه في الصنيعة، فإِن كنتما صادقين كنتما من الأنذال وإن كنتما كاذبين، فقد جازيتكما عن القبيح حسناً. قال وكان سبب هجائه له أنه مدحه فلم يثبه، ووعده فلم ينجز له، فكتب إليه:
ليتك أدنيتني بواحدة ... تَنْفَعُنِي منك آخر الأَبدِ
تحلف أن لا تبرّني أبداً ... فإنَّ بها برداً علي الكبد
اشْفِ فؤادي مني فإن به ... جرحاً أنا نكأته بيدي
إن كان رزقي لديك فارم به ... في ما ضِغَى حيَّة على رصد
قد عشت دهراً وما أُقَدِّر أن ... أرضى بما قد رضيتُ من أحد
لو كنت حراً كما زعمت أنت وقد ... كَددتني بالمطال لم أعد
صبراً لما قد أسأت بي فإذا ... عُدتُ إلى مثلها فَعُد وَعُدِ
وقال ابن النديم: كان من كبار المعتزلة ممن جرد في إظهار المذهب والذَّب عن أهله، والعناية به. وهو من صنائع يحيى بن أَكْثَم، وهو الذي وصله بالمأمون ثم اتصل بالمعتصم، فكان لا يقطع أمراً دونه، ولم يُر في أبناء جنسه أكرم منه، ولا أنبل ولا أسخى. وكان ابنه أبو الوليد يخلفه في الحكم، وكان حنفيّاً.
وقال أبو تمام يمدح ابن أبي دُوَاد:
لقد أنست مساوئ كلِّ دهر ... محاسنُ أحمدَ بن أبي دواد
وما سافرتُ في الآفاق إلا ... ومن جَدواك راحلتي وزَادي
مُقيمُ الظَّن عندك، والأماني ... وإن قَلِقَتْ ركابي في البلاد
ومما هُجِي به قولُ أبي الحجَّاج الأعرابي:
نكستَ الدين يا ابن أبي دُوَاد ... فأصبح مَن أطاعك في ارتدادِ
زعمتَ كلام ربِّ الناس خَلْقاً ... أمالكَ عند رَبِّك من مَعَاد؟
كلامُ الله أنزلَه بِعِلم ... وأرسلَه إلى خَيْر العِبَاد
ومَن أمسى ببابك مُسْتضيفاً ... كمَن حلّ الفَلاةَ بغير زَاد
لقد ظَرَّفت يا ابن أبي داود ... بزعمك أنني رجلٌ إيادي
وقال أبو بكر الخلال في كتاب السنة: حدثنا الحسن بن ثَوَاب المُخَرَّمِي قال: سألت أحمد بن حنبل، عن أحمد بن أبي دواد، فقال: كافر بالله العظيم. وحدثنا عبد الله بن أحمد بن محمد بن حنبل، حدثني أبي قال: سمعت بشر ابن الوليد يقول: استُتيب أحمد بن أبي دُوَاد من القول بخلق القرآن ثلاث مرات، يتوب ثم يرجع. وحدثنا محمد بن أبي هارون، حدثنا إسحاق بن إبراهيم بن هانئ، قال: حضرت العيد مع أحمد بن حنبل، فإذا بقاصٍّ يقول: عَلي ابن أبي دُوَاد لعنةُ الله، وَحَشَا الله قبرَه ناراً، فقال أحمد بن حنبل: ما أنفعهم للعامة.
وقال أبو الهذيل العلاّف: دخلت على القاضي ابن أبي دُوَاد، ومروان بن أبي حفصة ينشده:
فقل للفاخرين على نزارٍ ... ومنها خِنْدفٌ وبنو إيادِ
رسول الله والخلفاء منّا ... ومنّا أحمد بن أبي دُوَاد
فقال لي: كيف تسمع يا أبا الهذيل؟ فقلت: هو يضع الهناء موضع النًّقْب.
ولما سمع أبو هفَّان شعر مروان، ناقضه فقال:
فقل للفاخرين على نزارٍ ... وهم في الأرض ساداتُ العبادِ
رسولُ الله والخلفاءُ منا ... ونبرأ من دَعِي بني إيادِ
وما منا إيادٌ إن أقرت ... بدعوة أحمد بن أبي دوادِ
فلما بلغ الخبر أحمد بن أبي دُوَاد قال: ما بلغ مني أحد ما بلغ مني هذا الغلام، ولولا أني أكره أن أنبه عليه لعاقبته، جاء إلى مَنقبةٍ لي فَنقضها عُروة عُروة.
وذكر أبو بكر بن دريد في فوائده قال: قال الحسن بن الخضر: كان ابن أبي دُوَاد مَأْلفاً لأهل الأدب من أي بلد كانوا، وكان قد ضم إليه جماعة منهم، فلما مات اجتمع ببابه من حضر منهم، فقالوا: يدفن من كان على ساقة الكرم، وتاريخ الأدب، ولا يتكلم بما فيه؟ إن هذا لعجز وتقصير. فلما طلع سريره قام ثلاثة منهم، فقال الأول:

الآن مات نظام الفهم واللسّنِ ... ومن به كان يُسْتَعْدَى على الزمنِ
وَأَظْلَمَتْ سبل الآداب إذْ حُجِبَتْ ... شمس المكارم في غَيْم من الكَفَن
وقال الثاني:
ترك المنَابِرَ والسريرَ تواضعاً ... وله منابُر لو يَشَا وسريرُ
ولغيره يُجبَى الخراجُ وإنما ... تُجْبي إليه مَحَامدٌ وأُجورُ
وقال الثالث:
وليس نسيم المسك ريح حَنْوطه ... ولكنه ذاك الثناءُ المخلَّفُ
وليس صَرير النعش ما تسمعونه ... ولكنه أصلابُ قوم تقصفُ
وقال الصّولي: حدثنا المغيرة بن محمد المهلَّبي، قال: مات أبو الوليد محمد ابن أحمد ابن أبي دُوَاد هو وأبوه منكوبين، مات الابن في ذي الحجة سنة تسع وثلاثين، ومات الأب لتسع بقين من المحرم سنة أربعين ومائتين.
أحمد بن عبد الله بن إسحاق الحريري. ذكر ابن زولاق أنه ولي قضاء القضاة ببغداد، عوضاً عن محمد بن الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب وأ ضيف إليه قضاء الشام ومصر فانعزل بعزل ابن أي الشوارب نوابه ومنهم قاضي مصر. فكتب الحريري إلى الحسين بن عيسى بن هَرَوان الرَّملي، بقضاء مصر. فقبل الحسين ذلك، وأرسل إلى محمد بن بدر بأن يتسلم العلم من ابن أخت وليد نائبه بمصر، ويصرف عبد الله بن أحمد بن أخت وليد.
قلت: وأحمد بن عبد الله بن إسحاق هذا ذكره...
أحمد بن عبد الله بن مُسلم بن قُتْيَبة بن مسلم الدِّيَنَوَرِيّ، أبو جعفر ابن أبي محمد ولد ببغداد وسمع من أبيه، وحفظ تصانيفه كلها. روى عنه أبو الفتح المراغي النحوي، وعبد الرحمن بن إسحاق الزَّجَّاجي، وأحمد بن محمد بن الحسن بن الغريب، وأبو الحسين المهلبي وآخرون. وولي قضاء مصر خليفة لمحمد بن الحسن بن أبي الشوارب.
وكان ابن أبي الشوارب أرسل إلى أبي بكر بن الحداد لينوب عنه. وكان المَاذَرَائي منحرفاً يومئذ عنه، فلم يمض أمره. فاستخلف ابن أبي الشوارب أبا جعفر بن قتيبة. وكان دخوله إلى مصر في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة. وركب إلى الجامع في السَّواد، فثار عليه العامة، فرجموه ومزقوا سواده. ثم ركب بعد ذلك في جماعة من أهل العلم، فحكم بين الناس. واستكتب ابنه عبد الواحد وتولى محمد بن بدر القيام بأمره. فاكترى له داراً سكنها، ودخل عليه أصحاب الحديث يسألونه أن يحدثهم، فقال: ما معي إلا كتب أبي، وأنا أحفظها. فإن شئتم سردتها عليكم. وكان يحفظها كما يحفظ السورة من القرآن.
ويقال: إن والده حفَّظها له في اللوح، وهي واحد وعشرون كتاباً، وهي مُشكل القرآن، ومعاني القرآن، وغريب الحديث، واختلاف الحديث، وعيون الأخبار، والمعارف، والتعبير والأشربة، والأنواء، وطبقات الشعراءِ، وكتاب العرب والعجم، وإصلاح اللفظ، وأدب الكاتب، ومعاني الشعر، والأبنية، والقراءات، والمسائل في النحو، وكتاب في الفقه.
فلما عرف الناس ذلك قصدوه، وصار مجلسه غاصاً بفنون الناس، ممن يطلب العلوم والآداب، وقصده أبو جعفر بن النحاس، وأحمد بن محمد بن ولاد، وأبو عاصم المظفر بن أحمد، ووجوه البلد.
قال ابن زولاق: وكان أبو بكر أحمد بن مروان الدينوري، يعني صاحب المجالسة، قدم إلى مصر قديماً، فحدث بكتاب ابن قتيبة عنه في جملة ما حدث به. ثم سافر إلى أسوان قاضياً، فأقام بها طويلاً. فلما ولي ابن قتيبة القضاء، كتب إليه أبو الذكر، وإني خاطبت القاضي، فوعدني بإنفاذ العهد إليك. ثم بلغه أنك حدثت بكتب أبيه عنه. فقال: أنا أعرف كل من كتب عن أبي، فليذكر لي علامة أعرفها. قال: فكتب إليه بعلامات فعرفها. قال ابن مروان: سخّمت وجه فيها. قال: فكتب إلي ما عرفتك فاعذرني، وأسند له العهد.
وكان من جملة كتاب ابن مروان: (أعرفه في حياة أبيه صبياً، ويمشي حافياً، ويلعب بالحمام مع العيارين).
فباشر ابن قتيبة القضاء ثلاثة أشهر، وقيل أربعة وسبعين يوماً. ثم صرف بعزل ابن أبي الشوارب، وأعيد أبو عثمان بن حماد. وعاش ابن قتيبة بعد ذلك حتى توفي بمصر في شهر ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. وأرخه مسلمة بن قاسم في سابع الشهر المذكور. وفيها أرخه ابن يونس. لكن وقع في كلامه أنه مات وهو قاض. وقول ابن زولاق أولى.

وقال ابن زولاق في سيرة جوهر: دخل أبو أحمد عبد الواحد بن أحمد بن عبد الله بن قتيبة على جوهر، فقال: أنا وليد ابن قتيبة. فأجابه وهو واقف بين يديه، أي شيء يكون المصنِّف منك؟ قال جدي. قال كم كتبه؟ قال: واحد وعشرون كتاباً. فقال جوهر: أو أكثر بقليل، وأمره بالجلوس. ثم التفت إلى الحاضرين فقال: كان أبو جعفر البغدادي، كتَب كُتُب ابن قتيبة، وكان يفتخر بها. فورد على المهدي الخبرُ أن ابن قتيبة ولي قضاء مصر، فقال لأبي جعفر: يهنيك قد ولي ابن أستاذك القضاء فقال: ما يجيء منه شيء. فما كان إلا بعد مدة يسيرة، حتى جاء الخبر بأنه صرف بعد ثلاثة أشهر. فقال أبو جعفر: ألم أقل لك يا أمير المؤمنين؟ وهذا هو المعتمد في مدة ولايته.
وأما أبو سعيد بن يونس فقال: قدم مصر على القضاء في سنة إحدى وعشرين ومات بمصر، وهو على القضاء، في ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين.
ويمكن الجمع بأنه وُلي في ذي الحجة مثلاً، فكانت مدته إلى أن مات ثلاثة أشهر أو تزيد أياماً قلائل.
وذكره أبو نعيم في تاريخ أصبهان. فقال: قدم أصبهان، وحدث بها عن أبيه، حدثنا عنه أبو مسلم محمد بن مَعْمَر. ثم ساق عنه حديثاً.
وقال يوسف بن يعقوب بن خُرَّزاذ: حدّث بكتب أبيه مصر كلها حفظاً، ولم يكن معه كتاب.
وقال ياقوت في معجم الأدباء: لم يكن معه شيء من الكتب، وحَدَّث من حفظه. قاله أبو الحسين المهلبي.
وصرف عن القضاء في أواخر ذي القعدة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وكانت وفاته بعد أن صرف عن القضاء بقليل في شهر ربيع الأول.
وقال أبو سعيد بن يونس: مات وهو على القضاء سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة. ونقله ابن خلكان في ترجمة والده.
أحمد بن عبد الله بن.. الكِشِّي بكسر الكاف، ويجوز فتحها وتشديد المعجمة. أبو الفضل العَمِّي ولي القضاء بمصر مجرداً من الأحباس والمظالم، وتوليه نواب البلاد بالديار المصرية في ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة، نيابة عن الحسين بن عيسى بن هَرَوان. وكانت مدة ولاية هذا الكشي ثلاثة أشهر. وكان حنفي المذهب يتفقه ويناظر.
قال ابن زولاق: وكانت في لسانه عُجمة. وكان قدومه إلى مصر في ولاية محمد بن بدر القضاء، فكلموه فيه ليصرفه. فأمره أن يؤدب ابنه، فأنف من ذلك. فسعى له عبد الله بن الوليد عند الحسين بن عيسى بن هروان، فقلّده قضاء الرملة ثم لما استقل الحسين بقضاء مصر، أرسله هو وبكران الحكم بمصر.
فولى هو قضاء مصر مجرداً كما ذكرنا. وولي بكران النظر في الأحباس والمظالم، وتولية ولاة النواحي. ثم صرفا جميعاً كما سنذكره في ترجمة بكران في حرف العين المهملة، لأن اسمه عتيق بن الحسن.
ولما صرف أبو الفضل عن قضاء مصر رجع إلى الرملة فناب في الحكم بها عن ابن هروان على عادته.
أحمد بن عبد الله بن.. النِّحْرِيري المالكي من المائة التاسعة. ولاّه الملك الظاهر برقوق القضاء بالديار المصرية، على مذهب مالك، بعد صرف الذي كان قبله وهو الركراكي. وذلك في يوم الاثنين سابع عشري المحرم سنة أربع وتسعين وسبعمائة بعد أن خلا المنصب من رابع عشر شوال من السنة التي قبلها، ثلاثة أشهر ونصفاً.
وكان قدم القاهرة قديماً فقطنها، واشتغل على جماعة من علمائها، وأتقن العربية، واشتغل فيها مدة، وكان فقيراً جداً.

قرأت بخط العدل جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي، مُوقّع الحكم ما ملخصه: كان من فقهاء المالكية، وله اشتغال قديم، وَكَانَ قصير ذات اليد، فاستعان بالقاضي شمس الدين الرَّكْرَاكِي، حتى ساعده على ولاية القضاء بطرابلس، فأقام فيها سنوات، وحصل فيها مالاً جزيلاً، وكان يتعانى لبس الصوف القُبرصي، بحيث كان يتغالى في ذلك، فلا يلبس منه إلا ما يستعمل له بالعناية والرعاية. فاتفقت له كائنة بطرابلس، اطلع فهيا مِنْطَاش، وهو يومئذ مدبر المملكة، على أنه أقدم فيها على مالاً ينبغي. فأهانه وضربه بالسياط، وصرفه أقبح صرف وسجنه. فلما خرج الظاهر من سجن الكَرَك وانكسر منطاش، أفرج عنه. وقدم القاهرة، فسعى في قضاء الإسكندرية، فوليه قليلاً، وأخرج منه أقبح من الأول. فرجع إلى القاهرة فلازم الركراكي إلى أن خرج مع السلطان إلى الشام، فمات بحمص، كما سيأتي في ترجمته فبلغه موته، فرحل إلى الشام، فلاقى السلطان راجعاً، فسعى عند بعض أهل الدولة بمال، فكلم له السلطان، فقرره مكان الركراكي. فكانت من الفعلات المستهجنة، لما سبق له في قضاء البلدين من القبيح.
قال جمال الدين: وكان قبيح الفعل والصفة، مشوّة الخِلْقة والمنطق، مبغضاً إلى رفقته ومن دونهم، من وجوه البلد وأعيانها وعَوامِّها. فحضر يوماً مجلساً عند السلطان، فتكلم بجفاء وسوء أدب، فأقيم ثم عزل بعد أيام. فكانت ولايته عشرة اشهر. وأقام بالقاهرة خاملاً، إلى أن مات في تاسع شهر رجب سنة ثلاث وثمانمائة.
أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، أبو علي من المائة الخامسة الذي كان أبوه ولي القضاء بعد انقراض آل النعمان القيرواني، كما سيأتي في ترجمة قاسم بن عبد العزيز بن النعمان في حرف القاف إن شاء الله تعالى. وكانت ولايته بعد قتل الوزير الناصر للدين أبي محمد اليَازُوري في ثالث عشري صفر سنة خمسين وأربعمائة من خلافة المستنصر. وخلع عليه وقرىء سجل ولايته بالقاهرة، ثم مصر. فباشرها إلى أن صرف في تاسع ذي القعدة منها. ثم أعيد إليها في رابع شهر ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وصرف عنها لأربع خلون من شهر رجب من هذه السنة.
وكانت ولايته الثانية ثلاثة أشهر وعشرين يوماً. ثم أعيد إلى القضاء في رابع المحرم سنة أربع وخمسين وصرف بعد عشرة أيام.
كذا قرأت بخط بعض من صنَّف في القضاة. لكن قرأت بخط شيخ شيوخنا الحافظ قطب الدين الحلبي، أن ولايته هذه كانت ثمانية عشر يوماً. وذكر أنه نقله من كتاب القضاة لسليمان بن علي بن عبد السميع العباسي.
وقد وقفت على كتاب سليمان فقال: كانت ولايته الثالثة في ثالث المحرم مضافة إلى الوزراء والدعوة، فاستخلف على الأحكام أبا محمد العليمي بمصر، والمشرف بن محمد بن جعفر أبا عبد الله الموسوي بالقاهرة. وصرف في الثاني والعشرين من الشهر المذكور. وبقيت البلد بغير قاض إلى رابع صفر منها. ثم ولي الوزارة والقضاء للمرة الرابعة في العشر الأخير من المحرم سنة أربع وخمسين، ولقب فخر الوزارة والقضاء للمرة الرابعة في العشر الأخير من المحرم سنة أربع وخمسين، ولقب فخر الوزراء، قاضي القضاة، الوزير الأجل، داعي الدعاة، علم الدين، ثقة المسلمين، خليل أمير المؤمنين وخالصته. واستخلف في هذه المرة على مصر الموسوي المذكور، وعلى القاهرة أبا منصور يحيى بن الحسين بن القاسم الحسني الكوفي، فاستمر إلى ربيع الأول سنة خمس وخمسين. فصرف عن القضاء والوزارة جميعاً. فولي القضاء أربع مرات. ومدته في جميعها نحو السنة الواحدة.
قال أبو القاسم ابن منجب ابن الصيرفي في كتاب الوزراء له: كان ديّناً مأموناً محققاً مشكور السيرة. قال: ولما طال عليه الأمر في البطالة، وساءت حاله بسبب ترك التصرف، بعد أن كان يتنقل في المناصب والخِدَم سأل الفسح له في المسير إلى بيت المقدس. فأذن له، فتحول إليه ومات بالشام في سنة ست وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الله بن أبي عقيل، القاضي الأعز. من المائة السادسة، الفقيه الشافعي. أخذ عن الشيخ نصر بن إبراهيم المقدسي وغيره. وحدّث. روى عنه أبو الحسن بن موسى بن أبي بكر بن عبد الرزاق بن الحسين بن مسافر وغيره.

وكانت ولايته على القضاء بعد عزل سناء الملك محمد بن هبة الله بن ميسّر وذلك في المحرم سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. ومات وهو على القضاء في شعبان سنة ثلاث وثلاثين. وأقام الحكم بعده شاغراً ثلاثة أشهر. فعين الشيخ أبو العباس أحمد بن الحُطَيْئَة لما كان فيه من العلم والورع. فاشترط عليه فَعَين الوزيرُ رضوان أبا عبد الله محمد بن عبد المولى بن محمد اللخمي لعقود الأنكحة في مدة الشغور، إلى أن استقر فخر الأمناء هبة الله بن حسين الأنصاري.
ولما مات ابن أبي عقيل رثاه بعض الشعراء بقصيدة أولها:
هو الدهرُ للخطب المُبَرِّحِ يخطب ... ويندب للأمر الذي منه يندب
يقول فيها
بنَفْسِي من أهدى الزمانُ بقاءه ... وعاد لما أهدى يَهدُّ ويسلُب
وما أحد يخفي عليه قضاؤُه ... فيرجو ولكن البقاء محبب
مَواعده برق لراجيه خُلَّب ... فلا تك ممن بالمطامع يخُلَب
أحمد بن عبد الرحيم بن الحسين بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن أبي بكر بن إبراهيم الكردي الأصل، المهراني، المعروف بابن العراقي، الحافظ الإمام قاضي القضاة بالديار المصرية، ولي الدين أبو زُرْعَة ابن الحافظ الكبير، إمام الحافظ، وأستاذ المحدثين، أبي الفضل، من المائة التاسعة.
ولد في شهر ذي القعدة سنة اثنتين وستين وسبعمائة. وبكر به أبوه فأحضره علي أبي الحَرَم القَلانِسّي. واستجاز له من العُرْضِي. ورحل به إلى الشام سنة خمس وستين فأدرك جماعة من مسندى دمشق ممن يروى عن الفخر ابن البخاري وغيره. ثم رجع به فحفظ القرآن وعدة مختصرات في الفنون. ونشأ يقظاً وأسمعه أبوه الكثير ثم طلب هو بنفسه، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره.
ثم رحل بنفسه إلى الشام ثانية، فسمع الكثير بقراءته وقراءة غيره، من أصحاب القاضي تقي الدين، وابن الشيرازي، والقاسم بن المظفر، والمطعّم وغيرهم. وسمع قبل ذلك من جمال الدين ابن نُبَاتَة، والبَيَاني وغيرهما. وتردد إلى حلقة الشيخ جمال الدين الإسنوي وغيره. ومهر في عدة فنون واشتغل فيها وهو شاب. ونشأ على طريقة حسنة من الصيانة، الديانة والأمانة والعفة، مع طلاقة الوجه وحسن الصورة، وطيب النَّغْمَة، وضيق الحال، وكثرة العيال، إلى أن اشتهر أمره، وطار ذكره.
ولما مات والده تقرر في مناصبه الجليلة، فزادت رياسته. وناب في الحكم قديماً في حدود التسعين. وأجيز بالفتوى والتدريس قديما. ودرس في عدة أماكن في حياة والده ومشايخه. ثم أقبل على الفقه، فقسم الروضة بين أربعة أنفس ممن يلازمه، واستمر على ذلك مدة طويلة. وصنَّف في الفنون الحديثة عدة تصانيف. وأكمل شرح تقرب الأسانيد لأبيه فأجاد فيه. وشرع في شرح مطول لسنن أبي داود، لو كمل كان قدر ثلاثين مجلدة، بل يزيد. وجمع النكت على المختصرات الثلاثة: التنبيه، والحاوي، والمنهاج. فزاد فيها على من تقدمه ممن عمل تصحيح التنبيه وكذا المنهاج، وكذا الحاوي. فإنه جمع بين تصانيفهم وبين ما استفاده من حاشية الروضة لشيخنا البُلْقِيني الكبير. وكان قد جردها فجاءت في مجلدين. وجردها قبله الشيخ بدر الدين الزركشي، وقد ملكتها بخطه، لكن كان قبل أن يجردها أبو زرعة بعشرين سنة. فزادت في تلك المدة فوائد جمة. واختصر المهمات للإسنوي، وضم إليه فوائد وزوائد من الحاشية المذكورة. وعقد مجلس الإملاء بعد أن كان انقطع بموت شيخنا والده، من سنة ست وثمانمائة إلى أن شرع هو فيه في سنة عشر. ولم يزل يُملي في كل يوم ثلاثاء، إلى أن مرض المرض الذي توفي فيه، مع ما كان فيه من شغل البال بالدرس والحكم وغير ذلك.
ولما مات القاضي جلال الدين البلقيني استقدمه الملك الظاهر طَطَر، في قضاء الشافعية. فباشر بعفة ونزاهة، وشهامة ومعرفة، وصار يصمم في أمور لا يحتملها أهل الدولة. فتمالئوا عليه إلى أن صرف. فحصل له بذلك قَهرٌ أدَّاه إلى التّلف، ومات مبطوناً شهيداً في يوم الخميس سابع عشري شعبان سنة ست وعشرين وثمانمائة ودفن إلى جانب والده، وكثر الأسف عليه خصوصاً من طلبة العلم.

أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد بن مالك بن سعيد الفارقي، جلال الملك، ويكنى أبا أحمد، وهو ممن يكنى باسم نفسه. ولي القضاء في ثالث عشر المحرم سنة خمس وخمسين وأربعمائة، عوضاً عن الحسن ابن أبي كُدَيْنة. وأضيفت إليه الوزارة عوضاً عن أبي الفرج البابلي. فاستخلف في الحكم أخاه علياً ثم صرف عن القضاء والوزارة في سابع عشر صفر منها. ثم أعيد في رابع ذي الحجة منها إلى القضاء. ثم صرف ثم أعيد بعد أربعة أيام. ثم صرف في النصف من جمادى الآخرة ثم أعيد في سادس عشري صفر سنة ثمان وخمسين. وأضيف إليه الوزارة في رابع جمادى الآخرة منها. ثم صرف من الوزراء بعد أيام. ثم صرف من القضاء في ثامن المحرم، وأعيد في جمادى الأولى. ثم صرف يوم عيد النحر. ثم ولي الوزارة فقط في ثالث عشري صفر سنة إحدى وستين. ونكب عقب ذلك ونفى إلى الشام فمات بها. وكان في هذه المدة اليسيرة يتناوب ولاية القضاء مع ابن أبي كدينة، والوزارة مع جماعة .
ولما ولي في صفر سنة ثمان خمسين وأضيفت إليه الوزارة، دعي بقاضي القضاة الأعظم. ومدحه الشعراء، منهم علي بن بشر الصقلي الشاعر الكاتب المشهور. ثم تناوب الولاية مع عبد الحاكم بن وهيب إلى أن نكب بسبب الوزارة كما تقدم. ومدحه علي بن بشر الصقلي الشاعر المشهور بقصيدة يقول فيها:
هو الملك الندبُ الذي لا إلى الهوى ... يقومُ ولا عن واجب المجد يعقدُ
لقد حارت الأوهامُ فيه وقد عَلاَ ... إلى الغاية القُصوى إلى أين يَصْعَدُ
من النَّفر البيض الذين مديحهم ... على ألسن الأيام غَضٌّ مُمدّدُ
كأنًّهْمْ عقدٌ على جيد عصرهم ... يُفَصَّل منهم لؤلؤٌ وزبرجدُ
إذا ذُكر المحمودُ من كل معشر ... خلالاً وأفعالاً فَأَحمدُ أحمدُ
أحمد بن علي بن محمد بن محمد بن علي بن أحمد العسقلاني الأصل، المصري المولد والمنشأ، نزيل القاهرة. ولد في شعبان، سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة، ومات أبوه في رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة، وماتت أمه قبل ذلك وهو طفل، فنشأ يتيماً. ولم يدخل (الكُتَّاب) حتى أكمل خمس سنين، فأكمل حفظ القرآن وله تسع سنين. ثم لم يتهيأ له أن يصلي بالناس التراويح إلا في سنة خمس وثمانين وسبعمائة، وقد أكمل اثنتي عشرة سنة. وكان وصيّه الرئيس الشهير زكي الدين أبو بكر ابن نور الدين علي الخرُّوبي، كبير التجار بمصر، قد جاور في تلك السنة، واستصحبه معه، إذ لم يكن له من يكفله. وسمع في تلك السنة صحيح البخاري على مسند الحجاز عفيف الدين عبد الله النَّشَاوِرِي خاتمة أصحاب إمام المقام رضي الدين الطبري. ولم يضبط سماعه، لكنه يتحقق أنه لم يسمع الجميع، بل له فيه إجازة شاملة لمروياته. وكان سماعه بقراءة الشيخ شمس الدين محمد بن عمر السَّلاوي الدمشقي، تحت سكن الخروبي في البيت الذي بباب الصفا، على يمنة الخارج إلى الصفا، ويعرف ببيت عيناء وهي الشريفة بنت الشريف عجلان. وبالبيت المذكور شباك يطل على المسجد الحرام ويشاهد من يجلس فيه الكعبة والركن الأسود، فكان المستمع والقارئ يجلسان عند الشباك دون مصطبة تحت الشباك المذكور، وكان يجلس فيها مؤدب صاحب الترجمة ومن يدرس معه. فكان المؤدَّبُ يأمرهم عند قراءة القارئ بالإنصات إلى أن يفرغ حتى ختم الكتاب. لكن كان صاحب الترجمة ربما خرج لقضاء حاجة، ولم يكن هناك ضابط للأسماء. والاعتماد على ذلك كان على الشيخ نجم الدين المرْجَانِيّ فإنه أعلمني بعد دهر طويل بصورة الحال، فاعتمدت عليه وثوقاً به.

وحفظ بعد ذلك كتباً من مختصرات العلوم، ولازم أحد أوصيائه أيضاً وهو الشيخ شمس الدين محمد بن علي بن محمد بن عيسى بن أبي بكر بن القطان المصري، فحضر دروسه. ثم حبب إليه النظر في التواريخ وهو بعد في المكتب، فعلق بذهنه شيء كثير من أحوال الرواة. وفي غضون ذلك، سمع من نجم الدين ابن رَزِين وصالح الدين الزِّفْتَاوي، وزين الدين ابن الشَّيْخَة. ونظر في فنون الأدب من سنة اثنتين وتسعين، ففال الشعر ونظم مدائح نبوية ومقاطيع. ثم اجتمع بحافظ العصر زين الدين العراقي، وذلك في شهر رمضان سنة ست وتسعين، فلازمه عشرة أعوام، وحبب إليه فن الحديث، فما انسلخت تلك السنة حتى خرَّج لشيخه مُسنِد القاهرة أبي إسحاق التَّنُوخِيّ المائة العشاريات.
فكان أول من قرأها في جمع حافل الحافظ أبو زرعة ابن الحافظ العراقي.
ثم رحل إلى الإسكندرية فسمع من مسنديها إذ ذاك. ثم حج ودخل اليمن. فسمع بمكة المدينة وينبع وزبيد وتعز وعَدَن وغيرها من البلاد والقرى.
ولقي باليمن إمام اللغة غير مدافع، مجد الدين ابن الشيرازي. فتناول منه بعض تصنيفه المشهور المسمى: (القاموس في اللغة). ولقي جمعاً من فضلاء تلك البلاد ثم رجع إلى القاهرة. ثم رحل إلى الشام فسمع بقَطْية وغزة والرملة والقدس ودمشق والصالحية وغيرها من القرى والبلاد.
وكانت إقامة بدمشق مائة يوم، ومسموعه في تلك المدة نحو ألف جزء حديثية: منها من الكتب الكبار، المعجم الأوسط للطبراني، ومعرفة الصحابة لأبي عبد الله ابن مَنْدَه، وأكثر مسند أبي يَعْلَى وغير ذلك.
ثم رجع وأكمل كتابه (تَغْليق التعليق) في حياة كبار مشايخه، فكتبوا عليه، ولازم الشيخ سراج الدين البلقيني، إلا أن أذن له. وأذن له بعد إذنه، شيخه الحافظ زين الدين العراقي. ثم أخذ في التصنيف، وأملى الأربعين المتباينة بالشيخونية من سنة ثمان وثمانمائة، ثم أملى من عشاريات الصحابة نحو مائة مجلس في عدة سنين. ثم ولي درس الحديث بالمدرسة الجمالية الجديدة فأملى فيها، ثم قطعه لما تركها في سنة أربع عشرة وثمانمائة. وتشاغل بالتصنيف، ثم ولي مشيخة البيبرسية ثم تدريس الشافعية بالمدرسة المؤيدية الجديدة. ثم ولي القضاء في السابع والعشرين من المحرم سنة سبع وعشرين وثمانمائة. ثم عقد مجلس الإملاء في أوائل صفر منها إلى الآن.
أحمد بن علي بن منصور بن محمد بن محمد بن أبي العز بن صالح ابن وُهَيب الدمشقي شرف الدين أبو العباس الحنفي. من أهل المائة الثامنة. ولد في سنة عشر وسبعمائة تقريباً. وسمع الحديث واشتغل كثيراً ومهر، وأُذِن له في التدريس فدرس وأفتى وأعاد.
طلبه السلطان الملك الأشرف من دمشق فقدم ولم يذكر أمره للسلطان بواسطة بعض أهل الدولة، لغرض له كان في تولية غيره. فلم يوافقه السلطان على ذلك. وتذكر أمر شرف الدين فأمر بإحضاره، فخلع عليه في رابع شهر رجب سنة سبع وسبعين وسبعمائة. فباشر قليلاً ثم ترك، ورجع إلى الشام وذلك في شهر رمضان منها.
وكان صارماً مهيباً نزهاً، قَوَّالاً بالحق، لا يقبل لأحد هدية، ولا يعمل برسالة أحد من أهل الدولة، ولا يراعيهم، فكثرت عليه رسائلهم. فكره الإقامة بينهم وسأل العزل مرة بعد مرة. وكان مع ذلك قامعاً لأهل الظلم، منصفاً للمظلوم، كثير النفع للناس. وكانت مقاصده جميلة وأموره مستقيمة، إلا أنه لا يجد من يعاونه. وكان دمث الأخلاق، طارحاً للتكلف، كثير البِشر، جميل المحاضرة متواضعاً. وكان يباشر صرف الصدقات بنفسه ما بين دراهم وخبز.
وصنَّف مختصراً في الفقه، وأخر في أصول الدين. وصار كثير التبرم بالوظيفة. فاتفق أن حصل للأشرف مرض، فعالجه الأطباء، فما أفاد. فلازمه الجلال جار الله فاتفق أن شفي على يده. فكشر له ذلك، ووعده بتولية القضاء. فبلغ ذلك شرف الدين فعزل نفسه، وأوجب ذلك عنده، أنه سئل في أوقاف أراد بعض أهل الدولة حلها، فألح عليه فأصر وعزل نفسه.

وقرأت بخط صديقنا تقي الدين المقريزي قال: لما مات صدر الدين ابن التُّرْكُمانِي، عين قاضي القضاة ابنهُ جماعة شرفّ الدين ابن منصور المذكور. فخرج البريد بطلبه. فقدم في ثالث عشر ذي الحجة سنة ست وسبعين وسبعمائة، فطلع في يوم الخميس خامس عشرة، فأجلس على باب خزانة الخاص، فخرج طشتمر الدوادار فوجده، فأخذه صحبته إلى منزله، ثم أمره أن يقيم عنده إلى أن يستدعي به. وعين طَشْتَمر الشيخ جلال الدين التِّبّانِيّ، فطلب فامتنع. وأصر على ذلك. فطلب نجم الدين أحمد بن إسماعيل، فقدم في ثامن عشر المحرم سنة سبع وسبعين وسبعمائة، فقرر في القضاء. وكان المنصب شاغراً بعد موت صدر الدين ابن التركماني شهرين ونصف شهر. وكان نجم الدين قاضياً بدمشق، فاستقر عوضه ابن عمه صدر الدين علي بن أبي العز.
وكان لما قدم القاهرة انتصب للإقراء بالمدرسة المنصورية فقرأ عليه جماعة في الفقه وفي أصول الفقه وكانت وفاته بدمشق يوم الاثنين لعشرين من شعبان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة. وكان من محاسن الدهر وقضاة العدل.
أحمد بن عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض، تقي الدين ابن عز الدين المقدسي الحنبلي، كان ربيب الشيخ شمس الدين ابن العماد، حنبلي من المائة الثامنة. ولد سنة.. وسمع من جماعة من مشايخ القطب الحلبي فمن بعدهم. خرَّج له ابن رافع مشيخةً عنهم وحدث بها. قال القطب: سمعت عليه الجزء الثالث منها، بقراءة المخرّج. وتولى المنصب بعد موت سعد الدين الحارثي في ربيع الأول سنة اثنتي عشرة وسبعمائة. قرأت ذلك بخط القطب الحلبي.
واستمر فيه مدة طويلة إلى أن صرف في نصف جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. ويقال أن السبب في عزله أن ولده صدر الدين محمداً، تساهل في بيع الأوقاف، فأفحش في ذلك، حتى قام في إنكار ذلك الأمير بدر الدين جَنْكَلِي ابن البابا، فأعلم السلطان بما يصدر من الصدر المذكور، ومن جمال الدين عبد الله ولد القاضي جلال الدين القزويني، فعزل القاضيين جميعاً.
فأما الجلال فإنه لم ينشب أن ولاه قضاء دمشق، فخرج هو وولده. وأما ابن عوض فتعلق به أصحاب الديون، فوكل به وبولده مدة، حتى صولحوا وأفرج عنهما. واستمر تقي الدين بالقاهرة إلى أن مات في تلك السنة.
وقال الكمال ابن حبيب: تقي وافق اسمه فعله، ووافق علمه فضله. نصر المحق. وعمل الأمر المتسق. ومات سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة.
أحمد بن عيسى بن موسى بن عيسى بن سَلِيم بن سالم بن جميل بن راجح بن كثير بن مظفر بن علي بن عامر القاضي عماد الدين، أبو عيسى العامري الأزرقي المُقَيْري بقاف مصَغَّر الكركي، من المائة الثامنة. ولد بالكرك في شعبان سنة إحدى أو اثنتين وأربعين وسبعمائة واشتغل بها، وحفظ المنهاج، وقرأ على والده وغيره. وكان أبوه من تلامذة الشيخ تقي الدين السبكي. ومات في سنة ثلاث وستين وسبعمائة. ورحل إلى الشام والقاهرة في طلب الحديث. وسمع بمصر من أبي نعيم ابن الإسْعَردي ويوسف بن محمد الدَّلاصي في آخرين، تجمعهم مشيخته التي خرّجها له أبو زرعة ابن شيخنا العراقي، وسمعتها عليه لما حدّث بها بعد صرفه من القضاء.
وقد حدث هو قبل ذلك ببلده بعد الثمانين. وولي قضاء الكرك بعد والده وعظم قدره، وأحبه أهل بلده حتى كانوا لا يفعلون شيئاً إلا مشورته، ولا يصدرون إلا عن رأيه. ومن كَرِه إقامته من النواب وغيرهم، أثار عليه العامة حتى يرحل هو البلد. وولي أخوه علاءُ الدين كتابة السر بها، فصار مدارها عليهم. ودخل القاهرة مراراً، منها في سنة اثنتين وسبعين وسبعمائة. فلما سُجن الملك الظاهر برقوق بالكرك خَدَمه. فلما تمكن وعادّ إلى السلطنة، قرر علاء الدين في كتابة السر بالقاهرة عوضاً عن ابن فضل الله، وعماد الدين في القضاء، عوضاً عن بدر الدين ابن أبي البقاء.
ولما ولي العماد القضاء باشر بصرامة، وإنفاذ للحق، وحكم بالعدل، وعدم التفات لشفاعة أحد، أو رسالة كبير أو صغير. وكان ممسكاً في بذلك المال، سمحاً بالوظائف، فاستكثر من النواب وخصوصاً أولاد العلماء، فاستناب ولد شيخنا ابن الملقَّن، وولد شيخنا العراقي، وولد شهاب الدين العُرْياني، وولد فلان وفلان. حتى صار بعض الناس يقول: هذه دولة الأبناء.

وكان بالكرك فقير مغربي يقال له أبو عبد الله الركراكي، وكان يعادي القاضي، فقدم على برقوق فعرَفه، لأنه كان يلازمه بالكرك ويتروَّج عليه بالزهادة والدعاء ونحو ذلك. فلم يزل يغري السلطان بالعماد حتى صرفه عن القضاء، في ثاني المحرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة.
ولما صرف من القضاء واستقر الصدر المناوي أبقى السلطانُ مع العماد تدريس المدرسة الصلاحية بجوار الشافعي، وتدريس الحديث بالجامع الطولوني. ونظر الصالح بجوار البيمارستان والتدريس الصالحي المذكر بالقبة، فاقتنع بذلك، وانجمع عن الناس، وأقبل على العبادة.
وكان يستحضر المنهاج. وهو أول من كتب له عن السلطان (الجناب العالي)، وذلك بعناية أخيه صاحب ديوان الإنشاء. فاستمرت لمن ولي القضاء بعده.
وكان إذ هو ببلده موصوفاً بالعفة والحرمة. ذكر لي الشيخ تقي الدين المقريزي. أنه سمعه يحلف - وكان بجواره - أنه لم يتناول في طول ولايته القضاء بالكرك وبالديار المصرية رشوة، ولا تعمد الحكم بشيء باطل.
قرأت بخط الجمال البشبيشي: كان عفيفاً خيراً، عديم الغرض في أمور الدنيا، صِفراً من العلوم. وكان يوصف بالكِبْر المفرط والتعاظم، وما أظنه كان يقصد بذلك إلا عدم مداخلة الناس ليتستر بذلك عن وقوفهم على مرتبته في العلم، فيستر ذلك بذلك، وإلا فلقد كان ديناً.
ولما أراد السلطان السفر إلى الشام، طلب منه مالاً يقرضه من المودع الحكمي، فما أعاد عليه جواباً، ثم عاد في المجلس الآخر، فاخرج من كُمه مصحفاً، وقال مخاطباً للسلطان: سألتك بالله مُنزل هذا القرآن لا تتعرض لمال الأيتام. وإن كان لابد من ذلك، فهذا المنصب يوليه السلطان لمن شاء! فسكت عنه.
ثم لما عاد من السفر حصل بينه وبين الدوادار الكبير منازعة بسبب قضية تتعلق به، لم يقبل فيها شفاعة. فسعى فيه حتى صرف في سادس عشرين ذي الحجة سنة أربع وتسعين. واستمر بَطالاً إلى أن رحل إلى خطابة المسجد الأقصى.
وقرأت بخطه أيضاً: ولي الخطابة وتدريس الصلاحية، والإمامة في سابع عشر رجب سنة تسع وتسعين، فسار إليها، وباشر منجمعاً عن الناس، مقبلاً على عبادته، فإنه كان يلازم قيام الليل، ويواظف على التلاوة، ويسرد الصيام، مع العبد عما يشين دينه.
قال: ولقد لزمته فما رأيت منه ما يعاب، سوى شدة الاحتجاب أيام ولايته القضاء، ومُقَيْرَة التي نسب إليها: بلد صغير من أعمال الكَرَك.
قلت: وهو جد صاحبنا الحافظ تاج الدين ابن الغرابيلي لأمه.
ثم لما شغرت خطابة القدس في سنة تسع وتسعين وسبعمائة طلبها من السلطان فأجابه، وضم إليه تدريس الصلاحية بالقدس. فتوجه إلى القدس. فباشرهما إلى أن مات في شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانمائة.
أحمد بن قاسم بن زيد الصِّقِلّي، القاضي الرشيد، الملقب عماد الأحكام، من المائة السادسة.
قرأت في كتاب جنان الجنان لابن الزبير: كان أحمد بن القاسم قاضي القضاة بمصر في أيام الأفضل ابن أمير الجيوش، فدخل عليه يوماً وبين يديه دواة عاج، مكللة بالمرجان، فأنشده بديهاً:
أُلينَ لداودَ الحديدُ كرامةً ... يُقدَّره في السَّرْد كيف يُريدُ
ولاَنَ لك المرجانُ وهو حجارةٌ ... على أنه صَعب المراس شديدُ
قال: وكان قد أجرى الماء إلى قرافة مصر، فكتب إليه يسأله أن يجري الماء إلى داره:
أيا مولَى الأنَام بلا احتشامِ ... وسَيِّدهم على رَغم الحسودِ
لعبدك بالقَرافة دار نُزلٍ ... لموجود الحياة أو الفقيدِ
لموجودٍ يعيشُ بها لوقت ... ومفقودٍ يواري في الصَّعيدِ
وفي أرجائها شَجر نضيدٌ ... بهيُّ الحسن من وَرَقٍ وعودِ
قال: وله قصيدة عارض بها الشريف الرضى أولها:
إنْ لم أزُرْكِ ولم أقنع برؤياكِ ... فللفؤاد طَوافٌ حول مَغْنَاكِ
يا ظبيةً ظَلتُ في أشراكها عَلِقاً ... يوم الوداع ولم تعلَق بأشراكي
رعيتِ قلبي وما راعيتِ حُرمته ... يا هذه كيف ما راعيت مَرْعَاكِ!
أتحرقينَ فؤاداً قد حللتِ به ... بنار حبك قهراً وهو مَأْوَاكِ!
وقال العماد الكاتب في الخريدة..

وقرأت بخط القطب الحلبي في تاريخ مصر أنه قرأ بخط الحافظ جمال الدين اليغموري قال: أحمد بن قاسم بن زيد الصقلي، كان من الطارئين على مصر، انتهى.
وسماه ابن ميسر، في قضاة مصر محمداً، ووافق على اسم أبيه وجده، ثم تردد في أنه أحمد أو محمد. فقرأت في تاريخه في حوادث سنة ست وعشرين وخمسمائة، أن قاسم ابن القاضي الرشيد أبي عبد الله محمد، ويقال أحمد بن قاسم الصقلي مات فيها. وكان أبوه قاضي مصر، ويقال كان يكنى أبا علي، وكان قدومه من صقلية إلى مصر سنة خمسمائة.
وكانت ولايته بعد صرف القاضي الجَليس نِعْمة بن بشير، وذلك بعد موت المستعلي الخليفة. وسماه غيره علي بن محمد بن قاسم، وقيل محمد بن عبد الله ابن قاسم. ولم يزد ابن دانيال في تسميته في نظمه علي الصقلي. فيغلب على الظن أنه أحمد بن قاسم. وأن محمد بن أحمد بن قاسم ولده، وأن ذلك سبب الاشتباه، وأن مَن سمَّاه علياً التبس عليه بكنيته فإنه أبو علي.
أحمد بن القاسم بن أبي المنهال التونسي، أبو طالب، إسماعيلي من المائة الرابعة. قال ابن زولاق: استدعاه الوزير ابن كِلِّس - وكان قاضي تونس - منها. فرد إليه أمر المظالم بمصر وأعمالها، وكتب له بذلك سجلاً عن العزيز. وأذن له فيه في الحكم، وسماه القاضي. وأطراه فيه ومدحه. وقرأ سجله بحضرة الوزير. فنظر في المظالم وفي كثير من الأحكام. ذكر ذلك في ترجمه علي بن النعمان قال: وكان الوزير يعاكسه في أموره، وعلي يصبر عليه. كان أبو طالب المذكور على مذهب الإسماعيلية أيضاً، ولم يذكره مَن صنَّف في قضاة مصر، لكن تفويض الحكم إليه عن غير نيابة من ابن النعمان يقتضي أن يذكر. فلا مانع عندهم من تولية قاضيين في البلد الواحد. وما عرفت من أخبار ابن المنهال هذا شيئاً إلا ما ذكرته.
أحمد بن محمد بن بدر، أبو العباس بن أبي بكر.. روى عن الحسين بن محمد بن داود المعروف بمأمون، وعبد الرحمن بن أحمد الرشدِيني وغيرهما. روى عنه أبو عمرو الداني المقرئ، ومحمد بن الحسين بن بقاء، وعلي بن صالح الروذباري، وأبو ذرّ الهروي، وقال: لا بأس به، وأحمد بن بابشاذ وآخرون.
ووقع لنا حديثه متصلاً بالسماع في مشيخة أبي عبد الله الرازي في ترجمة الحسين بن أحمد بن الحسين الحاسب، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن محمد ابن بدر القاضي، حدثنا عبد الله بن أحمد بن زَبْر قرأت بخط القطب الحلبي، قال ابن ميسر: كان أبو العباس قاضي مصر، لزم بيته بعد أن صرف، وحدث فسمع منه جماعة. ذكر ذلك المسبحي وكانت وفاته سنة أربعمائة.
قلت: ولم أعرف الوقت الذي ولي فيه، ولا ذكر في نظم ابن دانيال، والمسبحي من أعرف الناس بالمصريين لا سيما من عاصره.
ويجوز أن يكون وصف بالقاضي، لكونه ناب عن بعض القضاة، كما وقع للقضاعي، أو خَلَفَ.
وكان ابن ميسر يقتضي أنه مات وهو غير قاض، والوقت الذي مات فيه كان القاضي فيه مالك بن سعيد الفارقي.
وكانت ولايته بعد عزل عبد العزيز بن محمد بن النعمان في رجب سنة ثمان وتسعين.
وكانت ولاية عبد العزيز في رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة.
وكانت ولايته بعد ابن عمه الحسين بن علي بن النعمان في صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة.
نعم لما مات محمد بن النعمان عم الحسين هذا، بقيت مصر بغير قاض نحو عشرين يوماً، إلى أن ولي الحسين هذا. فلعل أبا العباس المذكور كان أذن له في تعاطي الأحكام إلى أن استقر الحسين، كما سيأتي بسط هذا في الذي بعده، ولعله هو، وذِكْر بدر في نسبه سهو أو تحريف.
أحمد بن محمد بن عبد الله بن محمد بن أحمد بن يحيى بن الحارث بن أبي العوام السعدي، الفقيه الحنفي، أبو العباس من المائة الخامسة.

ولي القضاء بمصر في جمادى الآخرة، وقيل في شعبان سنة خمس وأربعمائة وهو الصحيح. وكان ذلك في يوم السبت لعشرين منه، بعد قتل مالك بن سعيد الفارقي القاضي بشهرين أو ثلاثة، فإن قتله كان في ربيع الآخر، وبقيت مصر بغير قاض هذه المدة. وكان يتوسط فيها بين الناس أبو يوسف يعقوب بن إسحاق، وأبو منصور المحتسب. وكان من يتطلع إلى القضاء جماعة، لكنهم في فَزَع مِمَّا جرى منهم ليعقوب بن إسحاق، وسليمان بن رستم، وسليمان بن النعمان، وأخوه القاسم، ومن يجري مجراهم. وصاروا يلازمون موكب الحكام بخلاف أبي العباس المذكور، فإنه لزم داره. وكان ينظر في الفروض في أيام مالك بن سعيد ويُشهد، ولكنه لم يسأل الحاكم قط أن يكون في جملة من يدخله عليه، ولا أن يتعرف به.
وكان قد قدم مصر رجل مكفوف يقال له أبو الفضل جعفر، من أهل العلم بالنحو واللغة والغريب، قدم على الحاكم، فأعجب به وخلع عليه وأقطعه إقطاعاً، ولقبه عالم العلماء، وجعله يجلس في دار العلم التي أنشأها لتدريس اللغة والنحو، فخلا به الحاكم فجعل يسأله عن الناس واحداً واحداً، من يصلح منهم للقضاء. وكان الحاكم عارفاً بهم. وإنما أراد أن ينظر مبلغ علمه. فلم يزل يذكر حتى وقع الاختيار على أبي العباس، فقيل للحاكم ليس هو على مذهبك، ولا على مذهب من سلف من آبائك. فقال: هو ثقة مأمون مصري، عارف بالقضاء وبأهل البلد، وما في المصريين من يصلح لهذا الأمر غيره.
ولم يزل أبو الفضل حتى أحكم له الأمر مع الحاكم. فأمر بكتب سجله، وشطر عليه فيه أنه إذا جلس في مجلس الحكم، يكون مع أربعة من فقهاء الحاكم، لئلا يقع الحكم بغير ما يذهب إليه الخليفة.
فقرئ عهده بذلك، ووصف فيه أجمل صفة، وزكى فيه أحسن تزكية، وخلع عليه وحمل على مركب حسن.
وكانت الخلِعة غلالة وقميص دَبِيقِيّ مُعلَم مذهب، وثوب مُصْمَت وعمامة شَرْب كبيرة مذهَّبة وطيلسان مذهَّب. وقرأ سجله بالقصر وهو قائم على رجليه، بحضرة شيوخ الدولة. وكان مركبه بغلة مسرجة بلِجام فِضِّي مذهب، وقيدت بين يديه بغلة أخرى مسرجة ملجمة، وسار بين يديه الشهود والأمناء. وقرأ سجله بجامع مصر على المنبر.
وساق المسبّحي في تاريخه السِّجل بطوله، وأضيف إليه في الأحكام مصر وبرقة وصقلية والشام وقضاء الحرمين ما عدا فلسطين، فإن الحاكم كان ولاها أبا طالب ابن بنت الزيدي الحسيني، فلم يجعل لابن أبي العوام عليه أمراً. وكان أبو طالب تَرَفَّع عن قضاء مصر، إلا أنه كان يهاب الحاكم، وجُعل لأبي العباس النظر في المعيار، ودار الضرب، والصلاة والمواريث، والمساجد والجوامع، فباشر أبو العباس ذلك، وهو يترقب القتل. وكان يمكنه أن يستتر إلا أن حب الرياسة غلب عليه.
وكان يركب أيام الجمع مع الحاكم، ويطلع إليه يوم السبت يعرفه ما جرى من أمر القضاة والشهود والأمناء بالبلاد، وما يتعلق بالحكم. ويجلس يوم الأحد والخميس بمصر، ويوم الاثنين والثلاثاء بالجامع الأزهر، ويوم الأربعاء لراحته. فكان ينقطع في دار له بالقرافة يتعبد فيها إلى المغرب، ويخلو بمن يريد من الشهود وغيرهم.
ذكر ذلك كلَّه إسماعيلُ بن علي بن إسماعيل بن موسى الحسيني في كتابه أخبار قضاة مصر. وذكر أنه خلع عليه يوم العشرين من شعبان. وقرئ سجله بالقصر وبجامع مصر. فلم يزل على وظيفة القضاء إلى أن مات لعشرين ليلة خلت من شهر ربيع الأول سنة ثماني عشرة، فكانت ولايته اثنتي عشرة سنة وسبعة أشهر.
وكان مولده بمصر سنة تسع وأربعين وثلاثمائة. وشهد عند محمد ابن النعمان سنة أربع وثمانين. وخلف الحسين بن النعمان على الفروض. وناب في الحكم عن الحسن بن كامل النائب عن الحسين بن النعمان. وكان من أهل الصيانة من صباه.
ولما مات صلّى عليه الظاهر ابن الحاكم وأخرج تراباً من كُمه، فمر أن يوضع في قبره تحت خده، ذكر ذلك ابن ميسر في تاريخه.
وذكر إسماعيل المذكور، عن أبي حفص الأدمي الفرائضي، أن ابن أبي العوام دخل على أبي الطاهر الذهلي القاضي، هو وأبو يوسف يعقوب بن إسحاق، فقال الحكيمي الوراق - وكان من أهل العلم، وله تقدم في معرفة الشروط - : يا أبا حفص ترى هذين فإنهما لابد أن يصيرا رئيسي مصر، فما مضت الأيام والليالي، حتى ولي أبو العباس القضاء، وأبو يوسف المشيخة.

ولأبي العباس رواية عن أبيه عن جده، وروى أيضاً عن أبي بكر محمد بن جعفر بن أعين، وأبي بشر الدولابي، وأبي جعفر الطحاوي، وإبراهيم بن أحمد بن سهل الترمذي، ومحمد بن الحسين البخاري صاحب حريث بن أبي الورقاء، وأسامة بن أحمد بن أسامة، والقاسم بن جعفر بن محمد البصري، ومحمد بن محمد بن الأشعث، وأحمد بن علي بن شعيب المدائني وغيرهم.
وله مصنف حافل من مناقب أبي حنيفة وأصحابه. روى عنه القُضاعي الكتاب المذكور. وحدث به السِّلَفي عن الرازي عن القضاعي.
ومن الحوادث التي وقعت لابن العوام، أن حمزة اللباد الزَّوزني الملحد، الذي ادّعى أن روح الإله حلت في الحاكم، ركب في جَمْع من أصحابه، إلى أن دخلوا الجامع العتيق، معلنين بكفرهم. فتقدم منهم ثلاثة إلى مقر القاضي فناول أحدهم القاضي رقعة يأمره فيها الزوزني بالدعاء إلى مقالته. وكان الزوزني استفحل أمره، حتى كان يساير الحاكم إذا ركب ويخلو به. فقال له القاضي حتى أدخل إلى مولانا وأسمع كلامه فلم يقنع منه بالجواب وأطال معه الكلام في ذلك. فثار العامة بالرجل فقتلوه. ثم قتلوا رفيقه. وتتبعوا من كان على مقالتهم فقتلوهم في الطرقات. فبلغ ذلك الحاكم فشق عليه وأمر بتحريق مصر، فكان في ذلك ما اشتهر.
وكان ابن أبي العوام أولَ من نقل دواوين الحكم إلى الجامع. وكانت قبله تكون عند القاضي. ثم تنقل إذا مات أو عزل، إلى دار الذي يلي بعده. فاتخذ ابن أبي العوام مقرها في بيت المال بالجامع. وكان على من يكون قاضياً إذ ذاك في شهر رمضان، أن يصعد المنبر يوم الجمعة، ويصلح مظلته ويكبر خلف الخليفة أو ولي عهده، هو إذا ذاك عبد الرحيم بن إلياس. وأقطع الحاكم هذا القاضي تلبانة، وهي ضيعة معروفة بمصر، كتب له بذلك سجلاً.
وفي سنة تسع وأربعمائة، جلس ابن أبي العوام، وقد أمر بإحضار الشهود، وكانوا ألفا وخمسمائة فاسقط منهم في يوم واحد أربعمائة. فتظلموا للحاكم، فقال: الذي عدّلكم هو الذي أسقطكم.
وفي صفر سنة عشر وأربعمائة.
ولما ولي الظاهر ابن الحاكم أقرّ أبا العباس على القضاء.
أحمد بن محمد بن أبي زكريا يحيى بن أبي العوام، أبو عبد الله ابن عم أبي العباس المذكور قبله. حنفي من المائة الخامسة. ولي القضاء بمصر أولاً نيابة عن القاسم بن عبد العزيز بن النعمان، وهو وأبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي. فاتفق أنهما حضرا يشكوان من سوء سيرة القاسم، فدخل القاسم يشكو منهما كثرة مخالفتهما له، فصرفه المستنصر. وقرر اليازوري في القضاء مع الوزارة. وأمره أن يفوض أمر القضاء إليهما. ثم وليه استقلال في حادي عشر شهر رمضان سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة، من قبل المستنصر. وأضيف إليه النظر في المظالم، ودار الضرب، والصلاة والخطابة والأحباس. وخلع عليه وقرئ سجله على منبر القصر. ولقب قاضي القضاة نصير الدولة أمين الأئمة. فباشر ذلك إلى أن مات، في صفر أو في ربيع الأول سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة.
أحمد بن محمد بن محمد بن محمد بن عطاء الله بن عَوّاض بن نجا بن حمُّود بن نهار بن مؤنس بن محمد بن حاتم الزبيري الإِسكندراني المالكي، ابن التَّنَسِي، بفتح المثناة الفوقانية والنون بعدها مهملة. من المائة التاسعة ناصر الدين ابن جمال الدين. كان ينسب إلى جده لأمه ابن التنسي. ويسوق له نسباً إلى الزبير بن العوام. فيقال في حازم أو حاتم أنه ابن بُبْلَي بن جابر بن هشام ابن عروة بن الزبير بن العوام. وإلى ذلك سار فيه قول صهرهم صديقنا العلامة الأوحد البدر ابن الدماميني من أبيات يصفه فيها.
وأجاد فكرُك في بحار علومه ... سُبْحاً لأنك من بين العوًّامِ
وكان مولده سنة أربعين وسبعمائة. واشتغل كثيراً ومهر. وعني بالعربية والفنون وشرح التسهيل، فوصل فيه إلى التصريف.
وكان عارفاً بالأحكام، كثير العناية بالتجارة، ولم يكن يدخل في المنصب إلا صيانة لماله.
وتولى القضاء بالإسكندرية في سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. وتناوب هو وابن الربعي مدة، إلى أن استقر ابن التنسي في قضاء الديار المصرية في رابع عشري ذي القعدة سنة أربع وتسعين وسبعمائة. فتحول بأهل وعياله وأسبابه. فباشر بعفة ونزاهة مع العقل والتودد للناس وطهارة الذيل، وسلامة الباطن، وقلة الكلام حتى كان يقال: لم يسمع منه ذم أحد، بقول ولا فعل.

وهو من بيت رياسة. ولي أبوه جمال الدين قضاء الإسكندرية وكذا جده شمس الدين. وكان جده الأعلى عطاء الله يلقب رشيد الدين.
قرأت بخط الشيخ جمال الدين البشبيشي في وصفه: أقام دهراً طاهر اللسان، لم ينل أحداً بمكروه. وكانت أيامه كالعافية، والرعية في أمان على أنفسهم وأموالهم، لا ينظر إلى ما بأيديهم، ولم يعرف الناس قدره حتى فقد. ولم يدخل عليه في طول ولايته خلل، ولا أدخل عليه أحد شيئاً من ذلك. قال: وفي الجملة كان هو وابن خير قبله من محاسن الوجود. انتهى.
ولم يزل على طريقته إلى أن مضى بجميل، ومات بالقاهرة في ليلة الخميس أول يوم من شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة.
أحمد بن نصر الله بن أحمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل ابن إبراهيم بن نصر الله بن أحمد الكناني الحنبلي العسقلاني الأصل، نزيل القاهرة. والده الملقب بناصر الدين سبط قاضي القضاة، موفق الدين عبد الله بن محمد الآتي ذكره واسم أمه زينب. ولد في المحرم سنة تسع وستين وسبعمائة في السنة التي مات فيها جده، واشتغل ومهر.
قرأت بخط ابن أخيه القاضي العالم الفاضل البارع العلامة، عز الدين ابن برهان الدين، في ترجمة عمّه هذا، أنه كان حسن الشكل، كثير العلم، قوي الإدراك حسن المحاضرة، نزهاً فكهاً، له تعاليقُ في الفقه والنحو وغير ذلك، تدل على حسن بصيرته بالعلم.
ولما مات أخوه برهان الدين، واستقر في المنصب بعد أن سعى فيه غيره فما أجيب، كتب إليه الشيخ شهاب الدين المقري الأوحدي:
بإبراهيم قد مضت المنايا ... وأخلفَهُ أخوه ذَا المُمجَّد
وأولى الناس في القرآن نَصّاً ... وأجدرهم بإبراهيم أحمدْ
ولم تطل مدة الموفق في القضاء ولا عمره، فإنه سعى عليه في سنة ولايته، فصرف بعد سبعة أشهر، أو دونها بالنور الحكري، من جمادى الثانية سنة اثنتين وثمانمائة ثم أعيد في آخر السنة، فلم يلبث أن دهمت الناس الكائنة العظمى بالبلاد الشامية باللنكية. فخرج في سنة اثنتين مع العسكر المصري، ثم رجع بعد الهزيمة، فلم يلبث أن مات في يوم الاثنين حادي عشر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة، ودفن من الغد.
أحمد بن نصر الله بن أحمد بن محمد بن عمر الحنبلي القاضي، محب الدين التستري الأصل البغدادي، نزيل القاهرة، من المائة التاسعة. ولد في شهر رجب سنة خمس وستين وسبعمائة. واشتغل على أبيه وغيره، وسمع من أبيه، ومن الكِرْماني والسِّنْجَارِي في آخرين. ودخل الشام سنة ثمان وثمانين وسبعمائة، فسمع بحلب من ابن المُرَحِّل وبدمشق من ابن المحب. واستمر إلى أن دخل الديار المصرية فحج منها وعاد. ثم قدم أبوه فولاه برقوق تدريس الحديث بالظاهرية التي بين القصريين. ثم شغر منصِب تدريس الحنابلة بها فوليه أبوه، واستمر مدرسين بالظاهرية البرقوقية وكان أبوه من أهل الفضل التام والأدب له النظم الفائق والترسل الرائق.
ولما مات استقر القاضي محب الدين في الدرسين، ونُوزع في ذلك فساعده جماعة إلى أن استمر فيهما. ثم ناب فِي الحكم عن القاضي علاء الدين ابن المغلي الحنبلي الحموي، لما ولي قضاء الحنابلة. واستقل بالقضاء بعد موته في صفر سنة ثمان وعشرين وثمانمائة. ثم صرف بعز الدين القدسي في الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة تسع وعشرين. ثم أعيد في صفر سنة واحد وثلاثين. واستمر إلى أن مات.
قرأت بخط العز ابن البرهان ابن نصر الله: وافق القاضي محب الدين، عمي موفق الدين، يعني الذي قبله في اسمه واسم أبيه وجده، ومذهبه ومنصبه، وسكنه بالصالحية.
قلت: وفارقه فِي اللقب، وأصل البلد، والنسبة إلى الجد الأعلى، وطول المدة، وسعة العلم، والتبسط في بيع الأوقاف، ونحو ذلك.
وكانت وفاته في جمادى الأولى سنة أربع وأربعين وثمانمائة.
الأفراد
إسحاق بن الفرات بن الجَعْد بن سُلَيْم الكندي مولاهم، أبو نعيم من موالي معاوية بن حُدَيْج مالكي من المائة الثانية. ولد سنة خمس وثلاثين ومائة واستخلفه محمد بن مسروق لما خرج من مصر إلى العراق، وذلك في سنة أربع وثمانين ومائة.

وكان أول من ولي قضاء مصر من الموالي. وكان من كبار أصحاب مالك. وأخذ عن أبي يوسف، وروى عن الليث بن سعد وابن لَهِيعة، ويحيى بن أيوب وحميد بن هانئ والمفضل بن فَضالة ومعاذ بن محمد وغيرهم. روى عنه أبو الطاهر ابن السِّرح، ومحمد بن نصر، ومحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، وابن أخي ابن وهب وآخرون.
قال ابن عبد الحكم: ما رأيت فقيهاً أفضل منه، وكان علماً. وقال بحر ابن نصر قال لي إبراهيم بن إسماعيل بن عُلَيًّة: ما رأيت في بلدكم أحداً يحسن العلم إلا إسحاق بن الفرات. قال بحر: وكان الشافعي يثني عليه ويقول: ما رأيت بمصر أحداً أعلم باختلاف الناس منه. قال الشافعي: وقد أشرت على بعض الولاة أن يوليه القضاء. وقلت: إنه يتخير وهو عالم باختلاف من مضى. ذكر ذلك أبو عمر الكندي بسند صحيح.
وتعقبه بعض من صنَّف في القضاة ممن لقيته. فقال: كان قدوم الشافعي إلى مصر في آخر سنة ثمان وتسعين ومائة، أو أول سنة تسع وتسعين ومائة. وإسحاق إنما ولي قبل قدومه بثلاث عشرة سنة أو أكثر.
وحل هذا الإشكال، أن الشافعي أشار على من كان أميراً في عصره، أن يولي إسحاق فلم يتفق ذلك، لا أنه هو الذي أشار على محمد بن مسروق باستخلافه، ولا على أمير مصر بإبقائه قاضياً.
وقال ابن يونس: كان فقيهاً. وفي أحاديثه أحاديث كأنها منقلبة. وقال أحمد بن يحيى بن وزير: كان يتخير في الأحكام. وذكره ابن حبان في الثقات، وقال: ربما أغرب.
وقال أحمد بن سعيد الهَمْدَاني: قرأ علينا إسحاق بن الفرات الموطأ بمصر من حفظه، فما أسقط منه حرفاً فيما أعلم. وقال العجلي وأبو عوانة الإسُفَراييني: ثقة. وقال أبو حاتم الرازي: ليس بالمشهور. وقال العقيلي: لا بأس به. وقال عبد الحق في الأحكام: ضعيف. وتعقب بأن السلف له في هذا الإطلاق، إلا أن السليماني ذكره في الضعفاء، وقال: منكر الحديث.
وقال ابن يونس: مات بمصر في ذي الحجة سنة أربع ومائتين. قال أبو عمر الكندي: أقام إسحاق بن الفرات على القضاء منذ استُخلف محمد بن مسروق، إلى أن قدم العمري في صفر سنة خمس وثمانين ومائة.
وقال أبو عمر الكندي في كتاب الموالي من أهل مصر: قال أحمد بن يحيى ابن وزير: كان عند سعيد بن عُفَيْر، شيء من أموال اليتامى، فدعاه إسحاق بن الفرات وهو على القضاء بمصر، فقال: سلمها، فكأن سعيداً عرَّض بالقاضي بأنه من الموالي. فقال إسحاق بن الفرات: هل تعرف معاوية بن حديج، أنه سيد الناس كلهم من الفرما إلى الأندلس. قال ابن عفير: إني لعارف. قال: فإنه مولى، فمن أنت؟ فأصمت سعيد بن عفير وسلم ما عنده.
وكان لإسحاق أخ يسمى يحيى. حدث وتوفي قبل أخيه بسنة. قال ابن يونس: وكانت وفاة إسحاق ليلة الجمعة لليلتين خلتا من ذي الحجة سنة أربع ومائتين.
ووقع في كتاب المدارك للقاضي عياض، أنه مات في سنة خمس ومائتين. وكأنه أرخه ببلوغ الخبر إلى المغرب. فإن ابن يونس أتقنُ في هذا الباب من غيره. وقد أرخه أبو عمر الكندي في سنة أربع. وروى النسائي في السنن، عن محمد بن عبد الله بن عبد الحكم عن إسحاق بن الفرات.
إسماعيل بن إبراهيم بن محمد بن موسى الكِنَاني البَلبْيِسي، نزيل القاهرة القاضي مجد الدين أبو محمد الحنفي، من المائة التاسعة.
ولد سنة ثمان وعشرين وسبعمائة. وتفقه ومهر. وطلب الحديث بنفسه. فسمع من أحمد بن كَشْتُغْدي وأولاد الفيومي الثلاثة: إبراهيم ومحمد وفاطمة، أولاد محمد بن محمد، ومحمد بن إسماعيل بن عبد العزيز الأيوبي وأبي الفتح الميدومي وخرج له عنهم صاحبنا الحافظ صلاح الدين خليل بن محمد الأفقهسي مشيخة في ثمانية أجزاء، سمعتها عليه. ورافق الشيخُ مجد الدين الشيخَ جمال الدين الزيلعي في الطلب، فسمع معه الكثير. وكان متثبتاً لا يحدث إلا من أصله. وأخذ فن الحديث عن الشيخ مُغَلْطاي. وعن القاضي علاء الدين بن التُّرْكماني. وتفقه بفخر الدين الزَّيْلَعِي وغيره. ومهر في الشروط، وصنَّف في الفرائض والحساب، ووقَّع على الأحكام. ثم ناب في الحكم.
وكان أديباً فاضلاً ديناً عفيفاً، حسن المفاكهة جيد المحاضرة. وصنَّف شرح التلقين لأبي البقاء في النحو، وفي الشروط.

وكان صديقنا القاضي تاج الدين ابن الظريف مع مهارته في الفرائض والحساب، يثني على تصنيف شيخنا مجد الدين. واختصر الأنساب للرَّشَاطي، وأضاف إليها زيادات الأنساب لابن الأثير. اختصره من كتاب أبي سعد ابن السمعاني.
ولم يزل على حالته، حتى ولي القاضي شمس الدين الطرابلسي ولايته الثانية. فاتفق له معه شيء، فامتنع من النيابة، إلى أن قُدِّر أنه استدعاه الملك الظاهر، فخلع عليه وفوض إليه قضاء الحنفية. فاتفق أنه كان حينئذ قد اعتكف في العشر الأخير من شهر رمضان، بالطيبرسية المجاورة للجامع الأزهر. فخرج من اعتكافه بقية الشهر فباشر بصلابة ونزاهة وعفة، وتشدد في الأحكام، وفي قبول الشهود.
قال المقريزي: لكنه دخله الجبن خشية من عود الطرابلسي إلى المنصب. فكان لا يقضي لأحد حاجة. ويعتذر بأن الطرابلسي وراءه. فوقفت أحواله، ومقته مَن كان يحبه، وندم على ولايته من تمناها له، ليُبُس قلمه عن الأمور العامة والخاصة، ولم يتفق أنه عدَّل من الشهود أحداً من مدة ولايته اثنين، وأبغضه الرؤساء لرد رسائلهم.
وذكر بعض من يعرفه: أن سبب خموله في المنصب، أنه كان يزهو بنفسه، ويرى أن المنصب دونه، لما كان عنده من الاستعداد، ولما في غيره من النقص في العلم والمعرفة، فانعكس أمره لذلك.
وذكر أيضاً أن كبار الموقعين في زمانه، كانوا يرجعون إليه فيما يقع لهم من المعضلات، ويحمدون أجوبته فيها. وكان جَمْعُهُم إذ ذاك متوفراً.
واشتهر عنه أنه كان إذا رأى المكتوب عرف حاله من أول سطر بعد البسملة غالباً. ولم يكن فيه ما يعاب به إلا ما تقدم ذكره، من التوقف عن الأمور، ولو كانت واضحة.
وكان الملك الظاهر يجلُّه ويكرمه، بسبب أنه كان ممن امتنع من الكتابة في الفتاوي، التي كتبت عليه في كائنة الكرك. واستتر بمنزله بكوم الريش، حتى انقضت تلك المحنة، فكان يشكر له ذلك. وكان يذكر أنه لما طلبه ليوليه القضاء سأله عن اسمه ونسبه، فذكره له، فأمر بعض خدمه، فأحضر كيساً من الحرير الأسود، فأخرج منه ورقاً، وأمر بعض مماليكه أن يتصفح الأسماء، هل فيها اسمه، فلم يجدوا فيها اسمه. فسأله، هلا كتبت في الفتاوي؟ فذكر له فراره واستتاره بمنزله فأعجبه فلم يزل على منزلته عنده، حتى تحرك الظاهر للسفر إلى الشام، فتوسل القاضي جمال الدين العجمي وهو يومئذ قد ولي نظر الجيش، بصهره شهاب الدين الطولوني المعلم، وكانت ابنتُه تحتَه، وابنته الأخرى عند السلطان، واتفق أن الطولوني شفع في شاهد عند القاضي مجد الدين، أن يجلسه في حانوت الشهود فتوقف. فحقدها عليه. فتكلم مع السلطان في أن المجد عاجز عن السفر، لثقل بدنه. وكان السلطان يشاهده أيام الموكب، فيرى حركته بطيئة إلى الغاية، فإنه كان يجلس في كل اثنين وخميس إلى جانبه الأيسر. فإذا انفض الموكب، وأراد القيام - وكان عبل البدن - يتكئ على يديه وترتفع عجيزته، فلا ينهض إلا بعد بطء، فصدق السلطان القائل، وأمر بإعفائه فسعى الجمال حينئذ ببذل المال، والسلطان محتاج إلى الاستكثار منه، بسبب الإنفاق على الجند فولاه، وذلك في شعبان سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة.
وانصرف المَجد إلى منزله بالسيوفية، فأقام فيه بطالاً، ولكنه يشغل الطلبة، ويحضر الوظائف التي كانت بيده قبل القضاء.
وكان جُل تكسبه من التوقيع، فامتنع عليه أن يباشره، بعد أن صار قاضي القضاة، فضاق حاله، وتعطل إلى أن نُسِي، كأن لم يكن شيئاً مذكوراً.
وكان الظاهر يتفقده بالصدقات، فلما مات الظاهر كف بصر المَجد، وساءت حاله إلى الغاية.
ومات في أول شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة. وكان كثير النظم، جيد الوزن فيه، إلا أنه لم يكن بالماهر في عمله. وله أشياء كثيرة من قسم المقبول كقوله:
لا تحسبنَّ الشِّعْر فضلاً بارعاً ... ما الشعرُ إلا محنةً وخبَالُ
فالهجو قَذْفٌ والرثاء نيَاحةٌ ... والعَتْب ضِغْنٌ والمديح سؤالُ
وقال أيضاً...
إسماعيل بن سعيد بن عَلَس الصدفي، من بني عريب. ذكره أبو سعيد بن يونس وقال: ولي قضاء مصر أيام وله أخبار . وأخته أم قيس بنت سعيد التي ترعف بها الناحية المعروفة بدار أم قيس. وذكره الدارقطني في علس. ولم يذكر ابن يونس متى وَلي ولا عَمَّن ولي، ولا من ولاه. ولعله كان في الفترة التي بين عزل الحارث بن مسكين وولايته دحيم.

وهجم عليه الموت قبل أن يتوجه إلى مصر، فأقامت بغير قاض حتى قدم بكار، فلعل هذا تكلم في الأحكام بإذن أمير مصر إلى أن قدم بكار.
إسماعيل بن سلامة الأنصاري الحلحُولي: يلقب الموفَّق في الدين، ويكنى أبا الطاهر وهو إسماعيل من المائة السادسة. فوض إليه الحافظ لدين الله القضاء لما عزل ابن الأزرق وذلك في سابع عشر جمادى الآخرة سنة أربع وثلاثين وخمسمائة وأمره أن يحكم بين الناس، إلى أن يختار من يصلح. فاستمر على ذلك إلى أن انسلخت السنة.
وكان قبل ذلك داعي الدعاة ولقب لما وليها مكين الدولة. فقرر في الوظيفة المكرَّمي. فلما بلغ ذلك ابن سلامة، سعى أن يوفر لجهة الخليفة معلومَ القضاء، وهو في الشهر أربعون ديناراً، ومعلوم الدعوة، وهو في الشهر ثلاثون. فذلك سبعون يحصل منها في السنة ثمانمائة وأربعون ديناراً، وأن يستقل بالحكم. فأجيب إلى ذلك. وهو أول من فعله، ولم يباشر المكرَّمي، إلا أياماً يسيرة، من أول سنة خمس وثلاثين.
واستمر ابن سلامة إلى أن صرف عن القضاء في السابع من المحرم سنة ثلاث وأربعين وخمسمائة، وبقيت معه الدعوة. وذكر ابن فضلان في تاريخه أنه تأخرت وفاته إلى سنة ست وأربعين.
قال محمد بن أسعد الجواني في النقط: وكان كريم الخلق، حليماً مهيباً، وفوراً مليح الشيبة، ظريف الهيئة، وكان على رأي القوم. قال: ورأيته - عدة سنين بمصر، يوم طواف المساجد والجوامع قبل رمضان بيومين - إذا وصل إلى مسجد الحاكم.. نزل وصلى فيه يناوله صرة فيها مائة درهم، وربما كانت ثلاثمائة فيأخذها منه، ويضعها في كمه، ويقول له يا سيدنا: هذه برسم الغلمان. قال: فدام على ذلك عدة سنين.
وقال الجواني أيضاً: سمعت أبا الطاهر يحدث والدي بدار الضرب، قال: قال لي الحافظ: يا قاضي أحدثك بحديث عجيب، قلت نعم. قال: لما جرى علي من أبي على ابن الأفضل ما جرى، رأيت وأنا في الاعتقال أني جلست في مجلس أعرفه في القصر، وكأني عدت إلى الخلافة، ودخل إلي المغاني وفيهن واحدة معها عود تغني وتقول:
أَتتكَ الخلافةُ مُنْقادةً ... إليكَ تُجرِّرُ أَذْيالَها
فلم تكُ تصلحُ إلاَّ لَهُ ... ولم يكُ يصلحُ إلاَّ لهَا
وَلَوْ رَامَهَا أَحَدٌ غَيْرَهُ ... لَزُلْزِلَتِ الأرْضُ زِلُزَالَها
وكأني قمت إلى خزانة الجواهر، فملأت فمها منه جوهراً. قال: ثم استيقظت فما كان إلا يومين، حتى قبض على أبي علي، وأخرجت وأجلست في ذلك المجلس بعينه، ودخل المغاني وفيهم تلك المرأة، وغنت ذلك الغناء بعينه. فقمت إلى خزانة الجوهر، وأخذت الْحُقَّ، وقلت لها: فاتحي فاك، فملأته من الدر.
إسماعيل بن عبد الواحد بن محمد الرَّبعي المقْدِسّي، أبو هاشم، من المائة الرابعة، شافعي.
قال أبو محمد بن زولاق: كان أبو هاشم من الفضلاء النبلاء، يجمع الحفظ والفهم، ويدرس القرآن والعلوم، إلا أنه كان قوي النفس تَيَّاهاً. وكانت ولايته للقضاء في صفر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة، فأقام قدر شهرين. وكان السبب في ذلك أن ابن زَبْر، لما مرض تَكِين بمرض السل، خشي على نفسه من أهل مصر، لما كان عامَلهم به. فكرب ابن زبر إلى تكين، فاستأذنه في السفر فامتنع من الإذن له. فألحّ عليه فلم يقبل. فركب ابن زبر إلى أبي هاشم هذا، وكان قد اختص بالأمير تكين، حتى كان لا يصدر إلى عن رأيه. فسأله أن يقبل عنه نيابة الحكم إلى أن يعود، وأن يتلطف له في الإذن بالسفر. فلم يزل أبو هاشم يكلم الأمير حتى أذن له في ذلك. فتسلم الديوان من ابن زبر، ورجل ابن زبر جميع ما حصله، وتوجه إلى دمشق. فلقي الإخشيد محمد بن طغج، فسأله عن أحوال مصر، فأعلمه أن الأمير على موت. فتصوب الإخشيد للتوجه إلى مصر، واستمر أبو هاشم يحكم بين الناس، ويتقوَّى بالأمير.
وفي ولايته تحدَّث مع الأمير تَكِين فبعث معه صاحب الشُّرَط، فأقام من كان بالجامع العَمْرِي من المالكيين والحنفيين إلا القليل منهم، وهو خمسة: ابن الحداد والطحاوي وعبد الرحمن بن إسحاق ومحمد بن رمضان الزيات وأبو بكر الرازي، فحقدوا عليه. ثم سئل في حلقة محمد بن عبد الغني التي فيها أبو الذكر، فأذن له إلى أن مات تكين.

ووقعت الفتنة بين ولده محمد بن تكين وبين الوزير محمد بن علي المَاذَرَائي. فاجتمع جماعة ممن أهانهم أبو هاشم، فتكلموا فيه عند الماذرائي. فأرسل إليه فمنعه من الحكم. كان أبو هاشم أمر بكر محمد بن عليا لعسكري أن ينظر في الفروض، فاستمر بعد منع أبي هاشم على حاله. وأذن له أن ينظر بين الخصوم، فنظر أياماً إلى أن وصل ابن قتيبة.
ولما شغب الجند على محمد بن تكين، توجهوا إلى دار أبي هاشم، فنهبوا جميع ما فيها، وأخرجوا منها آلات الملاهي والمسكر، وكان ذلك لحظية مودعة أودع عند بكران بن الصباغ بضعة وثمانين ألف دينار، فخانه في أكثرها.
وكان جماعة من المالكين أرادوا أن يكتبوا عليه محضراً عند العسكري، فبلغ ذلك ابن الحداد، فركب إلى العسكري فثني رأيه عن ذلك. وذكر له العسكري أموراً عملها أبو هاشم معه ومع غيره، فلم يقبل منه. ولم يزل به حتى رجع عن المساعدة عليه.
وكان يلزم الشهود أن يركبوا معه. فركب يوماً فتفقد محمد بن رمضان، فسأل عنه، فقيل له: هو حاضر، وكلنه لم يجد ما يركبه. فمشى فالتفت، فرآه ماشياً فنزل عن بغلته، وأمره أن يركبها وركب هو بغلة أخرى، وقال: هذا جزاء من أتانا ماشياً.
وقال الذهبي في تاريخ الإسلام: ولي قضاء مصر نحو من شهرين، وكان من كبار الشافعية، وكان جبّاراً ظَلُوماً فلم تطل ولايته.
كذا قال. ولو راجع كلام ابن زولاق لأجاد وأفاد فوصْفُه له بأنه من كبار الشافعية لا سلف له فيه، وتعليله قصر ولايته بأنه كان جباراً ظَلوماً، ليس بواضح من سيرته التي حررناها.
ولما فر إلى الرملة أقام بها خمس سنين، حتى ملك الإخشيد مصر، فبعث إليه يستدعي، فوجده الرسول قد أصابه الفالج. فقال: قل له ما قال الجاحظ: (ما تصنع بشق مائل، ولُعاب سائل، وعقل ذاهل). ومات بعد ذلك بيسير في سنة خمس وعشرين وثلاثمائة.
إسماعيل بن اليَسَع بن الربيع أو ابن الربعي بن اليسع الكندي الكوفي الحنفي، وأبو الفضل وأبو عبد الرحمن. كان من أهل الكوفة، من المائة الثانية. أخذ عن أبي حنيفة. وسمع من محمد بن عمرو بن علقمة وغيره، روى عنه عبد الله بن وهب وسعيد بن أبي مريم وأبو صالح الحراني، وغيرهم.
قال أبو عمر الكندي: كانت ولايته بعناية يعقوب بن داود وزير المهدي. وهو أول كوفي ولي القضاء على رأي أبي حنيفة، وذلك بعد موت ابن لَهيعة سنة أربع وستين ومائة.
وقال سعيد بن أبي مريم: أول من أدخل مذهب أبي حنيفة مصر، إسماعيل ابنا ليسع، وكانوا لا يعرفونه وكان من خير قضاتنا، إلا أنه كان مذهبه إبطال الأحباس، فثقل على أهل مصر وابغضوه.
وقال يحيى بن بُكير: كان فقيهاً مأموناً، وكان يصلي بنا الجُمع، وعليه كساء مربع من وف وقطن، وقَلَنْسُوَة من خز. وقال خلف بن ربيعة عن أبيه وغير واحد: كان إسماعيل رجلاً صالحاً، وكان في زمان ولايته القضاء، أميرَ مصر إبراهيمُ بن صالح، وصاحبَ البريد سراجُ بن خالد فأراداه على الحكم لهما بشيء فلم يطعهما، فاحتالا عليه، فاستدعاه عُسَامة بن عمرو، فأطعمه سمكاً، ثم أدخل الحمام فمرض، فكتبا إلى الخليفة المهدي إن إسماعيل حصل له فالج. فكتب بعود غوث بن سليمان إلى القضاء، فصرف إسماعيل في سنة سبع وستين ومائة.
وقال ابن يونس: حدثنا علي بن أحمد بن سليمان. حدثنا أحمد بن سعد ابن أبي مريم، سمعت عمي يقول: قدم علنيا إسماعيل بن اليسع الكوفي قاضياً بعد ابن لهيعة، وكان من خير قضاتنا، غير أنه كان يذهب إلى قول أبي حنيفة، ولم يكن أهل مصر يعرفون مذهب أبي حنيفة، فذكر الباقي نحوه.
وقال ابن يونس: حدثني أبي عن جدي، أنه سمعه يقول: أول عراقي ولي قضاء مصر إسماعيل بن اليسع. فكتب المهدي في أمره لأهل مصر فقالوا: إنا لم ننكر عليه شيئاً في مال ولا دين، غير انه أحدث أحكاماً لا نعرفها ببلدنا، فعزله.
وقال يحيى بن عثمان بن صالح عن أبيه جاء رجل إلى الليث بن سعد فقال: ما تقول في رجل قال لرجل يا مأبون يَا من ينكح دبره؟ فقال له الليث: ائت القاضي إسماعيل بن اليسع فاسأله فقال: قد صرت إليه فسألته فقال لي: يقول له مثل ما قال له. فقال الليث سبحان الله وهل يقال هذا! قال: فكتب الليث فيه إلى الخليفة فعزله.

قال: وجاء الليث إلى إسماعيل بن اليسع فجلس بين يديه، فقام إسماعيل وأجلّه، وأمره أن يرتفع، فقال ما جئت إليك زائراً وإنما جئت إليك مخاصماً. قال في ماذا؟ قال: في إبطالك أحباس المسلمين. قد حبّس رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وطلحة والزبير فمن بقي بعد هؤلاء؟ وقام فكتب إلى المهدي فورد الكتاب بعزله. فأتاه الليث فجلس إلى جنبه، وقال للقارئ: اقرأ كتاب أمير المؤمنين فقال له. إسماعيل: يا أبا الحارث وما كنت تصنع بهذا؟ والله لو أمرتني بالخروج لخرجت من البلد. فقال له الليث: إنك والله ما علمت، لَعفيفٌ عن أموال الناس.
وقال محمد بن عبد الله بن عبد الحكم، أخبرني أبي قال: كتب في الليث إلى المهدي: (يا أمير المؤمنين إنك وليت علنيا رجلاً يكيد سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا مع أنا ما علمنا عليه في الدينار والدرهم إلا خيراً، فكتب بعزله).
وكان ورود الكتاب بعزله في جمادى الأولى سنة سبع وستين ومائة، وفيه تولية غوث بن سليمان وكانت وفاته في.
الأعزّ بن أبي عقيل هو أحمد بن عبد الرحمن تقدم أوس بن عبد الله بن عَطيَّة بن أوس الحضرمي ابن أخي يونس بن عطية. ويأتي تمام نسبه في يونس، وهو من المائة الأولى.
لما ثقل عمه في الضعف ولاه عبد العزيز بن مروان القضاء، وولي عبد الرحمن بن معاوية بن حُدَيْج الشُّروط، فأقام أوس في القضاء شهرين ونصفاً. ثم صرفه عبد العزيز بعد موت عمه. وأضاف القضاء إلى والي الشرطة المذكور. وذلك في شهر ربيع الأول سنة ست وثمانين.
ويقال إن يونس كان قد استناب في مرضه رجلاً من تُجيب، فبلغه أنه قام الرجل في مجلس الحكم، فعزله. وقال: ليس علي هذا مضى السلف، وكان أوس المذكور..
حرف الباء الموحدة
بدر الجمالي أمير الجيوش أبو النجم. كان مملوكاً لجمال الدولة أبي الحسن علي بن عَمَّار صاحب طرابلس، ملكه وهو صغير ورباه فظهرت عليه النجابة. فلم يزل ينتقل حتى ولي إمرة دمشق منق بل المستنصر العبيدي في شهر ربيع الآخر سنة خمس وخمسين وأربعمائة. وولي المستنصر معه الشريفَ ثقة الدولة ذات الجلالتين أبا الحسين يحيى بن زيد الحسيني ناظراً على الأعمال. فباشر بدر الإمرة سنةً وثلث سنة. ثم خرج منها في رجب سنة ست وخمسين. ثم أعيد إلى إمرتها في شعبان سنة ثمان وخمسين، بعد سنتين فباشرها سنتين. ثم بلغه أن ولده قتل بعسقلان فتوجه من دمشق في رمضان سنة ستين، فلما كان بمسجد القدم خارج دمشق، عمد بعض الجند والعامة إلى قصره فأحرقوه. ولم يزل ينتقل في الإمرة من دمشق إلى صور حتى ملكها. وأخرج صاحبها عين الدولة أبا الحسن محمد بن عبد الله بن عياض بن أبي عقيل، وكان قاضيها، فغلب عليها وتولى إمرتها.
ثم أقام بدر بعكا إلى أن تغلب ناصر الدولة ابن حمدان على الأمر بمصر، ونقصت حرمة الخليفة المستنصر باستبطائه ناصر الدولة، واستبداده بأحوال المملكة دونه. فشكا المستنصر حاله لبعض من يثق به، فأشار عليه بمكاتبة بدر وأن يفوض إليه أمر مصر ليكفيه من يعارضه فيها. فكتب إليه كتاباً يحثه فيه على القدوم، وبالغ في الاستعانة به حتى قال في ذلك الكتاب:
فإن كنت مأكولا فكن أنت آكلي ... وإلاَّ فأدركني ولمَّا أُمزَّقِ

فلما قرأ الكتاب قويت رغبته في ملك مصر، فلم يملك نفسه أن صاح: لبيك، لبيك، لبيك. وتوجه في أسرع وقت بعد أن جمع معه عسكراً علم صدق نيَّتهم في طاعته، وركب البحر في وسط الشتاء في مائة مركب، فوصولا سالمين حتى دخل دمياط. وزعم أهل البحر أنهم لم يعهدوا صحواً متمادياً في كانون الثاني، وما بعده مدة أربعين يوماً، إلا في تلك الأيام. وسار في البر من دمياط إلى ظاهر قليوب. فأمر المستنصر العسكر بتلقيه فتلقوه. فدخل في جمادى الأولى سنة ست وستين وأربعمائة. فقربه وبالغ في إكرامه. ولم يكن أحد منهم علم باستدعائه إياه، وإنما ظنوا أنه قدم زائراً، فبالغوا في إكرامه وضايفته. فلما عرف بدر أنه استوفى ضيافة الجميع، دعاهم إلى دعوى صنعها لهم فلم يتخلف عنه منهم أحد. فقرر مع جماعته أن يوكل كل واحد منهم بأمير من تلك الأمراء، يُظهر أنه قائم على رأسه لخدمته، وجعل الأمارة معهم أنه إذا تكامل أكلهم، ورفع السماط، وخرج هو إلى قضاء حاجته في المسترفق، أن كل من يتوجه إلى قضاء حاجته فيا لمسترفق يتوجه بمن هو موكَّل به معه. فإذا دخل الخلاء قتله، ويتوجه الذي يليه بعده كذلك. فقتلوا الجميع في تلك اللحظة من غير أن يشعر الثاني بما جرى للأول. فلما تم له الأمر، قرَّر في إمرة كل أمير من كان موكلا به، حتى في داره وجواريه وماله. ثم صبّح المستنصر، فاخبره، فقرره في وزارته، وفوض إليه الأمور كلها، وعاهده على ذلك. وجعل إليه أمر القضاة والدعاة، ولقبه السيد الأجل أمير الجيوش كافِلَ قضاة المسلمين، هادى دعاة أمير المؤمنين، وصار هو الذي يولي القاضي والداعي فيكون كل منهما نائباً عنه. وكان فيما تضمنه تقليده: (وقد قلدك أمير المؤمنين جوامع تدبيره. وناط بك النظر في كل ما ولى لسريره).
وكانت خلعته نظير خلع القضاة بالطرحة. وكانت إذ ذاك تسمى الطيلسان المقوّر مع اللثام والذؤابة التي تسمى الآن العذبة، وكان إذ ذاك يسمى الحنك وفي طوقه العقد المنظم بالجوهر. فشرع في تدبير الأمور، واستبد بها، وتجرد أولاً لقمع المفسدين إلى أن أبادهم، وأنشأ دولة جديدة، واستعاد البلاد التي غلب عليها الولاة والقضاة، وهي عسقلان وصور وطرابلس. وأنشأ داره بحارة برجوان، وتعرف بدار المظفر. واستدعى بجمع كثير من الأرمن، فاتخذهم جنده وخدمه ثم طاف البلاد حتى أزاح عنها المتغلبين من العرب وغيره، فأوقع بهم بالإسكندرية ثم بطوخ وبدمياط، إلى أن صفت له البلاد. ثم توجه إلى الصعيد الأعلى، حتى بلغ أسوان، فقتل كبير الدولة الذي كان يغلب عليها فهزمه وقلته وبنى بها مسجد النظر.
واتفق أنه كان له ولد كبير فعصى عليه، واستولى على الإسكندرية فحاصره حتى أخذه. فلما قبض عليه قتله بيده، وأباد من أعانه وساعده. وبنى بها الجامع الكبير المعروف بجامع العطارين. وفي أيامه أخِّر باب زويلة إلى حيث هو. وكان قبل ذلك بموضع الغرابليين الآن. وكذا صنع بباب الفتوح، وضعه حيث هو وكان قبل ذلك على رأس حارة قراقرش. وبسبب ذلك صار جامع الحاكم داخل البلد، بعد أن كان خارج بابها.
وكان شديد الهيبة، مخوف السطوة، سريع البطش، وفيه يقول أبو يَعلى ابن الهبَّاريّة في منظومته التي عرف بالصاد والباغم:
كان بمصر بَدرُ ... له عليها الأمرُ
يَقتلُ كل ساعة ... من أهلها جماعة
ويشرب الدماءَ ... حتى تُخَال ماءَ
أصلحها بسيفه ... وجوره وحيفهِ
جزاء كلُ فعل ... لديه سوءُ القتل
لما عصاه ولدُه ... وبان منه نكدُه
أراده حَتْفاً بيده ... ثم رَمَى بجسده
فغضب المستنصرُ ... قبلى في جثماني
ثم غزا لواته ... إذا ظنهم حماته
فحين قيدَ الأسرى ... قال اقتلوهم صبرا
عشرون ألفاً كانوا ... حتى جرى الميدان
فيا لنيل من دمائهم ... ولج في فنائهم
وهو على ظهر الفَرَسْ ... كضَيْغَم إذا افتَرَسْ
وكان بدر جواداً يسمع المديح ويثيب عليه، حتى قيل إن احتياجه في كل شهر من السكر كان مائة قنطار بالركل الشامي.

وكان من تدبيره أنه عمد إلى مصر بعد الغلاء المفرط، فنادى بإباحة الزرع لمن زرع وبذر، بغير خَراج، ثلاث سنين، فكثر الزراع لرغبتهم في عدم وزن الخراج. فما مضى الثلاث حتى استغنوا. فوضع الخراج في الرابعة. واقتصر فيما يقال على جباية النصف، وسمح للزراع بالنصف، ثم صار بعد ذلك يستوفي الخراج، بعد أن عُمِّرت الأرض كلها.
وكان من مكارمه ما ذكره ابن ميسر في ترجمة علقمة بن عبد الرزاق العُلَيْمي أنه وفد عليه، فوجد أشراف الناس وأكابرهم على بابه، فلم يتيسر له الوصول إليه، إلى أن اتفق أنه خرج يوماً يريد الصيد، فوقف له على تل. فلما اجتاز به أشار إليه بورقة في يده، وصاح بأعلى صوته:
نحت التجارُ وهذه أعلاقُنا ... دُرِّ وجود يمينك المبتاعُ
قَلِّب وفتِّشها بسمعك إنما ... هي جوهرٌ تختاره الأسماعُ
كسَدت علينا بالشآم وكلما ... قل النَّفاقُ تعطل الصنَّاعُ
فأتاك يحملها إليك تجِارها ... ومطيّها الآمال والأطماعُ
حتى أنَاخُوها ببابك والرجا ... من دونك السِّمسارُ والبَيَّاعُ
فوهبت ما لم يعطه في دهره ... هرِمٌ ولا كعبٌ ولا القعقاع
وسَبقتَ هذا الناسَ في طلب العلا ... والناسُ بعدك كلهم أتباعُ
يا بدرُ أُقسم لَوْ بِكَ اعتصم الوَرَى ... ولجوا إليك جميعُهم ما ضاعوا
قال: فلما شرع في الإنشاد، أمسك عنان فرسه، فلما فرغ كان في يده بازي، فدفعه لبعض أتباعه وجعل يستعيد الأبيات. فأمر بإحضاره مجلسه. فلما دخل عَلَيْهِ قال مَن أحبني فَليخْلَع عليه، فما توجه من حضرته إلى بسبعين حملاً، وأجازه من ماله بعشرة آلاف درهم.
وهو أول من ولي الوزارة والقضاء من ذوي السيوف، وأول من أقام للأرمن دولة بالديار المصرية. وكان الذي في القضاء، لما ولي بدرٌ الجمالي القاهرةَ، الحسنَ ابن أبي كُدَيْنه كما سيأتي في ترجمته. فسيًّره بدر الجمالي إلى دمياط فقتل بها، وقتل معه ولده.
وكان القضاء قبل هذه السنة قد صار مبتذلاً مهاناً جداً، حتى كان يقول... حدثونا لم فصل.. بحيث إن ابن أبي كدينة وكذا الوزير هذا، ولي القضاء والوزارة في مدة عشر سنين ثلاث عشرة دفعة، منها في سنة تسع وخمسين خاصة، خمس مرات. فلما ولي بدر استناب عبد الحاكم بن وهيب المليجي، ثم صرفه وقرر جلال الملك ابنَ عبد الكريم ألف ارقي.
وذكر ياقوت في معجم الأدباء في ترجمة أسع بن مهذب، ابن أبي المليح مَمَّاتي الكاتب الشاعر عن جمال الدين القفطي، قال: بلغني أن بعض تجار الهند قدم إلى مصر، ومعه سمكة مصنوعة من عنبر، قد تأنق فيها، فعرضها على بدر الجمالي، فسامها منه. فقال لا أنقصها على ألف دينار، فاستغلاها فردها صاحبها، فسأله أبو المليح فقال هل وكان حينئذ كاتباً تحت يد كاتب الجيش، بباب بدر أمير الجيوش: كم سمعت فهيا؟ قال: ألف دينار. فدفع له الألف ينار وأخذها. فلما كان بعد مدة كان أبو المليح في داره يوم بطالة، فشرب، فقال لمن عنده: قد اشتريت سمكة، فأحضروا لي المقلي والنار. فأحضروا له مقلي من حديد وفحماً، فأخرج تلك السمكة فوضعها فوق ذلك الفحم بعد أن ألقت فيه النار. ففاحت روائحها وتزايدات حتى امتلأت بيوت الجريان. واتصل ذلك ببدر الجمالي وهو في درا له على النيل، فخشي أن تكون خزائنه احترقت فتفقدها فوجدها سالمة. فقال: اكشفوا عن هذا الدخان من أين يأتي؟ فتتبعوه فوجوده من بيت المليح. فأخبروه الخبر، فاستكشف عن حقيقة الخبر حتى عرفها.

فلما دخل أبو المليح الديوان على عادته استدعى به، فقال له وهو مغضب: ويحك أنا أستعظم شراء سمكة عنبر بألف دينار وأنا ملك مصر، فأتركها استكثاراً لثمنها، تشتريها أنت؟ ثم لا يقنعك حتى تقليها في النار؟ فتذهب في ساعة واحدة؟. ما سمحت بهذه إلا وقد نقلت أموال بيت المال إلى دارك! فقال: لا والله ما فعلت هذا إلى غَيرة على الملك، فإنك اليوم سلطان نصف الدنيا، وهذه السمكة لا يشتريها إلا ملك، فخفت أن يقال إنك استعظمتها فتركتها، فأردت أن يقال إنك إنما تركتها احتقاراً لها، لأن كاتباً نصرانياً عند كاتب من الكتاب ببابك اشتراها وأحرقها، فيشيع ذلك فيعظم قدر ملكك بين الملوك، فأعجبه ذلك. وأمر له بضعف ثمنها وزاد في أرزاقه.
بدر بن بدر بن عالي وقيل ابن عبد الله بن عالي أبو النجم الخوَافي من المائة الخامسة أصله من خَوَاف بلدة بالمشرق، ولي القضاء بالديار المصرية بعد صرف حسين بن يوسف الرصافي في سنة خمس وتسعين وأربعمائة فلم تطل مدة ولايته حتى صرف في السنة المذكورة واستقر نعمة ابن بشير النابلسي.
بدر بن عبد الله بن عالي، وقيل هو بدر بن عالي والد المذكورة قبله، وهو قول ابن ميسر، وهو مقتضي قول ابن دانيال: ثم ابن بدر وأبو الفضل قضى.
ولي بعد حسين بن يوسف الرصافي.
وقرأت بخط الحافظ قطب الدين: بدر بن عالي بن نصير ذكر في قضاة مصر بعد عبد الله بن مكرم، وذكر أيضاً قبل مجلي بن جميع الأرسوفي. ثم قال ولم أرَ من ذكره غير ابن دانيال، كذا قال. وقد ذكره ابن ميسر، لكن سمي أباه بدراً ورأيت في رجز القاضي بدرِ الدين بن جماعة من نظمه، ما يتقضي أن بدر بن عالي ولي القضاء، وكذا ولده بدر بن بدر.
ويؤخذ من هذا أن بدر بن عالي ولي القضاء بعد عبد الله بن مكرم، ثم وليه مرة ثانية بعد الرصافي ويلي بعده ابنه بدر بن بدر، ولي بعده وأنه ولي مرة أخرى قبل مجلى ولم أعرف من حال بدر بن علاي ولا ابنه شيئاً.
بُشَيْر بن النَّضْر بن بشير بن عمرو بن يزيد بن ملحة بن عمرو بن بكر المُزّنِيِّ، لوالده إدراك، فإنه شهد فتح مصر واختطّ بها، وولاه - أعني بشيراً - عبدُ العزيز بن مروان القضاء لما مات عابس، وذلك في سنة ثمان وستين. مات بعد مضي سنة واحدة وذكره سعيد بن عُفير في الأخبار. وقال خلف بن ربيعة عن أبيه عن ابن لهيعة: وليها بشير بن النضر. قيل ما لبث أن مات. قال ربيعة: فسألت أهله فقالوا: مات سنة تسع وستين أو في سنة سبعين. وذكر أبو عمر الكندي من طريق جعفر بن ربعية أن بشير بن النضر المزني وكان قاضياً قبل ابن حُجَيْرة في زمن عبد العزيز قال في قوله تعالى: ( وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ) قال: الوارث: الصبي.
وجمع لبشير بين القضاء والقصص وبيت المال. وكان رزقه في كل سنة ألفَ دينار. وذلك أنه كان له على القضاء مائتا دينار، وعلى القصص مثلها، وعلى بيت المال مثلها، وفي العطاء، مثلها، وفي الجوائز مثلها، فلا يحول الحول وعندها منها شيء. وكان يقتدي به لورعه. وكانوا يهدون له في الأعياد وفي المواسم، فلا يقبل لأحد شيئاً. وكان شديد التواضع.
بَكَّار بن قُتَيْبَة بن عُبَيْد الله بن أبي بَرْذَعة بن عُبيد الله بن بشير بن عبيد الله بن أبي بكرة، أبو بكرة، الثقفي ثم البكراوي. كذا نسبة ابنُ عساكر، وساق نسبة من عند أبي عمر الكندي، فأسقط عبيد الله بين قتيبة، وأبي برذعة، وعبيد الله بين أبي برذعة، وبشير بن عبيد الله، وكذا في تاريخ أبي جعفر الطحاوي. وأما ابن يونس فأسقط عبيد الله الأول وأثبت الثاني وهو المعتمد. وفي سير النبلاء للذهبي: بكار بن قتيبة بن أسد بن عبيد الله، ولد سنة اثنتين وثمانين ومائة، وهو حنفي. أخذ الشروط والفقه عن هلال بن يحيى الرأي، وعن عيسى بن أبان، وطلب الحديث فاكثر عن أبي داود الطيالسي، ويزيد بن هارون، وصفوان بن عيسى، وعبدا لصمد بن عبد الوارث، ومؤمل بن إسماعيل وغيرهم من مشايخ البصرة، كأبي أحمد الزبيري، وعبد الله بن بكر، وعفان، حسين بن حفص الأصبهاني، وإبراهيم بن أبي الوزير، وحبان بن هلال، وأبي عاصم، وعثمان بن الهيثم، وسعيد بن عامر الضَّبْعي، ويحيى بن حماد، ومكي بن إبراهيم، وعبد الله بن رجاء، وروح بن عبادة، وأبي الوليد الطيالسي، وأبي عامر العَقدي، ويعقوب بن إسحاق، ويحيى بن يونس، وحسين بن مهدي، وقريش بن أنس في آخرين.

وذكر ابن عساكر في الرواة عنه، ولده بكر بن بكّار، وفيه نظر، لأنه سيأتي في قضيته مع مسوى بن عبد الرحمن أنه قال: ما نكحت قط. روى عنه أبو داود السجستاني خارج السنن، وابن خزيمة، وأبو عوانة في صحيحيهما، ويحيى بن محمد بن صاعد، وابن جَوْصَا، وأحمد بن عبد الله الناقد. والحسن بن محمد ابن النعمان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة الدمشقي، وأكثر عنه الطحاوي جداً، وروى عنه أيضاً محمد بن سليمان بن حَذْلَم الدمشقي، وأبو الميمون عبد الرحمن البجلي، ومحمد بن العباس بن زِيَرْك وصاعد، وابن جَوْصَا، وأحمد بن عبد الله الناقد. والحسن بن محمد ابن النعمان، ومحمد بن محمد بن أبي حذيفة الدمشق، وأكثر عنه الطحاوي جداً، وروى عنه أيضاً أحمد بن سليمان بن حَذْلَم الدمشقي، وأبو الميمون عبد الرحمن البجلي، ومحمد بن العباس بن زِيَرْك وصاعد بن عبد الرحمن البَجَلي، والحسن بن حبيب الحَصَائِري، وعلي بن الحسين بن محمد بن النضر، وأحمد ابن محمد بن بشر وأحمد بن محمد بن فضالة، وأبو الحسين محمد بن علي بن أبي الحديد، وجعفر بن محمد بن موسى، وإبراهيم بن إسحاق الصَّرَفَنْدِي، وأبو الطاهر أحمد بن محمد بن عمرو المديني، وأبو العباس محمد بن يعقوب الأصم. وهذان خاتمة أصحابه.
وكان له اتساع في الفقه والحديث. قال أبو بكر ابن المقرئ في فوائده: سمعت محمد بن بكر الشَّعْرَانِي بالقدس يقول: سمعت أحمد بن سهل الهروي يقول: كنت ألازم غرياً لي إلى بعد العشاء الآخرة، أو نحو هذا. قال وكنت ساكناً في جوار بكار بن قتيبة، فانصرف بعد العشاء إلى منزلي فإذا هو يقرأ (يَدَاؤُدُ إنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةَ فِي الأرْضِ) الآية. فوقفت أتسمَّع عليه طويلاً، ثم انصرفت فقمت في السَّحَر على أن أصير إلى منزل الغريم، فإذا هو يقرأ هذه الآية يرددها ويبكي فعلمت أنه كان يقرؤها من أول الليل.
وفي فوائد المشرف بن علي التَّمِّار من رواية أحمد بن سعيد، سمعت سعيد ابن عثمانَ يقول: سمعت بكار بن قتيبة يقول:
لنفسي أبكى لستُ أبكي لغيرها ... لعَيْبِي في نفسي عن الناس شاغل
وقال أبو عمر الكندي: قال محمد بن الربيع الجيزي: ولي من قبل المتوكل، فدخلها يوم الجمعة لثمان ليال خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين ومائتين. ويقال أنه لقي، وهو قاصدٌ مصر، محمد بن أبي الليث بالجفار وهو الرمل الذي بين غزَّة والعَريش راجعاً إلى العراق مصروفاً، فقال له بكرا: أنا رجل غَريب وأنت رجل قد عرفت البلد، فدلني على من أُشاوره وأسكنُ إليه، فقال له عليك برجلين أحدهما عاقل، وهو يونس بن عبد الأعلى، فإنني سعيت في سفك دمه، وقدر علي فحقَن دمي. والآخر موسى بن عبد الرحمن بن القاسم فإنه زاهد. قال: فصفهما لي، فوصفهما له. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس رأي شيخنا بالوصف الذي وُصفهما لي، فوصفهما له. فلما دخل بكار مصر ودخل الناس رأى شيخنا بالوصف الذي وُصِفَ له به يونس بن عبد الأعلى فظن أنه هو فأكرمه. فبينما هو في الحديث معه إذ قبل: جاء يونس بن عبد الأعلى فأعرض عن الرجل وتلّقَّى يونسَ فأكرمَه، وأتاه موسى بن عبد الرحمن فأعظَمه واستشاره وأخذ برأيه. وحمل يونس بكاراً على فسخ قضية الحارث بن مسكين في دار الفيل ففعل.
واشتهى بكرا أن يرى الحارث بن مسكين فعُرِّف بزمانه فركب إليه، وسلم عليه في داره بسوق وردان. فاتفق أن بكاراً قال لموسى بن عبد الرحمن بعد ما تخصص به: يا أبا هارون من أين المعيشة؟ قال: من وقف أبي، قال: يكفيك؟ قال قد تَفَّيت به. وقد سأل القاضي، فأسأل؟ قال: سل. قال: هل ركب القاضي دينٌ بالبصرة لم يجد له وفاء حتى تولى القضاء؟ قال: لا، قال: فرزق ولداً أحوجه إلى ذلك؟ قال: لا. قال فعيال؟ قال ما نكحت قط. وما عندي سوى غلامي قال: فأجبره السلطان على القضاء وخوفه؟ قال: لا، قال: فضربت آباط الإبل من البصرة إلى مصر، لغير حاجة إلا لتلي الدماء والفروج؟ لله علي أن دخلت عليك أبداً. فقال: أقِلني يا أبا هارون، قال: أنت ابتدأت بمسألتي ثم انصرف عنه فلم يعد إليه.
وقد استبعد صاحبنا جمال الدين البشبيشي صحة هذه الحكاية من جهة أن ابن أبي الليث كان حينئذ محبوساً بالعراق، لأن خروجه من مصر كان في سنة إحدى وأربعين قبل مجيء بكار بخمس ينين.

وأجرى المتوكل على بكار في الشهر مائة وثمانية وستين ديناراً. فلم تزل تجري عليه طول حياته.
قلت: وهي على حساب خمسة ونصف وثمان كل يوم، فلعلها كانت ستة فحط الكُتَّاب منها نقص الأهلة.
وكان بكار عارفاً بالفقه كثير البكاء والتلاوة. وكان إذا فرغ من الحكم خلا بنفسه وغرض من تقدم إليه وما حكم به على نفسه. وكان يكثر الوعظ للخصوم ولا سيما عند اليمين. وكان يحاسب أمناءَه في كل وقت، ويسأل عن الشهود.
وكان إبراهيم بن أبي أيوب يكتب للحارث بن مسكين، فلما دخل بكار مصر حضر إليه وكان ذكر عنده بسوء، فقال له: انصرف فلا حاجة لنا بك. فخرج فرآه أهل الخصومات الذين بباب بكار، فثاروا عليه ومزقوا ثيابه وضربوه، فقيل أبكار إن لم تُدْركه قُتِل، فقام فنادى: كفوا فقد أشركناهم في الكتابة مع كاتبنا. فرجع الذين وثبوا عليه، ينفضون ثيابه ويعتذرون إليه. ولولا هذه الحيلة من بكار كان إبراهيم قتل، ثم لم يستعمله بكار.
ولما أمر المتوكل ببناء المقياس في الجزيرة كتب إلى بكار أن يندب إلى المقياس أميناً، فاختار لذلك أبا الرداد عبد الله بن عبد السلام المؤدب فاستمر ذلك في ولده، وذلك في سنة سبع وأربعين ومائتين. وكان الذي يتولى أمر المقياس النصارى، فأمر المتوكل ألا يوليه إلا مسلماً يختاره. ذكر ذلك ابن زولاق.
وذكر أبو عمر الكندي أن كتاب المتوكل بذلك، ورد على يزيد أمير مصر، فأقام أبا الرداد المعلِّم، وأجرى عليه ابن وهب صاحب الخراج كل شهر ستة دنانير. وكانت وفاة أبي الرداد المذكور في سنة ست وثمانين ومائتين.
ودخل أبو إبراهيم المُزّنِيُّ علي بكار في شهادة، ولم يكن رآه قبلها لاشتغال المزني بنفسه، وإنما اضطر إلى أداء الشهادة. فلما أداها قال له: تَسَمَّ، فقال: إسماعيل بن يحيى المُزني، قال: صاحبُ الشافعي؟ قال: نعم. فاستدعى من شهد عنده أنه هو، فقبل شهادته. قال الطحاوي: ما أدري كم كان يجيء أحمد بن طولون إلى بكار وهو على الحديث، فما يشعر به بكار إلا وهو جالس إلى جنبه، فيقول: ما هذا أيها الأمير؟ هلا تركتني حتى أقضي حقك! أحسن الله مجازاتك.
وقال أبو حاتم ابن أخي بكار: قدم على بكار رجلٌ، من أهل البصرة، ذكر أنه كان رفيقه في المكتب، فأكرمه جداً، ثم احتاج إلى شهادة فشهد مع رجل مصري عند بكار، فتوقف عن الحكم، فظن أهل مصر أنه لأجل المصري، فسئل في خلوة عن ذلك، فقال: المصري على عدالته ولكن السبب البصري، وذكر منه أمراً رآه منه في الصغر، قال: لا تطيب نفسي إذا ذكرت ذلك أن أقبل شهادته. وذكر أنه أكل معه أرزاً في سمن وعسل فنفد العسل الذي من ناحية بكار، ففتح من جهة صاحبه حتى جرى العسل، فقال له (أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا) فقال له بكار: أتهزأ بالقرآن في مثل هذا؟! فبقيت في نفسه عليه.
ومات رجل من المتقبلين وعليه مال للأمير وله أطفال، فطلب عاملُ الخراج من أحمدَ بن طولون أن يأمر القاضي ببيع داره فيما عليه، فأرسل ابن طولون إلى بكار في ذلك، فقال: حتى يثبت عليه الدين، فأثبتوه وسألوه البيع، فقال: حتى يثبت عندي أنه ملكه، فأثبتوه ثم سألوه البيع، فقال: حتى يحلف من له الدَّين، فحلف ابن طولون، فقال بكار: أنا الآن فقد أمرت بالبيع.
ومات آخر وعليه مال، وله دار حُبس، فقال عامل الخراج لأحمد: إن كباراً يرى بيع الحبس. فسأله ففعل كما فعل في المرة الأولى. فلما ثبت الدَّين، وثبت وضع يده عليه، وأنه حبُس، قال ابن طولون أبكار: مُر بيعه على مذهبك. فسكت ساعة، فعاوَده، فقال: أيها الأمير إنك قد بنيت المسجد الجامع والمارستان، والسقاية والصهريج، وحبست على ذلك ما شاء الله، فلا تجعل لغيرك على أحباسك سبيلاً. فسكت أحمد.
وكان بكار في غاية العفاف والسلامة. واتفق أن دخل عليه بعض أمنائه وهو مخرّق الثياب. فقال: بعثتني أحفظ تركة فلان فصنع بي جاره هذا، فقال أحضروه: فأحضره الأعوان، فقال له بكار: أنت صنعتَ هذا باميني؟ قال: نعم. فقال خذوه، فأخذه الأعوان فسقط ميتاً، فدهش بكار، فقال له أمناء القاضي: هذا عَمِلَه اليوم، مات مرتين، فاستوى الرجل جالساً، فقال كذبوا والله ما مِتُّ إلا الساعَة ورقد. فجعل بكار برشُّ عليه المَاوَرد ويُشٍمُّه الكافور ويَرْفُق به، ويعِده إلى أن قام فصرفه. واقبل على أعوانه، فقال هددتموه وجررتموه فلو وافق أجله.

وكان ابن طولون إذا حضر جنازة لا يصلي عليها غيرهُ، إلا أن يكون بكار حاضراً، ولما مات يحيى بن القاسم العلوي كانت جنازته حافلة، فحضر ابن طولون وبكار، وبعد أن صلى الناس على الجنازة فقال ابن طولون: حطوا النعش، وقال أبكار: تقدم فصل عليه. فقال له كم أُكبّر؟ قال: خمساً، فتقدم بكار فصلى عليه وكبر خمساً، وأعاد أكثر الناس الصلاة عليه مع بكرا.
وقدم قوم من أصحاب الحديث ليسمعوا من بكار فقال: من أي البلاد أنتم؟ قالوا: من الرملة قال: ما حال قاضيكم، قالوا: عفيف، فقال بكار: إنا لله، يقال قاض عفيف! فسدت الدنيا.
وكان بكار عثمانياً، فتظلّم إليه رجل فجعل ينادي: ذهب الإسلام! فقال له بكار: يا هذا نُحر عثمان، فما ذهب الإسلام، يذهب بسببك؟!. فلما وقع بينه وبين ابن طولون بكَّته بها ابن طباطبا النقيب.
وقال الطحاوي: جاء رجل إلى أبي جعفر محمد بن العباس التل الفقيه فقال له: في دار لرجل غائب وإني أريد إخراجها من يدي، فقال له: صِرْ إلى القاضي فسلِّمها له. فمضى وعاد، فقال: قلت له، فقال: أخرجوه، فقال له التل: صدق، عُد إليه واذكر له موضعها وحدودها ففعل، فقال: أخرجوه، فقال له التل: صدق، عُد إليه وسَمِّ له اسمَ صاحبها وأنه غائب، فقال أخرجوه، فقال التل: صدق، عُد إليه واذكر له الموضع الذي هو غائب فيه، فقال: أخرجوه. فقال التل: صدق: عُد إليه واذكر أنه لا ملك لك عليها، ولا على شيء منها بسبب من الأسباب. فقال: أخرجوه فقال التل: صدق. عُد إليه وقل له وأنا عاجز عن حفظها، فمضى ثم عاد فقال: عرفته ذلك. فقال: اكتبوا عليه بما ذكر كتاباً وأعطوه نسخته، واقبضوا الدار وأقيموا لها أميناً، حتى يحضر صاحبها، فقال له التل: ابتلِيتَ بقاضٍ فقيه.
قلت: والتل هذا يسمى محمد بن العباس بصري سكن مصر، ومات في ذي الحجة سنة اثنتين وسبعين ومائتين.
وقال بكار يوماً في مجلسه: ما حللتُ سراويلي على حلال قط، فقال له رجل ولا حرام؟ فقال: والحرام يذكر! وقال أبو مسعود الأسد: كنت أتردد أنا وأخي إلى بكار بسبب أحباسنا، فجئت يوماً فصعدت إلى الدرجة، فسمعته يخاطب وكيلاً له ويقول له بعثتك لتزوج امرأة فتزوجتَها أنت! وهو يعتذر، وبكار يوبخه، فلما مضى كلامه نزل، فعرفته وإذا هو من شهوده.
وكان الحسنُ بن محمد بن سنان ابن أخي يزيد بن سنان من وجوه المصريين، وكان يريد من بكار أن يقبل شهادته، فلم يفعل، فصعدت أنا إلى بكار فقال: متى جئت؟ قلت: حين كنت تعاتب فلاناً، فقال: خذ هذين الدينارين اكتم ما سمعتَ مني، فقلت: أفعل. ثم نزلت من عنده إلى الحسن ابن محمد فقلت له: أريد عمامة وطيلساناً وأحدثك حديثاً، فأخرج إلي عمامة، وثوباً زهرياً فحدثته، فركب من ساعته فلم يرجع حتى طاف على وجوه المصريين. فبلغ ذلك بكارا فأرسل إلي فقال: أعرَّفتَ أحداً ما سمعتَ؟ قلت: لا أفشي سر القاضي، قال: فمن أين بلغ الخبر الحسن بن محمد؟ قلت: قد قيل إن الجن تَبول في الماء فلا يشرب أحد من ذلك الماء إلا علم بذلك الخبر فقال بكّار: فقد قيل. انصرف في حفظ الله. قال: وكان الحسن بن محمد أميناً عند القضاة.
وكانت ودائع بكار وغيره عنده وعند زوجته فاطمةَ بنت يزيد بن سنان، وعاش الحسن بن محمد إلى سنة تسع وتسعين ومائتين.
وقال ابن زولاق حدثني عبيد الله بن عبد الكريم قال: كان بكار يشتهي أن يسمع كلام المُزني، فاجتمعا يوماً في جنازة، فأشار بكار إلى أبي جعفر التل، أن يسأل المزني عن مسألة، فقال التل: ما رأيت أعجب من أصحابنا الشافعيين، لهم أحاديث في تحريم قليل النبيذ، ولنا أحاديث في تحليله، فمن جعلهم ألوى بأحاديثهم منا بأحاديثنا؟ فقال المزني. ليس يخلو أن تكون أحاديثُكم قبل أحاديثنا أو بعدها، فإن كانت قبلها، فهكذا نقول إنها كانت محلَّلة ثم حرِّمت، فما نحتاج إلى أحاديثكم. وإن كانت أحاديثكم بعد أحاديثنا فهذا لا يقول أحد، إنها كانت حلالاً ثم صارت محرَّمة ثم يحلِّل. فقال بكار سبحان الله! إن يكن كلام أدق من الشعر فهو هذا، واتفق فراغهم، فصاح المنادي انصرفوا.

قال عبيد الله بن عبد الكريم: وكان بكار يخالف أصحابه في تحليل قليل النبيذ، ويذهب إلى تحريمه. وعاتب أبا جعفر التل صاحبُه على الشرب، قال: وكان بكار في غاية المعرفة بالقضاء، فاحتاج مرة إلى قبول شهادة رجل فسأل عنه فقيل له: ما يعرف حاله إلا ابنا الخلال الشافعيان، وكانا من جلساء المزني فأرسل إليهما، فسألهما فقالا: عامَلْناه وأوفانا. فقال لهما بكار: عاملكما وأوفاكما وأعفاكما؟ فقالا: لا، ترددنا إليه. فقال: وكان قادراً على الوفاء؟ قالا نعم. قال: فوقف عن قبول شهادته. قال: وكان في مجلس ابن طولون، فتخاصم رجلان فقال له احكم بينهما، فنظر في القضية وتوجهت اليمين على أحدهما، فاستحلفه. فلما فرغ، قال له الخصم: استحلفه أيها القاضي برأس الأمير، فقال بكار: يا هذا قد حلف بالله، أعظم من الأمير. فقال: بل استحلِفه برأس الأمير، فقال له بكار، تحلف برأسه؟ قال: لا، فقال له بكار: يا عدو الله، تحلف بالله خالق السموات والأرض، وتمتنع أن تحلف برأس مخلوق مثلك! قال: فحظي ذلك الرجل بعد ذلك عند أحمد بن طولون.
قال ابن زولاق: كان أبكار اتساعٌ في العلم والمناظرة، ولما رأى مختصر المزني وما فيه من الرد على أبي حنيفة شرع هو في الرد على الشافعي، فقال لشاهدَين من شهوده، اذهبا إلى المزني فقولا له: سمعتَ الشافعي يقول ما في هذا الكتاب؟. فمضيا: وسمعا المختصر كلَّه من المزني، وسألاه: أسمعتَ الشافعي يقول هذا؟ قال نعم. فعادا إلى بكار فأخبراه بذلك، فقال: الآن استقام لنا أن نقول أن الشافعي. ثم صنّف الرد المذكور.
ولما غضب أحمدُ بن طولون على بكّار سجنه، وكان السبب في ذلك أنه لما خرج إلى قتال الموفق، بسبب العهد حين ضيق الموفق، وهو ولي العهد، على أخيه المعتمد بذلك، وهو الخليفة حينئذ، حتى إنه لم يبق للمعتمد إلا الاسم، ضاق المعتمد بذلك، فكاتب أمراء الأطراف فوافقه أحمد بن طولون، وواعده أنه يحضر إليه ويحمله معه إلى مصر، ويجعلها دار الخلافة، ويذب عنه من يخالفه في ذلك. فتهيأ المعتمد لذلك، واهتم أحمد بأمره. فبلغ الموفق فنصب لأحمد الحرب، وصرح بعزله ولعْنه، فصرح أحمد بخلع الموفق من ولاية العهد، وأمر بلعنه وخرج أحمد بالعسكر من مصر، واستحصب بكاراً. فلما كان بدمشق جاء كتاب المعتمد إلى ابن طولون بخلع الموفق من ولاية العهد ففعل، وأجاب القضاة كلهم إلى خلعه، وسماه بكار " الناكث " وأشهد على نفسه هو وسائر قضاة الشام الثغور، وطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق، فامتنع بكار، فألح عليه، الشام والثغور، وطلب منهم أحمد أن يلعنوا الموفق، فامتنع بكار، فألح عليه، فأصر على الامتناع حتى أغضبه، وكان قبل ذلك له مُكْرِما معظماً، عارِفاً بحقه. وكان يجيزه في كل سنة بألف دينار. فلما غضب عليه أرسل إليه: أين جوائزي؟ فقال: على حالها، فأحضرها من منزله بخواتيمها ستة عشر كيساً، فقبضها أحمد. وكان قبل ذلك أرسله إلى ابنه العباس، لما خالف عليه ببرقة، فأجابه العباس إلى الرجوع إلى أبيه، ثم خلا ببكار فقال له: المستشار مؤتمن، أتخاف علي من أبي؟ قال: قد أمنك وحلف لك، ولا أدري يفي أم لا فامتنع العباس من الرجوع معهم.
وكان أحمد قد داوم النظر في المظالم، حتى استغنى الناس عن الشرطيين وعن القاضي حتى كان بكار ربما نعس في مجلسه واتكأ، ثم انصرف إلى منزله ولم يتقدم إليه اثنان. ولما ألحّ ابن طولون على بكار في لعن الموفق، وامتنع من إجابته خوطب في ذلك إلى أن قال بكار لأحمد بن طولون: ألاَن لعنة الله على الظالمين. فقال علي بن الحسين ابن طباطبا، وكان نقيب الطالبيين بمصر: أيها الأمير إنه عَنَاكَ. فغضب أحمد وأمر بتمزيق ثيابه، وجروه برجله، وليس عليه إلا سراويلُ وخُفان وقلنسوة، مَسلوب الثياب.
وكان بِرجْل بكّارٍ عِلّة لا يستطيع التَرَبُّع، بل يمد رجله من تحت ثيابه فضربه رجل بعود حديد على رجله المدودة فقال: أوَّه، وضمّها. ثم حمل من بين يديه إلى السجن، وأقامه للناس يطالبونه بمظالم يدعونها عليه. فكان يحضر في مجلس المظالم بين يدي أحمد قائماً.

وكان الطحاوي يقول: ما تعرض له أحد فأفلح بعد ذلك. لقد تعرض له غلام يقال له عامر بن محمد بن نجيح، وكان في حجره، فرآه في مجلس المظالم، فقال بكار يا عامر ما تصنع ها هنا؟ فقال أتلفتَ عليَّ مالي، فقال: إن كنت كاذباً فلا نفعك الله بعقلك.
قال: فأخبرني من رآه ذاهل العقل، يسيل لُعابه، يَسُبُّ الناس ويرميهم بالحجارة، والناس يقولون: هذه دعوة بكار. قال: وتقدم إليه نصراني فقال: أيها الأمير إن هذا الذي يزعم أنه كان قاضياً، جعل رَبع أبي حُبسا، فقال بكار: نعم. ثبت عندي أن أباه حبَّس هذا الربع وهو يملكه، فأمضيت الحبس فجاءني هذا متظلماً فضربته فخرج إلى بغداد، فجاءني بكتاب هذا الذي يزعم أنه الموفق (لا تمض أحباس النصارى) فعرفت أنه جاهل، فلم ألتفت إليه. وقد شهد عند إسحاق بن معمر بأن هذا كان أسلم ببغداد على يد الموفق، فإن شهد عندي آخرُ مثل إسحاق ضربته عُنقه. فصاح أحمد بالنصراني، المُطْبَق المُطْبَق، فأخر فحبس.
ومن قضايا بكار: أن رجلاً خاصم آخر شافعياً في شفعة جوار، فطالبه عند بكار فأنكر، فطاوله بكار حتى عرف أنه من أهل العلم. فقال بكار للمدعي ألك بينة؟ قال: لا قال لخصمه: أتحلف؟ قال: نعم. فحلَّفه، فحلفَ فزاد في آخر اليمين أنه ما يستحق تمليك هذه الشفعة، على قول من يعتقد شعفة الجوار، فامتنع. فقال له بكار: قُم فأعطه شفعته. قال فأخبر الرجل المزني بقضِيَّته، فقال له: صادفتَ قاضيها فقيهاً.
وقال الطحاوي: لما قَبض أحمد بن طولون يدَ بكارٍ عن الحكم وسجنه، أمره أن يسلم القضاء لمحمد بن شَاذانَ الجوهري كالخليفة له ففعل. ثم كان بكار إذا حضر مجلسَ المظالِم للمناظَرة يُعَادُ إلى السجن إذا انقضى المجلس. وكان يغتسل في كل يوم جمعة، ويلبس ثيابه، ويجئ باب السجن، فيرده السّجّان ويقول: اعذرني أيها القاضي، فما أقدر على إخراجك، فيقول: الله أشهد، فبلغ ذلك أحمد، فأرسل إليه: كيف رأيت المغلوب المقهور لا أمر له ولا نهي، ولا تصرُّفَ في نفسه. لا تزال هكذا حتى يرد عليّ كتاب المعتمد بإطلاقك.
ولما طالب حبس بكار طلب أصحاب الحديث إلى أحمد بن طولون أن بأذن لهم في السماع منه، فأذن لهم، فكان يحدثهم من طاق في السجن، فأكثر من سمع منه في آخر عمره، كان كذلك.
وقال ابن زولاق: ثم أمر ابن طولون بنقل بكار من السجد إلى دار اكتريت عند درب المصقلي فأقام بها مدة. فلما مات أحمد بن طولون بلغ بكاراً فقال: ما للناس؟ قيل انصرف أيها القاضي إلى منزلك فقد مات أحمد فقال: الدار بأجرة وقد صلحت لي. وعاش بعد ابن طولون أربعين يوماً ومات في تلك الدار. فحضرت جنازته فما رأيت كبير أحد، فقلت ليحيى بن عثمان بن صالح. يموت مثل هذا الرجل وتكون هكذا جنازته! فما صليت العصر حتى ما فقدت أحداً، ولم أر فيها أحداً راكباً. وصلى عليه ابن أخيه محمد بن الحسن بن قتيبة، ودفن بطريق القرافة، والدعاء عند قبره مستجاب. ومات يوم الخميس لخمس بقين من ذي الحجة سنة سبعين ومائتين وقد قارب التسعين. وكانت مدة ولايته أربعاً وعشرين سنة وستة أشهر وستة وعشرين يوماً.
بكران هو لقب، واسمه عتيق بن الحسن، يأتي في حرف العين.
بهرامُ بن عبد الله بن عبد العزيز بن عمر بن عوض بن عمر تاج الدين أبو البقاء الدَّمِيري، الفقيه المالكي، من المائة الثامنة. ولد في سنة أربع وثلاثين وسبعمائة واشتغل كثيراً، وأخذ عن مشايخ عصره، منهم شرف الدين الرَّهوني والشيخ خليل وسمع الحديث من محمد بن إبراهيم البياني وغيره، ومهر في الفقه وشرح مختصر شيخه الشيخ خليل شرحاً محموداً، انتفع به الطلبة لأنه في غاية الوضوح، يحُل ألفاظه من غير تطويل بدليل أو تعليل.
وصنّف المناسك في مجلدة وشرحها في ثلاثة أسفار. وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي، وألفية ابن مالك وكانت ولايته بعد خلع برقوق وإرساله إلى الكرك. فلما عاد من الكرك إلى السلطنة عزله، وولي الركراكي كما سيأتي بيان ذلك في ترجمته في حرف الميم في محمد بن يوسف.

وكان قد ناب عن الإخنائي والبساطي وابن خير، وولي تدريس الشيخونية، فلما مات ابن خير، في شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، فلما خرج منطاش لقتال برقوق لمَّا ظَهر من الكرك، استصحب معه الخليفة وقُضاة القُضاة، فأصاب القاضي طعنةٌ في صدره، وأخرى في شدقه. فلما استولى برقوق على الخليفة والقضاة وصحبهم إلى جهته، صحبوه إلى القاهرة، وبهرام في غاية الضُرّ من الطعنتين، فاستمر عليلا، وصرف في ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين وسبعمائة، فاستمر معزولاً عن الحكم متفرغاً للاشتغال بالعلم. وشغل الطلبة إلى أن مات في نصف جمادى الآخرة سنة خمس وثمانمائة، كذا أرخه البشبيشي وأرخه المقريزي في سابع ربيع الأول. وكان لين الجانب، عديم الشر، كثير البر قلَّ أن يمنع سائلاً يسأله في شيء يقدر عليه.
حرف التاء المثناة
توبة بن نَمِر بن حَرْمَل بن ربيعة بن نمر بن شَاجي بن نمر بن لِشَرح بن خزيمة الحضرمي، يكنى أبا محجن وأبا عبد الله. من المائة الثانية، وروى عن زياد ابن عجلان والمعلَّى بن كثير وغيرهما، وكذره ابن السمعاني في الأنساب في البَسِّي بفتح الباء الموحدة وتشديد السين المهملة نسبة إلى بسّ وهو بطن من حمير ينسب إليه أبو محجن توبة بن نمر البَسَّي قاضي مصر، كذا قال.
روى عنه عمر بن الحارث والليث بن سعد وابن لَهيِيعة ورجاء بن أبي عطاء، وضِمام بن إسماعيل وغيرهم.
قال ابن يونس: كانت له عبادة وفضل، وكانت له امرأة يقال لها عُفَيْرة، من عليه السناء وأهل الفضل. وكانت ولايته القضاء من قبل الوليد بن رفاعة فولاه القضاء في مستهل صفر سنة خمس عشرة ومائة قال غوث بن سليمان: أرسل إليه الوليد حين مات الخيار بن خالد فدخل عليه وهو على سريره، ومعه امرأته عفيرة الأشجعية وكان برزة فولاه القضاء، فقال له امرأته: والله ما حاباك ابن رفاعة بهذه الولاية فلو وجده في قيس كلها من يسد مسدك لآثره عليك.
وأخرج ابن عمر الكندي من طريق ابن لهيعة قال: لما ولي توبة القضاء دعا امرأته فقال لها: أي صاحب كنتُ لكِ يا أم محمد؟ قالت: خير صاحب وأكرمه قال فاسمعي ما أقول لك: لا تعرضي لي في شيء من القضاء، ولا تذكريني بخصم، ولا تسأليني في حكومة. فإن فعلتِ شيئاً من ذلك فأنتِ طالقٌ ثلاثاً. فإما أن تقيمي مكرمة، وإما أن تبيني ذميمة. فانتقلت عنه، فلم تكن تأتيه إلا في الشهر أو الشهرين.
ومن طريق المفضل بن فَضالة نحوه وزاد، وكانت ترى دواته قد احتاجت إلى الماء، فلا تأمر بها أن تمد، خوفاً أن يدخل عليه في يمينه شيء.
وعن عبد الملك بن شعيب بن الليث عن أبيه قال: سمعت أبي يقول: إن رجلاً وامرأته اختصما إلى توبة فطلقها. فقال له توبة متعها، فامتنع فلم يلزمه بذلك، ثم جاءه الرجل بعد ذلك في شهادة فلم يقبله، وقال: إنك أبيت أن تكون من المحسنين. وأبيت أن تكون من المتقين ولم يقبل له شهادة.
ومن طريق ابن لهيعة أن توبة كان يقضي بالشاهد واليمين في الشيء اليسير.
ومن طريق الليث: أن توبة كان يقضي في الرجل يجعل لامرأته أن لا يخرجها من منزلها، أن له ذلك إذا شاء.
ومن طريق المفضل بن فضالة أن توبة كان يقضي في المرأة المدخول بها إذا أفلس بصداقها، أن يكمل لها صداقها، وما بقي من ماله كان للغرماء.
ومن طريق سعيد بن عُفير عن ابن وهب عن عبد الله بن المُسَيَّب قال: حضرتُ توبة يقول للنخاسين: من اشترى منكم رقيقاً لم أرده له بالعيب لأنكم تبصرون ما تشترون، فإن بعتم سكتم، وإن اشتريتم أردتم رده، لا، ولا كرامة.
وعن المفضل بن فضالة: كان توبة لا يقبل شهادة الأشراف، ولا يقبل شهادة يمنى علي نِزاري، ولا نزاري على يمنى، بل يردهم إلى عشائرهم ليصلحوا بينهم.
ومن طريق يحيى بن عبد الله بن بكير عن ابن لهيعة قال: أول من وضع للأحباس ديواناً توبة بن نمر في زمن هشام وإنما كانت الأحباس في أيدي أهلها وأوصيائهم، فقال توبةُ: أرى مآل هذه الأحباس إلى الفقراء والمساكين فأرى أن أضع يدي عليها، حفظاً لها من التواء والتوارث. فلم يمت توبة حتى صار للأحباس دويان عظيم.
ومن طريق أشهب بن عبد العزيز قال: أول قاض بمصر تسلم الأحباس توبة، وكان ذلك في سنة ثمان عشرة ومائة.

ومن طريق ابن لهيعة، كان توبة ومن أدركت من القضاة، يقضون بشهادة الرجل وحده على شهادة الرجل الذي أشهده، إن كان قد غاب أو مات. قال ابن لهيعة: وأخبرنا يزيد بن أبي حبيب عن ابن شهاب بمثل ذلك.
ومن طريق ربيعة ابن أخي غوث بن سليمان الحضرمي. قال: كان توبة لا يملك شيئاً إلى وهبه، ووصل به إخوانه وأفضل به عليم، فلما ولي القضاء كان يحجر على السفيه والمبذر، فرفع إليه غلام من حمير لا يحوي بيده شيئاً إلا وهبه. فأراد أن يحجر عليه فقال له الغلام فمن يحجر عليك فوالله ما نبلغ في أموالنا عشر معشار من تبذيرك فسكت توبة ولم يحجر على أحد بعد.
قال ربيعة: وأنشدني عمَّي لتوبة:
نَشَبِي وما جمَّعتُ من صَفَدٍ ... وَحَوَيْتُ من مالٍ ومن وَلَدِ
هِمم تقاذفت الهمومُ بها ... فَنَزَعْن من بلد إلى بلد
يا رَوْحَ من حَسَمَتْ قناعَتُه ... سببَ المطامع من غدٍ وغَدِ
من لم يكنْ لله متهِماً ... لم يُمْسِ محتاجاً إلى أحد
ومن طريق سعيد بن عفير، قال: مات توبة بن نمر وهو على القضاء في شهر ربيع الآخر سنة عشرين ومائة. فكانت مدة ولايته أربع سنين وشهراً واحداً. ويقال: إنه مرض فاستعفى، وأشار بولاية كاتبه خير بن نعيم.
حرف الثاء المثلثة
ثقة الملك، هو مسلم بن علي، يأتي في حرف الميم، إن شاء الله تعالى.
حرف الجيم
جار الله النيسابوري، هو محمد بن عبد الله بن محمود، يأتي في حرف الميم.
جعفر بن عبد الواحد بن جعفر بن سليمان بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي العباسي. ولاه المتوكل قضاء الممالك، فولي الحارث بن مسكين، ثم كتب إليه كتاباً بعزله، وسيأتي بيان ذلك في ترجمة الحارث. وكان مولد جعفر في سنة بضع وثمانين ومائة، وكان قد طلب الحديث، فسمع الكثير. وروى عن روح بن عبادة ومحمد بن بكر البُرْسَانِي وأبي عاصم وغيرهم، روى عنه أبو داود فيما قيل، ويعقوب بن سفيان وأبو بكر الباغندي، وأبو عوانة الإسْفراييني، وأبو بكر أحمد بن هارون البَرْدِيجيّ، وعلي بن سراج المصري وآخرون.
قال نفطويه: كان من حفاظ الحديث، وكانت له بلاغة ولَسن. وقال ابن عدي: كان يتهم بوضع الحديث. وقال أبو حاتم الرازي: وصل جعفر بن عبد الواحد عن القعنبي حديثاً كان القعنبي حدثه به مرسلاً، فزاد فيه عن أنس. فبلغ ذلك القَعْنَبِيّ فأنكر، فافتضح جعفر. ويقال إن القعبني دعا عليه.
قال سيعد البرذعي فقال أبو زرعة: أخاف أن تكون استجيبت فيه دعوة العبد الصالح. قلت له: أي المشايخ؟ قال: القعبني. وقال الدارقطني: متروك. وقال الخطيب: كان المتوكل ولاه قضاء القضاة، فولى الحارث بن مسكين مصر.
ثم بعث إليه بعد مدة فعزله. واستمر إلى خلافة المستعين، فعزله لشيء بلغه عنه، نفاه إلى البصرة. وقال الدارقطني: كان يضع الحديث. وساق ابن عدي له أحاديث. وقال: كلها بواطيل. وقال البرذعي: ذاكرت أبا زرعة بأحاديث سمعتها من جعفر، فقال في بعضها: إنها موضوعة، وفي بعضها إنها لا أصل لها، ثم استرجع، وقال: لقد كنت أراه، واشتهى أن أكلمه. نسأل الله العافية.
وكانت وفاته في الثغر سنة ثمان وخمسين ومائتين. قاله مسلمة بن قاسم.
جلال الدولة ابن عمار، هو علي.
جلال الملك ابن عبد الكريم، هو أحمد، تقدم.
جلال الملك، هو يونس بن محمد. يأتي في آخر الحروف إن شاء الله تعالى.
حرف الحاء المهملة
الحارث بن مسكين بن محمد بن يوسف الأموي أبو عمرو، مولى محمد بن زَبَّان بن عبد العزيز بن مروان. ولد سنة أربع وخمسين ومائة، وأقدم من رآه الليث بن سعد، وسأله عن مسألة ولم يتهيأ له أن يسمع منه الحديث.
قال ابن يونس حدثنا العباس بن محمد المصري في آرخين. قالوا: حدثنا الحارث بن مسكين، قال: سألت الليث بن سعد عن العصير فقال: هو حلال ما لم يهدر، فإذا هدر فلا خير فيه. وذكر يحيى بن علي الحضرمي الطحان في كتابه، غرائب مالك عن الحارث بن مسكين قال: حججت فرأيت رجلاً في عمارته فسألت عنه، فقيل: هذا مالك بن أنس فرأيته ولم أسمع منه. وطلب العلم بعد أن كبر. فسمع من ابن عيينة، وهو أقدم شيخ له، ومن ابن وهب وابن القاسم وأشهب ويوسف بنت عمرو وغيرهم.

روى عنه ابن أحمد، وأبو داود، والنسائي، وعبد الله بن أحمد، ويعقوب ابن شيبة، ومحمد بن زَبَّان، وأبو بكر بن أبي داود، وأبو يَعْلَى الموصلي وآخرون.
قال أحمد: ما بلغني عنه إلا الخير، وقال فيه قولاً جميلاً. وقال إبراهيم ابن الجنيد عن يحيى بن مَعين: لا بأس به. وقال مرة: هو خير من إصبع وأفضل. وقال أبو حاتم الرازي: صدوق. وقال النسائي: ثقة مأمون. وقال ابن يونس: كان فقيهاً أخذ الفقه عن ابن وهب وابن القاسم، وثقة أيضاً الحاكم، ومسلمة بن قاسم. وقال الخطيب: كان فقيهاً على مذهب مالك، وكان ثقة فِي الحديث ثبتا، حُمل في أيام المأمون في محنة القرآن إلى العراق، فلم يجب. فسجت إلى أن ولي المتوكل وأطلقه. وحدث ببغداد ورجع إلى مصر وولى القضاء من قبل المتوكل في سنة سبع وثلاثين، وجلس للحكم كذا. قال الخطيب: إنه حمل في محنة القرآن.
والذي حكاه غيره أن حُمل بسبب غيره قال: لما قدم المأمون مصر تلقاه الناس بالفَرَما، يرفعون على عُمّال أهل مصر. فدس الفضل بن مروان وهو يومئذ وزير المأمون قوما يثنون عليهم ليقع التعارض. جلس الفضل بن مروان في الجامع، وحضر مجلسه يحيى بن أكثم القاضي، وأحمد بن أبي دواد، وإسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد، هو يومئذ على المظالم بمصر. وطلب الحارث ابن مسكين ليوليه القضاء، فحضر. فبينا هو يكلمه إذ قال له المتظلم: سل أصلحك الله الحارث عن ابن أسباط وابن تميم، وكان قد تظلم منهما. فقال الفضل: ليس لهذا أحضرناه. فألح عليه فسأله: ما تقول في هذين الرجلين؟ فقال: ظالمين غاشمين. فقال: ليس لهذا أحضرناك. فاضطرب أهل المسجد.
فقام الفضل فدخل على المأمون فقال: لقد خشيت على نفسي من ثوران الناس مع الحارث. فأرسل المأمون: هل ظلماك في شيء؟ قال لا. قال فعاملتهما؟ قال لا. قال كيف شهدت عليهما؟ فقال: كما أشهد أنك أمير المؤمنين ولم أرك قط إلا الساعة. وكنا أشهد أنك غزوت ولم أحضر غزوك. أقال: اخرج من هذه البلاد فليست بلادك. وبع قليلك وكثيرك، فإنك لا تبقى فيها أبداً. وحبسه في قبة ابن هرثمة في رأس الجبل في خيمة. ثم انحدر المأموه وأحدرمه معه. فلما فتح البلد التي قصدها، حضر الحارث، فلما دخل عليه سأله عن المسألة بعينها، فأعاد الجواب بعينه ثم قال له: ما تقول في خروجنا هذا؟ فقال: أخبرني عبد الرحمن بن القاسم عن مالك أن الرشيد كتب إليه يسأله عن قتال أهل دَهْلَك فقال: إن كان خروجهم عن ظلم من السلطان فلا يحلم قتالهم، وإن كانوا إنما شقوا العصا فقتالهم حلال. فأجابه المأمون بجواب قبيح سبه فيه وسبّ مالكاً. وقال للحارث: ارحل عن مصر. فقال يا أمير المؤمنين إلى الثغر؟ قال: لا، الحق بمدينة السلام. فشفع فيه أبو صالح الحراني فقال له يا شيخ شفعت فارتفع. وانحرف المأمون على الحارث، واشتد غضبه منه وأسمعه المكروه، وعَدَّ له ذنوباً من جملتها امتناعه عن القضاء.
وكان الفضل لما عرض عليه القضاء امتنع، وكان المأمون أيضاً حرّد على المالكيين فازداد عليهم حنقاً بقصة الحارث، وذلك أن الحارث كان شكس الخلق منحرفاً عن الدولة العباسية، لأنه كان من موالي بني أمية. فارتحل إلى العراق فأقام ببغداد من سنة سبع عشرة إلى سنة اثنتين وثلاثين ومائتين في خلافه الواثق. وَكَانَ من ابن أبي دواد ذكره للواثق فقال: ما ظننت أنه حي. فقال: هو باق فأمر بحمله إلى سُر من رأي. فشفع فيه ابن أبي داود. وقال: هو شيخ، وكثرة الحركة تثقل عليه وتتعبه، وأخاف أن يموت. قال: فاكتب إليه يتوجه حيث شاء، فتوجه إلى بلده. وكان جماعة من بغداد قد ألفوه فتأسفوا على فقده، منهم أبو علي الجزري، فكتب إلى سعدان بن زيد وهو يومئذ بمصر يعرفه ما غمه من فقد الحارث فأجابه بأبيات منها.
أيها الشاكي إلينا وحشةً ... من حبيب بَانَ عنه فبعدْ
ولقَد متّعكَ الله به ... بضع عشر من سنين قد تُعَدْ
لو تراه وأبا زيد معاً ... وهما للدين حِصْنٌ وعَضُدْ
يدرسون العلم في مسجدهم ... وإذا جَنَّهُمُ الليل هُجُدْ

وأبو زيد المذكور هو عبد الرحمن بن أبي الغمر أحد الفقهاء بمصر، يروي عن المفضل بن فضالة وغيره. وقال عبدا لله بن عيسى بن عبيد الله المرادي في أتباع مالكك كان الحراث فقيهاً كبيراً مقدماً على الأفراد، سائداً على الأجواد. وامتحن فيما افتتن. روى عنه كافة المصريين. وله مصنفات منها: مصنف مالك. وقال محمد بن وضاح: كان الحارث ثقة الثقات.
قال أبو زكريا: هو أفضل من عبد الله بن صالح، كاتب الليث. وخير من أصبغ وأفضل، مع أن أصبغ كان أعلم الخلق برأي مالك.
وقال بحر بن نصر: عرفت الحارث أيام ابن وهب، وقبل وفاته على طريق زهد وورع، وصدق لهجة حتى مات.
وكان المتوكل لما عزل محمد بن أبي الليث، قال: اطلبوا لنا رجلاً نوليه القضاء، فذكر له عيسى بن لهيعة فقالوا إنه يتلهى بلعب الشّطرنج، حتى يزدحم الخصوم ببابه، ويقتتلوا، ثم ذكر له الحارث بن مسكين. فقال: اكتبوا له بالولاية. فأتاه كتاب الولاية وهو بالإسكندرية، ففض الكتاب، فلما قرأه امتنع. فجبره إخوانه على القبول. فقالوا: نحن نقوم بين يديك. فقبل وجلس للحكم، واستكتب محمد بن سلمة المرادي، وكان رفيقه فيا لسماع على ابن القاسم، وجعل على مسائله يزيد بن يوسف وعمرو بن يوسف، وأخاه عمرو بن يوسف، وأضاف إليهما بعد ذلك أبا بردة أحمد بن سليمان التجيبي.
قال ابن قديد: وحلمه أصابه على كشف أحكام محمد بن أبي الليث الذي كان قبله، وأن يفعل معه كما فعل هو بأحكام الذي قبله، وهو هارون بن عبد الله الزهري فكانوا يحضرون محمد بن أبي الليث كل يوم بين يدي الحارث، فيضربه عشرين سوطاً، ليخرج عما يجب عليه من الحقوق، فأقام على ذلك أياماً. ثم أشير عليه بتركه. وقيل له: إنه لا ينبغي للقاضي فعل ذلك لقبحه، فصرفه.
وقال ابن قديد: كان الحارث أقعد من رجليه. وكان يحمل في مِحَفَّة إلى المسجد الجامع، ويركب حماراً متربَّعاً. فأشير عليه يلبس السواد، فامتنع. فخوفه أصحابه سطوة السلطان، لكونه من موالي بني أمية فأجابهم إلى لبس كساء صوف أسود، فقنع منه الوالي بذلك. وقيل: عن الوالي كاتَبَ الخيفة بذلك، فكتب إليه إن لم يحُلُ له لبس السواد فاخلع وركيه، فأحضره الوالي وقرئ عليه الكتاب. فقال له محمد بن سعيد: يا شيخ، لا يهولنك ما ترى، لا تُرَع قال: فما أصنع؟ فقال شيخ من ناحية المسجد: أنا رأيته يلبس الثياب العرضية التي تعمل باليمن، فقال الحارث: بل ربما لبستها. فقال له الوالي: فالبسها. فقال: أمات لك فنعم. فخلى عنه. وكتب إلى المتوكل بأنه أذعن.
ومن قضاياه: أنه أخرج أصحاب أبي حنيفة والشافعي من المسجد الجامع، وأمر برفع حصرهم. ومنع عامة المؤذنين من الأذان، ومنع قريشاً والأنصار من طعمة شهر رمضان. وأرم بعمارة المسجد الجامع. ومسح سقوفه، وحوَّل سلم المؤذنين إلى غربي المسجد. وبلط زيادة ابن طاهر. وبني فِي الحذائين سقاية، وبنى الرحبة الملاصقة لدار الضرب، ليتسع الناس بها. وحفر خليج الإسكندرية. ونهى عن تقييد المصايد وأباحها للناس. ومنع من النداء على الجنائز. وصرف القراء الذين يقرؤون القرآن بالألحان، وكشف أمر المصاحف التي في المسجد الجامع، وولى عليها أميناً من جهته. وهو أول من فعل ذلك من القضاة. وترك تلقى الولاة والسلام عليهم.
ولا عَنَ بين رجل وامرأته في الجامع. وضرب الحد في سب عائشة. وقتل نصرانياً سب النبي صلى الله عليه وسلم، بعد أن جلده. وأمر بضرب عنق ساحرين من النصارى.
وهدم مسجداً بناه شخص خراساني بين القبور. ورفع إليه شخص قد حلق شعر رأسه فقال له: أشامي أم عراقي؟ فلقال: كوفي. فقال: أصبت.
وقال عبيدا لله بن محمد القاضي: كان الحارث عدلاً في قضائه، محمود السيرة. وقال أبو الطاهر ابن السرح ما دخل في ولاية الحارث شيء من الخلل إلا في بيت المال فإن أمره فيه لم يجر إلى استقامة. وقال هارون بن سعيد الأَثِلي: كنا نجلس فنتشاكى أمر ابن أبي الليث، وأنه الآن ينبغي لنا أن نتشاكى أمر الحارث، فإني أشرت عليه ألا يدفع مفتاح البيت المال لغيره. فلم أبرح حتى أخرج المفتاح من القِمَطْر، فدفعه إلى أخيه محمد بن مسكين، وإلى إبراهيم بن أبي أيوب، ليخرجا شيئاً من بيت المال. يعني، فدخل الخلل من جهة اعتماده على غيره.

وقال أبو عمر الكندي: سمعت عبد الكريم بن إبراهيم بن حِبَّان المرادي يقول: سرق إبراهيم بن أبي أيوب من بيت المال ثلاثين ألف دينار، قلت له: كيف علمت هذا؟ قال: والله لقد سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول له غير مرة. قال: وحدثني يحيى بن محمد بن عمروس. قال: حضرت جنازة لآل يوسف ابن عمرو بن يزيد، وحضرها الحارث بن مسكين ويونس بن عبد الأعلى. فأخذ يونس في كلام الزهاد والحكايات عن الصالحين، فبكى بعض أهل المجلس.
وضاق الحارث بن مسكين بذلك، فالتفت إلى يونس في كلام الزهاد والحكايات عن الصالحين، فبكى بعض أهل المجلس.
وضاق الحراث بن مسكين بذلك، فالتفت إلى يونس بن عبد الأعلى برفق، فقال له الحارث: أنت تحسن هذا كله وأنت تصنع ما تصنع! فقال له يونس: أنت قاض. وفي الحديث أن القاضي يذبح بغير سكين.
قال أبو عمر: أخبرني الحسين بن محمد بن هارون الفرضي، قال: حدثني يحيى بن أيوب العلاف، أن يونس بن عبد الأعلى شهد عند الحارث ابن مسكين بشهادة، فلما انصرف أسقط في يده، وعلم أن أبا بردة أحمد بن سليمان بن برد، ويزيد وعمراً ابني يوسف بن عمرو سيجَرّحونه، فرجع إلى الحارث على الفور فقال: أصلح الله القاضي، إنني شهدت اليوم شهادة في قلبي منها شيء، ولست أحبها. فأوقف الحارث الشهادة. فبلغهم ذلك فأسفوا. وقالوا: أفلت يونس من أيدينا.
ويقال أن رجلاً سأل الحارث في شيء فقال له: من يشهد لك؟ قال محمد ابن عبد الله بن عبد الحكم. فقال له الحارث: قل له إن كان رجلاً فليأت فليشهد. وقال يحيى بن محمد بن عمروس: كنت عند يونس بن عبد الأعلى، والقارئ يقرأ عليه. فدخل رجل فقال: مات يزيد بن يوسف، فصاح أهل المجلس. فقال يونس بن عبد الأعلى: ما بالكم؟ قالوا: مات يزيد بن يوسف. فأطرق ملياً، ثم رفع رأسه فقال: حبذا موت الأعداء بين يديك وأنت تنظر. ثم خرج إلى جنازته وهو راكب حماراً فصلى عليه ولم ينزل عن الحمار.
قال: وأخبرني محمد بنت سعيد بن حفص الفارض، أن رجلاً من أهل العراق نظر إلى سليم الخادم، مولى إبراهيم بن تميم، وكان أسود فقال: ما أعجب أمركم يا أهل مصر، يكون سُلَيْم الأسود مُعَدَّلا، وابن عبد الحكم مجروحاً! فسمعه سليم، فقال: أنا لم أخن أمانتي ولم أدَّع ما ليس لي.
قال: وأخبرني أحمد بن الحارث بن مسكين قال: قَبل أبي الحارثُ شهادة سليم بغير شاهد شهد له وقال: أنا به عارف.
قال: وأخبرني عبد الله بن مالك بن سيف التجيبي قال: كانت عجوز من أهلنا لها مورَث في دارِ فغُصبته. وكان أبي، وابن عبد الحكم يشهدان لها فشهد لها أبي عند الحارث، وأقامت المرأة تختلف زمناً إلى الحارث تسأله أن يحضر ابن عبد الحكم ليشهد لها، والحارث ممتنع. فلما ظهر له أنها مظلومة، قوَّم الحِصَّة فدفع إليها الثمن ولم يأذن بحضور ابن عبد الحكم للشهادة ويقال إنه ألقيت في مجلسه رقعة فقرأها فإذا فيها (ميزان خزائني، وكفتاه ناقصة!( فاستبدل بكتابه وأعوانه بعد قراءتها.
وقال يحيى بن عثمان رفع إلى الحارث وصية فقال: لا أجيزها. فقد صح عندي أن الذي صدرت له الوصية كان يأتي محمد بن أبي الليث، وأخرج الوصية من يده.
قال: وشهد رجل عند الحارث فسأله عن اسمه فقال: جبريل فقلا: ضاقت الأسماء وتسميتَ باسم الملائكة؟ فقال له: وأنت ضاقت عليك الأسماء حتى تسميتَ باسم الشياطين! وقيل إنه قال له: فلم سمى مالك بن أنس مع قول الله تعالى: (وَنَادَوْا يَا مَلِكُ)!.
وشهد عنده شاهد أن ابن أبي الليث أشهده، فقال: تذكر ابن أبي الليث في مجلسي؟ لا تعد إليَّ في شهادة.
وقيل إنه قال لسهل بن سلمة قد عُدّلت عندي، ولكني لا أقبل شهادتك، لأنك علمت لابن أبي الليث.

قال أبو عمر: خوصم إلى الحارث في دار من دور السيدة أم الخليفة، فحكم على وكيلها، فأخرج الدار من يده ودفعها للخصم، فكتب بذلك الوكيل إلى العراق، فجاء كتاب الفضل بن مروان إلى أمير مصر ينكر على الحارث ذلك ويقول في كتابه: إن الحارث لم يزل معروفاً بالانحراف عن السلطان، والمباعدة لأسبابه فتكلمه أن مقام وكلاء جهة أمير المؤمنين في ضياعها ودورها ومستغلاتها بمصر، مقام من يحوطها ويأمر برد الدار التي كانت في أيديهم لهم كما كانت قبل حكمه فيها، وترك النظر في شيء مما في أيدي وكلائها بما يوهن أمرهم، وتُؤْمَر بالتقدم إلى الحارث، بعدم التعرض إلى النظر في شيء يتعلق بأمير المؤمنين، وبمنعه من ذلك إن حاوله.
وكتب في ربيع الآخر سنة أربعين ومائتين.
ولم يزل الحارث على طريقته حتى حكم في دار الفيل وهي دار أبي عثيم مولى مَسْلَمة بن مُخلَّد وكان تحبيسها في سنة ثلاث وتسعين. وأصل ذلك أن جماعة من قضاة مصر، منهم توبة، والفضل بن فضالة، والعمري، وهارون الزهري أخرجوا وتاجا مولى أبي عثميم من الحبُس لأن صاحب الحُبس لم يسمه في كتاب تحبيسه. ثم آل الاستحقاق إلى محمد بن ناصح مولى أبي عثيم، وإلى عزة بنت عمرو بن رافع مولى ابن عثمي، فتوفيت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد الصمد المعروف بابن السائح، فخاصمهم فيها، فأخرجهم الزهري وحكم بإخراج بني البنات من العقب.
فلما ولي محمد بن أبي الليث فسخ حكم الزهري، ودفع نصيبها إلى بني السائح. فلما ولي الحارث بن مسكين فسخ حكم ابن أبي الليث. وأخرج بني السائح فخرج إسحاق بن إبراهيم بن عبد الصمد ابن السائح، إلى العراق فتظلم من الحارث ورفع قصته إلى المتوكل، فأمر بإحضار الفقهاء فحضروا. واتفقوا على تخطئة الحارث في الحكم المذكور، وتناولوه بألسنتهم.
وكان الفقهاء الذين نظروا في قضية الحارث على رأي الكوفيين، وحكم الحارث إنما هو على رأي المدنيين، وبلغ ذلك الحارث ما جرى هناك من ذكره، فخشي من العزل، فبادر بكتاب إلى العراق يستعفي، فصادف وصول كتابه عقب أمر المتوكل بعزله. فكتب إليه جعفر بن عبد الواحد الهاشمي قاضي العراق: إن كتابك وصل باستعفائكم فأنهيت كتابك إلى أمير المؤمنين، وإنك تستعفي مما تقلدته من القضاء، فأمر - أيده الله - بإجابتك إلى ذلك وإعفائك إسعافاً لك فيما سألت، وتفضلاً بما أدى إلى موافقة فراقك في العمل بحسب ذلك موفقاً.
وكتب المتوكل إلى أمير مصر يزيد بن عبد الله بن الأغلب بالنظر في قضية ابن السائح. فجمع أهل البلد من الفقهاء والشيوخ. وكان ورود الكتاب عليه بالصرف في يوم الجمعة لسبع بقيم من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعين ومائتين.
وكتب المتوكل إلى دُحَيم وهو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشقي، وهو يومئذ بفلسطين بتوليه القضاء بمصر. فشرع في التجهيز إليها. فمات قبل أن يخرج من فلسطين في شهر رمضان. فبقيت مصر بغير قاض إلى أن قدم بكار بن قتيبة في يوم الجمعة لثمان خلون من جمادى الآخرة سنة ست وأربعين. فكانت هذه القضية أول الأسباب في عزل الحارث عن قضاء مصر. ثم وقعت قضية ابن السائح التي ذكرت، وكان قد بالغ في الحط عليه، وأنه يحكم بالهوى، ويعطل حقوق الناس، بترك قبول شهادة من يشهد لهم من العدول، بغير قادح فيهم، إلا من جهة هواه.
ورفع عليه أن شاهدا شهد عنده فذكر ابن أبي الليث، فقال: تذكر ابن أبي الليث في مجلسي! فرد شهادته.
وشهد عنده سهل بن سلمة الأسواني فقال: قد عُدّلت عندي ولكن لا أقبل شهادتك لأنك عملت لابن أبي الليث. وأن سليمان بن أبي نصر كَانَ قد أثبت وصية إليه، فمنعه، وقال: لا أجيز وصيتك، لأنك كنت تأتي ابن أبي الليث، وأخرج الوصية من يده.
وقال أبو عمر: حكم الحارث في دار الفيل دار أبي عُثيم مولى مسلّمة بن مُخلَّد وكان أبو عُثيم حبس هذه الدار على مواليه الذين بفسطاط مصر، وسماهم فِي كتاب تحبيسه، وهم كعب بن سليمان وناصح وبسار ورافع وأولادهم وأولاد أولادهم ما تناسلوا، ذكرهم وأنثاهم سواء. فإذا انقرضوا رجعت إلى جزأين الأول الفقراء والمساكين، والآخر من يسكن مصر من بين ساعدة. وتَلِيَّتُه من آل أبي دجانة، وهم عصبة موالي مسلمة من المطوعة، ومن أهل الديوان ممن لم يبلغ عطاؤه مائتين، فمن بلغها فلا حق له، فإن لم يكن بمصر أحد منهم فهو للفقراء والمساكين أيضاً.

وتاريخ هذا المحبس سنة ثلاث وتسعين. فاتفق أن قدم مولى لأبي عثيم من إفريقية اسمه وتاج لم يكن ممنسمي في هذا المحبس، فادعى أن له حقاً مثل ما لكل من موالي أبي عثيم. وذلك في ولاية توبة بن نمر. فلم يقبل منه ذلك وأخرجه من ذلك، وقضى بالاستحقاق للموجودين غيره من أولاد من سمي وذلك في سنة سبع عشرة. تأخر من ذرية المسلمين محمد بن ناصح وعزة بنت عمرو بن رافع فماتت عزة وتركت ولدها إبراهيم بن عبد الصمد بن السائج، فالتمس من المفضل بن فضالة أن يقضي له بنصيب أمه فامتنع، وسلم الحبُس كله لمحمد بن ناصح. ثم عاد ابن السائح فتخاصم إلى عبد الرحمن العُمَري، فأخرج محمد بن ناصح قضيّة المفضل فأمضاها العُمَري. ثم تخاصما إلى ابراهيم بن الجراح، فقضى لابن السائح بالنصف. ثم مات إبراهيم بن السائح ومحمد ابن ناصح، فتخاصم إسحاق بن إبراهيم بن السائح وعبيد الله بن محمد بن ناصح إلى هارون الزهري، فقضى أن لا حق لإسحاق على وفق ما قضى به المفضل.
ثم تخاصما إلى محمد بن أبي الليث فقضى لابن السائح بالنصف على وفق ما قضى ابن الجراح. ثم ترافع عبيد الله بن محمد بن ناصح وأحمد بن إبراهيم بن السائح إلى الحارث بن مسكين فأخرج النصف من يد ابن السائج على وفق ما قضى به هارون وأخرج عيال أحمد وإسحاق وأخيه من الدار، وسكنها كلها لعبيد الله بن محمد بن ناصح وكان إسحاق غائباً، فقدم إسحاق فكلم الحارث وأخرج له حكم ابن الجراح فامتنع عليه وأصر على أن الاستحقاق لعبيد الله وحده. فلما طال عليه الأمر خرج إلى العراق فتظلم إلى المتوكل. فأمر بإحضار الفقهاء فنظروا في حكم الحارث، فخطأوه وكانوا على مذهب أهل الكوفة. فأمر المتوكلُ القاضي جعفر بن عبد الواحد وهو يومئذ قاضي القضاة أن يصرف الحارث عما يتولاه من القضاء بمصر. فكتب جعفر بذلك وعزل الحارث وقرر عوضه دحيم، انتهى.
وكانت مدة ولايته اثنتي عشرة سنة إلا شهراً. وعاش بعدها إلى سنة خمسين. وصلى عليه الأمير يزيد وكبَّر عليه خمساً، قاله ابن يونس.
وكان مولده سنة أربع وقيل سنة خمس وخمسين ومائة فعاش خمساً وتسعين سنة وزيادة.
الحسن بن أحمد بن أنو شروان الرازي ثم الرومي الحنفي، أبو الفضائل حسام الدين ابن تاج الدين.
ولد فِي المحرم سنة إحدى وثلاثين وستمائة باقصرا من بلاد الروم. واشتغل بالفقه ومهر. وأول ما ولي قضاء ملطية. ثم ورد دمشق فولى القضاء بها نحوا من عشرين سنة بل تزيد. ثم نقل إلى قضاء الديار المصرية في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، بعناية المنصور لاجين، لأنه كان يصحبه لما كان نائب دمشق، فاختص به كثيراً. فلما ولي السلطنة استقدمه وولاه القضاء فلم يزل إلى أن قتل لاجين.
واتفق أنه قتل وهو عنده، وكان السلطان لما هجوا عليه قاعداً يلعب الشطرنج مع أبي العسال المقري. فدخل عليه كرجي فذكر له شيئاً كان أمره أن يعمله، فشكره والتفت كرجي يصلح الشمعة، فألقى على نِمْجَا السطلان قباءه وقال: ما تصلى؟ فقال السلطان: نعم. وقام فضربه بالسيف على كتفه، والتمس النِّمْجَا فلم يجدها، وقام مذعوراً، فقبض على كرجي فرماه تحته فأدركه رفيقه. فأخذ النمجاة فضرب بها رجل السلطان فانقلب. فصاح القاضي حسام الدين: هذا ما يحل. فتشاغلوا عنه حتى فرغوا من قتل السلطان.
فلما تحقق القاضي قتله خاف منهم على نفسه، فاختفى، فأغلقوا الباب على السلطان والقاضي من داخل الدار قد اختبأ. فلما أخرجوا السلطان ليدفنوه، ذهب القاضي إلى منزله.
فلما تسلطن الناصر وذلك في شهر ربيع الآخر، صرف القاضي عن القضاء فرجع إلى دمشق، فاستقر في وظيفته، وصرف ابنه فلم يزل حتى كانت وقعة التتر فعدم فيها كما سيأتي.
وكان إماماً علامة، كثير الفضل والإفضال، كثير التودّد إلى الناس، أثنى عليه الشهاب ابن فضل الله، وصلاح الدين الصَّفدي، وقال في ترجمته: كان جم الفضائل، عرياً من الرذائل. كثير المكارم، عفيفاً عن المحارم. ظاهر الرياسة، حريا بالسياسة، خليقاً بالنفاسة. يتقرب إلى الناس بالود، ويتجنب الخصماء اللدّ. فيه مروءة وحشمة، وبينه وبين المفاخر قرابة ولحمة. وله نظم وأدب، ورغبة في إذاعة الخير، واجتهاد وطلب، وانتهى.

وكان الحسام ممن قام في الإنكار في قصة الكاتب النصراني، كاتب عساف أمير العرب. وكان ينقل عنه أنه وقع في حق النبي صلى الله عليه وسلم. فقام في إمرة تقي الدين ابن تيمية، وزين الدين الفارقي. وعقد بسبب ذلك مجالس. وتعصب الشمس الأعشر شاد الدواوين للنصراني، فما وسع النصراني لما خشي على نفسه إلا أنه أسلم فأطلق، فقال القاضي حسام الدين في ذلك:
إلام فتور العزم يا آل أحمد ... بإبقاء كلبٍ سبًّ دين محمدِ
وكان إذا ما أذَّن القوم سبَّه ... وكان بذكر القبح فيه بمرصدِ
يا سلامة لا يُدرأ الحد بعد ما ... تكرر منه الشر من كل موردِ
على مثله أهل المذاهب أجمعوا ... فكن ممضياً في نحره بمهنّدِ
فأنتم ليوث الحرب في كل مَعْرَكٍ ... وأنتم سهام العزو في كل مشهدِ
وهي طويلة، وهذا عنوان نظمه.
وكان قد سمع من الفخر ابن البخاري مشيخته، وحدث بها عنه. سمع عليه البرازالي وابن سامة وغيرهما. وكان قد عدم في وقعة وادي الخازندار في سنة تسع وتسعين وستمائة.
وذكر الذهبي، أنه شاع عن المنهزمين أنه كان من جملتهم، وأنهم وصلوا إلى ناحية جبل الخازندار فيقال أنهم أسروه، وباعوه للفرنج فعرفوه، وكانوا يعرفون أنه من أهل العلم بالطب، فأخذوه إلى بلادهم، فصار يلاطفهم بطبه. ثم في سنة خمس وثلاثين بدمشق، أخ خبره وصل إلى ولده جلال الدين، فاقم يسأل في السعي في فكاكه من الأسر. فكشف عن حقيقة ذلك. فظهر أن لا أصل له وغلب على الظن أنه مات بعد أسره بقليل. ويقال: إنه حصل له بعد أن استقر بقبرص إرسال، ودام به حتى مات، وابنه: جلال الدين أحمد، ولي قضاء الشام لما تحلو أبه إلى مصر في صفر سنة ست وتسعين وستمائة، وقد أثنى عليه غير واحد. وقال الشهاب ابن فضل الله: كان حسن المعاشرة، كثير الإفضال، طيب الأخلاق. درس بدمشق مدة حتى صار غالب علماء مذهبه من المتفقهة عنده، وغالب من أفتى منهم ودرس كان بإذنه. وحكى عنه أنه قال: سفرني أبي إلى الشرق لإحضار أهله إلى الشام، فألجأنا المطر حتى نمنا في مغارة. فبينا أنا نائم إذا بشيء يوقظني، فانتبهت. فإذا امرأة لها عين واحدة مشقوقة فارتعت. فقالت: لا تخفي إني رغب أن أزوجك ابنة لي كالقمر فقلت على خيرة الله. ثم نظرت فإذا رجال في هيئة قاض وشهود، وكلهم بصفة المرأة فخطب أحدهم وعقد. فقبلت ونهضوا، وعادت المرأة ومعها جارية حسناء فتركتها عندي وانصرفت. فارتعت وخفت خوفاً شديداً، ولم أقرب تلك المرأة ورحلنا وهي معنا. فلما كان في اليوم الرابع، حضرت تلك المرأة ورحلنا وهي معنا. فلما كان في اليوم الرابع، حضرت تلك المرأة فقالت: كأن هذه الشابة ما أجبتك! فقلت: نعم. فقالت: فناولينها ففعلت، وأخذتها وانصرفت فلم أرها بعد ذلك.
وكان مولده سنة إحدى وخمسين، وقدم مع أبيه دمشق، وسمع من الفخر ابن البخاري وغيره. ثم ولي قضاءها مدة . ثم عاد أبوه إلى قضائها كما تقدم. ودخل مصر لما كان أبوه قاضيها ودرس بعد أبيه بعدة مدارس بدمشق. قال الشيخ تقي الدين ابن رافع: كان كريم النفس، كثير الصدقة، عمر طويلاً حتى قارب المائة، ومات في التاسع عشر من رجب سنة خمس وأربعين وسبعمائة.
الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن معمر بن حبيب بن المنهال السَّدُوسِي أبو محمد الجوهري، مالكي المذهب من المائة الرابعة. كان أبوه من كبار أصحاب أبي عبيد القاسم بن سلام. ولد هو سنة أربع وثمانين ومائتين. واشتغل وصار من عدول القاضي أبي عثمان أحمد بن إبراهيم بن حماد. وناب في الحكم عن أبي الذكر المالكي، وسيأتي ذكر والده عبد الرحمن ابن إسحاق، وأنه ولي القضاء بمصر نيابة عن قاضي بغداد هارون بن إبراهيم بن حماد المالكي.

قال أبو محمد بن زولاق: كانت ولايته قضاء مصر نيابة عن الحسين بن عيسى بن هَرَوَان، الآتي ذكه، بأرض صاحب مصر محمد بن طُغْج الملقب الإخشيد. وركب إلى الجامع وقرئ عهده بذلك على المنبر ونظر بين الناس في الأحكام وولى وعزل، وأمر ونهى، واستكتب ابنه الحسين بن الحسن: ولم يزل أمره يجري على السَّداد، حتى وقع بينه وبين بكران الصباغ فتوجه بكران إلى دمشق واجتمع بالإخشيد، وطلب من الحسين بن هروان أن يعزل الحسن بن عبد الرحمن، ويستخلف غيره. ويولي في الأحباس غيره أيضاً. ففوض الحسين أمر الأحباس وتولية قضاء النواحي لبكران، وفوض الحكم لأبي الفضل الكشي.
وكان عزل الحسن بن عبد الرحمن في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين وثلاثمائة. ومدة ولايته سبعة أشهر. ثم أعيد الحسن بن عبد الرحمن إلى ولاية القضاء بمصر مرة أخرى، كما سيأتي في ترجمة الحسين بن عيسى بن هَروَان إن شاء الله. فمكث يسيراً ثم صرف. وعاش بعد ذلك مدة إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة.
وقرأت بخط شيخ شيوخنا قطب الدين الحلبي في تاريخ مصر في ترجمة الحسن بن عبد الرحمن هذا، ما نص (كأنه الذي أرخ أبو إسحاق الحبال وفاته سنة ست عشرة وأربعمائة) كذا قال. وأخطأ في ذلك خطأً فاحشاً، يقتضي أنه لم يقف على ترجمته في أخبار القضاة لابن زولاق، فقد أرخ مولده ووفاته كما نقلته، وبالله التوفيق.
ويحتمل أن يكون الذي أرخ الحبال وفاته ولَدَهُ الحسين بن الحسن بن إسحاق الذي ذكرنا أنه استكتبه لما ولي القضاء، وإن كان عمِّر، أو هو ولد له آخر أو حفيده.
الحسن بن علي بن أحمد المكرمي، يأتي في الحسين الحسين بن علي بن سعد الجلجولي الحسن بن علي بن سلامة، أبو محمد، المعروف بابن العُوْرِيس بضم المهملة وسكون الواو وكسر الراء بعدها ياء آخر الحروف ثم سين مهملة، بلقب القاضي الأعز من المائة السادسة.
كان إسماعيلي المذهب، وولي القضاء في شهر ربيع الأول سنة تسع وخمسين وخمسمائة، ثم أضيف إليه الدعوة، وكان يتمكن من الدولة، فسعى عليه القاضي الجليس، حتى صرف عن قرب، ولزم بيته مدة، وكلما سعى في شيء من المناصب قصده القاضي الجليس، وكانت بينهما عداوة شديدة. وكان معظماً عند الخليفة العاضد، حتى كان ينزل له عن سريره.
ويقال إن علي بن نُجَيَّةَ الواعظ، قصده فأغلق في وجهه الباب، فعاتبوه بسببه فقال: رأيته يلبس الذهب بيده وهو يزعم أنه يعظ الناس.
ويقال إن ابن نُجَيَّةَ هذا، هوا لذي نَمَّ على هذا القاضي، وعلى من اتفق معه على إعادة الدولة الفاطمية، حتى آل أمرهم أن قتلهم السلطان صلاح الدين وصلبهم.
وذكر القاضي جمال الدين ابن واصل في تاريخه الذي قصره على بني أيوب عن القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز، أنه حكى له أن ابن العُوْرِيس هذا، رأى في منامه أن المسيح عيسى بن مريم، أخرج رأسه من السماء، فسأله العُوْرِيس: الصَّلبُ حق؟ فقال المسيح: نعم. الصلب حق. فقص ابن العُوْرِيس هذه الرؤيا على بعض العبَّرين. فقال له : الذي رأى هذه الرؤيا يصلب، لأن المسيح معصوم من الكذب، فلا يقول إلى الحق، والله سبحانه وتعالى نفى عنه الصّلب، فرجع الوصف إلى الرائي. فلم يلتفت لقوله. واتفق صدق التعبير وصلب بعد مدة. وكان ذلك في أواخر شعبان. وقيل في ثاني شهر رمضان سنة تسع وستين وخمسمائة وقُتِل هو وعدوه ابن الجليس، وصلبا ودفنا في قبر واحد بالقرافة، وسنذكر القصة في عبد الجبار إن شاء الله.
الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازوري من يَازُور، بتحتانية أوله ثم زاي مضمومة ثم واو ساكنة ثم راء. قرية من أعمال فلسطين. كان أبوه مزارعاً بها اتسعت دنياه فتحول إلى الرملة. وولي القضاء بها، ونشأ ولده هذا فتفقه وتأدب وجلس مع الشهود، واشتهر بالصدق والعفة والمعرفة بالأمور. فصار مقبول القول عند القضاة ثم ولي قضاء أعمال من الرملة بعد والده، فاتصل ببعض حَظَايا القصر بالقاهرة، فاستمر في عمله إلى أن ماتت فعزل عن الحكم فدخل القاهرة يسعى في عود وظيفته، فتوصل بسعة حيلته عن أن بلغ من أمره ما بلغ.

فقرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي، أن اليازوري بعد أن صرف من القضاء حج وزار المدينة على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم فلازم القبر النبوي. فاتفق أنه نام هناك فسقطت عليه وهو نائم قطعة خلوق من الزعفران الذي تلطخ الحجرة به، فجاء إليه أحد الخدم فأنبهه وقال له: أبشر فإنك ستلي ولاية عظيمة. فاحفظ لي هذه البشارة فإني أستحق عليها الكرامة، فتوجه إلى مصر وسعى إلى خدم أتباع أم المستنصر فوصفوه لها، وتَجْربته وصار يتردد إلى الوزير صَدَقَةَ بن يوسف الفَلاحِي وباطنه في السعي على أبي سعد التُّسْتَرِي. وكان هو القائم بأمور الدولة فأعانه حتى قتل التستري.
واستبد الوزير بالأمر، فاتفق أن القاضي حضر الخدمة يوم الاثنين على العادة، فقعد بباب القصر ينتظر الإذن، فالتفت فرأى اليازوري جالساً مع أتباعه، فزجره وطرده، فخرج وهو خجل. ثم سعى جهده ليرضى عنه القاضي فأصر، فتوسل إليه بنائبه القضاعي، فلم يفد. ثم توسل إليه بنائبه الآخر أحمد بن محمد بن أبي زكريا، فلم ينجح. فاتفق أن وصل إليه ثلاثون حملاً من التفاح، فأهدى منها للقاضي خمسة أحمال وللوزير خمسة أحمال، وللقائد عدة الدولة رفق خمسة أحمال، ووزع الباقي على الأتباع، فلم يعرف له حق ذلك إلا القائد. فإنه قال: هذا رجل لا يعرفنا ولا تقدم لنا عليه جميل، فيجب أن نكافئه. فاتفق أنه لقيه في الطريق فأنصفه في السلام والكلام واستزاره فزاره، واستمر يتردد إليه فسعى له إلى أن قرره في خدمة أم المستنصر، وكان كاتبها مات، وتعطلت ثلاثة أشهر، وهي في اختيار من تستخدمه. فأشار عليها رِفْقٌ به ووصفه وأثنى عليه الوزير والشيخ أبو نصر أخو أبي سعد التستري. وكانت قد عينته لذلك فامتنع، ورضى اليازوري فاستقر وتلكم في جميع تعليقاتها.
واتفق أن الوزير نكب ثم قتل، فأقيم الحسين بن محمد الجَرْجَرَائي مكانه، وترقى حال اليازوري، وأمرته أم المستنصر أن لا يقوم لأحد كائناً من كان، فامتثل أمرها إلا في رِفق، الذي سبب سعادته. فلم يزل في ترق وازدياد، إلى أن صار الخليفة لا يخاطب الوزير إلا على لسانه، فثقل ذلك على الوزير، فتحيل بإبعاده عن الخليفة، بأن سعى له في القضاء. فبدأ فأفسد حال قاسم بن عبد العزيز عند الخليفة وشنع عليه وعاب أحكامه، وأطنب في وصف اليازوري بالعقل، والمعرفة التامة بالأحكام، وحسن السياسة، والصبر على ذلك. فولاه القضاء. فبلغ ذلك اليازوري فخشي من إبعاده عن خدمة أم المستنصر، وكانت هي باب الملك، فراسلها في ذلك فقالت له لا يضيق صدرك، فإني لا أستبدل بك أحداً ولا يهولنَّك أمر الحكم فإن القضاعي وابن أبي زكريا ينفذان الأمور، واجعل لنزولك إليهم يومين في الأسبوع، وفيهما يكون ولدك ينوب عنك عندي، فاستقر الأمر على ذلك فخلع عليه، وقرئ سجله بالإيوان. ولقب اليازوري لما ولي القضاء، قاضي القضاة، داعي الدعاة، الأجل المكين، عمدة الدين، أمين أميرِ المؤمنين.
وكانت ولايته في يوم الاثنين الثاني من المحرم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة.
وخرج من عند الخليفة، فمشى جميع أهل الدولة في ركابه، لأجل مولاتهم. ثم راسلها الوزير في استخدام ولده عندها، فقالت لا أستبدل بكاتبي أحداً. فلما تحقق الوزير ذلك، وعلم أن حيلته لم تكمل، أخذ في مداراته، فاجتمع به وتعاهدا وتواثقا، وصار يجتمعان في الشهر يوماً في بيت الوزير فيخلوان ويبالغ الوزير في إكرامه، وهو يدبر عليه في الباطن.
فاتفق أن المستنصر قبض على الوزير فاختار اليازوري للوزارة، فامتنع فحسن له ناصر الدولة الحسين بن حمدان ذلك، فأصرَّ وأقام صاعد بن مسعود نائبه مكانه ولم يتسمَّ بالوزارة بل يسد الأشغال حتى يختاروا وزيراً.

وعرض المستنصر الوزارة على القاضي فامتنع، ومع ذلك فكان لا يقطع أمراً دونه، ولا يخاطب صاعداً إلا على لسانه، فثقل على صاعد أيضاً، فأخذ في تأليب الجند عليه، فلم يجد بداً من أن يجيب الخليفة إلى ما ألتمسه منه، من الدخول في الوزارة، فوليها في المحرم سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، فباشرها بهمة وحرمة وجمع الكلمة. فجمع القضاء والوزارة والنظر في ديوان أم الخليفة، وكاتب أمراء الأطراف، وجهز الجيش لغزو بلاد الفرنج مرة بعد أخرى، وساس الأمر أعظم سياسة، وتمكن من الدولة تمكناً زائداً، وصار يتمّ له بالحيلة والسياسة مالا يتم ببذل الأموال والأنفس، ولم ينزع الطيلسان. ولقب الناصر لدين الله. وهو الذي راسل الصُّلَيْحِي لما ثار باليمن. فأقام الدعوة الفاطمية باليمن، وأهدى إلى المستنصر ما قيمته عشرة آلاف دينار، ولم يكن لهم عهد بمثل ذلك. واتفق أن المعز بن باديس صاحب أفريقية قصر في مخاطبة الوزير وكان يكتب إلى من قبله من الوزراء من عبده، فصار يكتب إليهم أن صنيعته، فعاتب نائبه وكاتبه في ذلك فما أفاد، فتلطف الوزير حتى أحضر إليه سكين المعز من دواته، فقال لنائبه: كاتبْه بأنا لو أردنا أن نذبحه بها فعلنا فتمادى على حاله الأول، فغضب منه، وألب عليه العرب حتى ضيقوا عليه، فلم يسعه إلا مداراة الوزير والخضوع له. وأغزى الوزير الجيش إلى صقلية. وغيرها.
وتوقف النيل في سنة سبع وأربعين وأربعمائة، فساس الوزير أمر الناس حتى انحط السعر، ومشى الحال ولم يتغير عليهم شيء. ولما غضب الوزير البَسَاسيري من الوزير ابن المُسْلِمَة ببغداد، وخرج إلى ديار بكر كاتب المستنصر يستأذنه في القدوم، فاستشار في أمره فأشار عليه الوزير بأن يفوض إليه أمر تلك البلاد، ويمدده بالمال، ولا يأذن له في القدوم لئلا يفتك به العرب، فاستجود رأيه وفعل ذلك. واتفق قدوم طُغْرُلْبك بغداد واستيلاؤه على العراق بعد استيلائه على خراسان، وأراد بعد ذلك الاستيلاء على الشام فخافه أهل مصر، فأخذ اليازوري في الحيلة، وكاتبه وتلطف به، وأوهمه أنه في طاعته، وأن البلاد بحكمه، وأنه لا يتكلف في قتال ولا أنفق لي عسكر، بل متى أراد وصل بغير مانع، فتوهم طُغْرُلْبك صحة ذلك واقتصر عن الحركة حتى يخلو وجهه لذلك، فوجد أعداء الوزير السبيل إلى القدح فيه وقيل في حقه إنه يكاتب أعداء الدولة ويستدعيهم إلى أخذ المملكة.
وكان اليازوري جيد السياسة، حسن الأخلاق كثير التجمل، حتى يقال: كانت مائدته كل يوم يحضرها القضاة والفقهاء والأدباء، وكان طلق الوجه، ظاهر البشر، كثير الصمت قليل الكلام. وكان إذا رضى احترت وجنتاه، وإذا غضب اصفرت محاجر عينيه فقط. وقيل: إن ذلك غاية ما يكون في صحة الطباع، وسكون النفس، واعتدال المزاج. وما كان يقول (لا) في شيء يسأله، بل إذا سئل فيما يمكن الإجابة عليه قال (نعم). وإذا سئل في غير ذلك يطرق ولا يرفع رأسه، وعرفوا ذلك منه. فكان لا يراجع فيه إلا بعد مدة.
وكان إذا نزل به أمر استشار فيه، وسمع ما يقال ولا يصوّب أحداً منهم ولا يخطئه، ثم عمل بأحزم ما يقدر عليه من ذلك.
ويقال: كان ارتفاع الدولة في مباشرته ألفي ألف دينار في السنة. فلما انقضت أيامه ودس أعداؤه عليه الأقاويل الباطلة، طلب المستنصر من ولده أبي عبد الله الملقب صفي الدين أن يعمل له دعوة. فبالغ الولد المذكور في ذلك وحضر المستنصر وقد احتفلوا له، فرأى ما أذهله من الفرش والآلات وغير ذلك. فحقد عليه ورأى أعداؤه السبيل إلى التقوّل عليه، فبالغوا حتى قالوا إنه احتاز مال الدولة كله، وجعله مثل سبائك الشمع، وأرسلها إلى الشام وقصد الهرب، فل يشعر في أول يوم من المحرم سنة خمسين وأربعمائة إلا وقد قبض عليه واعتقل، وقرر بعده في الوزارة أبو الفرج الباهلي، وفي القضاء أحمد بن عبد الحاكم الفارقي، وكان استقراره في العشر الثالث من صفر كما سيأتي.

وكان اليازوري هو الذي اصطنع البالي وقدمه وجعله كبير الديوان. فلما قبض عليه كتب إليه رقعة يستعطفه ويوصيه إلى أن صار الأمر إليه على أولاده وعائلته. فنظر البابلي فيها وذلك قبل أن يلي الوزارة، ولم يجب عنها. فلما وليا لوزارة قال لمن عنده: انظروا إلى هذا الكذاب يخاطبني بنون العظمة. وهو على شفير القبر! وأل أمره معه إلى أن سعى في إخراجه من الاعتقال بتنيس وإنما فعل ذلك ليتمكن من قتله، وكان كذلك. فأخرجه هو ونساءه وحاشيته فاعتقلوا، ثم أخذ البابلي في الترتيب على اليازوري، حتى اتفق أن الأجناد شغبوا على البابلي، فدخل وهو مذعور على المستنصر، وشكا حاله، فقال: لا يتم لي أمر واليازوري موجود. فقال له طِبْ نفساً فإنا لا نعيده. قال: وكيف تعيده يا أمير المؤمنين وقد هَمَّ بقتلك، وأقامت الشرَبة تدور بقصرك أسبوع فأنكر ذلك المستنصر. ثم فكر في ذلك وأطق. فسارع البابلي فأرسل إلى اليازوي من يقتله فبلغ ذلك أم المستنصر، فدخلت على ابنها وسألته عن ذلك فأنكر، وأرسل في الحال إلى البابلي يأمره أن يعيد الذين بعثهم، فتشاغل البابلي عن القاصد بتطويل الكلام معه، إلى أن ظن أن قصاده قضوا لحاجة، وجهز من ديرهم. فوجد الأمر فات وذلك في ثاني عشرين صفر من السنة، وبلغ ذلك المستنصر فاغتم وكذلك أمه.
وقرأت بخط الحافظ قطب الدين ما نصه: وفي صفر سنة خمسين أرسل المستنصر كاتبه طاهراً ومعه حَيْدَرَة السيَّاف إلى تنيس بِضرب عنق اليازوري، فأخرج في الثاني والعشرين منه، فضرب عنقه، ورمى جيفة في مَزْبَلَة، فورد أمر المستنصر بعد ثلاثة أيام بتكفينه وتجهيزه ودفنه، فغسل وصلى عليه ودفن ثم دفنت رأسه في جسده في آخر الشهر.
وكان ينسب لكثرة صمته إلى التيه والصلف وإنما كان ذلك لتفكره في الأمور. وكان كثير الصدقة جزيل الستر، وكان قد رتب لكثير من أهل الخير رواتب تأتيهم على يد وكيل أم المستنصر من عند الوزير، فكانوا يظنون أنه من عندها فلما نكب انقطعت، فعرفوا من أين كانت.
الحسن بن قاسم بن طاهر الرعيني، من المائة السادسة. كان على مذهب العبيديين. ولاه الحسن ابن الحافظ لما ولي الوزارة والده. فلما قتل أبوه عاد ابن ميسر فاستمر إلى أن قتل، وأُعِيد الرعيني، وذلك في المحرم سنة إحدى وثلاثين وخمسمائة. وتولى الحكم بعد صرف ابن ميسر في شوال سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. وفي ولايته الثانية كان ينوب عن بهرام الأرمني وزير الحافظ، وذلك أنه كان ولاه الوزارة فأنكروا عليه، فقال له الخواض من جلسائه إن النصراني لا يكون وزيراً، لأن من وظيفته أن يصعد مع الخليفة المنبر يوم الجمعة، ليزرّ عليه الكِلَّةُ المانعة من النظر إليه حالة الخطبة، فأصر على توليته الوزارة، وأن ينوب عنه القاضي في ذلك، فناب عنه الرعيني المذكور، وقيل للحافظ أيضاً: عن أمر القضاء كان قد فوض لبدر الجمالي ثم لولده، ولم يزل بأيدي الوزراء، وإن الوزير هو الذي يولي القاضي، وهو نائبه، ويخرج التواقيع إلى البلاد بذلك، فأبطل تلك العادة، وفصل القضاء من الوزارة، وولي القاضي من قبله، وبطلت تلك السُّنة.

الحسن ابن ثقة الدولة مجلي بن أسد بن أبي كُدَيَنْتةَ أبو محمد المرادي من المائة الخامسة: يقال إنه من ذرية عبد الرحمن بن ملجم، أول ما ولي القضاء في دولة ناصر الدولة ابن حمدان، المسولي على دولة المستنصر في السابع والشعرين من شعبان سنة خمس وخمسين وأربعمائة، عوضاً عن عبد الحاكم بن وهيب وأُضيفت إليه الوزارة بعد صرف أب يغالب عبد الظاهر بن الفضل بن الموفق في الدين المعروف بابن العجمي، ثم قبض عليه في خامس ذي الحجة، وقرر في القضاء والوزارة، جلال الملك أحمد بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد، فاستخلف في الحكم أخاه علياً، ثم صُرف عن الحكم والوزارة في الثالث والعشرين من المحرم سنة ست وخمسين وأربعمائة، وأعيد الحكم لابن أبي كدينة، والوزارة لأبي المكارم المشرف بن أسعد بن عقيل. ثم صرف ابن أبي كدينة عنا لحكم، واستقر عليٌّ بن عبد الحاكم، وذلك في تاسع عشر شهر ربيع الآخر. ثم صرف واستقر أبو عبد الحاكم بن وهيب، وذلك في خامس جمادى الأولى، ثم استقر ابن كدينة في الحكم والوزارة جميعاً في العشر الأخير من شهر رمضان. ثم صرف عنهما جميعاً في الرابع من ذي الحجة منها، واستقر في الحكم أحمد بن عبد الحاكم، وفي الوزارة أبو علي الحسن بن أبي سعد إبراهيم بن سهل التستري.
ثم في النصف من المحرم سنة سبع وخمسين أعيد ابن أبي كدينة إلى القضاء والوزارة جميعاً، فأقام أربعة أيام وصرف، وأعيدت الوزارة لأبي شجاع محمد ابن الأشرف والحكم لجلال الملك أحمد بن عبد الكريم. ثم صرف عن الحكم في النصف من جمادى الآخرة. واستقر ابن أبي كدينة في الوزارة والقضاء جميعاً، إلى أن صرف عنهما في نصف رجب، واستقر في الحكم عبد الحاكم ابن وهيب ثم صرف، وأعيد ابن أبي كدينة. ثم في السادس والعشرين من صفر سنة ثمان وخمسين صرف، واستقر جلال الملك، وأضيفت له الوزارة في رابع جمادى الآخرة منها. ثم صرف عن الوزارة بعد أيام، ثم صرف واستقر ابن أبي كدينة ثم صرف في سادس عشرين صفر سنة ثمان وخمسين، ثم عاد. ثم صرف في ثامن المحرم سنة تسع وخمسين، وأعيد عبد الحاكم، ثم صرف في سابع جمادى الآخرة، وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف وأعيد المليجي ثم صرف أيضاً وأعيد ابن أبي كدينة ثم صرف في الثامن والعشرين من ذي القعدة، ثم أعيد في صفر. ثم صرف بالمليجي خمسة أيام، ثم أعيد في ربيع الأول إلى القضاء والوزارة، وصرف في جمادى الأولى واستقر جلال الملك بمكانه في إلى سلخ رمضان فصرف عنه وتولى القضاء المليجي ثم صرف في يوم عيد النحر، وأعيد ابن أبي كدينة، ثم صرف في ثلاث عشر صفر سنة إحدى وستين واستقر المليجي وصرف جلال الملك عن الوزارة هو والمليجي في نهار واحد ثم استقر خطير الملك محمد ابن الوزير أبي محمد الحسن بن علي اليازوري في القضاء والوزارة جميعاً في اليوم المذكور، إلى أن صرف في شوال منهما جميعاً.
واستقر فيهما ابن أبي كدينة إلى ذي القعدة، وصرف عن القضاء، واستقر فيه المليجي. وكانت في هذه السنين الشدّة التي حصلت بمصر، ثم ولي ابن أبي كدينة القضاء والوزارة والدعوة جميعاً في شهر ربيع الأول سنة أربع وستين.
فلما قتل ناصر الدولة ابن حمدان في شهر رجب سنة خمس وستين، وتنفس خناق المستنصر مما كان فيه، استطال الذين قاموا على ناصر الدولة، وهم الوزير المذكور وإلْد كز مقدم الجيوش ومن معه من الأتراك، فكاتب المستنصر بدراً الجمالي، وفوض إليه أمور المملكة بالديار المصرية، وكان يومئذ مقيماً بعكا، فاستخدم جماعة من الجند، وسار في البحر في قرة الشتاء، فوصل سالماً في مائة مركب في أول كانون إلى دمياط، ووصل إلى مصر، فقبض على إلدكز، وذلك في ربعي الآخر سنة ست وستين، واستقر في تدبير المملكة في يوم الأربعاء لليلتين بقيتا من جمادى الأولى منها، وبسط يده في قتل المفسدين والمتغلبين وقتل غالب من ولي الوزارة واستقرت القضاة نواباً عنه، وكذلك الدعاة، ولقب (كافل قضاة المسلمين، وهادي دعاة المؤمنين) وذلك في شعبان سنة سبع. ثم قبض على ابن أبي كدينة في جمادى الآخرة سنة ست وستين، واعتقله بدمياط ثم أرسل إليه من يقتله.
قال ابن ميسر في تاريخه: كان ابن أبي كدينة قاسي القلب جباراً. ويقال إن السياف لما دخل عيه ليقتله، ضربه بسيف كليل. فضربه عدة ضربات. ويقال: اتفق أنها كانت بعدد ولاياته.

الحسن بن محمد بن محمد بن علي الغُوري الأصل البغدادي الدار، نزيل القاهرة، الحنفي، الملقب حسام الدين من المائة الثامنة. ولد ببغداد وتفقه بها وولي بها الحسبة، ثم القضاء. وسمع الحديث بها من الرشيد بن أبي القاسم، ومحمد بن عبد المحسن الدواليبي وغيرهما، ثم قدم صحبة الوزير نجم الدين محمود بن علي بن سرور. في صفر سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة، بعد وقوع الفتنة ببغداد، فصادف أن الملك الناصر كان عزل ابن عبد الحق فقرر حسام الدين المذكور في قضاء الحنفية عوضاً عنه، وذلك في جمادى الآخرة. فباشر بصرامة ومهابة، لكنه كان كثير المزاح والهزل، السخف وبذاءة اللسان، مع عدم معرفة بالشروط والسجلات، وعدم مشاركة في الفقه وغيره. وعي في لسانه، واجتراء على رفقته، وكان يستطيل محاورة السلطان له بلسان الترك فكان إذا تكلم معه بالعربي، يقبض لسانه، وإذا تكلم معه بالتركي بالغ في الحطّ عليهم.
واتفق أنه كتب إلى ناظر الدولة ورقة يعاتبه على تأخير معلومه، فوقع له فيها من السخف والبذاء ما يستحي من إعادته. ثم لما حضر بدار العدل شرع يذم الكتبة ويذكر عنهم قبائح، ويصرح، ولا يكنى ولا يرمز. فغضب السلطان من ذلك، وأنكر على وزير بغدادي الذي جلبه إليهم، فبالغ الوزير في تعنيفه، لما عرف تغير السلطان منه.
ومن سخفه: أنه كان إذا تحاكمت إليه امرأة وزوجها ينصر المرأة، ويفحش في مخاطباتها: حتى قال لامرأة مرة اكشفي وجهك، فاستترت فقال لوالدها: يا مُمَّغ مثل هذه تزوجها بهذا المهر، والله إن مبيتها ليلة واحدة يساوي أكثر منه.
وكان يعاقب بالضرب الشديد والعزيز العنيف، فكان العامة يبغضونه، فلما كان في سلطنة الناصر أحمد، هجم عليه جماعة من المطبخ السلطاني، كان أساء لبعضهم، وحكم على بعضهم، فأقاموه من بين رفقته، وخرقوا عمامته في عنقه، ومزقوا ثيابه، وتناولوه بالنِّعال، حتى أدركه بعض الأمراء وهو يستغيث، فاستنقذه منهم، وقبض على بعضهم فعاقبه، وشيع الغوري إلى منزله بالصالحية، فاقتحم العوام عليه بيته فنهبوه، وكان واقعة شنيعة. ثم اقتضى رأي أهل الدولة أن أخرجوه من القاهرة فشيعوه على أقبح صورة.
وكان سبب تسليط العامة عليه، أنه أفتى بقتل سلطان ذلك الوقت، وقيل: إنه دس عليه ذلك.
ومما حكى عنه: أنه مر برجل وهو راكب وفي يد الرجل فروجان وقد جعل أرجلهما بيده، ورؤوسهما منكسة. فلما رآه وقف، وطلب الرسل فأخذوا الرجل، وأحضروه إلى الصالحية، فقال له: كيف يحل لك تأخذ حيواناً تجعل رجليه في يدك، ورأسه إلى أسفل! اصلبوا هذا حتى يعرف أن كان هذا الفضل يضر، فحصلت فيه شفاعة، فاختصر أمره على أن أحضره وضربه ضرباً مؤلماً.
وهو أول من أمر من القضاة أن يكتب في المسطور أربعة من الشهود، وأن يكتبوا سكن المدين وذلك في.. وعاش بعد ذلك إلي وله ولد كان يسمى...
الحسن بن محمد بن الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن بد الملك بن أبي الشوارب. ولي القضاء بعد والده ثم صرف، وقرر أخوه على ابن محمد. وكانت وفاة والدهما في سنة تسع وأربعين وثلاثمائة ثم صرفه المطيع سنة خمس وخمسين، وقرر في القضاء عُبَيد الله بن نائل أخوه علي.
الحُسين بن عبد الرحيم بن عبد الله بن عمر بن شأس بن نزار بن عشاير بن عبد الله بن محمد بن شأس الجذامي، مالكي المذهب من المائة السابعة، يلقب تقي الدين، ويكنى أبا علي ابن شرف الدين أبي الفضل ابن الشيخ الإمام مصنف الجواهر فِي مذهب مالك، وهي على ترتيب الوجيز للغزالي. ومنها اختصر ابن الحاجب كتابه.
ولد سنة تسع وستمائة في صفر، وسمع من جده لأمة الشيخ بهاء الدين أبي الحسن ابن بنت الجُمَّيْزي، ومن جعفر بن علي الهَمَذّاني، ومن عوض التونسي وغيرهم، وحدث. روى عنه الحافظ قطب الدين الحبي. وكانت ولايته القضاء في ذي الحجة سنة ثمان وستين. ثم صرف في شهر رمضان سنة تسع وستين.
ثم أعيد في شهر ربيع الآخر سنة إحدى وثمانين. ودرس بالمنصورية للمالكية، وبالقمحية في نصف شهر رمضان سنة أربع وثمانين. ومات في آخر يوم من ذي القعدة، أول يوم من ذي الحجة سنة خمس وثمانين وستمائة.

الحسين بن علي بن أحمد المكرمي، إسماعيل من المائة الخامسة. كذا سماه ابن ميسر في تاريخه، وسماه المكرمي، إسماعيلي من المائة الخامسة. كذا سماه ابن ميسر في تاريخه، وسماه الحافظ قطب الدين الحلبي في تاريخه: (الحسن) بفتحتين. وكانت ولايته عند صرف محمد بن عبد الحاكم، سنة مات المستنصر وهي سنة سبع وثمانين وأربعمائة، فكانت مدته شهراً واحداً وثلاثة أيام.
وكان سبب عزله أنه ظهرت عليه عصابة لها قيمة، كأنها من ذهب. وفيها جوهر نفيس، كان أخذها من القصر أيام الغلاء والشدة، ففقدت من صاحبتها وظهرت عليه بعد أن ولي القضاء. فعزل بسببها وصُودر.
ذكر ذلك ابن ميسر في حوادث سنة ثلاث وتسعين وأربعمائة نقلا عن الصفي الجوهري هو علي بن منجب ابن الصيرفي.
الحسين بن علي بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيُّون، بمهملة وياء آخر الحروف ثقيلة مضمومة وآخره نون، المغربي الإسماعيلي، من المائة الرابعة. ولد لليلتين بقيتا من ذي الحجة سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة بالمهدية، وقدم مع أبيه القاهرة وهو صغير، فحفظ كتاباً في الفقه ومهر إلى أن صار من أئمة السبعة. واستخلفه عمه محمد بن النعمان بالجامع في الحكم. ثم صرفه بابنه عبد العزيز بن محمد. فلما مات محمد بن النعمان، أقامت مصر بغير قاض تسعة عشر يوماً، فاستدعاه برجوان بأمر الحاكم، فولاه القضاء، وولي المظالم ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وذلك في آخر صفر، أو أول شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين وثلاثمائة. وحرره المسبّحي في الثالث والعشرين من صفر. قال: فقلده سيفا وخلع عليه ثياباً بيضاء مقطوعة، ورداه برداء وعمّمه بعمامة مذهبين، وحمله على بغلة. وقاد بين يديه بغلتين، وحمل معه ثياباً صحيحة كثيرة. وقرئ عهده بولاية القضاء بالقاهرة ومصر والإسكندرية والشام والحرمين والمغرب وأعمال ذلك، وهو قائم على قدميه. وأضيفت إليه الصلاة والحسبة فركب إلى الجامع، ووقف عن قوبل جماعة من شهود عمه، وعدتهم أربعة عشر نفساً، والمسبحي أسماهم، ثم قبلهم بعد مدة شهرة. واستخلف على الحكم الحسين بن محمد بن طاهر بمصر، وبالقاهرة مالك ابن سعيد الفارقي. وأقام النعمان أخاه في النظر في المعيار، فأضاف إليه قضاء الإسكندرية. وعلى الفروض أحمد بن محمد بن أبي العوام، وألزم من ينظر في مال الأيتام بعمل الحسبانات.
فبينما هو في ثامن صفر سنة إحدى وتسعين، جالس في الجامع بمصر، يقرأ عليه الفقه، أقيمت الصلاة، صلاة العصر، فدخل فيها، إذا هجم عليه مغربي أندلسي فضربه ضربتين بمنجل فغاص في وجهه ورأسه. فأمسك الرجل فقتل، وصلب، وصار من ذلك اليوم يحرسه عشرون رجلاً بالسلام.
وذكر المسبحي في تاريخه ذلك، في حوادث سنة ثلاث وتسعين في ثاني المحرم. وأقام القاضي إلى أن اندمل جرحه، فركب إلى الحاكم، فخلع عليه وحمله على بغلة، وقاد بين يديه أخرى. وأن الحسين هذا جُرح وهو راكع في صلاة العصر. وكان إذا صلى يُصَفّ خلفه الحرس بالسيوف، حتى يفرغ فيصلون هو حينئذ.
قال المسبحي: وهو أول قاض فعل معه ذلك. وكان الحاكم قد أمر أن يضعَّف للحسين أرزاق عمه وصلاته وإقطاعاته. وشرط عليه ألا يتعرض من أموال الرعية، لدرهم فما فوقه. وخلع عليه وقلده سيفا، وحمله على بغلة، وفوض إليه الحكم لجميع المملكة، وكذلك الخطابة، والإمامة بالمساجد الجامعة، والنظر عليها وعلى غيرها من المساجد. وولاه مشارفة دار الضرب والدعوة، وقراءة المجالس بالعصر، وكتابتها.
وهو أول من أضيفت إليه الدعوة من قضاة العبيديين، وكان الناس يظنون أنه لا يتولى القضاء لضعف حاله، وأن الولاية إنما هي لعبد العزيز بن محمد ابن عمه لما كان أبوه قدمه في الحكم في حياته، وهذَّبه، ودربه.

ثم رفع جماعة من الناس أن لهم ودائع مودعة في الديوان الحكمي، فأحضر القاضي ابن عمه عبد العزيز بن محمد بن النعمان، وكاتب عمه أبا طاهر بن السندي، وسألهما عن ذلك. فذكرا له أن عمه تصرف في ذلك كله على سبل القرض، فأنكر عليهما ذلك، واشتد في المطالبة. وولي استرفاع حسابهم، فَهْد ابن إبراهيم النصراني، كاتب بَرْجَوَان، وفتش عليهم وألزم عبد العزيز ببيع ما خلفه أبوه، فباغ الموجود فتحصل منه سبعة آلاف دينار وزيادة. وحصل الكاتب قدرها مرتين فاستدعى القاضي، وهو جالس بالقصر أصحاب الحقوق، فوفاهم حقوقهم، وقرر في زقاق القناديل موضعاً للودائع الحكمية. وأقام خمسة من الشهود يضبطون ما يحضر ويصرف.
وهو أول من أفراد للمودع الحكمي مكاناً معيناً. وكانت الأموال قبل ذلك تودع عند القضاة أو أمنائهم.
وباشر الحسين بصرامة ومهابة، وهو أول من كتب في سجله قاضي القضاة. وأبوه أول من خاطب بها من قضاة مصر.
وتقدم إليه الحسن المغربي في خصومة، فنزل لسانه بشيء خاطب به القاضي فأغضبه. فأرسل إلي وإلي الشرطة، فضربه ألف درة وثمانمائة دِرَّة بحضرة صاحب القاضي. وطيف به فمات من يومه. وأخرجت جنازته فحضرها أكثر أهل البلد، وكرموا قبره، والدعاء له، وعلى من ظلمه. وندم القاضي على ما فعل، وفاته الندم.
فلما كان في رجب سنة ثلاث وتسعين أذن الحاكم لعبد العزيز بن محمد أن يسمع الدَّعْوَى والبينة، مع استمرار الحسين على وظائفه، فرتب عبد العزيز له شهوداً يحضرون مجلسه، وشطر عليهم ألا يحضروا مجلس ابن عمه، فبقي الناس في أمر مَريج، فمن رفع قصة إلى لاحسين رفع غريمه قصة إلى عبد العزيز. وإذا حضر عبد العزيز إلى الجامع تخلو دار الحسين. فكثر الكلام في ذلك والخوض فيه، فكتب الحاكم بخطه سجلاً بأنه لم يأذن لغير الحسين أن يشارك الحسين فيما فوض إليه، وأمر بأن يمنع من يسجل علي غيره في شيء من الأحكام. وأن من دعا أحداً من الخصوم، وكان قد سبق إلى الحسين أن لا يمكن أحداً منه. وقرئ هذا السجل على الملأ، وانشرح خاطر القاضي بذلك.
ولم يزل على جلالته، حتى أفرط في مجاوزة الحد في التعاظم، وألزم الشهود بحضور مجلسه في داره، وبالجامع، ومن غاب منهم لزمه جعْلٌ جيد يؤخذ منه.
وكان يتتبع قراءة ما يسجل عليه عنده، قبل أن يشهد به على نفسه. وكان مع ذلك كثير الإفضال على أهل العلم والأدب والثبوت، ولهم عليه جرايات من القمح والشعير مشاهرة وغيرها. ويصلهم بالملابس وغير ذلك. واستمر إلى أن خرج أمر الحاكم بصرفه عن الحكم في شهر رمضان سنة أربع وتسعين. فلم يشعر وهو بداره حتى دخل عليه من أعلمه بأن ابن عمه عبد العزيز ولي القضاء. فأنكر ذلك إلى أن تحقق. فأغلق بابه ولزم بيته. واشتد خوفه، إلى أن كان في السادس من المحرم فأمر الحاكم فأحضر على حمار نهاراً. وأمر بحبسه إلى أول سنة خمس وتسعين فضربت عنقه هو وأبو الطاهر المغازلي، ومؤذن القصر. وأحرقت جثث الثلاثة عند باب الفتوح.
وكان مما أنكره الحاكم قصة الرجل الذي ضربه وإلى الشرطة فمات كما تقدم، وقد ذكر إبراهيم بن الرقيق في تاريخ إفريقية قصة الحسين هذا مع الحاكم. فقال ما نصه: وقتل الحاكم قاضية حسين بن علي بن النعمان فأحرقه بالنار. قالوا: وكان من أسباب قتله أن الحاكم كان قد ملأ عينة ويده، وشرط عليه العفة عن أموال الناس، فرفع إلى الحاكم شخص متظلم رقعةً يذكر فيها أن أباه مات. وترك له عشرين ألف دينار، وأنها كانت في ديوان القاضي حسين، وكان ينفق عليه منها مدة معلومة. فحضر يطلب من ماله شيئاً فأعلمه القاضي أن الذي له نفد، فاستدعى الحاكم بالقاضي، فدفع إليه الرقعة، فأجابه بما قال للرجل، وأن الذي خلفه أبوه استوفاه من نفقته. فأمر الحاكم بإحضار ديوان القاضي في الحال، فأحضر ففتش فيه عن مال الرجل. فظهر أنه إنما وصل إلى القليل منه. ووجد أكثر باقٍ. فعدد على القاضي ما تبه له وأجراه عليه، وإكرامه إياه، وما شرط عليه من عدم التعرض لأموال الرعية، فجزع وهاله ذلك. وقال: العفو وأتوب. وانصرف بالرجل فدفع إليه ماله وأشهد عليه. فحقد الحاكم عليه ذلك، فأمر به فحبس، ثم أخرج بعد ذلك على حمار نهاراً، والناس ينظرون إلى أن ساروا به إلى المنظرة. فضربت عنقه، وأحرقت جثته.
وكانت ولايته القضاء خمس سنين وسبعة أشهر وأحد عشر يوماً.

قال المسبِّحي: لا عَن بين رجل سكرى وامرأته في الجامع العتيق، ولم يسبق بذلك، يعني في دولة العبيديين.
قال وأقطع الحاكم للقاضي المذكور داراً، بالقرب من الخليج الحاكمي، فكان في أيام النيل يركب في عُشَارِي إلى هذه الدار، ويسايره الشهود على دوابّهم في البر، ثم يركب منها إلى القصر، ثم يعود إليها، ثم يرجع إلى سكنه بالدار الحمراء.
الحسين بن عيسى بن هَرَوان الرملي الشافعي، من المائة الرابع، يكنى أبا علي ويقال إن اسم أبيه موسى، ويقال محمد. كان أحمد بن سليمان بن حَذْلم لما ولي القضاء بالشام استخلف أبا الطاهر الذهلي، فاستخلف هو الحسين ابن هروان، ذكر ذلك عبد العزيز الَكتَّانِي، وقال أبو محمد الأكْفَانِي: إن الحسين ولي قضاء مصر بعد وفاة عبد الله بن أحمد بن زَبْر.
وقال ابن عساكر عن عبد الله بن أحمد الفَرْغَاني: إن الحسين بن عيسى كان يلي القضاء نيابة عن قاضي القضاة ببغداد، نيابة من قبل الخليفة المطيع. ولم يكن يصلح للقضاء، ولا لتقلُّد الحكم، لخلوه من معرفة وإنما سعى في ذلك لطلب الجاه وصيانة نعمته، فإنه كان كثير المال.
وقد وقَع بينه وبني ابن وليدٍ مرة. فقال حالفاً: لا يسعى أحد في القضاء إلا بذلك في إتلاف روحه مثل هذا الجرن ذهباً.
وذكره غيره أن ولايته من قبل الراضي، ثم المستكفي من سنة إحدى وثلاثين. وقدم مصر سنة ثلاث وثلاثين، فاستخلف أبا بكر بن الحداد. وكانت وفاته في آخر رجب سنة أربع وثلاثين بدمشق، أرخه الفرغاني.
الحسين بن محمد بن طاهر نقيب الأشراف، استخلفه محمد بن النعمان على القضاء لما عجز عليّ بن محمد بن إسحاق الحلبي عن الحركة، فكوتب خلفاء النواحي عنه بقاضي القضاة، وخاطبه الشهود بذلك. وذلك لثلاث بقين من رمضان سنة ثمان وثمانين وثلاثمائة.
الحسين بن محمد المطلبي النَّبقي. قدم بتسلم القضاء لمحمد بن الحسن بن أبي الشوارب، فتسلمه وقرأ عهد محمد بن الحسن في الجامع، ونظر في الأحكام إلى أن قدم أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، قاضياً على مصر، نيابة عن ابن أبي الشوارب المذكور، وذلك في جمادى الآخرة سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
الحسين بن أبي زرعة محمد بن عثمان الدمشقي شافعي المذهب، من المائة الرابعة، ولد سنة خمس وثمانين ومائتين بمصر، في ولاية أبيه عليها. وولى القضاء بها من قبل محمد بن الحسن، ابن أبي الشوارب، وذلك في شوال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة.
فركب بالسواد إلى الجامع وبين يديه أصحاب الشرطة، فباشر مباشرة جيدة. وكان عارفاً بالأحكام منفذاً، وكان مترفاً ويتوسوس في الوضوء. وكان واسع النَّفس. يقال إن نفقته على مائدته في كل شهر أربعمائة دينار، وجمع له قضاء مصر والإسكندرية والشام وحمص وفلسطين والرملة وطبرية وأعمال ذلك. وكثر نوابه بسبب ذلك. ونظر في المواريث والأحباس ودار الضرب. واستناب أبا بكر ابن الحداد، فقيه الديار المصرية. وكان يخلفه فيا لحكم. وكان هو يجلس في الجامع كل سبت.
وكان مفضالاً سخياً، يقال: إنه بلغه أن ابن الحداد بني داراً، فأرسل إليه ثلاثمائة دينار، وقال: اشتر بهذه سُتُورا.
ودخل عليه مرة وفي يد القاضي قطعة عنبر ويشمها، فناولها له فشمها، ثم ردها. فأنكر عليه، وقال: سبحان الله! وأبى أن يستردها منه، ويقال: إن وزنها كان مائتي مثقال. ثم وقعت بينهما مشاجرة في شيء، فتقاطعا.
وخرج ابن الحداد معه مرة وكان الحسَين يباشر القضاء بنفسه غدوة وعشية، فتوسط بينهما الحسن بن طاهر الحُسَيْنّي يباشر القضاء بنفسه غدوة وعشية، فتوسط بينهما الحسن بن طاره الحُسَيْنّي، عم أبي جعفر مسلم. فتوجه إلى الجامع عشية الجمعة، فاخذ بيد أبي بكر، ومضى به إلى ابن أبي زرعة، فأصلح بينهما. فقال ابن أبي زرعة: ما كان لنا بد من نصيب، يشير إلى أن ابن الحداد حاد الخلق، ثم قلا: والله ما أعده إلا والداً. فانكب ابن الحداد عليه يقبل صدره فاصطلحا، وعادا إلى ما كانا عليه من الرضا إلى أن تفرقا بالموت.
ويقال: إن الحسن بن طاهر لما دخل بابن الحداد، رأى التحسين في العلو فبلغه فنزل، ومر عليهما فسلم ولم يجلس عندهما، وتوجه إلى مكان آخر فجلس فهي واستدعاهما، فلما دخلا عليه قام وتلقاهما، وفعل ذلك أدباً مع الشريف، لئلا يقوم إليهن فاستحسن من رأي ذلك عنده، وعدّوه من آدابه.

واستكتب في الحكم الحسن بن عبد الرحمن بن الحسن بن إسحاق الجوهري، الماضي ذكره قريباً. وعدل جماعة من الأشراف ومن وجوه مصر.
قال ابن زولاق: ولم يكن ابن أبي زرعة يخالف ابن الحداد في شيء. ولما صرف ابن أبي الشوارب عن القضاء وذلك في سنة سبع وعشرين وثلاثمائة، واستقر عوضه أبو نصر يوسف بن عمر بن أبي عمر، كتب إلى ابن أبي زرعة باستمراره على قضاء مصر، فقبل ذلك. فقرأ كتابه على الناس في داره وفيه: وهذا عهدي إليك بخطى، وكان حسن الخط.
وذكر أبو الطاهر الذهلي أن سنّ يوسف حينئذ كانت نحو العشرين، فيقال: إن ابن الحداد قال لابن أبي زرعة: تقبل كتاب صبي! وما عليك أن تأخذ أنت هذا الأمر من الأصل. فقال: لو أردت قضاء بغداد لفعلت، وقد كتبت في أمر قضاء الحرمين.
واتفق أنه اعتل عن قريب، فمات في ذي الحجة يوم المحرم سنة سبع وعشرين وله ثمان وأربعون سنة. كانت ولايته ثلاث سنين.
الحسين بن يوسف بن أحمد الرصافي، إسماعيلي من المائة الخامسة. قرره الأفضل بن بدر بعد صرف محمد بن جوهر بن ذلك في ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وأربعمائة، ثم أعيد بعد صرف مظفر بن طاهر قال ابن دانيال:
وبعد ذا ولي القضاء ابن ذكا ... وبعده الحسين هو ذو الذكا
وبعد ابن ظافر تولى ... ثم الحسين ذو المقام الأعلى
حمزة بن الحسين بن أحمد التنوخي العِرْقِي، بكسر المهملة وسكون الراء، بعدها قاف، بُليدة من طرابلس. ويقال كنيته أبو الحسن. ويقال: اسمه أحمد بن الحسين، ويقال: بل هو أحمد بن حمزة بن أحمد.
وكانت ولايته من قبل بدر الجمالي، واستمر في الولاية إلى أن مات في سنة ثلاث وسبعين وأربعمائة.
وقرأت بخط القطب الحلبي، الذي تولى القضاء: هو حمزة بن أحمد. وله ولد يقال له أحمد، له فضل. ولذلك ظنه من قال إنه القاضي، والأول هو الذي ذكره ابن ميسر في تاريخه ونقلته منه. والثاني ذكره الحافظ تقي الدين عبيد الإسعردي، وذكر أنه وقف له على ترسّل حسن.
وذكر ابن ميسر: أن الزقاق الذي بخوخة الطباخ عند الجباسات، وهو منسوب لهذا القاضي، وهو آخر العمران بمصر.
وفي تاريخ ابن ميسر، الغرقي نسبة إلى مكان يقال له غَرَق، بفتح الغين والراء بعدها قاف بالقرب من شيزر كذا قال. والمعروف عِرقة من عمل طرابلس كما سبق.
قال القطب: وسألت أهل العلم عن نسبه، فذكر لي الحافظ تقي الدين عبيد، أنه أحمد بن حمزة نب أحمد، ويكنى أبا العلاء وأنه وجد ذلك في ترسّله.
وذكر القِفطي في أخبار النحويين: أنه تنوخي رحل من بلده إلى مصر، واجتمع بالسلفي في الإسكندرية، وكتب السلفي عنه فوائد أدبية، وذكر أنه أخذ عن ابن الصواف، وأبي إسحاق الحبال، وأبي الفضل الجوهري. وقرأ القرآن على أبي الحسين ابن الخشاب، وأخذ اللغة عن ابن القطاع، والنحو عن مسعود الدولة الدمشقي. وكان مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة انتهى.
وهذه الترجمة بعضها ولولد القاضي، كما ذكر الحافظ قطب الدين، فإن ولاية القاضي كانت في سنة ست وستين وأربعمائة، ولابنه أحمد يومئذ أربع سنين، لان مولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة، وعاش إلى ما بعد الخمسمائة، ومات بالإسكندرية، وأحمد هو الذي لقيه السلفي.
وأما الذي قرأ على ابن الخشاب وابن الحبال وغيرهما، فهو أبه لا محالة.

حمزة بن علي بن يعقوب بالغَلّبُوني استخلفه مالك بن سعيد الفارقي على الحكم، في رجب سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة لكثرة اشتغال مالك بملازمة الحاكم. وفوض إليه جميع الأمور، وخلع عليه من منزله. وهو أول من فعل ذلك من القضاة. وإنما كانت الخلع من منزل الخليفة أو السلطان، وكثر اجتماع الناس عنده، وتردّدهم لقضاياهم عند مالك. واستكثر حمزة من سؤال مالك في الأمور إلى أن أضجره. فرفع إليه جماعة عنه أموراً أنكرها، وبالغوا في ذلك إلى أن منعه من حضور المجلس، فانقطع مدة ثم حضر فانتهره، فخرج فاستتر. فكتبوا فيه محضراً اشتمل على عظائم، وأطلقوا القول فيه، فرضى مالك بإبعاده، ولم يزجر من وقع فيه. وكانت صورة المحضر بعد البسملة: هذا ما شهد به من يُسَمَّي في هذا الكتاب، أنهم يعرفون حمزة بن علي بن يعقوب الغَلَبُوني الوراق، معرفة صحيحة لشخصه ونسبه واسمه، ويشهدون أنهم انكشف لهم من حاله، من قلة الأمانة، وظهور الخيانة، ورقة الدين، واغتصاب مال المسلمين، والارتشاء على الحكم، إلى غير ذلك من القبائح. وصح عندهم أن في بعده عن باب الحكم طهارة له، وصلاحاً للمسلمين، وصونا لحرمهم وأموالهم. هذا مع مخالفته لمذهب الإمام، وتظاهره بخلافه، أن قاضي القضاة كان إذا بلغه شيء من ذلك يزجره ويحذره فيظهر الرجوع ثم يعود، حتى صار يختلي بالمرجفين، ويسعى في الأمور العظيمة، والأحوال الجسيمة، التي لا يكاد ينطق بها اللسان، فثبت أنه غير موضع للقضاء، ولا لقبول الشهادة، يعلمون ذلك، ويشهدون به، بسؤال من جاز سؤالهم، إن ثبتت شهاداتهم بما علموه عنه، فأجابوا إلى ذلك، وكتبوا خطوطهم على علم منهم، وذلك في ذي الحجة لسنة ثمان وتسعين وثلاثمائة.
ثم زادوا في الحط عليه، فتغيب فقيل لهم: إنه اختفى عند أبي القاسم ابن المَغْرَبي الوزير ليشفع فيه، فلم يعرف بذلك. ثم وجد أخوه فقبض عليه وأهين، ثم هرب. فلم يزل هو وأخوه مستترين حتى ظفر بهما، فاعتقلا في المحرم سنة تسع وتسعين وثلاثمائة، وأضيف إليهما رجل من ولد حسين بن النعمان، ثم أخرجوا في التاسع من صفر سنة تسع وتسعين إلى ناحية المقس، فجعلوا في مركب، فساروا بهم ثم رُدت رؤوسهم من نواحي الصعيد، عن قريب.
حرف الخاء المعجمة
الخَضِر بن الحسن بن علي بن عبد الله الزَّرْزَارِي الكردي، برهان الدين السِّنْجَاري شافعي المذهب من المائة السابعة.
ولد سنة ست عشرة وستمائة، وأول ما ولي القضاء بمصر خاصة، في شوال سنة تسع وخمسين وستمائة، عوضا عن الوجيه البهنسي، بحسب سؤال البهنسي كما ذكر ذلك في ترجمته. ثم صرف في ثالث رمضان سنة ستين. بسعي الصاحب بهاء الدين فأهين، وانتزعت جهاته، حتى لم يبق معه سوى المعزية المعروفة، من إنشاء المعز أيبك التركماني، أول ملوك الترك بمصر. وولي الوزارة بعد موت الصاحب بهاء الدين ابن حِنا، في سنة سبع وسبعين وستمائة، وتسلم أولاد بهاء الدين. فلم ينتقم منهم، ولا آخذهم بما فعل أبوهم معه.
فمل يزل يتولى الوزارة إلى أن عزل في أيام المنصور قلاوون بالشجاعي، في رمضان سنة ثمان وسبعين وستمائة. فسعى فيه الشجاعي إلى أن ضرب بالسياط. استمر خاملا إلى أن أعيد إلى الوزارة. ثم أعيد إلى القضاء في جمادى الآخرة سنة تسع وسبعين وستمائة. وصرف عنه في ربيع الأول سنة ثمانين وستمائة ولزم بيته إلى أن وصل الخبر بموت البهاء ابن الزكي قاضي دمشق، فعين لقاء دمشق، ثم لم يتم له ذلك.
ثم في ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وستمائة قرر في تدريس المدرسة الصلاحية، المجاورة لضريح الشافعي. وقرر له ما وجد في كتاب وقفها، وهو أن يكون للمدرس في الشهر عشرة دنانير، وللناظر أربعون ديناراً وستة أرطال من الخبز وراويتان من ماء النيل.
وكانت هذه المدرسة قد عطلت نحو ثلاثين سنة من المُدَرِّس. لكن بعض الطلبة يلازمها مع المعيد، ويقرر لهم. وكانت عدتهم عشرة انفس إلى أن سعى تقي الدين ابن رَزِين، فقرر في تدريسها بنصف المعلوم، فباشرها إلى أن مات. ثم آل تدريسها للقاضي برهان الدين السنجاري المذكور، فباشرها بجميع المعلوم المقرر للناظر والمدرس.
قرأت ذلك بخط شمس الدين الجَزَرِي في تاريخه، وأرخ ذلك في عاشر شهر ربيع الأول من سنة إحدى وثمانين وستمائة.

وقرأت بخط الجزَرِي أيضاً أن البرهان المذكور حج في سنة اثنتين وثماني وستمائة، أن الباسقردي كان أمير الرَّكْب، فوقع بينه وبين أبي طثمي أمير مكة، فمنع أبو نمي الناس من دخلوا مكة يوم التَّروية. فحاصره الباسقردي، إلى أن كسر الباب الذي من جهة الحجون ودخلها عنوة، فقام البرهان السنجاري إلى أن أصلح بين الأميرين، وسكنت الفتنة.
ولما أن صرف تقي الدين عبد الرحمن ابن بنت الأعز في أوائل صفر سنة ست وثمانين وستمائة، تقلد البرهان السنجاري قضاء البلدين أي الحرمين شرفهما الله إلى يوم القيامة آمين. فباشر ذلك نحو عشرين يوماً، وأدركته الوفاة فمات. ويقال أنه شم من جهة الوزير الشجاعي. وكان البرهان من محاسن الزمان إفضالاً وإحساناً واحتمالاً.
وقرأت بخط الصفدي: كانت فيه مروءة وتودد، ومسارعة القضاء مآرب الناس.
وذكر الحافظ علم الدين البرزالي: أنه قرأ عليه جزءاً سمعه على ابن اللمط، قال السراج الوراق يخاطب برهان الدين المذكور:
تَهَنَّ بخلعة لبست جمالاً ... بوجهٍ منك سبَّحَ مجتلوه
وقال الناس حين طلعت فيها ... أهذا البدر؟ قلت لهم أخوه
وقال الحكيم شمس الدين ابن دانيال:
إن السناجرة الكرام لمثلنا ... بهمُ إذا جار الزمان أمانُ
لا تجحدُ الأعداءُ ذاكَ جَهَالَةً ... فلنا على ما نَدَّعي برهانُ
وقال الشهاب الشيرازي:
جُبت البلاد فلم أغادر غادرا ... إلا ظفرت بغادرٍ خوانِ
وسألت عن سمح فأنكره الورى ... فعطفت نحو الخضر فضل عناني
جحدوا وجوه الجود إلا أنني ... أثبت ما جحدوه بالبرهان
وقال محي الدين ابن عبد الظاهر:
بكَ زالَ الخلاف واصطلح الخصْ ... مان يا دولة المليك السعيد
كلما فاقت الوزارة بالبُر ... هان فاق البرهان بالتقليد
خطير الملك اليازوري: هو محمد بن الحسن يأتي في الميم.
الخيار بن خالد بن خالد بن عبد الله بن معاذ بن وهب بن كعب بن معاذ ابن عُتُوَارَة بن عمرو بن مدلج بن وهب الكناني المُدْلجي، يكنى أبا نضلة من المائة الثانية، ولي قضاء مصر في شوال سنة أربع عشرة ومائة من قبل الوليد ابن رفاعة أمير مصر عن هشام بن عبد الملك، ولما عرض عليه القضاء قال لا أحسنه، فأقعد معه سليمان بن زياد الحضرمي كاتباً.
وكان الخيار إذا قضى فأخطأ نبهه سليمان، فيرد الخصم، فيخبره، بما قال سليمان ويقضي به. فإذا عاتبه الخصم قال: إن كاتبي أعلم مني، ولا يستوحش من ذلك. وكان مدة ولايته شهرين وشيئاً ومات في سلخ سنة أربع عشرة أو استهلال سنة خمس عشرة.
قال ابن يونس: كان رجلاً صالحاً. وقال عبد الرحمن بن عبد الحكم في (فتوح مصر) ولي بقدر سنة.
وكان محموداً، جميل المذهب. ولم يذكره أبو عمر الكندي في قضاة مصر. وذكره ابن زولاق في تاريخه. وقد قال ابن دانيال في أرجوزته:
والحضْرَمي ثم للخيار ... ثم يزيد جاء في الآثارِ
وآل بعد تَوبة وخير ... إلى ابن سالم بكل خير
والحضمي هو يحيى بن ميمون. والخيار: هو ابن خالد. ويزيد: هو ابن عبد الله بن خذامر. وتوبة: هو ابن نمر. وخير: هو ابن نعيم: وقد مذى ذكر توبة، ويأتي ذكر خير قريباً.
خَيْر بن نُعَيم بن مُرَّة بن كُرَيْب بن عمرو بن خزيمة بن أوس الحَضْرَمي، من بني ناهِض. يكنى أبا إسماعيل، وأبا نعيم، وأبا الخير، من المائة الثانية. ولي من قبل حَنْظَلة بن صَفْوان الكَلْبي أمير مصر، هن هشام، في ربيع الآخر سنة عشرين ومائة، وأضاف إليه القصص.
وكان قبل ولاية القضاء بمصر، يلي قضاء برقة، ثم كتب لتوبة بن نمر. فلما استفى توبة، قرر خير في القضاء بإشارته. روى عن عطاء، وأبي الزبير، ومعاذ بن أنس، وعبد الله بن هبيرة وغيرهم. روى عنه عمرو بن الحارث، وحَيْوَة بن شُرَيْح، وسعيد بن أبي أيوب، والليث وابن لهيعة، وضِمام بن إسماعيل وغيرهم.

وقال أبو زرعة: صدوق لا بأس به. وقال أبو حاتم: صالح. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في الثقات. وأخرج له مسلم حديثاً واحداً. وقال: ضمام ابن إسماعيل، عن يزيد بن أبي حبيب قال: ما أدركت من قضاة مصر أفقه من خير بن نعيم. قال الليث: التقيت بخير بن نعيم، فقلت له: بلغني أنك كرهت السلف في الحيوان ورددته. أأخذت ذاك عن ربيعة؟ قال: لا. ولكن عطاء أخبرني عن جابر أنه كان يكرهه.
قال أبو عمر: دفع رجل إلى رجل ثلاثة دنانير فدفعها إلى رجل ليشتري بها حماراً فلم يجده إلا بأربعة. فاشتراه ودفع الرابع من عنده وقال: إن رضي أخذت منه الدينار، وإن أبى أخذت الحمار النفسي، فاشترى على ذلك الشرط، فسُرق فقضى خير بأن الحمار من ضمان المشتري. فيرد الثلاثة إلى الذي دفعها.
وعن خير: أنه قضى في رجل هلك ولم يُوصِ، وعنده بضاعة لرجل، وشركة في متاع، وعنده وديعة ليتيم، ولعيه صداق لامرأته. فقضى خير: أن ما كان قِبله من شركة أو بضاعة، فإنها تُرَدّ إلى أصحابها، وأن الصداق والوديثة إذا لم توجد أسوة الغرماء.
وقال ابن وهب: سمعت الليث يقول: كان خير يقضي في بيع المواريث أن المشرتي بالخيار في رد ما اشترى، حتى يباع شيء غيره ويكتبه الكاتب.
وقال يحيى بن بكير: كان يرد على من يخاطبه بالقبطية بها، ويسمع شهادة الشهود بها ويحكم.
وقال الليث: كان خير يقضي فيمن اعترف لرجل بحق له عليه، ثم أنه قضاه ولا بينة عنده، أنه يلزمه ما اعترف به.
وكان يقول: من اعترف عندنا بشيء أخذناه به.
وكان يقضي بالشفعة بقدر الحصص. وكان يقضي بالمتعة على من طلق. وكان يسجن بالدين، فإن شهد له جيرانه بالعُدم، أطلقه من ساعته.
وكان له مجلس على الطريق على باب داره، يسمع فيه ما يجري بين الخصوم.
ودخل عليه رجل فدعاه إلى طعامه، ثم عرف أنه مخاصّم، فاستدعى خصمه فعرض عليه الطعام.
وقال سهيل: كنت ألازم خير بن نعيم وأنا حدَث، فكنت أراه ينجر فِي الزيت، فسألته عن ذلك، فقال: انتظر حتى تجوع ببطن غيرك. فقلت في نفسي كيف أجوع ببطن غير؟ فلما ابتليت بالعيال عرفت أني أجوع ببطونهم.
وصرف خير بن نعيم عن القضاء في أول يوم من المحرم سنة ثمان وعشرين ومائة، صرفه حوثرة بن سهيل الباهلي، لما قدم أميراً من قبل مروان بن محمد في أواخر سنة سبع وعشرين ومائة فقتل أشراف أهل مصر. فقال له حسان بن عتاهية التجيبي: لم يبق من أهل حضرموت إلا هذا الذَّنَب فإن قطعته قطعته. فصرفه عن القضاء، وصيّره كاتباً عل الرسائل. ثم أعيد إلى القضاء في مستهل رمضان سنة ثلاث وثلاثين ومن جهة أبي عون عبد الملك بن يزيد أمير مصر من جهة السَّفَّاح. فعرضت له علة الجُذّام في ولايته الثانية، فاستعفى أبا عون فلم يجبه لذلك. فكان كاتبه غوث بن سليمان، يقضي بين الناس في منزل خير.
وقال يحيى بن بكير: كان خير بن نعيم أول من أدخل أموال اليتامى بيت المال. ورد كتاب المنصور إلى أبي عون بذلك، فأمر خير بن نعيم ففعل ذلك وسجل لكل منها سجلاً بما يدخل ويخرج.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم عن يحيى بن عبد الله بن بكير أن رجلاً من الجُنْد قذف رجلاً، فخاصمه إلى خير، وأقام عليه شاهداً فحسبه، فأخرج أبو عون الجندي من الحبس، فاعتزل خير. وترك الحكم. فراسله أبو عون فقال: لا، حتى ترد الجندي. فامتنع واستمر خير على الامتناع. وَكَانَ ذلك في شهر رمضان سنة خمس وثلاثين. وعاش خير بن نعيم بعد ذلك إلى أن مات في آخر سنة ست وثلاثين، أو أول سنة سبع وثلاثين. أرخه ابن ميسر سنة ست. وأرخه ابن يونس سنة سبع، وهو أعلم به. وقبره عند مشهد أم كلثوم بالقرافة.
وكتب هشام بن عبد الملك إلى خير بن نعيم أيّ امرأة أرادت قبض صداقها المؤخر على زوجها أن تعطاه، إلا أن شرط عند الإملاك أن تعطى إلى على شرط مُسمَّى.
وقال يحيى بن سعيد: قلت لربيعة إن أهل الطالبيين حدثوني أن خير بن نعيم كان يقضي بينهم بأن لا يجوز السَّلف في الحيوان، وقد كان يجالسك، فلا أحسبه قضى به إلى عن رأيك. فقال له ربيعة: كان عبد الله بن مسعود يقول ذلك.
وقال عبد الله بن وهب: حدثني الليث أن رجلاً سلّف في نحل العسل فقضى خير بن نعيم برد ذلك. فقلت له: لا أراك أخذت ذلك من ربيعة. قال: لا ولكن عطاء بن أبي رباح، حدثني عن جابر بن عبد الله أنه كان يكره السلف في الحيوان.

وذكر الشريف الجواني في النقط: أن اثنين ترافعا إلى خير بن نعيم فادعى أحدهما بعشرين ديناراً، فسكت المدعي عليه. فقال له: ما يخلصك السكوت، فناوله رقعة وقال: استرها فسترها خير بكمه، فإذا فيها: المبلغ في ذمتي، ولكن ليس له بها شاهد، وأنا اليوم لا أقدر على حق الرسول، فإن اعترفت عقلني وإلا استحلفني خفت الله).
فبكى خير، وأخرج منديلاً من كمه، فوزن عشرين ديناراً للمدعي. فقال: ما هذه الدنانير؟ قال: خلاص هذا المسكين. فقال ما أردتَ بهذا؟ قال الأجر والثواب. قال أنا أحق. والله لا طلبتها منه أبداً، فقام المطلوب، فقال له خير: خذها فليس لي فيها رجعة، فاخذ عشرين، وتخلص من عشرين.
وذكر الشريف أيضاً: أن اثنين حضرا إلى خير عند أذان المغرب، فتحاكما في جمل، فصرفهما، وتشاغل بصلاة المغرب. فحضرا إليه في اليوم الثاني، فقال أحدهما: اشتريت من هذا جملاً باثني عشر ديناراً. فخرج به عيب واضح. فقال: ما أرده أبي بحكم حاكم، فلم تحكم بيننا أمس، فماتا لجمل بالمناخ فيكون في كيسي أو كيسه؟ فقال خير: بل في كيسي، لكوني لم أبتَّ الحكم بينكما. ووزن له ثمن الجمل.
وقال ابن لهيعة عن مخرمة بن بكير: إن مكاتبا لهم بزويلة، كان له أولاد أحرار من امرأة حرة فهلك. فاختلفوا في ميراثه فرفع إلى خير فقال: لا ميراث لولده الأحرار حين مات وهو مكاتب. فقدمت المرأة فسألت سعد بن إبراهيم قاضي المدينة فوافقه.
وقال ابن وهب عن الليث: كان خير بن نعيم يقضي لمن توفي عنها زوجها من نساء الغزاة قبل انقضاء الرباط، إذا كانت معه أن تنصرف فتعتد في بيت زوجها الذي خرجت منه. وكان يسمع كلام القبط بلغتهم ويخاطبهم بها، وكذلك شهادة الشهود منهم، ويحكم بشهادتهم.
وقال النسائي: أخبرنا محمد بن برافع حدثنا زيد بن الحباب، أخبرني عيسى ابن عقبة، أخبرني خير بن نعيم، عن أبي الزبير عن جابر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والفجر وليال عشر). قال: عشر النَّحر. واليوم يوم عرفة. والشفع: يوم النحر. قال أبو سعيد بن يونس: ليس هذا الحديث بمصر. وَمَا رواه عن الليث إلا زيد بن الحباب.
وصرف خير بن نعيم عن القضاء بعبد الرحمن بن سالم. ثم أعيد إلى القضاء في رمضان سنة ثلاث وثلاثين فاستكتب في ولايته غوث بن سلميان، وأذن له أن يقضي بين الناس في باب منزل خير، لما اعتل خير، وبدت به علة الجذام، وثقل عليه كثرة الخصماء.
وكان استعفى أبا عون أمير مصر فلم يجبه إلى ذلك، وكان عبد الملك بن مروان المصري ولاه ديوان الرسائل بعد صرفه عن القضاء، فاتفق أنه أتى فخاصم ابن عم له عنده فجلس على مفرشه، فقال له: قم ساو خصمك. فقال: كأنك وجدت علي أن صيرتك كاتباً بعد القضاء. وقام فلم يخاصم.
وقال ابن لهيعة: كان خير يجيز شهادة الصبيان في الجراح بينهم وشهادة أهل الذمة، اليهود على اليهود، والنصارى على الأنصار، إذا كانوا عدولاً في دينهم. وكان يقضي بين المسلمين في المسجد، ويجلس عل الباب بعد العصر للقضاء بين النصارى.
حرف الدال المهملة
دُحيْمم الدمشق، هو عبد الرحمن بن إبراهيم الدمشق يأتي في العين المهملة.
حرف الذال المعجمة
أبو الذكر، هو محمد بن يحيى بن مهدي، يأتي في حرف الميم.
حرف الراء المهملة
حرف الزاي المعجمة
حرف السين المهملة
سالم بن سالم بن أحمد بن سالم بن عبد الملك بن عبد الباقي بن عبد العزيز، القاضي مجد الدين المقدسي الحنبلي.
ولد سنة ثمان وأربعين وسبعمائة. واشتغل ببلده، ثم قدم القاهرة سنة أربع وستين وسبعمائة...
فلما مات القاضي موفق الدين أحمد بن نصر الله، طلب أهل الدولة من يصلح للقضاء من الحنابلة فعين هو ابنّ اللحَّام الشيخ علاء الدين، وكان قدم من الشام عقب اللَّنْك، فاجتمعا، فصار كل منهما يقول: أنا لا أصلح للقضاء إنما يصلح هذا.
فلما طال ذلك، استقروا بالقاضي مجد الدين، وهو قريب القاضي موفق الدين الكبير، يجتمع معه في عبد الملك، فأحمد جد سالم، ولد عم موفق الدين.

فلم يزل القاضي مجد الدين في ولايته المذكورة، إلى أن صرف بالقاضي علاء الدين علي بن محمود الحموي المعروف بابن المُغْلي، وكان الناصر فرج يعتمد على القاضي مجد الدين، لأنه وصف عنده بالجودة والأمانة. فجهزه مرة إلى الصعيد، مع الوزير سعد الدين البشيري، للحوطة على تركة أمير عرب هَوَّارة، محمد بن عمر. فصار صحبته، وضبط الموجود.
وكان رفيقه في هذه السفرة، الشيخ زين الدين ابن النقاش، وكان يعتذر، بأنني قصدت بذلك التخفيف عن ورثة الهواري، ويقول: إنه توفر لهم بسبب ذلك أشياء، لولا وجوده كانت نُهبت. ثم ندب الناصر مجد الدين إلى حضور المخازن التي أمر الوالي بفتحها، ليأخذ ما يجد فيها من الفلوس، لما أراد أن يغلي سعرها. فلم يجد في الخزانة منها إلا القليل. فأمر أن تشترى ممن هي عنده، فامتنعوا. فكشف حواصلهم بوالي الشرطة، فشكوا إليه أن الشرطة تمد أيديهم إلى أمتعتهم. فأمر القاضي مجد الدين أن يحضر لضبط ذلك، ومنع التعرض لغير الفلوس. وأمر بدفع ثمن الفلوس لمن حضر من أصحابها من التجار. ومن لم يحضر يقبض حاصله ويكتب باسمه وُصُول إلى أن يحضر.
وكان القاضي مجد الدين - فيما قيل - يبالغ في الضبط، ولا يرخص لأحد من أصحاب الفلوس في إخفاء شيء منها، حتى كان العوام يقول قائلهم: إن والي الشرطة كان أرفق بهم منه.
ولمّا استقرت الدولة المؤيدية، كان يبلغه سيرة المذكور فلم يتعرض له، إلى أن قدم القاضي علاء الدين بعد قتل نيروز بسنة، فصُرف القاضي مجد الدين عن القضاء، واستقر ابن المغلي في وظيفة القضاء. واقترح أن يكون على قاعدة القاضي ناصر الدين بنصر الله فلزم من ذلك أن عز القاضي مجد الدين من جميع التداريس التي كانت معه، ولما ولي القضاء على قاعدة من قبله. فبعد أيام قليلة شغر تدريس الجمالية الجديدة عن أبي الفتح الباهي، فولاه السلطانُ لمجد الدين، فباشره حتى مات في يوم الخميس تاسع عشر ذي القعدة سنة ست وعشرين وثمانمائة.
السائب بن هشام بن عمرو بن ربيعة بن الحارث بن حبيّب، بالتثقيل، بن خزيمة بن نصر بن مالك بن حِسْل بن عامر بن لؤي القرشي العامري.
لأبيه هشام صحبة، وكان جدّه عمرو أخا نضلة بن هاشم بن عبد المناف لأمه. فكان هاشم لذلك يواصل بني هاشم، لما حصروا في الشَّعب. وكان يأتيهم بالطعام ليلاً، ثم كان ممن سعى في نقض الصحف التي كتبت عليهم. ويقال إن للسائب رؤية، بل لا يبعد أن يكون له صحبة، فإنه شهد فتح مصر، وكانت سنة عشرين، وأسلم أبوه يوم الفتح سنة ثمان، فقد كان يوم الفتح مُمَيْزاً وتبع أباه في الإسلام. ثم كل من كان بمكة موجوداً من قريش في حجة الوداع، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم وسمع خطبته بمنى.
وقال محمد بن الربيع الجيزي: كان عمرو بن العاص، ولي السائبَ شرطته بعد قتل خارجة بن حذافة، وذلك في خلافة علي. وكان قبل ذلك على شُرَطه عبد الله بن سعد، واستخلفه لما وفد على عثمان، واستعمله على الشرطة أيضاً قيس بن سعد.
وقال ابن الضراب: ولاه مسلمةُ بن مُخَلَّد قضاءَ مصر مضافاً إلى قضاء المغرب، وذلك في خلافة معاوية بعد سليم بن عتر، وهو أول من جُمعا له. قال: ثم بلغ مَسْلمة أنه يقول ما ينبغي للقاضي أن يأتي بابَ الأمير، بل ينبغي للأمير أن يأتي باب القاضي، فعزله.
وقال ابن يونس ولاه مسلمةُ قضاءَ مصر والشرطة، ولم يذكره أبو عمر الكندي وال ابن مُيَسِّر في قضاة مصر، فكأنه لم تطل مدته في قضائها.
وذكر ابن دانيال، أن ولايته كانت بعد سليم بن عتر، وقبل عابس بن سعيد وذلك لقوله في أرجوزته:
ثم ولي سليم نل عتر ... وبعده السائب نجل عمرو
ثم وليه عابس المرادي ثم كان على الجيش الذي جهزه عبد الرحمن بن جَحْدَم، أمير مصر، لدفع مروان بن الحكم سنة خميس وستين. فبلغ ذلك مروان فأخذ ولديه من فلسطين بعد أن وقف الغلامين بين الجبلين إن لم ترجع بهذا العسكر، وإلا قتلت ولديك. فرجع بعد أن كان وصل إلى العريش. وفي ذلك يقول شاعر أهل الشام:
كَرَرْنا إلى مصر من الشام كَرَّةً ... أزالت لَعَمْر الله مُلْكَ أبي بكر
يعني عبد الله بن الزبير. قال ابن يونس، وتبعه ابن ماكولا: كان السائب من جبناء قريش.

سعد بن محمد بن سعد بن عبد الله العبسي الدَّيْرِي المقدسي مولدا ومنشأ، الشيخ الإمام العلامة سعد الدين قاضي القضاة، ابن قاضي القضاة شمس الدين الحنفي من المائة التاسعة، يأتي بيان نسبه في ترجمة والده.
ولد سنة ثمان وستين وسبعمائة، وحفظ القرآن وهو صغير. وحفظ كتباً كثيرة منها الكنز وبعض المنظومة في فقه الحنفية، ومختصر ابن الحاجب الأصلي والمشارق القاضي عياض.
وكان سريع الحفظ، مفرط الذكاء، فعنى به أبوه وأعانه هو بنفسه، وأكب على الاشتغال إلى أن فاق الأقران. واشتهر بمعرفة الفقه حفظاً وتذييلاً للوقائع، واستحضار للخلاف.
سمعت والده يقدمه على نفسه في الفقه. وولي عدة وظائف ببلاده، وقدم القاهرة مراراً. وسمع الحديث على أبي الخير ابن الحافظ صلاح الدين العلائي، وعلى غيره. وحدث عنه بالسماع والإجازة مراراً.
وولي مشيخة المؤيدية بالقاهرة عوضاً عن أبيه، وباشرها، وانتفع به الناس في الفتاوي، والمواعيد والإشْغال، مع طلاقة اللسان، وحسن الوجه، وكثرة البشر، ولين الجانب، وفرط التواضع، مع الوقار والمهابة، والديانة والصيانة.
وولي القضاء بعد صرف القاضي بدر الدين العيني في أول سنة اثنتين وأربعين. فباشر بمهابة وصرامة وعفة. وأحبه الناس، ولا سيما أنه شرط على نفسه أن يبطل استبدال الأوقاف. فدام ذلك إلى مضى ثالث سنة من ولايته وحصل لأوقاف من ذلك رفق كثير. وعمرت أوقاف الحنفية في ولايته، وكثر مُتحصَّلها، بعد أن كان تلاشى أمرُها، بكثرة ما بيع منها أنقاضاً واستبدالاً بالذهب أو الفضة.
وللقاضي سعد الدين نظم كثير سمعت من لفظه في المذاكرة منه كثيراً.
سعيد بن ربيعة بن حُبيش بن عرفطة بن نضله بن ربيعة بن مالك الصدفي، من المائة الثانية. كان منقطعاً إلى الوليد بن رفاعة أمير مصر. فلما مات الخيار بن مالك عرض عليه الوليد القضاء، فامتنع وقال: ليس الحكم من طلب العافية وأنا مستوحش من الناس فأعفني. قال: لابد. فقال: والله لا تكلمت بكلمة واحدة. فجبره على الجلوس في المسجد. فدخل إليه الخصوم فما أجاب أحداً منهم بحرف واحد. فقام عبيد الله بن الحَبْحَاب وكان على الخراج فتكلم لتوبة بن نمر، فولى القضاء. وانصرف سعيد بعد أيام قلائل.
وقال سيعد بن كثير بن عُفير عن لِهيعة بن عيسى: قيل لسعيد بن ربيعة: إن أردت أن تَسْلم منهم فاسْتَعْجِمْ عليهم، ففعل ولم يقض بين اثنين.
وقال أبو عمر في ترجمة يحيى بن ميمون: لما كتب هشام بعزله، أخبر الوليدُ ابن رفاعة سعيد بن ربعية بولاية القضاء فامتنع، فذكر القصة وذكر ابن يونس أن...
سلطان ابن إبراهيم بن المُسَلَّم المقدسي، أبو الفتح الفقيه الشافعي من المائة السادسة وكان يعرف بابن رشا. ولاه أبو علي ابن الأفضل أمير الجيوش القضاءَ رابع أربعة وذلك في سنة وعشرين وخمسمائة.
وقال ابن ميسر: أخبرني القاضي كمال الدين أحمد ابن الصاحب فخر الدين الأعز ابن شكر قال: وجدت ورقة في أوراق خالي العماد ابن أخي العلَم بغير خطه فيها: وفي سنة خمس وعشرين رتب أبو أحمد ابن الأفضل في الأحكام أربعة يحكم كل منهم بمذهبه ويورث بمذهبه، فهو الشافعي. وسيأتي ذكر المالكي وهو محمد بن عبد المولى. والإمامي، وهو هبة الله بن عبد الله بن كامل والإسماعيلي وهو أبو الفضل هبة الله بن حسين بن الأزرق.
وصرف الأربعة عن القضاء عند القبض على ابن الأفضل في شهر ربيع الأول سنة ست وعشرين وخمسمائة.
وكان مولد الفقيه سلطان بالقدس في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة. وأخذ الفقه عن سلامة المقدسي والسيخ نصر بن إبراهيم المقدسي. ودخل مصر بعد سنة سبعين وأربعمائة. فسمع من أبي إسحاق الحبال، والخِلَعِي، وأبي عثمان ابن ورقا، وغيرهم. وأجاز له الخطيب البغدادي وغيره.
وقال ابن ميسر: كان من وُجُوه عُدول مصر وعلمائها. أخذ عنه مجلي بن جميع صاحب الدخائر وغيره. وروي عنه السلفي الحديث، وقال فِي حقه: كان أفقه الفقهاء بمصر في وقته، وقرأ عليه أكثرهم، ومات في آخر جمادى الآخرة سنة خمس وثلاثين وخمسمائة. وقيل في سنة ثمان.

سليمان بن خالد بن نعيم بن مُقَدَّم بن محمد بن حسن بن غانم بن محمد بن علي الطائي البساطي، علم الدين المالكي، من المائة الثامنة. والبساطي نسبة إلى بساط، بليدة بالغريبة، يقال لها بساط قروض من عمل السمنودية. وسماها ياقوت في المشترك بَسْوط، وبواو بدل الألف مع فتح أولها. ولم يكن أصله منها. وإنما نزلوها، وهم من شبرا بسيون، بالقرب من النحرارية، ولجدهم بها زاوية. ومات خالد وسليمان صغير. فنشأ في حجر عمه عثمان بن نعيم. واشتغل كثيراً حتى مهر واشتهر بمعرفة المذهب، وشارك في الفنون.
قرأت بخط البشبيشي: كان يقرر الألفية تقريراً حسناً، ونشأ كثير التقشف مطَّرحاً للتكلف، كثير الإطعام لم يرد عليه.
ولم يزل على طريقته، حتى ناب في الحكم عن البرهان الإِخنائي. ثم عن ولده البدر، ثم تنافرا.
وكان يقضي وهو نائب بجامع الصالح، ويشغل الناس، ويقرر لهم أحسن تقرير.
ثم ولي القضاء بعد صرف بدر الدين الإخنائي، بعناية الأمير قرطاي القائم بدولة المنصور على بن الأشرف، في سابع عشر ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة فباشر بمهابة وعفة وصيانة، وأكثر من استنابة من لم يكن له قبل ذلك نباهة. وقصد بذلك تأليف خواطرهم لتصير له عصبة، يقابل بها البدر الذي تلقى عنه فاستمر في القضاء ثمانين يوماً، ثم صرف في صفر سنة تسع وسبعين وسبعمائة، فأعيد البدر واستمر إلى ثالث عشر شهر رجب منها، فصرف، وأعيد البساطي. وتعطل البدر إلى أن مات في ربيع الأول سنة ثمانين وسبعمائة واستمر البساطي إلى أن وقع بينه وبين القاضي برهان الدين ابن جماعة، فصرف في خامس عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين وسبعمائة.
واستمر بطالاً إلى أن مات ليلة الجمعة سادس عشر صفر سنة ست وثمانين وسبعمائة.
وكان يعارض البرهان في كثير من الأمور. فاتفق أن بعض الموقعين عرض على البساطي وصية فأثبتها قبل أن تعرض على ابن جماعة، فبلغه ذل فغضب واستعان عليه بالأكمل.
وكان البساطي لا يلفت إلى رسائله، مع ما كان فيه من الجاه وتعظيم الملوك له، فقام الأكمل في نصرة ابن جماعة حتى عزل البساطي، واستقر جمال الدين ابن خير.
سليمان بن عمر بن سالم بن عثمان الأذرعي ثم الدمشقي، جمال الدين الزرعي الشافعي من المائة الثامنة. أصله من المغرب، ولد بأذرِعات سنة خمس وأربعين واشتغل لما ترعرع إلى أن ولي قضاء زَرْع، فقيل له الزَّرعي وغلب عليه.
وقدم على دمشق فناب عن القاضي بدر الدين ابن جماعة، وحكم بالعادلية، لما عزَل الشيخ كمال الدين الشريشي نفسه عن الحكم، في شوال سنة خمس وتسعين، ثم قدم القاهرة على القاضي بدر الدين ابن جماعة، فناب عنه بها. فلما عاد الملك الناصر من الكرك، وهو متغير على القضاة لقيامهم مع الملك المظفر بيبرس عزلهم، وقرر نوابهم. فاستقر القاضي جمال الدين الزرعي في قضاء الشافعية في مستهل شهر ربيع الأول سنة عشر وسبعمائة. وقيل في تاسع صفر.
ولما خلع عليه الناصر أمره أن يدخل بخلعته على بدر الدين ابن جماعة، وهو في مجلس حكمه بالصالحية ففعل. فدخل عليه، فقام له، وظن أنه ولي قضاء الشام، فهنأه وهما قائمان. فاستمر فاستراب ابن جماعة، فقال له: ما الذي وليه مولانا؟ قال: مكان مولانا. فخجل ونكس رأسه وخرج من المجلس يزاح من حضر، وكانوا جمعاً كثيراً. وجلس الزرعي مكانه فسار سيرة فاضلة. وعمر الأوقاف، وثمر ريعها وصرفه في المستحقين. واقتصر من النواب على من لا يقدح فيه أحد.
فلم يزل على ذلك إلى أن انقضت سنة كاملة من ولايته. فأعيد البدر ابن جماعة في حادي عشر من شهر ربيع الآخر سنة إحدى عشرة وسبعمائة. وصرف جمال الدين الزَّرعي، فأقام في بيته بطالاً إلى سنة ثلاث وعشرين.
وكان فقيهاً عارفاً بالأحكام، قوى النفس، دَيِّناً أمينا، محترزاً في أموره. مع أنه كان شَرِس الخلق من جهة أصله المغربي.

فلما جاء الخبر بموت القاضي نم الدين ابن صَصْرَى بدمشق، شغر منصب القضاء فتذكر الملك الناصر الزَّرعَّي فاستدعى به، وفوض إليه قضاء القضاة بدمشق وما معها، وأضاف إليه قضاء العسكر ومشيخة الشيوخ والتداريس على العادة، فباشر مباشرة حسنة، إلى أن سعى عليه جلال الدين محمد بن عبد الرحمن القزويني واستقر بها سنة أربع وعشرين وسبعمائة فصرف، فقدم القاهرة فأقام بها بطالاً، وإلى أن ولي تدريس بعض المدارس بمصر. واستمر إلى أن مات في سادس صفر سنة أربع وثلاثين وسبعمائة.
وسمع في صباه من أحمد بن عبد الدائم والكمال أحمد بن نعمة، والجمال يحيى ابن الصيرفي وغيرهم. وخرَّج له الحافظ علم الدين البرزالي مشيخة سمعها منه شيخنا برهان الدين الشامي، وقرأتها عليه، وهي عن اثنين وعشرين شيخاً.
سُلَيْم بن عِتْر بن سلمة بن مالك بن عِتْر بن وهب بن عوف بن معاوية ابن الحارث بن أيْدعان بن سعد بن تُجيب التُّجِيبي، نسبه ابنُ يونس. وعتر بكسر المهملة وسكون المثنَّاة بعدها راء: مخضرم منا لمائة الأولى.
قال ابن يونس: هاجر في خلافة عمر وحضر خطبته بالجابية، وشهد فتح مصر. وكان يدعى سليماً الناسك، لشدة عبادته. روى عن عمر بن الخطاب، وحفصة بنت عمر. وروى عنه علي بن رباح وأبو قبيل ومِشْرح بن عاهان وعقبة ابن مسلم والحسن بن ثوبان وآخرون.
ذكر أبو عمر بسند له عن الحسن بن ثَوْبان قال: ركب سُليَم بن عتر البحر فلما قفل نزل. فأقام سبعة أيام لا يدري أين هو، ثم جاء فقالوا له: أين كنت؟ فقال: إني ذهبت إلى هذا الغار، فأقمت فيه هذه الأيام السبعة شكراً لله تعالى.
ومن طريق أخرى عن سُليم، لما قفلت تعبدت في غار سبعة أيام بالإسكندرية لم أصب فيها طعاماً ولا شراباً. ولولا أني خشيت أن أضعف لزدت.
وذكر أبو عمر أيضاً من طريق أخرى: أن سليم بن عتر كان يصلي بالليل، فيختم القرآن، ثم يأتي أهله، ثم يعود فيختم. ثم يأتي أهله، ثم يعود فيختم. ثم يأتي أهله.
فلما مات، وقالت امرأته رحمك الله، فقد كنت ترضى ركب وتسرُّ أهلك.
من طريق سعيد بن عُفير عن بكر بن مضر قال: لما مات سليم، قالت امرأته، فذكر نحوه. فسئلت فقالت: كان يغتسل أربع مرات ويختم القرآن أربع مرات في الليلة.
وقال أبو عمر: كانت ولايته للقضاء من قبل معاوية سنة أربعين. وكان قبل ذلك يَقُصّ. ويقال إنه أول من قَصَّ، وذلك في سنة تسع وثلاثين. فكان يقص وهو قائم. فأنكر عليه صِلَة بن الحراث الغفاري، وله صحبة، فقال له: والله ما تركنا عهد نبيِّنا ولا قطعنا أرحامنا، حتى قمت أنت وأصحابك بين أظهرنا. وكان السبب في ذلك أن علياً لما رجع من صفين قَنَت. فدعا على من خالفه: فبلغ ذلك معاوية، فأمر من يقص بعد الصبح وبعد المغرب أن يدعو له ولأهل الشام. وكتب بذلك إلى الأمصار.
وقال الليث: هما قَصَان، قصص العامة، يجتمع إليه النفر من الناس يعظهم ويذكرهم. وقصص الخاصة وهو الذي أحدثه معاوية. ولي رجلا على القصص، إذا سلم الإمام من صلاة الصبح، جلس فذكر الله وحده ومَجَّده وصلى على نبيه وسلم، ودعا للخليفة وأهله ولأهل ولايته وجنوده. وعلى أهل حربه وعلى الكفار كافة.
قال القضاعي: أقام سليم بن عتر على القصص والقضاء سبعاً وثلاثين سنة منهما سنتان قبل أن يلي القضاء. وكان يرفع يديه في قَصصه.
وقال المفضل بن فضالة عن إبراهيم بن نَشِيط عن عبد الله بن عبد الرحمن ابن حُجَيرة قال: اختُصم إلى سليم بن عتر فِي ميراث، فقضى بين الورثة. ثم تناكروا فعادوا إليه، فقضى بينهم، وكتب كتاباً بقضائه وأشهد فيه شيوخا الجند.
قال: وكان أول القضاة بمصر سجَّل سجلاً بقضائه.
وقال عبد العزيز بن أبي ميسرة عن أبيه: كتب معاوية إلى سليم بن عتر يأمره بالنظر فِي الجِراح، وأن يرفع ذلك إلى صاحب الديوان. وكان سليم أول قاض نظر في الجِراح وحكم فيها.
قال أبو عمر: تولي سُليم بن عتر من سنة أربعين إلى موت معاوية فكتب يزيد ابن معاوية إلى مسلمة بن مخلد بأخذ البيعة فامتنع عبد الله بن عمرو.

وعن أبي قبيل قال: كان مسلمة بن مُخلد بالإسكندرية، فبلغه أن عبد الله ابن عمرو امتنع من بيعة يزيد، فأرسل إليه كُريب بن أبرهة وعباس بن سعيد، فدخلا عليه ومعهما سليم بن عتر، وهو يومئذ قاضٍ وقاصّ، فوعظوه في بيعة يزيد، فقال عبد الله: والله لأنا أعلم بأمر يزيد منكم. وإني لأول الناس أخبر به معاوية، أنه يُستخَلف ولكن أردت أن يَلي هو بيعتي، فأما أنت يا عابس فبعض آخرتك بدنياك. وأما أنت يا سليم فكنت قاصاً فكان معك ملكان يذاكرنك، ثم صرت قاضياً فمعك شيطاناً يُزيغانك، وأما أنك يا كُريب. فإنَّ صوتك في الغرب وليس عند شيء.
قال: ثم قدم مسلمة فعزل السائب عن الشرطة وولاها عابس بن سعيد. ثم عزل سليماً عن القضاء ووّلاه عابساً. فكان أول من جمع له القضاء والشرطة، فكانت ولاية سليم القضاء عشرين سنة.
قال ابن يونس: ومات سليم بدمياط في إمرة عبد العزيز سنة خمس وسبعين.
وخرج أبو عُمر من طريق ابن لهيعة عن الحارث بن يزيد قال: قلت لَحَنش ابن عبد لله: أخبرني عن قول الله تعالى: (كَانُوا قَلِيلاً مِنَ التَّل ما يَهْجَعُونَ) فقال هذه والله صفة سليم بن عتر.
قالوا: وكان سليم بن عتر يؤمن الناس في قيام رمضان، فيسلم من كل ركعتين ويوتر بواحدة ويجهر بالبسملة ويبسمل. وكان يقرأ فِي الكرعة الأولى من صلاة الصبح بالبقرة وفي الثانية ب(قُلْ هُوَ الله أَحَد).
حرف الشين المعجمة
حرف الصاد المهملة
صالح بن عبد الله بن رجاء، إسماعيلي من المائة السادسة. ولاه القضاء يانس الرومي مولى الأفضل ابن أمير الجيوش. وكان الحافظ قد استقر به بعد قتل أحمد بن الأفضل وخروج حافظ من الاعتقال، وإبطال ما كان ابن الأفضل قرره من أربعة قضاة، فأعاد الاقتصار على قاض على مذهب الإسماعيلية. فولى صالحاً هذا في مستل ربيع الأول سنة ست وعشرين خمسمائة. ثم قبض عليه يانس بعد سبعين يوماً من ولايته، وقُتل صالح المذكور.
صالح بن عمر بن رسلان بن نَصر بن صالح بن شهاب بن عبد الحق بن مسافر البلقيني الشافعي من المائة التاسعة. ولد في أول سنة تسعين وسبعمائة. نشأ في حجر أبيه. فلما دخل أربع سنين أدخله المكتب. فحفظ القرآن وهو صغير. وصلى بالناس التراويح في أول القَرن. ثم أمر الشيخ فقيه أن يُقبئه التَّدريب. فحفظ منه إلى حيث وقف الشيخ، في أثناء النكاح. فكان يكتب له ما يدرسه إلى أن مات الشيخ، وقد وصل فيه إلى أواخر الربع الثالث. فاشتغل الولد المذكور بعد موت والده في المناحج. ونشأ بعد موت والده يتيماً مُملقاً، عند والدته، فِي طبقة علو المدرسة التي أنشأها الشيخ، وكان الشيخ هجر أمه قبل ذلك بمدة، لما شاع أنها ارتضعت معه. وسكنت به أمه عند قريبهم عز الدين عبد العزيز بن مظفر، بجوار باب سر المارستان ندة، وكان متصوفاً بالنسبة لأقاربه، ولم يزل مبتعداً عن أخيه إلى أن عزل بالهروي فلازم خدمته في سنة العطلة، فراعى له ذلك.
فلما عاد نزل له عن درس التفسير بالظاهرية. ثم ناب عنه فين الحكم فحصلت له إهانة منه بسبب غير مشهور، فتألم وتوجه إلى دمياط. ثم عاد قرب رجوع أخيه من السفر. فتوجه إلى قَطْيَة ليلقاه، فوجده ضعيفاً جداً، فحضر العيد، فأرسل السلطان الظاهر ططر - وذلك أول عيد من سلطنته - للقاضي جلال الدين أن يتشم المشقة، ويخطب بهم في العيد، وإلا فليعين من يصلح للخطبة فعرض ذلك على ولديه، فلم يكن فيهما من جسر على ذلك، فعين أخاه. وكان قد أدمن على الخطبة بمشهد الحسين، حيث أحدث ابن الشّحنة فيه الخطبة بمشهد الحسين، حيث أحدث ابن الشّحنة فيه الخطبة.
فاتفق أنه خطب بالسلطان والعسكر، فأعجبهم جهورية صوته، فاستقر في أنفسهم أنه عالم.
فلما مات القاضي جلال الدين في النصف من شوال، واستقر الشيخ ولي الدين العراقي في القضاء، سعى عليه إلى أن صرف بعد سنة وشهرين من ولايته.
واستقَرّ في قضاء الشافعية في سادس ذي الحجة من سنة ست وعشرين. وأعانه على ذلك قصْرُوه أمير آخور، وابن الكُوَيْز كاتب السر، وقاضي الحنابلة ابن المُغْلأِي، فما كان إلا أن استقر في المنصب، فشمخت نفسه، فرأى غيره منه ما لا يرى. وسار سيرة عجيبة، يجمع بين دناءة النفس، والطمع والحمق. فاستعاد بعض ما اقترضه للولاية. وبقي أكثر ذلك دَينا عليه إلى الآن، ثم صرف بعد سنة ودون الشهر بكاتبه.

واستمر معزولاً من العشر الأخير من المحرم سنة سبع وعشرين إلى العشر الأخير من صفر سنة ثلاث وثلاثين، فأعيد فأقام سنة وثلاثة أشهر. وصرف في العشر الأخير من جمادى الأولى سنة أربع وثلاثين.
واستمر بطالاً إلى السادس من شوال سنة إحدى وأربعين. وأعيد فأقام فيها سنة واحدة، وصرف. فمدة ولاياته الثلاث، ثلاث سنين ودون خمسة أشهر.
وقُدِّر وقوعُ الطاعون الفاشي في ثاني ولاياته، فتسلط في تحصيل الأموال من التركات. وكتب مرسوماً استكتب فيه خطوط جميع شهود المراكز، أن لا يشهد أحد منهم في الوصية، حتى يُوصي الموصِي فيها للحرمين بشيء، فكان الرجل يوصي بما تسمح به نفسه ويموت من يومه غالباً. فيرسل نقيبه فيقبض ما أوصى به. ولم يحصل لأهل الحرمين من ذلك الدرهم الفرد. ولا وجدنا في حساب السَّنَة التي باشرها، أنه وَرَدَ للحرمين شيء إلا من جهة واحدة من بلدة بالريف، بمبلغ تافه. مبلغه فضة، أربعمائة درهم. ولعله حصَّل من الجهة المذكورة وحدها عشرة أضعافها ذهباً.
وأما أوقاف الحرمين والصدقات، فتحيَّل على الانفراد بها بكل حيلة.
وأما المدارس ومتحصّلها فلم يصرف للطلبة إلى اليسير. ويكفي في الإشارة إلى ذلك أن أخاه كان ينفق في الخشابية في السنة خمس مرات، فأنفقها هو أولاً أربعاً ثم توالت الأيام فصارت ثلاث نفقات. ثم صارت نفقتين ونصفا، على لانصب مما كان يصرفه، فيتوفر في كل سنة نحو ثلاثمائة دينار. وقس على ذلك.
وكان له خال بلا ولد وله عاصب، فحضرته الوفاة، فأوصى بالثلث للحرم النبوي. كان قد قرأ علي العِراقي - الذي سعى عليه حتى انفصل من المنصب بغير جناية - قليلاً. وكذلك قرأ علىَّ في محاسن الاصطلاح لوالده. ثم جازاني بأن وقف على معجم شيوخي فرأى فيه تراجع، واستنكر بعض وصف من ذكر فيها لوالده، فجاء فيها أنه كان ينظم شعراً بازلا، وأنه كان ربما أخطأ الوزن. وأنه حكى عن نفسه أنه أول ما قدم القاهرة، دخل الكاملية، فطلب فيها بيتاً يايه..
الصغير أبو علي هو أحمد بن الحسين. تقدم أبو الصلاح ابن عين الدولة. هو عبد الله بن محمد يأتي في حرف العين.
حرف الضاد المعجمة
حرف الطاء المهملة
طاهر بن علي ابن أخي أبي عبد الله محمد بن سلامة القضاعي كان ينوب في الحكم عن قضاة المستنصر، ثم استقل بعد موت العِرْقي ولم تطل مدة ولايته.
حرف الظاء المعجمة
حرف العين المهملة
عابس بن سعدي المرادي الغُطَيْفِي من المائة الأولى. قدم مصر سنة... وجالس عقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو، وأخذ عنهما، حتى كان يعرف ما عندهم. روى عنه أبو قبيل المعافري.
قال ابن عبد الحكم: جُمع لعابس القضاء والشرطة جميعاً. وهو صاحب كوم عابس بمصر الذي يقول فيه الشاعر: خويً صفصفا كالقاع من كوم عابس وولاه مَسْلَمة القضاء في سنة ستين. فلما مات يزيد وبايع أهلُ مصر عبدَ الله ابن الزبير، وبعث عليها عبد الرحمن بن جَحْدم الفهري أميراً، فأقر عابساً. ثم سار مروان من الشام إلى مصر، وكان عابس من شيعته، وكان يكاتبه بالطاعة ويحرضه على المسير إلى مصر، إلى أن دخلها مروان غرة جمادى الأولى سنة خمس وستين. فدعاه فقال له: جمعت القرآن؟ قال: لا. قال: فتفرض الفرائض؟ قال: لا. قال فتكتب بيدك؟ قال: لا. قال فيم تقضي؟ قلا أقضي بما علمت، وأسأل عما لا أعلم. قال: أنت القاضي.
ثم سأله مروان بعد ذلك عن فريضة، فأصاب فيها. وسأله عن شيء في الطلاق، وعن شيء في القرآن، فأصاب في كل ما سأله.
فقال مروان: يا عباد الله، ألا تعجبون من عابس كيف يهضم نفسه! فأقره على القضاء.
وقال عبيد الله بن أبي جعفر: سألت حَنَش بن عبد الله، كيف جُعل عابس على القضاء، وهو أعرابي مدري؟ قال: إنه جالس عقبة بن عامر وعبد الله بن عمرو حتى استفرغ علمهما.
ولما ولي عبد العزيز إمرة مصر، زاد في عطائه. وهو الذي حفر خليج مصر. ولم يزل قاضياً إلى أن مات في إمرة عبد العزيز سنة ثمان وستين. وكانت مدة ولايته ثماني سنين.
عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم أبو يحيى. كان من شباب بغداد. ويقال إنه شهد عند القاضي أبي عمر قاضي بغداد. وولي قضاء مصر، فاستخلفَ فيها أبا الذكر، ولم يدخلها.
وذكر بعض شيوخنا أنه دخل مصر، وذكر له قصة في القرافة. والصواب أن صاحب تكل القصة في القبور غيره.

وذكر أبو بكر بن الحداد، أن القاضي أبا عبيد بن حربويه لما أرسله إلى بغداد يستعفي له عن قضاء مصر، كان يتردد إلى على بن عيسى بن الجراح، فيمتنع أن يعفيه ويقول: مهما كان يكرهه أنا أزيله. قال: وما أظن إلا أنه كره المرافقة مع هلال بن بدر، لأنه شاب غِر، لا يعرف قدره. فأنا أصرف هلالً وأُوَلِّي أحمد بن كيغَلَغ، شيخ عاقل، يعرف قدر القاضي.
وكان ابن الحداد يلح عليه في قضاء ما أراده القاضي أبو عبيد، فلا يريد أن ينصرف عن بغداد إلا بمراده.
فقدر أن صرف ابن الجراح عن الوزارة، واستقر أبو الحسن ابن الفرات، وكان منحرفاً عن أبي عبيد، لأنه راسله في أمر مهم له، فامتنع من عمله، لأنه كان لا يسوغ عنده، فحقد عليه. فلما وَزر، قيل له عن قصة أبي عبيد، فقال: اصرفوه. وأرسل إلى ابن مكرم الذي كان حينئذ قد ولى القضاء ببغداد، بأن يرسل إلى مصر قاضيها بها.
فكتب إلى عامل مصر حينئذ ومدبر أمرها وهو أبو الحسن محمد بن عبد الوهاب يخبره بصرف أبي عبيد، وأن القضاء فوض لابن مكرم، وصحبته كتاب ابن مكرم إلى أربعة من أهل مصر، منهم أبو جعفر الطحاوي، أن يختاروا منهم رجلاً يتسلم القضاء من أبي عبيد، ويحكم نيابة عن ابن مكرم. فأرسل العامل إلى الطحاوي، فناوله الكتاب، فاشتهر أمر الكتاب حتى بلغ أبا عبيد، فأمسك عن الحكم. واجتمع القوم عند علان بن سليمان فتشاوروا فناب عنه أبو الذكر محمد بن يحيى بن مهدي مائة يوم ثم استنيب عنه أبو محمد إبراهيم بن محمد الكريزي وعُزل صاحب الترجمة عن بغداد في العشر الآخر من ربيع الأول سنة ثلاث عشرة ثلاثمائة وكانت ولايته في سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.
عبد الله بن أحمد بن ربعية بن سليمان بن خالد بن عبد الرحمن بن زَبْر بن عطارد بن عمور بن حجر بن منقذ بن أسامة بن الجعيد بن صبرة بن الدِّيل ابن شَن بن أفْصَى بن عبد القيس، أبو محمد بن زَبْر شافعي من المائة الرابعة.
ولد سنة ست وخمسين ومائتين، وروى عن أحمد بن عبيد بن ناصح، ومحمد ابن سليمان المقرئ، ومحمد بن يونس الكُدَيْمي، وعبد الرحمن بن محمد الألُهَاني وأحمد بن عبد لله بن زكريا الإيادي، وعباد بن الوليد الغَنَوي، وأحمد بن منصور الزِّيَادي، وسعدان بن نصر المروزي، والعباس الدوري، وأحمد بن محمد بن يحيى ابن سعيد القطان، والخضر بن أبان، وإبراهيم بن هانئ وغيرهم.
روى عنه أبو العباس عبد الله بن موسى وابن شاهين، والدارقطني وآخرون.
قال الخطيب: قدم بغداد وحدث بها، وكان غير ثقة. حدثني الصوري: قال سمعت عبد الغني بن سعيد يقول: سمعت الدارقطني يقول: دخلت على أبي محمد بن زبر وأنا إذ ذاكم حدث، وبين يديه كاتب له، هو يملي عليه الحديث من جزء، والمتن من جزء آخر، فظن أني لا انتبه لذلك. قال: وقال لي عبد الغني: كنت لا أكتب حديثه عن أبيه إذا جاء منفرداً، إلا أن يكون مقترناً بغيره. وكان يقول لي: يا أبا محمد، ما ذنب أبي إليك، لا تكتب حديثه غلا إذا كان مقترناً بغير؟ وكانت مجالسه في الحديث متصلة عامرة آهلة يملي ويقرأ عليه.
وكانت ولايته من قبل المقتدر. فورد كتابه على تكين أمير مصر، فركب أبو هاشم إسماعيل بن عبدا لواحد المقدسي، وأبو مقاتل صالح بن محمد المحتسب، إلى أبي عثمان، فتسلموا منه، إلى أن وافى ابن زَبْر مصر في المنتصف من المحرم سنة سبع عشرة وثلاثمائة. فجلس للحكم فيا لجامع العتيق، وقرأ عهده، ودخل إليه أصحاب الحديث فقال: ما حللت كتبي بعد، ووعدهم.
وقال مسلمة بن قاسم: كان يُرمَي بالكذب، لقيته فلم أكتب عنه. ثم كتب عن رجل عنه.
قال أبو محمد ابن زولاق: كان شهماً ضابطاً داهية مماشياً للأمور يجلس في كل اثنين وخميس لابساً للسواد. وفي سائر الأيام بالبياض.
واستخلف في نيابة الحكم أبا بكر الحداد وولاه حُبُس المارستان وأُجري عليه في كل شهر ثلاثون ديناراً. واستخلف أيضاً أبا بكر محمد بن عثمان العسكري. وكان يشتد على الشهود. وبلغه أن قوماً منه، يدخلون على أبي عثمان يقضون حقه فتهددهم بأقبح قول.
وبسط أبو محمد بن زَبْر يده في الأموال، واعترض في الوصايا والتركات.
قال: ولما عرف بحال محمد بن بدر مع أبي عثمان بن حماد، اصطنعه بشهاة أبي بكر بن الحداد.
قال أبو عمر الكندي أخذ ابن زَبْر من محمد بن بدر على قبوله وتزكيته ألف دينار.

وذكر بعض البّزَّارين أنه كان عند ابن زَبْر، فقلب عليه ثياب دَبِيقِي وشَرب، وبحضرته محمد بن بدر، فقال له بعض حجابه، قد كثر الخصوم على الباب. فقال لمحمد بن بدر: قم يا أبا بكر فاحمل عني وانظر بَيْنَ الناس، فقام فنظر، ثم عاد فقال: قد فرغْتُ من أمورهم، وانصرف الناس. فقال: فعدت بعد أيام، فدعا بسفَطَين، الواحد فيه ثياب دَبيقِي، عشرة أثواب. والآخر فيه شَرْب عشرة أردية. فقال: كم يساوي كل سَفَط؟ قلت: مائة دينار. فبكم اشتراهما القاضي؟ فقال: بجلسة محمد بن بدر أول أمس. فقلت رخص ذلك؟. وكان قوى النفس كثير الجهد واسع الحيلة.
وكان الوزير علي بن عيسى منحرفاً عنه. ولما سعى في قضاء مصر دافع بولايته وكان السبب في انحرافه عنه، وأنه كان تولى قضاء دمشق. فاتفق أن الوزير دخل دمشق في مهم من المهمات. فخرج أهلها إلى لُقِيِّهِ ومنهم القاضي. فسايره، فصاح به أهل البلد، ونسبوا القاضي إلى كل سوء من الرِّشا والظلم وغيرهما من الفواحش، والوظير يلتفت إليه فيقول له: ما يقول هؤلاء؟ فقال: يشكون إلى الوزير غلو الأسعار وضيق الأحوال، ويسألون حسن النظر إليهم والعطف عليهم.
فلما عاد إلى بغداد صرفه عن الحكم بمشق أقبح صرف.
وكان مفلح المقتدري يساعد ابن زَبْر، وابنُ الجرّاح يدافعه. وعجز ابن زَبْر عن رضاه، فأعمل الحيلة، فدفع لشخص عشرين ديناراً. وأعطاه رقعة وأمره أن يلقيها في ورق المظالم، فألبسه في آخر الليل ثوباً مشمَّراً في زي الخراسانية. ودفع إليه دفترا ومحبرة، ونقَّط في ثوبه الحبر وأركبه زورقاً. قال: فقرأت الرقعة فإذا فيها بعد البسملة والحمدلة: حضر مدينة السلام رجل من خراسان يريد الحج واشتغل بكتابة الحديث إلى أوان الحج. فرأى ثلاث ليالٍ متوالية العباسَ بن عبد المطلب في وسط مدينة السلام بيني داراً. فكلما فرغ من موضع، تقدم رجل فهدمه. فقلت له: يا عم رسول الله، من هذا الذي بُليتَ به؟ فقلا: هذا علي بن عيسى، كلما بنيت لولدي بناء هدمه. فرميت الرقعة في ورق المظالم.
ورجعت فوجدت ابن زبر قائماً ينتظرني فقال: ما فعلت؟ قلت: رأيت خادماً وامرأة عليها نقاب كحلي. فقال: هذه أم موسى القهرمانية. قال: فأنت قرأت الرقعة؟ قلت لا. فحلَّفه على ذلك. ودعا بالغداء فأكل وأكلت معه، وكان زمن الصيف. فقام بعد الأكل للقائلة، فدخل البواب فقال: ابن الأشناني القاضي بالباب. فاستأذنت ابن زَبْر، فقال: يدخل. فدخل وهو يصيح يهنئ القاضي عَزْل علي بن عيسى والقبض عليه. قال: ما السبب. قال: رقعة رفعت، أن رجلاً صالحاً رأى رؤيا كذا.. فذكر ما في القصة، فقرئت على المقتدر فقال: هذه الرؤيا صحيحة. يصرف علي بن عيسى ويقبض عليه. فقام ابن زَبْر فركب. فما جاء آخر النهار، حتى وافى ومعه عهد بقضاء مصر ودمشق.
وكان عارفاً بأخذ الدراهم والدنانير والهدايا. وكان مع ذلك لا يقبض درهماً ولا يضم هدية حتى يقضي حاجة صاحبها.
ولقيه رجل فقال: أنا ضعيف ولي زوجة، وعلي يمين بالطلاق منها أن لا تخرج إلى الطريق، وقد علَّموها أن تطالبني عندك. فقال: أين منزلك؟ فقال في ذاك الزقاق. فقال: سِرْ بين يدي. فدخل بين يده فأشرفت المرأة وهي في منزلها. فقال لها: ما الذي تطلبين منه؟ فقالت: النفقة. ففرض لها وهو راكب على بغلته، وقال لها: إنك إن خرجت بغير إذني لم أحنثه.
قال ابن زولاق: قال لي يحيى بن مكي بن رجاء: لو كان ابن زَبْر عادلاً ما عدلت به قاضياً. قال: وسأله الطحاوي عن مسألة فلم يجب فيها جواباً شافياً. فعاوده فقال لي ابنه: إنَّ اليخ يتقي هذا القاضي لِبادِرَته.
وطولب الطحاوي بشهادة عنده على حكم محمد بن عبده، فركب إليه فشهد عنده. فلما أدى شهادته، قال له: حديث كنت كتبته عن رجل عنك منذ ثلاثين سنة، فحدثه به.
ولقيه جماعة من خصومة عند جرب العلم. فأمر بفرش الغاشية. وجلس فنظر في أمرهم.

ولم يزل في ولايته هذه إلى يوم الجمعة لليلتين بقيتا من جمادى الآخرة سنة سبع عشرة وثلاثمائة، فصرف بهارون بن إبراهيم بن حماد، فورد كتابه على أخيه أبي عثمان، فباشر إلى العشر الأخير من ربيع الآخر سنة عشرين وثلاثمائة. فصرف وأعيد ابن زبر. فورد كتابه على ابن الحداد والعسكري، فسأله تكين أمير مصر أن يتسلّم له، ووافي ابن زَبْر مصرَ يوم الأحد لإحدى عشرة بقيت من جمادى الآخرة. فقرئ عهده بالمسجد الجامع على المنبر.
وكمان يجلس كل يوم في المسجد ما عدا يوم الجمعة. وكان تكين يشدُّ منه ويقوِّي أمره وبلغه أن جماعة وقعوا في، ومالوا إلى أبي عثمان فتهددهم وحبس منهم كبيراً فيهم، وهو عبد الله بن سهل بن بريحة صاحب المسجد، وكان من جلساء أبي الذكر.
واتفق ضعف تكين أمير مصر، فخاف ابن زَبْر على نفسه من الرعية، فاستأذنه من أن يسافر ويستخلف ابنه محمدا على مصر، فامتنع. فركب ابن زبر إلى أبي هاشم المقدسي وسأله أن ينظر بين الناس ففعل، فسلم له الديوان، وسافر إلى دمشق فمات تكين بعد أن سار، فحصل لأبي هاشم ما كان ابن زبر يتوقعه نفسه، فباشر اقل من سنة.
ثم أعيد ابن زبر إلى قضاء مصر في شعبان سنة أربع وعشرين، نيابة عن محمد بن الحسن بن أبي الشوارب قاضي بغداد، فوصل كتابه إلى علي بن احمد بن اسحق ويحيى بن الحسن بنعلي بن الأشعث، فاستأذنا الإخشيد فأذن لهما فتسلما الديوان من محمد بن بدر، وذلك لخمس بقين من شعبان سنة أربع وعشرين وثلاثمائة، فنظر بين الناس شهرين، فتحرك أبو عبد الله الحسين بن أبي زرعة في قضاء مصر، وكان قاضي دمشق، فقدم مصر في تلك الأيام، فسعى عند الإخشيد حتى أسعفه ومنع نائبي ابن زبر من النظر، وفوض الإخشيد القضاء لابن أبي زرعة، فأقام أبن الحداد يقضي الأحكام نيابة عنه.
ثم ورد عهده من قبل ابن أبي الشوارب، فباشر إلى أن وصل عبد الله بن زبر غل مصر، فانتصب للحديث، ولم يدخل في تلك مصر في تلك الولاية، وسعى سراً عند الإخشيد، حتى ظفر بكتاب كان ابن أبي الشوارب كتبه لعبد الله بن أحمد بن وليد أن ينوب عنه، فلم يجبه إلى ذلك، فاتفق أن وقع بين ابن وليد والقاضي، فأرسل ابن وليد الكتاب إلى ابن زبر، فقال له: خذ هذا الكتاب، فأنت عبد الله بن أحمد، وأنا عبد الله بن أحمد، وقد رددت إليك مالي فيه، ففرح. ودخل به الإخشيد فأمضاه.
واستقر ابن زبر في القضاء ولايته الرابعة، فباشر كعادته، وطالب سليمان بن رستم بوصية عفان البزاز، وبعرض الأحباس.
ووقع في محمد بن بدر وسماه العلج، وقال: عزمت على بيعه، فقد ثبت عندي أن أباه مات في الرق، فخاف منه فركب إليه وداراه، وأهدى إليه.
واشتد خوف جماعة من أهل مصر منه فعوجل، واعتل في شهر ربيع الأول من سنة تسع وعشرين، وأخذه الإسهال فمات لثلاث خلون من شهر ربيع الآخر.
وأنشد أبو هريرة بن أبي العصام في وفاة ابن زبر مما ذكره ابن ميسر في تاريخه.
أتانا من دمشق وليس شيء ... أحب إليه من نهي وأمر
فَعادتَه المنُون به فأضْحَى ... حَليفَ حُفيرة وأَسٍير قَبْر
لقد حَكَمَ الإله بغير جَور ... وقد وعظ الزمان بنجل زبر
قلت: وكان ولده أبو سليمان محمد من أهل الحديث، ومعدوداً في الحفاظ. له تصانيف، منها معرفة الصحابة، والتاريخ على السنين. روى عنه عبد الغني بن سعيد وتمام بن محمد الرازي وأبو الحسن بن طوق وأبو نصر ابن الجَبَّان وأبو الحسن ابن السمسار، وأبو محمد ابن أبي نصر وغيرهم. وذكر في تاريخه أنه ولد بالرقة سنة ثمان وتسعين ومائتين.
وقال أبو نصر ابن ماكولا: كان ثقة حافظاً نبيلاً، ومات في جمادى الأولى سنة سبع وسبعين وثلاثمائة بدمشق. أرخه عبد العزيز الكتاني وقال: كان يملي في الجامع.
عبد الله بن أحمد بن شعيب بن الفضل بن مالك بن دينار، أبو محمد المعروف بابن أخت وليد، ومالك بن دينار جَدُّ جده، وهو الزاهد المشور. هكذا قال ابن زولاق، وهو المعتمد في أهل مصر.
وقال ابن عساكر في تاريخ دمشق: عبد الله بن أحمد بن راشد بن شعيب ابن جعفر ابن يزيد، يعرف والده بابن بنت وليد.
وقال ابن النجار في تاريخ بغداد: عبد الله بن راشد بن جعفر بن يزيد يعرف بابن أخت وليد. هكذا اختلفوا في نسبه.

وكلهم وصفه بأنه قاضي مصر. ثم اختلفوا في صفة ولايته، فأما ابن زولاق فقال: إنه أول ما وَلي، كان خليفة للحسين بن عيسى بن هَرَوان، لما تولى الحسين من قبل الخليفة ببغداد، الراضي بالله. فَسَلَّم الإخشيد قضاء مصر لابن أخت وليد. فلبس السواد، وجلس في الجامع العتيق. وقرئ عهد الحسين، ثم قُرئ عهده من قبل الحسين فنظَر في الأحكام.
وكان أولاً من وجوه التجار، وأهل اليسار. وكان يتفقه بداود بن علي الأصبهاني، ويميل إلى الاعتزال وأهله. ولم يكن متمكناً من شيء مما يدعيه من العلوم.
قال: وذكر أنه كتب بمصر عن أحمد بن شعيب النَّسَائي وإسحاق بن إبراهيم المَنْجَنيِيقي، وابن أخي حرملة، وعن محمد بن الحسن بن قتيبة، وعن جماعة دونه.
ولد سنة ثلاث وسبعين. وسمع من أحمد بن عيسى الوشَّاء وبكر بن أحمد الشعراني وعلي بن عبد الله الرملي وغيرهم. وذكر الرواة عنه. ثم قال: ويقال إن أصله بغدادي.
وأما ابن النجار فقال: ولي قضاء مصر في خلافة الراضي يوم الأربعاء لأربع خلون من شهر ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثلاثمائة. ثم عزل في سنة ثلاثين.
ثم ولي من قبل المستكفي يوم الخميس لثلاث وعشرين خلت من المحرم سنة أربع وثلاثين، وصرف في شهر رجب سنة ست وثلاثين في خلافة المطيع.
ثم ولي قضاء دمشق سنة ثمان أربعين وثلاثمائة.
قال: ويقال إنه كان خياطاً، وكان أبوه حائكاً ينسج المقانع. وكان سَخِيفاً خليعاً مذكوراً بالارتشاء. وهجاه جماعة من أهل مصر.
ثم ذكر أه روى عن ابن قتيبة، وعلى بن أبي صالح الرملي، وعلى بن عبد الله العسكري، وأحمد بن عيسى الوشّاء، وبكر بن أحمد السعدي وغيرهم. وأنه روى عنه علي بن منير الخلال، وابن نظيف الفراء ومحمد بن جعفر المارستاني.
والذي حكاه عن بداية أمره وحرفة والده، سبقه إليه ابن ميسر في تاريخه وهو عارف بالمصريين أيضاً.
قال ابن زولاق: ولما استقر، ركب إليه أبو بكر بن الحداد، فتلقاه وعظمه وأجلسه معه. ثم لما كان بعد ذلك، انقبض عنه ابن الحداد وهجره. واستناب ابن وليد عنه في الحكم أحمد بن محمد بن عشيب الداودي، وكان بزي الجند، لكنه يلازم الاشتغال بالعلم. فألبسه ابن وليد الطيلسان والقلنسوة. وأجلسه ينظر بين الناس، وكان من أهل العلم والفهم.
واتفق أن ابن أبي الشوارب عزل عن قضاء القضاة، واستقر عوضه أحمد بن عبد الله بن إسحاق، فكتب إلى الحسين بن عيسى باستمراره، وأن يستقر نائباً عنه بمصر محمد بن بدر. فكانت ولاية ابن وليد هذه دون ستة أشهر، وذلك في شوال سنة تسع وعشرين وثلاثمائة.
ثم أعيد ابن وليد مرة أخرى، بعد صرف الحسن بن الرحمن الجوهري، فباشر الحكم نائبه من قبل الإخشيد أيضاً، نيابة عن الحسين بن عيسى على عادته، وذلك في سنة إحدى وثلاثين. فنظر في الأحكام وعزل جماعة.
واتفق أن عمرو بن الحارث بن مسكين تزوج بكرا فكرهته. فشكوا ذلك لابن وليد فقال: هل كان أبوها استأذنها عند العقد؟ قالوا: لا. فقال: هذا النكاح باطل. فبلغ ذلك ابن الحداد فشنع عليه. ودار عمرو بن الإرث على الفقهاء، فأخذ خطوط الشافعية والمالكية بصحة العقد. وصنّف ابن الحداد في ذلك جزءاً. فبلغ ذلك ابن وليد، فخشي من اجتماع كلمة الفقهاء على فساد ما قال. فاستعان بابي الذكر، فقال له: قد قيل لي أنك قلت: إن النكاح عندي باطل، وأنت قاض، فاحكم بنفسخ. فبادر إلى ذلك، وحكم وسجل عند العضتَمة. وأشهد بذلك عدداً من الناس، وكانوا قد باتوا على أن يجتمعوا عند الإِخشيد فأصبحوا وانعقد المجلس، فسألهم الإخشيد عن صورة المسألة، فبادر ابن الحداد فقال: العقْدُ صحيح، وتابعه كل من حضر المجلس، إلى أن بقي أبو الذكر فقلا: صدقوا. النكاح صحيح، إلا إن كان القاضي حكم بفسخه فلا ينقض حكمه.
فالتفت الإخشيد إلى ابن وليد فقال، أفسخته؟ قال: نعم، فقال للفقهاء: ما تقولون؟ قالوا إذا فسخه فقد بطل.
فقال ابن الحداد: هذا من عمل الأسواني يعني أبا الذكر، فهو الذي تولى كِبَره الله سائله عن ذلك.

فتناول ابنُ وليد أبا بكر بن الحداد، وانقضى المجلس وانتصر ابن وليد. فقال الإخشيد للحسن بن طاهر الحسيني: لقد هممت أن آمر الغلمان أن يأخذوا عمائمهم وقلانسهم. فبلغ ذلك عبد الله بن وليد، فخاف وركب إلى ابن الحداد فترضَّاه. ثم قدم الحسين بن هَرَوَان مُسْتَخْلِفَ ابن وليد فباشر بنفسه. فكان ابن وليد يركب كل يوم إلى دار الحسين فينظر بين الناس. ثم بلغ الحسين أن ابن وليد أرسل يستنجز من بغداد كتاباً بولايته استقلالاً من جهة الخليفة، فقال - وابن وليد حاضر - : ما هذا الذي بلغني عنك؟ والله لو نازعني أحد في القضاء لبذلت في تلاف روح ملء هذا الجرن ذهباً. ثم صرفه عن النظر في الحكم في جمادى سنة ثلاث وثلاثين، واستخلف عوضه الحسين بن عبد الرحمن بن إسحاق، فأقام أياماً ثم مرض. فصرفه وباشر بنفسه أياماً.
ثم أراد السفر فاستخلف ابن الحداد فنظر في الحكم بحضرته. ثم اتفقت لابن الحداد واقعة، وهي أنه ثبت عنده لمحمد بن صالح بن رشدين، دَيْن علي شخص يقال له أحمد البزار، جملته أربعة آلاف دينار وأربعمائة دينار. وكان أحمد غاب مدة طويلة، فأسجل لمحمد بن صالح. وثبت عنده أن الحسين بن أبي زرعة القاضي، كان حَجَر على أحمد البزار بشهادة شاهدين، فسجن ابنُ الحداد، عبد الرحمن ولد أحمد البزار ليبيع داراً يقال لها دار عصيفير، وكانت بيد أحمد البزار. وثبت عند ابن الحداد أنها ملك أحمد البزار، وهي في يد عبد الرحمن حينئذ. وكان عبد الرحمن ينكر أن تكون لوالده. فأرسل أبو المظفر أخو الإخشيد خليفته على إمرة مصرة والإخشيد يومئذ بالشام، يقول للقاضي: لم سجنت ولد أحمد البزار؟ فإن كان الدين ثبت على والده فلا يلزمه أن يقضيه عنه، وإن كان على عبد الرحمن فاحكم عليه. وإن كانت لوالده فبعها أنت. فأجاب، أن الدين ثبت على والده، والدار كانت في يد والده. فسجنته حتى يبيع لقضاء الدين. وكان أبو الذكر هو الذي لقن أبا المظفر هذا الكلام، فقال أبو الذكر لأبي المظفر لما عاد جواب ابن الحداد: أمرُ السجن لك. فإن أردت فأطلق الولد. فامتنع أبو المظفر. فبلغ ابن وليد ما جرى، فأخرج كتاباً زعم أنه من المستكفي الخليفة. واجتمع بمحمد بن علي بن مقاتل الوزير فعنى به، وكاتب الإخشيد، وبذل له ابن وليد مالاً في الباطن، فأجاب بأنه يتبع أمر الخليفة. فتسلَّم أبو المظفَّر الديوانَ من ابن الحداد وسلمه لابن وليد. فبلغ ذلك الحسين وهو بدمشقَ، فكتب إلى ابن الحداد يهون عليه الأمر، ويحلف أنه لا بد أن يترك ابن وليد يُضْرَب بين يدي الحداد بالسوط.
فركب ابن وليد إلى الجامع، وقرئ عهده من المستكفي استقلالاً بالقضاء، وكان الجامع وافر، فازدحموا حتى تمزق طيلسان أبي الذكر. وكان الذي سعى لابن وليد عند المستكفي سعيد بن عبدان التاجر. فلم يستطيع إخراج الكتاب، لما كان الحسين بمصر. ثم أظهره في غيبته، وباشر على خوف من الحسين. فلم يكن بأسرع من أن جاء الخبر بموت الحسين فأمن وتمكن ومضى الأحكام واستهان بالأكابر. وكان كثير الهزل والمجون في مجلس الحكم، وبحضرة الشيوخ.
واتفق في ولايته أن الإخشيد كتب إلى الوزير محمد بن علي بن مقاتل، أن يجمع من الرعية مالاً بسبب فداء الأسارى. فقام ابن وليد واعتنى بذلك مساعدة للوزير، وتقربا لخاطر الإخشيد، وبذلك نفسه في التحصيل حتى استخرج من وجوه الناس، من الأسواق والسواحل والأعمال مالاً كثيراً وظنت به في ذلك الظنون. ونسب إلى أنه اختان مما جمع شيئاً كثيراً، مع ما كان يحويه من المال وكثرة البضائع.

ولما وصل ذلك إلى الإخشيد شَكَر منه، فَلَدَّ في استطالته وأطلق لسانه في الناس، وعرّض وخوف وانبسط في التعديل. فاتفق ورود الخبر بخلع المستكفي وتقليد المطيع، وتفويضه قضاء مصر لمحمد بن الحسن بن عبد العزيز بن أبي بكر العباسي، وأضاف إليه الإسكندرية والرملة وطبرية. فاستخلف ابن وليد على حاله، ووصل إليه كتابُه فقبله وقرأ عهده في داره. فبلغ ذلك عبد السميع بن عمر ابن الحسن العباسي، فأنكره، وقال: ما كان ينبغي له أن يقرأ كتاب ابن الحسن إلا في الجامع. وجرى بين ابن وليد وبين سليمان بن رستم أحد الشهود كائنة وسليمان يومئذ مقدم الشهود، فأسجل ابن ولي بإسقاطه إسجالاً، وأشهد عليه بما فيه جماعة، منهم أبو الذكر، وعلي بن إسحاق، من غير أن يطلعهم على ما في السجل. فكتب فيه بعضهم، منهم أبو الذكر، وامتنع بعضهم من الكتابة، منهم الحسن بن علي بن يحيى الدقاق، وقال: لا أكتب حتى أعرف ما فيه. فقال له ابن الوليد: يا أبا القاسم إذا جاءني الحجر رددته. فقال: ذاك إليك. ونهض إلى الشهود وهم في المقصورة فأَخْبرَهم، فقاموا إلى ابن وليد فقالوا له: أَقِلْنا من الشهادة، وانصرفوا إلى سليمان مغتمين بما اتفق له. فقال لهم أبو القاسم بن يحيى: بالنسبة إليكم هو من آل فرعون. ومدحه الناس أبا القاسم، وتوجه سليمان إلى دار الإخشيد، فأرسلت سمانة القهرمانية إلى ابن الوليد فحضر، فطالبته بالسجل فأحضره، فمزقته، وأصلحت بينهم وانصرفا.
ثم ركب ابن وليد إلى ابن رستم وأكل عنده حلوى، واجتمع الشهود على مفارقة مجلس ابن وليد، واتخذوا لهم مجلساً في الجامع. ونصبوا لهم حصيراً فواظب ابن الوليد على الحضور إلى الجامع والجلوس في مجلسه، وأبو الذكر عن يساره، وعلى بن أحمد بن إسحاق عن يمينه، يشاهدان أحكامه. واستكثر من الشهود فوجده الشهود نصح.
وجرت بين أبي بكر عبد الرحمن بن سَلمُون الرازي الفقيه وبين أبي الذكر منازعة فتظلم الرازي إلى الوزير، فدخل عبد الله بن الوليد في الوسط، فأخذهما من دار الوزير وانصرف. فلما بلغ داره أدخل الرازي وكان ذلك في رمضان فافطر عنده. ثم ركب من الغد إلى الجامع فأحضرهما، وكثر الجمع. فأفرط ابن وليد في مدح أبي بكر الرازي، وتنقيص أبي الذكر فانقبض أبو الذكر عن ابن وليد. وكان قبل ذلك يركب معه ويعاضده في أموره، وتخصص به الرازي، وصار يركب معه. وحضر ابن وليد دار الإخشيد بحضرة أبي القاسم ابن الإخشيد بحضرة أبي القاسم ابن الإخشيد وهناك إملاك. وكان الخطاب علي بن محمد الهاشمي أحد الفصحاء والخطباء فعارضه ابن وليد. فقال له: أتعارضني؟ فقال له: الذي عارضك كذا. فالتفت إلى الشهود، فقال: أهذا قاضيكم؟ وكان يقول: الله لأدعن الشهادة ينادى عليها في سوق وردان، وفي المساكين. كان يسميهم اليهود، حين كان يقول لحاجبه إذا استأذن لهم. ويسمي الأمناء: الكهناء.
وكان كثير الهزل حتى قالت له امرأة خذ بيدي، فقال: وَبِرجْلِكِ. ومع ذلك لم يطعن عليه في سراويل ولا في شرب مسكر، إلا أنه كان ينقم عليه الهزل، والتبسُّط في الأحكام، وخذ الرشوة.
واتفق وصول عمر بن الحسن بن عبد العزيز الهاشمي من مكة، وكان مجاوراً بها، فاجتمع الشهود ورأسهم يحيى بن مكي بن رجاء وحسنوا له أن يتسلم القضاء عوضاً عن أخيه فسعى في ذلك. فأجابه كافور بعد أن بذلك له مالاً. فوقع له بتسليم العمل، فتسلمه من الحسن بن محمد المطلبي. فتوجه المطلبي إلى محمد وأحمد ابني حمزة بن أيوب، وكان المودع عندهما، فكسر خاتم ابن وليد، وطبع على الديوان بخاتم عمر بن الحسن، فزال أمر ابن الوليد.
وكانت مدة ولايته الأخيرة سنتين وثلاث أشهر. فأقام بطالاً اثنتي عشرة سنة.
ثم ولي قضاء دمشق فلم يحمد، ونهبت داره، وفي مدة عطلته - مضى ماشياً إلى يحيى بن مكي بن رجاء.
وكانت وفاته وهو بطال في ذي القعدة سنة تسع وستين وثلاثمائة، وقد جاوز التسعين، وظهرت عليه آثار الخَرَف. وقد تولّع جماعة من المصريين بهجاء ابن وليد.
فمن ذلك، قال ابن عساكر: هجا محمد بن بدر القاضي ابنَ وليد بقوله في قصيدة طويلة:
يا أوضَعَ الناس أخلاقاً وأنذلهم ... فِعلاً وأكثرهم عند الجميل عمَى
لو كنتَ تخشى قضيات المعادلما ... أُلْفيتَ في كل أمر فاضح علما

أعمى عن الرشد في كل الأمور فقد ... أصبحت في الدين بين الناس متهما
يا ابن الوليد تسمع قول الحق معتقدا ... أو كنت تخشى عذاب الله معتصما
لو كنت تسمع قول الحق معتقدا ... أو كنت تخشى عذاب الله معتصما
لما استعنتَ بحماد اللعين وما ... رأيت أنت له في صالح قدما
جعلته كاتباً يمضي الأمور ولم ... يَمس في العلم قِرْطاساً ولا قَلَما.
وقال ابن ميسر: كان من جملة من عدَّلة ابن وليد في ولاياته الثلاث، أربعين شاهداً وزيادة. قال: ولما مات ابن الخَصِيب سعى ابن وليد في القضاء، وبذلك لكافور مالاً، فقام الناس في وجهه، ورفعوا عليه، فعدل عنه إلى ابن أبي طاهر الذهلي.
ولما ولي عبد الله بن وليد قضاء دمشق أرسل ولده محمداً نائباً عنه. كان أهل دمشق اختاروا حكيم بن محمد المالكي قاضياً لما شغر القضاء بموت قاضيهم الخصيبي، واعتزال خليفة محمد بن إسماعيل اليزيدي، وذلك في إمرة فاتك الإخشيدي على دمشق. فوصل محمد إِلَى دمشق في شعبان سنة ثمان وأربعين وهو شاب. ثم وقع من أهل دمشق منازعة في أخبار من ينوب في القضاء، فتعصب قوم لمحمد ولدِ ابن وليد، وقوم ليوسف الميانجي، وكان الأعيان مع الميانجي، والأوباش مع ابن وليد. وذلك في رجب سنة تسع وأربعين. فاجتمع الشيوخ وانضم أكثر أهل البلد. فاجتمعوا بفاتك ورفقته الغلمان الإخشيدية، وشكوا إليهم ما لقوا من الإساءة فأنصفوهم. فانصرفوا من عندهم أحسن انصراف. وصرف ابن وليد.
وذكر الشيخ شيوخنا القطب الحلبي في تاريخ مصر، أن محمد بن عبد الله بن وليد قدم دمشق في شعبان سنة ثمان وأربعين وهو شاب. وقرأت بخطه أيضاً في ترجمة أبي سعيد أحمد بن حماد أحد الفقهاء من الشافعية، أنه قدم مصر في سنة ثلاث وعشرين، فشغل الناس بها في مذهب الشافعي. كتب لابن أخت وليد القاضي.
عبد الله بن أحمد بن محمد، القاضي جمال الدين ابن التَّنَسِي المالكي، من المائة التاسعة، وتقدم نسبه في ترجمة والده.
ولد بعد الثمانين. وكان بارع الجمال، حسن الصحة، كثير المواددة. اشتغل قليلاً، وولي القضاء بعد صرف ابن خلدون بعناية قُطْلُوبُغَا الكركي، وكان خدمه لما سجن بالإسكندرية. فلما خلص كافأه فباشره مدة يسيرة ثم صرف. وكان ذلكم في خامس عشرين من رمضان سنة ثمان وثمانمائة فكانت مدة ولايته نحو عشرين يوماً وعاش إلى أن ركب البحر هو وجماعة من أقاربه منهم الأديب البارع أبو الفضل عبد الرحمن ابن الشيخ شهاب الدين ابن وفاء الشاذلي، والشيخ محب الدين محمد ابن القاضي زيد الدين عُبَيْد البُشْكالِسِي وغيرهما فانكسرت بهم المركب فغرقوا جميعاً، وذلك في شهر المحرم سنة أربع عشرة وثمانمائة.
عبد الله بن بلال الحضرمي.
ذكره ابن يونس فقال: ولي قضاء مصر.
قلت: ولم يذكره أبو عمر الكندي ولا مَن بعده. فيحتمل أن يكون ولاه بعض الأمراء عند موت أحد من قضاة مصر، إلى أن يجئ الخبر من الخليفة بتعيين من يتولى عن الخليفة، حيث لا يكون لأمير مصر أن يقرر القضاة.
وكان لَهِيعة يقول: أنا تاسع تسعة ولُوا القضاء بمصر من حضرموت، وهم: يونس بن عطية، وأوس، ويحيى، وتوبة، وخير، وغوث، ويزيد، وعبد الله، ولهيعة بن عيسى، وفي ذلك يقول الشاعر:
لقد ولي القضاء بكل أرض ... من الغر الحَضَارِمة الكرام
رجالٌ ليس مثلهمُ رجال ... من الصيد الجَحَاجِحَة الضخام
وقال آخر:
يا حَضْرموت هنيئاً ما خصصت به ... من الحكومة بين العُجْم والعَرَبِ
في الجاهلية والإسلام يعرفه ... أهل الروية والتفتيش والطلبِ
وكان أصل في الرغبة فيهم، وما رواه ابن عبد الحكم في فتوح مصر عن أبي الأسود عن ابن لَهيعة عن الحارس بن يزيد، أن معاوية كتب إلى مسلمة وهو على مصر ألا يولي عليها إلا أزْدياً أو حضرمياً، فإنهما أهل الأمانة.
عبد الله بن راشد بن شعيب. تقدم في عبد الله بن أحمد بن عشيب.
عبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة، بمهلمة ثم معجمة مصغر الخولاني، يكنى أبا عمرو. مصري من المائة الثانية، وهو ابن حجيرة الأصغر، وأبوه يقال له ابن حجيرة الأكبر.

ولي من قبل قُرة بن شريك أمير مصر، في ربيع الآخر سنة تسعين، وقد روى الحديث عن أبيه وغيره.
روى عنه خالد بن يزيد، وإبراهيم بن نشيط، وعبد الله بن الوليد التُّجِيبي.
قال النسائي: ليس به بأس، وذكره ابن حِبّان في كتاب الثقات، وقال ابن نشيط: أتاه رجل فذكر له حاجة، فقال: تعود؟. فلما ذهب، سأل عنه، فإذا هو صادق، فاستدعاه فدفع له ثمانية عشر ديناراً، فعاد إليه وهو في مجلس القضاء، فشكره، فقال: أَخِّرْوه عني.
وذكر أبو عمر عن إبراهيم بن نَشِيط الوَعْلاني قال: أتيت عبد الله بن عبد الرحمن وكانت تحته امرأة من وَعْلان، فقال لي: أتتغدى؟ قلت: نعم. فقال: يا جارية أعيدي الغداء. فأحضرت بعدس بارد على طبق خوص، وكعك، وإناء فيه ماء. فقال: ابْلُلْ وكُلْ، إن الحقوق لم تدعنا نسبع من الخبز.
وذكر عبد الرحمن بن عبدا لله بن عبد الحَكَم في فتوح مصر عن بعض مشايخ البلد، أن ابن حجيرة لما ولي القصص بلغ ذلك أباه، فقال: الحمد لله الذي ذكَر ابني وذكَّر. ولما بلغه أنه ولي القضاء، قال: إنا لله. هلك ابني وأَهلك.
ويقال إن قائل ذلك: عبد الرحمن بن حجيرة لأن ولده عبد الله صاحب الترجمة ما ولي القصص.
قال أبو عمر: فصرف عبد الرحمن في جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين بعياض بن عبيد الله، ثم أعيد من جهة أمير مصر عبد الملك بن رفاعة في شهر رجب سنة سبع وتسعين، وأضيف إليه مع القضاء بيت المال، إلى أن صرف عن القضاء في سلخ سنة ثمان وتسعين.
ومن أخباره ما ذكره أبو عمر، أنه لما صرف، خاصمه ناس من اليهود إلى عمر بن عبد العزيز في مال كان قبضه منهم، فأقر بأنه كان قبضه منهم، وادعى أنه أعاده إليهم، فقال له عمر: فهل عندك بيِّنة أنك أعدت إليهم؟ فقال: لا. فقال: غَرِمت يا ابن حجيرة وضَمِنت، ثم تذكر ابن حجيرة أن له بيِّنة، فشهد له رجال، منهم والد المحدث عبد الله بن لهيعة.
قلت: وعاش ابن حجيرة هذا إلى أن مات بعد المائة.
عبد الله بن عبد الرحمن بن عبد الله بن عقيل الآمدي الأصل الطالبي، وكان يقول: إنه من ذرية عَقيل بن أبي طالب، شافي المذهب، من المائة الثامنة: ولد سنة سبعمائة وقدم القاهرة، فتفقه على جماعة، ولزم أبا حيان حتى مهر في العربية، وكان أبو حيان يقدمه فيها على أهل عصره، وتلا بالسبع علي ابن الصائغ، ولازم القاضي جلال الدين القزويني، وناب في الحكم عنه، ثم عن عز الدين ابن جماعة. وصنف في الفقه والعربية، والتفسير، وانتفع به الطلبة، وشرح الألفية الشرح المنسوب إليه، علقه عنه ولد القاضي جلال الدين القزويني، لما كان يقرئه، وليس هو على قدر مرتبته في العلم.
وكان كثير التأنق في مأكله ومشربه وملبسه ومسكنه. ودرس بالخشابية بالجامع العتيق. ولم يزل في ازدياد منا لرفعة، حتى وقع بينه وبين القاضي الموفق الحنبلي المذكور بعد، مباحثة أدت إلى فحاشة. وأغلظ الموفق، فأجابه بأشد مما بدأ به حتى أفرط. فبلغ ذلك عز الدين ابن جماعة فانتصر لرفيقه. وأرسل نقيب الحكم إلى ابن عقيل يلومه. فعند ما وقع بصر ابن عقيل على النقيب، فهم الذي جاء بسببه، فقال: يا نقيب، قل لابن جماعة: عزلت نفسي، ولا أحكم عنه شيئاً، وانقبض عنه، فراسله بعد ذلك، فأصر على الامتناع. ولم يزل مجانباً له حتى انتصر له صَرْغَتْمُش، فقام بأمره حتى قرره في قضاء الشافعية في آخر العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين. فباشره ثمانين يوماً، وصرف في أول العشر الأخير من شهر رمضان، لما قُبض على صرغتمس. فأغيد ابن جماعة، واستمر ابن عقيل على تدريس الخشابية إلى أن مات في شهر ربيع الأول سنة تسع وستين.
قال الإسنوي في ترجمته: كان إماماً في العربية والمعاني والبيان والتفسير، يتكلم في الفقه والأصول كلاماً حسناً.

عبد الله بن علي بن عثمان بن مصطفى بن إبراهيم بن سليمان المَارِدِيني، جمال الدين ابن التُّرْكُمَاني الحنفي، من المائة الثامنة. ولد سنة خمس عشرة وسبعمائة، واشتغل، ومهر، وحفظ البداية في الفقه، وعمل شرح والده عليها، وكان يسرد منها في دروسه حفظاً البداية في الفقه، وعمل شرح والده عليها، وكان يسرد منها في دروسه حفظاً. واستقر في القضاء استقلالاً بعد موت والده فباشر بصيانة وإحسان، مع المعرفة بالأحكام. وترفّع على أهل الدولة. وتَواضَع للفقراء. وصاهَر عز الدين ابن جماعة بأن تزوج صالحة ابنته، فعظم قَدْره، فزاد في الإفضال لكل من قصده، ولم يَجْنَف على أحد.
وكانت ولايته في شهر المحرم سنة خمسين بعناية الأمير شيخون، في سلطنة الناصر حسن الأولى، وسكن المدرسة الصالحية بعياله، واستمر فيها.
ومما ظهر من رياسته، أن القاضي زين الدين البسطامي قدم من الحج عقب ولايته، ففوض له تدريس الفقه بالجامع الطولوني، ابتداء من قبل نفسه.
وكانت وفاته في حادي عشر شعبان سنة تسع وستين. وكانت ولايته نحو العشرين سنة متوالية، لم يدخل عليه فيها بغض، ولا نسب فيها إلى ما يُعاب.
وكان من الغرائب، أنه صادق رفيقه موفق الدين الحنبلي، فكانا مع القاضي عز الدين ابن جماعة، كالروح في الجسد، لا يخالف بعضهم بعضاً، وماتا في سنة واحدة وسبقهما القاضي عز الدين ابن جماعة.
وكان يعتني بالطلبة والنُّجَباء من الحنفية فيفضل عليهم، وينعش حال فقيرهم، ويجل كبيرهم، ويتجاوز عن مُسيئهم، ويجمع الجميع على طعامه غالباًن ويسعى لهم في جميع ما يعرض، مما يتعلق به وبغيره من الأكابر. وربما ركب في ذلك بنفسه، إلى مَن هو مثله، وإلى مَن هو دونه، حتى ركب مرة إلى صَيْرَفي بعض الأمراء في قضاء حاجة فقيهٍ من الطلبة.
وقد بالغ اليخ تقي الدين المقريزي في إطرائه والثناء عليه، حتى قال: لو كتبتُ مناقبه، لاجتمعَ منها سِفر ضخم.
عبد الله لن لَهِيعَة بن عُقُبة بن فُرْعان بن ربيعة بن ثَوْبان الحضرمي الأُعْدُولي ويقال الغافقي، أبو محمد المصري، من المائة الثانية، أبو عبد الرحمن وبعضهم كنَّاه أبا النصر، وقال المزني: الأول اصح.
ولد ابن لهيعة بعد الليث بنحو سنتين، ويقال: ثلاث سنين. كان مولد الليث سنة أربع وتسعين. وسمع الكثير، ورحل في طلب الحديث والفقه.
قال روح بن صلاح: لقي ابن لهيعة اثنين وسبعين تابعياً، فمن شيوخه الأعرج، وابن المندِر، وأبو الزّبير، ويزيد بن أبي حبيب، وأبو يونس مولى أبي هُريرة، ومحمد بن عَجلان، ومِشْرَح بن عاهان، وأبو قَبِيل، وعَطاء بن أبي رَباح، وغيرهم من التابعين. ومنهم أبو وهب الجيشاني، وجعفر بن ربيعة، وحُيّى بن عبد الله، وعُبيد الله بن أبي جعفر، وكَعب بن عَلقمة، وأبو الأسود، وموسى بن وَرْدَان، وعبد الله بن هُبَيْرَة، وعبد الرحمن بن زياد بن أَنْعُم، ويزيد ابن عمرو، وقُرة بن عبد الرحمن، وعُقَيل بن خالد وغيرهم.
روى عنه الليث بن سعد، وهو من أقرانه، وعبد الله بن المبارك، وكان ربما نسبه إلى جَده، وروى عنه أهل مصر والغُرَباء فأكثروا، فمنهم ابن ابنه أحمد بن عيسى بن عبد الله بن لهيعة، وابن أخيه لهيعة بن عيسى بن لهيعة، وابن وهب، والوليد بن مسلم، والمُقْرِئ، وأشْهَب، والنضر بن عبد الجبار، وبِشْر بن عمر، وإسحاق بن الطباع، وربما نسبه إلى جده، وزيد بن الحباب، وأسد بن موسى، ويحيى بن إسحاق، وسعيد بن أبي مريم، وأبو صالح، ويحيى بن بكير وعثمان ابن صالح، وغيرهم.
وكانت ولايته القضاء من قبل المنصور، مستهل سنة خمس وخمسين ومائة. وهو أول من ولي قضاة مصر من قبل الخليفة، في دولة بني العباس.

قال البُخَارِي عن الحميدي: كان يحيى بن سعيد لا يراه شيئاً. وقال علي ابن المدني: سمعت عبد الرحمن بن مهدي وقيل له: تَحْمِلُ عن عبد الله بن يزيد القَصِير، وعن ابن لهيعة؟ قال: لا أحمل عن ابن لهيعة شيئاً قليلاً ولا كثيراً. ثم قال: كتبِ إلي كتاباً فيه: حدثنا عمرو بن شُعيب، قال عبد الرحمن فقرأته على ابن المبارك فَأخْرَجَه إلى ابن المبارك من كتابه عن ابن لهيعة، أخبرني إسحاق بن أبي فَرْوَة، عن عمرو بن شعيب. وقال محمد بن المثنى: ما سمعت عبد الرحمن يحدث عن عبد الله بن لهيعة شيئاً قط. وقال نعيم بن حماد: ما سمعت عبد الرحمن بن مهدي يقول لشيء من حديث ابن لهيعة سمعت إلا سماع ابن المبارك ونحوه. وقال ابن حنبل: كتب ابن لهيعة عن المثنى بن الصباح عن عمرو بن شعيب، وكان بعد، يُحدّثُ بها عن عمرو بن شعيب نفسه.
وقال يعقوب بن سفيان عن سعيد بن أبي مريم، كان حيوة بن شريح أوصى إلى وصي وكان من لا يتقي الله يذهب فيكتب من كُتب حيوة حديث الشيوخ الذين شاركه ومنهم ابن لهيعة. ثم يذهب إليه فيقرأ عيه، قال: وحضرت ابن لهيعة، وجاءه قوم قدموا من الحج مُسَلِّمين، فقال: هل كتبتم حديثاً طَرِيفاً؟ يجعلوا يذاكرونه بما كتبوا، حتى قال بعضهم: حدثنا القاسم العمري عن عمرو ابن شعيب، عن أبيه عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم إذا رأيتم الحريق فكبِّروا فإن التكبير يطفئه). فقال ابن لهيعة: هذا حديث طريف. فكان يحدث به. ثم طال ذلك عليه، ونُسى.
وكان يقرأ عليه في جملة حديث عمرو بن شعيب، ويجيزه.
وزاد ميمون بن الأصبغ عن ابن أبي مريم أن سام الرجل الذي حدث به ابن لهيعة زياد بن يونس الحضرمي. وقال إسحاق بن عيسى: احترقت كتب ابن لهيعة سنة تسع وستين. قاله أحمد عنه. قال أحمد: ومن كان مثل ابن لهيعة بمصر في كثرة حديثه وضبطه وإتقانه؟ وقال أبو داود عن قتيبة: كنا لا نكتب حديث ابن لهيعة إلا من كُتب ابن أخيه، أو كُتب ابن وهب، إلا ما كان من حديث الأعرج.
وقال إبراهيم بن إسحاق قاضي مصر: حملت رسالة الليث بن سعد إلى مالك وأخذت جوابها. فكان مالك يسألني عن ابن لَهيعة فأخبره بحاله، فيقول: ليس يذكر الحج؟ فَسبق إلى قلبي أنه يريد مشافهته، والسماع منه. وقال الثّوري: عندنا الفروع وعند ابن لهيعة الأصول، وحجبتُ حجباً لألقى ابن لهيعة. وقال ابن وهب في حديث سئل عنه، حدثني به والله الصادق البار عبد الله بن لهيعة. وقال ابن معين: ما زالت ابن وهب يكتب عنه حتى مات.
وقال يحيى بن بُكَير قيل لابن لهيعة إن ابن وهب يزعم أنك لم تسمع هذه الأحاديث من عمرو بن شُعيب، فقال: وما يدريه، لقد سمعتها منه قبل أن يلتقي أبواه.
وقال يعقوب بن سفيان: سمعت أحمد بن صالح، وكان من المتقنين، يثني عليه. وقال لي: كنت أكتب حديثَ أبي الأسود في الرَّقّ، ما أحسن حديثه عن ابن لهيعة، فقلت: يقولون سماع قديم وحديث. فقال: ليس من هذا شيء، هو صحيح الكتاب، وإنما كان أخرج كتبه، فأملى على الناس حتى كتبوه إملاء. فمن ضَبَط كان حديثه حسناً، إلا أنه كان يحضر من لا يحسن ولا يضبط، ثم لم يخرج ابن لهيعة بعد ذلك كتاباً. وكان من أراد السماع منه استنسخ ممن كتب عنه، وجاءه فقرأه عليه، فمن وقع على نسخة صحيحة فحديثه صحيح، ومن كتب من نسخة غير مضبوطة، ففيه الخلل. وقال: وكان قد سمع من عطاء، وروى عن رجل عن عطاء، وعن رجل عن آخر عن عطاء وعن ثلاثة عن عطاء، فتركوا مَن بينه وبني عطاء وجعلوا الكل عن عطاء.
وقال الحاكم: استشهد به مُسلم في حديثين، وقال ابن خزيمة في صحيحه: لا أحتج بابن لهيعة.
وقال عبد الغني بن سعيد الأزْدي: إذا روى العَبَادِلَةُ عن عبد الله بن لهيعة فهو صحيح: ابن المبارك وابن وهب والمقرئ، وكذا قال الساجي وغيره.
وقال يحيى بن حسّان: رأيت مع قوم جزءاً سمعوه من ابن لهيعة، فنظرت فيه، فإذا هو ليس من حديثه، فجئت إليه فقال: ما أصنع (يجيئون بكتاب فيقولون هذا حديثك، فأحدثهم).
وقال ابن شاهين: قال أحمد بن صالح: ابن لهيعة ثقة، وما رُوي عنه من الأحاديث فيها تخليط يطرح ذلك التخليط. وقال الحاكم: لم يقصد الكذب، وإنما حدَّث من حفظه بعد احتراق كتبه فأخطأ.

وقال ابن حِبانك سَبَرْتُ أخباره، فرأيته يدلّس عن قوم ضعفاء، على أقوام ثقات قد رآهم ثم كان لا يبالي، ما دفع إليه قرأه، سواء أكان من حديثه أم لم يكن من حديثه، فوجَب الشك في رواية مَن حدث عنه قبل احتراق كتبه، لما فيها من التدليس، ووجب ترك الاحتجاج برواية المتأخرين بعد احتراق كبته، لما فيها مما ليس من حديثه.
وقال الخطيب عن ابن خراش: احترقت كتبه فكان من جاء بشيء قرأه عليه، حتى لو وضع أحد حديثاً وجاء به إليه قرأه عليه. قال الخطيب: فمن ثم كثر الشاكون في روايته لتساهله.
وقال أبو عمر الكندي: قال أبو الأسود النضر بن عبد الجبار: سمعت ابن لهيعة يقول: كنت ربما أتيت يزيد بن أبي حبيب فيقول لي: كأني بك قد قَعَدت على الوسائد. يعني وسائد القضاء. فما مات حتى ولي القضاء.
وكانت ولايته من قبل أبي جعفر المنصور في سنة خمس وخمسين ومائة. وذكر سعيد بن عفير، أن وفد أهل مصر كانوا ببغداد فقال لهم المستنصر: أعظم الله أجركم في قاضيكم أبي خزيمة. ثم التفت إلى الربيع فقال: ابعث إلى أهل مصر قاضياً؟ فقال عبد الله بن عبد الرحمن حُديج: ماذا أردت بنا يا أمير المؤمنين؟ أتريد أن تُشَهِّرنا في الأمصار بأن بلدنا ليس فيه من يصلح للقضاء، حتى تُولي علينا من غيرنا. قال: فَسَمِّ رجلاً. فسمَّي له أبا معدان اليَحْصُبي، وقال في وصفه: إنه يختار ولكن به صَمَم. قال: يصلح للقضاء مَن به صَمَم؟ قلت فعبد الله بن لهيعة، قال: فابن لهيعة مع ضَعف عقله وسوء مذهبه؟ وكان ابن لهيعة يرمي بالتشيع.
ولما ولي المنصور ابن لهيعة القضاء كتب إليه بعهده، أجرى عليه كل شهر ثلاثين ديناراً إلى أن صرف عن القضاء، في ربيع الآخر سنة أربع وستين ومائة، فكانت ولايته دون عشر سنين.
وقال أبو عمر الكِندي: طلب الناس هلال رمضان وابن لهيعة على القضاء، فلم يَروا شيئاً، فأتى رجلان فزعما أنهما رأياه، وكان الأمير حينئذ موسى بن علي، فبعث بهما إلى ابن لهيعة فسأله عن عدالتهما، فلم يُعْرَفا. فاختلف الناس وشكوا. فلما كان العام المقبل، خرج ابن لهيعة مع الناس في طلب العلا، فكان أول قاض فعل ذلك، فكانوا يطلبونه في جِنان ابن أبي حَبَشي، ثم تراءَوه في أصل المقطم.
تنبيه: لَهيعة بوزن عظيمة، وأخطأ من قالها بالتصغير. يقال في فلان لهيعة أي غَبَن وخبل ويطلق على من فيه تغفيل، وأخطأ مَن قالها بالتصغير. يقال في فلان لهيعة أي غَبَن وخبل ويطلق على من فيه تغفيل. وقيل أصله: الهلع فاشتق من مقلوبه وقال أيضاً للمتفيهق في الكلام.
وكانت وفاة ابن لهيعة في الخامس من جمادى الآخرة سنة أربع وسبعين ومائة.
وجزم أبو عمر الكندي بجمادى الآخرة، وشذ هشام بن عَمَّار فقال: في سنة خمس وسبعين.
وقال الخطيب: حدّث عنه سفيان الثوري ومحمد بن رمح، وبينهما في الوفاة إحدى وثمانون سنة.
عبد الله بن محمد بن الخَصِيب بن الصقر بن حبيب الأصبهاني الأصل، شافعي من المائة الرابعة، أبو بكر نزيل مصر.
ولد بأصبهان سنة اثنتين وسبعين ومائتين، وسمع الحديث من محمد بن يحيى المروزي، وأبي شعيب الحراني، وأبي يُوسُف القاضي، ومحمد بن عثمان ابن أبي شيبة، وإبراهيم بن هاشم البَغَوي، ويحيى بن عمرو البختري، وحمزة الكاتب، وجعفر الفريابي، وبهلول بن إسحاق، وأحمد بن الحسين الطيالسي، وإبراهيم بن أسباط وغيرهم.
وروى عنه ابنه أبو الحسن الخصيب، ومنير بن أحمد الخَلاَّل، والحافظ عبد الغني بن سعيد، وعبد الرحمن بن عمر بن النحاس، وآخرون.
وقع لنا حديثه فيا لخِلَعِيَّات بعلوّ، وتفقه على مذهب الشافعي.

وكان قوى النفس حسن التصور، وصنّف كتاباً في الردّ على داود، وكتاباً في الرد على الطبري. وولي القضاء نيابة عن محمد بن صالح العباسي المعروف بابن أم شيبان ثم أضيف إليه قضاء دمشق والرملة وطبرية. ثم أحضر عهداً مِنَ الخليفة، ولم يثبت، فقيل له يكون ولدك محمد بن عبد الله نائباً عن محمد بن صالح ويكون العهد باسمه وأنت الناظر عليه. ولبس السواد من دار ابن الإخشيد، حضر المسجد الجامع العتيق، وذلك في نصف ذي الحجة سنة تسع وثلاثين وثلاثمائة واستكتب ابنه ينظر في الأحباس، وتصلَّب في الأحكام، واحترز في أحواله كلها، وزاد في أجر الأحباس، وزاد المرتبين بسبب ذلك زيادة ظاهرة، وعقد مجلس الإملاء، ومجلس المناظرة، وكان يحضر فيه جماعة من الفقهاء الموافقين والمخالفين، ويتكلم معهم أحسن كلام. وكان ثقة فيما يحدث به. فاتفق أنه أملى مجلساَ أورد فيه عن معاوية حديثاً فقال المستملي عن معاوية رضي الله عنه فقال له الخصيبي: يا هذا: الساعة مرّ ذكر عُمر وابنه وابن مسعود، فما ترحَّمتَ على واحدٍ منهم! وترحمتَ على معاوية، وهو طليق ابن طليق، فسكت المجلس.
وبلغه بعد انصرافهم أنهم أنكروا قوله وأن قوماً خرّقوا ما كتبا عنه. فجمع الشهود وأملى عليهم بعد يومين، فقال له يحيى بن مكي بن رجاء: ليس للكالم في هذا وجه، فأمسك، وقطع الإملاء. ثم كان أبو منصور الماوردي يُخَرِّخ له المجالس، وكان الخصيبي يمضي الأحكام والسجلات، وعقود الأنكحة. وعقد لكافور مجلساً للمظالم يجلس فيها كل سبت من أول سنة أربعين. وعقد الوزير جعفر ابن الفضل بن جِنْزابة مجلساً للفقه، فكان الخصيبي وابنه يحضران عند كافور، وعند الوزير، ويحضر ذلك أيضاً ابن الحداد وابن بلبل، وأبو طاهر الذهلي، وكان قدم مصر من دمشق، وكان يتولى قضاء دمشق، فساروا به فتوجه إلى الخصيبي وابنه ليسلّما عليه. فلم يجداه فرجعا. وبلغه ذلك فلم يكافئهما، فبقي في أنفسهما. فاتفق أن أهل دمشق كتبوا في حق أبي طاهر محضراً فساعدهم الخصيبي، وجمع جمعاً من المصريين، أفدخلهم على كافور، فذموا أبا طاهر، فظن كافور أنهم من أهل دمشق. وكان أبو جعفر مسلم حاضراً، فَسَارَّ كافوراً فصاح الخصيبي: يا أبا جعفر (وَلا تَكُن لِلْخَائنِينَ خَصِيماً) فصاح أبو طاهر: ألا تحسن أدبك يا شيخ بحضرة الأستاذ!.
وصنع ابن الخصيبي كتاباً مزوراً على الخليفة في حق أبي طاهر، فعزله كافور من دمشق، وأضافها لابن الخصيبي، فتنجز أبو طاهر كتباً من بغداد إلى كافور بأن الكتب مزورة، وعاونه أبو جعفر، فلم يرجع كافور عن مساعدة الخصيبي. وكان الخصيبي قد تقرب إلى كافور بمال أهداه له، فصار يساعده.
وتَشكى جماعة من أهل الفَرما من الخصيبي ومن نائبه، فَنَصَرَهُ عليهم، وضُربوا، وَطِيفَ بهم على الحمير، وثار الرعية بالخصيبي في الجامع، فهرب منهم.
ووقع بين الخصبيب وأبي بكر ابن الحداد خصومة في مجلس المظالم فَتَسَابَّا. وكان الخصيبي يتوسع في القول، وأبو بكر لا يجاوز المعقول احترازاً وتصونا وتديناً، فصار في غم من ولاية الخصبيب، تحتي قيل: إنه قال: اصرفوا الخصبيب ولو بابن مرحّب - يعني طيبياً كان بمصر - . وضبط عن الخصيبي أنه قال: العمل لابني محمد وأنا له مُعين، فبلغ ذلك ابنه فأراد أن يظهر ذلك، فكتب التوقيعات بخطه. وختمها وعنونها من محمد بن عبد الله فزال اسم الأب منها، واستظهر على أبيه وأسجل. وتقدم إلى الموقعين أن يكتبوا إلى القاضي محمد بن عبد الله. وكانت وفاة الخصيبي بعد أن بنى داره الكبيرة المعروفة بابن شعرة، وكان اشتراها من محمد بن أبي بكر وعَمَّرها وأتقن وعمل فيها دعوة عظيمة فعمل فيه ابن كشاجم..
اشترى الدارَ الكبيرة ... ودَعا فيها الوكيره
صغّر البَاب وفي ... تصغيره أشأم طيره
قبره لاشك فيه ... بعد أيامٍ يَسِيره
وقال فيه أيضاً:
قبح الله الخصي ... بيَّ ما أقبح أمرَهْ
اشترى الدار التي كا ... نت قديماً لابن شعرَهْ
وهي الدار التي ... يَبتُر فيها الله عُمرَهْ
لا يتم الحَوْل حتى ... يجعل المجلس قَبرَهْ
فكان كما قال: اعتل ومات في ذي الحجة سنة سبع وأربعين وثلاثمائة.

وسيأتي في ترجمة محمد بن عبد الله الخصيبي، ما وقع للحافظ الكبير أبي القاسم ابن عساكر في ترجمة الخصيبي من الوهم.
عبد الله بن محمد بن أبي ثَوْبان عبد الله بن أبي سعيد أبو سعيد. قال ابن زولاق: قدم صحبة المعز من بلاد المغرب، فولاه النظر في المظالم بمصر، فتنشط في الأحكام واستماع الشهادات والإِسجال بالأحكام، وأمر الشهود أن يكتبوا عنه في تسجيلاته: قاضي مصر والإسكندرية. واختص بشهد ويشهدون عليه في أحكامه. فلما تظلم ابن نبت كيجور في أمر الحمّام الذي كان جَده لأمه أنشأها، وتنجز من المعز توقيعاً بأن ابن أبي ثوبان ينظر في أمرها، وأقام عنده البيِّنة بأن جَده المذكور بني الحمام المذكور، وأنه توفي وانحصر إرثه في بنته، وهي والدة المدعي، وكان المعز تقدَّم إلى قضاته أن يورثوا البنت جميع الميراث، إذ لم يكن معها أخ أو أخت. فكتب ابن أبو ثوبان له سجلاً بذلك وأحضر الشهود ليشهدوا على حكمه، فبلغ ذلك أبا طاهر الذُّهْلي، وكان سبق منه إشهاد على نفسه، بأن محمد بن علي المَاذَرَائي حَبَّس الحمَّام المذكور، فعظم الخَطْب، وكثر القول في ذلك. فحضر جماعة من الشهود وغيرهم مجلس ابن أبي ثوبان، فلما قُرِئ عليه السجل قام لاحسين بن كهمش، وكان كبير الشهود يومئذ، ومقدَّمهم، فقال: إن للقاضي أبي طاهر في هذا الحمَّام سجلاً سابقاً بأنه حُبس، وقد ذكرت في هذا السجل أنه ثبت عندك بشهادة شاهدين بأنها مخلَّفة عن كيجور. فمن الشاهدان؟ فقال: أبو أحمد عبيد الله بن محمد المرادي. فسئل أبو أحمد فأنكر. فقال له ابن أبي ثوبان: بَلَى، قد شهدت عندي. فقال له الحسين: أما هذا فقد بطلت شهادته، فمن الثاني؟ فقال: محمد بن المهلَّب.
فسئل محمد فقال: أشهد أن كيجور بناه. فقال له الحسين: فمات وهو في ملكه؟ فقال: ما أدري. قال: فالأرض له؟ فسكت. قال: تشهد أن الرضاض الذي فيها والبلاط والمجاري وجميع الآلات مما عمله كيجور؟ فاضطرب في الجواب. فقال له ابن أبي ثوبان: فقد شهدت عند البينة على شهادة علي بن مجلي بذلك. فقال له الحسين: حتى تسمع الشهادة بذلك.
وأيضاً فأنت تكتب في سجلك قاضي مصر والإسكندرية، فصرفت القاضي أبا طاهر أم أنت قاض معه؟ فأوقفنا على سجلك حتى تستقيم لنا الشهادة على أحكامك. فلم يجب، نهض الشهود مستظهرين. فصاروا إلى أبي طاهر فأخبروه، فقويت نفسه، وأنهى ما جرى للوزير يعقوب بن كِلِّس، فاخبر بذلك المعز وتنجز التوقيع عه بما يعتمد عليه في ذلك. فكتب المعز بخطه، يمضي في الحمام ما حكم به محمد بن أحمد، فمضى الأمر على ذلك. وبطل حكم ابن أبي ثوبان وانقطع الشهود عند بعد أن كانوا مواصليه، وشاهدين على أحكامه. فاتخذ جماعة من الشهود عنه بعد أن كانوا مواصليه، وشاهدين على أحكامه. فاتخذ جماعة من الشهود غيرهم، وأشهدهم على حكمه وإسجاله لابن بنت يجور بالحمام، فانصرف الشهود من عنده وبين أيديهم من ينادي: هؤلاء عدول أمير المؤمنين، في كلام كثير من التعظيم لابن أبي ثوبان.
فلما خرج توقيع المعز في أمر الحمام، انكسروا وقوي أبو طاهر وأصحابه. ومنع أولئك الشهود من حضور مجلسه، واعتل أبن أبي ثوبان بسبب ذلك، فدامت علته إلى أن أتت على نفسه فمات وذلك في سنة..
عبد الله بن محمد بن عبد الملك بن عبد الباقي المقدسي، مُوَفَّق الدين أبو محمد الحنبلي، من المائة الثامنة. مولده بعد دخول سنة تسعين وستمائة أو قبلها، واشتغل بالفقه، وسمع الحديث بدمشق من أبي بكر بن أحمد بن عبد الدايم، عيسى المطعم في آخرين، وبمصر من أبي الحسن ابن الصواف، ومسعود الحارثي، وحسن بن عمر الكردي، والشريف الموسوي، موفقية بنت وردان، وغيرهم. وبمكة من الرضِىّ الطبري وغيره. وتقدم في الفقه حتى برع في معرفة المذهب، ثم تحول إلى القاهرة، وولي القضاء في ثامن عشر جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين. وكان قوي النفس عارفاً بالمذهب، شهماً لا يحابي أحداً، ويسارع إلى بث الحكم.
وكان مع ذلك كثير الإنصاف، تابعاً للحق، واشتهر بالعفة، والنزاهة، والصرامة، والاقتصاد في المأكل والملبس.

وكانت ولايته من قبل الناصر محمد، بعد صرف تقي الدين ابن عوض، بسفارة جَنْكَلي بن البايا، فإِنه أطراه عند السلطان فأحضره وولاه، وعزل ابن عوض وهو الذي عزَّر الشيخ علاء الدين مغلطاي، بسبب ما ذكره في كتاب الواضح المبين، والقصة مشهورة.
وقرأت بخط صاحبنا جمال الدين البشبيشي، أنه عزَّر جمال الدين ابن هشام، لكونه كذَّب أبا حيان في بعض تصانيفه.
وقرأت بخطه أيضاً في كتابه الذي جمعه في قضاة مصر، أنه سمع شيخنا مجد الدين إسماعيلي الحنفي - وقد أجاز لي المجد المذكور مراراً - قال: حضرت يوماَ عند القاضي موفق الدين فدخل إليه ثلاثة شهود ليشهدوا في مكتوب، فأعلم الاثنين وترك الثالث، ومضوا. فحضر إليه الشاهد وحده، فقال: يا مولانا قاضي القضاة، ما ذنبي أتوب منه؟ قال: رايتك منذ أيام ماراً بأرض الطبّالة، فقال: الأمر أمركم، كان العبد هناك في ريبة، فمولانا قاضي القضاة، ما سبب كونه هناك؟ فأطرق، ثم رفع رأسه فقال: أحضروا المكتوب، فحضر وسمع شهادته فيه وَقَبِله، لنه خشي أحد أمرين، إما أن يقول كنت في ضرورة، فيقول له: وأنا كنت في ضرورة: وإما أن يقول له: أنا يجوز لي دونك، فيقول: ما أجازه لك وحرَّمه علي؟ كذا قال.
قلت: وأرض الطَّبَّالة هي المعروفة الآب ببركة الرطلي. وكانت لا يدخلها أو يقيد بها إلا أهل الفساد.
وقد قام الموفق على صرغتمش لما قبض على ابن زُنْبْور وعقد مجلساً بالقضاة وأراد إبطال أوقافه، فراجعه القاضي عز الدين ابن جماعة في ذلك، وأن الموفق إذا ثبت وحكم به، لم يكن لأحد أن يجعله طلقاً، فاعتل عليه بأن والده فعل ذلك للناصر في أملاك كريم الدين. فأجابه بأن كريم الدين كان مستولياً على أموال السلطان من كل جهة، فإذا أقرَّ أنها عمرت من مال السلطان بإذنه، وصدًّقه على ذلك عمل به، بخلاف من كان يتصرف في أموال المسلمين كالوزير. فأصر على ذلك، ولم يقنع بالفرق. فأغلظ عليه القاضي موفق الدين.
ومن جملة ما خاطبه به، أخربتَ البلد بشرّك يا صبي. وانقضى المجلس على منع ذلك.
ولم يزل الموفق على شهامته وطريقته إلى أن قدرت وفاته في يوم الخميس سابع عشرين المحرم سنة تسع وستين وسبعمائة. وولي بعده صهره القاضي ناصر الدين نصر الله، فاستمر إلى سنة خمس وتسعين.
وكانت مدة ولايته الاثنين أكثر من خمسين سنة، لم يتخلل في ولاية ناصر الدين ولا موفق الدين قبله أحد. وقد وقع نظير هذه المدة دون التخلل للقاضي بدر الدين ابن جماعة، وولده القاضي عز الدين. فإن البدر ولي سنة اثنتين وسبعمائة، والعزَّ انفصل سنة ست وستين، وتخلل بين ذلك ولاية الزرعي سنةً، والجلا القزويني إحدى عشرة سنة، البهاء ابن عَقِيل دون ثلاثة اشهر.
عبد الله بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن علي بن صدقة، أبو الصلاح ابن عين الدولة الصفراوي، محيي الدين الشافعي، من المائة السابعة.
ولد سنة سبع وتسعين وخمسمائة، وتفقه، وسمع الحديث من القاضي زين الدين علي بن يوسف الدمشق، ومكرم بن أبي الصقر، وعبد العزيز بن باقا، وجماعة. وأجاز له من القدماء أبو القاسم ابن الحرستاني وغيره. وكان ديناً خيراً ورعاً رئيساً حسن السياسة.
زلي قضاء مصر والوجه القبلي، عقب وفاة القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز. فاستقر في يوم الخميس تاسع شعبان سنة خمس وستين وستمائة. واستقر في قضاء القاهرة الوجه البحري تقي الدين ابن رَزين. وكان الصفراوي يصحب الصاحب بهاء الدين ابن حنا الوزير، وسعى له في ولايته حتى صيَّره من العدول، فكان يرعى له ذلك.
وسار أبو الصلاح في القضاء سيرة جميلة مع الإحسان إلى الطلبة، وهو القائل:
وليتُ القضاء وليتَ القَضَا ... لم يَكُ شيئاً تولَّيته
فأوقعني في القضاء القضا ... وما كنت قِدما تمنيته
وقال:
ثمانون من عمري تَقَضَّت فما الذي ... أؤمل من بعد الثمانين من عُمري
أَطايبُ أيامي مَضَيْنَ حَميدة ... سِراعاً ولم أشهر بهن ول أدْرِ
كأنَ شَبابي والمَشِيبُ يروعه ... دُجَي ليلةِ قد رَاعَها وَضحُ الفجر
ويقال: إنه دخلت عليه امرأة في حكومة، فقال لها: ما اسمك؟ قال: ست من رأى، فوضع كمه على عينيه.

وحصل له في أواخر عمره فالج، فأقعد، وعجز عن الكتابة، فكان كاتب الحكم يعلّم عنه.
وكان الصاحب إذا ثقل عليه في تعديل شخص، استدعى شخصاً من طلبة العلم الفقراء فيعدِّله معه، ويقولك لعل هذا يجبر خلل هذا ويقرأ. (خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وآخَرَ سَيْئاً).
وحكى الشيخ تقي الدين ابن الصائغ، شيخ القراء: أنه قرأ مكتوباً بحضرة القاضي محيي الدين هذا ورفيقه تقي الدين ابن رزين قاضي القاهرة، فوقع في نعوت والد القاضي تقي الدين، وصفه بالقاضي، فقال محيي الدين لتقي الدين: هل وَلي والدُك القضاء؟ فقال: لا. قال: كيف يقرأ الكاتبُ علي الكذب!.
ومن نوادره أنه ناظر بعض الفقهاء فرأى دعواه أكثر من علمه فأنشد:
وادَّعى أنه خبيرٌ بصيرٌ ... وهو في العمى ضائع العكازم
ويحكي أنه تلقى الملك..
وصرف عن القضاء سنة ست وسبعين، فاستمر مصروفاً إلى أن مات في خامس شهر رجب سنة ثمان وسبعين وستمائة.
عبد الله بن مِقداد بن إسماعيل بن عبد الله الأَقْفَهْسي، جمال الدين، مالكي من المائة التاسعة.
ولد بعد الأربعين، وتفقه بالشيخ خليل، وتقدم في المَذْهب، ودرس. وناب في الحكم مدة، أولها عن عَلَم الدين البساطي، ومن بعده.
ثم ولي القضاء استقلالاً مراراً. أولها في ولاية الناصر فرج بعد موت ابن الجلال، وآخرها بعد صرف الشهاب الأموي في رمضان سنة سبع عشرة وثمانمائة، وانتهت إليه رياسة المذهب، ودارت عليه الفتوى فيه.
وكان عفيفاً حسن المعاشرة والتودد، قليل الأذى والكلام.
وكانت ولايته الأولى دون خمسة أشهر. وعزل بابن خلدون في ثلاث عشرين شهر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة. إلى أن مات وهو على القضاء في أواخر الدولة المؤيدة، في رابع عشر جمادى الأولى سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة وهو شارح الرسالة.
عبد الله بن هبة اللهب بن معالي بن كامل بن عبد الكريم، المفضل بن ضياء الدين أبي القاسم الصوري المقدسي، أصله من شَهْر زُور. إمامي من المائة السادسة وكان ينوب في القضاء والدعوة. ثم ولي القضاء بعد صرف مجلي في أواخر شعبان سنة تسع وأربعين خمسمائة. ولاه الصالح طلائع بن رُزِّيك، وأضيفت إليه الدعوة، وناب عن الخليفة الفائز في الخطابة في الأعياد. ولقب بضياء الدين فخر الأمناء ثم عزل في العشر الأخير من المحرم سنة ثمان وخمسين، وأعيد أبو الفضائل يونس من قِبّل شاور. ثم صرف في العشر الأول من ذي الحجة وأعيد هذا ثانية في أوائل المحرم يعني سنَة تسع وخمسين. ثم صرف في ربيع الأول سنة تسع وخمسين، فولي الحسن بن علي بن العوريس. ثم أعيد ثالثة في ذي الحجة سنة خمس وستين ثم صرف في جمادى الأولى سنة ست وستين، وقتله السلطان صلاح الدين سنة تسع وستين وخمسمائة، فيمن قتل من المنتمين إلى الفاطميين. وكان الفقيه علي بن نجا سعي الفقيه عمارة وابن كامل وغيرهما إلى صلاح الدين بنهم يريدون عود الدولة الفاطمية فشنقهم في رمضان من السنة. ولابن كامل شعر حسن، وكان ذا فضل وأدب. ومن شعره:
لئن كان حكمُ الدهر لا شك واقعا ... فما سَعينا في دفعه بنجيح
وإن كان بالتحييل يكمن دفعهُ ... علمنا بأن الحكم غير صحيح
وله يَا رَافيا خَرْقَ كل ثوب ... ويا رشاً اعتمادي
عسى بخيط الوصال ترفُو ... ما مزَّق الهجر من فؤادي
عبد الله وليد هو ابن أحمد بن شعيب. تقدم عبد الله بن يزيد بن عبد الله بن خُذَامِر الصنعاني أبو مسعود، من المائة الثانية أصله من الأبناء من ذرية الفرس الذين وجههم كسرى لقتال الحبشة، حالف يزيد بن خذامر قوماً من البسئيين. وقد شهد فتح مصر واختط بها.
وكان عبد الله فقيهاً ورعاً. وذكره أبو سعيد بن يونس فقال: روى عنه موسى بن أيوب الغافقي وغوث بن سليمان، وكان رجلاً صالحاً، حدثني أحمد ابن داود بن أبي صالح الحراني، حدثنا أحمد بن وزير عن يحيى بن عبد الله بن بُكيْر عن عبد الله بن المُسَيَّب العدوي قال: وفد من أهل مصر وفدٌ على سليمان بن عبد الملك منهم أبو خذامر الصنعاني فسألهم فذكر مثله، لكن قال فهرفهما له عمر، فكتب إلى أيوب بن شُرَحُبِيل بولاية ابن خذامر القضاء، فولى القضاء من سنة مائة إلى سنة خمس ومائة.

وقال أبو عمر: وكان قدم الشام في فتية من أهل مصل على سليمان بن عبد الملك فسألهم عن شيء من أمر العرب فأخبروه بما يحب، ولم يتكلم عبد الله بشيء. فلما خرج قال عمر بن عبد العزيز: يا أبا مسعود ما منعك من الكلام مع أصحابك؟ قال: خفت الله أن أكذب. فحفظها له عمر. فلما ولي الخلافة كتب إلى عامله بمصر بولاية عبد الله القضاء. وذلك في رجب سنة مائة. فاستمر إلى سنة خمس ومائة. ذكر ذلك أبو عمر.
ونقل عن ابن قُدَيْد عن ابن عبد الحكم أن عبد الله هذا صرف عن القضاء سنة اثنتين ومائة. أقال: وهذا ليس بصحيح. وساق الأول بسند صحيح إلى عبد العزيز بن ميسرة.
وكان يكاتب عمر بن عبد العزيز في المشكلات التي تقع له، ويقضي بما يأمره به. وهو أول من ولي القضاء بمصر من غير العرب.
قال أبو عمر: لم يقبض منذ ولي القضاء بسبب القضاء درهماً ولا ديناراً.
ونقل غوث بن سليمان عنه أنه قال: ما أخذت في القضاء سوى جوربين فلما صرفت، تصدقت بهما.
وكان غوث يقول: وددت أني علمت من أي وجه صارَا إليه.
وكان عزله في النصف من شهر رمضان سنة خمس ومائة، فكانت ولايته خمس سنين وثلاثة أشهر.
عبد الأعلى بن خالد في عبد الرحمن بن خالد.
عبد الجبار بن إسماعيل بن جعفر بن عبدا لقوي بن الجليس يكنى أبا القسم، ويقال: اسمه هبة الله ويقال: عبد الله، ويقال: كنيته أبو الفتح إسماعيلي من المائة السادسة، يلقب الموفق في الدين.
ولي القضاء في ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة في أواخر الدولة العاضدية عوضاً عن المفضل بن هبة الله ثم أعيد المفضل في آخر الشهر، ذكر ذلك ابن ميسر. قال: وفي الثامن من شهر رمضان شُنق هو وجماعة من رؤساء المصريين بالدولة الفاطمية، وكانوا اجتمعوا وأرادوا إعادة الدولة وتعاهدوا على ذلك، وعلى أن يكاتبوا الفرنج ليحاصروا القاهرة إذا تشاغل بهم صلاح الدين وثبوا على القصر، وأعادوا الدولة العبيدية، فاتفق أن حضرهم أبو الحسن بن نجا الواعظ، فَنَمَّ إلى السلطان صلاح الدين، فأمر الأمير نجم الدين ابن مَصَال، فقبض عليهم. منهم: القاضي الأعز ابن عويريس والقاضي صدر الدين أبو القاسم بن كامل الصوري، والفقيه عمارة اليمني الشاعر، ومصطنع الملك نجاح، والقاضي عبد الجبار بن عبد القوي، والأمير سرايا، وزين الدين داعي الدعاة، والقاضي عبد الصمد، وغيرهم فشنقهم. وتتبع الإسماعيلية وأخرجهم من الديار المصرية. وأخرجوا جميعاً من بالقصر من حواشي الفاطميين، فأسكنوهم بمصر، وخلت القاهرة من المجامع.
قالوا: وكان الجليس خبيراً بتحصيل الأموال، له مكر ودهاء ومعرفة بما يدخل فيه، وحسن تخلص منا يقع فيه. فلما دنا هلاكه لم ينفعه شيء من ذلك وكان مَوْصُوفاً بالشُّحِ المفرط، وبمعرفة خبايا القصر وذخائره.
وفي ولايته الحكم، جاءت الدولة الأيوبية، فاستمر إلى أن أبطلت الدعوة العاضدية. ويقال إن السلطان صالح الدين قرره قبل قتله على ما في القصر، فأطلعه على بعض وكتم بعضاً. ويقال إن الذي نَمَّ عليهم، نجمُ الدين بن مصال، وقد كان من أمراء الفاطميين، ثم اتصل بصلاح الدين. فلما توافق الجماعة عل القيام في إعادة الدولة راسلوه. ثم نَمَّ بهم لما علم أن أمرهم غير منتظم، فخشي على نفسه أن يهلك معهم، فبادر فبرَّأ نفسه وأوقعهم.
عبد الحاكم بن سعيد بن سعيد بن مالك الفارقي، أخو مالك بن سعيد، إسماعيلي من المائة الخامسة. أول ما ولي القضاء عوضاً عن قاسم بن عبد العزيز في سابع عشرين شهر رجب سنة تسع عشرة وأربعمائة، وأضيف إليه الأحباس واتسعت يده في الأحكام وتحصيل الأموال إلى أن قيل: صادر دخله في السنة عشرين ألف دينار.

قال ابن ميسر: وكان سقط النفس، يكثر من أكل الهريسة والزلابية في سطح الجامع، وحين يحضر للحكم بالجامع. قال: ومات في ولايته رجل يقال له الزيلعي وترك مالاً جزيلاً، ولم يخلف سوى بنت واحدة، فورثوها جميع المال على قاعدة مذهبهم، فتطاول الناس لتزويجها لأجل كثرة مالها، ومن جملتهم عبد الحاكم، فامتنعت فحنق منها، وأقام أربعة شهدوا بأنهم سفيهة، واحتوى على مالها، فهربت منه، وطرحت نفسها على الوزير أبي القاسم الجَرْجَرَائي وعرّفته ما اعتمد معها القاضي فعمل لها محضراً برشدها واستكتب لها جماعة منهم ابن أخي القاضي أبو الحسين بن مالك بن سعيد. فأمر الوزير بإحضار القاضي فاحضر مُهاناً، ووكل به من استعاد منه المال، وذلك بعد أن كان تصرف فيه قبل، بأربع سنين. ثم قبض الوزير على الشهود الذين شهدوا بسفهها، فأودعهم السجن، وخلع على من شهد لها بالرشد. وألزم القاضي بتسليمها مالها، ووكل به عِنده في داره، فصار يزن في كل يوم شيئاً، وولده ينوب عنه في الأحكام إلى أن صرف في يوم السبت لست بقين من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وأربعمائة. فكانت ولايته ثماني سنين وأربعة أشهر إلا يوماً واحداً وتأخرت وفاة عبد الحاكم إلى العشرين من صفر سنة خمس وثلاثين وأربعمائة، وكان قد لزم داره بالقاهرة فلم يخرج عنها حتى مات، ومات بعض أولاده فصلى عليه في داره، ودفنه فيها.
وفيه وفي قاسم بن عبد العزيز الذي كان قبله يقول بعض الشعراء:
ولما تولي ابن عبد العزيز ... قضاء القُضَاة تولى القَضا
وأعقب من بعده الفارقي ... فأدبر إِقباله وانْقَضَى
وحَطَّ دعائم دين الإله ... وأوقد في الأرض جَمْر الغَضَا
وعاد القضاءُ إلى قاسم ... فأصحب عن رُشده مُعْرِضاً
فَلا ذَا بسيرته يُرتَضَى ... ولا ذَا بتدبيره يُسَتَضَا
فهذا رئيسٌ به لوثَة ... وهذا وَضيعٌ بعيد الرِّضا
فما فيهما أحد يُرْتجى ... ولا فيهما أحدٌ يُرْتَضَى
فلا بارك اللهُ فيمن أتَى ... ولا بارَك الله فمين مَضَى
عبد الحاكم بن وُهَيْب بن عبد الرحمن المليجي الربعين، من أهل مصر، إسماعيلي المذهب من المائة الخامسة، يكنى أبا القاسم ولاه المستنصر القضاء بعد عزل أحمد بن عبد الحاكم الفارقي في سابع ذي القعدة سنة خمسين وأربعمائة، ولقب قاضي القضاة، ثقة الأنام، عَلَم الإسلام.
قال سليمان بن علي بن عبد السميع: ولما استقر في القضاء، ساءت أُحدوثته وقَبْحَت طريقته، فصرف في حادي عشر رجب سنة اثنتين وخمسين.
فكانت مدة ولايته الأولى سنة وثمانية أشهر ويومين. واستقر مكانه أحمد بن محمد بن أحمد بن زكريا.
نقلت ذلك من خط محمد بن المنذري، وهو المعروف بابن أبي العوام، وقد تقدم ذكره.
ثم أعيد عبد الحاكم ثانية في سنة ثلاث وخمسين، بعد أحمد بن عبد الحاكم للقضاء، وأضيفت إليه المظالم وجميع أسباب الحكم من الصلاة والخطابة وغير ذلك سوى الدعوة. وصرف في رمضان فكانت ولايته الثانية شهراً وخمسة أيام.
ثم أعيد الثالثة في المحرم سنة خمس وخمسين.
قال سليمان بن عبد السميع: أنفذ إلى جميع الشهود في الرابع من صفر سنة أربع وخمسين، فبكروا يوم الأحد إلى باب القصر، فخرج إليهم قبل الظهر سعيد السعداء، فتقدم إلى عبد الحاكم بالنظر في الحكم، وأعيدت إليه العامة، وأمر الشهود بالمسير معه إلى الأبواب لتقبيل الأرض بها على العادة. وجلس بالجامع الأزهر ينظر بين الناس إلى العصر. ونزل ولده إلى مصر في غد ذلك اليوم، فحكم بين الناس ولم يخلع عليه إلى يوم الأحد التاسع من ربيع الآخر. فلم يزل إلى أن صرف في سادس عشر المحرم سنة خمس وخمسين. وكانت ولايته الثالثة، أحد عشر شهراً وأحد عشر يوماً.
ثم أعيد الرابعة في خامس عشر ربيع الآخر، وصرف في سابع عشر شعبان منها بابن أبي كدينة.
ثم أعيد الخامسة في خامس جمادى الأولى سنة ست وخمسين، ثم صرف بعد خمسة أيام. ثم أعيد في سلخ رمضان، وصرف في يوم عيد النحر. ثم أعيد في صفر سنة إحدى وستين، ثم صرف، ثم أعيد في ذي القعدة سنة ثلاث وستين. وصرف في ربيع الأول سنة أربع وستين.
قال أبو نصر ابن ماكولا في الإكمال: كان عارفاً باختلاف الفقهاء.

عبد الرحمن بن إبراهيم بن سعيد بن ميمون الدمشقي اليزيدي، مولى آل عثمان، يكنى أبا سعيد، ولقبه دُحيم، بمهملتين مصغراً، وكان يعرف أولاً بابن اليتيم.
ولد سنة سبعين ومائة، قاله ولده عمرو، وسمع من معروف الخيّاط، ومن الوليد بن مسلم، وابن عُيَيْنَة، ومَرْوان بن معاوية، وعُمر بن عبد الواحد، وبِشر ابن بكر، وشُعيب بن إسحاق، وأبي ضمرة أنس بن عياض، ومحمد بن أبي فُدَيك، ومحمد بن شُعيب بن شَابور، وأيوب بن سُويد الرَّملي، وسعيد بن هاشم بن مرثد الطبراني خاتمة أصحابه.
روى عنه الجماعة إلا مسلماً والترمذي وروى النَّسائي عنه بواسطة، وروى عنه أيضاً ولداه إبراهيم وعَمْرو، والحسن بن محمد الزَّعفراني، وهو قريب من طبقته، وأحمد بن منصور الرَّمادي، وأبو زرعة الدمشقي، والرازي وأبو حاتم ويعقوب بن سفيان وإبراهيم الحربي، وغيرهم من الكبار.
وممن بعدهم جعفر الفِريابي، ومحمد بن الحسن بن قُتَيبة، ومحمد بن خُرَيم.
قال أبو سعيد بن يونس: قدم مصر وحدَّث بِهَا، وكان ثقة ثبتا.
وقال عَبدان الأهوازي: سمعت الحسن بن علي بن بحر يقول: قَدِمَ دُحَيْم بغداد، فرأيت أبي ويحيى بن معين وخلف بن سالم قُعوداً بين يديه.
وقال الخطيب: كان ينتخل في الفقه مذهب الأوزاعي. وقال المَرُّوذي: أثنى عليه أحمد، وقال: هو عاقل رزين. وقال العجلي أبو حاتم والنسائي والدارقطني: ثقة.
وقال أبو حاتم كان دحيم يميز ويضبط حديثَ نفسِه.
وقال الإسماعيلي: سئل الفرهيانيّ: من أوثق أهل الشام؟ قال: أعلاهم دُحَيم، وهو أحب إليَّ من هشام بن عمار، وهشام أَسَنُّ.
وقال ابن عدي: هو أثبت من حرملة.
وولي لقضاء فلسطين في أيام المتوكل، ثم فوض إليه قضاء الديار المصرية بعد صرف الحارث بن مسكين فتوجه إليها فمات بغتة ودفن بفلسطين.
ولما بلغ ذلك المتوكل ، ولي بكار بن قتيبة.
وكان دحيم يكره أن يلقب بذلك. قاله ابن حبان في الثقات. قال: وهو تصغير دحمان وهو بلغتهم، الخبيث.
وكان من المتقنين الذين يحفظون علم أهل بلدهم وشيوخهم.
وقال الخّلِيلي: كان أحد حفاظ الأئمة ويعتمد عليه في تعديل شيوخ الشام وَجَرْحِهِم.
وقال ابن يونس: توفي بالرملة سنة خمس وأربعين ومائتين.
وقال أبو القاسم النسيب حدثنا عبد العزيز هو الكَنَّانِي أخبرنا أبو محمد بن أبي نصر حدثنا أبو الميمون بن راشد، أنشدني عمرو بن دحيم، أنشدني أخي محمد عن رجل من ولد أبي عبد الله الأشعري الطبري في أبي لما ولي القضاء بطبرية وغيرها من مدن فلسطين، وكان جده الأعلى ميمون من موالي بني أمية، وكان دُحَيم شديد الميل إلى بني أمية، فعرَّض به الشاعر المذكور بأن قال:
قالت مقالاً أبانت فيه لي غضبا ... إخال رأى بني العباس قد غَربا
فقلت ما حادث جاء الزمان به ... قالت: دُحيم تولى الحُكم واعَجبا
ضاع القضاء وضاع الآمرون به ... والدهر من وجهين صار مُنقلبا
قالت أمية: هذا وقت دولتنا ... ردت إلينا فإن الأمر قد قربا
منا القضاة عل الأمصار قد علمت ... عَلْيَا مَعَدّ بأنا لم نَقُل كَذِبا
فلست مستوجباً حكماً نقلده ... أبا سعيد ولم يستوجب النسبا
عبد الرحمن بن إسحاق بن محمد بن مَعْمَر بن حبيب بن المِنْهال السَّدُوسي، أبو علي الجوهري الحنفي، من المائة الرابعة.
قال ابن زولاق: ولد سنة خمسين ومائتين. وقال ابن يونس: سنة إحدى وخمسين بسامرا. وكتب بالعراق، وحدث عنهم بمصر. كان مكثراً عن علي ابن حَرْب. وكان ثقة.
وقال ابن زولاق: وسمع من علي بن حرب الطائي نحو ستين جزءاً. أخذ عن الربيع بن سليمان أكثر كتب الشافعي. وحدث أيضاً عن محمد بن عبد الله ابن عبد الحكم.
روى عنه أبو بكر ابن المُقْرِي والطبراني. وولي قضاء مصر بعد صرف إبراهيم بن محمد الكُرَيْزي خلافة عن هارون بن إبراهيم بن حماد، بعد صرف أبي يحيى بن مكرم. فورد الكتاب من هارون إلى أبي علي الصغير، واسمه أحمد ابن علي بن الحسين، وعلي بن علي الجوهري، فتسلما ذلك من الكريزي، ونظرا في الأمور. ثم استقل عبد الرحمن بن إسحاق، فإنه كتب إلى هارون بذلك يسأله إقراره، فأجاب سؤاله، وارتفعت يد أبي عليّ الصغير، واستقل الصغير بالنظر في الصدقات.

وقال ابن يونس: تسلّم القضاء لأحمد بن إبراهيم بن حماد نحو سنة، إلى أن قدم ابن حماد.
فهذا يدل على أن ولايته من قبل أحمد، ولا من قبل أخيه هارون. وكان أحمد من قبل هارون. فعلى هذا يكون عبد الرحمن نائب نائب القاضي. وظاهر كلام غيره، أنه إنما ناب عن هارون، ثم استناب هارون أخاه أحمد.
قال ابن زولاق: كان عبد الرحمن بن إسحاق عاقلاً فقيهاً حاسياً فهماً، له في الحساب تصنيف وافر، ولم يترك حلقته التي كان يشغِل فيها في الجامع، بل كان يروح كل ليلة. وكان ينفد له بضاعة صوف إلى مكة في كل سنة، وكان عفيفاً. ويقال إن المودع بقي فيه ثمانون ألف دينار مما كان أبو عبيد خلفه فيه وطال العهد بها، ولم يأتِ لها طالب. فلم يتعرض لها عبد الرحمن، حتى جاء الذي بعده فَذِابَت كلها في النفقات والصِّلات والهِبات.
وكان عبد الرحمن يتأدب مع الطحاوي جداً، بحيث لا يركب حتى يركب، ويقول: هو عالمِنا وقُدوتنا، ويقول: هو أسَنُّ مني بإحدى عشرة سنة. والقضاء أقل من أن أفتخر به على أبي جعفر.
وكان ابن الفرات الوزير، غضب من صرف الكريزي، ففوض نظر الأحباس لعلي بن أبي بكر وأفردها على القاضي.
ولم يزل عبد الرحمن ينظر في الحكم إلى ربيع الآخر سنة أربع عشرة. فكانت مدة ولايته سنة واحدة وشهرين. وعاش بعد ذلك إلى سنة عشرين وثلاثمائة.
عبد الرحمن بن حُجيرة بمهملة ثم جيم مصغر. ويقال له ابن حُجيرة الأكبر. روى عن عمر، وأبي ذَر، وابن مسعود، وعُقْبة بن عامر، وعبد الله بن عَمر ابن العاص، وغيرهم. روى عنه ابنه عبد الله، والحراث بن يزيد، وأبو عَقيل زُهْرَة بن مَعْبَد، ودَرّاج أبو السَّمْح وغيرهم.
وَثقة النسائي والعِجْلي والدَّارَقُطني وابن حِبان.
قال خلف بن ربيعة عن أبيه عن جده الوليد بن سليمان، قال: كان ابن حُجيرة من أفقه الناس، فولاه عبد العزيز بن مروان القضاءَ، فسألت سعيد بن السائب بن عبد الرحمن بن حُجيرة، متى ولي جَدك القضاء؟ قال: لا أدري، غير أني رأيتُ له قضية عند آل قيس بن زُبَيْد الخَوْلأاني، تاريخها في شهر رمضان سنة سبعين، لا أعلم أني رأيت أقدمَ منها.
وقال ابن لَهِيعة عن عبيد الله بن المغيرة: إن رجلاً من أهل مصر، سأل ابن عباس عن مسألة، فقال: تسألني وفيكم ابن حُجيرة! وعن موسى بن ورَدان، قال: سألت سعيد بن المُسَيَّب فذكر مثله.
وقال عبد الرحمن بن أبي السمح عن أبي الليث عاصم بن العلاء: إن ابن حُجيرة كان على القضاء والقصص وبيت المال، وكان رزقه في السنة ألف دينار، عن القضاء مائتين، وعن القصص مائتين، وعن بيت المال مائتين، وعطاءه مائتين، وجائزته مائتين. وكان لا يَحُول عليه الحَوْل وعنده منها شيء، بل كان يفضل على أهله وإخوانه.
ومن أقضيته، أنه قضى في امرأة من حِمْيَر جَدَعَت أَمةً لها، فأعتق الأمة، وقضى بولائها للمسلمين.
وكان يرجح في الشهادة بالكثرة، إلا أن يكون هناك صاحب بَدْر، ولكن لا يحجر على سفيه في ماله، لكن ينهى الناس عن معاملته بعد أن يشهره. وكان لا يقبل لأحد هدية، ولا في الأعياد والمواسم. وكان له عبد يستقي له الماء فمات، فأخذ هو البغل، وتوجه بنفسه ليستقي. كانوا يقتدون به في أشياء كثيرة لورعه وصدقه.
ومن كلامه: إذا قضى القاضي بالهَوَى، احتجبَ الله عنه.
قال ابن يونس: يكنى أبا عبد الله وهو خَولاني من بني يعلى بن مالك. وحكى أبو عمر عن غَوث بن سليمان قال: لما ولي عبد الرحمن بن حجيرة القضاء أخبروا أباه بذلك فقال: هَلَك ابني وأَهْلك. وكان أولاً وَلِي القصص فأخبروا أباه فقال: ذكَر ابني وذكَّر. وقد تقدم هذا لعبد الله بن عبد الرحمن بن حجيرة، وهو أليق بها.

وكان السبب في كتابة المصحف المذكور، أن الحجاج استكتب في إمارته على العراق مصاحف، فبعث منها إلى مصر واحداً، فغضب عبد العزيز بن مروان وقال: تبعث إلى جندٍ أنا فيه بمصحف! فأمر مَن كتب له المصحف الذي هو الآن بمصر بالمسجد الجامع. فلما فرغ قال: مَن أخذ فيه حرفاً خطأ، فله رأس أحمر وثلاثون ديناراً. فتداوله القراء فجاء رجل من قراء الكوفة اسمه زُرعة بن سَهل الثقفي، فيما ذكر ابن يونس، لجده خَرَشة بن الحُرَ صُحبة، فقرأه تهجياً. ثم جاء إلى الأمير عبد العزيز فقال: وجدت فيه حرفاً خطأ. فنظروا فإذا هي (إنَّ هَذَا أخي لهُ تسعٌ وتِسْعُونَ نَعْجةً) فإذا هي مكتوبة (نجعة) بتقديم الجيم على العين. فأمر عبد العزيز بالورقة فأبدلت. ثم أمر له برأس أحمر وثلاثين ديناراً.
وكان يأمر بأن يحمل غَداة كل جمعة من دار عبد العزيز إلى المسجد الجامع فيقرأ فيه. فكان أول مَن قرأ فيه عبد الرحمن بن حُجيرة، كان متولي القضاء والقصص يومئذ، وذلك في سنة ست وسبعين. وكان استكتب عبد الملك بن أبي العوام الخولاني، فهو الذي كان يكتب عنه ما يحتاج إلى كتابته في أقضيته.
فمن أقضيته ما أخرجه أبو عمر بسندٍ صحيح إلى عبد الله بن الوليد أن رجلاً أتى عبد الرحمن بن حُجيرة فقال: إني نذرتُ ألا أكلم أخي أبداً. فقال: إن الشيطان ولد له ولد فسماه نذراً، وأنه من قطع ما أمر الله به أن يوصل حلّت عليه اللعنة.
وروى عن عَطاء بن دينار: كان ابن حجيرة يقضي في متعة الطلاق بثلاثة دنانير. ومن طريق ابن لَهيعة عن سعيد بن المسيّب، أن ابن حجيرة كان يشرب السوبيا.
وأخرج ابن وهب بسند صحيح أن ابن حجيرة سألته امرأة عن صبي مولود هل يجزى عن رقبة؟ قال: نعم. أعتقيه.
وذكر ابن عبد الحكم من طريق موسى بن وردان: أن سعيد بن المسيب كتب إلى ابن حجيرة، أنْهَ أهل بلدك عن الربا فإِنه فيها كثير.
ومات وهو قاضٍ في إمارة عبد العزيز بن مروان سنة ثلاثٍ وثمانين. فكانت مدة ولايته القضاء ثلاثة عشرة سنة وشهوراً. هذا هو الصحيح.
وحكى ابن عبد الحكم في كتاب (فتوح مصر) أنه مات سنة خمس وثمانين.
عبد الرحمن بن خالد بن ثابت العبسي ويقال الفهمي ويقال: اسمه عبد الله. ويقال: عبد الأعلى. مصري من المائة الأولى ولي القضاء من قِبل عبد الله بن عبد الملك في صَفر سنة تسع وثمانين بعد صرف عمران بن عبد الرحمن بن شرحبيل ولم تطل ولايته وولي بعده عبد الرحمن بن معاوية بن خُدَيج ثبت أن ولايته في صفر تسع وثمانين لكن لم يثبت قدر ولايته هذا وقد ثبت أن ولاية عبد الواحد كانت سنة واحدة فتحرر من هذا أن مدة ولاية صاحب الترجمة كانت أياماً فلهذا لم يذكر في القضاة.
عبد الرحمن بن سالم بن أبي سالم الجَيْشَانِيّ، مولاهم. واسم أبي سالم: سفيان بن هانئ بن جبر بن عمرو من المعافر. يكنى أبا سلمة.
قال ابن يونس: روى عن أبيه. روى عنه الليث بن سعد، وابن لَهِيعة. قال: وولي القضاء والقصص معاً، وكانت ولايته من جهة حوثرة بن سهيل أمير مصر في المحرم سنة ثمانٍ وعشرين ومائة.
قال أبو عُمر الكِنْدي: لما ملك بنو العباس مصر أَقَره صالح بن علي، وأجازه فاستمر إلى أن خرَج صالح من مصر في شعبان سنة ثلاث وثلاثين، وولي مصر عوضه أبو عون عبد الملك بن يزيد، فرأى في ديوان الجند خلَلاً، فقيل له: إن عبد الرحمن بن سالم مِن أعلم الناس بأمور الديوان، فعزله عن القضاء وجعل إليه الديوان، وأعاد خير بن نعيم في مستهل رمضان منها.
وكانت مدته في القضاء خمس سنين وسبعة أشهر. ويقال: إن أهل مصر طلبوا من أميرهم أن يرد إليهم خير بن نعيم.
وقال أبو سعيد بن يونس: يقال أنه مات سنة ثلاث وأربعين ومائة، وجزم بذلك غيره.
وقال يحيى بن بكير: أهل بن سالم الجيشاني يقولون إنهم من المعافر.
ووجدت في ديوان بني أمية في زمن مروان بن محمد ورقة فيها: بسم الله الرحمن الرحيم. من عيسى بن أبي عطاء إلى خُزّان بيت المال، فأعطوا عبد الرحمن بن سالم القاضي رِزقَه لشهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر سنة إحدى وثلاثين، عشرين ديناراً، واكتبوا بذلك براءة، يعني شهادة عليه.
وكُتب يوم الأربعاء لليلتين خَلَتا من شهر ربيع الأول

عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الرحمن بن المُجَبَّر بن عبد الرحمن بن عبد الرحمن بن عمر بن الخطاب القرشي العدوي العمري. أُمْه أَمَةُ الحميد بنت حفص ابن عمر بن عبد الرحمن بن عبد الله بن مظعون الجمحية. مدني الأصل مالكي المذهب، من المائة الثانية. روى عن مالك.. روى عنه يحيى بن بكير وأبو صالح كاتب الليث، وزكريا بن يحيى الحرسي. قال ابن يونس: يكنى أبا عبد الله.
وقال أبو عمر: تولي من قبل الرشيد فدخل مصر في صفر سنة خمس وثمانين ومائة، فاستكثر من الشهود ودوّن أسمائهم في كتاب، وهو أول من فعل ذلك. واستكتَب أبا داود النحاس، وزكريا بن يحيى، الحَرسي - ولذلك كان يقال له: كاتب العمري - وخالد بن نجيح وإسحاق بن محمد بن نجيح.
قال سعيد بن عفير: كان من أشد الناس في عمارة الأحباس. كان يقف عليها بنفسه ويجلس مع البنّائين أكثر نهاره.
وقال ابن وزير: لما ولي العمري جعل أشْهَب على مسائله، وضم إليه يحيى ابن بُكيْر، ويحيى بن عبد الله بن حَرملة، وأمرهم بإدامة من عرفه منه ستر وفضل.
وقال يحيى بن عثمان بن صالح عن أبيه: كان خَوَاصّ العمري، عبد العزيز ابن مطرف، وسابق بن عيسى، ويحيى بن بكير، وسعيد بن عفير.
وقال أحمد بن يحيى بن وزير: لم يكن في قضاتنا أكثر شهوداً من العمري. كان قد اتخذ نحواً من مائة من أهل المدينة، أكثرهم من موالي قريش والأنصار، وكان رئيسهم عبد العزيز المطَّرفي.
وجرى في ولاية العُمري قصة أهل الحرس، وهو قوم من أهل مصر كان رؤساء المصريين يؤذونهم، كأبي رَحْب الخولاني، وهاشم بن حُديج، وغيرهما من العرب. فاجتمع الحرسيون إلى كاتب العمري زكريا بن يحيى الحرسي فقالوا له: حتى متى نؤذي ونطعن في آبائنا فأشار عليهم أن ليأذن لهم في كتاب سجل بأن لهم أصلاً في العرب. فجمعوا له ستة آلاف دينار. فلما صار المال إلى العمري، لم يجسر أن يسجل لهم. فقال: اركبوا إلى الخليفة. فخرج عبد الرحمن بن زياد الحَرِسي إلى العراق، وأنفق مالاً عظيماً هناك. وادعى أن المفضل بن فَضَالة، كان حَكَم لهم بإثبات أنسابهم إلى الحوتكة بن أسلم بن الحاف بن قضاعة.
وكان أبو الطاهر ابن السَّرح يقول أقر عندي عبد الكريم القراطيسي، وكان يضع على الخطوط نظيرها، أنه وضع قصة على لسان المفضل بإِثبات أنساب الحرسيين إلى الحوتكة، وأنه أخذ في وضعها من الحرسيين ألف دينار، وأخذ المتولي لديوان المفضل ألف دينار، حتى يجعلها في الديوان.
قال ابن وزير: فحضر عبد الرحمن بن زياد بكتاب الأمين ابن الرشيد إلى العمري يأمره أن يسجل للحرسيين، فدعاهم العمري بالبَيِّنة، أحضروا أهل الحروف من الشرقية وجماعة من بادية الشام، فشهدوا أنهم عرب فسجل له العمري بذلك.
وكان يحيى بن بكير وسعيد بن عفير يقولان: لم يشهد فيه أحد من أهل مصر، وإنما شهد لهم من أحواف مصر وبادية الشام. وفي ذلك يقول يحيى الخولاني من قصيدة:
ومن عَجب الأشياء أن جماعةً ... من القِبط فينا أصبوا قد تعرَّبوا
وقالوا أبونا حَوتَكٌ أبوهمُ ... من القِبط عِلج حبله يَتَذَبْذَبُ
وجاءوا بأجلافِ من الحُوف فادَّعوا ... بأنهم منهم سفاهاً وأجلَبوا
وكان سعيد بن عُفير بذكر عن مالك، أنه كان لا يرى اشتراط المرمَّة في الوقف. قال: فقال لي العمري: لولا المرمَّة، ما بقيت الأحباس لأهلها.
وقال إن النيل توقف في سنة من السنين، فخرج العمري إلى الرمل وبسط يده، ودَعَى وابتهل، فما عاد إلا والماء يجري في أذياله.
وقال أحمد بن يحيى بن الوزير: كان العمري يشدو بأطراف الغناء على طريقة أهل المدينة. ولم يكن بمصر مُسمِعة إلا وركب إليها وسمع غناءها. وهَجَاه يحيى الخولاني بسبب ذلك عدة أهاجي.
وقال فيه معلي الطائي أو غيره:
كم ذا تُطوِّل في قِرَاتِكْ ... والجورُ يضحكُ من صَلاتِكْ
تقضي نهارك بالهَوَى ... وتبيت بين مُغنِّياتكْ
ليتَ الثلاثين التي ... تجري تقوم بمسمعاتكْ
وأتت على صرف الزما ... ن بما ارتشيت من الحواتكْ
إن كنتَ قد ألحقتهم ... بالعُرب زَوِّجْهم بَنَاتك
فلتكشفن لما أتي ... ت صدور قوم عن مَسَاتِك

وكأنني بَمنِيَّة تَسْ ... عَى إليك بِكف فَاتِكْ
لا تعجلَن أبا النَّدَى ... حتى تصير إلى وفاتكْ
لو قد ملكتُ لسان أَكْثَم ... ما وصلتُ إلى صفاتكْ
قال: وكان أهل مصر يكنونه أبا الندى، يشبهونه بأبي الندى مولى البلويين وكان مشهوراً في اللصوص. وذكر قصة مراد ويحصب في الرهان، وأن فرس مُراد جاءَ سابقاً، فَعَمدَ بعض يحصب فضرب وجهه حتى سبقه فَرَس يحصب، فوقع بينهم القتال بسبب ذلك، فركب أمير مصر حتى حجز بينهم وأرسلهم إلى القاضي فأتته يحصب بأموال عظيمة فقضى لهم بالفرس.
فلما صرف وولي البكري نقض حكمه، وقال: لا يجوز الرهان إلا بمحلل القاضي، ولم يكن بين الفريقين محلل فلم يصح الرهان ورد الفَرس لمراد.
وقال يحيى بن عثمان بن صالح: حدثني أحمد بن أحمد بن عبد المؤمن العدوي قال: كان العمري اشترى من أموال الأيتام ضياعاً ورباعاً وسلّمها إلى يحيى بن بكير، فكان ينفق على الأيتام. فلما بلغوا طالَبوه بأموالهم، ورفعوه إلى العُمري، فقال: أنتم استهلكتم أموالكم. فلما قَدِم البكري خاصَموا يحيى، فكان البكري يربطه إلى سارية ويحله في كل وقت صلاة، فلم يثبت في جهته شيء.
وكان العمري أول من اتخذ لأموال الأيتام تابوتاً توضع فيه، ويوضع فيه مال مَن لا وارِثَ له. فكان هو مودع قضاة مصر.
ورفع جاعل أهل مصر إلى الرشيد ما يقع من العمري من الأحكام والارتشاء عليها، فقال: انظروا إلى الديوان كم ولي والٍ من آل عمر؟ فلم يوجد غيره، فقال: انصرفوا فإني لا أعزله.
فلما مات الرشيد واستخلف الأمين، أشار الفضلُ بن الربيع بعزله، لما كان يسمع من سيرته، فقدم بعزله رجل من فهم، ففرح المصريون وأكرموا الفهمي فقال بعض المصريين.
بنعمة الله وَرَأي الفَضْل ... نُحِّي عن الحكم عَدُوُّ العدلِ
وكانت مدة ولايته القضاء تسع سنين وشهرين. وصرف في جمادى الأولى سنة أربع وتسعين.
وقال ابن يونس: ولي من قبل الرشيد سنة خمس وثمانين، وعزل من قبل الأمين سنة خمس وتسعين. ووهم في ذلك.
وذكر صاحب المدارك في معرفة أصحاب مالك، في ترجمة سعيد بن هشام ابن صالح المخزومي المصري، نزيل الفيوم، عن الحارث بن مسكين قال: قدم مصر القاضي العمري، وكان شعلة نار. وكان يجلس للناس من الغداة إلى الليل، وكان حسن الطريقة، مستقيم الأمر. وكان ابن وهب وأشهب وغيرهما يحضرون مجلسه. وكان يقول لهم: أعينوني ودلوني على أقوام من أهل البلد أستعين بهم. قال: وكتب إلي أن أَخْلُفَه بالفيوم. وكتب إليّ أصحابنا يشيرون عليّ بذلك. قال: وكتب إلي، يعني آخرون بخلاف ذلك، فأشكل عَلَي الأمر. ولم أدرِ ما أصنع، فسمعتُ قائلاً يقول وأنا لا أراه: (وَلاَ تَرْكَنُوا إلى الذيَنَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ) فقلت: لقد بينّ لي ووعظت، وعزمت على أن لا أدخل في شيء فكتبت إلى أصحابي، إن تركتموني وإلا تحولت.
ولما ولي البكري بعده، رفع أهل مصر إليه، أن العمري حصّل مائة ألف دينار، فوكل بالعمري فهرب، وتتبع البكري أحكام العمري ينقضها، وأسقط كل من شهد في سجل أهل الحرس.
وقال أبو عمر: حدثني أبو سَلمة، حدثني أبي عن أبيه قال: أتيتُ العمري بعد قيامه من مجلس الحكم فاستأذنتُ فأذِن لي، فدخلتُ وهو مضطجع وقد تَرَجّل، وصفر يديه وكحّل عينيه، واتشح بإِزار مُعَصْفَر وادهن وهو يضرب بأصابع يديه بعضها على بعض ويقول:
كأني مِن تذُّكرِ أم عَمرِو ... سَرَتْ قَرَقَفٌ صِرف مُدامُ
وقال سعيد بن الهيثم الأيْليّ: لما ولي العمري القضاء بمصر، دخل عليه رجلان فشكيا إليه تخريب مسجد عبد الله، وشهدا عنده أنه مسجد عبد الله بن عمر بن الخطاب. قال: فأمر ببنائه وَرَاجَ عليه ذلك، وأمر أن يصرف فيه ألف دينار تؤخذ منه تَرِكة محفوظ بن سليمان، وكان مات في ذلك الوقت. فبنى بها وجعل له حوانيت غلة له، وذلك في صفر سنة ثمان وثمانين ومائة. قال: وإنما هو مسجد عبد الله بن عبد الملك بن مروان، بناه لما ولي إِمْرة مصر ليستريح فيه أهل تلك الخطة بحسب سؤالهم. فلما ولي صالح بن علي إمْرة مصر رآه فأعجبه، فسأله عنه فقيل له: بناه عبد الله. فقال: أوَبَقي لبني أمية أثر؟ فأمر بهدمه، ثم رمّمه بعض الجيران، بناءً غير طائل، إلى أن قدم العمري.

عبد الرحمن بن عبد الوهاب بن خلف بن بدر العَلامِي، أبو القاسم ابن قاضي القضاة تاج الدين ابن بنت الأَعَزّ، تقي الدين الشافعي من المائة السابعة.
ولد في ثاني عشر رمضان سنة تسع وثلاثين وستمائة. واشتغل ومَهَر وسمع الحديث من الحافظ رشيد الدين العطار، ومن الحافظ زَكي الدين المنذري وغيرهما. وتعانى الأدب، ونظم الشعر المقبول. روى عنه الحافظ أبو محمد الدمياطي من شعره، وذكره في معجم شيوخه. وروى عنه أيضاً أبو حيان. وتفقه على أبيه وابن عبد السلام وغيرهما. ودرس في عدة مدارس في حياة أبيه. وولي القضاء من قبل المنصور بمصر والوجه القبلي في ربيع الآخر سنة خمس وثمانين. وكان قد باشر نظر الخزانة ودَرْس الصلاحية المجاورة للشافعي، وبالشريفية وبمشهد الحسين. وولي مشيخة سعيد السعداء، ولقب شيخ الشيوخ. وخطب بالجامع الأزهر، وباشر القضاء بالقاهرة لما نقل الخُوَبّي إلى الشام.
وكان ذا عفة ونزاهة وسؤدد كامل، وعقل وافر، ومهابة زائدة. وكان عارفاً بالأحكام ثبت الجنان يقظاً، كثير التنقيب عن نوابه، ولا سيما في البلاد. وولي الوزارة مرة مضافة إلى القضاء، وذلك في سنة سبع وثمانين، وصرف بعد قليل.
واتفق أن الوزير ابن السَّلْعُوس عاداه، فسعى على عزله، فعزل بالبرهان السنجاري عن مصر والوجه القبلي، فمات البرهان بعد قليل، فأعيد التقي في عاشر صفر سنة ست وثمانين، فباشر على عادته وتشدد في الأحكام إلى أن رَاسَله الوزير في أمر شخص يقال له نجم الدين ابن عطايا، أن يقرره في بعض الوظائف، وأن يثبت عدالته، وكان غير أهْلِ لذلك، فامتنع. فلما مات المنصور وتولى الأشرف تمكن ابن السلعوس في التحدث في المملكة، فلم يزل إلى أن صرفه عن القضاء، ثم أخرج وظائفه عنه واحدة بعد واحدة. فلما رأى ذلك، رأى مُدَاراته، فمدحه بقصيدة طويلة، وحضر عنده واستأذنه في إنشادها، فأذن له فأنشدها له، فأظهر استحسانها.
ولم يزل ما في نفسه منه حتى رتب عليه شهوداً يشهدون عليه بأمور منكرة حتى قيل إن جملتها كانت خمسين قادحاً. منها الزنا واللواط وشرب الخمر والتَّزَيِّي بالنصارى. وقرر الوزير مع السلطان أن يرفع أمره لبعض الحكام فيسمع البينة عليه، ويمضي حكم الشرع، فأذن له في ذلك. فعقِد له مجلس وادعى عليه، فشهد جماعة عليه بأمور معضلة. فقام فقال: يا معاشر الأمراء والعلماء أنا فلان ابن فلان ابن فلان، وساقَ نَسَبه، ليس في نَسبي بُطرس ولا جرجس، وإذا زعموا أني أشربُ الخمر أو ازني ربما يقبل من اجل شهوة النفس، ولكن شَدّ الزُّنَّار، والتكلم بالكفر، من أي وإلى أين وما الذين لي فيه من اللذة! وأكثر من البكاء والابتهال في حق من كذب عليه. فقام من حضر من الأمراء وهم يبكون، حتى دخلوا على السلطان وعلموا أن لوايح التعصب ظهرت. وأن القاضي بريء من ذلك فأمر بإطلاقه. فلزم بيته إلى أوان الحج فحج. ثم زار المدينة وأنشد تجاه المنبر قصيدة طويلة نبوية، شكى فيها حاله، فذكر أنه رأى في المنام البُشرى بأنه ينتصر وأصبح فرحاً.
واتفق بأنه بلغهم الخبر بقتل السلطان والوزير، وتغيّرت الدولة، فأعيد إلى القضاء في صفر سنة ثلاث وتسعين، وباشر على عادته، وسار سيرته الأولى إلى أن مات في سادس عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين. ومن شعره:
وَمَن رَامَ في الدنيا حياة خَلِيَّة ... من الهَمّ والأكْدَار رَامَ مُحَالا.
وهاتيك دعوى قد تركتُ دَليلّها ... على كل أبناء الزمان مُحالا
وله أيضاً:
وإذا المصيبة خيَّمت بك لا تكن ... بقَضَا ربك ضَيِّق الصَّدْرِ
فلعلَّ في طيِّ المصيبة نِعمة ... سِيقَت إليك وأنت لا تَدري

ومما يُحكَى من حُسن سياسته، أنه لما ثار بعض الناس على الشيخ إبراهيم الْجَعَبِريّ، وادعوا عليه بأشياء كان يقولها في أثناء وعظه، وادعى عليها بها، وشهد مَن شهد، وتأخر الحكم بما يجب عليه، لاستيفاء بقية الشروط، أرسل إليه القاضي تقي الدين ليلاً، فحضر إليه جماعة ممن يعتقد صِدقهم. فلما دخل تَلقَّاه وأجلسه، وقال له في جملة ما تكلم معه: قالوا وقلنا وشهدوا وسمعنا، أفما نقول كلنا: أستغفر الله العظيم؟ فقال ابن الجعبري: نعم أستغفر الله العظيم وأتوبُ إليه وأشهد أن لا إليه إلا الله وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وبرئت من كل شيء يخالف دينه، فصافَحه القاضي وتوجَّه، وكان ذلك يعد من جميل تَلَطّف القاضي، بحيث أمكنه الحكم بحقن دمه بهذه الصورة الجميلة.
عبد الرحمن بن علي بن عبد الرحمن بن هاشم زين الدين التَّفَهْنِي، بفتح المثناة والفاء وسكون الهاء، بعدها نون نسبة إلى قرية من أسفل الأرض بالقرب من دمياط.
ولد سنة ثمان وستين، ونشأ يتمياً، فكفله أخوه شمس الدين محمد وكان الأكبر، وهو شافعي المذهب. ثم قدم به القاهرة فنزل في الصَّرْغَتْمشية مع الحنفية، وكان أولاً عريف مكتب الأيتام بها. واشتغل بفقه الحنفية حتى مهر، وحبّب إليه الاشتغال، فقرأ العربية والأصول والمنطق، وكتب الخط الحسن، وفاقَ الأقران.
فلما ولي القاضي بدر الدين الكُلُسْتاني مشيخة الصَّرْغَتْمِشِية، صحِبه واختص به، فنعفه لما ولي كتاب السِّر ونوَّه به، وناب عن أمين الدين الطرابلسي من بعده، ثم صحب ابن العديم وواظَب دروسه بالشيخونية، ونزل في طلبتها، حتى صار ثاني مَن يجلس عن يمين الشيخ في حضور الدرس والتصوف.
ولما شغرت مَشْيَخة الصَّرْغَتْمِشِية، تنازَع فيها هو وشرف الدين ابن التَّباني، وكان السلطان غائباً في الشام، فراح ابن التباني وعمل إجلاساً واستدعى الأعيان، وألقى درساً حافلاً. فلما قم العسكر غلبه التفهني عليها فاستقر فيها. وكان ابن خلدون قبل ذلك قد ولي درس الحديث بها، فنزل عنه للقاضي زين الدين هذا بمال فباشره.
وكان يذكر أنه بحث مع الشيخ جلال الدين البتاني والد شرف الدين في درس الفقه بالصرغتمشية فغضب منه وأقامه، فخرج هو مكسور الخاطر. فدعا الله أن يوليه التدريس مكانه، فحصل له ذلك بعد مدة.
وخطب بالجامع الأقمر لما جدّد السَّالمي فيه الخطبة، ودرس بالأَيْتَمِشِيّة لما ولي الكُلُسْتاني كتاب السر، وأوصى إليه عند موته.
ولم يزل يترقَّى حتى ولي قضاء الحنفية بعد انفصال ابن الديري بتقريره في المدرسة المُؤيَّدِيَّة لما فتحت. وخلع عليه في سادس ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين فسار فيه سيرة محمودة، وخَالَق الناس بخُلقٍ حَسن، مع الصيانة والإفضال والشهامة والإكْباب على العلم والتصوف.
ولما تكلم الظاهر طَطَر في المملكة بعد المؤيد، كان من أخص الناس به، وسافَرَ معه إلى الشام. ولما تخلّف القاضي الشافعي جلال الدين البلقيني بدمشق، استمر هو معه إلى حلب.
قال القاضي علاء الدين في تاريخه: (كان معظماً عند الملك الظاهر واجتمعتُ به فوجدته عالماً ديناً، منصفاً في البحث، حققاً للفقه وللأصول، كيِّس الأخلاق) انتهى.
وقال الشيخ تقي الدين المقريزي في تاريخه: (حلف مرة أنه لم يرتش قط في الحكم).
ثم صرف القاضي زين الدين عن القضاء بالشيخ بدر الدين العنتابي في ربيع الآخر سنة تسع وعشرين ثم أعيد في أوائل سنة ثلاث وثلاثين وعرض له بعد ذلك مرض طال به، فصرف قبل أن يموت بقليل في شهر رجب، ومات ثامن شوال سنة خمس وثلاثين وثمانمائة.
عبد الرحمن بن عمر بن رسلان بن نصير بن صالح بن عبد الخالق ابن عبد الحق بن شهاب البلقيني، القضاي جلال الدين، أبو الفضل ابن شيخ الإسلام سراج الدين، الشافعي من المائة التاسعة.
ولد في شهر رمضان سنة ثلاث وستين وسبعمائة، وأمه بنت القاضي بهاء الدين ابن عقيل. ونشأ مترفهاً متعززاً، لكنه كان مفرط الذكاء، فحفظ القرآن وصلى به التراويح وهو صغير. ثم حفظ عدة كتب، ومهر في مدة يسيرة.

ولما مات أخوه بدر الدين قرر في وظيفته في قضاء العسكر. ثم باشر وظيفته توقيع الدست في ديوان الإنشاء. ثم سافر مع والده في الركاب السلطاني إلى حلب، فرجع في بأوٍ زائد وصحبته ثلاثة مماليك مردان، فصار يركب بهم للدروس وغيرها. ودعي بقاضي القضاة، لكونه قاضي العسكر، فصار يمقت مَن يخاطبه بغيرها. ووالده في كل ذلك ينوّه به في المجالس، ويستحسن جميع ما يرد منه، ويحرض الطلبة على الاشتغال عليه، إلى أن شَغَر المنصب عن المناوي، ووثب عليه الصالحي، فندم هو على التقصير في ذلك. وسعى إلى أن صرف الصالحي بعد أشهر. واستقر هو، وذلك في رابع جمادى الأولى سنة أربع وثمانمائة، وكان ذلك بعناية سودون طاز وهو يومئذ قد استقر أمير آخور الكبير، وسكن الإصطبل السطاني، ولم يشعر بذل جَكَم الدويدار الكبير، فتغيظ وامتنع من الركوب معه إلى الصالحية على العادة. فأراد أن يتلافاه فركب هو ووالده شيخنا سراج الدين، إلى دار جكم، فواجَهه بالإنكار عليه في بذل المال ليلى القضاء. فعرفه الشيخ أن هذا يجوز لكونه تعينَّ عليه. ثم عزل، وأعيد الصالحي في ثالث عشرين شوال سنة خمس وثمانمائة، وإلى أن مات عن قرب في المحرم سنة ست. واستقر الإخنائي بعد أن كان المنصب استقر طلال الدين وهُنِّئ به. وبات على أن يطلب ليلبس، فأبطأ القاصد وعنده جمع جَمّ، تهيأوا للركوب معه. فما يجيئهم إلى الخبر بتقرير الإخنائي، فسعى عليه حتى صرفه في خامس ربيع الأول منها، واستقر في ولايته الثانية. واستمر الإخنائي يسعى فيعزله، ثم يسعى هو فيعزله الآخر. وأقوى حجة الإخنائي عند أهل الدولة، إن شئتم قاض كريم وإن شئتم قاض عالم فكانا كذلك قدر ثلاث سنين. وقد حررها لي القاضي تاج الدين ولد القاضي جلال الدين، ونقلتها من خطه فقال: الولاية الأولى من رابع جمادى الآخرة سنة أربع وثمانمائة إلى سلخ العشرين من شوال سنة خمس وثمانمائة عوضاً عن الصالحي. والولاية الثانية من استقبال ربيع الأول سنة ست وإلى اثنان شعبان منها عوضاً عن الإخنائي. والولاية الثالثة من ثالث ذي الحجة منها وإلى خامس عشر ربيع الآخر سنة سبع عوضاً عنه. والولاية الرابعة من خامس عشر ذي القعدة سنة سبع إلى النصف من صفر سنة ثمان عوضاً عنه. والولاية الخامسة من رابع ربيع الأول منها وإلى الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة عشر عوضاً عنه - إلا أنه في هذه حصل خَلل بالباعوني بالشام وهو خمسة عشر يوماً لا غير - والولاية السادسة من نصف ربيع الأول سنة عشر، وإلى العاشر من شوال سنة أربع عشرة عوضاً عن الهروي إلى أن تعصب جمال الدين البيري وقد استقر مشير الدولة وأستادار الملك الناصر، فاستصحب الإخنائي صحبة العسكر في سفرة سافرها السلطان إلى الشام، فقرره في قضاء الشام وخلا وجه القاضي جلال الدين.
واستمر وباشر المنصب بحُرمة وافرة، مع لين الجانب والتواضع، وبذلك المال والجاه. كل ذلك تجدد له من شدة ما قاساه من سعي الإخنائي، لكنه كان كثير الانحراف، قليل الاحتمال، سريع الغضب، لكن يندم ويرجع بسرعة. وقد صَحِبته قدر عشرين سنة، فما أضبط أنه وقعت عنده محاكمة فأتمها، بل يسمع أولها ويفهم شيئاً فيبني عليه، فإذا روجع فيه بخلاف ما فهمه، أكثر النزق والصياح، وأرسل المحاكمة لأحد النواب. وما رأيت أحداً ممّن لقيته أحرص على تحصيل الفائدة منه، بحيث إنه كان إذا طرق سمعه شيء لم يكن يعرفه، لا يَقرُّ ولا يهتدي ولا ينام، حتى يقف عليه، ويحفظه.
وكان مع ذلك مكباً على الاشتغال محباً في العلم حق المحبة. وكان يذكر أنه لم يكن له تقدم اشتغال في العربية، وأنه حج في حياة والده فشرب من ماء زمزم لفهم هذا العلم. فلما رجع، أدمن النظر فيه، فمهر في مدة يسيرة فيه، ولا سيما منذ مات والده.
ودرس في التفسير بعده بالبرقوقية، وكذا درس في التفسير بالجامع الطولوني بعده، وصار يعمل المواعيد بعده بمدرسته، ويقرأ عليه في تفسير البغوي. وكان يكتب على كل ذلك دروساً مفيدة، ويبحث في فنون التفسير في كلام أبي حيان والزَّمَخْشَري ويبدي في كل فن منه ما يدهش الحاضرين.

ولما صار يحضر لسماع البخاري في القلعة، أدمن مطالعة شرح شيخنا سراج الدين ابن الملقن، وأحبَّ الاطلاع على معرفة أسماء من أبهم في الجامع الصحيح من الرواة، ومن جرى ذكره في الصحيح. فحصل من ذلك شيئاً كثيراً بإدمان المطالعة والمراجعة وخصوصاً أوقات اجتماعي ومذاكراتي له. فجمع كتاب الإفهام بما في البخاري من الإبهام، وذكر فيه فضلاً يختص بما استفاده من مطالعته، زائداً عما استفاده من الكتب المصنَّفة في المبهمات والشروح، فكان عدداً كثيرا. وكان يتأسف على ما فاته من الاشتغال في الحديث، ويرغب في الازدياد منه، حتى كتب بخطه فصلاً من القصد المتعلق بالعلل من فتح الباري، وقابله معي بقراءته لإعجابه به.
ذكره الشيخ تقي الدين المقريزي في التراجم المفيدة فلم يبسط ترجمته كما بسط ترجمة غيره، وإنما اقتصر على ما يتعلق بولاياته مع إجحاف كثير. ثم قال: وكان ذكياً قوي الحافظة، وقد اشتهر اسمه وطار ذكره بعد موت أبيه وانتهت إليه رياسة الفتوى، ولم يخلف بعده مثله في الاستحضار، وسرعة الكتابة الكثيرة على الفتاوي، والعفة في قضائه.
وذكر صاحبنا الحافظ شمس الدين الدمشقي المعروف بابن ناصر الدين في ذيل طبقات الحفاظ فقال..
وذكره صاحبنا القاضي تقي الدين ابن قاضي شهبة، عالم الإسلام بالشام في تاريخه الذي ذيله على البرزالي فقال..
وذكره القاضي علاء الدين ابن خطيب الناصرية في ذيل تاريخ حلب فقال: نشأ في الاشتغال بالعلم وأخذ عن والده ودأب وحصل حتى صار فقيهاً عالماً، ودرس بجامع حلب لما قدم صحبة السلطان..
ولما صرف عن القضاء بالقاضي شمس الدين الهروي تألم لذلك كثيراً واشتد جَزعه وعظم مَصَابه. فلما قُرئ صحيح البخاري بالقلعة، ساعده القاضي ناصر الدين البارزي كاتب السر، حتى أذِن له السلطان المؤيد في الحضور مع الهروي، فجلس عن يمين الهروي بينه وبين المالكي، وصار يبدي الفوائد الفقهية والحديثية ويجاريه القاضي الحنبلي ابن المُغلي، ولا يبدر من الهروي شيء بعد فائدة مع كلامهما. ثم صار ابن المغلي يدرس قدر ما يقرأ في المجلس ويسرده في حفظه ويتحدى بذلك. فرتّب القاضي جلال الدين أخاه القاضي عَلمَ الدين في أسئلة يبديها مشكلة ويحفّظ أصلها وجوابها ويستشكلها، ويخص الهروي بالسؤال عنها، فيضج الهروي من ذلك. والمراد من كل ذلك إظهار قصور الهروي، والسلطان يشاهد كل ذلك ويسمعه، لأنه كان يجلس أولاً بينهم. ثم لما غلب عليه وجع رجله، صار يجلس في الشباك الذي يطل على المحل الذي هم فيه. ومع ذلك فلم يقَدّر إعادة القاضي جلال الدين إلا بعد نصف سنة أو اكثر من وقت قراءة البخاري. وانتفع أخو القاضي جلال الدين نصف سنة أو أكثر بأن أنعم عليه السلطان بِفَرَجِيَّة لبسها يوم العيد بعد أن كان سأل عنه فقيل له أنه ولد الشيخ سراج الدين، وكان له في الشيخ اعتقاد.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن هبة الله بن عبد الرحمن بن محمد بن عبد الناصر بن محمد بن عبد المنعم بن طاهر بن أحمد ابن مسعود بن داود بن يوسف الزبيري، القاضي تقي الدين أبو محمد، نزيل القاهرة الشافعي.
أصله من المحلة الكبرى، وسمعت شيخنا ابن الملقّن يقول: لجمال الدين عبد الله، ولد القاضي تقي الدين المذكور، لما عرض عليه وكتب له في الإجازة الزبيري، وهو نسبة إلى الزبيرية قرية من قرى المحلة. وكان أبوه يعرف بابن تاج الرياسة. وولد هو بالمحلة في سنة إحدى وأربعين وسبعمائة، ودخل القاهرة بعد أن حفظ التنبيه، واشتغل وسمع الحديث من عبد الرحمن بن محمد بن عبد الهادي، والصدر أبي الفتح الميدومي وغيرهما، وحدث عن الميدومي.
سمعنا عليه عدة أجزاء، وتعلّم التوقيع، ومهر في الشروط والسجلات، وجلس مع الموقعين مدة طويلة، وسجل على القضاة، وناب فِي الحكم عن بدر الدين ابن أبي البقاء في القاهرة، وفي عدة جهات من الضواحي، واستمر إلى أن غضب السلطان من القاضي صدر الدين المناوي وعزله. فاستدعى به فخلع عليه، وقرره في قضاء الشافعية، في يوم الخميس ثالث عشرين جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبعمائة. وحضر الصالحية على العادة. ثم صار يلازم الجلوس في قاعة الحكم كل يوم، ويخرج من باب السِّر إلى داره، وهي مجاورة للمدرسة بينهما مسافة يسيرة. وباشر مباشرة حسنة، وكان عفيفاً كثير التأني تام المعرفة.

ولم يزل على حاله إلى أن حَسَّن المناوي لأصيل الدين أن يسعى له في المنصب. فلما سَعَى بالغ في ذلك وأَلَحَّ، وكان السلطان يسمح له بالإِجابة. قال بعض من يتعصب للمناوي: إن كان مولانا السلطان يختار عزل الزبيري، فالمناوي أحق بالعود إلى منصبه. وقرروا معه أن يستقر أصيل الدين في قضاء الشام، فوقع ذلك، وصرف الزبيري. وعاد المناوي في يوم الاثنين خامس عشر رجب سنة إحدى وثمانمائة.
وكانت مدة ولايته سنتين وشهراً، واستمر بمنزله معطلاً لا يتهيأ له الرجوع إلى نيابة الحكم، وأخرجت جهاته عنه، وتلقفها في ولايته بعض الناس، فاستمر في أيديهم. وصار لا يمكنه أن يتكسَّب في التوقيع. ولم يكن بيده وظائف يتحصّل له منها كفايته. واستمر خاملاً إلى أن قرره القاضي جلال الدين البلقيني في تدريس الصالحية والناصرية فباشرهما. وكان يمشي من بيته فيدخل الصالحية لإلقاء الدرس ثم يخرج من باب سر الصالحية، فيمشي بين القصرين إلى الناصرية فيلقى الدرس ثم يرجع. واستمر على ذلك إلى أن مات.
ولما قبض الملك الناصر فرج على جمال الدين، أراد عزل القاضي جلال الدين البلقيني، لما كان ينسب إليه من موالاة جمال الدين، فعين القاضي تقي الدين للمنصب، وشكروا له مباشرته، وكثر الثناء عليه. فانزعج الجلال من ذلك وسعى حتى استمر.
وكانت وفاة الزبيري، أول يوم من شهر رمضان سنة ثلاث عشرة وثمانمائة.
وكان أبوه من أكابر أهل المحلة، كان يذكر أن يوسف الأعلى جده، هو ولد عبد الله بن الزبير بن العوام، والله أعلم.
قرأت بخط القاضي تقي الدين - وَقَدْ ذكر أباه وأرَّخ وفاته فِي الطاعون العام - أنه كَانَ كثير العبادة، يؤثر بماله، وقرأ القرآن عَلَى أبيه بقراءته عَلَى أبيه أبي الفرج هبة الله بقراءته عَلَى أبي القاسم الصفراوي.
عبد الرحمن بن محمد بن عبد العلي بن علي المصري، عماد الدين ابن السُّكَّرِيّ الشافعي، يكنى أبا القاسم من المائة السابعة.
ولد سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة. وتفقه بالشهاب الطوسي، وظافر بن الحسين. ثُمَّ ولي القضاء يوم الاثنين ثامن شهر رمضان بعد موت صدر الدين ابن درباس، فِي سَلطنة الملك العادل أبي بكر بن أيوب.
وكان قد اشتهر بالزهد والورع ومعرفة الفقه، حَتَّى نقل عنه ابن الرفعة فِي (المَطْلَب). وجُمع لَهُ من الوظائف مَا لَمْ يجتمع لغيره من أقرانه. وَكَانَتْ لَهُ فِي النفوس عظمة، مع أنه لا يُحَابِي أحداً، ولا يعمل برسالة صاحب جاه.
وكان قَدْ صحب الشيخ القرشي وسمع من علي بن خلف الكوفي، وأبي إسحاق ابن سَماقا وغيرهما.
ومن قضاياه أنه رفعت إِلَيْهِ حكومة بسبب أمير توفي وترك ولداً، فادعى رجل بَدَيْن عَلَى الميت، فشهد عنده جماعة بالدين، فقال: تُزكَّى البينة. فشهدت عنده جماعة فكتب بخطه تُزكى البينة. فزكى السلطان أحد الجماعة، فكتب تَحْتَ حط أحدهما دون الآخر. فقال لَهُ السلطان: والله لقد تحققت مَا شهدت بِهِ. فقال لَهُ: تزكى البينة. فقال: دع عنك هَذِهِ الحكومة حَتَّى أحكم أنا فِيهَا. فقال: وَفِي غيرها وعزل نفسه. وأقام بالقرافة فتردد إِلَيْهِ ولد السلطان سبع مرات، فصمّم عَلَى الامتناع حَتَّى يئس منه. فاستقر ابنُ عين الدولة، وَكَانَ يخلفه فِي الحكم. وحضر إِلَيْهِ ليسلم عَلَيْهِ عَلَى العادة، وذلك فِي ثاني عشر المحرم سنة ثلاث عشرة وستمائة. ويقال استمر المنصب بغير قاض مدة، ونوابه يفصلون فِي الأحكام، رجاء أن يجب إِلَى العود، فلم يفعل.
وكان يتولى الأحكام بنفسه غالباً، فاتفق أن تقدم إِلَيْهِ خصمان، فنظر إليهما ثُمَّ أمرهما بالمسير إلى بعض نوابه، فسئل عن ذَلِكَ، فقال: كَانَ أبو أحدهما صاحبي، وأحضر إليَّ هدية فرددتها. فلما رأيته وعرفته خشيت أن أميل بقلبي إِلَيْهِ.
وصنّف حواشي (الوسيط) وهي مفيدة. وَلَهُ كلام فِي مسألة الدَّور. وقصته مع نائبه فِي الحكم الشيخ عبد الرحمن النويري مشهورة. وهو أنه كَانَ استنابه فصار يحكم بعلمه ويحيل عَلَى المكاشفة. فبلَغه ذَلِكَ فنهاه، فلم يرجعْ فعزله. فبلغ ذَلِكَ النُّوَيْرِي فقال: وأنا عزلتُه وعزلت ذريته. ويقال إن سبب عزلِهِ نفْسَه، أنه طلب منه اقتراض أموال اليتامى. فامتنع وقيل غير ذَلِكَ.

وقال الشيخ ظهير الدين التَّزْمَنْتي: زرتُ القاضي عماد الدين ابن السكري بعد موته، فوجدتُ فقيراً عند القبر فقال: تعال يَا فقيه. فجئته فقال: يحشر العلماء وَعَلَى رأس كل واحد منهم لواء، وهذا القاضي منهم. قال: والتفتُّ فطلبت الفقير فَلَمْ أره. حكاه جعفر الأَدْفُوي فِي (البَدْر السَّافِر).
وَكَانَتْ قصة ابن السكري فِي عزل نفسه فِي ثامن عشر المحرم سنة ثلاث عشرة. وأذن السلطان للنواب أن يستمروا عَلَى عادتهم فِي الحكم، إِلَى أن يوافق القاضي ويقبل إِلَى مستهل صفر. فاستقر ابن عين الدولة، وتأخرت وفاة ابن السكري إِلَى شوال سنة أربع وعشرين وستمائة، وَلَهُ إحدى وسبعون سنة.
وذكر ابن أبي المنصور فِي رسالته المشهورة بأحوال من رآهم من الأولياء فِي ترجمة الشيخ أبي العباس الجزار أن القاضي عماد الدين المذكور، لما صمّم عَلَى عدم العود بعد العزل عن القضاء، عزل من تدريس المدرسة الصلاحية المجاورة لضريح الشافعي، وتدريس المشهد الحسيني، وخطابة الجامع الحاكمي وتدريس المدرسة المعروفة بمنازل العز. فاجتمع بالشيخ أبي العباس، وتشكَّى إِلَيْهِ أنه شق عَلَيْهِ عزله من المدرسة المذكورة لكونها سكن عائلته، وهم كثير. فقال الشيخ: يكون الخير. فلما أصبح، قال الشيخ لأصحابه اليوم العصر ترد عَلَى أبي القاسم المدرسة فكان كذلك، أحضر لَهُ توقيع جديد بِهَا من غير سعي. قال: وقال لَهُ العماد: يَا سيدي عندي جارية حامل فقال: تضع غلاماً يسمى عبد العزيز، فكان كذلك.
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن سليمان بن خَيْر الشقيري الأنصاري الإِسكندراني أبو القاسم جمال الدين ابن فخر الدين ابن زين الدين المالكي من المائة الثامنة.
ولد فِي رابع عشر جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وسبعمائة. وسمع من أبيه وابن المصفّى وعلي بن الفرات، والوادي آشي وتقي الدين ابن عرام وغيرهم. وتفقه بالإِسكندرية وَمَهَر. وأخذ الفقه عن أبيه، وجلس مع الشهود، ووقع عن القضاة، وناب فِي الحكم عن الربعي، واشتهر بالصيانة والديانة والصدق.
ثم قدم القاهرة وكتب فِي التوقيع وناب فِي الحكم. وولي القضاء بعد عزل عَلَم الدين البساطي، فِي جمادى الأولى سنة ثلاث وثمانين، وباشر مباشرة حسنة.
وكان عفيفاً أميناً، دافئ اللسان، قليل الاغتياب، كثير الزيارة لأهل العلم، وأهل الخير. يلازم الاعتكاف فِي رمضان. ضابطاً لنفسه، ولمنصبه، حازماً فِي أموره. لا يقبل الهدية، متشدداً فِي ذلك، وَفِي قَبول الشهود، مع المعرفة التامة بالشروط والسجلات. وَلَهُ فِي استخراج معانيها عجائب. وَلَمْ يدخل عَلَيْهِ فِي ولايته خَلَل إِلاَّ من جهة الاستكثار من الشهود، حَتَّى عاب الناس عليه ذَلِكَ. فلما بلغه اقتصر عن ذَلِكَ.
وكان من محاسن أهل العصر خصوصاً أهل بلده ومذهبه، وَكَانَ من أتباع أكمل الدين. فلما وقع بينه وبين الركراكي بسبب طلب تدريس المالكية في خانقاه شيخون. وذلك أن الأكمل كَانَ غضب من الركراكي لكلام صدر منه فِي البحث، فعزله من وظيفته. فتشفع ببعض الأمراء فكلم السلطان، فأرسل بعض أكابر الدولة يشفع فِيهِ عند الأكمل، فامتنع وأصر عَلَى الامتناع. فرفع القاضي جمال الدين ابن خير قصة يسأل فِيهَا أن يقرر فِي وظيفة الركراكي. فبلغ ذَلِكَ السلطان، فغضب. وصرف ابن خير عن القضاء، فأقام بمنزله بطالاً، وذلك فِي سابع عشر جمادى الآخرة، سنة ست وثمانين وسبعمائة. ثُمَّ أعيد إِلَى القضاء بعد عزل ابن خلدون الآتي ذكره بعده، وذلك فِي جمادى الأولى سنة تسع وثمانين. وَكَانَ للناس بولايته هَذِهِ فرح وسرور لا مزيد عَلَيْهِ، ولا عهد نظيره فِي عصرهم، لشدة كراهيتهم لابن خلدون، فباشرها إِلَى أن مات فِي شهر رمضان سنة إحدى وتسعين وسبعمائة.
عبد الرحمن بن محمد بن محمد بن محمد بن الحسن بن محمد ابن جابر بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن عبد الرحمن بن خلدون الحضرمي الإشبيلي الأصل، التونسي المولد، أبو زيد ولي الدين المالكي، من المائة التاسعة.

ولد فِي أول شهر رمضان سنة اثنتين وثلاثين وسبعمائة، واشتغل فِي بلاده وسمع من الوادي آشي وابن عبد السلام وغيرهما وأخذ القراءات عن محمد بن سعد بن بُرَّاد، واعتنى بالأدب وأمور الكتابة والخط، حَتَّى مهر فِي جميع ذَلِكَ. وولي كتابة العلامة عن صاحب تونس. ثُمَّ توجه إِلَى فاس فِي سنة ثلاث وخمسين، فوقع بَيْنَ يدي سلطانها أبي عنان. ثُمَّ حصلت لَهُ نكبة وشدة، واعتقل نحو عامين. وولي كتابة السر لأبي سالم والنظر فِي المظالم.
ثم دخل الأندلس فقدم إِلَى غرناطة فِي سنة أربع وستين، فتلقاه السلطان ابن الأحمر عند قدومه، ونظمه فِي أهل مجلسه. وأرسله إِلَى عظيم الفرنج بإشبيلية، فعظّمه وأكرمَه، وحمَله. وقام بالأمر الَّذِي ندب إِلَيْهِ. ثُمَّ توجه فِي سنة ست وستين إِلَى بجاية ففوض إِلَيْهِ تدبير مملكته مدة.
ثُمَّ نزح إِلَى تِلِمْسَان باستدعاء صاحبها، وأقام بوادي العرب مدة. ثُمَّ توجه إِلَى فاس من بَسْكِرَة فنهب فِي الطريق. ومات صاحب فاس قبل قدومه، فأقام بِهَا قدر سنتين. ثُمَّ توجه إِلَى الأندلس. ثُمَّ رجع إِلَى تلمسان، فأقام مدة أربعة أعوام. ثُمَّ ارتحل عنهم فِي رجب سنة ثمانين إلى تونس، فأقام بِهَا إِلَى أن استأذن فِي الحج فأذن لَهُ. فاجتاز البحر إِلَى أن وصل إِلَى الإسكندرية. ثُمَّ قدم الديار المصرية فِي سنة أربع وثمانين وسبعمائة فِي ذي القعدة. وحج ثُمَّ رجع فلازم أَلْطُنْبُغَا الجوباني، فاعتنى بِهِ إِلَى أن قرره الملك الظاهر برقوق فِي قضاء المالكية بالديار المصرية، فباشرها مباشرة صعبة، وقلب للناس ظهر المِجَن، وصار يعزّز بالصفع ويسميه الزج. فإذا غضب عَلَى إنسان، قال: زجوه، فيصفع حَتَّى تحمر رقبته.
قرأت بخط البشبيشي؛ كَانَ فصيحاً مُفوهاً جميل الصورة وخصوصاً إذَا كَانَ معزولاً. أما إذَا ولي فلا يعاشَر، بل ينبغي ألا يرى.
وقد ذكره لسان الدين ابن الخطيب فِي تاريخ غرناطة وَلَمْ يصفه بعلم، وإنما ذكر لَهُ تصانيف فِي الأدب، وشيئاً من نظمه، وَلَمْ يكن بالماهر فِيهِ. وَكَانَ يبالغ فِي كتمانه، مع أنه كَانَ جيداً لنقد الشعر.
وسئل الركراكي فقال: عَرِيٌّ عن العلوم الشرعية. لَهُ معرفة بالعلوم العقلية من غير تقدم فِيهَا، ولكن محاضرته إليها المنتهى، وهي أمتع من محاضرة الشيخ شمس الدين الغماري.
ولما دخل الديار المصرية تلقاه أهلها وأكرموه، واكثروا ملازمته والتردد إِلَيْهِ.
فلما ولي المنصب تنكَّر لهم، وفَتَكَ فِي كثير من أعيان الموقعين والشهود. وقيل إن أهل المغرب لما بلغهم أنه ولي القضاء، عجبوا من ذك، ونسبوا المصريين إِلَى قلة المعرفة، حَتَّى إن ابن عرفة قال لما قدم إِلَى الحج: كنا نعد خطة القضاء أعظم المناصب. فلما بلغنا أن ابن خلدون ولي القضاء، عددناها بالضدّ من ذَلِكَ.
ولما دخل القضاة للسلام عَلَيْهِ، لَمْ يَقُم لأحدٍ منهم، واعتذر لمن عاتَبه عَلَى ذَلِكَ. وباشَر ابن خلدون بطريقة لَمْ يألفها أهل مصر، حَتَّى حصل بينه وبين الركراكي تنافس، فعقد لَهُ مجلس، فأظهر ابن خلدون فتوى زعم أنها خط الركراكي، وهي تتضمن الحط عَلَى برقوق. فتنصل الركراكي من ذَلِكَ، وتوسل بمن اطلع عَلَى الورقة فوجدت مدلسة. فلما تحقق برقوق ذَلِكَ عزله، وأعاد ابنَ خير. وذلك فِي جمادى الأولى سنة سبع وثمانين. فكانت ولايته الأولى دون سنتين. واستمر معزولاً ثلاثَ عشرة سنة وثلاثة أشهر، وحج فِي سنة تسع وثمانين. ولازَمه كثير من الناس فِي هَذِهِ العطلة وحَسَّنَ خُلقه فِيهَا، ومازح الناس، وباسَطَهم، وتردد إِلَى الأكابر وتواضَع معهم. ومع ذَلِكَ لَمْ يغير زيه المغربي وَلَمْ يلبس زي قضاة هَذِهِ البلاد. وَكَانَ يحب المخالفة فِي كل شيء.

ولما مات ناصر الدين ابن التَّنَسِيّ، طلبه الملك الظاهر، فوجده توجه إِلَى الفيوم بسبب بلد القميحة وَكَانَ لَهُ نصيب فِي تدريسها. فحضر صحبة بريديّ ففوض إِلَيْهِ القضاء فِي خامس عشر شهر رمضان سنة إحدى وثمانمائة. فباشر عَلَى عادته من العسف والجنَف. لكنه استكثر من النواب والشهود والعقاد، عَلَى عكس مَا كَانَ فِي الأول، فكثرت الشناعة عَلَيْهِ، إِلَى أن صُرِف ببعض نوابه، وهو نور الدين ابن الجلال صرفاً قبيحاً، وذلك فِي ثاني عشر المحرم سنة ثلاث وثمانمائة. وطلبَ إِلَى الحاجب الكبير فأقامه للخصوم وأساء عَلَيْهِ بالقول. وادعوا عليه بأمور كثيرة أكثرها لا حقيقة لَهُ. وحصل لَهُ من الإِهانة مَا لا مزيد عَلَيْهِ وعزل.
ثم مات ابن الجلال بعد أربعة أشهر فِي جمادى الأولى، فولي جمال الدين الأَقْفَهْسِيّ، ثُمَّ صرف بعد أربعة أشهر أيضاً فِي رمضان. وأعيد ابن خلدون، وذلك بعد مجيئه من الفتنة العظمى، وخلاَصه منها سالماً. وكانوا استصحبوه معهم معزولاً، فتحيَّل لما حاصر اللَّنكُ دمشق إِلَى أن حضر مجلسه، وعرَّفه بنفسه فأكرمه وقَرَّبه. وَكَانَ غرضه استفساره عن أخبار بلاد المغرب، فتمكن منه، إِلَى أن أَذِنَ لَهُ فِي السفر وزوَّده وأكرمه. فلما وصل، أعيد إِلَى المنصب، فباشره عشرة أشهر. ثُمَّ صرف بجمال الدين البساطي إِلَى آخر السنة. وأعيد ابن خلدون وسار عَلَى عادته. إِلاَّ أنه تبسط بالسكن عَلَى البحر، واكثر من سماع المطربات، ومعاشرة الأحداث، وتزوج لَهَا أخ أَمْرَد يُنسب للتخليط فكثرت الشناعة عَلَيْهِ.
هكذا قرأت بخط جمال الدين البشبيشي فِي كتابه (القضاة). قال: وَكَانَ مع ذَلِكَ أكثر من الازدراء بالناس، حَتَّى شهد عنده الأستادار الكبير بشهادة فلم تُقبَل شهادته، مع أنه كَانَ من المتعصبين لَهُ. وَلَمْ يشتهر عنه فِي منصبه إِلاَّ الصيانة، إِلَى أن صرف فِي سابع شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة. ثُمَّ أعيد فِي شعبان سنة سبع، فباشر فِي هَذِهِ المرة الأخيرة بلين مفرط وعَجز وخَور. وَلَمْ يلبث أن عزل فِي أواخر ذي القعدة.
وقرأت بخط البشبيشي؛ أنه كَانَ يوماً بالقرب من الصالحية، فرأى ابن خلدون وهو يريد التوجه إِلَى منزله وبعض نوابه أمامه، وهو تاج الدين بن الظريف. فالتفت فرأى البشبيشي، فتلا قوله تعالى: (وَإذَا أَرَادَ اللهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ) فلما وصل ابن خلدون، عاتب ابن الظُّرَيِّف، فقال: لِمَ تَلوْتَ هَذِهِ الآية؟ فقال: اتفق كذا، فقال: بل أردت أن البشبيشي يبلغ جمال الدين البساطي.
وقرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي فِي وصف تاريخ ابن خلدون: (مقدمته لَمْ يعمل مثالها، وإنه لَعزيز أن ينال مجتهد مَنَالها، إذ هي زُبدة المعارف والعلوم، وبهجة العقول السليمة والفهوم، توقف عَلَى كُنه الأشياء، وتعرف حقيقة الحوادث والأنباء، وتعبر عن حال الوجود، وتنبئ عن أصل كل موجود، بلفظ أبهى من الدُّر النَّظيم، وألطفُ من الماء مَرَّ بِهِ النسيم). انتهى كلامه.
وما وصفها بِهِ فيما يتعلق بالبلاغة والتلاعب بالكلام عَلَى الطريقة الجاحظية مُسَلَّم لَهُ فِيهِ، وأما مَا أطراه بِهِ زيادة عَلَى ذَلِكَ فليس الأمر كما قال، إِلاَّ فِي بعض دون بعض، إِلاَّ أن البلاغة تزين بزخرفها، حَتَّى تُرِي حَسناً مَا لَيْسَ بالحَسَن.
وقد كَانَ شيخنا الحافظ أبو الحسن بن أبي بكر يبالغ فِي الغَضّ منه. فلما سألته عن سبب ذَلِكَ، ذكر لي أنه بلغه أنه ذكر الحسين بن علي رضي الله عنهما فِي تاريخه فقال: قُتِلَ بسيف جَده. ولما نطق شيخنا بهذه اللفظة، أردفها بلعن ابن خلدون وسبّه وهو يبكي.

قلت: وَلَمْ توجد هَذِهِ الكلمة فِي التاريخ الموجود الآن. وكأنه كَانَ ذكرها فِي النسخة الَّتِي رَجَعَ عنها. والعجب أن صاحبنا المقريزي كَانَ يفرط فِي تعظيم ابن خلدون، لكونه كَانَ يجزم بصحة نسب بني عُبَيد، الذين كانوا خُلفاء بمصر، وشهروا بالفاطميين، إِلَى عليّ، ويخالف غيره فِي ذَلِكَ، وَيَدْفَع مَا نُقل عن الأئمة فِي الطعن فِي نَسَبهم ويقول: إنما كتبوا ذَلِكَ المحضر مراعاة للخليفة العباسي. وَكَانَ صاحبنا ينتمي إِلَى الفاطميين فأحب ابن خلدون لكون أثبت نسبتهم، وغفل عن مُراد ابن خلدون، فإنه كَانَ لانحرافه عن آل عليّ يثبت نسبة الفاطميين إليهم، لما اشتهر من سوء معتقد الفاطميين، وكون بعضهم نسب إِلَى الزندقة، وادعى الألوهية كالحاكم، وبعضهم فِي الغاية من التعصب لمذهب الرفض، حَتَّى قتل فِي زمانهم جمع من أهل السنة.
وكانوا يصرحون بسبّ الصحابة فِي جوامعهم ومجامعهم، فإذا كانوا بهذه المثابة وصح أنهم من آل عليّ حقيقة، التصق بآل عَلَى العيب، وَكَانَ ذَلِكَ من أسباب النفرة عنهم والله المستعان.
عبد الرحمن بن مُعاوية بن حُدَيْج بن جفنة بن قَتيره بن جفنة بن جارية بن عبد شمس بن معاوية بن جعفر بن أمامة بن سعد بن أشرس بن شيب ابن السكون السكوني. أبو معاوية من المائة الأولى.
روى عن أبيه - وهو معدود فِي الصحابة - وابن عَمرو، وابن عُمر، وأَبي بَصْرَة الغِفاري.
روى عنه يزيد بن أَبي حَبيب وغيره، وجدّه: بمهملة وآخره جيم مصغر.
ولي الشرطة أولاً، ثُمَّ فوض إِلَيْهِ عبد العزيز بن مروان القضاء، وذلك فِي ربيع الأول سنة ست وثمانين.
وقال سعيد بن عُفَيْر: جمع لَهُ القضاء وخلافة الفسطاط.
وقال ابن لَهِيعَة: كَانَ أول من نظر فِي أموال اليتامى. وضمَّن عريف كل قوم أموال يتامى تِلْكَ القبيلة. وكتب بذلك كتاباً وأشهد فِيهِ، فجرى الأمر عَلَى ذَلِكَ زمان عبد العزيز بن مروان، بعد تولية عبد الرحمن القضاء بقليل، إِلَى أن توفي عبد العزيز فِي جمادى الأولى من السنة. فقام بأمر مصر أخوه عمر بن مروان. فلما قدم عبد الله بن عبد الملك بن مروان أميراً فِي جمادى الآخرة، أمر أبوه أن يُعَفّى آثار عبد العزيز، لأنه كَانَ ولي العهد بعد عبد الملك. فأقر عبد الرحمن عَلَى القضاء والشرطة إِلَى شهر رمضان، فصرفه عنها وأرسله إِلَى المرابطة بالإِسكندرية، فزاد فِي عطائه. وَكَانَ أول مَا قدم أراد أن يعزله، فلم يجد عَلَيْهِ مقالاً ولا متعلقاً، فأمهله ثُمَّ أخرجه إِلَى المرابطة.
وكان عبد الرحمن فِي أيام ولايته قَدْ أضر بعبد الرحمن بن عمرو بن قَحذم. فلما قدم عبد الله بن عبد الملك، قرَّب عبد الرحمن بن عمرو، فأغراه بعبد الرحمن بن معاوية. فلم يزل حَتَّى استبدل بجميع عمال عبد العزيز عمه. وَكَانَتْ ولايته القضاء ستة أشهر. وعاش بعد ذَلِكَ إِلَى أن مات سنة خمس وتسعين.
عبد السلام بن علي بن منصور الكناني الدمياطي، تاج الدين ابن الخرَّاط. ولد فِي رمضان سنة إحدى وسبعين وخمسمائة، وقرأ القراءات عَلَى عبد السلام بن عُدَيْسَة. ورحل إِلَى بغداد فتفقه بالنظامية بالأمير مظفر بن أبي الخير التبريزي ورحل إِلَى واسط، فقرأ القرآن عَلَى عبد الله بن منصور ابن الباقلاني. وسمع من أبي الفرج ابن كليب، وابن الجوزي وأبي الفتح ابن المندائي وابن المَعْطُوش، وغيرهم.
ورجع إِلَى دمياط ودرس بِهَا، وولي قضاءها. ثُمَّ ولي قضاء مصر والوجه القبلي.
وكان شيخ الشيوخ صدر الدين، أشار عَلَى الكامل بأن يقسم العملين؛ مصر والوجه القبلي لقاض، والقاهرة والوجه البحري لآخر. ففعل ذَلِكَ بعد موت ابن السكري؛ فَوَلِي ابنُ عين الدولة القاهرة، وابن الخراط مصر. وسمع من جماعة من شيوخها وحدّث، وخرج لَهُ المنذري جزءاً وحدث بِهِ، وحدث عنه فِي معجمه.
ولما صرف القضاء فِي رمضان سنة سبع عشرة، رجع إِلَى دمياط قاضياً واستمر عَلَى ذَلِكَ إلى أن مات فِي ربيع الأول سنة تسع عشرة وستمائة.
عبد العزيز بن عبد السلام بن أبي القاسم بن الحسن بن المهَذَّب.. الشيخ الإِمام العلامة عز الدين السُّلَمِيّ، أصله من المغرب.
ولد بدمشق ونشأ بِهَا، وسمع من البهاء ابن عساكر، وحنبل بن عبد الله، وأبي القاسم الحَرَسْتانِي، وعبد اللطيف بن إسماعيل، وأبي طاهر الخُشُوعِيّ وغيرهم.

روى عنه ابن دقيق العيد، وَكَانَ يعظمه جداً، ويقول فِيهِ: شيخ الإسلام، ويقول فِيهِ: كَانَ من سلاطين العلماء.
وروى عنه أيضاً علاء الدين الباجي، والدمياطي وخرَّج لَهُ أربعين حديثاً من عواليه، وأبو الحسن اليُونيني، وخلائق من المصريين والشاميين، وتفقه فمهر.
وَكَانَ عالي الهمة بعيد الغَوْر فِي فهم العلوم. ودرس وأفتى وصنف وبرع، حَتَّى وصف بأنه بلغ رتبة الاجتهاد، وتخرج بِهِ جماعة. وَكَانَ قائماً بالأمر بالمعروف، لا يخاف فِي ذَلِكَ كبيراً ولا صغيراً، مع الزهد والتقشف، والورع والتفنن فِي العلوم.
وولي خطابة الجامع الأموي مدة. ثُمَّ اتفق أن الصالح إسماعيل ابن العادل، سلّم للفرنج بعض بلاد الساحل، فشق ذَلِكَ عَلَى أهل الخير. وخطب ابن عبد السلام، فلم يذكر الصالح فِي خطبته، وحطَّ عَلَيْهِ. فبلغ ذَلِكَ الصالح فعزله من الخطابة، وضيّق عَلَيْهِ بعد أن كَانَ حبسه مدة. ثُمَّ أفرج عنه بواسطة فرنجي كَانَ رآه وسمع قراءته، وهو فِي خيمة مُرَسَّماً عَلَيْهِ، فسأل عنه فقيل لَهُ: هذا كبير المسلمين. فأنكر أن يعامل مثلُه بمثل ذَلِكَ. فأفرج الصالح عنه. فتوجه إِلَى مصر، فتلقاه الصالح أيوب ابن الكامل ابن العادل، وفوّض إِلَيْهِ خطابة الجامع العُمري، وقضاء مصر والوجه القبلي عوضاً عن ابن عين الدولة بعد وفاته. وَكَانَ قرر فِي قضاء القاهرة والوجه البحري بدر الدين السنجاري. وَكَانَ مرَّ فِي توجهه إِلَى مصر، بالناصر داود ابن المعظم ابن العادل صاحب الكرك وهو بِهَا، فبالَغ فِي إكرامه، وسأله أن يقيم عنده فقال: هَذَا بلد ضيق عن علمي. وَكَانَ فِي قدومه إِلَى مصر رافق ابن الحاجب المالكي. وذكروا أنه لما قدم إِلَى مصر. ترك لحافظ الدين الكتابة عَلَى الفتوى. وَكَانَ كل منهما يحضر مجلس الآخر. وَكَانَ كثير التواضع لا يهتم بأمر مأكول ولا مشروب.
ومما اشتهر من شهامته، أنه حضر مجلس السلطان وَكَانَ اطلع عَلَى حانة يباع فِيهَا الخمر، ويفعل فِيهَا المنكرات. فقال: يَا أيوب كيْفَ يسعك فِي دينك أن تكون الحانة الفلانية فِي سلطانك؟ فقال: يَا مولانا، أنا مَا عملت هَذَا، بل هو من زمان أبي. فقال: أفترضى أن تكون ممن يقول يوم القيامة (إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ) فما وسعه إِلاَّ أن أمر بإِبطال ذَلِكَ.
وسئل الشيخ بعد أن انفصل المجلس. كيْفَ تجسرت عَلَى هَذَا السلطان مع شدة سطوته؟قال: رأيته قَدْ تعاظَم فِي موكبه، فأردتُ أن أهينه. فقيل لَهُ: فما خفته؟ فقال: استحضرت هيبة الله فِي قلبي، فصرتُ أراه كالقط. واستمر عَلَى هَذِهِ الطريقة إِلَى أن ترك جميع المناصب والولايات.
واشتهر أمره، وطار ذكره حَتَّى صار يضرب بِهِ المثل فيقال: مَا أنتَ إِلاَّ من العوام، ولو كنتَ ابن عبد السلام.
وكان مع ذَلِكَ حسن المحاضرة، كبير المروءة، عَلَى غاية من صفاء الذهن وفرط الذكاء. وَكَانَ يحضر السماع ويرقص. وَكَانَ يقول: مضت لي ثلاثون سنة لا أنام حَتَّى أمر أبواب الأحكام عَلَى خاطري.
وكان يقول: مَا احتجتُ فِي شيء من العلوم إِلَى أن أكمله عَلَى الشيخ الَّذِي أقرأه عَلَيْهِ. وَمَا توسطته، حَتَّى يقول لي: استغنيت عني واشتغل فِيهِ مع نفسك. ومه ذَلِكَ مَا كنت أتركه حَتَّى أختمه عَلَيْهِ.
ومن تصانيفه: التفسير، والمجاز فِي القرآن، وقواعد الإِسلام، والقواعد الصغرى، ومختصر النهاية، ومختصر الرعاية، والفتاوى المجموعة، والأمالي والفتاوى الموصلية، وعدة تصانيف لطاف.
وكان صرفه عن القضاء لغضبة غضبها من الوزير معين الدين ابن الشيخ فعزل نفسه. فقيل للسلطان: اعزله وإلا قال فيك عَلَى المنبر، كما قال فِي الصالح إسماعيل، فعزله من الخطابة، واقتصر عَلَى تدريس الصالحية إِلَى أن مات.
وسئل أن يقرر وظائفه لأولاده فقال: مَا فيهم مَن يصلح لَهَا، ولكنها تصلح للقاضي تاج الدين، يعني ابن بنت الأعز.
وكان صرفه عن القضاء فِي ذي القعدة سنة أربعين وستمائة. فاستقر بعده موهوب الجزَري، وَكَانَ ينوب عنه.
وكانت وفاته بالمدرسة الصالحية فِي عاشر جمادى الأولى سنة ست وستين وستمائة وصلّى عليه السلطان الظاهر بيبرس فمن دونه. ورثاه أبو الحسن الجزار بقصيدة أولها:
أما الفتاوى فعليها السلام ... مذ فقد الشيخ ابن عبد السلام

راعني الله لفقد امرئ ... قام بحق الله حق القيام
عبد العزيز بن علي بن أبي العز بن عبد العزيز بن عبد المحمود البكري البغدادي، عز الدين الحنبلي من المائة التاسعة.
ولد سنة سبعين وسبعمائة واشتغل وقرأ بالروايات، وتعاني عمل المواعيد، واختصر المغنى. وسمع من أصحاب سراج الدين القزويني. وتحول إِلَى القدس فسكنها زماناً، وولي قضاء الحنابلة.
ثُمَّ جرت لَهُ مع الباعوني، وهو يومئذ خطيب المسجد الأقصى كائنة، ففر إِلَى بغداد فأقام بِهَا مدة، وولي القضاء - عَلَى مَا زعم - ثُمَّ رجع إِلَى القدس، فوقع بينه وبين الهَروي. فدخل القاهرة فِي سلطنة المؤيد. فلما فتحت المدرسة المؤيدية فِي سنة إحدى وعشرين، قرر فِي تدريسها، ثُمَّ نقل إِلَى قضاء الشام فباشر مدة. ثُمَّ رجع إِلَى القاهرة بعد موت المؤيد، فوجد علاء الدين ابن المغلي قَدْ مات واستقر عوضاً عنه محب الدين البغدادي، فاتفقت لمحب الدين كائنة مع ابن مزهر، فصرف البغدادي، وقرر عز الدين.
وَكَانَ السلطان وجماعة من دولته يعرفونه من دمشق. وَكَانَ يظهر لهم التقشف الزائد بحيث كانوا يشاهدونه يحمل طبق الخبز إِلَى الفرن. ثُمَّ صرف بحيلة عملها ليستمر فِي القضاء، فانعكست عَلَيْهِ.
وكان ابن مزهر انحرف عنه لأمور متعددة. فاتفق أنه حضر عند ناظر الجيش عبد الباسط، فأمسك ذيله، وسأله أن يسأل السلطان فِي الاستعفاء من القضاء. وأن يرتب لَهُ مَا يكفيه، وينقطع فِي زاوية. وقصد بذَلِكَ أن تزيد رغبة السلطان فِيهِ. فكان كذلك، وحصل مقصوده. فَوَلَّدَ ابنُ مُزهر من هَذِهِ القصة شيئاً توصل بِهِ إِلَى عزله. وذلك أنه قال للسلطان: إن عز الدين أَلَحّ علينا فِي الاستعفاء، فقال لَهُ: فمن تولى؟ قال: محب الدين، فإن الَّذِي عزل بسببه، ظهر أن لا صحة لَهُ. فأذن فِيهِ فاستدعى بمحب الدين، وخلع عَلَيْهِ ونزل إِلَى الصالحية، وَلَمْ يكن عز الدين علم بشي من ذَلِكَ. فبغته الأمر، وبحث عن السبب إِلَى أن عرف من أين أتى، فسقط فِي يده. وصار يطوف ويكذّب من نقل عنه فلا يصدقه. وَكَانَ ذَلِكَ فِي سنة إحدى وثلاثين. فاستمر محب الدين إِلَى أن مات. وقرر عز الدين فِي غضون ذَلِكَ فِي القضاء بدمشق. ثُمَّ صرف فِي أول دولة الظاهر. واستقر ابن مفلح، فقدم القاهرة، فلم يتمكن من الإِقامة بِهَا، وأخرج إِلَى القدس فأقام بِهِ ِشيئاً. ثُمَّ دخل دمشق فأقام بِهَا مدة أخرى. ثُمَّ قدم القاهرة بعد ثلاث سنين، فسعى فِي العود إِلَى قضاء دمشق، فأجيب. واستمر فِيهِ إِلَى أن مات فِي شوال سنة ثمان وأربعين وثمانمائة بعد أن صرف عن القضاء.
عبد العزيز بن محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم بن صَخْر بن عبد الله بن إبراهيم بن أبي الفضل الكناني الحموي الأصل، نزيل القاهرة.
ولد بدمشق بالمدرسة العادلية فِي المحرم سنة أربع وتسعين وستمائة ونشأ بِهَا، وأحضر عَلَى أبي الفضل ابن عساكر، وعمر بن القواس، والعز إسماعيل بن الفرّاء، والحسن بن علي الجلال.
وسمع من أبيه ومن الأَبَرْقُوهِيّ، ومحمد بن حسين الفُوِّي، والدمياطي، وابن القيم والرشيد ابن المعلم، والفخر النويري، والرَّضِيّ الطَّبَرِيّ فِي آخرين، وسمع الكثير.
ثم حبب إِلَيْهِ الطلب لما كبر، فطاف عَلَى الشيوخ، وحصل الأصول والأجزاء. وقرأ الكثير، وأخذ الفقه عن جماعة، وشارك فِي العربية، وخطب بالجامع الجديد نيابة عن أبيه. ورحل إِلَى دمشق فلقي الفضلاء، وشهدوا لَهُ بالفضل، وأسمع ولده عمر بعد العشرين عَلَى إسحاق بن يحيى الآمدي وابن الشحنة وست الفقهاء وغيرهم.
قال الذهبي: طلب الحديث وعني بِهِ مع تصون وديانة وخير.
وقال فِي موضع آخر: إما مفت فقيه، مدرس محدّث، قرأ الكثير، وكتب الطباق وعني بهذا الشأن. وَكَانَ خيراً صالحاً حسن الخلق كثير الفضائل. سمعت منه، وسمع منِّي. وولي وكالة بيت المال وغير ذَلِكَ من المناصب. ثُمَّ ولي القضاء عوضاً عن القاضي جلال الدين القزويني، فصرف جميع من كَانَ الجلال استنابه، وقرر هو صهره تاج الدين المناوي، وأخاه ضياء الدين المناوي، ثُمَّ ذكر للسلطان أن جميع ولاة البرِّ ولاَّهم القزويني بالمال، واستأذنه فِي عزلهم، فعزل الجميع. وتولى المناوي تقرير غيرهم برأيه.

قال الإِسنوي: ولي قضاء الديار المصرية فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة فسار فِيهِ سيرة حسنة. وَكَانَ حسن المحاضرة كثير الأدب، حسن الخط مع السرعة سليم الصدر.
وآل أمر القاضي عز الدين إِلَى أنه تخلى عن المنصب لتاج الدين يفعل فِيِه مَا شاء، واقتصر هو عَلَى حضور المواكب بدار العدل يومي الاثنين والخميس، والإقبال عَلَى الاشتغال بالعلم، وحضور الدروس، والتخلي للعبادة.
وَكَانَ عفيفاً نزيهاً كثير العبادة، إِلاَّ أنه كَانَ قابض اليد عن البذل للفقراء والطلبة.
وحكى الجمال ابن أحمد فِي ترجمته، أنه كَانَ أقوى الأسباب فِي اتصال جنس الفقهاء بالترك، فخدموهم لينالوا بهم الوصول إِلَى مقاصدهم، لتعذرها عليهم من عند القاضي، فآل الأمر بذلك إلى أن استقرت المناصب العلمية كلها لمن لا يستحقها، انتهى.
وهذا لا شك أنه كَانَ موجوداً قبل عز الدين، إِلاَّ أنه كثر باعتماده عَلَى التاج المناوي، وَكَانَ قليل البضاعة فِي العلم، عارفاً بالشروط.
وَكَانَ العز جميل المحاضرة، كثير العبادة والتواضع والإِنصاف، والاقتصاد فِي المأكل والملبس.
صنف كتاب المناسك الكبرى عَلَى المذاهب الأربعة، أجاد فِيهِ، واختصره فِي مجلد لطيف. وصنف السيرة النبوية مختصرة. وَلَهُ مجاميع حسنة. وصنف نزهو الألباء فِي معرفة الأدباء، اقتصر فِيهِ عَلَى ترجمة من اتصلت لَهُ رواية شعره بالسماع أَوْ الإِجازة.
وكان الناصر قَدْ عظمه، وفوض إِلَيْهِ تعيين قضاة الشام. وَكَانَ يعتكف العشر الأخير من رمضان. فذكر شهاب الدين ابن قايماز - وَكَانَ معروفاً بالصدق - أنه دخل عَلَيْهِ فِي معتكفه، فسأله قضاء حاجة لشخص من الناس، فلم يرد عَلَيْهِ جواباً، فغضب. وَكَانَتْ لَهُ منزلة من الأمير شيخون، وهو يومئذ المشار إِلَيْهِ فِي تدبير المملكة، فقال يخاطبه: يَا مولانا، هَذَا حرام عَلَيْكَ، والتصدي لفصل أحكام المسلمين أفضل من هَذَا. وترك الواجب للنفل ممنوع. فلما أكثر عَلَيْهِ، قال لَهُ: أنا لي خليفة قَدْ تصدى لذلك فاكتفيت بِهِ. قال: لا تبرأ ذمتك بذلك. فلم يلتفت لذلك. فقلت: إن لَمْ ترجع عن هَذَا لأرفعن الأمر للسلطان. فلما رأى بعض من حضر أني غضبت سارَّه، فقال: يَا ولدي أنت تحب العلم والفقهاء، ولا تحضر مجلسي فِي الحديث، مَهْمَا كَانَ لَكَ من حاجة، فأعلمني ولا تنقطع عني. قال: فأفرطتُ فِي تعنيفه، وبينت لَهُ مَا الناس فِيهِ مع المناوي، وانصرفت عنه.
قال: ودخل إِلَيْهِ شاب مات أبوه وبيده وظيفة، فسأله فِيهَا فقال: خَرَجَتْ فألحَّ عَلَيْهِ، فقال لَهُ: الوظائف لا تورث. فقام من عند مكسور الخاطر. فدعا عَلَى أولاده أن لا تَقَرَّ بهم عينه ولا ينفعهم بشيء من وظائفه، فأُجيبت دعوته فيهم. وَلَمْ ينجب منهم إِلاَّ حفيده شيخنا عز الدين. لكن فِي العلوم لا فِي غيرها، بحيث أنني شاهدته والناس ينتفعون بما خلَّفه ابن عمه برهان الدين ابن جماعة، ولا يصل هو إِلَى شيء منه، مع شدة حاجته إِلَيْهِ حَتَّى منزل السكن.
واتفق أنه عزم عَلَى الحج فِي شهر رجب سنة أربع وخمسين، فخطب بجامع القلعة واستأذن على السلطان بعد الصلاة، وأعلمه بأنه عزم عَلَى الحج والمجاورة، فساعده شيخون، فقال لَهُ السلطان: فَعَيِّنْ لَنَا من يصلح للمنصب فقال: تاج الدين المناوي، وأطراه، ووصفه بالخير والقيام بأمر المنصب. فأعفاه السلطان وقرر تاج الدين، وَلَمْ يكن التاج حاضراً هَذَا المجلس، واعتذر العز لشيخون بأنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم فِي المنام وذكر مَا يدل عَلَى الإِشارة إِلَيْهِ بالسفر والمجاورة، ثُمَّ توجَّه.

فلما حضر عنده التاج عرَّفه أن السلطان ولاَّه فأظهر التمنع، فألزمه بالقبول فقبل واشتهر ذَلِكَ. وأصبح الناس يوم السبت يسعون فِي جهات التاج، حَتَّى قال شيخون للقضاة الثلاثة رفقته لما حضروا عنده القصر، يسألونه فِي عدم صرف عز الدين، وأنه يحصل بِهِ وبتقرير المناوي فساد كبير. فقال لهم: منذ وَقَع هَذَا إِلَى هَذِهِ الساعة، رفعت إليَّ نحو ستين قصة فِي وظائف التاج. وآخر الأمر، استقر الحال، إِلَى أن التاج يستمر عَلَى النيابة عن عز الدين، ويسافر عز الدين ويجاور، فإذا عاد استمر عَلَى وظيفته، فتكلم شيخون مع السلطان فِي ذَلِكَ، فأرسل إِلَيْهِ أَزْدَمُر الخازندار بذلك. فلم يزل بِهِ حَتَّى طلع معه يوم الاثنين، فخلع عَلَيْهِ السلطان وأعاده إِلَى المنصب، واستقر التاج عَلَى نيابته. ورجع من كَانَ سعى فِي وظائفه، وسافر القاضي ثُمَّ عاد فِي أول سنة خمس وخمسين. فلما كَانَ فِي شهور سنة تسع وخمسين، وَقَدْ آل الأمر فِي التكلم فِي أمور المملكة إِلَى صرغتمش، كَانَ عنده من عز الدين نفسٌ، فتكلم فِي تولية بهاء الدين ابن عَقِيل، وَكَانَ السبب فِي ذَلِكَ مَا تقدم فِي ترجمة ابن عقيل، فقرر فِي العشر الأخير من جمادى الآخرة سنة تسع وخمسين وسبعمائة، إِلَى أن قبض عَلَى صرغتمش، فصرف ابن عقيل فِي العشر الأخير من شهر رمضان، فكانت ولايته ثمانين يوماً. ثُمَّ أعيد العز ابن جماعة فاستمر إلى أن ولي الوزير فخر الدين ابن قَرَوينة فصار يناكِده فِي الأمور الشرعية، فضجر منه حَتَّى سأل الإِعفاء، فما أجابوه. فمات شخص وَلَهُ وارث ومال، فاحتاط الوزير عَلَى موجوده، فراسله العز بأن هَذَا وارث شرعي. فلم يصغ لقوله فحنق، وعزل نفسه، وأشيع ... .
عبد العزيز بن محمد بن النُّعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيُّون المغربي القيرواني، إسماعيلي من المائة الرابعة.
ولد فِي أول ربيع الأول سنة خمس وخمسين وثلاثمائة. وَكَانَتْ ولايته القضاء فِي يوم الخميس السادس عشر من رمضان سنة أربع وتسعين وثلاثمائة، وأضيف إِلَيْهِ النظر فِي المظالم، وخُلعت عَلَيْهِ الخلع عَلَى العادة، وحمل عَلَى بغلة وقِيدت بَيْنَ يديه ثِنْتان، وحمل بَيْنَ يديه سِفط ثياب، ودخل إِلَى الجامع فحضر فِي موكب حفِل، وقرئ تقليده عَلَى المنبر.
وكان أول أحكامه أنه أوقف جميع الشهود الذين قبلهم عمه الحسن مَا عدا شرف ابن محمد المقرئ، فإنه استكتبه فِي التوقيع والقصص، وكتب لَهُ فِي الإسجال عَلَيْهِ، قاضي القضاة عبد العزيز، قاضي عبد الله ووليه منصور أبي علي، الإِمام الحاكم الأمير المؤمنين - صلوات الله عَلَيْهِ وَعَلَى آبائه الطاهرين - عَلَى القاهرة المُعِزِية ومصر والإِسكندرية والحرمين وأجناد الشام والرحبة والبرقة والمغرب وأعمالها. وَمَا فتحه الله وَمَا يسَّر فتحه لأمير المؤمنين من بلدان المشرق والمغرب.
واستخلف عبدُ العزيز فِي الحكم مالك بن سعيد الفارقي وابن أبي العوام فِي الفرض. ولازم الشهودُ الذين لَمْ يقبلهم بابَه، فأرسل إليهم أنه قَدْ كثر تطارحكم عليَّ وتشفعكم فِي قبول الشهادة، فيلزم كل واحد منكم شغله. فمن احتجت إِلَى شهادته منكم أنفذت إِلَيْهِ، فانصرفوا عنه.
فلما كَانَ فِي السابع عشر من ذي القعدة، طلبهم واستحلفهم أنهم مَا كانوا سَعوا فِي طلب الشهادة عند عمه ولا رشوه ولا غروا لَهُ، فحلفوا عَلَى ذَلِكَ فقبلهم، وأصعد الحاكمُ عبدَ العزيز معه عَلَى المنبر فِي الجمع والأعياد عَلَى عادة من تقدمه، وامتدت يده فِي الأحكام وعلت منزلته. وجلس فِي الجامع وابتدأ فِي كتاب جَده اختلاف أصول المذاهب. وَفِي ولايته فوض الحاكم إِلَيْهِ النظر عَلَى دار العلم الَّتِي أنشأها وَكَانَ الحاكم بناها وأتقنها وجعل فِيهَا من كتب العلوم شيئاً كثيراً، وأباحها للفقهاء وأن يجلسوا فِيهَا بحسب اختلاف أغراضهم من نسخ ومطالعة وقراءة، بعد أن فُرشت وعلقت الستور عَلَى أبوابها، ورتب فِيهَا الخدام والفَرشة.

وتخصص عبد العزيز هَذَا بمجالسة الحاكم ومسايرته، فاحتاج القاضي إِلَى الإِذن لولده القاسم الأكبر فِي الحكم بالجامع وَكَانَ يجلس فِيهِ لسماع الأحكام، والفصل بَيْنَ الخصوم. وصار الناس يترددون فِي أمورهم منه إِلَى أبيه ومن أبيه إِلَيْهِ، وأمر ولده الأصغر أن يثبت كتب الناس ويفصل بينهم فِي مجلس حكمه بمنزله. وفوض إِلَيْهِ الحاكم أيضاً النظر فِي تركة ابن عمه حسين بن علي بن النعمان بعد قتله، فتسلم جميع مَا وجد لَهُ، وكذا فعل فِي تركة أبي منصور الجودري وهو من كبار دولته، وقدَّمه فِي الصلاة عَلَى جماعة من أوليائه، جرت العادة بأنه لا يصلى عليهم إِلاَّ الخليفة. وأمره فِي يوم عاشوراء أن يمنع النساء والناس من المرور فِي الشوارع، وَكَانَتْ سنتهم أنهم فِي يوم عاشوراء يخرجون النساء وغيرهن للنَّوْح والبكاء عَلَى الحسين، وينشدون المراثي فِي الشوارع وتمد الغاغة أيديهم إِلَى أمتعة الباعة، فرفعوا ذَلِكَ إِلَى الحاكم، فأمر القاضي أن يمنعهم من المرور فِي الشوارع وأن يختص النوح والنشيد بالصحراء. واتفق أن بعض الكتاميين كَانَ من عنده حق فامتنع من أدائه، وَكَانَ عنده شدة بأس وعجرفة، فرفع أمره إِلَى القاضي، فأنفذ إِلَيْهِ رسولاً فأهانه، فرفع الأمر للحاكم فأمر بإٍِحضار الكتامي مسحوباً إِلَى القاضي بمصر، ثُمَّ أحضر إِلَى القاهرة ماشياً، وألزم بالخروج مما عَلَيْهِ.
وأمره الحاكم بالنظر فِي المساجد وتفقد أوقافها، وجمع الرّيْع وصرفه فِي وجوهه ففعل ذَلِكَ وبالغ فِيهِ، وأفرد لذلك شاهدين يضبطانه.
وزوج القاضي ولديه بابنتي القائد فضل بن صالح، وَكَانَ الإملاك بالقصر عَلَى صداق أربعة آلاف دينار أنعم الحاكم بِهَا من بيت المال، فَخُلع عَلَيْهِ ثوبان مفصلان وست عشرة قطعة من الثياب المكفوفة، وحملا عَلَى بغلتين مسروجتين، وقِيد بَيْنَ يديهما مثل ذَلِكَ.
وتصلب القاضي فِي أحكامه، وارتفعت كلمته وتعزز عَلَى جميع أهل الدولة، وتقدم إِلَى جميع الشهود أن من يتخلف من البكور إِلَى حضور المجلس كل اثنين وخميس ألزم بمغرم ثقيل. وسأله خليفته فِي الحكم مالك بن سعيد، أن يستخلف الخليل بن الحسن عنه إذا طرقه أمر منعه من الركوب أَوْ التوجه إِلَى مجلس الحكم فأذن لَهُ. وَلَمْ يعهد ذَلِكَ لغيره، أن النائب يستنيب عنه فِي المدينة.

وذكر المسبحي فِي تاريخه فِي حوادث سنة سبع وتسعين وثلاثمائة مَا حاصله أن عليّ بن سليمان المنجم، وَكَانَ من خواص قائد القواد الحسين بن جوهر، أخبره أن القاضي زار الحسين بن جوهر القائد فِي داره يوم أحد فِي صيام النصارى، وَكَانَ عنده أبو الحسن الرَّسي والمسبحي ومن يخدمهم. فدخل الغلام، فقال: أبو يعقوب بن نسطاس الطبيب بالباب، فأذن لَهُ، فدخل وهم على المائدة، فأظهر السرور بِهِ وأحضر لَهُ عدة ألوان. ثُمَّ رفعت المائدة وقدم الشراب وَمَا يلائمه من الفاكهة والمشروب. فأقبلوا عَلَى عملهم إِلَى أن سكروا. فأما القاضي فانصرف، ونام القائد والرسي. واستمر أبو يعقوب الطبيب بالطارمة الَّتِي كَانَ بناها فِي ذَلِكَ المكان - وهي تطل عَلَى نهر كبير - يشرب ويطرب، إِلَى أن غلب عَلَيْهِ السكر. فخرج وطلب بغلته، فقدمت له بغلة الرَّسي فامتنع من ركوبها، فسأله الخدم أن يعود إِلَى مكانه إِلَى أن تحضر بغلته، فرجع إلى المكان الَّذِي فِيهِ الرسي فنام إِلَى جانبه فقام أحد الفراشين فرفع الستارة يتفقدها فرأى الرسي وَلَمْ ير أبا يعقوب، فدخل وطلبه، فلمح طرف ثوبه فِي الماء فاستدعى فراشاً يعرف السباحة فنزل إِلَى النهر فوجده قَدْ التَّفت ثيابه عَلَى وجهه فغطس فِي الماء، فأعلم الخدم القائد فاستدعى القاضي، وانتبه الرَّسي وشق عليهم ذَلِكَ، لعلمهم بمنزلته من الحاكم. فسألوني أن أَعلم الحاكم بذلك فدخلت إِلَيْهِ فذكرت لَهُ: أن أبا يعقوب قام من الليل وهو دهش فسقط فِي النهر، فإلى أن يصل إِلَيْهِ الفراش وجده قَدْ التف فِي ثيابه فغطس. فشق عَلَيْهِ وأظهر الأسف، وبحث عن الأمر، فعرفوه بصورة الحال، فهز رأسه ونكس، فإِذا بالقاضي والقائد والرسي قَدْ وصلوا إِلَى القصر مشاة بعمائم لطاف. فاستدعاهم فحلفوا وأكدوا لَهُ الأيمان إن كَانَ لَهُم فِي شأنه شيء، واستشهد القائد والقاضي بالرسي فشهد لهما بالبراءة من ذَلِكَ، فأمر بتكفينه ودفنه. وَكَانَ ذَلِكَ فِي أواخر سنة سبع وتسعين وثلاثمائة.
فلما كَانَ فِي يوم الخميس النصف من شهر رجب سنة ثمان وتسعين شاع بَيْنَ الناس أن عبد العزيز القاضي عزل، وقرر خليفته مالك بن سعيد، فارتفع النهار وَلَمْ ينزل إِلَى مجلس الحكم، إلى قرب الظهر، ثُمَّ نزل وحكم وصلى بالناس الظهر إِلَى أن انصرف بمفرده، من غير حاجب ولا رِكَابيّ حَتَّى دخل داره.
فلما كَانَ آخر النهار طاف جماعة عَلَى جميع أولياء الدولة، بأن يجتمعوا بالقصر بكرة، فحضروا. وحضر مالك بن سعيد، فقُلِّد جميع مَا كَانَ بيد عبد العزيز.
وَكَانَتْ مدة ولاية عبد العزيز ثلاث سنين وتسعة أشهر وثمانية وعشرين يوماً.
قال المسبحي: عَزَل عبد العزيز فِي أيام نظره فِي المظالم ثلاثة عشر نفساً وَفِي أيام قضائه نفسين.
واستمر عبد العزيز بعد عزله يتردد إِلَى القصر خائفاً يترقب القتل، إِلَى أن كَانَ الحادي عشر من جمادى الآخرة سنة تسع وتسعين؛ ركب القائد حسين بن جوهر والقاضي عَلَى عادتهما، فسلما وانصرفا، فأرسل إليهما، فحضر عبد العزيز أولاً فاعتقل، ورجع خادمه ببغلته. واختفى القائد وولده فكسر بابه، وحرّض الحاكم عَلَى تحصيله فتعذر عَلَيْهِ. فأمر بإِطلاق عبد العزيز، فرجع إِلَى منزله وَقَدْ أقاموا عَلَيْهِ العزاء، فسكَّنهم. وَكَانَ الباعة قَدْ أغلقوا حوانيتهم فأمرهم بفتحها. ثُمَّ بعد ثلاثة أيام حضر القائد بالأمان، فخلع عَلَيْهِ وَعَلَى عبد العزيز خلعاً سنية وحملت قدامَهُما ثياب كثيرة، وحملا عَلَى فرسين وقِيدت بَيْنَ أيديهما عدة خيول، وأعاد الحاكم النظر فِي المظالم إِلَى القاضي عبد العزيز، وقرئ سجله وخلع عَلَيْهِ خلعاً مقطوعة وطيلساناً، وحمل عَلَى بغلته وبين يديه أخرى، وحمل بَيْنَ يديه سفَط ثياب. فاستمر إِلَى تاسع عشر صفر سنة أربعمائة، ثُمَّ قبض عَلَى إقطاعه، وضرب عَلَى باب داره لوح باسم الديوان.
وفي أواخر رمضان أعرس ولدا القاضي بابنتي القائد الَّذِي تقدم عقدهما عليهما.

فلما كَانَ آخر المحرم سنة إحدى وأربعمائة، استشعر القاضي والقائد من الحاكم الغدر بهما. فلما كَانَ فِي التاسع من صفر، هرب القاضي وقائد القواد حسين بن جوهر وأتباعهما وصَحِبَهما جماعة، ومعهما من الأموال شيء كثير. وتوجهوا عَلَى طريق دُجْوة فلما بلغ الحاكم ذَلِكَ، ختم عَلَى دورهما، وأمر مالك ابن سعيد الفارقي بالركوب إِلَى دار القاضي والقائد حسين، وضبط مَا فيهما وحَمْلِه. فلم يزل القاضي والقائد مستترين إِلَى السادس من المحرم سنة إحدى وأربعمائة، فظهرا وكتب لهما الأمان من الحاكم، وخلع عليهما، فلازما الخدمة، إِلَى أن كَانَ يوم الجمعة ثاني عشر جمادى الآخرة منها، حضرا الخدمة وانصرفا. فأرسل إليهما فِي الحال فرجعا فقتل كلاًّ منهما جماعة من الأتراك فِي الدهليز، وختم فِي الحال عَلَى دورهما، وذهب دمهما هدراً. وأحيط عَلَى دورهما فِي الوقت، وقبض عَلَى كثير من أتباعهما، وصودروا.
وكان عبد العزيز عالماً بالفقه عَلَى مذهب الإِمامية كآل بيته، ولا سيما جده، وَقَدْ نسب إِلَيْهِ الشيخ عماد الدين ابن كثير، الكتاب المسمى البلاغ الأكبر والناموس الأعظم فِي أصول الدين، ووهم فِي ذَلِكَ. وإنما هو تصنيف عمه عليّ ووالده النعمان.
قال ابن كثير: وَقَدْ رد عَلَى هَذَا الكتاب القاضي أبو بكر الباقلاني. قال ابن كثير: وفيه من الكفر مَا لا يصل إبليس إِلَى مثله. كذا قال.
عبد الغني بن يحيى بن محمد بن عبد الله بن نصر بن أبي بكر الحراني، أبو محمد شرف الدين الحنبلي من المائة الثامنة.
ولد فِي شهر رمضان سنة خمس وأربعين وستمائة بحران. وَكَانَ جد أبيه عبد الله قاضياً بِهَا، وقدم الديار المصرية، فسمع بحماة من شيخ الشيوخ عبد العزيز بن محمد الأنصاري عن الحسن بن عرفة، وحدّث بِهِ. وولي القاهرة نظر الخزانة السلطانية ثُمَّ أضيف إِلَيْهِ قضاء الحنابلة، ودرس بالصالحية، وذلك بعد موت عز الدين ابن عوض فِي صفر سنة ست وتسعين فِي سلطنة المنصور لاجين.
وكان مشكور السيرة، حسن الخَلق والخُلق كثير المكارم.
وقال ابن رجب فِي طبقات الحنابلة: كَانَ مزجَى البضاعة فِي العلم. وَلَمْ يزل عَلَى ولايته إِلَى أن مات فِي شهر ربيع الأول سنة تسع وسبعمائة.
عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد بن سعيد الفارقي، إسماعيلي من المائة الخامسة، ولد سنة ... وَكَانَ أبوه قاضي طرابلس المغرب وانتقل إِلَى مصر فنشأ ولده واشتغل ومهر.
ثُمَّ ولي القَضَاء فِي خلافة المستنصر بعد صرف عبد الحاكم بن وهيب فِي شهر رمضان سنة ثلاث وخمسين. ثُمَّ أضيفت إِلَيْهِ الوزارة فاستخلف ولده عبدَ الملك أبا الحسن عَلَى الحكم، فنزل إلى الجامع العتيق، وسمع الشهود، ووقَّع فِي جميع الأمور نيابة عن أبيه، ولقب هو الوزير الأجل عميد الرؤساء مجد المعالي كفيل الدين، صفوة أمير المؤمنين.
وهو أول من ولي الوزارة من أهل بيته، قال أبو القاسم ابن مُنْجِب: كَانَ عبد الكريم فاضلاً موصوفاً بالخير. وَكَانَتْ ولايته وولاية ابنه القضاء فِي سنة ثلاث وخمسين وأربعمائة وصرف عن قرب فِي أول المحرم سنة أربع وخمسين ومات هو فِي الرابع من المحرم منها.
عبد المحسن بن محمد المكرمي تقدم فِي الحسين بن علي.
وقيل أنه ولي القضاء بعد أبي الطاهر إسماعيل بن سلامة بعد الأربعين وخمسمائة.
عبد الملك بن عبد الكريم بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، تقدم ذكره مع أبيه، وهو يكنى أبا الحسن، إسماعيلي من المائة الخامسة.
عبد الملك بن عيسى بن دِرْبَاس بن فِيْر بن جَهْم بن عَبْدُوس الهَذَباني الماراني، نسبة إِلَى قبيلة من الأكراد، يقال لَهَا ماران، بجنب الموصل. أبو القاسم صدر الدين الكردي، شافعي من المائة السادسة.
ولد في أواخر سنة عشر وخمسمائة، وتفقه بأبي سعد بن أبي عصرون، وبأبي الحسن علي بن سليمان المرادي، وسمع منه ومن أبي القاسم الحسن بن الحسين الأسدي المعروف بابن البُن، ومن أبي القاسم ابن عساكر، ومن علي بن إبراهيم الأنصاري المعروف بابن بنت أبي سعد وغيرهم. وخرّج لَهُ أبو الحسن ابن المفضل أربعين حديثاً، قرأها عَلَيْهِ وأسمعها الناس بقراءته. وسمع هو أيضاً من ابن المفضل.
وكان قبل أن يقدم مصر، مشهوراً بالصلاح والخير والغَزْو وطلب العلم، حَتَّى كانوا يتبركون بآثاره للمرضى، ويُقْصَد لذلك.

ثم برع فِي الفقه، وقدم الديار المصرية مع السلطان صلاح الدين، فقرره فِي القضاء بِهَا فِي جمادى الآخرة سنة ست وستين وخمسمائة، وَكَانَ قبل ذَلِكَ ولي قضاء الغربية، وأضاف إِلَيْهِ القضاء بكثير من البلاد الشامية، وقرر فِيهَا النواب. ثُمَّ أضاف إِلَيْهِ الأحباس، فاستخلف عَلَى الحكم أخاه ضياء الدين عثمان، ثُمَّ استنابه عليّ بن يوسف الدمشقي، وَكَانَ قَدْ قدم الديار المصرية واشتهر بِهَا.
واستمر القاضي صدر الدين عَلَى ولايته مدة السلطان صلاح الدين إِلَى أن مات فِي سنة تسع وثمانين. وسلطنوا ولده العزيز، فاستمر بالقضاء عَلَى ولايته إِلَى أن وقع بينه وبين نائبه علي بن يوسف، وَكَانَ يقول إنه استناب بغير رضاً منه. وذلك أن عليّ بن يوسف، كَانَ يخدم الأتراك الذين فِي خدمة العزيز ابن صلاح الدين، فسألهم أن يتحدثوا لَهُ مع القاضي أن يستنيبه، فلم يسعه مخالفتهم، فاستنابه. ثُمَّ أشهد عَلَى نفسه أنه لَمْ يرضَ بِهِ نائباً عنه، فشق عَلَى عليّ بن يوسف فكثّر عَلَيْهِ الشناعات، وانقطع عن التردد إِلَيْهِ، وصار يستبد بكثير من الأمور إِلَى أن حضر للقاضي عقد امرأة مملوكة، عند سيدها، فشهد عَلَيْهَا أنها أذنت لَهُ فِي تزويجها بعد الإِشهاد عَلَى سيدها بعتقها فعقده القاضي، فقال لَهُ ابن يوسف: قَدْ كَانَتْ أذنت لي بعقد نكاحها قبل هَذَا الإذن، فأجيب بأن العقد لا يصح قبل صحة العتق، فأخرق القاضي بالشهود الذين شهدوا لابن يوسف بالإِذن الأول، فتعصب الأتراك لابن يوسف، ورفعوا الأمر للسلطان، ورموا القاضي بأنه يسلك مع ابن يوسف حظ نفسه بغير حجة فغضب السلطان، وبعث السري إِلَى القاضي يعتبه عَلَى ذَلِكَ. فأعاد الجواب أنه نقل لَهُ عنه أنه ارتشى فِي الحكم، وأنه راسل فلانة يراودها عن نفسه. فغضب السلطان من هَذَا الجواب، فأغرى الأتراك الذين تعصبوا لابن يوسف، حَتَّى حملوه عَلَى أن أمر بعزله، واستقرار ابن يوسف فِي الحكم بالقاهرة، وأن يستمر نائب الصدر بمصر عل حاله، إِلَى أن يرى السلطان رأيه. فقام جماعة من الأعيان فِي نصرة الصدر، وبالغُوا فِي الثناء عَلَيْهِ، فأجابهم السلطان بأنه رمى نائبه بأمر إن أثبته عَلَيْهِ فهو مستمر ويعزل نائبه، إلا فقد فسق بما قاله فِي حق نائبه.
فلما عجز القاضي عن إثبات مَا قاله فِي حق ابن يوسف، صرح العزيز بعزل الصدر، واستقلال ابن يوسف، وذلك فِي ربيع الأول سنة أربع وتسعين. ثُمَّ أعيد الصدر فِي المحرم سنة خمس وتسعين. ثُمَّ صرف فِي ربيع الآخر سنة خمس وتسعين. وأعيد ابن يوسف، ثُمَّ صرف. وأعيد الصدر، فلم يستنب فِي هَذِهِ الولاية أخاه، وأضيفت إِلَيْهِ فِي هَذِهِ الولاية الخطابة والأحباس والحسبة ودار الضرب. ووقع بينه وبين أخيه الضياء عثمان شارح (المهذب)، اختلاف فِي العقيدة فهجره، حَتَّى إنه لما مات لَمْ يُصلّ عَلَيْهِ. وامتنع من دفنه بمقبرته. وَكَانَ إِذَا ذكره تلا قوله تعالى: (لاَ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللهَ وَرَسُولَهُ) الآية. ثُمَّ يقول لَمْ يبق لَهُ الحقُّ أخاً.
وكانت وفاته كما قال المنذري: مات فِي ليلة الخامس من شهر رجب سنة خمس وستمائة، القاضي الأجل قاضي القضاة أبو القاسم ابن دِرْبَاس. ودفن بتربته بسفح المُقطَّم. وشهد دفنه جمع كثير من الأعيان، منهم شرف الدين ابن عين الدولة الَّذِي ولي القضاء من بعد ذَلِكَ؛ فأنشد عند مواراته فِي لحده:
يَا أَيُّها الملأ المجمّع حوله ... كشيوخه وكهوله وشبابهِ
هل فيكم من مُنْتَمِي إِلاَّ لَهُ ... أَوْ فيكم من سيد إِلاَّ بِهِ
عبد الملك بن محمد بن أبي بكر بن محمد بن عَمرو بن حزم الأنصاري المدني الحَزْمِيّ الأعرج، من المائة الثانية يكنى أبا الطاهر. ولد سنة ... وسمع من أبيه وعمه عبد الله روى عنه المُفضَّل بن فضالة، ومحمد بن إسماعيل بن أبي فديك، وعبد الله بن وهب وعبد الله بن صالح العِجْلِيّ، وسعيد بن عُفَيْر.
قال ابن يونس: ولي القضاء من قبل الهادي موسى بن محمد. وقدم مصر فِي أول سنة سبعين ومائة.

حدثنا أسامة بن أحمد بن يحيى بن الوزير، حدثنا يحيى بن بُكَيْر: قدم علينا عبد الملك بن محمد الحزمي قاضياً، وَكَانَتْ أحكامه عَلَى مذهب أهل المدينة؛ القاسم وسالم، وربيعة، والزهري.
وقال ابن يونس: وَكَانَ متضلعاً بِهَا، حافظاً لَهَا. وَكَانَ شديد التفقد للأيتام والأحباس، منكراً عَلَى من يرى فِيهِ خللاً بالضرب وغيره.
وكان متضلعاً بمذهب أهل المدينة. وَكَانَ يتفقد الأحباس بنفسه ثلاثة أيام من كل شهر، يأمر بمرمتها وإصلاحها وتنظيفها، ومعه طائفة من العمال عليها. ويجلد كل من أخل بشيء من أمرها عشر جلدات.
وكان يقضي بالشاهد واليمين. قال يحيى بن بُكَيْر. وَكَانَ ضَرُوباً لمن يرى فِيهِ خللاً. واستكتب وَرْشاً المُقرئ المشهور، وخلف بن قادم وغيرهما.
وقال عبد الرحمن بن عبد الحكم: حدثني أبي قال: كتاب صاحب البريد واسمه يزيد بن عمرو الطائي إِلَى عبد الملك: إنَّك تُبَطِّئُ بالجلوس للناس، فقال لَهُ: إِذَا كَانَ أمير المؤمنين أمرك بشيء، وإلا ففي أُكُفِك وبراذعك ودَبَرَ دوابك مَا يُشغلك عن أمر العامة، ثُمَّ استعفى.
وذكر أبو عمر الكندي أن يزيد بن عمرو، كتب إِلَيْهِ فِي خصم يوصيه بِهِ، فكتبَ إِلَيْهِ: ما أنت والقضاء، عَلَيْكَ بِدَبَر دوابك وبراذعها وكنس زبولها. فكتب صاحب البريد إِلَى الرشيد يعيبه ويقول: إن الناس قد شَكَوا منه. فأتى كتاب الخليفة إِلَى داود ابن يزيد بن حاتم، وهو يومئذ أمير مصر يأمره أن يوقف الحزمي للناس. فأمر داود بِهِ فأقيم. فانطلقت الألسنة بالثناء عَلَيْهِ بالخير، وركب الليث بن سعد، وعاصم بن العلاء وابن لهيعة، إِلَى الأمير فأثنوا عَلَيْهِ. فقال الزمي لداود: قَدْ جاءني الفرج. وَفِي هَذِهِ الفرصة لتأتين العافية ولست تصل رحمي بمثل إعفائي. فقال لَهُ: فمن يصلح بعدك؟ فقال: رضيت لَكَ المفضَّل بن فضالة فأعفاه.
وإنما كَانَ صاحب البريد يكاتب الخليفة بأخبار القضاة، لأن المنصور كَانَ أول من اتخذ ذَلِكَ مبالغة فِي الاطلاع عَلَى أحوال الرعية. وكان يقول: أحتاج إِلَى أربعة لا يكون أحد أعف منهم، هم أركان الملك، كما أن السرير لا يستقيم إِلاَّ بأربعة قوائم؛ وهو قاضٍ لا يأخذه فِي الله لومة لائم، وصاحب شرطة ينصف الضعيف من القوي. وصاحب خراج يستقضي الحق ولا يظلم. ثُمَّ عض إصبعه وقال: آه آه عَلَى الرابع. فقيل: من هو؟ قال: صاحب خبر يكتب إليّ بأخبار الحكام عَلَى الصحة.
وكان يرسل إِلَى كل بلد صاحب خبر يكاتبه بالأسعار وقضاء القاضي، وحكم صاحب الشرطة، وَمَا يرد إِلَى بيت المال إِلَى غير ذَلِكَ من الأحداث.
وكان المنصور إِذَا صلى المغرب قرأ الكتب، ونظر فِي الأسعار، فإن تغير منها شيء، سأل عن السبب. ولا يزال يتلطف حَتَّى يعود إِلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ، ويسأل عما يشك فِيهِ من قضاء القاضي إلى أن يقف عَلَى الصحة فِيهِ، فيكتب إِلَيْهِ بِهِ ويوبخه فيما ينقل إِلَيْهِ عنه، إن كَانَ خالف شيئاً من ذَلِكَ.
وقال أبو القاسم ابن عبد الحكم فِي فتوح مصر: لما صرف أبو الطاهر وتوجه للعراق، سئل عن ذلك فقال: إنما ظننت أتي لا أعفى، ولولا ذَلِكَ مَا استعفيت من مصر، فإنها زاوية صالحة. ولمَّا قدم بغداد ولاّه الرشيد قضاء الجانب الشرقي من بغداد.
وكانت مدة ولايته عَلَى قضاء مصر أربع سنين وأربعة أشهر. وصرف فِي جمادى الأولى سنة أربع وسبعين ومائة ومات ببغداد سنة ست وسبعين. وصلى عَلَيْهِ الرشيد. وفيها أرخه ابن يونس.
عبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حُدَيْج السَّكُونِيّ. تقدم نسبه فِي ترجمة أبيه يكنى أبا ... من المائة الثانية.
ولد سنة أربع وستين ومائة، وولاه عبد الله بن عبد الملك، القضاء بعد صرف عمران بن عبد الرحمن بن شُرَحْبيل، فِي صفر سنة تسع وثمانين. وَقَدْ ذكر ابن يونس، أنه روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديثاً أرسله وهو النهي عن أكل الطعام الحار حَتَّى يبرد. رواه عنه الحسين بن هانئ الحضرمي.
قال أبو عمر: كَانَ عمر لما ولي القضاء خمساً وعشرين سنة. فلم يتعلق عَلَيْهِ بشيء.

وقال ابن يونس: أضاف إِلَيْهِ عبد الله بن عبد الملك الشُّرَط، ثُمَّ صرفه قرة بن شريك عن القضاء فِي ربيع الأول سنة تسعين. فكانت مدة ولايته سنة واحدة. وعاش إِلَى أن توفي سنة ثلاث عشرة ومائة. وقيل سنة خمس عشرة. قال ابن يونس.
عبد الوهاب بن الحُسَيْن المهلبي، وجيه الدين ابن أقضى القضاة سديد الدين أبي علي بن أبي القاسم عبد الوهاب بن بركات بن علي بن غياث بن قاسم بن المهلب بن أبي صُفرة. كذا نسبه بعض الناس، وَقَدْ سقط بَيْنَ قاسم والمهلب أكثر من ثلاثة عشر أباً، إن كَانَ المهلب المشهور. وإن كَانَ آخر يسمى المهلب فلا سقط.
وقد وجد من يوافق المهلب المشهور فِي اسمه وَفِي كنية والده، وهو شيخ ابن بطال شارح البخاري.
ولد القاضي وجيه الدين فِي ... واشتغل بمصر عَلَى جماعة، واجتمع بالقاضي عناد الدين السكري فِي أواخر أيامه، وَعَلَى البهاء ابن بنت الجميزي. وأخذ عن الزكي عبد العظيم بمصر، وأخذ بدمشق عن ابن الصلاح، وابن عبد السلام، ثُمَّ رجع إِلَى مصر فدرس بالمجدية، وهو مكان وقفه مجد الدين المهلبي عَلَى من يدرس بمكان معين بجامع عمرو بن العاص. وَكَانَ لَهُ يوم جلوسه محفل عظيم. وَكَانَ يُلقى فِيهِ بعد الدرس العام درساً فِي أصول الدين، اتباعاً لشرط واقفه، وَكَانَ أتقن الأصلين عَلَى طريقتي الإمام فخر الدين والسيف الامدي، أخذهما عن الأفضل الخونجي والحسن وشاهين.
وكان رفيع القدر عند القاضي تاج الدين ابن بنت الأعز وغيره، مشاراً إِلَيْهِ فِي الأمور، يرجع إلى رأيه فِي النقض والإِبرام فِي المهمات. وَكَانَ مع ذَلِكَ متواضعاً. فباشر أموره بنفسه مع إكبابه عَلَى الاشتغال والمباحثة والاستفادة.
قال: وَكَانَ لا يشق غباره، ولا يتوقع عثاره. وتولى مشيخة ميعاد علاء الدين الضرير بمضر.
ويدل عَلَى جلالة قدره، عظمة من تخرج بِهِ من الفضلاء؛ كالعَلَم العراقي والعلم السمنودي، والعِزّ ابن السيف، والعلم ابن الصيفي القمني، والكمال عبد الغني والظهير يحيى، وابن الرفعة، والطبقة الَّتِي بعد هؤلاء كالزين ابن البياع والفلك ابن بن السكري، والعماد المهلبي والقطب البياني وغيرهم والطبقة الأخيرة. وَلَمْ يكن أحد ممن يوازيه فِي السن أكثر اشتغالاً منه. قطع عمره بَيْنَ قراءة وإقراء.
وولي الحكم فِي هر رمضان سنة ثمانين وستمائة، أَوْ فِي أواخر شعبان بعد وفاة ابن رزين مباشرة دون سنة. ثُمَّ استعفى من قضاء القاهرة وَمَا معها فِي رجب سنة إحدى وثمانين لسكناه بمصر ومشقة الركوب عَلَيْهِ، واستمر عَلَى قضاء مصر إِلَى أن مات فِي جمادى الآخرة سنة خمس وثمانين وستمائة.
عبد الوهاب بن أبي القاسم خلف بن أبي الثنا محمود بن بدر العَلاَمِيّ، بمهملة وتخفيف اللام، وهي قبيلة من لَخْم، تاج الدين المعروف بابن بنت الأعز.
ولد سنة أربع وستمائة، ومات أبوه وهو صغير فِي ذي القعدة سنة اثنتي عشرة. وَكَانَ عظيم القدر فِي الدين والورع والصيانة، فسكن دَمِيرَى بالغربية، فربى فِي حجر جَده لأمه الصاحب فخر الدين مِقْدَام بن الكمال ابن شُكر. وَكَانَتْ أم والده تاج الدين بنت أبي المنصور بن ظافر شيخ المالكية. وَكَانَتْ النجابة لائحة عَلَى التاج من صغره. فنشأ ذكياً قوي الحافظة. انقطع للاشتغال مدة طويلة بمدرسة زين التجار. وأخذ عن فضلاء عصره كالشيخ شرف الدين ابن اللبيب، والضياء ابن الوراق، وابن السكري، والأفضل الخونجي والمجد ابن دقيق العيد، وأذن لَهُ بالإفتاء والتدريس. وأخذ الحديث عن جعفر بن علي الهمذاني، وأخذ أيضاً عن ابن عبد السلام، وابن الجميزي، والمنذري، والشريف الأرموي قاضي العسكر فِي آخرين. وأعاد بالمدرسة المذكورة عنده، وولي نظرها.
ويقال إنه لَمْ تعرف لَهُ صبوة حَتَّى كَانَ الطلبة إِذَا فرغوا من الاشتغال يتمازحون ويمزحون، وهو لا يخالطهم حَتَّى كانوا إِذَا رأوه سكتوا عما هم فِيهِ هيبة لَهُ. ثُمَّ إن الكامل طلب رجلاً يكون أميناً عاقلاً عارفاً بالحساب، فدله عَلَيْهِ الشريف فولاه شاهد بيت المال، فجهد عَلَى أن يعفيه من ذَلِكَ فأبي عَلَيْهِ.

وكان التاج توجه صحبة جده الصاحب الأعز ابن شكر إِلَى الإسكندرية، فتعلم بِهَا الكتابة والحساب فمهر فِيهِ لفرط ذكائه، حَتَّى كَانَ يضرب بِهِ المثل فِي معرفته. ثُمَّ اتسعت معارفه وكثرت فضائله، وضرب فِي كل فن بسهم. قال مؤتمن الدين الحارث بن الحسن بن مسكين فِي السيرة الَّتِي جمعها لَهُ: حضر يوماً مجلس ابن عبد السلام، فجاءت إِلَيْهِ فتياً، فأمر القاضي تاج الدين أن يكتب عَلَيْهَا بحضرته فكتب واستحسن ذَلِكَ الشيخ، ثُمَّ ولاه الصالح أيوب نظر الدواوين. ثُمَّ فوض إِلَيْهِ النظر فِي التواقيع فوقع عنه، فصارت تعرض عَلَيْهِ ويكتب بخطه ويجعلها فِي كيس، ويختم عَلَيْهَا. فلا يكتب السلطان عَلَى شيء منها، حَتَّى يرى خطه.
قال الشيخ شمس الدين ابن القماح: قال لي ابن دقيق العيد: قلت للقاضي تاج الدين: لو تفرغت للعلم لكنت أعظم من ابن عبد السلام!. وقال القاضي نور الدين ابن الصائغ: كَانَ حجة الله عَلَى قضاة عصره.
وكانت أول ولايته للقضاء فِي سنة أربع وخمسين بعد عزل بدر الدين السنجاري. ثُمَّ صرف فِي سنة خمس وخمسين بالبدر. واستقر هو فِي الوزارة عوضاً عن البدر، ولك فِي ربيع الأول منها. ثُمَّ صرف عن الوزارة بيعقوب بن الزبير، فِي سلطنة المظفر قُطز، وذلك فِي عاشر ذي القعدة سنة سبع وخمسين. وأعيد التاج إِلَى القضاء فِي عاشر جمادى الأولى سنة تسع وخمسين، وذلك فِي سلطنة الظاهر بيبرس. ثُمَّ فِي ثالث شوال منها، أفردت مصر لبرهان الدين الخضر ابن علي السنجاري. فاستمر فِيهِ إِلَى أن مات.
ويقال إنه أول مَا ولي القضاء، أفردت لَهُ مصر عن القاهرة، واستمر البدر السنجاري فِي قضاء القاهرة. فاتفق أن الركن والي مصر، ركب مع المعز أيبك فسأله عن أحوال مصر فقال لَهُ: يَا مولانا، مصر سعدت بالقاضي تاج الدين. فقال لَهُ: فالقاهرة؟ قال: فِيهَا القاضي بدر الدين. فقال المعز: يضاف للقاضي تاج الدين جميع الأعمال. فكتب لَهُ تقليد عظيم بذلك. فسار فِي ذَلِكَ سيرة عظيمة شهيرة. فإنه بسط العدل، ورفع قدر الشرع، وتصرف تصرفات استحسنها كل من عرف بِهَا. وتفقد أحوال الشهود، واستفسر عن أحوالهم وأسقط جماعة وأذن لمن ارتضاه.
وكان من أول مهاباً، فازدادت هيبته مع الحِلم والعفو عمن يسيء إِلَيْهِ.
ومن آثاره المستحسنة فِي الوزارة، أنه لما وليها كَانَتْ العادة قَدْ جرت من عهد طروق الططر البلاد، أنه يؤخذ من أملاك الناس فِي كل سنة أجرة شهرين. فقام القاضي تاج الدين فِي ذَلِكَ بأمور القضاء والوزارة، لا يكاد يخفى عَلَيْهِ شيء من الأمور المتعلقة بِهِ، حَتَّى حكى المؤتمن المذكور، أنه أمر بشراء دواب لنقل آلات العمارة فِي الأوقاف، فلما استغنوا عنها استأذنوه فِي بيعها بعد مدة طويلة فأذن. فأخبره المأذون أنه باع منها الشيء الفلاني بكذا. فقال لَهُ: استفدت فِيهِ كذا، فكشف عن أصل المشتري منه، فوجد كما قال. وعمر فِي أيامه الجامع العتيق بمصر ونمَّى أمواله، وكذلك أموال الأوقاف والأحباس.
ومما حكاه المؤتمن فِي قيامه فِي الحق، أن تاجراً بمصر كَانَ يقال لَهُ ابن الأخرم كَانَتْ لَهُ جارية جميلة فأحبها حباً شديداً حَتَّى أنه أعتقها وتزوجها. تمادت الأيام فانكسر هو وأبوه وأحيط بهما، وحبسا، وبيع موجودهما. فبلغ الأمير ركن الدين المَشْطوبي، وَكَانَ من الأكابر فِي عصره، وَكَانَ القاضي يصحبه، وهو أكبر من سعي لَهُ فِي ولاية قضاء القاهرة، من أول مرة، حَتَّى كمل لَهُ العمل. فبلغ الركن جمال الجارية المذكورة. فراسل سيدها، فاعتذر لَهُ بعتقها، فما قبل منه وألزمه بيعها، فأشهد عَلَيْهِ بأنه باعها وانتقلها الركن. فأقامت عنده مدة، حَتَّى ولدت لَهُ. فلما ظهر قيام القاضي فِي الحق، وأنه لا يحابي فِيهِ أحداً، حضر عنده التاجر وشكا إِلَيْهِ حاله، فطلب الركن فادعى عَلَيْهِ التاجر بأنه اغتصب منه امرأته، فأخرج العهدة ببيعها، فأجاب بأنه أفلس فباعها. فقال لَهُ القاضي لا يصح البيع فِيهَا. فقال: أَيُّها القاضي إنها قَدْ ولدت مني فلم يلتفت لقوله وألزمه بإِحضارها وأحضر التاجر البينة الشاهدة لَهَا بالعتق والتزويج. فحكم عَلَيْهِ بتسليمها لزوجها. وَلَمْ يلتف إِلَى مَا تقدم لَهُ عَلَيْهِ من المساعدة، وأنفذ فِي حكم الشرع بعد عدة سنين.

وكان إِذَا ظهر لَهُ الحق لا يحابي فِيهِ صاحباً ولا أحداً من الأكابر.
قال: وَكَانَ كثير الحلم قليل الغضب، وربما غلب عَلَيْهِ فيقهر نفسه بالسكوت، قليل المؤاخذة.
قال: ولما مات البدر السنجاري حضر الصلاة عَلَيْهِ فقيل لَهُ: تقدم. فوقف طويلاً بك كبّر، فسئل عن ذَلِكَ فقال: كَانَ قَدْ بلغني عنه أشياء كَانَتْ فِي نفسي عَلَيْهِ، فَرَضَّيت نفسي حَتَّى حالته ثُمَّ صليت عَلَيْهِ.
وكان عند الأمير جمال الدين أَيْدُغْدِي العَزِيزيّ فقيه يعلم أولاده، فسأله أن يكلم القاضي فِي تعديله، فراسله فِي ذَلِكَ، فامتنع. فأرسل إِلَيْهِ جماعة زكُّوه فلم يتجه لَهُ قبولهم. فراسله مع عجمي يقول لَهُ: كَيْفَ ترد شهادة هؤلاء مع أن عدالتهم مشهورة، ويشهد عندك الأتابك، وهو يفعل بمماليكه كذا، وتقبل شهادته فأجابه بأن حلف بأنه مَا عرف بهذا. وقال للعجمي، قل لَهُ: إن شهدت عندي باشتهار الأتابك بهذا، أسقط شهادته، فتحير الأمير العزيزي لما سمع الجواب، وبقي فِي خشية أن يبلغ ذَلِكَ الأتابك. فبلغ ذَلِكَ القاضي فراسله بأنه لا يفشى ذَلِكَ عنه.
قال: وَكَانَ من تصميمه عَلَى الق، لا يصل أحد من الأكابر لا من الأمراء ولا من غيرهم لشيء يريده، إِلاَّ إن وافق الشرع.
ودخل عَلَى الملك الظاهر يوماً وَقَدْ أشهد عَلَى نفسه فِي مكتوب حبس فِيهِ داراً عَلَى جهة من جهات البر، وجعل النظر فِيهِ للقاضي تاج الدين. فقال: يَا مولانا السلطان، أَوْ بطريق النظر الخاص؟ فقال لَهُ: أنت لا تروح من الحكم حَتَّى أموت أنا أَوْ تموت أنت. وَكَانَ كذلك، مات القاضي وهو عَلَى حالته، وَقَدْ عجز كل كبير فِي الدولة عن إزالته.
قال ومن أعجب أمره أنه كَانَ لَهُ أربعة أولاد نجباء، حَتَّى كَانَ أكبرهم يقاربه فِي المنزلة، مَا سمع أحدٌ يقول فِي مدة ولايته، قال ابن القاضي ولا فعل ابن القاضي، حَتَّى إن من لا يعرف أنهم أولاد القاضي يظنهم أجانب عنه.
وقال الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان: دخلت يوماً إِلَى القاضي تاج الدين فقلت لَهُ: أنت تكثر الركوب مع السلطان، وَكَانَ القاضي عز الدين ابن عبد السلام لا يركب معه. فقال: مَا أركب معه إِلاَّ لأجل الأمراء، ليوهمهم قربه معه وخصوصيته بِهِ.
وكان من أثبت الناش جأشاً، لا يخلو من ورود أمر يهتم بِهِ، فلا يَتَضَعْضَعْ لشيء، ولا يخضع.
قال: ومن حسن تصرفه أنه كَانَ لبعض المحاجير حصة فِي بستان، فِيهِ نخل كثير، فاحتيج لبيعها، فسويت ثمناً كبيراً، لأن الشريك كَانَ شديد الوطأة، وقال بعض مَن يعرف قيمة الأشياء: إن قسن البستان بلغت حصة اليتيم ضعفي الثمن المذكور. فأرسل القاضي من لَهُ خبرة، فكشف عنه، فعاد وأخبره أنه لا تتأتى فِيهِ القسمة إِلاَّ عن تَراض. وَكَانَ الشريك يُعرف بالشريف زين الدين ابن قميحة، فاستحضره القاضي، وألاَنَ لَهُ القول وباسَطه، وكلّمه فِي ذَلِكَ وهو يتوقف. فزاد القاضي فِي التلطف معه إِلَى أن قال لَهُ: أنت نائبي. فانخدع بذلك ومضى مع الشهود حَتَّى قسم البستان، وأفردت حصة اليتيم، فبيعت بأضعاف ثمنها. وكثر دعاء الناس للقاضي لعلمهم بشدة بأس ذَلِكَ الشريك وشدة لَدَدِهِ.
ومن تحرّيه أنه أرسل بعض التجار ليشتري لَهُ خادماً بثلاثين ديناراً من اليمن، فأخذها واشترى بِهَا خادماً وأحضره فأقام فِي جهته مدة. وَكَانَ بَيْنَ القاضي والتاجر حساب، فحاسبه بِهِ مدة، ونسي القاضي أن يذكر المبلغ الَّذِي دفعه فِي ثمن الخادم، واستحيا التاجر أن يُذكِّره بِهِ. فلما انتهى الحساب، أخرج القاضي صرة فِيهَا مائة وعشرة دنانير، فدفعها للتاجر وقال: هَذِهِ ثمن الخادم الَّذِي أحضرته لي، فإنه مَا وافقني فبعته لَكَ وهذا ثمنه، فعدّ هَذَا فِي عظيم أمانته.

وكان للقاضي تاج الدين أربع نواب من المذاهب الأربعة، واستنابهم بإذن السلطان لَهُ فِي ذَلِكَ توسعة عَلَى الناس فِي أحكامهم. فاتفق لَهُ مع الجمال أَيْدُغْدِي منازعة، فحسّن للسلطان أن يكون النواب الثلاثة الذين من غير مذهب القاضي نواباً عن السلطان، مع بقاء القاضي الكبير ونائبه، ويكون ذَلِكَ أعظم فِي حق السلطان. ففعل ذَلِكَ، وجعل لكل واحد منهم مجلساً فِي يوم معين بمصر، وشاركوا القاضي فِي استنابة النواب فِي البلاد، لكن اختص بديوان الأحباس، والنظر فِي الأموال عَلَى اختلاف جهاتها، وإثبات الوقفيان والورثة.
وكان القضاة مع ذَلِكَ يترددون إِلَيْهِ ويعظمونه، ولا يتكلمن فِي مجلس السلطان أحد غيره. ويذكر أن القاضي صدر الدين الحنفي، أول من أفرد بالحكم مستقلاً فِي هَذِهِ الكائنة لما مات القاضي. قال: والله لقد عدمناه ونقصت حرمتنا بكوته. وَكَانَتْ رياستنا قائمة بوجوده.
ويحكى أنه قال يوماً: مَا رأيت أعجب من القاضي المالكي، إِذَا وقعت لَهُ قضية يحضر عندي ويقول: وقعت واقعة كذا، والحكم فِيهَا فِي مذهبي كذا، فلا أجيبه بكلمة. فيخرج من عندي ويحكم فِيهَا. فإِذا عوتب بعد ذَلِكَ قال: مَا حكمت حَتَّى عرضت ذَلِكَ عَلَى القاضي تاج الدين.
ولم يزل القاضي بعد تجديد الثلاثة القضاة معه، يتعب نفسه فيما يسد بِهِ الخلل، إِلَى أن أتاه مَا قدر لَهُ من الأجل. ومات فِي ليلة الثامن والعشرين من شهر رجب سنة خمس وستين وستمائة. وَكَانَتْ جنازته حافلة جداً.
ورثاه جماعة؛ منهم الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان بقوله:
نعى الناس تاجَ الدين قاضي قضاتنا ... وَمَا النعي فِي التحقيق إِلاَّ عَلَى الشرعِ
لقد عز حكم الشرع فِي وقت حكمه ... لأن التقي كَانَ الأمين عَلَى الطبع
ومع هَذِهِ الأوصاف الجيدة فما سَلِمَ من قول عائب ولَوْم غائب. أنشدنا أبو حيان ابن أبي حيان إجازة عن جّده، أنشدنا شرف الدين محمد البوصيري الأديب فِي الصاحب تاج الدين لما جعلت القضاة أربعة وَكَانَ بمصر راهب يقال لَهُ الحبيش كثير البذل للفقراء، وَكَانَ القاضي تاج الدين بضد ذَلِكَ فعمل فِيهِ البوصيري:
انظر إِلَى هَذِهِ الدنيا تجِد عَجَباً ... لله فِي كل مرئي ومسموع
تاهَ النصارى علينا بالحُبيش وَقَدْ ... أباحهم منه خيراً غير ممنوع
فالجودُ أسعد بالتثليث صاحبهم ... والبخلُ أنحس قاضينا بتربيع
وأنشد فِيهِ يمدحه ويغبطه بذلك، ويصوب رأي من فعله:
لقد سَرَّنا أن القضاة ثلاثة ... لأنك تاج الدين للقوم رابعُ
بهم بنية الإِسلام صحت وكيف لا ... تصح وهم أركانها والطبائع
فكم رُخَصٍ أبدوا لَنَا وعزائمٍ ... هُدينا بِهَا فهي النجوم الطوالع
فلا تيأسن إذ وسع الله فِي الهدى ... مذاهبنا بالعلم، والله واسع
تفرقت الآراء والدين واحد ... وكل إِلَى رأي من الحق راجع
فهذا اختلاف جَرَّ للناس راحةً ... كما اختلفت فِي الراحتين الأصابع
عبد الوهاب بن محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي، أمين الدين أبو اليمن. ولد فِي يوم الثلاثاء ثامن عشرين شهر ربيع الآخر سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وحفظ القرآن، واشتغل فِي الفقه وتعلم الخط وجَوَّده. ونشأ فِي صيانة ونزاهة إِلَى أن ولي قضاء العسكر. وولي الحكم عقب موت جمال الدين المَلَطِيّ فِي يوم الخميس ثالث عشر شهر رجب سنة ثلاث وثمانمائة، فباشر مباشرة حسنة.
وكان شكلاً حسناً بهيَّ المنظر، كثير السؤدد، وقوراً مهاباً، كثير الصيانة، وَكَانَ لذلك ينسب إِلَى زهو.

وكان قد اشتغل كثيراً، وسمع الحديث معنا من بعض شيوخنا. وَكَانَتْ ولايته الأولى سنتين وثلاثة عشر يوماً. فإنه صُرِف فِي سادس عشرين رجب سنة خمس وثمانمائة بالقاضي كمال الدين ابن العديم قاضي حلب - وَكَانَ قَدْ قدم فِي الجفل من وقعة اللَّنك وسط سنة أربع، فاستوطن القاهرة وحضر مجلس القاضي أمين الدين فِي قراءة البخاري، وبحث معهم، وتردد إلى الكبار. وَكَانَ من العارفين بطرق السعي. فلم يزل يسعى إِلَى أن استقر فِي هَذِهِ السنة فباشرها، وانقطع القاضي أمين الدين إِلَى أن أعيد فِي شهر رجب سنة إحدى عشرة.
فلما أراد الناصر الخروج إِلَى حلب، لطلب شيخ ونيروز ومن معهما من الخارجين عَلَيْهِ، سعى ناصر الدين أن يتولى القضاء، ويسافر مع العسكر، وتوسل بالمال، وبأن أمين الدين يشق عَلَيْهِ السفر فخلع عَلَيْهِ فِي المحرم سنة اثنتي عشرة.
ولما شرعوا فِي السفر اعتنى الأمير جمال الدين الأستادار، بالقاضي أمين الدين فانتزع لَهُ مشيخة الشيخونية من ابن العديم فباشرها إِلَى رجب سنة ثمان عشرة، فانتزعها منه ابن العديم بمال، واستمر الأمين منفصلاً عنها وعن القضاء حَتَّى مات بالطاعون فِي ربيع الأول سنة تسع عشرة وثمانمائة.
عبد الوهاب بن محمد بن محمد بن عيسى بن أبي بكر بن عيسى ابن مروان بن أحمد الإِخنائي، بدر الدين ابن علم الدين ابن سيف الدين المالكي من المائة الثامنة.
ولد فِي حدود سنة عشرين، واشتغل ومهر. وأول مَا ولي نظر خزانة الخاص الَّتِي كَانَتْ بالقلعة، ثُمَّ ولي القضاء فِي العشر الأخير من رجب سنة سبع وسبعين، عوضاً عن ابن عمه برهان الدين. وصرف لما قتل الأشرف شعبان فِي ذي القعدة سنة ثمان وسبعين. وَكَانَ لما ولي ضعيفاً، فأرسل إِلَيْهِ التشريف فتدثر بِهِ. ثُمَّ استقل وباشر مباشرة حسنة. وَكَانَ كثير التلاوة والحج والمجاورة، وحسن المحاضرة، وحج مع الأشرف، ثُمَّ رجع من عقبة أيلة، واستقر عوضه علم الدين البساطي.
وكان قَدْ سمع عَلَى عم أبيه القاضي تقي الدين الإِخنائي، وسمع أيضاً عَلَى عبد الرحمن بن محمد بن عبد الحميد بن عبد الهادي صحيح مسلم، والدعاء المحاملي. ثُمَّ أعيد إِلَى القضاء فِي صفر سنة تسع وسبعين.
وكانت مدة صرفه بعلم الدين البساطي نحو ثمانين يوماً. ثُمَّ صرف الإِخنائي فِي ثالث عشر رجب منها، وأعيد العَلَم فلزم الإِخنائي داره، إِلَى أن مات فِي شهر ربيع الأول سنة تسع وثمانين، وَقَدْ حج فِي غضون ذَلِكَ وجازر سنة ثلاث وثمانين.
عبيد الله بن نائل بن نَجيح. ولاَّه المهتدي بالله قضاء القضاة ببغداد، بعد صرف الحسن بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب. فلما قتل المهتدي، أعيد الحسن. ذكر ذَلِكَ ابن الجوزي فِي المنتظم.
وكان من يتولى قضاء القضاة فِي ذَلِكَ الزمان، هو الَّذِي تولى القضاء فِي الآفاق وذلك فِي سنة اثنتين وثمانين ومائتين.
وكان قاضي مصر يومئذ محمد بن عبدة وَكَانَتْ ولايته من قبل خمارويه بن أحمد بن طولون. ويقال إنه تولى من قبل المعتمد. حكاه ابن زولاق، فكتبت ترجمة هَذَا احتياطاً.
عتيق بن الحسن الصباغ المعروف ببكران، وَكَانَ من العدول بمصر. فلما ولي الحسن بن عبد الرحمن الجوهري القضاء بمصر بعد محمد بن بدر، خليفةً عن الحسين بن عيسى بن هَرَوان، وقع بَيْنَ بكران وبين القاضي شر. فخرج إِلَى الإِخشيد بالشام، فالتمس من الحسين أن يستخلفه عَلَى الأحباس، ففوض نظرها لَهُ. وجعل لَهُ أمر قضاة البلاد بنواحي مصر. وصرف ابن عبد الرحمن عن خلافته، وأرسل عوضه مع بكران، أحمد بن عبد الله الكشِّي كما تقدم فِي ترجمته.
وكان بكران ينظر فِي الأحباس عَلَى مَا يعمله الكشي، وكل منهما يخاطَب بالقاضي. وأمر بكران الشهود بحضور مجلسه، والشهادة عَلَى حكمه فحضروا، وأراد أن يقضُّوه فِي الإِشهاد عليه، فامتنعوا من ذَلِكَ. واضطرب أمر البلد وتظلم جماعة إِلَى الإِخشيد فساءه ذَلِكَ. وأمر بإحضار بكران، فناله منه مكروه، وأمر بالبطش بِهِ، ومنعه ومنع الكشي من الحكم. ثُمَّ جمع وجوه الناس واستشارهم فيمن يصلح للحكم، فأشاروا عَلَيْهِ بابن أخت وليد، فولاّه خلافةً للحسين بن عيسى.
فكانت مدة بكران بمشاركة الكشي ثلاثة أشهر. وتوجه بكران إِلَى الرملة فتاب عن ابن هَرَوان بِهَا عَلَى عادته.

عثمان بن قيس بن أبي العاص بن قيس بن عدي بن سعد بن سَهْم بن عَمرو بن هُصَيْض بن كعب بن لؤي القرشي السَّهمي. ذكر أبو عمر الكندي من طريق علي بن الحارث بن عثمان بن قيس بن أبي العاص السهمي، أن جده عثمان ولي قضاء مصر سنة ثلاث وعشرين. سنةَ مات عمر بن الخطاب. فأقره عثمان عَلَى القضاء طول خلافته، واستقر بعد قتل عثمان فِي الفتنة.
ومن طريق ابن لَهِيعة قال: قتل عثمان بن عفان، وعثمان بن قيس قاض، فلم يكن بمصر قاضٍ حَتَّى قام معاوية، كذا قال: وهذا لا يتَّجه، لأن قيس بن سعد بن عبادة، كَانَ أمير مصر لعليّ، وكان فِي غاية المعرفة والحزم. فيبعد أن لا يقرر فِي البلد قاضياً. لكن لا يمتنع أنه كَانَ يباشر ذلك بنفسه.
وقد أخرج أبو عمر أيضاً من طريق عبد العزيز بن أبي مَيْسرة قال: لَمْ يكن بمصر قاض بعد قتل عثمان إِلَى سنة الجماعة.
قال: وَكَانَتْ مدة ولاية عثمان بن قيس فِي القضاء اثنتي عشرة سنة، ويقال أكثر من ذَلِكَ. وأنه صرف عن القضاء فِي خلافة معاوية سنة اثنتين وأربعين.
قالوا: وَكَانَ فصيحاً عابداً مجتهداً غَزِير الدمعة. يقضى وهو يبكي، ويقول ويل لمن حكم فَجَارَ.
قلت: لو كَانَ هَذَا ثابتاً، لبطل قول أبي عمر الكندي أنه مات بعد عثمان فِي الفتنة. وأبو عمر أيقن من غيره فِي ذَلِكَ.
وأخرج الطبراني من طريق الليث بن سعد عن يزيد بن أبي حبيب قال: كتب عمر ابن الخطاب إِلَى عمرو بن العاص، أن افْرِضْ لكلِّ مَن قِبَلك ممّن بايع تَحْتَ الشجرة فِي مائتين من العطاء، وأبلغ ذَلِكَ بنفسك. وافرض لعثمان بن قيس لضيافته ولخارجة بن حذافة لشجاعته.
وقال ابن يونس: كَانَ صاحب ضيافة قريش يعني وهو بمكة.
وقال أبو عمر: اختصم نفر من جذام إِلَى عبد الله بن سعد بن أبي سرح، يعني وهو أمر مصر فِي خلافة عثمان، فقال: ارتفعوا إِلَى عثمان بن قيس، فَلَتَجِدُنَّه مُسْتَضْلِعاً يحمل أثقالكم.
عَطَّاف بن غَزْوان أذن لَهُ عبد الله بن طاهر، أمير مصر إذ ذَاكَ، لما منع إبراهيم بن الجراح، فاستمر. فلما ولي عيسى المنكدري صرف عن النظر فِي المظالم. قاله أبو عمر الكندي.
علي بن أحمد بن إسحاق أبو الحسن. باشر قضاء مصر نيابة عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن زَبْر فِي ولايته الثالثة، وَلَمْ يقدم ابن زَبر مصر، وكَاتَبَ علي بن أحمد بن إسحاق ليتسلم لَهُ هو ويحيى بن الحسن، فوصل الكتاب إليهما فباشر شهرين. ثُمَّ صرف بصرف ابن زبر.
علي بن أحمد بن عَمَّالا أبو القاسم جلال الدولة ابن هلال الدولة. ويقال هو قاسم بن أحمد بن عمار، وبالأول جزم ابن ميسر.
قال أبو الحسين التَّرُوجِيّ فِي كتاب بلغة الظرفاء: كَانَ ابن عَمَّار من حسنات الدهر، وولي قضاء مصر فِي أوائل سنة أربع وسبعين وصرف فِي شعبان سنة خمس وسبعين، ثُمَّ نقل إِلَى قضاء الإِسكندرية. فلما ثار نزار بن المستنصر بالإِسكندرية وادعى الخلافة، ونهض الأفضل أمير الجيوش ابن بدر إِلَى قتاله، كَانَ القاضي ممن عاونه، وكذا الأمير أفتكين والي الإسكندرية، والرئيس محمود بن مصال، فقبض الأفضل عَلَى نزار فأعدمه، وقتل أفتكين، وهرب محمود بن مصال. وقبض الأفضل عَلَى جماعة من رؤساء الإِسكندرية من جملتهم القاضي، فاعتقله ثُمَّ قتله، وذلك فِي سن ثمان وثمانين وأربعمائة.
علي بن الحسين بن حرب، ويقال حَرْبُويَه بن عيسى البغدادي، الفقيه الشافعي من أهل المائة الرابعة يكنى أبا عبيد، ويقال لَهُ ابن حربويه، وهو بِهَا أشهر.
ولد سنة سبع وثلاثين ومائتين وسمع الكثير من لأبي الأشعث العجلي أحمد بن المقدام البصري وحفص بن عَمْرو الرَّبَالي، والحسن بن محمد الزَّعْفَراني، والحسن بن عرفة، وزيد بن أخزم الطائي، وأبي السُّكَين زكريا ين يحيى، ويوسف بن موسى القطان وحسين بن أبي يزيد الدباغ. وتفقه عَلَى داود بن علي، ثُمَّ افقه عَلَى مذهب أبي ثَور صاحب الشافعي، وقرأ الكلام عَلَى أبي محمد العباسي.
وحكى ابن زولاق عم ابن الحداد قال: قلت لأبي عبيد: هل سمعت من يعقوب ابن إبراهيم الدورقي؟ قال: لا. منعني أبي من سماع الحديث قبل أن أستظهر القرآن حفظاً. فلما حفظته قال لي: خذ المحفظة واذهب إِلَى يعقوب بن إبراهيم الدورقي فاكتب عنه. فتوجهت فإذا الناس يقولون مات يعقوب الدورقي.

وسمع من الزعفراني كتاب الحجة للشافعي. وحدث بِهِ عنه.
قال ابن زولاق: ورأيت أبي عبيد تصنيفاً فِي إثبات القياس والرد عَلَى منكريه. روى عنه النسائي فِي الصحيح.
قال المزِّي فِي التهذيب: وَلَمْ أر ذَلِكَ فِي سنن النسائي، فلعله روى عنه شيئاً فِي تصانيفه ككتاب الكنى.
وقال قال ابن زولاق: حدث عنه النسائي سنة ثلاثمائة، وعاش النسائي بعد ذَلِكَ ثلاث سنين.
قلت: وَكَانَ سماع النسائي منه بعد أن قدم أبو عبيد مصر.
وقال البرقاني فِي أسئلته للدارقطني: سألته عن أبي عبيد فقال: كَانَ فاضلاً حليلاً، حدث عنه أبو عبد الرحمن النسائي ومات قبله.
وقال أبو سعيد ابن يونس: قدم مصر قاضياً بعد صرف أبي عُبَيد الله محمد بن عَبْدَة بن حرب. وشغور المنصب مدة فِي يوم الاثنين لليلتين خلتا من شعبان ويقال لليلتين بقيتا من رجب سنة ثلاث وتسعين ومائتين. وَكَانَ شيئاً عجباً مَا رأيننا قبله ولا بعده مثله. وَكَانَ يتفقه عَلَى مذهب أبي ثور صاحب الشافعي، وحدَّث فِي زمن ولايته الدولابي، وأبو جعفر الطحاوي، وأبو حفص ابن شاهين، وأبو بكر ابن المقرئ، وأبو عمر بن حيويه، وأبو القاسم عيسى بن علي بن عيسى بن الجراح، ووقع لي حديثه بعلو من جهته.
قال ابن يونس: كَانَ ثقة ثَبتاً.
وقال ابن حيويه: توفي الثقة الأمين أبو عبيد فِي صفر. وقال ابن زولاق: كَانَ فقيهاً عالماً بالاختلاف فصيحاً عاقلاً، عفيفاً منقبضاً، قوَّالاً بالحق، جواداً. وقال أيضاً: حدثني محمد بن أحمد بن ورقاء البغدادي، قال: كَانَ أبو عبيد من أهل الستر. وَكَانَ أبوه من شهود إسماعيل القاضي.
وقال أبو بكر بن الحداد: قرأت عَلَيْهِ جزءاً من حديث يوسف بن موسى. فلما قرأت قلت: كما قرأت عَلَيْكَ. قال: نعم، إِلاَّ الإِعراب، فإِنك تُعرب، وَمَا كَانَ قال: وقال لي بعض شيوخ الرَّمْلة: قدم علينا أبو عبيد متوجهاً إِلَى قضاء مصر، فصادف ابن الخلنجي، فكان جماعة من أهل العلم ينقطعون إِلَيْهِ، فكلموه فِي أن يسلم عَلَى أحمد بن محمد بن بسطام عامل الشام، وَكَانَ عظيم الرياسة، يقوم عن يمينه وعن شماله نحو مائة حاجب. فقال أبو عبيد: مَا لي عنده حاجة!. فقالوا لَهُ: إن محمد بن العباس الجمحي قاضي الرملة، يركب إِلَيْهِ فِي كل يوم. فلم يزالوا بِهِ حَتَّى ركب إِلَيْهِ متخففاً، فدخل إِلَيْهِ فِي هيئة بذة، وَلَمْ يكن وجهه حسناً، بل كَانَ كثير الجدري. فرأى الجمحي جالساً عَلَى يمين ابن بسطام فِي هيئة حسنة، فسلم أبو عبيد وجلس عن يساره وابن بسطام يكتب فِي رقعة. فلم يزد ابن بسطام أبا عبيد عَلَى قوله، وعليكم السلام، بل استمر في كتابته. فجلس أبو عبيد جلسة خفيفة ثُمَّ نهض. فقال ابن بسطام للجمحي: من هَذَا؟ قال هَذَا قاضي مصر. فقال ابن بسطام والله مَا يدري هَذَا (أَيْشٍ تولى، ولا يَدري من ولاّه أَيْشٍ ولاّه!).
فبلغ ذَلِكَ أبا عبيد فعاد فِي يوم آخر إِلَى مجلس ابن بسطام. فلما دخل وجد ابن بسطام يكتب. فسلم وجلس أيضاً فأخذ أبو عبيد فِي الكلام، فسمع ابن بسطام مَا أدهشه، فأغلق الدواة واستدار إليه، وبادر الغلمان بمخدة فوضعوها خلفه، وصار الجمحي خلف ابن بسطام.
واستمر أبو عبيد فِي الخوض فِي كثير من العلوم والفنون، حَتَّى قال لَهُ ابن بسطام: أيد الله القاضي. أقل استحقاق القاضي أن يكون قاضي الدنيا كلها، ولقد ظلمه من وَلَّى معه غيره. فلما عزم القاضي عَلَى القيام، قام ابن بسطام فأخذ بيده ومشي معه حَتَّى ركب. واستمر قائماً حَتَّى غاب القاضي عن عينه. ثُمَّ كَانَ ابن بسطام يصنع بِهِ ذَلِكَ.
فلما دخل مصر عاملَه بذلك. وإذا اتفق أن يحضر ابن بسطام مجلس القاضي، يرسل أحد حجابه فيضع يديه عَلَى ركبتي القاضي يمنعه من القيام فإذا رمقه القاضي قال لَهُ: مَا أستطيع مخالفة الأمر. فيدخل ابن بسطام ويجلس بجانب القاضي من غير أن يتمكن من القيام لَهُ، وتبعه عَلَى هذا الفعل تَكِين أمير مصر. حَتَّى كَانَ إِذَا جاء إِلَى مجلس القاضي فلم يجده فِي مجلسه، يجلس دون مرتبته حَتَّى يجيءَ القاضي فيقوم لَهُ.

ذكر شيء من خبر ابن بسطام هَذَا، قال عليّ بن الفتح المطوّق فِي كتاب الوزراء لَهُ: اعتقل القاسم بن عبيد الله بن سليمان بن وهب أبا العباس أحمد بن محمد بن بسطام فِي داره أياماً، لأشياء كَانَتْ فِي نفسه عَلَيْهِ، وأراد أن يُوقع بِهِ. فلم يزل ابن بسطام يداريه ويتلطف بِهِ إِلَى أن أطلقه وقلده آمد وَمَا يتصل بِهَا من الأعمال، وأخرجه إليها وَفِي نفسه مَا فِيهَا. ثُمَّ ندم، فوجه إِلَيْهِ فِي آخر وزارته بعامل يقال لَهُ علي بن حسن، ووكله بِهِ. فكان يأمر وينهي فِي عمله، وهو موكل بداره. وخائف عَلَى نفسه، لما ظهر من إقدام القاسم عَلَى القتل.
قال ابن بسطام: فأخوف ما كنت عَلَى نفسي وحالي، وردَ عليَّ كتاب عنوانه لأبي العباس بن الحسن أن القاسم مات، فلم أملك نفسي فرحاً وسروراً بالسلامة، وإذا فِي الكتاب أني تقلدت الوزارة وأمرني بالخروج إِلَى مصر للإِشراف عَلَى الحسين بن أحمد المَاذَرَائي، فخرجت إِلَى مصر وَلَمْ أزل أتقلد الأمانة بِهَا، إِلَى أن تقلد عَلي بن محمد بن الفرات، فقلَّدني مصر وأعمالها. فلم يزل بِهَا إِلَى أن توفي. وسيأتي لَهُ ذكر فِي قصة منصور الفقيه من هَذِهِ الترجمة.
ويقال إن إسماعيل القاضي كَانَ فِي جنازة، فمرَّ عَلَى أبي عبيد وهو فِي دكان إسكاف وَفِي يده دفتر ينظر فِيهِ، فلم يقم القاضي فلاموه بعد ذَلِكَ، فاعتذر بأنه كَانَ شرط عَلَى الخفاف أن لا يخرز الخف إِلاَّ بليف حذراً أن يخرزه بشعر الخنزير. فما وثق بالخفاف حَتَّى جلس عنده، وأمر الخفاف فغسل يديه بحضرته.
قال ابن زولاق: وَكَانَ ابن الحداد يفعل ذَلِكَ.
قال: وقلت لَهُ لَما رأيت تقشفه وزهادته، لم دخلت فِي القضاء؟ فقال: تقربوا إِلي بإقامة الحق، ورأيت من لا يصلح يطلبه، فدخلت فِيهِ.
قال ابن زولاق: وسكن أبو عبيد أول مَا دخل مصر، دارَ إسماعيل بن إسحاق ترنجة عند مسجد ابن عمروس، ثُمَّ انتقل عنها إِلَى دار المدائني.
وكان إِذَا سمع الأَذَان، خرج إِلَى الصلاة، فربما وجد الإِمام صلى أَوْ سبقه بشيء من الصلاة، فكان يرسل إِلَيْهِ أن ينتظره. فلما تكرر ذَلِكَ قال لَهُ الإِمام: الصلاة تُنْتَظر ولا تَنْتَظِر. فبحث القاضي عنه فأثنوا عَلَيْهِ خيراً، فَقَرَّبَهُ وأدناه وصيره من شهوده. وَكَانَ القاضي يكثر الصلاة فِي المسجد المجاور لَهُ، وربما أمَّ هو بنفسه.
وقال إبراهيم بن أحمد الأندلسي: كَانَ أبو عبيد فِي دار المدائني وبجواره كاتب يسمى طاهر بن علي، وَكَانَ كثير السخف والمجون والتخليط، فكان إِذَا صُلِّيت العشاء، نَصَب الملاهي واستمر فِي الشرب والقصف إِلَى السَّحَر. فشغل سرّ القاضي ومنعه من اشتغاله بصلاة أَوْ بقراءة أَوْ مطالعة. فراسله وهدده، فأجاب قاصده بقوله وَمَا عِلْم القاضي بذلك. شهد عنده شاهدان بهذا؟ أنا أسمع كل مَا سمعه القاضي. فأظن أن ذَلِكَ عنده، فكنت أحتمل. وأما الآن فأنا أشد إنكاراً لهذا منه. فعاد قاصده إِلَيْهِ بذلك. فقال: اطلبْ لي داراً غير هَذِهِ، فتحول عنها.
وقال ابن زولاق: حضر الأمر تكين مرة والقاضي أبو عبيد وصحبتهما محمد بن عَلَى الماذَرَائي فِي مهم عند أبي زنبور. فلما فرغوا صاح أبو زنبور: بغلة القاضي. فجيء بِهَا، فذهب ليركب فلم تصل رجله للركاب فطلب كرسي البواب، فطلع فوقه فركب، وأبو زنبور يسوي عَلَيْهِ ثيابه إِلَى أن توجه، وَلَمْ يصنع أبو زنبور ذَلِكَ بمحمد ابن علي الماذَرَائي ولا بأمير البلد. وَكَانَ محمد بن علي هو أمير البلد فِي الحقيقة.
وقال أبو بكر ابن الحداد: دخل القاضي أبو عبيد مصر، فما أعجبني منظره، فبينا نحن عند أبي القاسم بشر بن نصر الفقيه، غلام عوف، إذ دخل منصور بن إسماعيل الفقيه فقال: كنت عند القاضي، فقلت لَهُ: كَيْفَ رأيت؟ قال: يَا أبا بكر، رأيت رجلاً عالماً بالقرآن، والحديث، والاختلاف، ووجوه المناظرة، عالماً باللغة والعربية عاقلاً، ورعا متمكناً. قال: فقلت لَهُ: هَذَا يحيى بن أكثم. قال: قلت الَّذِي عندي فِيهِ. قال ابن الحداد: ثُمَّ دخلت عَلَى أبي عبيد بعد ذَلِكَ وخالطته، فإذا منصور قَدْ قصر فِي صفته.

وأفرد أبو سعد ابن السمعاني فِي الذيل فِي ترجمة إبراهيم بن علي، بسنده إِلَى أبي القاسم سعد بن علي الزنجاني، أخبرنا محمد بن جعفر الساحلي، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن حدثنا أبو الميمون محمد بن أحمد بن مطرف، حدثنا أبو بكر ابن الحداد قال: كنت فِي مجلس أبي عبيد القاضي بمصر، إذ أقبل خادم حسن الصورة، جميل الهيئة، طيب الرائحة مسرعاً، فوقف عَلَى رأسه، وطرح فِي حجره رقعة ثُمَّ أنشأ يقول:
أنكرت حبي وأيُّ شيء ... أبين من ذِلّة المُحِبِّ
أليس شوقي وفيض دمعي ... وضعف جسمي شهود حُبّي
فقال أبو عبيد: هؤلاء شهود ثقات. ثُمَّ قرأ الرقعة وقال: اللهم اجمع بينهما عَلَى رضاك، ثُمَّ رمى إليّ الرقعة فإذا فِيهَا:
عَفَا الله عن عبد أعان بدعوة ... خليلين كانا دائمين عَلَى الودِّ
إِلَى أن وشي واشي الهوى بنميمة ... إِلَى ذَاكَ من هَذَا فحال عن العهد
ويقال: كَانَ بمصر أخوان توأمان تَكهَّلاَ، ولا يُفرِّق بينهما من يراهما من قوة الشبه بينهما. فوجب عَلَى أحدهما دَين فحبسه القاضي، وَكَانَ أخوه يجيء إِلَيْهِ زائراً فيجلس فِي الحبس عوضه ويتوجه ذَلِكَ. فاشتهر هَذَا حَتَّى بلغ أبا عبيد فأحضرهما فقال لهما أيكما المحبوس؟ فبادر كل منهما فقال: أنا هو. فأطرق ثُمَّ طلب الغريم، ودفع إِلَيْهِ الدَّين الَّذِي ثبت لَهُ، فراراً من الشّنعة والغلط فِي الحكم.
وقيل لأبي عبيد: إن فِي حُبس الوليد بن رفاعة شرطاً، وهو أن يُجعل فِي وجوه البرِّ وَلَمْ يعين شيئاً. فسأل أبو عبيد عن ترجمته، فقيل لَهُ: كَانَ عامل مصر. وَكَانَ يلعن علي بن أبي طالب على المنبر فقال: اجعلوا حُبسه للمنبوذين، فثبت إِلَى الساعة. وأراد أبو عبيد التلميح بالحديث الوارد، إن من يبغض علياً لغير رِشْدَةٍ.
وقال الطحاوي: كَانَ أبو عبيد يذاكرني بالمسائل، فأجبته يوماً فِي مسألة، فقال لي مَا هَذَا قول أبي حنيفة. فقلت لَهُ: أَيُّها القاضي أوَ كل مَا قاله أبو حنيفة أقول بِهِ. قال: مَا ظننتك إِلاَّ مقلِّداً. فقلت لَهُ: وهل يقلد إِلاَّ عَصَبِي فقال لي أَوْ غبي. فطارت هَذِهِ الكلمة بمصر حَتَّى صارت مَثَلاَ.
وكان أبو عبيد يذهب إِلَى قول أبي ثور، ثُمَّ صار يختار، فجميع أحكامه بمصر باختياره. وحَكَم بما لو حَكَم بِهِ غيره مَا سكتوا عنه. فلم ينكر عَلَيْهِ أحد، لأن أبا عبيد كَانَ لا يُطعن عَلَيْهِ فِي علم، ولا تلحقه تهمة فِي رشوة، ولا يحيف فِي حكم، وَكَانَ يُورِّث ذوي الأرحام.
قال ابن زولاق: سمعت أبا الطاهر الذُّهلي يقول: كَانَ أبو عبيد بالعراق مشهوراً بالعلم والسَّتر والتعفف. وَكَانَ يلي قضاء واسط قبل أن يلي القضاء بمصر. وهو آخر قاض ركب إِلَيْهِ الأمراء بمصر.
قال ابن الحداد: مَا كَانَ يُؤَمِّر أحداً من ولاة مصر. كَانَ إِذَا أرسلني فِي حاجة إِلَى تكين يقول: كَيْفَ أبو منصور؟ وإذا ذكر هلال بن بدر قال: هلال بن بدر.
وكان ماضي الأحكام والعزيمة، وإذا ركب لا يلتفت ولا يتحدث مع أحد ولا يصلح رداءه.
قال ابن الحداد: ولقد ركبتُ معه يوماً فِي طريق الحمراء، فمر بسوق الخشّابين فلما نزل فِي داره قال لي: مَا شارع فِيهِ خشب قيام، فقلت لَهُ: سوق الخشابين.
وركب إِلَى تكين وهو بالجيزة عقب وقعة حباسة، فمشى عَلَى الجسر فقيل لَهُ: رأى القاضي النيل؟ فقال: سمعت خرير الماء. وَكَانَ سبب ذَلِكَ أن حباسة لما انهزم. كَانَ قَدْ قُتل فِي الوقعة خلق من المصريين، فأراد تكين أن يحفر خندقاً ويلقيهم فِيهِ لكثرتهم، فركب القاضي إِلَيْهِ وقال: لا تفعل تتلف المواريث. ولكن ناد فِي الناس بالخروج، فمن عرف قتيله أخذه، ففعل مَا قال فتوزعوهم.
وبلغ من ورعه أنه لما ركب إِلَى الجيزة أخذه البول، فعدل إِلَى بستان فبال فِيهِ وتوضأ من مائه، ثُمَّ لن تطب نفسه حَتَّى سأل عمَّن يملكه، فعرّف بامرأة، فركب إِلَى منزلها حَتَّى استحلها، وعرض عَلَيْهَا مالاً فِي مقابل ذَلِكَ، فامتنعت وبكت. ورأى غلامه يُدخل إِلَى منزله النار، فسأله ممن يأخذ النار، فقال من الفرّان، فقال: لا تأخذ منه شيئاً إِلاَّ بثمن. ثُمَّ اشترى لَمَّا شاع بَيْنَ الناس أن القاضي يشتري النار.

قال ابن زولاق: وَكَانَ يشتري لَهُ اللحم من جزّار يعطيه الثمن سَلماً، ثُمَّ يأخذ منه فِي كل يوم برقعة بخطه. وأقام بمصر نحو عشرين سنة مَا رئِي يأكل ولا يغسل يده ولا يتوضأ.
قال ابن الحداد: وسألت عن ذَلِكَ أهل منزله، فقالوا: كَانَ لَهُ كُمّ عَلَيْهِ ستر فيوضع فِيهِ مَا يأكل وما يشرب، فإذا فرغ يأكل، نقر المائدة بإصبعه، فيدخل الغلام فيرفع المائدة ويأتيْه بالطشت، ويخرج فيغسل يده، ثُمَّ ينقر الطشت فيدخل الغلام، فيحمل الطشت، وكذا يصنع فِي الوضوء.
وَكَانَتْ توقيعاته تخرج معنونة مختومة. وكتبت بمصر ألفاظَه، وجمعت توقيعاته، فكانت محشوة فقهاً وبلاغة.
وقال الطحاوي: كنت أذكر عنده ابن أبي عمران فقال لي: إِلَى كم تقول ابن أبي عمران. قَدْ رأيت هَذَا الرجل بالعراق. إن البغاث بأرضكم يستنسر قال: فصارت هَذِهِ الكلمة بمصر مثلاً.
وقال ابن الحداد: تظلمت امرأة من محمد بن علي الماذَرَائي فِي مطالبته بشفعة، فأرسل إِلَيْهِ أبو عبيد فدافع وَلَمْ يحضر. واتفق أنه حج فِي تِلْكَ السنة فما ودعه أبو عبيد ولا تلقاه. وماتت أمه فما ركب إِلَيْهِ ولا عزاه. فرفعت إِلَيْهِ المرأةُ قصةً فِيهَا أن تردادها قَدْ كثر، وأن أمرها قَدْ طال. فوقع القاضي عَلَى ظهرها، أيتها المرأة المتظلمة من محمد بن علي، إن خصمك رجل مترف عجول، قَدْ غلبت عَلَيْهِ الأهواء وأنا مرسل إِلَيْهِ برجلين فظَّين غليظين، يقيمانه من مجلسه، ويجيئان بِهِ، فإن خرج من الحق الَّذِي عَلَيْهِ، وإلا أغلقت بابي، واستعفيت إِلَى السلطان من عمله والسلام.
فبلغ ذَلِكَ محمد بن علي فاغتاظ. فأرسل إسحاق بن إبراهيم الرازي إِلَيْهِ فِي فصل القضية أو الحضور، فأجابه بأن لي باب القاضي وكيلين، فأعاد إِلَيْهِ أن الوكيل لا يحلف عنك. فقال: إِذَا وجبت اليمين يُرسل إليَّ شاهدين فأحلف أَوْ أرد اليمين. فقال: لا سبيل إِلَى إرسال الشاهدين. فقال قَدْ أرسلت إِلَى غيري بشاهدين. فقال: مَا صنعت هَذَا إِلاَّ برجل واحد، وهو زيادة الله بن الأغلب. أمرت بإحضاره مع خصمه، فجاءني أبو منصور تكين فقال: إن هَذَا فِي صورة الخوارج، وإني أخشى أن تغلظ عَلَيْهِ فيمتنع أَوْ يختفي أَوْ يهر أَوْ تلحقه آفة، فنقع فِي العتب مع السلطان ويقال لَنَا مَا كَانَتْ لكما سياسة، فإن تقمصت بقميص زيادة الله، وخيف منك مَا خيف منه، أرسلت إِلَيْكَ بشاهدين.
وكان الطحاوي هو الَّذِي يلقن محمد بن علي الأجوبة، فالتمس منه جواباً عن هَذَا الأخير.
وَكَانَ الطحاوي بلغه أن أبا عبيد أرسل إِلَى محمد بن علي يقول لَهُ: تَعِس من لقَّنك. فامتنع الطحاوي بعد ذَلِكَ من الكلام، فقال محمد بن علي قل لَهُ: مَا أحضر فليصنع مَا شاء. فأمر القاضي المرأة أن تأخذ بلجام محمد بن علي، ففعلت بِهِ ذَلِكَ فتوسط أحمد بن محمد الماذَرائي بَيْنَ المرأة وبين محمد بن علي، حَتَّى اشترى حصتها بألف دينار. وَكَانَ قد اشترى قدرها بثلاثمائة وأنقدها الثمن. وأشهد عَلَيْهَا حسين بن محمد بن مأمون، ومحمد بن الربيع الجيزي. فشهدا عند القاضي بذلك بحضرة المرأة، ومعها المال. فلما علم القاضي بذلك ركب فِي الحال إلى محمد بن علي فهنأه بالحج وعزاه بأمّه.
قال ابن زولاق: وحدثني أبو علي بن أبي جبلة كاتب تكين قال: ارتد نصراني فاستتيب فلم يرجع. فشاور تكين القاضي فِي قتله، فركب القاضي إِلَى تكين هو وجماعته فعرضوا عَلَيْهِ التوبة، فلم يرجع. فعاودوه فأصر. فأشار القاضي بقتله فقتل. فقال تكين للقاضي: اكتبْ إِلَى السلطان بهذه القصة. فقال: أفعلُ. قال: وأمرني أن أكتب محضراً بذلك فكتبت: حضر مجلس الأمير أبي منصور تكين من يشهد فِيهِ، فلمح القاضي الكتابة فصاح: قطع الله يدك. اكتب، حضر تكينُ مولى أمير المؤمنين مجلسَ القاضي عليّ بن الحسين. فقال تكين صدق القاضي، المجلس لَهُ حَيْثُ حلَّ. اكتب بما قال: وصرف عن القضاء فِي ذي الحجة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة وَكَانَتْ ولايته ثماني عشرة سنة وخمسة شهور وقيل ستة شهور وقرر بعده فِي القضاء أبو الذكر محمد بن يحيى الأسواني خلافة لأبي يحيى عبد الله بن مكرم. وَكَانَتْ وفاته ببغداد فِي سنة تسع عشرة وثلاثمائة رحمه الله تعالى.

علي بن خليل بن أحمد بن عبد الله بن محمد الحُكْرِيّ الحنبليّ، نور الدين أبو الحسن. ولد سنة تسع وعشرين وسبعمائة واشتغل بالفقه وعدة فنون، وتكلم عَلَى الناس بالجامع الأزهر، وكان لَهُ قبول وزَبُون. فلما مات القاضي ناصر الدين نصر الله الحنبلي سعى فِي المنصب فلم يتم لَهُ. ثُمَّ سهى ثانياً بعد موت برهان الدين ابن ناصر الدين، فلم يتم لَهُ.
واستقر موفق الدين أحمد بعد أخيه برهان الدين فِي سابع عشر شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانمائة، فسعى عَلَيْهِ الحكري، حَتَّى صرف فِي ثاني جمادى الآخرة من السنة. واستقر الحكري فباشر سنة أخرى وبعض أشهر، وصرف فِي سابع عشرين ذي الحجة، وأعيد موفق الدين، فعاد الحكري إِلَى حالته الأولى. وحصل لَهُ إملاق وركبته ديون. وَكَانَ أكثر أيامه إما فِي الترسيم، وإما فِي الاعتقال. وقاسى أنواعاً من الشدة، وأرفده من كَانَ يعرفه من الرؤساء، فما استدت خلته وصار يستمنح بعض الناس ليحصل لَهُ مَا يسد بِهِ بعض ذَلِكَ، إِلَى أن مات عَلَى ذلك فِي ثامن المحرم سنة ست وثمانمائة.
وهو والد صاحبنا بدر الدين الَّذِي ناب فِي الحكم عن المنابلة وعَنِّي. ومات فِي سنة سبع وثلاثين وَلَهُ نحو الخمسين.
علي بن سعيد الجَلْجُولي، ذكر ابن زولاق فِي ترجمة علي بن النعمان، أن الوزير يعقوب بن كِلَّس فوض إِلَيْهِ فِي سنة تسع وستين وثلاثمائة، الشرطة السفلى فنظر فِيهَا وَفِي الأحكام.
وتظلم رجل إِلَى الوزير بأن عليّ بن سعيد نظر فِي أمره وحكم لَهُ، وأن القاضي علي بن النعمان أنكر ذَلِكَ، واعترض فِيهِ. فوقَّع الوزير: من حكم بحكم من سائر المستخلفين، فليس للقاضي ولا لغيره الاعتراض كما أنه لَيْسَ لأحد منهم الاعتراض عَلَى القاضي فيما حكم فِيهِ.
علي بن عبد الحاكم بن سعيد الفارقي، الإِسماعيلي، من المائة الخامسة. ولي القضاء فِي تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة ست وخمسين وأربعمائة، وصرف فِي خامس جمادى الأولى منها.
علي بن عبد النصير بن علي السخاوي، نور الدين المالكي، من المائة الثامنة. كَانَ فقيهاً عارفاً بمذهبه، حَتَّى كَانَ أهل عصره يعترفون لَهُ بالتقدم فِي ذَلِكَ، ويصفونه بأنه أحفظ أهل زمانه لمذهب مالك مع الدين المتين؛ والعقل الرصين، والأمانة والصيانة. وقدم إِلَى دمشق فناب فِي الحكم عن جمال الدين ابن المسَلاَّتي.
قال الصفدي: كَانَ قَيِّماً بمذهب مالك، عارفاً بما فِيهِ من الدقائق والمسالك. حج مرات، وحاجَّ من ناظره كَرّات. وَكَانَ متقشفاً متقللاً من الدنيا، كثير التواضع والتودد لأصحابه، والتفقد لهم، وتصدر بالجامع، ثُمَّ قدم الديار المصرية فتعرف بالأمير شيخون، فراج عَلَيْهِ بكثرة علومه، وحسن محادثته، وطيب محاضرته، فَقرَّبه وعظمه، وولاه القضاء فباشره مباشرة حسنة نيفاً وسبعين يوماً، كَانَ فِي أكثرها ضعيفاً، وأدركه الأجل، فمات فِي جمادى الأولى سنة ست وخمسين وسبعمائة.
علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى بن سليمان المَارِدِيني، علاء الدين المعروف بابن التُّركماني الحنفي، من المائة الثامنة.
ولد سنة ثلاث وثمانين وستمائة. وولي الحكم بعد أن أسَنَّ فِي شوال سنة ثمان وأربعين فِي سلطنة المظفر حاجي ابن الناصر. أرسل إِلَيْهِ فألبس الخلعة من غير أن يتقدم لذلك إشاعة. فدخل الصالحية عَلَى الزين البسطامي، فلما عرف الزين بأنه قرر موضعه، خرج من مكانه. وباشر أحسن مباشرة.
وكان كثير الإفضال، مع مشاركة فِي علم الحديث. واختصر كتاب ابن الصلاح اختصاراً حسناً. سمعت شيخنا العراقي يقول: إنه أوفى بمقصوده. قال: ولا نعلم أحداً ساواه فِي ذَلِكَ.
وله شرح عَلَى الهداية، والكفاية مختصر الهداية، وبهجة الأديب فِي معرفة الغريب الواقع فِي القرآن. واختصر المحصل فِي الأصول، والدر النقي فِي الرد عَلَى البيهقي، ومقدمة فِي أصول الفقه، وعدة مقدمات.
وكانت وفاته بالطاعون العام بعد ارتفاعه فِي عاشر المحرم سنة خمسين وسبعمائة.
علي بن علي بن محمد بن محمد بن أبي العزيز صالح بن أبي الأعز الأذرعي الحنفي، صدر الدين ابن العز.
طلبه الأشرف شعبان نقلاً من قضاء دمشق، فقدم القاهرة فِي رجب سنة سبع وسبعين، فاستقر في القضاء بالديار المصرية، ثُمَّ استعفى ورجع إِلَى دمشق، وَكَانَ من الفضلاء الأذكياء.

ولد فِي ثاني عشر ذي الحجة سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة وجرت لَهُ محنة كَانَ سببها أن عليّ بن أيبك الشاعر نظم قصيدة نبوية عارض بِهَا...
علي بن قاسم بن محمد بن قاسم علي بن محمد بن إسحاق بن يزيد الحلبي المحدث المشهور. كَانَ ينوب فِي الحكم عن محمد بن النعمان القيرواني، قاضي مصر فِي أيام العزيز، لما مرض القاضي وعجز عن الركوب. فلما كبر سنه وعجز عن الحركة، استخلف الحسين بن محمد بن ظاهر بن نقيب الأشراف كما تقدم فِي ترجمته.
علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب الأموي البصري، يقال إن عبد الملك كنيته أبو الشوارب، وَلَيْسَ أبو الشوارب أباه. ولي القضاء بعد أخيه الحسن فِي إحدى وستين فِي خلافة المهتدي.
قال ابن الجوزي فِي المنتظم: جمع لإِسماعيل بن إسحاق القضاء عَلَى الجانب الغربي والجانب الشرقي، ثُمَّ جمعت لَهُ بغاد بأسرها، وَكَانَ هو المقدم عَلَى جميع القضاة ومع ذَلِكَ لَمْ يقلّد قضاء القضاة حَتَّى توفي علي بن أبي الشوارب قاضي القضاة. وَكَانَ من الخيار.
سمع الحديث من أبي الوليد الطيالسي، وأبي عمر الحوضي، وغيرهما.
روى عنه أبو محمد بن صاعد، وأبو بكر النّجاد، وأبو الحسين بن قانع وآخرون.
قال الخطيب: حدثنا علي بن المحسّن، حدثنا طلحة بن محمد قال: لما مات إسماعيل بن إسحاق، أقامت بغداد بغير قاض ثلاثة أشهر وسبعة عشر يوماً، ثُمَّ وليه علي بن محمد بن أبي الشوارب. مضافاً إِلَى مَا بيده من قضاء القضاة بِسَامَرَّاء.
وقيل: تولى القضاء مكان أخيه الحسن، تقلد قضاء القضاة، ومكث يدعى بذلك حَتَّى مات.
وهو رجل صالح ثقة أمين، عَلَى طريقة السلف، حمل الناس عنه حديثاً كثيراً. ومات فِي شوال سنة ثلاث وثمانين ومائتين.
علي بن مخلوف بن ناهض النُّويري، زين الدين ابن رضي الدين أبي القاسم ابن تاج الدين أبي المعالي، المالكي من المائة الثامنة.
ولد سنة أربع وثلاثين وستمائة بالنويرة من أعمال البهنسا. ورأيت بخط البشبيشي أن صاحب حماة ذكر أن مولده سنة عشرين. قلت: وهو غلط.
وسمع الحديث من ابن أبي الفضل المرسي، ومن الشيخ عز الدين بن عبد السلام وغيرهما. واشتغل قليلاً، واتصل بالملك المنصور قلاوون، وصيَّره وصياً عَلَى ولده محمد. وذكر المؤيد صاحب حماة، أن المنصور عرض عَلَيْهِ الوزارة، فامتنع منها.
وولي القضاء فِي ذي الحجة سنة خمس وثمانين. وَكَانَ قبل ذَلِكَ أمين الحكم. ثُمَّ ولي نظر الخزانة، واستقر بعد موت تقي الدين بن شأس، فباشره نحواً من ثلاثين سنة، ولكنه عزل فِي طول هَذِهِ المدة مراراً.
وكان يقول للناصر، أنا وصي عَلَيْكَ فيقول: بل عَلَى إخوتي، فيقول: وعليك فيغضب، ويعزله، ثُمَّ يسرع بإعادته، ولا يرجع هو عن دعواه.
وكان كثير الإفضال، حسن المودة، كثير المروءة، عزيز الفتوة، وافر الاحتمال، عظيم البر لأهل العلم والاشتغال، عارفاً بالأحكام من جهة الدُّرْبة والتجربة.
قال الصفدي: كَانَ لمصر بِهِ فاختار، وللمنصب بِهِ اشتهار، وَكَانَ لا يعاب إِلاَّ بشراسة خلق، وقصور فِي العلم.
ونسبة الصدر ابن الوكيل إِلَى المجازفة فِي القول فِي قصيدة قال فِيهَا:
إِلَى مالك يعزونه ونويرة ... فلا عجب أن كَانَ يدعى متمما
وَكَانَ ممن عزله الناصر لما عاد من الكرك هو والبدر ابن جماعة. ثُمَّ أعادهما بعد سنة. ثُمَّ أراد الناصر إثبات مكتوب فتوقف فِيهِ ابن مخلوف فعزله فِي سنة إحدى عشرة. ثُمَّ أعاده بعد أيام قلائل.
وكان لما عزله، أمر القاضي الشافعي وهو ابن جماعة، أن يستنيب قاضياً مالكياً، فاستناب واحداً عنه إِلَى أن عاد ابن مخلوف، وهو الَّذِي قام فِي قضية فتح الدين ابن الثقفي حَتَّى أثبت زندقته، وضُربت عنقه بَيْنَ القصرين وهو يصيح (أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللهُ).

وَكَانَ الفتح يكثر الوقيعة فِي ابن مخلوف، فاتفق أن أشيع عنه أمر يقتضي الانحلال، فأمر ابن مخلوف أن يكتب عَلَيْهِ مَا يضبط. فكتبوا محضراً وسألوا ابن دقيق العيد أن يثبته. فقال: لا أثبت عَلَى رجل يشهد أن لا إله إِلاَّ الله، وأن محمداً رسول الله، كفراً، ورماه من يده. فتعصب جماعة من الدولة للفتح، فأصر ابن مخلوف، فكتبوا محضراً شهد فِيهِ جماعة بأنه مجنون، فتوقف عَلَيْهِ ابن دقيق العيد أيضاً وقال: مَا نعرفه إِلاَّ رجلاً عاقلاً.
وأشاع ابن مخلوف أنه رأى مناماً يقتضي قتله، فاتهمه الناس فِي ذَلِكَ. فلم يول إِلَى أن استأذن السلطان فِي أمره، فأذن فِي عقد مجلس فعقد بالصالحية وضربت عنقه فِي سنة إحدى عشرة.
علي بن النُّعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حَيُّون المغربي، القيرواني، الإِسماعيلي، من المائة الرابعة.
ولد فِي رجب سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. وقدم مع المعز من المغرب، فأمره بالنظر فِي الحكم، فكان يحكم هو وأبو الطاهر، والشهود يشهدون عليهما جميعاً وعندهما، والاجتماع عند أبي الطاهر. فلما مات المعز، رد أمر الجَامِعَيْن ودار الضرب لعليّ بن النعمان. فحضر إِلَى الجامع العتيق وحكم. ثُمَّ واظب أبو الطاهر عَلَى الحكم فِي الجامع، وعدل جماعة. ثُمَّ عرض لَهُ الفالج، ففوض المعز الحكم إِلَى علي بن النعمان، وذلك لليلتين خلتا من صفر سنة ست وستين وثلاثمائة، فركب إِلَى الجامع الأزهر فِي جمع كثير، وعليه خلعة مُقلَّداً سيفاً، وبيد يديه خلع فِي مناديل عدتا سبعة عشر، وقرئ سجله بالجامع وهو قائم عَلَى قدميه. فكلما مر ذكر المعز أَوْ أحد من أهله أومأ بالسجود. ثُمَّ توجه إِلَى الجامع العتيق بمصر فوجد الخطيب عبد السميع ينتظره بالجامع، وَقَدْ كاد الوقت أن يخرج، فصلى الجمعة وقرأ أخوه محمد عهده، وفيه أنه ولي القضاء عَلَى مصر وأعمالها، والخطابة والإِمامة والقيام فِي الذهب والفضة، والموازين والمكاييل. ثُمَّ انصرف إِلَى داره فركب إِلَيْهِ جماعة الشهود والأمناء، والتجار ووجوه البلد، وَلَمْ يتأخر عنه أحد.
وكان فِي سجله: إِذَا دعي أحد الخصمين إِلَيْكَ ودعي الآخر إِلَى غيرك، رُدا جميعاً إِلَيْكَ، فعرف أن ذَلِكَ إشارة إِلَى منع أبي الطاهر. فامتنع من يومئذ حين بلغه. فلما كَانَ اليوم الثالث من ولايته، ركب علي بن النعمان إِلَى الجامع العتيق، وبين يديه سلة حمراء، وجلس فِي مجلس الصيف عند حلقة الزوال. وركب معه الشهود والأمناء، والفقهاء والتجار، فكان الجمع وافراً جداً. فنظر بَيْنَ الناس، ودعا بالوكلاء، وقرأ عليهم سورة (والعصر) وحضهم عَلَى تقوى الله. ثُمَّ طلب الشهود، وسأل عن القاضي أبي طاهر، فقال لَهُ الحسين بن كهمش - وَكَانَ وجه الشهود حينئذ - هو عَلَى حاله. فقال: ينظر فِي الحكم فِي داره دون الجلوس فِي الجامع؟ فبلغ ذَلِكَ أبا طاهر فصرف الوكلاء وانقطع عن الحكم. وعني بعض أهل البلد بأبي الطاهر فتنجز لَهُ توقيعاً، بأن ينظر فِي الحكم عَلَى حاله. وجمع الشهود وقرأ عليهم، بلغ ذَلِكَ أبا الطاهر فامتنع وقال: مَا أفعل، وَمَا بي طاقة. فقال لَهُ الحسين بن كهمش: جازى الله القاضي، وسكت علي بن النعمان عن طلب ديوان الحكم، فلم يسأل عنه ولا طلبه... حسن عشرة وجميل فعل.
ولما امتنع أبو الطاهر، انبسطت يد عليّ بن النعمان فِي الأحكام، واستخلف عليّ أخاه محمداً، والحسن بن خليل الفقيه الشافعي، وشُرط عَلَيْهِ أن يحكم بمذهب الإسماعيلية لا بمذهب الشافعي. وَكَانَ يحكم إِذَا اشتغل محمد.
واستخلف عليّ أخاه محمداً عَلَى تنيس ودمياط والفرما وغيرها. فخرج إِلَيْهَا وقرر فِيهَا نواباً ثُمَّ عاد واتخذ علي فِي داره سجفاً.

ولما سافر العزيز سنة ثمان وستين لحرب القرامطة، سافر صحبته، واستخلف أخاه محمداً. وأشاع جماعة أن العزيز عزل عليّ بن النعمان، وكاتَب محمداً أخاه بذلك. فتنجز توقيع العزيز إِلَى مُتَولي الشرطة، وهو حسن بن القاسم، بالكشف عن ذَلِكَ، وتقدم إِلَيْهِ بعدم الخوض فِي ذَلِكَ، وتقوية يد محمد بن النعمان. وَكَانَت الشهود تجلس فِي الجامع عَلَى رسم القضاة قبله، فِي الشتاء فِي المقصورة، وَفِي الصيف عند الشباك. ثُمَّ وقع الإنفاذ أن يجلس معه فِي مجلسه أربعة عن يمينه وعن يساره، يشاهدون مَا يقع من أحكامه، وَكَانَ الَّذِي يكتب عنه التواقيع يأخذ عَلَيْهَا رسماً. فأنكر ذلك عَلَى بن النعمان بعد سنة من ولايته ومنَعه.
وارتد فِي أيامه رجل، فاستأذن العزيز وضرب عنقه.
واختص ابن النعمان بالعزيز كاختصاص أبيه المعز، وَكَانَ يجالسه ويؤاكله، ويركب معه ويسايره وَكَانَ الوزير يعقوب بن كلس يعارضه، وهو يتغافل عنه. وزاد بِهِ الأمر إِلَى أن كَانَ لا ينفذ حكماً، ولا يعدِّل شاهداً، ولا يقلِّد نائباً إِلاَّ بعد مطالعة الوزير بذلك، وأبطل القاضي الجلوس لمبالغة الوزير فِي إضعاف يده، إِلَى أن قبض عَلَى الوزير فعاد علي بن النعمان إِلَى حالته.
علي بن يوسف بن رافع الكحال النابلسي. ولي فِي خلافة المستنصر بعد أبي الفضل ابن عتيق ولقب المؤيد بنصر الإِمام.
علي بن يوسف بن عبد الله بن بُنْدار، أبو الحسن بن أبي المحاسن الدمشقي، لقبه زين الدين، شافعي من المائة السابعة.
ولد فِي سابع عشرين شهر رجب سنة خمسين وخمسمائة ببغداد. وسمع بِهَا من أبي زُرعة طاهر بن أبي الفضل بن طاهر مسند الشافعي وتفقه عَلَى أبيه. وَكَانَ قَدْ درس بالنظامية. وهو ممن أخذ عن أسعد الميهني، ثُمَّ قدم الشام ثُمَّ مصر. ثُمَّ ولي القضاء بِهَا نيابة عن الصدر ابن درباس وخالط الجند وخدمهم فِي أشغالهم، فخف عليهم وتعصبوا لَهُ، حَتَّى ألزم الملك العزيز ابن السلطان صلاح الدين القاضي صدر الدين باستخلافه عنه، فاستخلفه. ثُمَّ أشهد سراً عَلَى نفسه أه ولاّه كرهاً. وأنه لا يرضى بِهِ نائباً وأكثر زين الدين من السعي بالأمراء عند القاضي فِي تقوية يده، وانقطع هو عن الوصول للقاضي، واستبد بكثير من الأمور.
فاتفق أن حضر القاضي لعقد نكاح امرأة مملوكة عند سيدها، وحضر زين الدين ابن يوسف المذكور، فأرسل إِلَيْهَا من يشهد عَلَيْهَا بأنها أذنت لَهُ فِي تزويجها، بعد الإِشهاد عَلَى سيدها بعتقها. ففعل الشهود ذَلِكَ. فلما أدوا شهادتهم بذلك، قال ابن يوسف: قَدْ أذنت لي بعقد نكاحها قبل هَذَا الإِذن، فأجابوه بأن العقد لا يصح قبل صحة العتق. وكثر النزاع فأخرق القاضي بمن شهد لابن يوسف بالإِذن وانفضوا. فتعصب الأتراك لابن يوسف، فبعث السلطان بالشيزري موسى الشافعي إِلَى القاضي بسببه. فأعاد الجواب بأن قال: إنه ارتشى وإنه راسل فلانة يُراودها، فغضب السلطان من جوابه وأمر بعزل القاضي. وأمر ابن يوسف أن ينفذ الحكم بمصر نائب ابن درباس. فقام جماعة من الأعيان فشفعوا فِي القاضي وأثنوا عَلَيْهِ. فقال لهم السلطان: إنه رمى نائبه بالفسق، فإن أثبت ذَلِكَ فهو مستمر، وإلا فقد فسق بقذف نائبه. وَكَانَ ذَلِكَ فِي ربيع الأول سنة تسعين وخمسمائة.
فاستمر إِلَى أن صرف لخمس من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين بأبي حامد ابن أبي عصرون، ثُمَّ أعيد ابن يوسف فِي ثالث المحرم سنة أربع وتسعين، فصرف بابن درباس ثُمَّ أعيد ابن يوسف، إِلَى أن صرف فِي تاسع عشر شهر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين وخمسمائة فلم يزل مصروفاً إِلَى أن مات فِي الثالث عشر من جمادى الآخرة سنة اثنتين وعشرين وستمائة، واستقر الصدر ابن درباس بعد صرف ابن يوسف إِلَى أن مات وهو قاض.
قال ابن النجار فِي ذيل تاريخ بغداد: ولد زين الدين هَذَا ببغداد، وخرج منها إِلَى الشام وهو شاب فاستوطنها إِلَى أن عرف بالدمشقي. ثُمَّ توجه إِلَى مصر فأقام بِهَا وولي القضاء بِهَا مرتين، ثُمَّ عزل.
وكان شيخاً حسن الأخلاق محباً للعلم وأهله، متواضعاً لطلابه. كريم الأخلاق كيساً متواضعاً. وكانت بضاعته فِي العلم مُزْجَاة. لقيته بمصر وقرأت عَلَيْهِ مسند الشافعي بمصر، وذكر لي أن خروجه من بغداد سنة سبع وسبعين.

عِمْران بن عبد الرحمن بن شُرَحْبِيل بن حَسَنَة، وَحَسَنَةُ هي أم شُرَحْبِيل، وأبوه عبد الله بن المطاع ولشُرَحْبِيل صحبة. وهو كندي حالف بني زهرة، وَكَانَ يقال لعمران: الحَسَنِيّ، نسبة إِلَى حَسَنَة جدّته العليا، ويكنى أبا شُرَحْبِيل.
قال أبو عمر الكندي: ولي عمران بن عبد الرحمن من قِبَل عبد الله بن عبد الملك بن مَرْوان، وجمع لَهُ القضاء والشُّرَط. قال: وَكَانَ من أهل العلم والفضل. وَكَانَ ذَلِكَ فِي سنة ست وثمانين، ثُمَّ ولي بحر مصر بعد ذَلِكَ بمدة سنة ثلاث ومائة وتوفي بعد ذَلِكَ وهو من التابعين.
سمع من أبي خراش المُدلّى الصحابي وهو من بتي مُدِلّ بن زيد بطن من رُعين. روى عنه عَيَّاش بن عَبّاس القِتْبَانيّ وموسى بن أيوب الغافقي.
وفي ولايته أتى بمولى لعبد الله بن عبد الملك من خواصه وهو سكران فجلده الحد، فقيل لعمران: إنه من خواص الأمير، فقال: لو كَانَ ابنه لحددته وَكَانَ الأمير يومئذ بالإسكندرية فبلغه ذَلِكَ فكتب بعزله ثُمَّ سجنه وضيق عَلَيْهِ.
واتفق أن الغلاء وقع بمصر فتشاءموا بإمرة عبد الله بن عبد الملك وَكَانَتْ أول سنة حصلت لمصر فهجاه ابن أبي بدر الحسني بأبيات منها:
إِذَا سار عبد الله عن مصر خارجاً ... فلا روجعت تِلْكَ البغال الخوارجُ
أتى مصر والكيال وافٍ مغربل ... فما سار حَتَّى صار والمد فالج
فأهدر دمه فهرب فبلغ الأمير أن عمران القاضي أواه فازداد عَلَيْهِ حنقاً وقال عمران فِي الأمير المذكور:
أنا ابنُ أبي بَدْرِ بِهِجْرَةِ يَثْرِبٍ ... وهِجْرَة أرضٍ للنَّجَاشِي أَفْخَرُ
أَمِثْلِي عَلَى سِنِّيِ وَفَضْلَ أُبُوَّتِي ... نسيت وهذا نَجْلُ مَرْوَانَ يُذْكَرُ
ولما صرف عمران استقر بعده عبد الواحد بن عبد الرحمن بن معاوية بن حديج وهو يومئذ غلام حدث فقال عمران:
لَحَى اللهُ قَوْماً أَمَّرُوكَ أَلَمْ يَرَوْابِأَعْطَافِكَ التَّخْنِيثَ كَيْفَ يَرِيبُ؟
أَتَصْرِفُني جَهْلاً عن الحُكْمِ ظَالِماً ... وَوَلَّيْتَه عَجْزاً فَتاةً تخيبُ؟
قال أبو عمر فأمر عبد الله بن عبد الملك بقميص عمل من قراطيس ويكتب فِيهِ عيوب عمران فاتفق عزل الأمير قبل أن يُوقَف القاضي.
وقال أبو عمر بينا عمران جالس فِي المسجد يرهب أن يوقف للناس فِي ذَلِكَ القميص إذ هبت الريح فألقت سِحاءة فطرحتها فِي حجره فقرأها فإذا فِيهَا: (فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ).
فاتفق أن خرج الأمير إِلَى نزهة بالجيزة لِمَدْعَاةٍ عند يحيى بن حنظلة الكاتب مولي بني فهم فاستخلف عبد الأعلى بن خالد بن ثابت الفهمي عَلَى الفسطاط فلما تعالى النهار أقبل قرة بن شريك العبسي من قبل الوليد أميراً عَلَى مصر عَلَى أربعة من دواب البريد. فنزل عند المسجد فدخل المسجد فصلى فِي القبلة ثُمَّ تحول وجلس صاحباه عن يمينه ويساره فأتاهم الحرس فقالوا: إن هَذَا مجلس الوالي، ولكم فِي المسجد سعة. قال: فأين هو؟ قال: فِي نزهة. فقال فادعوا خليفته. فانطلق واحد منهم إِلَى عبد الأعلى فبلغوه فقال أسرجوا إلي، فركب حَتَّى أتاه فسلم، فقال لَهُ: انطلق فاطبع عَلَى الديوان قال إن كنت والي خراج فلسنا أصحابك. قال: ممن أنت؟ قال من فهم. فتمثل قرة بن شريك يقول:
لَنْ تَجِدَ الفَهْمِيّ إِلاَّ مُحَافِظاً ... عَلَى الخُلُق الأَعْلَى وَبِالْحَقِّ عَالِما
انطلق كما تؤمر فقال السلام عَلَيْكَ أَيُّها الأمير ورحمة الله فبلغ عبد الله بن عبد الملك الخبر وَقَدْ أهديت لَهُ جارية فقال بيعوها، وبكى ولبس خفيه قبل سراويله وقال مات عبد الملك.
وكان عزل عمران فِي صفر سنة تسع وثمانين وَكَانَتْ مدة ولايته سنتين وخمسة أشهر.
عمر بن إبراهيم بن محمد بن عمر بن عبد العزيز بن محمد بن أحمد بن هبة الله بن محمد بن هبة الله بن أحمد بن يحيى بن زهير بن هارون بن موسى بن عيسى بن عبد الله بن محمد بن عامر بن أبي جرادة الصاحب كمال الدين أبو القاسم ابن العَديم قاضي القضاة بحلب ثُمَّ بالديار المصرية.
ولد سنة إحدى وستين وسبعمائة واشتغل وتمهر وناب عن أبيه فِي الحكم وولي بعده وتنازع مع القاضي محب الدين ابن الشّحْنَة إِلَى أن استقرت قدمه.

وكان عارفاً بطرق السعي فلما كَانَتْ واقعة اللّنك أصيب مع أصيب ثُمَّ خلص وقدم الديار المصرية فِي خلال سنة أربع، فلم يزل حَتَّى استقر فِي قضاء الحنفية، وصرف القاضي أمين الدين ابن الطرابلسي، واستمر حَتَّى مات فِي ليلة السبت ثالث عشر جمادى الآخرة سنة إحدى عشرة وهو عَلَى القضاء.
وكان شهماً فصيحاً مقداماً، وَكَانَ يعاب بأشياء ويحمد بأشياء كثيرة من التعصب لمن يقصده والقيام مع من يلوذ بِهِ.
قرأت بخط الشيخ تقي الدين المقريزي: كَانَ من شَرّ القضاة جرأة وجمعاً وحِدة وبادرة ووثوباً على الدنيا وتهافتاً عَلَى جمع المال من غير حِله وتظاهراً بالربا، وأفرط فِي استبدال الأوقاف، وكان يفرط فِي التواضع حَتَّى كَانَ يمشي عَلَى قدميه من منزله إِلَى من يقصده من الأكابر. قال: وَفِي الجملة كَانَ من رجال الدنيا.
عمر بن إسحاق بن أحمد بن محمد بن إسحاق بن أحمد بن محمود الغَزْنَوِيّ الأصل القاضي سراج الدين الهندي.
ولد سنة أربع أَوْ خمس وسبعمائة تقريباً، واشتغل فِي بلاده وتجرد وساح فِي البلاد. وأخذ عن جماعة من الفضلاء. وقدم إِلَى مصر فِي سنة أربعين ونزل فِي مدارس الحنفية. واشتهرت فضائله. وسمع الحديث ورواه وصنف عدة تصانيف.
وناب فِي الحكم عن جمال الدين التركماني، ثُمَّ عزله عن النيابة فِي سنة تسع وخمسين بإشارة قطب الدين ابن الهِرْماس، فتوصل السراج بأبي أمامة ابن النقاش حتى اجتمع بالسلطان حسن ولازمه فراج عَلَيْهِ إِلَى أن غضب السلطان عَلَى القطب الهرماس وطرده، ثُمَّ استقر السراج قاضي العسكر بعناية يلبغا، وهو أول من وليها من الحنفية. ثُمَّ لما مات الجمال ابن التركماني استقر فِي القضاء استقلالاً، وذلك فِي شعبان سنة تسع وستين، إِلَى أن مات فِي سابع رجب سنة ثلاث وسبعين.
وكان من أئمة الحنفية. صنف الشامل فِي الفقه، وشرح الهداية شرحين كبير وصغير، وشرح البديع فِي الأصول، والمغني، وشرح الزيادات، وشرح الجامع، وشرح عقيدة الطحاوي. وَلَهُ الغرة المنيفة فِي ترجيح مذهب أبي حنيفة، وشرح التائية فِي نظم السلوك لابن الفارض. وَكَانَ يتعصب لَهُ.
ومن مناقبه أن الأمير الكبير أُلْجَاي تولى نظر الأوقاف فاشتد عَلَى الفقهاء وقطع رواتبهم. فكلّمه السراج فِي ذَلِكَ فلم يقبل فأغلظ لَهُ بأن قال: أنت إقطاعك ألف ألف، تستكثر عَلَى فقيه خمسة أَوْ عشرة! فقال: أنا لا آخذ هَذَا إِلاَّ من أجل الجهاد فقال لَهُ: لولا الفقهاء مَا كنت مسلماً، فأطرق ورجع عما كَانَ فِيهِ.
وكان فِي لسانه لثغة تجعل العين ياء، وَكَانَ دمث الأخلاق متواضعاً، كثير التودد، منتصباً لقضاء حوائج الناس. وَكَانَ يتعصب لمن يخدمه ويقصده، حَتَّى أن كاتباً عَلَى الغزل انقطع إِلَيْهِ وخدمه فلما أن ولي القضاء استنابه، فهجاه الشيخ شمس الدين ابن الصائغ بقوله:
ولما رأينا كاتب المكس قاضياً ... علمنا بأن الدهر يمشي إِلَى وَرَا
فقلت لصحبي لَيْسَ فِي ذا تعجب ... وهل يجلب الهندي شيئاً سوى الخرا
وكانت ولايته القضاء استقلالاً فِي رابع عشري شعبان سنة تسع وستين، وتعصب فِي زمن حكمه لابن الفارض، حَتَّى إنه عزّر الشيخ شهاب الدين ابن أبي حَجلة لكونه كَانَ كثير الوقيعة فِيهِ، فقال فِيهِ ابن العطار:
ضياء سراج الدين قاضي قضاتنا ... كَسَى مذهب النُّعمان توشيحه الدررْ
وعاقب لابن الفارض ابن حجيلة ... كفى عُمراً أن قام لله فِي عُمَرْ
وأشار بقوله: توشيحه إِلَى شرح الهداية، فإنه سماه التوشيح، ومات السراج فِي رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة.
عمر بن الحسن بن عبد العزيز بن عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب الهاشمي العباسي.
ولد سنة أربع وثمانين ومائتين، واشتغل بالفقه، وعرف بمذهب الشافعي.
وكان إِلَيْهِ إمامة الجامع العتيق، إقامة الحج، وإمامة الحرمين. وولي القضاء نيابة عن أخيه محمد لما ولي قضاء بغداد والممالك. وَكَانَ ذَلِكَ بعد صرف ابن ولي فِي شهر رجب سنة ست وثلاثين وثلاثمائة، فركب إِلَى الجامع بالسواد ومعه القضاة والشهود والأمناء والأشراف ووجوه أهل البلد.

واستخلف عَلَى الأحكام أبا بكر الحداد فقرئ عهده فِي الجامع من قبل أخيه محمد بن الحسن وعَهد أخيه من قبل الخليفة المطيع. وأضيف إِلَيْهِ قضاء الإِسكندرية والرملة وطبرية وأعمالها. فكان ابن الحداد يقضي فِي دار عمر بن الحسن يَوْمَي السبت والخميس، وَفِي منزله يوم الاثنين وإذا حج ركب ابن الحدَّاد إِلَى الجامع بطيلسان أسود، ويشهد عنده الشهود، وَكَانَ وجه الشهود يومئذ يحيى بن مَكِّيّ بن رجاء، فاتفق أنه شهد عنده فِي شهادة فِي كتاب فقال لَهُ قرأت هَذَا الكتاب من أوله إِلَى آخره أَوْ قرئ عَلَيْكَ؟ فقال لا: وقال لرفيقه وهو الحسين بن أيوب: فما تقول أنت؟ قال: مثله فقال اشهد بهذه الشهادة عند أصحاب الجُمَّيز.
وجرى بَيْنَ ابن وليد وبين الشهود وغيرهم فِي ولاية عمر هَذَا أمور كثيرة، وترافعوا إِلَى أمير البلد أبي القاسم ابن الإِخشيد والأستاذ كافور. وادعى ابن وليد أن تَحْتَ يد ابن رجاء أموالاً كثيرة لا أصحاب لَهَا، فاعتقله كافور، فقام الهاشمي وسائر وجوه الناس فشفعوا فِيهِ حَتَّى أطلق.
واستقامت أمور الهاشمي وعدّل جماعة ورد شهادة آخرين، وتصلّب فِي الأحكام، وعَفَّ عن أموال الناس فلم يقبل لأحد هدية، ولا وجد أحد عَلَيْهِ مطعناً، بل أتلف مالاً كثيراً لنفسه فِي أمور القضاء حَتَّى استقام لَهُ ثُمَّ مَلَّ مِنه واستعفى.
وفي أثناء ذَلِكَ تولى محمد بن صالح ابن أم قضاة القضاة ببغداد فاستخلف ابن وليد، ووصل كتابه إِلَيْهِ بذلك، وركب جماعة من الشهود الذين أوقفهم العباسي فشهدوا عند كافور بصلاحية ابن وليد، وصحبوا معهم أبا الطاهر أحمد بن محمد بن عمرو المديني صاحب يونس بن عبد الأعلى. وَكَانَ مولده سنة ثمان وأربعين ومائتين فقال لكافور: أَيُّها الأستاذ حدثنا يونس، حدثنا ابن عُيينة عن الزهري عن أنَس رفعه (لا تَحاسدوا ولا تَقَاطعوا ولا تَدَابر وكُونُوا عِباد الله إخواناً) وهؤلاء القوم قَدْ عَصوا رسوله عَلَيْهِ السلام، وقاطعونا، فلا تقبل شهادتهم. فقام بعض من حضر فقال: إن هَذَا الحديث الَّذِي حدث بِهِ لا يوجد اليوم فِي شرقي الأرض وغربها من يرويه بأعلى من هَذَا الإِسناد. فأعجب كافور، ووعدهم بخير.
ثم ركب الهاشمي، وابن الحداد، وأبو جعفر مسلم العلوي، وأبو الذكر، وغيرهم من الأكابر إِلَى كافور. فأطلقوا القول فِي ابن وليد بكل سوء. قال قائلهم: إن رأى الأستاذ أن يصون هَذِهِ الشيبات ويقبل شفاعتهم فليفعل، فوقف حال ابن وليد وأرسل يحيى بن رجاء قاصداً إِلَى بغداد يخطب قضاء مصر فما أُجيب.
وحج عمر بن الحسن عَلَى عادته، فصرفه كافور عن الحكم فِي ذي الحجة سنة تسع وثلاثين، وقرر الخَصِيبيّ. وَكَانَ عزل العباسي وهو راجع من الحجاز فقيل لولده عبد السميع أن يسعى فِي إفساد ذَلِكَ، فتوانى وفتر وحضر والده فلم يحدث فِيهِ أمراً، وَمَا كَانَ لَهُ إِلَيْهِ ميل ولا شهوة وتأخرت وفاة العباسي وهو عَلَى رياسته إِلَى سنة ست وأربعين وثلاثمائة فمات فِيهَا.
عمر بن عبد الله بن عمر بن عوض بن خلف بن راجح بن بلال بن هلال ابن عيسى بن موسى بن الفتح بن زريق المقدسي عز الدين الحنبلي من المائة السابعة ولد سنة إحدى وثلاثين وستمائة.
وسمع الحديث من جعفر الهَمْداني والضياء المقدسي والحافظ أبي علي البكري، وابن رواج، والسبط وغيرهم. وأحضر قبل ذَلِكَ عَلَى أبي المنجَّا ابن اللَّتِّي، وتفقه عَلَى العماد المقدسي، وهو الَّذِي تولى بعد موته، فإنه كَانَ ينوب عنه، فلما حبس أذن لنائبه المذكور أن يستمر فِي الحكم بغير ولاية، فاستمر من سنة اثنتين وسبعين إِلَى أن مات العماد فِي المحرم سنة ست وسبعين، فاستقر عز الدين عمر هَذَا قاضياً مستقلاً إِلَى أن صرف فِي جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين بالحرّاني، ثُمَّ أعيد فِي سنة تسع وسبعين، فاستمر إِلَى أن مات فِي صفر سنة ست وتسعين وستمائة، واستقر بعده الحرّاني وهو عبد الغني ابن يحيى.
وله أخ اسمه محمد، تفقه بالشيخ العماد وغيره، وولي الحسبة، وعاش إِلَى ربيع الأول، سنة تسع عشرة وسبعمائة.
عمر بن عبد الله بن صالح بن عيسى السُّبْكي شرف الدين المالكي من المائة السابعة.
ولد فِي ذي الحجة سنة خمس وثمانين وخمسمائة وتفقه عَلَى جماعة، وسمع من أبي الحسن ابن المفضل وغيره. وحدث.

روى عنه القاضي بدر الدين ابن جماعة فِي مشيخته، وولي القضاء بالديار المصرية لما صارت القضاة أربعة فِي أيام الظاهر بيبرس. وهو أول من وليه من المالكية رابع أربعة بعد الذين كانوا فِي أيام ابن الأفضل أمير الجيوش. وَكَانَتْ ولايته فِي ذي الحجة سنة ثلاث وستين وستمائة، واستمر إِلَى أن مات فِي ذي القعدة سنة تسع وستين.
قال الشريف عز الدين الحسيني فِي الوفيات: تفقه بمصر، وولي الحسبة ثُمَّ الحكم، ودرس بالصالحية، وأفتى وحدث، وكان أحد المشايخ المشهورين بالخير والدين، والفضل. ويقال: إنه من ذرية إدريس بن إدريس بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي بن أبي طالب. وقرأت بخط من ساق نسبه بعد عيسى فقال: ابن عبد الملك بن موسى بن خالد بن علي بن عمر بن عبد الله بن إدريس.
ومن مفاخره أنه لما ولي كتب إِلَى الشيخ مجد الدين القُشيري والد الإِمام أبي الفتح ابن دقيق العيد، وَكَانَتْ إقامته بقوص يستنيبه عنه هناك. وَكَانَ رفيقه فِي الاشتغال عند ابن المفضل، فناب عنه بِهَا. وَقَدْ سمع الحديث من جماعة، وخرج لَهُ ولده أبو بكر محمد مشيخة، وذكر فِيهَا لَهُ قصته مع الشيخ مجد الدين ابن دقيق العيد.
عمر بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن محمد بن محمود البِسطامي زين الدين الحنفي من المائة الثامنة.
ولد سنة سبع وتسعين وستمائة. واشتغل بالفقه ومهر فِيهِ إِلَى أن اشتهر. وولي القضاء بعد حسام الدين الغُوري، وباشر مباشرة حسنة.
وكان كثير الإفضال، حسن العشرة، جميل الأخلاق، عارفاً بمذهبه. وهو جد قاضي القضاة صدر الدين المناوي لأمه، وصُرف زين الدين عن القضاء بغتة بالشيخ علاء الدين التُّركُمانيّ فِي شوال سنة ثمان وأربعين فِي سلطن المظفر حاجي بن الناصر. واستمر زين الدين عاطلاً إِلَى أن مات فِي رابع عشري ربيع الآخر سنة إحدى وسبعين وسبعمائة.
عياض بن عبيد الله بن ماجد بن مسعود بن عمرو بن الأعرج بن عوف ابن كَثير بن عبد الأزدي ثُمَّ السلاماني يكنى أبا إسماعيل من المائة الثانية.
سمع من عبد الله بن عمر. روى عنه عبد الله بن هبيرة السَّبَاني، وتَوبة بن نَمِر، وغيرهما.
ولاه قُرة بن شريك القضاء فِي جمادى الأولى سنة ثلاث وتسعين، فأقام أربع سنين ثُمَّ صرف فِي شهر رجب سنة سبع وتسعين، وأعيد بعده عبد الله بن عبد الرحمن بن حُجَيرة. ثُمَّ ورد كتاب سليمان بن عبد الملك بعود أبي إسماعيل فِي العزيز. ويقال إنه أول من ولي من قبل الخليفة من بني مروان.
وذكر أبو عمر الكندي أن أبا إسماعيل كَانَ عاملاً لأسامة بن زيد علي الهُرْي فلما أتته ولايته عَلَى القضاء من قبل سليمان قال لَهُ أسامة بن زيد: أنت عليهما جميعاً، وَكَانَ يجري عَلَيْهِ رزقهما.
وأسند أبو عمر من طريق تَوبة بن نَمِر أن أبا إسماعيل كتب إِلَى عمر بن عبد العزيز أن صبياً افترع صبية بإصبعه فكتب إِلَيْهِ عمر: لَمْ يبلغني فِي ذَلِكَ شيء وَقَدْ جعلتُ ذَلِكَ إِلَيْكَ فاقض فِيهِ برأيك. فقضى عَلَى الغلام للصبية بخمسين ديناراً.
وأسند أبو عمر من طريق ابن وهب أخبرنا ابن وهب ابن لَهِيعَة، عن عبيد الله بن أبي جعفر، أن عمر بن عبد العزيز كتاب إِلَيْهِ عياض فِي رجل خرج راكباً فرساً فصدم امرأة عَلَى الطريق فقتلها فأبى مواليه أن يعقلوا عنه قال ولو أنه المقتول لطلب مواليه عقله. فكتب إِلَيْهِ عمر: اعلم أن عامة هَذِهِ الموالي لا تحفظ أنسابها فعاقلها فاجعل ذَلِكَ عَلَى مواليه قال ابن وهب أخبرني بذلك الليث بن سعد.
وأورد لَهُ أبو عمر عدة مكاتبات إِلَى عمر بن عبد العزيز يسأله عن قضايا أشكلت عَلَيْهِ. وصرف أبو إسماعيل فِي خلافة عمر بن عبد العزيز فِي العشر الأخير من شهر رجب سنة مائة وولي بعده عبد الله بن يزيد بن خُذَامِر.
عيسى بن محمد بن عيسى الهَكَّرِيّ الموصلي المعروف بالفقيه عيسى الأمير الكبير المجاهد العالم أول من ولي القضاء بالديار المصرية فِي الدولة الأيوبية ولد فِي سنة...
وتفقه بأبي القاسم ابن البِزْرِي بجزيرة ابن عمر.
قال ابن ميسر فِي تاريخه: كَانَ فقيهاً عالماً شجاعاً كريماً لَهُ عصبية وكان فِي أول أمره استقر يؤم بأسد الدين شِيرَكُوه فلما ولي الوزارة بمصر قدمه إِلَى الإِمْرَة لما كَانَ يعرف من شهامته وشجاعته.

فلما استقر صلاح الدين بعد عمه، وأعيد المفضل بن هبد الله بن كامل إِلَى القضاء، وذلك فِي ذي الحجة سنة خمس وستين وخمسمائة، أذن السلطان صلاح الدين للفقيه عيسى أن يحكم بَيْنَ الناس بالقاهرة رفيقاً لابن كامل، وأفرد مصر لابن كامل، فاستمر الحال عَلَى ذَلِكَ إِلَى أن أمر السلطان بإحضار القاضي صدر الدين عبد الملك بن عيسى بن درباس وَكَانَ ممن قدم مع صلاح الدين إِلَى مصر، فولاه قضاء الغربية بالمحلة وَمَا معها، فحضر فِي جمادى الأولى سنة ست وستين، ففوض إِلَيْهِ القضاء بالقاهرة ومصر والوجهين القبلي والبحري مستقلاً بغير مشارك.
واستقر الفقيه عيسى فِي الإِمْرَة، وَكَانَ وجيهاً فِي الدولة مسموع الكلمة، ولع مواقف فِي القتال مشهورة، ومات فِي ذي القعدة سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
عيسى بن المُنْكَدِر بن محمد بن المنكدر بن عبد الله بن الهدير بن محرز ابن عبد العزي بن عامر بن الحارث بن حارثة بن سعد بن تيم بن مرة بن كلاب بن كعب بن لؤي بن غالب القرشي التيمي المنكدري المدني الأصل، نزيل مصر، أبو محمد.
ولد بقصر عمران بن النعمان المعافري بالفسطاط. وكانت ولايته من قبل عبد الله ابن طاهر لما أمره المأمون على مصر.
قال أبو يعقوب البُويطي: لما ولي أبو طاره إمْرَةَ مصر أَمَرَ بإحضار أهل مصر، فحضر الناس، وحضر عبد الله بن الحكم. فقال ابن طاهر: إن جمعي لكم لترتادوا لأنفسكم قاضياً فكان أول من تكلم يحيى بن عبد الله بن بكير. فقال: أيها الأمير ولّ قضاءنا من رأيت، وجنبنا رَجْلَين. لا تولِّ قضاءنا غريباً لا زرَّاعاً. يعني بالغريب إبراهيم بن الجراح، وبالزرَّاح عيسى بن فُليح. فنهض إبراهيم بن الجراح فقال: اصلح الله الأمير، رجل من أبناء الدولة قديم الحرمة. فلم يستمع ابن طاهر له. ثم تكلم أبو ضَمْرَة الزُّهري فقال: أيها الأمير، الفقيه العالم أَصْبَغ بن الفرج، واصبغ حاضر، فعارضه سعيد بن كثير بن عُفَيْر. فقال: ما بال أبناء الصبَّاغين والمقامص يُذكرون في المواضع التي لم يجعلهم الله لها أهلاً! قال: فقام أصبغ فأخذ بمجامع ثوب سعيد بن غُفَيْر وقال: أنت شيطان. ومن أين علمت أني من أبناء الصباغين! وارتفع الأمر بينهما حتى كادت تكون فتنة. فذكر عبدُ الله بن عبد الحكم، عيسى بن المنكدر، فأثنى عليه بخير. فقلده عبد الله بن طاهر وذلك لعشر خلون من رجب سنة اثنتي عشرة.
قاله الكندي.
وقال ابن يونس سنة إحدى عشرة. قال البويطي وقال سعيد بن عفير في أصبغ: ليس هذا الرجل كما وصفت. هذا رجل بذي طويل اللسان وسجع في كلامه فقام أصبغ فقال: إن الأمير أمر أن يحضر مجلسه الفقهاء وأهل العلم لا الشعراء ولا الكهنة فقال البويطي أنا أذكر للأمير ستة يجعل هذا الأمر فيمن رأى منهم. قال: من هم؟ قال قلت: عبد الله بن الحكم وسعيد بن هاشم وعيسى بن المنكدر وابنا مَعْبَد وجعفر بن هارون. فأثنى ابن عبد الحكم علي عيسى فولاه فقال ابن عبد الحكم: إنه مُقِلُّ فأجرى عليه سبعة دنانير في كل يوم فاستمرت للقضاة، وأجرى عليه أربعة آلاف درهم في كل شهر ووصله بألف دينار.
واستكتب عيسى إبراهيم بن أبي أيوب قليلاً. ثم كتب له أبو الأسود النَّضْر بن عبد الجبار وداود ابن أبي طَيْبة فتنازعا. فقال النضر: لا أكتب لك حتى تنحي داود، فامتنع من تنحيته، فانصرف النضر وثبت داود، وكان محتاجاً إليه فانقطع عنه النظر. وكان القائم بأمر عيسى كله سليمان بن بُرْد، وكان مِقْدام بن داود يقول: ما رأيت أحداً أعلم بالقضاء وآلاته من سليمان، ولم يضطرب أمر عيسى حتى مات سليمان آخر سنة اثنتي عشرة ومائتين.
وقال عيسى بن لَهِيعَة: كان سعيد بن عيسى بن تَلِي على مسائل عيسى، ثم ضم إليه عبد الله بن عبد الحكم. فذكر يحيى بن عثمان أن ابن عبد الحكم أدخل في العدالة من لا قَدْرَ له ولا بيت، مثل فلان الحائك وفلان المُسِلماني، وفلان البياع. فيقال: إن أبا خليفة حُميد بن هشام الرّعَيني لقيه فقال له: يا ابن عبد الحكم، كان الأمر مستوراً فهتكته، وأدخلت في الشهادة من ليس لها أهلاً. فقال له ابن عبد الحكم: إن هذا الأمر دِينٌ، وإنما فعلت ما يجب عليّ. فقال أبو خليفة: اسألُ الله ألا يبلغك الشهادة أنت ولا أحداً من ولدك.

حكى ذلك ابن قُدَيْد، وزاد فكان الأمر كذلك، لقد بلغ هو وولَده بالبلَد ما لم يبلغه أحد ما قُبلت لأحد منهم شهادة قط.
قال أبو سعيد ابن يونس: وكان حميد بن هشام عبداً صالحاً، وهو ابن هشام بن حميد بن خليفة بن زرعة، شهد جده الأعلى زُرعة فَتْحَ مصر. وحدّث حميد عن الليث، وابن لَهيعة. وعُمِرّ طويلاً إلى أن مات في شوال سنة تسع وأربعين ومائة، ويقال مات قبل ذلك.
وقال ابن يونس ومحمد بن محمد بن الأشعث: ذُكر عيسى بن المُنْكَدر عنده أبي شَرِيك المُراديّ فقيل كان لا يحسن القضاء، فقال: معاذ الله، بل كان رجلاً صالحاً. ولقد كانت فيه خصلة حسنة نافعة للمسلمين لما ولي القضاء جعل له صاحب مسائل يسال له عن الشهود، ولم يقنع بذلك حتى يتنكَّر بالليل ويغطي رأسه ويمشي في السِكك يسأل عن الشهود. وقد رآه غير واحد من الثقات كذلك.
وكان يَضَعُ قمطره في حانوت في دار عمرو بن خالد ففسدت قضية منها، فامتنع عمرو بن خالد من أدخال القمطرة داره فاكترى منزلاً في دار عمرو بن العاص، فكان عيسى إذا انصرف وضع القِمَطْر فيها. وخُتم على الباب.
وقال ابن عبدن الحكم: أشار وَالدي على عيسى بوجوب اليمين للمدعي على المدعي عليه بالمال - يعني يمين الاستظهار - ولو لم تقم بينهما بينة بخلطة. فأخذ بذلك لأن الناس فسدوا. وذكر نحوه عن أصْبَغ في الغرباء الذين يضربون في الأرض ولا يشترون ولا يبيعون إلا ممن لا يعرفونه ولا يخالطونه.
وقال محمد بن عيسى بن فليح: اختصم رجلان إلى عيسى بن المنكدر وكان ربما حان منه خفة في الحكم، فقضى لأحدهما على الآخر، وقال للمحكوم له: أَضجعْ خصمك. فأضجعَهُ فقلت في نفيس: تُرى يريد ذبحه! ثم قال له: قُمْ فاجعل رجلك على خدّه حتى يذل للحق. فلما خرجا قيل له خالفت الناس في هذا. فقال: فإني لا أعود.
وقال أبو مسعود عن أبيه: خاصمت إلى عيسى فصال علي خصمي، فقال لي: ابصق في وجهه. فتوقفت فقال: والله لا أحكم لك حتى تبصق في وجهه، ففعلت فقال له: أذلّك الحق فقم فادفع إليه حقه.
وقال أبو الرقراق: جاء عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم إلى عيسى برسالة أبيه في شيء فقال: لا والله لا فعلت. فلما خرج ابن عبد الحكم قال عيسى: إنهّ أباه يدلّ عَلي كأنه ألحقني بالمنكدر.
وقال أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: سمعت الشافعي يقول لعيسى بن المنكدر: أشكر الله وعائشة، فهي جَعَلَتْ لكم قُرْطَيْن من ذهب.
وكان عيسى قد صاح بالشافعي فقال له: يا كذا يا كذا، دَخَلْتَ هذه البلدة وأمرها واحد ورأيها واحد ففرقت بينهم، وألقيت الشر، فرّق الله بين روحك وجسدك.
وكان ذلك قبل أن يلي عيسى بن المنكدر، وأشار بالتفرقة إلى ما وقع من الاختلاف بين الشافعي وأهل مصر، وكانوا لا يعرفون إلا رأي مالك، فلما خالفه الشافعي وافقه جماعة كثيرة منهم فصار يقع بينهم الجدال والمنازعة. وإنما ولي عيسى القضاء بعد موت الشافعي بمدة طويلة.
وقال ابن قُدَيْد: قرأت من رقاع يحيى بن عثمان: سمع عيسى بن المُنْكَدِر رَجلاً ينشد وهو على القضاء يومئذ:
لَقَدْ عَجِبْتُ وَرَيْبُ الدَّهْرِ ذُو عَجَبِأَنَّ الهُدَيْرِيَّ وَسْط السُّوق يَنْتَسِبُ
وَمَالهُ نَسَبٌ في النَّاسِ نَعْلَمُهُ ... إلا الحمارُ وَهَلْ للْعَيْر يُنْتَسَبُ
إني لأخْشَى عَلى تَيْمٍ مَعَرَّتُهُ ... كما يُخَافُ على ذي الصحة الجُرَبُ
قال وقرأت بخط يحيى بن عثمان: خاصم محمد بن أبي المّضاء إلى عيسى فحكم عليه فعرض لابن المنكدر بشيء فبقح، فأمر به فسُجن فلم يخرج من السجن حتى عزل عيسى. وكان عيسى يُنفق على عيال ابن أبي المضاء طول حبسه.
ورفع شخص إليه في ابن عبد ربه أن له عليه حقاً فلم يحضر، فأمر عيسى بإحضاره وضربه في المسجد عشرين سوطاً. وكان يجلس في المسجد غُدْوَةً ثم يروح ويعود لمجلس القضاء آخر النهار.
وخاصم إليه ابن يحيى بن حسان، فاتفق أنه ضحك في حال الخصومة فأمر به فلُطم.

وكان سبب عزله أنه كان بمصر جماعة من الصوفية وكانوا يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر. كان عيسى معهم. فلما ولي القضاء كانوا يأتونه فيقولون: جرى كذا وكذا فينهض معهم، فإذا لامه إخوانه قال: لا بد من القيام بحق الله. فاتفق أن المأمون ولي أخاه أبا إسحاق إِمْرَة مصر فخافوا من سطوته، فسألوا القاضي أن يكتب إلى المأمون أنهم لا يرضون بولاية أبي إسحاق. فأقرأه المأمون الكتاب فغضب وقال: لأفعلن بعيسى كذا وكذا، وأمر بعزله، فلما دخل مصر أمر بحبسه وحُبس ابن عبد الحكم لكونه من جهته فمات، وأقام ابن المنكدر للناس فخاصموه وادعوا عليه دعاوي، فاستمر محبوساً حتى خرج أبو إسحاق من مصر. وكان عزله في رمضان سنة أربع عشرة، ثم أمر أبو إسحاق بإحضاره إلى العراق، فاخرج في ذي القعدة سنة خمس عشرة فسجنه حتى مات هناك.
قال ابن يونس: وكانت وفاته قبيل العشرين، ولم يول أبو إسحاق على مصر بعد عيسى أحداً فبقيت مصر بغير قاض إلى أن ولي هارون بن عبد الله الزهري سنة سبع عشرة، ولكن أقام كيدرُ أمير مصر محمد بن مُكْنِف بن عبًّاد ينظر في المظالم ويحكم بين الناس.
وقال يحيى بن عثمان: بقيت مصر بغير قاض سنة خمس عشرة وسنة ست عشرة، فلما قدم المأمون مصر أمر يحيى بن أَكْثَم أن يقضي بين الناس.
حرف الغين المعجمة
غوث بن سليمان بن زياد بن ربيعة بن نُعَيْم بن ربيعة بن عَمرو بن عبيدة ابن جَذيمة الحَضْرَميّ ثم الصُّوَراني أبو يحيى. ولد سنة أربع وتسعين حكاه أبو سعيد ابن يونس عن ابن بكير.
وروى عن أبيه سليمان بن زياد عن عبد الله بن الحارث بن جَزْء الزُّبَيْدِي حديث النهى عن استقبال البائل القبلة. أخرجه ابن يونس من طريق حرملة عن ابن وهب قال: حدثني غوث بن سليمان بن زياد الحضرمي، عن أبيه. قال ابن يونس: ولي القضاء بمصر ثلاث مرات من قبل المنصور والمهدي.
روى عنه عبد الله بن وهب، وزياد بن يونس، والواقدي، وعبد الغفار بن داود الحراني، ويحيى بن بكير، وأبو الوليد الطيالسي، وهو آرخ من حدث عن بالعراق. قال يعقوب بن سفيان: أظنه سمع منه بمكة، يعني أن أبا الوليد لم يرحل إلى مصر، ويحتمل أن يكون سمع منه ببغداد في بعض قَدْماتِ غوثٍ أو بالكوفة لما قضى بها.
قال ابن يونس: وكانت أول ولايته من قبل المنصور في النصف من شهر رمضان سنة خمس وثلاثين بعد عزل خير بن نُعيم نفسه، فوليها خمس سنين إلى أن خرج مع أهل مصر منهم غَوْث، وذلك سنة سبع وثلاثين، وقرر في القضاء إبراهيم بن يزيد الرُّعَيْنيّ، فنظر أياماً ثم استعفى، وقرر عوضه يزيد بن عبد لله بن بِلال. وكان قاضي إخُمِيم. ثم مات فجأة في آخر سنة أربعين وكان قبل ذلك يكتب لغوث، وكان رجوع غوث من الصائفة بعد ثلاثة أشهر.
وقال غيره: عاد إلى مصر في جمادى الأولى سنة ثمان وثلاثين، فكان الناس يمرون وبه وهو جالس فلا يتحاكمون إليه إلى أن مات ابن بلال، فركب غوث إلى منزله فضم الديوان والودائع فصاحت بنته: وَاذُلاَّه.
قال الخطيب في المتفق ولي قضاء مصر ثلاث مرات.
وقال سعيد بن عفير: كان غوث أول من سأل عن الشهود بمصر، وكان الناس قبل ذلك يشهدون فمن عُرف بالخير قبل ومن لم يعرف سئل عن جيرانه، فما ذكروه به من خَيرٍ أو شَر عمل به. ومن لم يعرف لم يقبل، حتى فشت شهادة الزور، فسأل غوث عن الشهود في السر. فمضى الأمر على ذلك. وكان من أثنوا عليه قبلت شهادته، ثم كان واحداً من الناس، ولم يكن أحد يومئذ يُوسَم بالشهادة ولا يشار إليه بها.
فلما كان في شهر رمضان سنة أربع وأربعين، ورد كتاب المنصور بحبس غوث، فَحُبِس واختُلف في سبب ذلك، فقيل إن علي بن محمد بن عبد الله بن الحسن بن الحسن بن علي مضى فارّاً من المنصور واستتر بمصر، فاتهم غوث بن سليمان أن يكون تغيّب عنده.
وذكر ابن يونس عن فِتْيان بن أبي المسح: أن غوثاً اتِهم براي الإباضية من الخوارج.
وقال غير ابن يونس: وقيل إنه اتهم بمكاتبة أبي الخَطَّاب الإباضي. قال فِتْيان ابن أبي المسح: حدثني ربيعة النّفُوسي قال: أنا حملت كتاب أبي الخَطَّاب الإباضي من إفْرِيقيًّة إلى غوث، وحملت كتاب غَوْث إلى أبي الخَطّاب.

وحُبس مع غوث كاتبه حمزة بن زياد، فشفع صالح بن علي في حمزة، فكتب المنصور برده حيث وجد فوصل وهو بحلب. فأبى أن يرجع، وقدم العراق فاعتذر للمنصور لما قدم من الحج فعذره ورده إلى مصر، ثم أعيد غوث بن سلميان المرة الثالثة في جمادى الأولى سنة سبع وستين من قبل المهدي.
قال المُفصَّل بن فَضالة: لم يكن غوث بن سليمان فقيهاً، ولكن كان أعلم الناس بمعاني القضاء وسياسته، فكان أمره من أحسن شيء وكان هَوْناً.
وخرج إلى الصائفة مع صالح بن علي مرة غير تلك المرة، ولم يستخلف علي مصر أحداً.
وفي الثانية كان صالح جعل على كل جُند قاضياً، فصار الأمر يختلط فقال له عمرو بن الحارث: اجمعهم على غوث بن سليمان ففعل. قال فكنا نَمُرّ به والناس يترادفون عليه فنسلّم عليه فيقول: انزلوا حتى نَتَحَدَّث فَنَنْزِل فما ينشب أن ينفرج الناس عنه فيتحدث معنا.
وأخرج ابن يونس من طريق عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكم، حدثنا أبو رجاء حَمّاد بن المِسْوَر، قال: قدِمتْ امرأة من الريف وغَوْث ذاهب إلى المسجد عند السرَّاجين فشكت إليه أمرها وأخبرته بحاجتها، فنزل عن دابته في بعض حوانيت السراجين وكتب لها بحاجتها، ثم ركب إلى المسجد، فانصرفت المرأة وهي تقول: أصابت والله أمك حِين سَمَّتْكَ غَوْثاً، وأنت والله غوث عند اسمك.
وقال أبو عمر الكندي: وقع بين أبي جعفر وبين أم المهدي وهي أروى بنت يزيد بن منصور بن عبد الله الحميري خصومة، فقلت: لا أرضى إلا بِحُكم غَوْث بن سليمان قاضي مصر، فحُمل إلى العراق حتى حكم بينهما ورجع إلى مصر.
وأورد ابن يونس قصة من طريق عبد الواحد بن زرارة سمعت غوث بن سليمان يقول: بعث إليّ أمير المؤمنين أبو جعفر المنصور فَحْملتُ إليه، فقال لي: يا غَوْثُ، إنّ صاحبتكم الْحِمْيَرِيَّة خاصَمتني إليك في شروطها. قلت: أفترضي يا أمير المؤمنين بحكمي عليك، قال: نعم. قلت: فالحكم له شروط أفيحتملها أمير المؤمنين بحكمي عليك، قال: نعم. قلت: فالحكم له شروط أفيحتملها أمير المؤمنين؟ قال: نعم. قلت فيأمرها أمير المؤمنين أن تُوَكِّل وكيلاً وتُشهد على وكالته خادمَين خُرَّيْن يعدّلهما أمير المؤمنين على نفسه. ففعل فَوَكَّلَتْ خادماً وبعثت معه بكتاب صداقها، وشهد الخادمات بالوكالة، فقلت: قد تَمَّت الوكالة، فإن رأى أمير المؤمنين أن يُساوى الخصم في مجلسه. قال: فانحط عن فَرْشه وجلس مع الخصم، ودفع إلى الوكيل كتابَ الصداق فقرأته عليه فقلت: يُقِرّ أمير المؤمنين بما فيه؟ قال: نعم. قلت: رأى في الكتاب شروطاً مُوكَّدةً وبها يتم النكاح بينكما. أرأيت يا أمير المؤمنين لو خطبتَ إليهم ولن تشتطرط لهم هذه الشروط أكانهوا مُزَوَّجِيك؟ قال: لا، قلتك فبهذا الشرط تم النكاح، وأنت أحق من وفى لها بشرطها. قال: قد عِلمتُ إذ أجلستني هذا المجلس أنك ستحكم علي. قال: فقلت له: أَعْظِمْ جائزتي وأَطلقْ سبيل. قال: جائزتك علي من حَكمْتَ له. قال: ثم أمر لي بخلعة وجائزة.
قال: ثم أمر أبو جعفر باحتباس غوث بن سليمان ليحكم بين أهل الكوفة فقال له غَوْث: يا أمير المؤمنين، ليس البلدَ بلَدي، ولا معرفة لي بأهله، فإذا أنا ناديت من له حاجة بخصومة فلم يأتِ أحدٌ أتأذن لي يا أمر المؤمنين في الرجوع بلدي؟ قال: نعم. قال: فجلس غَوْث يحكم ثم نادى بعد فانقطعت عنه الخصوم فرجع إلى مصر.
وقال غير أبي عمر: كان من الشرط أنه لا يتسرى، ولا يتزوج عليها، فأكدت عليه ذلك، وأشهدت شهوداً. فبقي عشر سنين من سلطانه كذلك. فكان يكتب إلي الفقيه بعد الفقيه ليفتيه برخصة، إذا علمت المرأة بذلك أرسل إلى ذلك الفقيه بمال، وتسأله أن لا يفتيه فيه برخصة. قال: فلم يزل على ذلك حتى ماتت، فبلغه وفاتها وهو بحولان فأهديت إليه في تلك الليلة مائة بكر. ولم يزل غوث بن سليمان على ولايته هذه إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين ومائة، وكانت ولايته الأخيرة سنة واحدة، وصلى عليه موسى بن مُصْعَب الخَثْعَمِي أمير مصر.
وكانت ولاية غَوْث الثانية بعد صرف ولم يزل غوث بن سليمان على ولايته هذه إلى أن مات في جمادى الآخرة سنة ثمان وستين ومائة، وكانت ولايته الأخيرة سنة واحدة، وصلى عليه موسى بن مُصْعَب الخَثْعَمِي أمير مصر.

وكانت ولاية غَوْث الثانية بعد صرف إسماعيل بن اليسع الكوفي في خلافة المهدي في سنة ست وستين فكانت مدة عزله ثلاثاً عشريناً سنة، صرف سنة أربع وأربعين وأعيد سنة سبع وستين، وعاش بعد العود سنة واحدة.
حرف الفاء
الفضل بن غانم المروزي الخزاعي مولاهم يكنى أبا علي.
قال أبو سعيد ابن يونس: مروزي قدم مصر صحبة المُطَّلب بن عبد الله الخزاعي وكان المُطَّلب لما قدم مصر أميراً عليها عزل لَهِيعَة بن عيسى في شهر ربيع الأول سنة ثمان وتسعين وومائة.
وقرر الفضل بن غانم وأجرى عليه في الشهر مائة وثمانية وستين ديناراً. وهو أول من أجرى عليه هذا القدر بمصر. وكان كبير اللحية، فكان إذا خطب عمل في لحيته عُوذَةً خوفاً من عين لَهِيعَة بن عيسى وكان مِعْيَاناً.
وقال أبو الرقراق: كان الفضل بن غانم يميل إلى الغلمان فجاءه سعيد بن تليد يوماً سحَراً، وكان أرسل إليه فوجد على بابه غلاماً أسود، فانصرف ولم يدخل. فقال له الفضل بعد ذلك: لِمَ لَمْ تحضر؟ قال: جئت، بعلامة الغلام الأسود على الباب! فسكت. وكان ذلك العلام معرفاً بالتخليط.
وللفضل رواية عن مالك. أخرجا لدارقطني في غرائب مالك، من طريق إبراهيم ابن عبد الله المخرمي عنه عن مالك، عن جعفر بن محمد بن علي بن الحسين عن أبيه عن جده، عن علي قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من قال في اليوم مائة مرة لا إله إلا الله الملك الحق المبين كان له أماناً من الفقر لا ريب " .
وأخرجه أيضاً عن أبي بكر الشافعي حدثني أبو غانم حميد بن يونس الزيات، حدثنا الفضل بن غانم بالسند ولفظه قال: إذا صلى الفجر، وزاد بع قوله: الفقر: (واستجلب الرزق ووقى فَتَّاني القبر وقرع باب الجنة) ثم أخرجه الدارقطني من طريق الفضل بن العباس البغدادي ويحيى بن يوسف الزهري ومسلم بن المغيرة الأسدي.
وأخرجه أبو نُعيم في الحلية من طريق سالم بن ميمون الخواص كلهم عن مالك.
قال الدارقطني: هذا الحديث لا يصح وكل من رواه عن مالك ضعيف.
وقال أبو نُعيم: غريب من حديث سالم عن مالك.
وأخرجه الخطيب في الرواة عن مالك من ريقين عن المخرمي وفي آخره قال الفضل بن غانم: لو رحلتم في هذا الحديث إلى اليمن لكان قليلاً. قال الخطيب: الفضل بن غانم ضعيف. وقد روى عن مالك من وجوه عدة لا يثبت شيء منها.
وأخرجه الرافعي في تاريخ قزوين من طريق أبي الفتح الراشدي عن محمد بن الفرج عن المخرمي به. وزاد الزيادة المذكورة من قول الفضل بن غانم. وكلن قال خراسان بدل اليمن.
قال أبو عمر: ثم وثب أهل المسجد عليه ورفعوا ما هو عليه للمُطَّلِب فعزله عنهم. وأعاد لَهِيعَة بن عيسى، وكانت ولايته الفضل بن غانم سنة وشيئاً. وخرج من مصر إلى بغداد فتوفي بها سنة سبع وعشرين ومائتين.
وقال ابن أبي حاتم في كتاب الرد على الجهمية: حدثنا أبو هارون محمد بن خالد، سمعت أحمد بن محمد بن عمرو - وهو ابن أبي عاصم - يقول: سمعت الفضل بن غانم وكان قاضياً على الرّي لهارون أول ما سمعت بالقول في القرآن كنت بالري فكتبت إلى الرشيد: اعلم أن قبلنا قوماً يقولون: القرآن مخلوق. فكتب إليّ مَن أصبت منهم فأخرِج لسانه من قَفاه وأطِلْ حبسه وأحسن أدبه.
وذكر أبو جعفر الطبري في تاريخه في حوادث سنة ثماني عشرة ومائتين أن كتاب المأمون لما ورد بامتحان الناس في القرآن كان ممن لم يجب الفضل بن غانم وكان إذ ذاك ببغداد. فجاء جواب المأمون في الإنكار على من لم يجب ومن جملته: أنه لم يَخْفَ علينا ما كان فيه الفضل بن غانم بمصر وما اكتسب من الأموال في أقل من سنة وما دار بينه وبني المطَّلب أمير مصر.
وقال ابن قديدك ذكر لي محمد بن جعفر الإمام: حَدِيثاً عن الفضل بن غانم فقلت له: إنه كان عندنا بمصر قبل المائتين على القضاء، فقال: عاش بعد رجوعه من عندكم زماناً طويلاً.
أبو الفتح ابن الجلِيس، وهو عبدا الجبار بن إسماعيل.
أبو الفتح ابن سَعيد الفارقي، هو عبد الحاكم.
فخر القضاة هو أبو الفضل محمد بن عبد الحاكم.
أبو الفضل، ابن عتيق..
حرف القاف
قاسم بن إبراهيم بن هبة الله بن إسماعيل بن نبهان بن المقيشع الحموي. عماد الدين، يكنى أبا القاسم أيضاً. ويقال له الخطيب.

شافعي من أهل المائة السابعة. ذكره الشريف عز الدين في الوفيات. ولي القضاء بحماة، ودرّس بالمدرسة النورية، وذهب في الرسلية إلى بغداد مراراً عن صاحب حمص. ثم دخل مصر حلب ودرّس فيهما. وولاه الصالح أيوب قضاء مصر في جمادى الأولى سنة سبع وأربعين وصرف في جمادى الآخر سنة ثمان وأربعين ثم أعيد في شعبان سنة تسع وأربعين، فتوجه إلى دمشق فمات بها في ثالث عشر المحرم سنة اثنتين وخمسين وستمائة. وكان الغالب عليه الفقه مع فنون كثيرة.
؟قاسم بن عبد العزيز بن محمد بن النعمان المغربي الأصل إمامي من المائة الخامسة يكنى أبا محمد.
ولي بعد صرف ابن أبي العوَّام في يوم الأحد رابع جمادى الأولى سنة ثماني عشرة وأربعمائة، وقرئ سجله بالقصر وبالجامع بمصر. ولُقِّب قاضي القضاة ثقة الدولة أمين الأئمة شرف الأحكام جلال الإسلام. فباشرها إلى أن غُزِل في يوم الأحد الخامس والعرشين من رجب سنة تسع عشرة، فكانت مدة ولاتيه من سنة وشهرين وعشرين يوماً وهذه الولاية الأولى، واستقرّ عِوَضَه عبد الحاكم بن سعيد بن مالك الفارقي ثم أعيد قاسم في السادس من ذي القعدة سنة سبع وعشرين وأربعمائة فنظر في الأحكام والمظالم والدعوة. واستخلف في هذه الولاية القُضاعي، فناب عنه في هذه الولاية الثانية. ولم يكن قاسم محمود السيرة، لكن طالبت مدته إلى أن صرف في المحرم سنة إحدى وأربعين وأربعمائة واستقر مكانه الحسن بن علي اليازوري فكانت مدة ولايته هذه الثانية ثلاثة عشرة سنة وشهراً وأربعة أيام. وقد تقدم ذكر الأبيات التي هُجِي بها هو وعبد الحاكم الفارقي.
أبو القاسم بن محمد بن النعمان. هو ابن عبد العزيز المذكور قبله.
أبو القاسم ابن عمار. هو علي بن أحمد بن عمار. ويقال اسمه القاسم.
أبو القاسم ابن السكري. هو عبد الرحمن بن محمد.
أبو القاسم ابن وهيب. هو عبد الحاكم.
؟قيس بن أبي العاص بن قيس بن عبد قيس بن عَدِيّ بن سعيد بن سَهْم بن عَمْرو بن هُصَيص بن لُؤَي بن غالب بن فِهْر من المائة الأولى.
قال أبو سعيد بن يونس شهد فتح مصر واختط بها وهو أول قاضٍ قضى بمصر، ويقال له صحبة، وهو من مُسلمة الفتح. وقيلِ: إنه شهد حُنَينا، والطائف، وأعقب ذرية بمصر. ثم ساق بسنده إلى يَزيد بن أبي حَبِيب، أن عُمر كتب إلى عَمرو بن العاص أن يولي قيس بن أبي العاص القضاء على مصر. قال يزيد: فهو أول قاض قضى بمصر.
وكذا أسنده أبو عمر الكندي من طريق عثمان بن صالح عن الليث وابن لَهيعَة عن يزيد.
وذكر القضاعي أنه أول قاضٍ بمصر على اختلاف في ذلك.
وأسنده أبو عمر أيضاً عن علي بن الحارث بن عثمان بن قيس بن أبي العاص قال كتب عُمر إلى عَمرو بتولية قيس القضاء فولاه فقضى إلى ربيع الأول سنة ثلاث وعشرين. فمات. فكانت ولايته نحواً من ثلاثة أعوام.
وقال ابن زولاق: لما فتحت مصر في أول سنة عشرين ولي عُمَرُ عَمْراً حَرْبَها وخراجها، وكتب إليه أن يستقضي كعب بن يسار بن ضِنَّة، فامتنع كعب من ذلك فولي قيس بن أبي العاص. والله أعلم.
وذكر ابن زولاق في تاريخه الذي على السنين في حوادث سنة عشرين: فُتحت مصر في أول المحرم منها وولّي عُمر عَمرو بن العاص حربها وخراجها وكتب إليه أن يولي كعب بن ضِنَّة الآتي ذكره في حرف الكاف. فامتنع فَوَلَّي فيساً فكان أول قاض قضى بمصر.
ثم ذكر في حوادث سنة إحدى وعشرين أن القاضي بمصر قيس بن أبي العاص. وكذا في حوادث سنة اثنتين وعشرين. وكذا فيا لتي بعدها. فعلى هذا قضى بمصر ثلاثة أعوام.
حرف الكاف
كَعْبُ بنُ يَسار بن ضِنَّة بن ربيعة بن قَزَعَة بن عبد الله بن مخزوم ابن غالب بن قُطَيعة بن عبس العَبْسي من المائة الأولى.
نسبه أبو سعيد ابن يونس وقال: شهد فتح مصر واختَطَّ بها وله بها عقب، وقبور ولده بها، وعليها بلاطة من رخام فيها نسبهم كذلك. وفيها أنه ابن بنت خالد بن سِنَان.
وقال سعيد بن عفير: هو أول من استقضى بمصر في الإسلام، وكان قاضياً في الجاهلية.
ويقال إنه ابن بنت خالد بن سِنَان الذي يقال إنه كان نبياً في الفترة، وكان حكماً في الجاهلية فامتنع أن يقبل القضاء في الإسلام، فقال له عمرو بن العاص لابد من السمع والطاعة لأمير المؤمنين فقضى إلى أن كتب عُمَر بإعفائه فيقال إنه قضى شهرين.

وأسند ابن يونس وأبو عمر إلى عمار بن سعد التُّجِيبِيّ أن عُمر كتب إلى عَمر أن يجعل كعب بن ضنَّة على القضاء فأرسل إلى عَمْرو، فاقرأه الكتاب فقال كعب: ولا والله لا يُنْجِيه الله من الجاهلية وما كان فيه من الهلكة ثم يعود فيه أبداً، بعد إذْ نجاه الله وأبي أن يقبل القضاء فتركه عَمرو.
وقال أبو عُمر: كان كعب نب ضنَّة كبير البربر من الموالي وهو ابن من خالد ابن سِنان صاحب نار الحَدَثان، وهي نار ظهرت في حَرَّة أَشْجَع بني مكة والمدينة في الفترة، وكان جماعة من العرب يعبدونها مضاهاة للمجوس، فقام خالد بن سنان - وو الذي قاله فيه النبي صلى الله عليه وسلم: " ذاك نِبِيٍّ ضَيَّعَه قومُه " - فقال: أنا أقتُلُ هذه النار، كيلا تَعبُدَها العرب، فتشبَّه بهذه الطماطم يعني المجوس فقالوا له: مَهْلاً، إنك إن قتلتَ هذه النار لا نأمن عليك أن تموت قال: لا أُبَالي. فَقَبض على عَصَاه، وشَدَّ عليه ثبابَه، وجعل يجر النار بعضاه وهو يقول: بَدّاً بَدّاً، كل هذا لله مُؤَدَّي، حتى أطفأها. ذكره أبو عُبَيد البَكري في معجم البلدان.
وقال أبو عمر في الاستيعاب: له صحبة، وشهد فتح مصر، وله خطة بمصر معروفة، وروى عنه عمار بن سعد التجيبي.
وقال خلف بن ربيعة عن أبيه: إنما سُمّي سُوق بَرْبَر، لأن البربر نزلوا على كَعْب بن ضِنّةَ بمصر فَنُسِبَ السوق إليهم. كانوا يعظمون كعب بن ضنة لأنه من ذرية خالد بن سِنان، والبربر تزعم أنه بُعث إليهم فردوا عليه ما جاء به.
وكان كعب ابن نبت خالد وقال محمد بن الربيع الجيزي: كان كعب ابن بنت خالد ويقال ابن أخته ثم ساق قصته من طريق ابن إسحاق فقال: حدثنا أب أمية محمد بن إبراهيم الطرسوسي، حدثنا يوسف بن بهلول، حدثنا عبد الله ابن إدريس، حدثنا محمد بن إسحاق حدثني، سعيد بن عبد الرحمن عن.. عن ابن عباس فذكر القصة، وقد أردتها في ترجمة خالد بن سنان من كتابي الإصابة في تمييز الصحابة وله طرق يقوي بعضها ببعض.
حرف اللام
لَهَيعةُ بنُ عيسى بن لَهِيعَةَ بن عقبة الحَضْرَمِيّ: تقدم باقي نسبه في عبد الله بن لَهِيعَة. وهو من المائة الثانية.
قال ابن يونس: أمّة أمة العزيز بنت غياث بن عقبة ويكنى أبا عكرمة أخذ عن عمه وعن..
روى عنه ولده عيسى، وسعيد بن عُفَير، ويحيى بن بكير وغيرهم.
وولاّه عَبَّاد بن محمد قضاء مصر أيام الفتنة الواقعة بين الأمين والمأمون. وكان عَبّاد يدعو للمأمون فأراد أن يولي عبد الله بن وهب القضاء فاستتر. فولى لَهِيعَة بن عيسى وذلك في أول يوم من شعبان سنة ست وتسعين ومائة.
كان لَهِيعَةُ أول من فرض لأهل مصر من المطوعة في الأحباس. وكانت مَوَاحِيز مصر يعمرها أهل الديوان وطائفة من المطّوعة. وكانت الأحباس تجمع في كل سنة. فإذا كان شهر أَبيب بعث القاضي بما اجتمع من أموال السبيل فيفرق في المواحيز من مصر إلى العريش إلى لوبية ومراقية. فتفرق على المطوعة ومن كان فقيراً من أهل الديوان. فلما هاجت الفتنة تشاغل الأمراء عن عطاء أهل الديوان، وتعطلت المواحيز وانقطع عنها المطوعة. فعمد لهيعة لجمع أموال السبيل ففرض للمطوعة وغيرهم. فصار الناس يسمونها فروض لهيعة. إلى أن ولي ابن أبي الليث فسماها فروض القاضي.
وفي ذلك يقول فِراس المُراديّ:
لَعَمْرِي لقَدْ سَارَتْ فُرُوضُ لَهِيعَة ... إلى بَلَدٍ قَدْ كاد يَهْلِكُ صَاحِبْهْ
إلى بَلدٍ تُقْري به البُومُ والصَّدَى ... تُعَاوِرُه الرُّومُ العِظَامُ تُحَارِبُهْ
رَشِيدُ وَإخُنَا والْبُرُلُّسُ كُلُّهَا ... وَدمْيَاطُ والأشْتُوم تَقْوى مُغالِبُهْ
لَهِيعَ لَقَدْ حُزْتَ المَكَارِمَ والثَّنَا ... وَمِنْ عِنْدِ رَبيّ فَضْلُهُ ومَوَاهِبُهْ
فَقَدْ عُمِّرَتُ تِلْكَ الثُّغُورُ بِسْنَّةٍ ... تُعَدُّ إذا عُدَّتْ هُنَاكَ مَنَاقِبُه
وكان لهيعة ماهراً في صناعة القضاء أخذ ذلك عن عمه. أقام لَهِيَعَةُ زيد بن بشر قيما على أيتام فشكوه إليه فاصطنع عليه فأنشده:
ومصطنع حمداً فَعَادَ مَلاَمة ... كَوَالي يَتَامى عرضه غير وافرِ
ومطّلب حَمداً على غَير ثَروة ... كَمْقْتَحِم في الماءِ ليس بماهِرِ

فلما صرف عَبَّاد عن مصر في سنة ثمان وتسعين ومائة وقدم المُطَّلِبُ بن عب الله الخُزَاعيّ أميراً على مصر في المحرم فعزل لَهِيعة في ربيع الأول سنة ثمان وتسعين ومائة. وقرر على مصر الفَضْل بن غانم نحو سنة ثم عزله. وأعاد لهيعة في المحرم سنة تسع وتسعين ومائة فاستكتب سيعد بن تَليد وجعله على مسائله وأمره أن يجدد السؤال عن الشهود في كل ستة أشهر، فمن ظهرت منه جُرحة أوقف شهادته واتخذ شهوداً في كل ستة أشهر، فمن ظهرت منه جُرحة أوقف شهادته واتخذ شهوداً في كل ستة أشهر، فمن ظهرت منه جُرحة أوقف شهادته واتخذ شهوداً وجعلهم أهل بطانته منهم: أبو الأسود النّضر، ومعاوية الأسواني، وسليمان بن بُرْد. فسئل أبو الأسود عن رجل يقال له أبو التمَّام فأثنى عليه في دينه وأمانته. قال: إلا أنه قَدَري. فأوقف لهيعة شهادته فحمل عليه جماعة فقال: لا ألقى الله وقد أجزت شهادةَ قَدَرِيّ.
وكان بمصر شاعر يقال له أنيس بن دارم مولى تجيب يكنى أبا شبيب، فسأله سعيد ابن تَليد حاجة فقصر فيها، فأطال التردد إليه، فأغلظ عليه هو وطائفة حوله فهاجم بقصيدة أولها.
قَبَّحَ اللهُ زماناً ... رَاسَ فيه ابنُ تَلِيدِ
بعد مِقْراضٍ وخَيْطٍ ... وأُبَيْرَاتٍ حَديدِ
وأبو الزِّنباع خنّا ... قُ غَرَاميلِ العبيدِ
وابن بَكّار كَرَاكِي ... رَ وغَطَّاسِ الثَّريدِ
وأبو الرُّوس المَرِيسِ ... يُّ ابن دَبَّاغِ الجُلُوُدِ
واللَّقِيطُ ابنُ بُكَيْرِ ... نُطْفَةُ الفَدْمِ الطَّرِيدِ
وابن سَهْمِ حَارِسُ الجِي ... زةِ حُلْوَانُ البَرِيدِ
عُصْبَةٌ مِنْ طِينَة النِّ ... يلِ مَنَاسِيُّ الجْدُودِ
لَبِسُوا بَعْدَ التَّبَابي ... ن نَفِيَساتِ البُرُودِ
لا زَمُوا المَسْجِدَ ضُلاَّ ... لاً مِنَ الأمَرْ الرَّشِيدِ
وَتَسَمَّوْا وَتَكَنَّوْا ... بَعْدَ جَرْجَهُ وَشَنُودِ
لحِوَا نِيتٍ بَنَوْهَا ... بِفِناكُلِّ عَمُودِ
تَحْتَ أمْيَالٍ طِوَالٍ ... كَبَرَاطيلِ اليَهُودِ
نَصَبُوها كالمقاعي ... د على رُؤَّسِ القرودِ
وَتَرَاهُمْ لِلُوَصَايَا ... وَعَدَالاَتِ الشُّهُودِ
فِي مِرَاءٍ وَجِدَالٍ ... وَقِيَامٍ وَقُعُودِ
وخُشُوعٍ وابْتِهَال ... وَرُوكُوع وَسُجُودِ
وَعَلَى القِسْمَةِ أَضْرَى ... مِنْ تَماسِيح الصَّعِيدِ
وَأشارُوا لِلُهَدَايَا ... بِأَبَي عَبْدِ الْحَمِيدِ
وقال عمرو بن خالد الحراني: كان أحسن ما عمله لهيعة في ولايته الثانية أنه تتبع الأحباس فقضى فيها فَلَمْ يبق حُبس حتى حكم فيه إما بِبَيِّنَةٍ ثبتت عنده وأما بإقرار أهل الحُبس.
ومات لهيعة وهو على القضاء في أول ذي القعدة سنة أربع ومائتين.
وكان لهيعة يقول: أنا تاسع تسعة ولوا قضاء مصر من حَضْرَمَوت.
وقال أحمد بن عبد الرحمن بن وهب: واجتهد عبّاد في ولاية عبد الله بن وهب القضاء فتغيب في منزل يحيى بن حرملة فأمر عباد بهدف داره، قال: فهُدمت بعض دارنا. قال: فبلغ ذلك العيلاني فجاء إلى عباد فقال: متى طمع هذا الكندي في القضاء حتى يتغيب. فبلغ قوله ابن وهب فدعا عليه فعمي بعد جمعة.
قال وكان ابن وهب يقول في دعائه: يا رب يقدَ عليك إخِواني علماء حلماء فقهاء واقدَم عليك قاضياً: لا يا رب ولا قرضت بالمقاريض.
وقال إنه لما طلب للقضاء جمع آخَاءَه وأهله فشاورهم فقالوا: لعل الحق أن يحيا على يديك أن نحو هذا. فقال لهم: لأجل أكلة في بطونكم أردتم أن يؤكل ديني.
وقال حجَّاجُ بن رِشْدِين: أشرفت على ابن وهب من غرفتي فرآني فقال لي: يا أبا الحسن بينا أنا أرجو أن أحشر في زُرَة العلما أحشر في زمرة القضاة!
حرف الميم

مالك بن سعيد بن مالك الفارقي يكنى أبا الحسن. ولد سنة. واستقر في القضاء من جهة الحاكم العُبَيْدي بعد عزل عبد العزيز بن محمد بن النعمان في يوم الجمعة سادس عشر شهر رجب سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة. وقرئ سجله بالقصر وهو قائم على رجليه. وقد ساقه المُسَبّحي بطوله، قال: وكان القاضي كملا مرّ ذكر الحاكم في السِّجل قَبَّل الأرض فلما فرغ خُلع عليه قميص مصمت وغلالة مذهب وعمامة مذهب وطيلسان مذهب وقلد بسيف وخرج وبين يديه بقجة ثياب، وقُدّمت له بغلة مسرَجة، وسيقت بين يديه بغلتان كذلك فتوجه ومعه الناس إلى المسجد الجامع بمصر ولم يتأخر عنه أحد من وجوه البلد. وقُرىء سِجِله بالجامع أيضاً وهو قائم. وكلما مَر ذِكر الحاكم قبّل الأرض.
واستخلف عنه حينئذ عنه في الحكم بالقاهرة أبا القاسم حمزة بن علي بن يعقوب الغَلبوني خلع عليه، وهو أول من فعل ذلك من القضاة، لأن الخِلَع لم تكن إلا من قِبَل الخليفة أو الأمير. ثم لم يلبث الغلبوني المذكور إلا يسيراً حتى وشَوْا به إلى مالك فأبعده فحمل وأُسِر، إلى أن ظَفِرَ به فقُتل كما تقدم في ترجمته، وأقام بعده الحسين بن أغلب الفقيه. وكان يفصل المحاكمات في دار مالك ويتكلم فيما يتعلّق بالشهود.
وكان مالك هذا ينظر فين الحكم عِوَضاً عن عبد العزيز بن علي بن النعمان كما تقدم في ترجمته لاشتغال عبد العزيز بخدمة الحاكم وملازمته، حتى أنه استأذن الحاكم أن يستخلف نائبه مالك هذا نَائباً عنه إذا اشتغل عن الركوب إلى مجلس الحكم فأذِن فاستناب أبا لحسن الخليل بن الحسن بن الخليل فأذِن له أن يحكم عنه، ولم يُعهدَ. قبله أنّ نائب النائب يحكم مع وجود مستنيبه وأَمَّا مع غيبته فوقع كثيراً.
وسُئل أن يولي أبا العباس ابن أبي العوّام فامتنع، ورجع إلى داره وازدحم الناس على بابه. ومنه أصحاب الشرطة من التكلم في الأحكام الشرعية. ثم أضاف إليه الحاكم النظر في المظالم في رجب سنة إحدى وأربعمائة، وخلع عليه نظير خِلعة القضاء، وقُرئ سِجِله في القصر بحضرة الأمراء وغيرهم، وتوجه إلى الجامع العتيق ومعه الشهود، وقرئ سِجلّه بذلك، فجلس للحكم، ونظر في القِصَص، وصلَّى الظهر والعصر. عينَّ ثلاثةً من الشهود لمجلسه، وقال: الشهود عندي على ثلاثة أقاسم: فِرقة أعرفهم فلا أسأل عنهم، وفرقة لا يستحقُّون ذلك فلا كلام فيهم، وفرقة لا أعرفهم فقد وَكَّلت أمرهم إليكم. قالوا: وكان في نفس الثلاثة من جماعة الشهود إحَن، فتكلموا فيهم فوقف شهادتهم فتضرّروا من ذلك، فَقَبِلَ شادة بعضهم من قِبَل نفسه ثم بحث عن أمر الباقين إلى أن تحقَّق أنهم ما وقفوا بالغَرض الفاسد فقبلهم.
وشُكى إليه القاضي قبله فأحضره إلى داره فأدُّعي عليه والتُمس يمينه تسامع الناس بذلك، فحضر جمع كثير مَّمن في قلبه غيظ على القاضي المعزول، فادَّعوا عليه بدعاوي كثيرة أنكرها كلها، فاستحلفوه. فحلّفه مالك بن سعيد ولم يُغلّظ عليه الأيمان، إلا أنه قال له: قل: والله الذي لا إله إلا هو إني بريء من دعواهم براءةً صحيحة. فحلف وانصرف.
ثم طلبه بعض الخصوم، فأرسل إليه مالكم بن سعيد ليحصر فامتنع، فألح عليه، ثم تشفّع عنده أبو العباس ابن أبي العَوَّام إلى أن استحلفه بعد تمنُّع كثير على الروض كعادته.
وعلت منزلة القاضي عند الحاكم حتى صار يحضر مائدته، ويأكل معه، وأجلسه فوق القاضي المعزول، وأصعده المنبر معه في الأعياد على عادة من تقدَّمه.
وأقطع الحاكم مالك بن سعيد داراً عظيمة بجميع ما فيها مخلَّفةٌ عن مفلح اللحياني، فوجد فيها شيئاً كثيراً من الأمتعة وغيرها.
وكان لمالك مكارم، فيقال إن شَخْصاً قصده فذكر أنه وُلد له مولود وأنه قصير اليد عن قُوت يومه، فأمره بالجلوس حتى يَنْفَضّ المجلس فقال له: ما سميتَ ولدك؟ قال: والله ما رأيته إلى الآن. فدفع له عشرين ديناراً وقال: هي له في كل سنة فتعال في مثل هذا الشهر فاقبضها.
وكان يتصدق بالرباعيّات من الذهب، وكان إذا حضر مجلساً احتفَّ به الفقراء والمحتاجون فلا ينصرف عنه أحد إلا وهو راضٍ.

ولما كُثر إفضاله واشتره بِرُّه، قصده أصحاب الأخبار من جهة الحاكم فكان يُحسِن لهم إذا انتصحوا له، حتى أن بعضهم كان يواطئ بعض الناس على أن مهما حصل له من القاضي شاطره فيه، ثم يتحيَّل حتى يصل له من القاضي ما يملأ يده. فواطأ يوماً رجلاً له هيئة فأمره أن يقعد في دار القاضي مقابله ولا يغضّ طَرْفه عنه لحظةً. ثم كتب ورقةً ودسّها إلى أن وصلت للقاضي فإذَا فيِها: أن بمجلسك رجلاً من ذوي البيوت قَعَدَ بِهِ الزمان ولا يُحسن السؤال وصِفته كذا. فنظر القاضي فرأى الرجل وهيئته فاستدعاه وأمر له بمال جزيل، فخرج به فشاطره الذي علّمه فيه.
ولما وفد الأشراف من مكة والمدينة إلى الحاكم، كان المخاطب لهم والمتولي لأمورهم والسفير لهم عند الحاكم القاضي، إلى أن أطلق لم الجوائز والصِّلات على يديه.
ثم عَلاّ قَدْرُ مالك بن سعيد عنه الحاكم وعظُم شأنه، حتى صار إليه أمر الصِّلاة والإقطاعات والسِّجلاَّت في جميع البلد، يخرج كل ذلك على يديه. ونظر أيضاً في المكاتبات الواردة منا لعُمَّال بالنواحي وفي مُراسلات الدُعاة. وهو الذي يطالع الحاكم بجميع ذلك ويتلقّى أجوبتهم.
ومن أحكامه أن امرأة تظلَّمت إليه من رجل شريف زعمت أنه تزوجها ثم طلقها، فأحضره إلى مجلسه فأنكر ذلك، فدفع له ثلاثين دينارً وقال: خالِعها بها، فخالَعَهَا بعشرين وأخذ لنفسه عشرة بإذن القاضي.
وتظلمت امرأة إلى الحاكم يقال لها الزرقاء بسبب ظُلامة في دار زعمت أنها مُلْكها، وزعم مَن يخامصها أنها حُبسٌ. وكثر تردادها للقاضي لوم يَقْضِ لها بشيء فأصلح بينهما وبذلك من ماله عشرين ديناراً.
قال المسبحي: وفي شعبان سنة ثمان وتسعين وثلاثمائة أقطع الحاكم مالك ابن سعيد بَرْنَشْت والمُحرَّقة وغيرهما.
ورفع متظلم إليه على قائد القُوَّاد حسين بن جوهر فراسله في ذلك. فحضر في مِحَفَّة لمرض كان به ، فادّعى عليه أنه يستحقّ عليه خاتماً كان العزيز وهبه له بأنه اغتصبه منه، فبذل القاضي له عَوَضاً عن الخاتم ثلاثمائة دينار عن ابن جوهر، فأبى إلا أن يستحلف الحسين فحلَّفه له فحلف.
ثم استحلف مالك بن سعيد عن الأحكام الحسين بن أغلب العلوي الفقيه، وأمره أن يجلس في داره للنظر بين المتخاصمين وللنظر في أمر شهود القاضي.
وفي ذي القعدة سنة أربع وأربعمائة حبس الحاكم عِدَّة أملاك ما بين قياسر ورباع على جهات عيَّنها، وأشهد مالك بن سعيد على نفسه بذلك، وأسقط من السجل ذكر المظالم، فاستشعر أنه صرفه عنها، ثم أعاد إليه بالنظر في المظالم في سابع عشر المحرم سنة خمس وأربعمائة وخلع عليه بسبب ذلك.
وفي هذه السنة من النساءَ الحاكمُ الخروج من دُورهنَّ ومنع الأساكفة من عمل الخِفاف لهن. فاتفق أن القاضي مرّ على دار امرأة فناشدته أن يَقِفَ لها ويسمع كلامها فوقف. فبكت بُكاءً شديداً إلى أن رقّ لها، وحلفت له أن لها أخاً وأنه في السياق وأنها تريد أن تراه قبل أن يموت. فأمر بعض رجالته بأن يمضي معها إلى دار أخيها، فأغلقت بابها وأعطت مفتاحها لجارتها وذهب مع الرجالة إلى دار طرقتها ففُتح لها، فدخلت. استمرَّت مقيمةً فيها، فكشف عن أمرها فإذا هو منزل رجل كانت تهواه ويهواها، فأُخبر مالك بذلك فتعجًّب من فطنتها حتى توصلت إلى مُرادها. وإذا بزوجها قد جاء إلى القاضي وقال: ما أعرف زوجتي إلا منك. وحلف أنها ليس لها أخٌ وإنما ذهبت إلى عشيقها، فسُقط في يده وخاف أن يبلغ الخبر الحاكم فيكون سبب غَضَبه عليه.
فركب في الحال إلى الحاكم وقصَّ عليه القِصَّة وبكى. فأمر الحاكم بإحضار المرأة والرجل. فمضى الأعوان إليهما بغتة فوجدوهما نائمين متعانقين لا يعقِلان من السُّكْر، فحملوهما إلى الحاكم فأمر بإحراق المرأة في بارية وضرب الرجل بالسياط ضرباً مبرّحاً. وزاد في الاحتياط على النساء والتحجير عليهنّ.
وعَلتَ منزلة مالك عند الحاكم حتى كان لا يتركه يقيم في داره فأمر أن تكون دابة ركوبه مُسرَجة ملجمة ليسارع في التوجه إليه. ومع هذا القرب والاختصاص فكان ليّن الجانب سَهْل الحجاب كثير الفضل باذلاً لماله ولجاهه.
فحكى علي بن سعيد في تاريخه أن رجلاً سرق قنديلاً من فضة من الجامع العتقي فرُفع للقاضي فرفه للحاكم فقال له: ويلك سرقت فضة الجامع!.

فقال: إنما سرقت مال ربّي فإني فقير ولي بنات جياع والإِنفاق عليهن أفضل من تعليق هذا في الجامع. فدمعت عيناه ورقًّقه القاضي عليه فأمره بإحضار بناته فَحَضَرْن فأمر المقاضي أن يُجهزنَ بثلاثة آلاف دينار ويزوَّجن وأعاد القنديل إلى الجامع.
فكَثُر من سعى عنده بما لا حقّ فيه ليتوصَّل إلى غرامته عن خصمه وكان يسكن دار مشمول الإخشيدي ثم اشتراها من بيت الوزير يعقوب بن كِلِّس فزاد في أبنيتها وترخيمها وأنشأ فيها مكاناً سماه الجوسق وتقدّم إلى الوكلاء بباب الحكم أن لا يتوكل أحد منهم في شيء يتعلق لأحد من أهل الذمة ولا يركب إلى أحد منهم شاهد لتحمّل شهادة.
واجتمع قوم من السفهاء من رعاع الناس فشغبوا على الشهود بالإساءة حتى حصل للشهود بذلك شِدَّة، فاجتمعوا إلى القاضي وتظلموا منهم، فبلغ الأمر الحاكم وأعلمه أن هذا يُفضى إلى تعطل أمور الرعية، فأمر بكتابة سِجل بإكرام الشهود وأن لا يتعرض أحد إليه بإذني.
ولم يزل أمر مالك يعلوا إلى أن تسلَّط عليه فقير عُوَيْر، كان يصحب ابن أبي العوَّام، فدسَ إلى الحاكم أن القاضي يركب إلى قصر أخت الحاكم ويخلو بها وكان بلغ الحاكم عنها شيء من هذا لكنه مع غير القاضي، فحقِد على القاضي وظنّ صِصَّة ما قيل.
وكان القاضي يدخل كل يوم دِهليز قصرها ليقرأ عليها فيه بعض خَدَمها، فجاء يوم فقال له الحاكم: من أين جئت؟ قال: من داري. قال: لا بل من قصر إمامتك. فقال: لا أعرف إماما غيرك. فأرجب قلبُه ورجع ثم لم يُظهر له شيئاً، إلى أن خرج يوماً إلى بِركة الجُبّ فتلاحق به الناس ومالك منهم فلما سلَّم على الحاكم أعرضه عنه، فعدل به بعض الأعوان فقتله في يوم السبت سادس عشري ربيع الآخر سنة خمس وأربعمائة.
قال: وفي يوم السبت لأربع بقين من شهر ربيع الآخر سنة خمس وأربعمائة ضُربت عُنُق مالك بن سعيد الفارقي القاضي، فكانت مدة ولايته ست سنين وتسعة أشهر وأحد عشر يوماً. وكان قد حكم نيابة عن بني النعمان ثلاثة عشر عاماً فأكمل في الحكم عشرين عاماً موالية.
وأدنى الحاكم ولده الكبير وأذِن له أن يركَب في موكِبه وتلطَّف بولده الصغير، ومنع من التعرض لشيء من تَرِكة أبيه.
وكان مالك فصيحاً بليغاً، كثير الحِلم والتأني وقوراً، يقال إنه لم يواجه أحداً قد بما يكرَه، ولا صاح على خصم، ولا انتهر سائلاً، ولا رمى أحداً بسوء ولا قبيح.
وبقيت مصر بعدة بغير قاضٍ ثلاثة أشهر وثلاثة وعشرين يوماً، وكان يتوسط بين النسا في هذه المدة يعقوب بن إسحاق، وأبو منصور المحتسب الملقَّب أبا هراة، إلى أن قُرّر أبو العباس أحمد بن أبي العَوَّام.
مالك بن شَرَاحِيل بن عَمرو بن عُذيق بن كُريب بن أسلم بن قيس ابن عَدَّاس بن نصر بن منصور بن عًمرو بن ربيعة بن قيس بن بشر بن سعيد بن حاشد بن جشم بن هَمْدان الهَمْداني حليف خَوْلان. هكذا نسبه ابن يونس وقال: جعله عبد العزيز بن مروان على القضاء في المحرم سنة ثلاث وثمانين بعد موت ابن حُجَيرة وجمع له القضاء والقصص. كان من أصحاب عَمْرو، وشهد فتح مصر. وهو جَد منتصر ابن عبد الله بن عمر بن مالك.
وكان من مصر مسجد مالك بن شراحيل في خولان. ويقال إن الحجاج بن يوسف بناه، ويقال له مسجد الأديم. وكان يرسل إليه في كل سنة بحلل وثلاثة آلاف درهم. وكان رئيس الجيش الذي أخرج في مسجد. وكان يرسل إليه في كل سنة بحلل وثلاثة آلاف درهم. وكان رئيس الجيش الذي أخرج في إمارة عبد العزيز إلى مكة مدداً للحجاج في قتال ابن الزبير. ونقل الواقدي الاتفاق على أن الذي باشر قتل ابن الزبير عبدا لرحمن بن يحنِّس مولى النجيب، وكان من جند مالك بن شراحيل، وهذا هو السبب في بناء الحجاج مسجد مالك وذلك بأمر من عبد الملك.
وقال أبو عمر الكندي: حدثني ابن قديد قال: دخل عبيد الله بن سعيد السَّعدي عَلَي عبد العزيز بن مروان وعنده مالك بن شَراحِيل فقال له: أَوْسِعْ لعمِّك، ففعل، ثم دخل مرة أخرى فقال له مثل ذلك فقال له: أيها الأمير أكثرت من قولك عمّك لقد رعيتُ الإبل قبل أن يجتمع أبواه ولو سألته لأخبرك.
قلت: كَأَنَّ الشيب كان أسرع للسعدي وأبطأ عن ابن شراحيل فكان يظن أنه أسنّ منه.
مُجّلِّي بن جُمَيْع بن نَجا القرشي المَخْزُومِي الأَرْسُوفِي نزيل مصر شافعي من المائة السادسة يكنى أبا المعالي.

قرره في القضاء الوزير العادل ابن سلار في خلافة الظاهر، وذلك في سنة سبع وأربعين وخمسمائة. وكان فقيهاً. وكان فقيهاً شافعياً عارفاً بالمذهب، تفقه على سلطان بن رَشا المقدسي المقدم ذكره. وعلى جماعة بمصر وغيرها.
وصنف كتاب الذخائر في عشرين مجلدّة، جمع فيه بين الطريقتين: طريقة العراقيين والمراوزة. وهو أول من جمع بينهما. وأكثر فيه من الفروع والنقول الغربية. وأفرد كتاباً في الجهر بالبسملة، وكتاب تجويز اقتداء بعض المخالفين في الفروع. وكان حج من طريق عيذاب في البحر.
ولما ولي القضاء سار فيه سيرة حسنة، ولم ينقم عليه شيء إلا أنه كان على غير مذهب القوم، مع أنهم كانوا يشترطون على من ولي القضاء أن لا يحكم إلا بمذهبكم. ولما ولي الصالح طلائع بن رُزَّيك الوزارة صرفه، وذلك في شعبان سنة تسع وأربعين وأفاد يونس بن محمد المقدسي وأبو عبد الله ابن ميسر: أن الذي ولي بعد مجلى هو المفضّل بن كامل. ثم بقي هو إلى سنة خمسين وخمسمائة فمات فيها.
قال صاحب كتاب نجم المهتدي ورجم المعتدي: كان مُجَلّي من أعيان الفقهاء الشافعية المشهورين والمشار غليه في فنونه. وهو الذي نشر مسألة الدور بالديار المصرية، حتى أنه كان إذا عقد عقداً أمر الزوج بتقليده وعلمه المسألة، ويعتذر عن ذلك بأن العوام يكثرون الحلف بالطلاق وفي ذلك حيلة في خروجهم بتقليده في تلك المسألة عن الحرج.
وقال الشيخ جمال الدين الإسنوي: كتاب الدَّخائر متعِب لمن أراد استخراج المسألة منه، لأن ترتيبه غير معهود: وفيه أوهام جميعها بعض الحمويين الذين قدموا مصر ولكن اعتراضاته واهية في الغالب ظاهرة التحامل.
ذكر من اسمه محمد
محمد بن أحمد بن خليل بن سعادة بن جعفر بن عيسى، شهاب الدين ابن القاضي شمس الدين الخويي الأصل منسوب إلى خُوَي - بمعجمة مصغر - مدينة من أذربيجان الدمشقي المولد شافعي من المائة السابعة.
ولد في رجب سنة ست وعشرين وستمائة، وسمع من ابن الزَّبيدي، وابن صالح، وأبي المُنجَّا ابن اللَّتِّي، والعَلَم السخاوي، وابن الصلاح وغيرهم.
ورحل إلى بغداد، ثم إلى خراسان، وأخذ عن القطب تلميذ الفخر الرازي، والعلاء الطاوُسي وغيرهما.
ومهر في الفقه والكلام والطب والأدب.
وروى عنه التاج ابن أبي جعفر، وعمر بن الحاجب، وجمال الدين ابن الصابوني، وغيرهم.
وقطن دمشق، ثم دخل القدس قاضياً، ثم جفل إلى الديار المصرية في الفتنة العظمى بهولاكو، فولى قضاء الغربية فأقام بالمحلة مدة، ثم ولي قضاء القاهرة والوجه البحرين مشاركاً للوجيه البهنسي حسب سؤال البهنسي، فإن أنهى إلى السلطان أنه لا يقوى عل قضاء الإقليمين فقرر الخوَيي معه، صار كل منهما مستقلاً بعمله.
نقلت ذلك من تاريخ الجزري التاجر. وذكره القطب الحلبي في تاريخ مصر فقال: كان إماماً جامعاً لعدة فنون، وصنف شرح " فصول " ابن معطي في النحو، والملخص للقابسي، والمطلب الأسمى في إمام الأعمى، ونظم (علوم الحديث) لابن الصلاح، و (كفاية المتحفظ) و (الفصيح) لثعلب.
وكان حسن الأخلاق سخي النفس جميل المحاضرة، حسن المعتقد على طريق السلف، سليم الفطرة، جميل الهيئة، كثير التواضع، كثير الإقبال على أهل العلم، شديد الميل إليهم، ديناً مهيباً منصفاً منقطع القرين في زمانه. وله نظم لطيف فمنه.
أضحى على تركي المدام يلومني ... فأجبته لما أطالَ مَلامِي
العقلُ أنفس حِلْيَةٍ يسكو الفتى ... فخرا فكيف أزيله بحرامِ
وله:
بخفي لطلفك كلَّ سوء أتقى ... فَامْنُن بإرشادي إليه ووفِّقِ
أحسنتَ في الماضي وإن واثقٌ ... بك أن تجودَ عليَّ فيما قد بقي
أنت الذي أرجو فمالي والوَرَى ... إن الذي يرجو سِواك هو الشَّقي
أنت الذي مازلتَ ترزقين ولو ... لا أن وصلتَ الرزق لي لم أرزقِ
أنت الذي وقيتني صَرْفَ الرَّدَى ... إذ كنت جاراً للعدو المحنق
أنت الذي نجيت من كيد العِدَى ... إذا أجمعوا كيدي بكل تحذلق
أنت الذي شرفتني بفضائل أَسمْو ... بها درج العلاء وأرتقى
أنت الذي سوغت لي خَلْقاً وَلَوْ ... لا أنت لم أبصر ولا لم أنطق

نِعَمٌ توالت معجزات وصفها ... فأدام تواصلها بغير تفرق
وباشر القضاء بالقاهرة خمس سنين، فاتفقت وفاة ابن الزكي قاضي دمشق في ذي الحجة سنة خمس وثمانين فنقل إلى قضاء دمشق، فباشره حتى مات في الخامس والعشرين من رمضان سنة ثلاث وتسعين وستمائة.
محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر بن بُجَيْر - بموحّدة وجيم مصغَّر - ابن عبد الله بن صالح بن أسامة الذُّهْلِي أبو الطاهر نزيل مصر.
أصله من البصرة، مالكي من المائة الرابعة، ولد في شعبان سنة ثمانين ومائتين وقيل سنة تسع وسبعين وقيل سنة سبع وستين وهو غلط.
وذكر أنه حفظ القرآن وله ثمان سنين. وفي هذا السِّن كان أول سماعه للحديث - وهو سنة ثمان وثمانين - من يسف بن يعقوب القاضي، وموسى ابن هارون الحمَّال، وأبي مسلمِ الكَجِّي، وأبي العباس أحمد بن يحيى ثعلب، ومحمد بن يحيى بن المنذر المَرْوزي ومحمد بن عثمان بن أبي سُوَيْد، وأبي خليفة الجُمَحِيّ، وغيرهم، وتفرّد بالرواية عن ثعلب وجماعة من شيوخه.
روى عنه الدارقُطْني، وعبد الغني بن سعيد، وتمَّام بن محمد الرازي، ومحمد بن نظيف الفرَّاء، وأبو العباس ابن الحاج الإشْبيلي، وأبو الفتح محمد بن أحمد الرَّمْلي، ومحمد بن الحسن الصيرفي، وأحمد بن الحسين العطار، وأبو الحسن أحمد ابن محمد بن نصر الحُكَيميّ، وأبو الحسن محمد بن الحسين ابن الطفَّال المصري، وهو آخر من حدث عنه.
قال أبو عمر بن الحدّاد: كان أبو الطاهر محدّث زمانه وطال عمره.
وقال غيره: كان يشهد عند عمر نب أبي عمر المالكي قاضي القضاة بالعراق ثم ولي قضاء مدينة المنصور ونحو أربعة أشهر في سنة تسع عشرين وولاه المستكفي قضاء الشرقية في صفر سنة أربع وثلاثين نحو خمسة أشهر. ثم ولي قضاء مصر في ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة. فباشر مدة طويلة. وأضيف إليه قضاء دمشق فاستخلف عليها أبا الحسن بن حَذْلَم وأبا علي بن هَرَوان.
وقال الفرغاني: كان من شهود أبي الحسين بن أبي عمر القاضي وله به خاصّة. وكان ولي لقضاء واسط فنكبه بَجْكَم التُّركي بها، ثم تخلص بعد أن أشرف علي الهلكة. وكان فقيهاً من مذهب مالك، ثقة ثبتا مُسنداً في الحديث أديباً كاملاً جليلاً. وكان من بيت جليل. كان أوبه من شيوخ القضاة بالعراق وولي بها أعمالاً جليلة.
وقال عبد الغني بن سعيد: قرأت على القاضي أبي الطاهر جزءاً فلما فرغت قلتُ: كما قرأت عليك؟ قال: نعم إلا اللَّحْنة بعد اللحنة. فقلت: فسمعتَه أيها القاضي مُعُرَباً؟ قال: لا. قلتُ: فتلك بتلك. ثم لزِمت تعلُّم النحو من حينئذ.
قال: ثم سألته عن أول ولايته القضاء فقال: سنة عشر وثلاثمائة قال: وكان قد ولي البصرة وكان يقول: كتبت بيدي - يعني الأخذ عن الشيوخ - سنة ثمان وثمانين ومائتين ولي تسع سنين.
وقال طلحة بن محمد بن جعفر: استقضي المَّتقي لله سنة تسع وعشرين وثلاثمائة أبا الطاهر محمد بن أحمد الذُّهلي، وله أُبُوَّة في القضاء كان سديد المذهب، متوسطاً في الفقه، على مذهب مالك، وكان له مجلس يجتمع إليه المخالفون ويناظرون بحضرته، وكان يتوسط بينهم ويتكلم بكلام سديد.
وقال عبد الغني بن سعيد: كَانَ مفوَّهاً شاعراً، حسن البديهة، حاضر الجواب والحجة، عَلاَّمةً، عارفاً بأيام الناس، غزير الحِفْظ، لا يملَّه جليسه من حسن حديثه، جَواداً. سمعت الوزير ابن كِلِّس يقول: لي الأستاذ كافور: اجتمِعْ بالقاضي وقُل لَهُ: بلغني أنك تَنْبَسط مع جُلَسائك، وهذا الانبساط يُذهب هَيْبة الحُكْم. قال: فجئته فأعْلَمْتُهُ فقال لي قل للأستاذ: لستُ ذا مال أفيض بِهِ على جليسي فلا يكون أقلّ من خُلُقي. قال: فأعدتُ الجواب عَلَى الأستاذ فقال: لا تعاوِدْهُ فقد وضع القَصْعة. يعني أنه عرَّض لَهُ بطلب مَا يوسّع عَلَى خواصّه من المال. ووضع القَصْعَة: كناية عن الطلب، لأن العادة جرت أن من احتاج يضع إناء بَيْنَ الرؤساء ليجعل كل منهم فِيهَا مَا تطيب بِهِ نفسه فإذا انتهى ذَلِكَ أخذها صاحبها بما فِيهَا. وهذا الآن فِي عُرف أهل العصر يقال: طوفوا لفلان بطاسة عَلَى الرؤساء. أَوْ نحو هَذَا من الكلام.
قال عبد الغني: وبلغني أن أباه خلَّف مالاً كثيراً فأنفقه وَكَانَ يذهب إِلَى قول مالك وربما اختار.

وقال الخطيب: حدَّث ببغداد، ونزل مصر وحدَّث بِهَا فأكثروا عنه، وَكَانَ ثِقَةً. وولاَّه عمر بن أبي عمر قضاء واسط وأقام بِهَا مدةً طويلةً.
وقال ابن ماكولا: كَانَ آخر من حدَث عن ثعلب وَكَانَ ثقةً ثبتاً كثير السماع فاضلاً.
وقال أبو محمد بن أبي زيد: كَانَ فقيهاً أديباً مُسْنداً لَهُ قدر وجلالة.
وقتال ابن زُولاق: كَانَ كثير الحديث واسع الذاكرة عُنِي بِهِ أبوه، وسَمَّعَهُ. وأول مَا دخل مصر سنة أربعين بعد أن ولي قضاء دمشق لأن أهل دمشق آذوه وكتبوا فِيهِ محضراً وساعدهم كافور، فوردت كتب المطيع بصرفه عن قضاء دمشق، فصُرف أقبح صرفٍ، وقرئت الكتب عَلَى المنبر فِي جامع مصر، وولي عِوَضه الخَصيبيّ فاستمر أبو طاهر بمصرٍ فلمَّا مات الخصيبيّ وولي ابنه ثُمَّ مات ابنه عن قُرْب وبقيت مصر بغير قاضٍ، فُكُلِّك كافور فِي ولاية أبي الطاهر فامتنع، وعيّن عثمان بن محمد بن شاذان قاضي الرَّمْلة بسعاية جعفر بن الفضل الوزير، فشاع بمصر موت عثمان المذكور، فبذل عبد الله بن وليد لكافور ثلاثة آلاف دينار فاجتمع الشهود وأعيان مصر عَلَى الرِّضَا بأبي طاهر فركِب أبو طاهر إِلَى كافور وهو فِي مجلس المظالم ومعه رجال الخَصيبيّ، فجاءوا قاصدين كافور فصرفه فمضى إِلَى دار نحرير الخادم وعنده الشهود والأعيان، فركِب نحرير إِلَى كافور فكلَّمه فأرسل إِلَى الشهود وقال لهم: اختاروا قاضياً. قالوا: اخترنا أبا الطاهر فإنه جاورنا فما رأينا إِلاَّ خيراً. وأثنى عَلَيْهِ يحيى بن مكّيّ بن رجاء والحسن بن أيوب الصيرفي. فولاّه كافور، فانصرف إِلَى الجامع وتسلم ديوان الحكم والأحباس وباشر بِحُسْن سياسة فأحبه الناس وأَلان لهم جانبه.
وَكَانَ سهلاً فِي الأحكام لا يتشدد لما كَانَ أهل دمشق عاملوه بِهِ، وَكَانَ فِي أحكامه فِي مصر كالمحجور عَلَيْهِ لكثرة جلوس كافور للمظالم فِي كل سبت.
وكان يوقّع إِلَى الشهود، وقبض كافور يده عن الأحباس وتسلّمها منه فِي شوال سنة خمسين وردّ أمرها إِلَى الحسن بن أيوب ويحيى بن مكّيّ. وعدَّل فِي ولايته جماعةً من الأشراف.
ورفعت إِلَيْهِ امرأة أن زوجها أشعر الذَّكَر وأنها لا تُطِيقه فحكم عَلَيْهَا بأن لا تمنعه يوم يتنوَّر ثُمَّ قال لَهُ: تَنَوَّرْ أنت كل يوم إن شئت.
وقال عبد الغني بن سعيد: كَانَ ربما اختار خلاف مالك ومن ذَلِكَ القضاء بشاهد ويمين. وَكَانَ يحكى عن أبيه وإسماعيل القاضي أنهما كانا لا يحكمان بِهِ وَكَانَ إِذَا شَهد الواحد وَلَيْسَ معه غيره ردّ تِلْكَ الشهادة.
قال ابن زولاق: وَلَمْ يزل أبو الطاهر ينظر فِي الأحكام حَتَّى قدِم جوهر بعسكر المُعِزّ فانزعج أهل مصر لذلك، فندب الوزير ابن الفرات أبا جعفر مسلماً الحسينيّ وأبا إسماعيل الزينيّ، وأبا الطاهر القاضي فِي جماعة من وجوه البلد، فخرجوا إِلَى جوهر وكلّموه فِي الأمان، فكتب لهم سِجِلاًّ ورفع قدر القاضي وخلع عَلَيْهِ.
ثم دخل جوهر مصر وأقرّ القاضي عَلَى حاله، لكن ألزمه أن يحكم فِي المواريث يقول أهل البيت وَفِي الطلاق وَفِي الهلال. وَكَانَ القاضي يتراءى هلال رجب وشعبان ورمضان كل سنة بسطح الجامع، فأبطل ذَلِكَ وصار الهلال بالعدد شهراً ثلاثين وشهراً تسعاً وعشرين، فِي الصيام والفِطر وغير ذَلِكَ.
ثم وصل المعز فتلقاه وجوه أهل البلد إِلَى الإِسكندرية، فخلع عَلَى القاضي وحمله وسايره فِي الركوب وقال لَهُ: كم رأيت يا قاضي خليفةً؟ فقال: واحداً والباقي ملوك. وَكَانَ رأى من العباسيين عشرةً أولهم المعتضد.

وَكَانَ النعمان بن محمد قدِم صحبة المُعِزّ فلم ينظر فِي شيء من الأحكام، مع أن المعزّ كَانَ أشركه مع القاضي. وقدم صحبة المعزّ أيضاً عبد الله بن محمد ابن أبي ثوبان، فولاّه المعز النظر فِي المظالم فتبسَّط فِي الأحكام وسمع الشهادات وسجّل عَلَيْهِ بقاضي مصر والإِسكندرية. وانفرد شهود يشهدون عَلَيْهِ فِي أحكامه كما تقدَّم فِي ترجمته. فقال لَهُ الحسين بن كهمش فِي قصّة جرت: أنت أمرت أن يُكتَب فِي إسجالك قاضي مصر. فهل صرفت أبا الطاهر أَوْ اشتركت معه؟ فأوقِفنا عَلَى سجلّك حَتَّى تستقيم الشهادة عَلَى أحكامك. فبلغ المعز فقال: يُمْضَى مَا حكم بِهِ محمد بن أحمد، فانقطع الشهود عن ابن أبي ثوبان. واعتل فأتى ذَلِكَ عَلَى نفسه فمات ومات النعمان أيضاً. فأمر المعز علي بن النعمان بالنظر فِي الحكم، وَكَانَ يحكم هو وأبو الطاهر ويشهدون عند علي بن النعمان فيما يحتاج فِيهِ إِلَى الشهادة عَلَيْهِ.
فلما ولي العزيز ردّ أمر دار الضرب والجامعَيْن بالقاهرة ومصر إِلَى علي بن النعمان، وَلَمْ يزل الطاهر يتعاطى الأحكام إِلَى أن حصل لَهُ فالج أبطل شِقَّه.
واتفق ركوب العزيز إِلَى الجيزة فِي صفر سنة ستين ولقيه أبو الطاهر عند باب الصّناعة فرآه عَلَى تِلْكَ الهيئة فقال: ما بقي إِلاَّ أن يقدّدوه. وأمره أن يستخلف ولده أبا العلاء. ثُمَّ فِي اليوم الثالث قلَّدَ العزيز علي بن النعمان، وَكَانَتْ مدة ولاية أبي الطاهر ست عشرة سنة وعشرة أشهر وسبعة عشر يوماً، واستمر بعد صرفه عن القضاء سنة وعشرة أشهر يُكتَب عنه الحديث. وتأخَّرت وفاته إِلَى سلخ ذي القعدة سنة سبع وستين، وعاش ثمانياً وثمانين سنة.
وفي كتاب الغرباء لابن الطحان، أنه مات فِي سنة ثمان وستين وهو غلط من الناسخ. فإن ابن الطحان ثَبْت. وقال: كَانَ ثقة ثبتاً سمعت منه.
وهو الَّذِي ذكرته من صرفه عن الحكم جزم بِهِ ابن زولاق وهو أخبر بحال بلده.
وأما الخطيب فذكر أنه استعفى من القضاء قبل موته بيسير. وكذا مقدار مَا أقام فِيهِ فِي القضاء. وهو من تحرير ابن زولاق.
وقال القطب الحلبي: وجدت بخط عبد الغني بن سعيد أن مدة ولايته ثماني عشرة سنة، وكأنه ألغى الكثير فِي السنة الأولى وَفِي السنة الثانية، لأنه ولي فِي ... وصرف فِي صفر.
ويقال إن أبا الطاهر دخل عَلَى كافور فِي مجلس المظالم وهو لابس خُفَّين أحدهما أحمر والآخر أسود، فرآهما كافور عند قيامه فأراه الحاضرين وطيَّر بِهِ، وحمل ذَلِكَ عَلَى عدم اهتباله وقلة تأمُّله وكثرة تفريطه، فبلغه فاعتذر بأنه لبسهما فِي العكس وهو لا يشعرُ، وَكَانَ هو فِي الأصل لا يتأنق فِي مأكل ولا مشرب ولا ملبس.
وذكر علي بن سعيد فِي كتابه جني النحل: أن أبا الطاهر كَانَ فِي خلافة المطيع يلبس السواد ويضع على رأسه دنّيَّة طويلة يزيد عَلَى الدماغ. فتحاكم إِلَيْهِ زوجان فبُدر من المرأة فِي حق زوجها كلام فال لَهَا: اسكتي، هَذَا القاضي هو أبو الطاهر، متى زدتِ من هَذَا المعنى نزع الخف الَّذِي عَلَى رأسه وقطعه عَلَى دماغك. فقال لَهُ أبو الطاهر: قم يَا كذا يَا كذا إِلَى لعنة الله، من أين لَكَ أن هَذَا خُفِّ!.
قال ابن زولاق: تقدم إِلَيْهِ رجل بامرأة يجحد ابنةً لَهُ منها فكاد يلاعِن بينهما إِلَى أن قُدِّر أن الرجل اعترف بابنته، فأمر بحمله عَلَى جمل والبنت بَيْنَ يديه ونودي عَلَيْهِ: هَذَا جزاء من يجحد ولده.
وجاءت إِلَيْهِ نصرانية أسلمت وَلَمْ يُسلم زوجها ولهما ولد صغير فقال: لا يصير مُسلِماً بإسلام الأم: فأنكر الناس ذَلِكَ فضجُّوا، فقيل: إن مذهب أهل البيت أنه يصير مُسلماً وهو قول الشافعي. فحكم بإسلامه، فدعا لَهُ الناس وأعجبهم حكمه. وَلَمْ يحكم بمصر أحد ممّن ولي قضاءها ممَّن كَانَ قضى ببغداد غير يحيى بن أكثم وهذا، إِلاَّ أن ابن أكثم مَا قضى بمصر إِلاَّ قليلاً جدّاً لما كَانَ مع المأمون.
قال الخطيب: كَانَ أبو الطاهر قَدْ ولي القضاء بمدينة المنصور.
محمد بن أحمد بن محمد بن جعفر الكناني أبو بكر الحداد المصري الفقيه المشهور شافعي من المائة الرابعة.
وُلد لسبع بقين من شهر رمضان سنة أربع وستين ومائتين. وذلك حين مات المُزَنيّ.
واشتغل فِي الفقه ففاق الأقران ولازم أبا عبيد وتدرَّب بِهِ فِي معرفة الأحكام.

وسمع الحديث من أبي يزيد القَرَاطِيسِيّ، وعمر بن عبد العزيز بن مِقْلاَص، وأبي الزِّنْبَاع روْح الفرج، ومحمد بن جعفر بن أعين، وعبد الله بن محمد الخفَّاف، وأبي عبد الرحمن النَّسائيّ فأكثر عنه ولازمه.
روى عنه أبو محمد ابن زولاق، وأبو منصور الباورديّ وهو من أقرانه وكتب عنه غالب مصنَّفاته.
قال ابن يونس: كَانَ فِيهِ بَأْوٌ وفصاحة لسان، وَكَانَ يحسن النحو والفرائض ويدخل عَلَى السلاطين، وَكَانَ حافظاً للفقه عَلَى مذهب الشافعي كثير الصلاة متعبداً، وولي القضاء بمصر خلافة عن ابن هَرَوَان قاضي الرملة.
وقال أبو محمد ابن زولاق: كَانَ فقيهاً متعبّداً يحسن علواً كثيرة، منها: علم القرآن، وعلم الحديث، والأسماء والكنى، والرواة، والنحو واللغة، واختلاف العلماء، وسِيَر الجاهلية، وأيان الناس، والأنساب، ويحفظ شعراً كثيراً، وينظم ويختم فِي كل يوم وليلة ختمةً. قائماً فِي صلاة ويصوم يوماً ويفطر يوماً ويقرأ القرآن فِي ركعتين يوم الجمعة قبل الصلاة. وَكَانَ حسن الثياب رفيعها حسن المركوب طويل اللسان غير مطعون عَلَيْهِ فِي قول ولا فعل مجمعاً عَلَى صيانته وطهارته، وَكَانَ من محاسن مصر حاذقاً بعلم القضاء حسن التوقيعات.
وكان أول مَا ولي القضاء فِي شوال سنة أربع وعشرين وثلاثمائة بأمر الإِخشيد محمد بن طُغْج بعد صرف أبي محمد عبد الله بن أحمد بن ربيعة بن زبر وَكَانَ القاضي يومئذ ينظر فِي المظالم ويوقّع فِيهَا، فنظر فِي القضاء خلافةً لحسين ابن أبي زُرعة وترك الحسين النظر فِي الحكم أصلاً. فكان ابن الحداد يجلس فِي الجامع وَفِي داره وَفِي دار ابن أبي زُرعة ويوقّع فِي الأحكام والأنكحة ويكاتب خُلَفاء النواحي. وَكَانَ ابن أبي زُرْعة يواصل ابن الحداد بالعطايا وبلغه أنه بنى داراً فأرسل إِلَيْهِ ثلاثمائة دينار معونةً.
ودخل عَلَيْهِ وبيده قطعة عنبر يشمُّها فناولها لَهُ فشمَّها وردّها فلم يقبَلْها.
ووقعت بينهما مغاضبة فانقطع ابن الحداد عنه حَتَّى سعى أبو محمد الحسن ابن طاهر بينهما حتى اصطلحا.
وقال ابن أبي زُرعة: مَا كَانَ لَنَا بُدّ من نصيب يُشير إِلَى حدة خلق ابن الحداد.
قلما توفي ابن أبي زرعة ولَّى الإِخشيد قضاء مصر لمحمد بن بدر ثُمَّ ولَّى ابن الحدّاد القضاء بمصر مرّة ثانية بعد صرف محمد بن بدر خلافة للحسين بن هَرَوَان وذلك فِي سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة وخرج الحسين من مر واستمرّ ابن الحدّاد.
وَكَانَ محبباً إِلَى الناس وأرسل إِلَيْهِ الحسين قبل أن يسافر هديَّة تساوي ثلاثمائة دينار وحضر ابن الحداد بطيلسان أسود وعمامة سوداء، واتفق أنه حكم بشهادة واحد ويمين طالب الحق، وكان الشاهد من شهود أبي عبيد فضرب أبو بكر عَلَى فَخِذه وقال: قَدْ حكمتُ بشهادتك وحدك وليست لأحد بعدك. واختص بمجلس ابن الحداد أربعةٌ يجلسون عن يمينه وعن يساره، منهم: سليمان ابن رُسْتُم، وأبو الحسن بن رجاء، والحسين بن كهمش.
وكان قوالاً بالحق، ماضي الأحكام، ويُكرمه كثير من الناس بسماع كلامه وبديع أحكامه، وَكَانَ يتشبَّه بقضايا أبي عبيد ويحكيه فِي أقواله، وَلَمْ يزل مستقيم الأحوال ماضي الأفعال إِلَى أن وصل كتاب الإِخشيد من دمشق لمحمد بن علي بن مقاتل أن يسلّم القضاء لعبد الله بن وليد. وصُرف الحسين وهَرَوَان. وَكَانَتْ ولاية أبي بكر الثانية تسعة أشهر.
واستمرَّ ابن الحداد عَلَى رياسته لا تُعمل فِي البلد قضية حَتَّى يُراجع فِيهَا فيُفتى فِيهَا أَوْ يُشير بالرأي، وشقّ عَلَيْهِ مع ذَلِكَ عزله عن الحكم، فبلغ ذَلِكَ الحسين بن هَرَوَان وكتب إِلَى ابن الحداد كتاباً حلف لَهُ فِيهِ: بالله لأدعنَّ عبد الله بن وليد يُضَرب فِي مجلسك بَيْنَ يديك بالسوط بعد قيام البينة بما نُسب إِلَيْهِ. فلم يتمّ لَهُ ذَلِكَ. وقُدّرت وفاة الحسين واستمرّ ابن الحداد إِلَى أن ولي عمر بن الحسن العباسي فاستخلفه فِي الأحكام، فكان يجلس فِي دار العبّاسيّ يومي الخميس والسبت وفي دار نفسه يوم الاثنين. وإذا حجَّ العباسيّ يجلس بالجامع كما مضى فِي ترجمة عمر بن الحسن العباسي. قلما ولي الخَصيبيّ كَانَتْ بينهما منافسات ومعارضات.

قال ابن زولاق فِي أُمراء مصر: حضر ابن الحداد يوماً مجلس كافور فِي المظالم والقاضي يومئذ الخصيبي، فعارضه أبو بكر ابن الحداد فِي شيء فقال لَهُ: كم تُعارضني! وواحد مثلي لا يوجد ومائة ألف مثلك عَلَى المزابل! فتألم ابن الحداد من ذَلِكَ فاتَّفق أنه عارضه مرة أخرى وقال: إِلَى كم تُعارضني. فقال: أعارضك إِذَا أخطأت وأدق عُنُقك. وحسر أبو بكر عن ذراعه فأظهر كافور إنكار ذَلِكَ، فسعى الخصيبي أن يحجب ابن الحداد وأعانه قوم عند كافور، فسفر نحرير الخادم فِي ابن الحداد عند كافور واستأذن لَهُ، فأذِن لَهُ بعد تَمَنُّع فقال: أَيُّها الأستاذ، هَذَا الشيخ أبو بكر الفقيه الفاضل المتقن. فقال كافور: والخصيبي أيضاً من أهل العلم. فقال: أَيُّها الأستاذ ولا سَوَاءَ. هَذَا الشيخ عالم وقته، وهو الَّذِي يُتَجَمَّل بِهِ. والخصيبي خاطب الشيخ بما لا يصلح. فقال كافور: وَقَدْ خاطبه الشيخ أيضاً بما لا يصلح. فاغتاظ ابن الحداد وقال مُتَمَثِّلاً:
فلو كنت ضَبّيّاً عرفتَ قَرابتي
فبادر أبو محمد كاتب كافور يده عَلَى فم ابن الحداد ومنعه أن يتمّ البيت وهو:
ولَكِنَّ زَنْجِيّاً عَظِيمَ المَشَافِرِ
وهو من شعر الفرزدق: فقام ابن الحداد وانصرف وتأخَّر نحرير. فقال كافور: أيش قال الشيخ؟ شتمني؟ فقال لَهُ: لا. وَلَمْ يقم نحرير من عند كافور حَتَّى قرّر أنّ ابن الحداد يحضر المجلس بعد أن قال لَهُ نحرير: أَيُّها الأستاذ لَيْسَ الشيخ ممن يتجمّل بالحضور بل الشيخ بحضوره يجمّل وتَأَخُّرُهُ عظيم يُكتب بِهِ إِلَى الآفاق فتحصل الشفاعة. فقال لَهُ كافور: مَا حجته. وتقدّم بإكرامه وأن يرسل إِلَيْهِ بشيء، وتعصَّب الوزير جعفر بن الفرات لابن الحداد وعاد إِلَى حضور المجلس.
قال ابن زولاق: وَكَانَ ابن الحداد لسَعَةِ علمه وكثرة حفظه إِذَا حضر المجلس لا يكاد يتكلم إِلاَّ بما تقدم إِلَيْهِ عالم، لأنه كَانَ كثير التحرز صيّناً عفيفاً كثير الديانة يحاسِب نفسه بل أنفاسه. وَكَانَ الخصيبي يتوسع فِي الكلام بما اختار من غير تحفُّظ، فيُنكر عَلَيْهِ ابن الحداد. فطال عَلَى ابن الحداد الأمر فِي ولاية الخصيبي حَتَّى قال مرَّةً: اصرفوا الخَصِيبيّ ولو بابن مرحبا. يشير إلى طبيب كَانَ بمصر.
قال ابن زولاق: وحضر ابن الحداد جنازةً فِيهَا غالب أهل البلد، فلما قعدوا فِي المصلّى لَمْ يحضر ابن وليد، فالتفت ابن الحدَّاد إِلَى بعض أتباعه فقال لَهُ: امضِ إِلَى محمد بن وليد فقل لَهُ:
يَا بيت عاتكة الَّذِي عنّا انعزلْ ... حَذَرَ العِدَى وبِهِ الفُؤادُ يُوَكَّلُ
إني لأَمنحُك الصدودَ وإنني ... قَسَماً إِلَيْكَ من الصُّدود لأميلُ
وتجنُّبي بيت الحبيبِ أزوره ... أرضى البغيضَ بِهِ حديثٌ مُعْضِلُ
قال فخرج الناس يتحدثون بهذه القصة. فقال يحيى بن مكي بن رجاء: عندي خطّ ابن الحدَّاد بالطعن عَلَى ابن وليد وأنه غير أهل للقضاء. فقال لَهُ الخصيبيّ: أحضره لي. فأتاه فدفعه لمسبِّح بن عبّاس وقال لَهُ: ظفرت عَلَى من حصف ففعل. فتعصب أتباع ابن الحداد وسبُّوا مُسبِّحاً ووثبوا بِهِ فجاء إِلَى الخصيبي فقال: أنا رجل غريب وَمَا جرى عليّ قليل. وأعاد لَهُ الخط. فبلغ ابن الحداد فأطلق لسانه فِي ابن رجاء وقال: إنما سُئلت عن قاضٍ يفعل كذا وكذا فأجبت أنه لا يصلح.

قال ابن زولاق: واتفق أن كنيسة أبي شنودة انهدم جانبها، وبذل النصارى مالاً كثيراً ليطلق لهم عمارتها فاستفتوا الفقهاء. فأفتى ابن الحدّاد بهدم عمارتها، ووافقه أصحاب مالك وأفتى محمد بن علي بأن لهم أن يرِمّوها ويعمروها. فثارت العامة بِهِ وهمُّوا بإحراق داره فاستتر، وأحاطوا الكنيسة. فبلغ ذَلِكَ الأمير فاغتاظ، فأرسل وجوه غلمانه فِي جمع كثير، فاجتمع عليهم العوامّ ورمَوْهم بالحجارة، فراسلوه، فأرسل إِلَى ابن الحدّاد فقال: اركب إِلَى الكنيسة، فإن كَانَتْ قائمة فاتركها عَلَى حالها، وإن كَانَتْ دائرة فاهدمها. فوجَّه ابن الحدَّاد وصُحبته عليّ بن عبد الله بن النّواس المهندس وكثُرَ الزِّحام، فلم يزل يرفق بهم اللفظ ويلين لهم القول ويُعلمهم أنه معهم حَتَّى فتحوا الدروب. ودخل الكنيسة فأخرج جميع من فِيهَا من النصارى وأغلق الباب ودفع للمهندس شمعة. ودخل المذبح وكشفه وقال: يبقى خمس عشرة سنة ثُمَّ يسقط منها موضع ثُمَّ يبقى إِلَى تمام أربعين سنة ويسقط جميعها. فأعاد الجواب فتركها وَلَمْ يعمرها، فلما كَانَتْ سنة ست وستين عُمرت كلها ولو تُركت لسقطت.
قال ابن زولاق: كَانَتْ الإخشيدية كلها تَكْرَه ابن الحدّاد لكراهتهم فِي الشافعية ولغاظته عليهم، وكان كثير التردّد إليهم مع ذَلِكَ، فاتفق أن الإِخشيد الكبير غضِب عَلَى بعض حشمه وهو مقبل المُغَنِّي فحبسه، فسُئل ابن الحداد أن يشفع فِيهِ فشفع فِيهِ فأجابه وقال: أنا أرسله إِلَيْكَ. فأرسل إِلَى مقبل فقال: خُذ العود وتوجَّه إِلَى ابن الحداد فإنِّ لَهُ. فتوجَّه إِلَيْهِ وشكره عَلَى شفاعته، فأخرج العود وقال: قَدْ أُمرتُ بأمرٍ. ففطِن ابن الحدّاد وقال والله مَا سمعته إِلاَّ فِي دور الناس من السطح. فرجع مقبل وحلف للإِخشيد أنه حمل العود منه فوجد ابن الحداد جالساً فِي جمع كثير من العلماء والفقهاء والشهود فخِفتُ عَلَى نفسي، فعذره.
قال أبو عمر الكندي: اعتلّ حمزة بن محمد الكِنانيّ فركِبت أنا وابن الحداد إِلَيْهِ فقال: يَا أبا القاسم، جئتك عائداً وزائراً، وقضيت أن أقعد عندك إِلَى الظهر، وَكَانَ عند حمزة جماعة فجلسوا وأخذ أبو بكر وحمزة فِي المذاكرة فِي الحديث والرجال وَمَا يتعلَّق بذلك من فنّ حمزة، وَكَانَ ابن الحدّاد يفي بالعلوم لا يبقى علم إِلاَّ شارك فه مع حسن المذاكرة إِلَى أن اتَّفق أن قال حمزة: مَا يردُ القيامة أحد بميزان أثقل من ميزان قُحافة لأنَّ أبا بكر فِيهِ. فقال أبو بكر الَّذِي أقول: مَا يرد القيامة بميزان أثقل من فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم لأن أباها فِيهِ. ونهض فانصرف.
قال ابن زولاق: وَكَانَ ابن الحداد إِذَا صلَّى عَلَى جنازة يطيل القيام فِي التكبيرة الآخرة حَتَّى يجاوز مَا نقل عن الشافعي.
قال عبيد الله بن عبد الكريم. فتسمَّعتُ عَلَيْهِ فسمعته يقول: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ) إلى قوله: (الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وحدَّث ابن الحداد بكتاب خصائص عليّ للنَّسائي عنه، فحكى أنه كَانَ فِي مجلس أبي القاسم ابن الإِخشيد مع جماعة فلما نهضت أمسكني فقلت: أحاجةً؟ فقال: نعم. أيّما أفضل أبو بكر وعمر أَوْ عليّ. فقلت: اثنان حِذاء واحد.
فقال: فأيما أفضل أبو بكر أَوْ علي؟ فقلت: إن كَانَ عندك فعليّ، وإن كَانَ بَرّاً فأبو بكر. قال ابن زولاق: وهذا أعجب مَا بلغني عنه فِي ذَلِكَ.
قال: ويُشبه هَذَا مَا بلغني عن محمد بن عبد الحكم أن رجلاً سأله فاستعفاه، فأبى، فقال لَهُ: إن أخبرتَ أحداً عمَّا أقول لَكَ كلَّمتُ أحمد بن طولون فضربك بالسياط عَلِيَّ أفضل.
وَكَانَتْ ولاية ابن الحداد الأولى كما ندّم من جهة الإِخشيد خلافة للحسين ابن أبي زُرْعَة. وَكَانَ ينظر فِي المظالم ويوقّع فِيهَا. ورُميت فِي ولايته عدّة رقاع فِي الجامع منها رقعة فِيهَا أبيات شعر وهي:
قولوا لحدَّادِنا الفَقِيه ... العَالِم الماهِر الوَجِيهِ
ولِيتَ حُكماً بغير عهدٍ ... وغير عقد نظرتَ فِيهِ
ثم أبحتَ الفُروجَ لمَّا ... وقَّعتَ فِيهَا عَلَى البَديهِ
هذي فَعالٌ حملتَ فِيهَا ... وِزْرَكَ مع وِزِر مَنْ يليهِ

وهل ترى ذا ولست فِيهِ ... بجَائزٍ من مُخَالِفيهِ
أنكرتَ حالاً من ابن عمرو ... مَا أنْتَ فِيهِ ومُرْتَضِيهِ
وخُنْتَ عَهداً والله ربّى ... لناقض العهد مُبْتليهِ
والمكرُ فِي الناس داء سُوء ... والعُجْب أيضاً لمرتديهِ
لكنَّهُ فيك عير نفيّ ... للأمر والنهى يَشْتَهِيهِ
وأجاب جماعة من المصريين عن هَذِهِ الأبيات وَلَمْ يكن ابن الحدّاد اطلع عَلَيْهَا، فلما سمع الأجوبة أنكر تواتر القافية، فبحث عن ذَلِكَ إِلَى أن عرَّفوه بالحال. وَكَانَ من جملة مَن أجاب عنه محمد بن الوجيه بقصيدة جاء منها:
مَا ضَرَّ نَارَانَ وهو طامٍ ... أن مَرّ كلبٌ فَبَالَ فِيهِ
ونسبوا إِلَى ابن الحداد أنه رفع لَهُ حكم عن ابن حماد فأنشد:
لستُ ابن حمَّاد ولا ابن زَبْرِ ... ولا السَّرَخْسي ولا ابنَ بَدْر
فبلغه ذَلِكَ فقال: لعنة الله عَلَى أول من قالها.
ومدحه أحمد بن محمد الكَحَّال بقصيدة يقول فِيهَا:
كالشَّافعي تَفَقُّهاً والأَصْمَعِي ... تَفَهُّماً والتابعين تَزَهّدا
وبلغ الأبيات محمد بن موسى المعروف بِسِيبوَيْه فمدح ابن الحداد بقصيدة جاء منها:
مَا يضرّ البحر أمسَى زاخراً ... أَن رَمَى فِيهِ صَبّى بِحَجَرْ
قال ابن زولاق: وصار ابن الحداد من ولاية الخصيبي فِي كرب شديد. فاتَّفق أن جعفر بن الفرات تأهب للحج وَقَدْ غاب الإِخشيد ونحرير الخادم عن البلد، فاغتنم ابن الحداد الفرصة وتجهز للحج فركب محمله وهو يقول: قَدْ تركت مصر للخصيبي.
وسُمع وهو سائر يقول: اللهم لا تُمِتْنِي فِي دار غُرْبة. فاتفق أنه لما رجع توعَّك فِي الطريق فاستمرَّ فِي ضعفه إِلَى أن دخل من أبواب المدينة فمات وهو سائر فِي المحمل فِي الأرض الَّتِي بُنيت فِيهَا القاهرة، فصُلي عَلَيْهِ فِي مصر، ودُفِن فِي القرافة وقبره معروف.
قال ابن زولاق: مات فِي صفر سنة أربع وأربعين.
وقال ابن خلِّكان: مات فِي المحرم سنة خمس وأربعين. وابن زولاق أَعرف بِهِ فإنه ذكر أن مولده فِي رمضان سنة أربع وستين: وقال فِي آخر ترجمته: عاش تسعاً وسبعين سنة وخمسة أشهر، فهذه المدة مطابقة لِطرفي كلامه وهو تلميذه وبلديّه بخلاف ابن خلكان.
محمد بن أحمد بن قاسم بن زيد الصقلي ويلقب بالرشيد عماد الأحكام، وقيل هو محمد بن قاسم. وقيل: أحمد بن قاسم. وهو أثبت. فقد ذكره القاضي الرشيد أحمد بن الزبير فِي كتاب جنان الجنان، وأنشد لَهُ مديحاً فِي الأفضل تقدم ذكره فِي أخيه قاسم. ولي بعد نعمة الله ابن الجليس.
محمد بن أحمد بن أبي بكر الطرابلسي القاضي شمس الدين ولد سنة ...
وقدم الديار المصرية، فشهد فِي بعض المراكز ورافق المجد إسماعيل، وتقدم فِي الفقه ومعرفة الشروط، وناب فِي الحكم، وترقت بِهِ الأحوال.
ولما مات ابن منصور عَيَّنَه القاضي أوحد الدين كاتب السر فاستقر فِي ثاني عشري ربيع الآخر سنة ست وثمانين وسبعمائة. فباشر بعفة ونزاهة وصرامة وشدة وعفة. وتوفر عَلَى يده من أوقاف الأسرى مَا صيّره حاصلاً للوقف فأكثر من ثلاثة آلاف دينار بعد أن اشترى من الفائض ريعاً ووقفه، وجعل مصرفه مصرف الأصل.
وكانت لَهُ صولة عَلَى الشهود وكتّاب الحكم، لا يمشي عَلَيْهِ قضية من القضايا فِيهَا تدليس ولا دَسِيسة.
وصُرِف بالمجد إسماعيل فِي رمضان سنة اثنتين وتسعين. وَكَانَ إسماعيل نائباً عنه، فوقعت بينهما وحشة فعزل إسماعيل نفسه. وأراد أن يعتكف العشر الأخير من رمضان بالطَّيْبَرسِيّة. فجاءته الولاية فِي اليوم الثاني فخرج من معتكفه واستمر ..
محمد بن أحمد بن أبي دُوَاد الإِيادي أبو الوليد.
قال ... لما فُلج أحمد بن أبي دُوَاد فِي سنة ثلاث وثلاثين ومائتين ولي المتوكل ولده أبا الوليد القضاء مكان أبيه والمظالم، فلم يزل إِلَى أن عزله ووكل بضياعه وضياع أبيه، ثُمَّ صولح عَلَى ألف ألف دينار، وأشهد عَلَيْهِ وَعَلَى أبيه ببيع تِلْكَ الضياع لأمير المؤمنين، وأخرجهما فِي سُرَّ مَنْ رَأَى إِلَى بغداد. إِلَى أن مات أبو الوليد ومات أبوه بعده بدون الشهر فِي أول العشر الأخير من المحرم سنة أربعين ومائتين.

محمد بن إبراهيم بن إسحاق بن إبراهيم بن عبد الرحمن السُّلمي المَنَاوي صدر الدين أبو المعالي، شافعي من المائة التاسعة.
ولد فِي شهر رمضان سنة اثنتين وأربعين، واشتغل بالفقه فِي صباه، وحفظ التنبيه وغيره. وأسمِع عَلَى ابن عبد الهادي، والمَيْدُومي، ومن بعدهما. وخرج لَهُ الحافظ ابن زرعة مَشْيَخَة فِي خمسة أجزاء سمعتها عَلَيْهِ. وسمعتُ عَلَيْهِ غيرها. وولي نيابة الحكم قديماً. وسكن مصر قاضياً بِهَا منفرداً. لكنه نائب.
فلما كَانَ فِي سلخ شوال سنة إحدى وتسعين وسبعمائة ولي المنصب فِي زمان مِنْطَاش. وحضر معه جمع كثير من الأمراء والأعيان وفرح الناس بِهِ لأنه كَانَ عارفاً بالأحوال لد دُرْبَةٌ بالأحكام مع حسن ملتقاه وتأليفه القلوب عَلَى محبته. وَكَانَ شكلاً مهيباً مع كثرة المباسطة والمفاكهة مع خواصه. متنعماً من المأكل والمشرب والمنكح والملبس، وَقَدْ ولي تدريس المنصورية بعد الشيخ ضياء الدين وكذلك الشيخونية.
وصنف تخريج أحاديث المصابيح وحدث بِهِ، وسمعْت عَلَيْهِ بعضه، وشرع فِي شرح جامع المختصرات، فلم يزل فِي الولاية إِلَى أن التمس منه منطاش اقتراض مال الأيتام فامتنع، فتهدده وتوعده، فأصرّ عَلَى المنع، فبلغ ذَلِكَ ابن أبي البقاء فبذل مَا التمس منه. فعزل الصدر بعد أن كان العسكر خرجوا لقتال برقوق لما بلغهم خروجه من الكرك. فرجع الصدر من مخيمه إِلَى منزله واستقر بدر الدين ابن أبي البقاء وذلك فِي سابع عشر ذي الحجة من السنة فكانت ولايته سنة وأربعين يوماً.
ثُمَّ أعيد المناوي بعد صرف الكركي فِي ثاني المحرم سنة خمس وتسعين وسبعمائة ثُمَّ التمس منه الظاهر أن يقرضه مَا فِي المودع لما عزم عَلَى السفر إِلَى حلب فامتنع أيضاً، فسعى البدر ابن أبي البقاء ثانياً فأجيب، وصرف المناوي أيضاً من المخيم فِي ثالث عر ربيع الآخر سنة خمس وتسعين. واستقر ابن أبي البقاء وخلع عَلَيْهِ فِي المخيم، ثُمَّ أعيد الصدر فِي حادي عشر شعبان سنة سبع وتسعين. فسار عَلَى سيرته إِلاَّ أنه تعاظم فِي هَذِهِ الولاية الثالثة.
واستمر إِلَى أن غضب منه الظاهر بسبب قضية سأله فِيهَا فأغلظ فِي الجواب فاحتمله، وسأل عن أحوال نوابه فوصف لَهُ التقي الزبيري فعرفه، فقرره فِي الحكم فِي جمادى الأولى سنة تسع وتسعين وسبعمائة، فباشر مباشرة حسنة إِلَى أن صرف فِي خامس عشر شهر رجب سنة إحدى وثمانمائة.
وأعيد الصدر المناوي فكان لَهُ يوم مشهود، إِلاَّ أنه لما وصل إِلَى باب الصالحية سقطت عمامته، فصادف بعد استقراره موت الظاهر فِي شوال من السنة، ثُمَّ سار صحبة العسكر لقتال نائب الشام تَنَم، فحصل النصر، وعظم قدر القاضي لأن السلطان جعله من أوصيائه، وَكَانَ فِي هذه السفرة بزي أكابر الأمراء من كثرة الغلمان والحشم والخدم والخيام، فلما رجع رجع فِي صورة الملوك لا يلتف لأحد ولا يأذن لأحد من الشهود وغيرهم فِي الجلوس، بل يؤدون شهادتهم وهم قيام عَلَى أرجلهم.
ثم بعد رجوعهم بقليل فِي أول سنة ثلاث وثمانمائة ورد الخبر بطَرْق اللنكية البلاد الشامية، فتجهز العسكر لقتالهم، فخرجوا فِي سنة ثلاث وثمانمائة، فلما انهزم العسكر المصري من اللنكية أسِرَ القاضي صدر الدين، فبلغ اللنك فاستحضره فدخل وعليه ثوب قصير وهو فِي حبل، فقال لَهُ: يَا قاضي، أنا كافر، تنادي عليّ فِي بلدكم أني كافر وقتالي واجب! فأنكر. فقال: تحلف وأقيم عَلَيْكَ البينة ثُمَّ أقطع رأسك وآمر أن يلقى إِلَى الفيلة.
فحكى القاضي جمال الدين ابن الكشك أنه كَانَ حاضراً هو وقضاة دمشق قال: فقمنا فأكببنا عَلَى يديه حَتَّى صرفه، ثُمَّ ادعى شخص أنه من ذرية خليفة بغداد، فأحضر اللنك قضاة دمشق والصدر المناوي، فجلس الصدر فوقهم فأمر بِهِ اللنك فأقيم وأجلس تَحْتَ نواب قضاة دمشق. وقال لَهُ: المسخوط عَلَيْهِ لا يجلس فَوْقَ أحد. قال فكنت أمرّ بِهِ وهو فِي غرفة محتفظاً بع فكان يناديني فأطلع إِلَيْهِ وأتحدث معه.

واتفق أن اللنك أمره أن يكتب إِلَى الناصر فرج كتاباً يأمره فِيهِ بإطلاق أَطْلَمِش قريب اللنك وكان محبوساً بالقلعة من عهد الظاهر. فقال لَهُ الصدر: لستُ فِي هَذِهِ المرتبة، وإنما أكتب إليهم أشفع فِيهِ فقال لَهُ: كذبتَ هَذِهِ كتبهم إليّ أنه لَيْسَ فِي دولتهم بأعظم منك. وأخرج كتاباً فِيهِ وصف الصدر بذلك وأزيد. وأمر بتقييده والزيادة فِي إهانته. فلما رحلوا من دمشق استمر مأسوراً إِلَى أن مرّوا بنهر الزاب، فيقال إن البغل الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ عثر فِي النهر فسقط الصدر وهو مقيد فغرق. فبلغ اللنك ذَلِكَ فاتهم الموكل بِهِ أنه ارتشى منه وأطلقه. وأخذ فِي التفتيش عَلَيْهِ حَتَّى استخرج من آخر النهر وَقَدْ تغير وجهه، وتمعَّط شعر لحيته، وَكَانَ ذَلِكَ فِي أواخر شهر رمضان سنة ثلاث وثمانمائة، فأكمل إحدى وستين سنة.
محمد بن إبراهيم بن عبد الواحد بن علي بن سرور بن رافع بن حسن بن جعفر الإسماعيلي ثُمَّ الصالحي أبو بكر المقدسي، ابن أخي الحافظ عبد الغني صاحب العمدة، حنبلي من المائة السابعة.
ولد فِي رابع عشر صفر سنة ثلاث وستمائة، وعني بالعلم، فأحضر علي ابن طَبَرْزَدَ عدة أجزاء، وسمع عَلي الكندي، والحرستاني، وابن مُلاعب، والشيخ الموفق ومَن بعدهم.
وسمع ببغداد من الفتح ابن عبد السلام والموجودين إذ ذَاكَ فأكثر، وخرّجت لَهُ مَشْيَخة فِي عشرة أجزاء عَلَى حروف المعجم. وحدث بِهَا إِلاَّ الأخير.
وأخذ الفقه عن الشيخ الموفق وغيره، وأقام ببغداد مدة يشتغل، وتزوج بِهَا ورزق أولاداً، ثُمَّ تحوّل إِلَى مصر بعد الأربعين إِلَى أن صار شيخ المذهب علماً وصلاحاً وعلو إسناد.
روى عنه الدمياطي، والشريف الحسيني، ومسعود الحارثي، وعبيد الإِسْعردي، والبدر الفارقي، والقطب الحلبي، وآخرون.
قال القطب فِي تاريخه: سمعتُ عَلَيْهِ صحيح مسلم، ومعجم شيوخه إِلاَّ الجزء الأخير، فإن المنية أدركته قبل أن يحدث بِهِ.
وقال التَّقِيّ عُبَيد: كَانَ مشهوراً بمكارم الأخلاق وحسن الطريقة. وولي قضاء القضاة لما قررت المذاهب أربعة وأفتى ودرس.
وقال البرزالي: كَانَ حسن السمت، وضيء الوجه، منور الشيبة، لَهُ معرفة بالفروع والأصول، مع كثرة البر والصلة، والعبادة، والتواضع، والتودد.
وقال القطب الحلبي: كَانَ سخيّاً، كريمَ النفس، حسنَ الصورة والأخلاق، كثيرَ الصمت، جليلَ القدر، من بيت العلم والزهادة، مع معرفة المذهب. وولي القضاء، ومشيخة الخانقاه السعيدية.
وقال الذهبي: كَانَ إماماً محققاً كثير الفضائل والصلاح مليح الشكل.
وقال القطب اليونيني: كَانَ من أحسن المشايخ صورة مع الفضل والدين والكرم وسعة الصدر، قال: وهو أول من درس من الحنابلة بالصالحية، وأول من ولي قضاء القضاة وتولى مشيخة الشيوخ بخانقاه سعيد السعداء، قال: وَكَانَ الصاحب بهاء الدين يتحامل عَلَيْهِ ويُغْرى بِهِ الملك الظاهر، وَكَانَ لا يلتفت إِلَيْهِ ولا يخضع لَهُ.
وكانت ولايته القضاء فِي ذي الحجة لما قرر الظاهر بيبرس القضاة أربعة، فلما كَانَ فِي ثاني شعبان سنة سبعين أمر بالحوطة عَلَى داره، وعزل عن القضاء، واستمر مذهبه بغير قاض، وتأخرت وفاته إِلَى يوم السبت فِي ثاني عِشْرِي المحرم سنة ست وسبعين وستمائة، ودفن بتربة عمه، وَكَانَ الجمع وافراً. وَكَانَ السبب فِي محنته أنه نسب ودائع كَانَتْ عنده لأناس ماتوا عن غير وارث فاعتقل بسبب ذَلِكَ سنتين، ثُمَّ أفرج عنه ولزم بيته يدرس ويفتي ويتعبد إِلَى أن مات.
محمد بن إبراهيم بن سعد الله بن جماعة بن علي بن جماعة بن حازم ابن صخر بن عبد الله بن إبراهيم بن أبي الفضل الكناني الحموي قاضي المسلمين بدر الدين أبو عبد الله الشافعي من المائة الثامنة.
ولد فِي سنة تسع وثلاثين وستمائة بحماة ونشأ بِهَا، وَكَانَ والده يسلك طريق الزهاد وينتمي إِلَى الشيخ أبي البيان نَبَأ بن محمد بن محفوظ القدوة المشهور، ولذلك كَانَ ابن جماعة المذكور ينسب بيانياً. ومات أبوه إبراهيم فِي ذي الحجة سنة خمس وسبعين بحماة.

واشتغل ببلده، ثُمَّ قَدِمَ دمشق، فأخذ عن النووي، والتقي ابن رَزِين، وجمال الدين ابن مالك، وغيرهم فِي عدة فنون. وسمع الحديث بحماة والشام ومصر من جماعة منهم: والده، وأحمد بن عبد الدائم، وابن عزّون، وابن أبي اليسر، والرشيد العطار والرَّضِيّ ابن البرهان، وابن علاّق، وشيخ الشيوخ بحماة، وأجاز لَهُ الرشيد بن مُسْلِمَة، ومكي بن علان فِي آخرين.
وخرج لَهُ البرزالي مشيخة، وتصوف وتنزل فِي الخوانق، ثُمَّ ولي قضاء القدس والخطابة فِي سنة سبع وثمانين. قلما وقع بَيْنَ القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز وبين الوزير ابن السلعوس، وتمالأ الوزير عَلَى القاضي فِي سلطنة الملك الأشرف خليل عَلَى مَا تقدم فِي ترجمته، وَكَانَتْ بينه وبين ابن جماعة صحبة لما كَانَ بدمشق، عينه للقضاء، واستقدمه عَلَى خيل البريد فِي سلطنة الأشرف خليل فِي ثاني عشر شهر رمضان سنة تسعين وستمائة.
فلما وصل بدأ بالسلام عَلَى الوزير وأفطر عنده، وذلك فِي تاسع عشر رمضان فجمع بينه وبين الأشرف فولاه الإقليمين، ثُمَّ أفطر فِي تِلْكَ الليلة أيضاً عند الوزير وخاطبه بقاضي القضاة وصرح بعزل القاضي تقي الدين، وأرسل إِلَى القاضي بدر الدين الخلعَة والتقليد، فأصبح يحكم بَيْنَ الناس يوم الجمعة.
ثم أضيفت إِلَيْهِ خطابة الجامع الأزهر، فلبس الخلعة، وركب إِلَى بيت الوزير ثُمَّ إِلَى الجامع فخطب، ثُمَّ أمر لَهُ بتدريس الصالحية فانتقل إِلَيْهَا ودرّس بِهَا، فلما كَانَ الجمعة المقبلة، أمر الأشرف أمير المؤمنين الحاكم أن يخطب بِهِ فخطب، فلما نزل من المنبر أمر القاضي أن يصلي بهم الجمعة ففعل، وذلك بالقلعة، واستمر القاضي يخطب بالقلعة واستناب فِي الجامع الأزهر صدر الدين ابن شيخه القاضي تقي الدين ابن رزين.
فلما قُتل الأشرف، وقُبض عَلَى ابن السلعوس، صرف البدر، وأعيد القاضي تقي الدين ابن بنت الأعز، وذلك فِي أول المحرم سنة ثلاث وتسعين.
ورحل القاضي بدر الدين إِلَى الشام عَلَى قضائها، فاستمر إِلَى أن أعيد إِلَى قضاء الديار المصرية بعد موت الشيخ تقيّ الدين ابن دَقيق العيد، وذلك فِي شعبان سنة اثنتين وسبعمائة.
فشغر منصب القضاء من صفر إِلَى شعبان. فاستقر إِلَى أن رجع الناصر من الكرك، فصرف فِي صفر سنة تسع وسبعمائة. ثُمَّ أعيد بعد سنة وشهرين فِي العشرين من ربع الآخر سنة عشر وسبعمائة، فاستمر إِلَى أن كف بصره، فشق عَلَيْهِ مفارقة المنصب فصنف جزءاً فِي صحة ولاية الأعمى، وسبقه إِلَيْهِ أبو سعيد ابن أبي عصرون بدمشق، ثُمَّ تلاه القاضي شرف الدين البارزي بحماة.
ونُمِيَ إِلَى الملك الناصر أن القاضي أضر وهو يكتم ذَلِكَ، وَكَانَ ذا حضر الموكب يقدمه نقيبه فيمشي عَلَى حسه، فأمر مرة بمنع نقيبه من المشي أمامه ففعل، فعثر فِي طرف الإيوان. فعرف الناصر الحال، فدس عَلَيْهِ من يعرفه أن يطلب الاستعفاء ففعل، فأعفي وبقيت معه عدة وظائف. وَكَانَ ذَلِكَ فِي عاشر جمادى الآخرة سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
وتأخرت وفاته بعد ذَلِكَ ست سنين وهو منقطع بمنزله بشاطئ النيل جوار الجامع الجديد، وَكَانَ قَدْ ولي خطابته وإمامته منذ فتح، واستمر بيد ذُرّيته نحواً من مائة سنة.
ووصف بأنه كَانَ قابض اليد عمّن يقصده ويستعينه، فسئم الناس منه لطول ولايته، وصار هو غير مكترث بأحد لأمنه ممن يسعى عَلَيْهِ.
فاتفق أنه كَانَ متوجهاً إِلَى درس الخشابية فصدفه شيخ عتيق من أهل مصر، فقال: اللهم أزِلْ عن المسلمين مَا يكرهون. فقال القاضي بدر الدين: آمين، اللهم آمين. ثُمَّ قال لشخص معه: إن هذا قصدني بدعائه، فسمعه الشيخ فقال: لا والله يَا مولانا. فقال: بل الأمر كما أقول لَكَ: فإن الناس طالت عليهم مدتي، وبَعُدَ عهدهم بقاضٍ جديد وحاشية جديدة.
وكان القاضي كثير الاحتمال، فلم يصل للرجل منه مكروه.
ودخل إِلَيْهِ البصير الحمامي وَكَانَ لَهُ مرتب عَلَى الأحباس فسأله أن يصرفه لَهُ فامتنع، فغاب أياماً ثُمَّ دخل إِلَيْهِ ومعه درج طويل فِيهِ نحو عشرين زجَلاً أوله:
قاضي القضاة المفدّى ... ذو الكائنات المطاعهْ
سألته عن أبيه ... فقال: أنا ابن جماعهْ
وشرع يقرأ من الدرج فأمره بالسكوت، وصرف لَهُ من عنده شيئاً فأخذه وانصرف بالدرج معه.

وَكَانَتْ لَهُ مشاركة فِي أكثر العلوم، وَلَهُ فِيهَا تصانيف لطاف، واختصر عدة تصانيف منها: علوم الحديث لابن الصَّلاح وغَيَّر ترتيبه وسماه المَنْهلَ الرَّوي،، واختصر مبهمات القرآن للسُّهيلي وزاد فِيهِ أشياء كثيرة، أظنه لخصها أيضاً من ذيل ابن عساكر. وكذا صنع فِي مناسبات أبواب البخاري، أخذ كتاب ناصر الدين ابن المُنَيِّر فاختصره اختصاراً بالغاً وَلَمْ ينسبه إِلَيْهِ، لكنه هو بعينه لَمْ يزد فِيهِ سوى شيء يسير.
وله تصانيف أخرى فِي عدة فنون حَتَّى فِي الهيئة والهندسة، وَلَهُ نَظْم كثير أورد منه ولده عز الدين فِي معجم الأدباء كثيراً. وخرج لنفسه أربعين تساعية، وخرج لَهُ البرزالي مشيخة فِي مجلدة سمعناها عَلَى حفيده شرف الدين بسماعه منه. ودرس فِي الإِقليمين فِي عدة جهات، وَكَانَ يعجبه أن يقيم بدمشق أَوْ القدس وَفِي ذَلِكَ يقول:
يَا لهفَ لن تدوم خطابتي ... بالجامع الأقصى وجامع جِلَّقِ
مَا كَانَ أهنَى عيشنا وألذّهُ ... فِيهَا وذاك طرازُ عمري لو بَقِي
الدين فِيهِ سالم من هَفْوَةٍ ... والرزق فَوْقَ كفاية المسترزِقِ
وذكره القطب الحلبي فِي تاريخ مصر فقال: ودرّس فِي عدة مدارس، وولي مَشْيَخَة الخانقاه لمعرفته بطريق القوم، وَلَهُ معرفة بالتفسير والفقه والحديث وَلَهُ تصانيف مفيدة، وأفتى سنين كثيرة، وخطب بدمشق وبالقدس، وفيه رياسة وتودد ولين جانب وكيس أخلاق ومحاضرة حسنة. وَكَانَ قوي النفس فِي ذات الله، من بيت علم وعبادة. قال: حججت معه سنة تسع عشرة، وقرأت عَلَيْهِ فِي بعض الحاج وانتفعت بِهِ، وولاني تدريس الحديث بمكانين.
وقرأ بخط الجمال البشيشي فيما جَمَعَه من أخبار قضاة مصر: كَانَ شديد الميل إِلَى القضاء يجتهد فِيهِ بكل مَا يسعه طرفه لا يقدم عَلَيْهِ شيئاً، وَكَانَ عارفاً بأحوال الزهاد والعباد، وأقام مدة بالديار المصرية يقصد بالفتوى ولا يقصدون عالماً غيره، وولي مَشْيَخَة خانقاه سعيد السعداء بالقاهرة مدة، وَكَانَ كثير التودد لين الأخرق عفيفاً عن الأموال، كثير العبادة، وحج مراراً كثيرة.
ويقال إن فتواه عرضت عَلَى الشيخ محيي الدين فاستحسن كتابته عَلَيْهَا.
وقرأت بخطه كَانَ ابن دقيق العيد قبل أن يلي القضاء مُحِباً فِي تحصيل الكتب، فاتفق أنه اشترى كتباً من تركة، فجاء أمين الحكم يطالبه فلم يجد معه الثمن، فرفعه إِلَى القاضي بدر الدين المذكور، فتوسط بينه وبين أمين الحكم أن تكون جامكيته بالكاملية فِي وفاء دَينه وَفِي الفاضلية بكلفته، وَلَمْ يكن بيده حينئذ غيرهما وقال لَهُ القاضي: يَا شيخ تقي الدين، أنا أغار من هَذِهِ الاستدانة. فقال: مَا يوقعني فِيهَا إِلاَّ محبة الكتب.
قال جمال الدين المذكور: كَانَ من حق القاضي أن يقوم عن الشيخ بثمن الكتب بل بجميع مَا عليه من الدَّين، وَكَانَ ذَلِكَ يلزمهم من عدة جهات. قلت: هَذَا مما يتعجب من مثله مع كثرة مَا كان للقاضي يومئذ من متحصل الأنظار والمرتبات عَلَى جهات المملكة واتساع أموال مودع الحكم، فلو صرف لَهُ ذَلِكَ من زكاة يتيم واحد لأمكنه، فكيف أغفل ذَلِكَ واقتنع بالمعاتبة! والله إن هَذَا لشيء عجيب.

وقرأت بخط البشيشي فِي ترجمة الزرعي: أن الملك الناصر لما عاد إِلَى السلطنة بعد إقامته فِي الكرك وسلطنة المظفر بيبرس، كَانَ الزرعي ممن ينوب عن ابن جماعة، فسأل الناصر مَن يثق بِهِ عمن يصلح للقضاء فوُصِف لَهُ الزرعي، فاستدعى بِهِ فعينه وألبسه الخلعة وأمره أن ينزل كم اهو إِلَى الصالحية ويسلم عَلَى ابن جماعة ففعل، فلم يشعر ابن جماعة وهو فِي مجلس الحكم والنواب بَيْنَ يديه والموقع يكتب والقاضي يعلم وتارة يحكم والنقيب يقدم الخصوم والقصص إِلاَّ والزرعي قَدْ دخل لابساً التشريف. فظن ابن جماعة أنه خلع عَلَيْهِ بقضاء الشام، فنهض لَهُ قائماً وهنأه، واستمر الزرعي قائماً عَلَى قدميه وابن جماعة واقفاً لوقوفه فقال لَهُ النقيب: مَا الَّذِي وليتم؟ فقال: مكان مولانا قاضي القضاة. فنكس ابن جماعة رأسه. وخرج من القاعة يزاحم مَن فِي الباب من الخلائق وأكثرهم لا يشعر بشيء من حاله حَتَّى ركب ومضى، وجلس الزرعي مكانه وانعقد المجلس عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ ومضى ابن جماعة فِي غاية الانكسار والخجل. وبلغ الملك الناصر ذَلِكَ فأعجبه جدّاً لأنه كَانَ تقم عَلَى ابن جماعة مسارعته إِلَى سلطنة المظفر بيبرس.
ومات فِي ليلة الاثنين الحادي والعشرين من جمادى الأولى سنة ثلاث وثلاثين وسبعمائة وَقَدْ كمل أربعاً وتسعين سنة وشهراً وسبعة أيام.
محمد بن أسعد الميانشي ...
محمد بن بَدْر بن عبد الله بن عبد العزيز الكِنَانِيّ مولاهم المصري من المائة الرابعة كَانَ أبوه مولى يحيى بن حكيم الكناني وَكَانَ صيرفياً موسراً ومن أجله صنّف أبو عمر الكندي كتاب الموالي.
وولد لَهُ محمد سنة أربع وسنتين ومائتين، ومات بدر ولمحمد عشرون سنة، واشتغل محمد عَلَى أبي جعفر الطحاوي حنفياً، وسمع الحديث من علي بن عبد العزيز البغوي بمكة، ومن غيره بمصر.
قال ابن يونس فِي تاريخه: كَانَ أبوه رومياً صيرفياً، وتفقه هو عَلَى مذهب الكوفيين، وجالس الطحاوي، وحدث عن علي بن عبد العزيز وجماعة من المكيين والمصريين، وَكَانَ ثقة.
وقال أبو عمر: يقال إن بدراً خلف ألف دينار عيناً سوى الرباع وغيرها وَلَمْ يخلف وارثاً غيره. وكتب محمد بن بدر الحديث، وتعلم الفروسية وركوب الخيل، ولازمه جماعة من المصريين، وكان من بداية أمره لَهِجاً بحب القضاء حَتَّى بلغ من شغفه بِهِ أنه اجتمع عنده فِي بستان لَهُ بالجيزة جماعة فجلي مجلس القاضي وجلسوا حوله كالشهود يستعرضهم، فعدل جماعة وأوقف جماعة، فاتفق أنه ولي القضاء حقيقة فأجاز من كَانَ عدله وأوقف من كَانَ أوقفه، فَعُدَّ ذَلِكَ من عجيب الاتفاق.
ولازم محمد بن بدر القضاة يخدمهم ويتعاطى أمورهم ويتقرب إليهم، وجهد حَتَّى جلس مع أبي جعفر الطحاوي أيام محمد بن عَبْدَة يكتب فِي الحكم.
وَكَانَ يجالس وصِيفاً صاحب الشرطة ويراجعه فِي الأمور الشرعية، فأنشأه الطحاوي، فلما ولي أبو عثمان ابن حماد القضاء خطب محمد بن بدر القضاء من العراق، فبلغ ذَلِكَ أخاه هارون بن حمّاد فأمر أخاه أبا عثمان أن يسعى فِي إفساد حاله، فجمع وجوه الناس من الشهود والتجار وأخبرهم بأن محمد بن بدر يروم ولاية القضاء فتكلموا فِيهِ واستصغروه عن ذَلِكَ، فأمرهم أن يكتبوا فِيهِ محضراً، فكتبوا أنهم لا يعلمون أن أباه خرج من الرق، ونسبوا محمداً إِلَى كل قبيح فِي لسانه وملبسه حَتَّى سراويله. وشهد فِي المحضر جماعة، فكتب كل منهم مَا زعم أنه اطلع عليه.
ومن جملة من كتب أبو الذكر الَّذِي ولي القضاء بعد أبي عبيد بن حربويه وعبد الرحمن بن إسحاق بن معمر الَّذِي ولي القضاء أيضاً، وأسجل أبو عثمان ابن حماد بِتَقْسِيقِه وكتب بذلك عدة نسخ، وأنفذ واحدة منها إِلَى العراق، وخلد نسخة منها بديوان الحكم، وأودع بقية النسخ عند أعيان المصريين.

واستقر محمد بن بدر فِي منزله فبالغوا فِي أمره، حَتَّى قال قائل: أَيُّها القاضي أَلا تُسلّم مَا فِي يد محمد بن بدر من المال لمواليه وتسألهم عتقه وأن يدفعوا لَهُ بغلاً وروايةً يستقى عَلَيْهَا الماء ليتكسب بذلك؟ فبلغ ذَلِكَ أبا هاشم المقدسي الَّذِي ولي القضاء أيضاً بعد ذَلِكَ، فأرسل إِلَى محمد بن بدر ليلاً فسأله عن حاله فحدثه بتعصبهم عَلَيْهِ، فركب معه إِلَى الأمير تكين وَكَانَ خاصّاً بِهِ، فسأله مساعدته وعرفه أنه مظلوم. فأرسل تكين إِلَى أبي عثمان يطلب منه المحضر ونُسَخه، فأرسل إِلَيْهِ بعضاً وأخفى بعضاً. فأطلق أبو هاشم لسانه فِي أبي عثمان.
ولزم محمد بن بدر باب أبي هاشم وصار يصانع الشهود الذين شهدوا عَلَيْهِ، ويتقاضى أشغالهم ويوفيهم حقوقهم إِلَى أن حضر عبد الله بن زَبْر إِلَى مصر قاضياً، فدخل إِلَيْهِ محمد بن بدر وعرفه حاله فوعده بالنصر، وساعده الطحاوي والحسين بن محمد المعروف بمأمون فخلا بهما ابن زَبر، وسألهما عن محمد بن بدر فقالا فِيهِ قولاً جميلاً. ثُمَّ حضر أبو بكر ابن الحداد فسأله عنه فأثنى عَلَيْهِ. فَعَدَّلَهُ ابن زَبر وأحضر مكتوباً شهد فِيهِ محمد بن بدر وأودى بشهادته عنده فقبله مع شاهد آخر، فأهدى محمد بن بدر لابن زَبر بسبب ذَلِكَ ألف دينار، قاله أبو عمر الكندي.
وقال ابن زولاق: كَانَ محمد بن بدر حسن الهيئة والمركوب والملبوس والمسكن. فلما صرف ابن زَبر وعاد أبو عثمان لَمْ يقبله. فلما عاد ابن زَبر قَبِله. ثُمَّ وليها أبو هاشم فاستكتبه. ثُمَّ ولي ابن قتيبة فقام محمد بن بدر بأمره. فكتب ابن قتيبة إِلَى محمد بن الحسن ابن أبي الشوارب قاضي القضاة وَكَانَ ابن قتيبة خليفته يذكر لَهُ محمد بن بدر ويثني عَلَيْهِ. فكتب ابن أبي الشوارب إِلَى محمد بن بدر بعهد القضاء بعد ابن قتيبة. فورد عَلَيْهِ كتاب العهد وَلَيْسَ عنده علم من ذَلِكَ. فتوقف الماذرائي عن نفاذ عهده ثُمَّ أمضاه. فحضر إِلَى المسجد وحضر مجلسه جماعة من شهود أبي عبيد وفيهم من شهد فِي المحضر المكتتب عَلَيْهِ. وحضر عنده عفان البزار وهو من وجوه المصريين فأشار عَلَيْهِ بتعديل جماعة كانوا تأخروا عنه ففعل.
واستقامت أموره، وباشر مباشرة حسنة، فأعطى القضاء حقه، وَلَمْ يتهاون بشيء من الأمور حتى إنه ابتاع فِي ولايته للأيتام رباعاً بسبعة عشر ألف دينار، وَكَانَ يجلس يوم الجمعة بالغداة فيحضر إِلَيْهِ الأيتام مع أمهاتهم ومن يكفلهم وأمناؤهم فيشاهد أحوالهم ويسألهم عما غاب عنه، ويقضي شهواتهم، وسار عَلَى طريقة الاحتمال والتجاوز، فلم يظهر عَلَى أحد ممن شهد عَلَيْهِ حقداً ولا مجازاة عَلَى الإِساءة، وواصل الإحسان للشهود الَّذِين تأخروا عنه يقضي حقوقهم، ويعود مرضاهم ويشهد جنائزهم.
فلما دخل الإِخشيد أميراً تلقاه محمد بن بدر فِي جمع كبير من الشهود ولبس يومئذ السواد، وَلَمْ يكن لبسه قبل ذَلِكَ. فأعجب الإِخشيد بذلك، وأثنى أهل البلد عَلَى سيرته عند الإِخشيد، ودخل ذاك الوقت الوزير أبو الفضل ابن حِنزابة مصر، فخرج إِلَيْهِ محمد بن بدر فتلقاه وقضى حقه، ودخل عَلَيْهِ مرة ومحمد بن علي الماذرائي عنده مقبوضاً عَلَيْهِ فِي المصادرة فقال الوزير: هذا إسماعيل بن بيان وكيل جارية محمد بن علي فمهما جاءك فِيهِ فامضه. فقال حَتَّى تثبت وكالته عندي بشاهدين عَلَيْهَا. فقال لَهُ: أنا أقول لَكَ هو وكيل وتقول لي حَتَّى تثبت عندي! وخبرك عندي بالتفصيل وَلَيْسَ هَذَا موضعك، وإنما تريد أن يشيع هَذَا القول أقيموه فأُقيم واعتقل ساعة فِي داره، ثُمَّ خوطب فِيهِ فأطلق، ثُمَّ أرسل إِلَيْهِ من تريد من الشهود؟ قال من شهودي الذين أقبلهم ففعل الوزير ذَلِكَ، وعظم محمد بن بدر فِي عينه وحسن موقع فعله عنده.
وكان ابن الحداد قَدْ تسلم من محمد بن موسى السرخسي لمحمد بن بدر، فلما ولي ابن بدر احتاط بنفسه وَلَمْ يكل إِلَى ابن الحداد شيئاً، فانقبض عنه، فلم يزل محمد ابن بدر يلي الحكم إِلَى شعبان سنة أربع وعشرين، فوردت ولاية عبد الله بن زبر عَلَى يد عبد الرحمن بن إسحاق ويحيى بن الحسين بن الأشعث فتسلما لَهُ من محمد بن بدر، فكانت ولايته سنتين.

ثُمَّ ولي مرة أخرى فِي ذي الحجة سنة سبع وعشرين، فركب إِلَيْهِ الشهود الَّذِين تخلفوا عنه واعتذروا إِلَى الناس بأن قالوا: مَا رأينا منه فِي الولاية الأولى إِلاَّ خيراً. فلما رأى ذَلِكَ تصلب فِي الأحكام، وتوقف عن قبول جماعة، وجدد شهوداً.
فاتفق الحال أنهم فِي كل وكالة يشهد أربعة، اثنان من شهوده واثنان من الشهود الأولين، فمشى الحال عَلَى ذَلِكَ إِلَى أن حضر أبو صالح خير الخادم وَكَانَ من أعيان الشهود فشهد عنده شهادة وشهد معه اثنان. فقال لَهُ: أين الرابع؟ فقال: أَيُّها القاضي أشهد عند أبي عبيد مع واحد وأشهد عندك مع ثلاثة! ونهض فبطل ذَلِكَ الشرط وتَبَسَّط ابن بدر فِي هَذِهِ الولاية فِي الإِساءة لمن كَانَ أساء إِلَيْهِ أولاً.
وأسقط عبد الله بن وليد بإشارة أبي الذكر، فلزم عبد الله بن وليد داره وأرسل إِلَى بغداد يسعى فِي قضاء مصر، وبذل لأبي الشوارب مالاً فكتب بعهده، فورد عَلَيْهِ فِي شهر رمضان سنة ثمان وعشرين، فركب إِلَيْهِ الشهود فتوجه إِلَى الحسين بن عيسى بن هَرَوان وَكَانَ بمصر فأقرأه العهد وسأله الإعانة، وَكَانَ الإِخشيد حينئذ يقاتل محمد ابن رائق. والحسن أبو المظفر أخو الإِخشيد يخلفه عَلَى مصر. فركب ابن وليد إِلَيْهِ وأخبره بالقصة فتوجّه سليمان بن رستم إمام المسجد الجامع ويحيى بن مكي بن رجاء إِلَى الحسين بن عيسى فَحسَّنا لَهُ قضاء مصر، وضمِنا لَهُ أن مح بن بدر يخلفه، فركب الحسين إِلَى الحسن أبي المظفر ووعده بشيء، فكاتب أخاه ففعل، فأرسل أبو المظفر إِلَى ابن بدر أن يخلف الحسين فأجاب وقال: لو أمرتني بلبس السيف والمنطقة لفعلت. ووقف أمر ابن وليد.
ثم ورد عَلَى ابن بدر كتاب الإِخشيد بأن يخلف الحسين بن عيسى فشق ذَلِكَ عَلَى ابن وليد واعتل حَتَّى أشرف عَلَى الموت، فدار بَيْنَ العامة: عبد الله بن وليد - أبرد من حديد. عبد الله بتن وليد - هو ذا يموت شهيد. فِي كلام ساقط يشبه ذَلِكَ.
قال ابن زولاق: وعدّل ابن بدر فِي هَذِهِ الولاية جماعة، فذكر لي ابن الحسين بن علي الدقاق أن ابن بدر قال لَهُ: مَا ترى فِي قبول شهادة ابن يحيى الصيرفي؟ قال: فقلت لَهُ: مَا رأى بأساً إِلاَّ أتي سمعته يقول: إن طُغْجاً أودع بدراً ستين ألف دينار ومات وهي عنده. فقال لي: هَذَا رجل سوء. فلما أصبح ابن بدر أرسل إليَّ وكالةً فشهِدن فِيهَا وغدوت عَلَيْهِ فأدّيتها فقبل شهادتي.
فلما كَانَ سلخ صفر وافي ابن زَبْر، فأقام أياماً، ثُمَّ ولاه الإِخشيد خلافة عن ابن أبي الشوارب أيضاً، فتسلم من ابن بدر فكانت ولاية ابن بدر هَذِهِ سنة وشهرين، ووليها ابن زَبْر شهراً واحداً وثلاثة أيام وفَجِئَه الموت، فرد الأَخشيد القضاء إِلَى الحسين ابن عيسى بن هَرَوان فاستخلف ابن وليد، فلما كَانَ فِي شوال سنة تسع وعشرين وثلاثمائة صرفه وأعاد ابن بدر، فاستخلف أبا الذكر عَلَى الفرض، وشرط عَلَيْهِ أن يحكم للمطلقة ثلاثاً بالسّكنى والنفقة اتباعاً لمذهب أبي حنيفة، وباشَر الحكم إِلَى شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة فمات وسِنّه يومئذ ست وستون سنة وَكَانَتْ ولايته الأخيرة أحد عشر شهراً وولي بعده أبو الذِّكر محمد بن يحيى ابن مهدي.
قلت: وَقَدْ ذكره مُسلمة بن قاسم فِي الصلة الَّتِي جعلها ذيلاً عَلَى تاريخ المحدّثين الكبير للبخاري فقال: كَانَ حنفي المذهب وَلَيْسَ هناك فِي الرواية. وَكَانَ صاحب رشوة فِي قضائه وَلَمْ يكن عندهم بالمحمود وأرخ وفاته فِي شعبان كما تقدم.
ومن شيوخه مقدام بن داود الرعيني.
وقد ذكره ابن عساكر فِي تاريخ دمشق مختصراً جدّاً. فقال: محمد بن بدر بن عبد العزيز المصري سكن دمشق مدة وحدث بِهَا وبمصر عن علي بن عبد العزيز، ثُمَّ رجع إِلَى مصر وولي القضاء بِهَا ومات بِهَا. كتب عنه أبو الحسين الرازي والد تمام. وذكره فِي شيوخه ثُمَّ نقل وفاته عن أبي سعيد بن يونس فقال: مات محمد بن بدر فِي يوم الاثنين لست وعشرين ليلة خلت من شعبان سنة ثلاثين وثلاثمائة، كتبت عنه.

واتفق فِي ولاية محمد بن بدر الأخيرة أن الإِخشيد أنشأ قيسارية البَزّ فِي سوق الحماد وأراد أن يبني السقيفة، فتقبل محمد بن عبد الله الخازن قطعة من حَبس السري ابن الحكم فِي الموضع المعروف بالمدينة المقابل لقيسارية الإِخشيد. وأمضى محمد بن بدر وأسجل من يشهد فِيهِ يوم موته، فكان ذَلِكَ آخر شيء حكم فِيهِ ومات فِي عشي ذَلِكَ اليوم.
ولما اعتل وقرب شهر رمضان خوطب فِي الركوب لرؤية الهلال، فقال: إن وجدت خفّة ركبت وإلا فاركبوا مع ابني أحمد، وَكَانَ إذ ذَاكَ صغيراً، فمات محمد ابن بدر لثلاثٍ بقين من شعبان وكان سِنّه حين مات ستاً وستين سنة، وَلَمْ تكمل ولايته الأخيرة سنة بل تنقص قدر شهر.
محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السعدي الإِخْنَائِيّ أبو عبد الله تقي الدين المالكي من المائة الثامنة ولد فِي رجب سنة ستين وستمائة.
وكان فِي أول أمره شافعياً، ثُمَّ تحوَّل مالكياً، واستمر أخوه علم الدين شافعياً ونشأ فِي صيانة وديانة.
واستنابه ابن مخلوف، فلما مرض راسله الناصر عمن يصلح للقضاء فقال: أما أولادي فليس فيهم أهلية لذلك، وأجود الجماعة تقي الدين الإِخْنَائِيّ، وَكَانَ إذ ذَاكَ دون الجماعة فِي أعينهم، وإنما قدمه ابن مخلوف لأنه كَانَ متديناً متقشفاً سالكاً طريق السلف فِي مأكله وملبسه ومجلسه.
وكان ابن مخلوف قصير الباع فِي العلم، فكان يعجبه من يكون كذلك. فلما مات ابن مخلوف فِي سنة ثماني عشرة، طلب الناصرُ تقيَّ الدين فخلع عَلَيْهِ وولاه القضاء عوضاً عن ابن مخلوف، وذلك فِي جمادى الآخرة منها.
فعظم ذَلِكَ عَلَى المالكية قاطبة، وَكَانَ المترشح منهم للمنصب جماعة فلم يحضروا عنده، ولا ناب أحد منهم عنه، ولا ركبوا معه ازدراء لَهُ. فمشى عَلَى طريقته فِي الصيانة والديانة والتقشف فِي الملبس والمركب والتواضع مع حسن السمت.
وصار الناصر كلما سمع بحسن سيرته يزيد فِي تعظيمه، وطالت مدته لذلك بحي إنه لَمْ يل المنصب قبله من المالكية مثله فِي ذَلِكَ، فإنها كَانَتْ اثنتين وثلاثين سنة وأشهراً.
وحصل لَهُ فِي أيام الناصِر رَمد أشرف منه عَلَى العمى، فأمر الناصر نوابه أن يباشروا الحكم عنه ويحضروا المواكب. وَلَمْ يعزله إِلَى أن قدرت عافيته وعاد إِلَى أحسن مَا كَانَ عَلَيْهِ.
وكان كثير الحط عَلَى الشيخ تقي الدين ابن تيمية وأتباعه، وهو الَّذِي عزّز الشهاب ابن مِرَى، وكان عَلَى طريقة الشيخ تقي الدين ويتكلم عَلَى الناس بلسان الوعظ لما قدم مصر. ونفقت لَهُ سوق واستقر فِي جامع أمير حسين يعمل المواعيد، إِلَى أن جرت مسألة التوسل فتكلم فِيهَا بكلام شيخه فأنكروا عَلَيْهِ. وبلغ ذَلِكَ القاضي فطلبه وعزّزه وطوف بِهِ وبالَغ فِي إهانته وتألم لَهُ كثير من الناس. فلم تَمضِ إِلاَّ أيام قليلة حَتَّى وقع من ابن شَأس نظير مَا وقع من ابن مِرى، فرفع أمره إِلَى القاضي وشهد عَلَيْهِ جمع كثير من الأعيان والعدول، والتمس من القاضي تعزيزه فدافع عم ذَلِكَ، وأظهر التعصب لَهُ، ونال بعض الشهود منه أذى فِي الباطن، وكثرت الشناعة بسبب ذَلِكَ حَتَّى قيل فِيهِ - وقيل إنها من نظم الشيخ برهان الدين الرشيدي:
يَا مالكياً شادَ أحكامه ... عَلَى تقي الله بأقوى أساس
مقالة فِي ابن مِرَى لُفِّقَتْ ... تجاوزت فِي الحدِّ حدّ القِياس
وَفِي ابن شاس قط مَا أثرت ... فهل أباح الشَّرع كُفر ابن شَأس
وشاعت الأبيات حَتَّى بلغت القاضي فعظم عَلَيْهِ لكنه سكت عَلَى مَضَض، واعتذر عنه بعض أتباعه بأنه رأى أن الذي وقع من ابن شَأس فلتة لسان فأقال عثرته منها. بخلاف ابن مرى فإن ذَلِكَ كَانَ معتقده، وَلَمْ يزل الإِخْنَائِيّ يباشر القضاء إِلَى أن حصل لَهُ رمد فِي صفر سنة خمسين وسبعمائة فاشتد بن فأرسل يستعفي من الحكم فأعفي ومات عقب ذَلِكَ.
محمد بن جوهر بن ذَكَا النابلسي يكنى أبا الفرج إسماعيلي من المائة الخامسة.
ولي قضاء مصر من قِبَل الأفضل ابن بدر أمير الجيوش فِي خلافة المستعلى. ثُمَّ صرف فِي السابع من صفر سنة خمس وتسعين وأربعمائة. وَكَانَتْ ولايته بعد وفاة محمد بن رَجَا.

قال ابن مُيَسّر: صرف عن قرب لأنه كَانَ يعادي إبراهيم بن حمزة الشاهد. فلما ولي الحكم أسقطه بسعي إبراهيم إِلَى أن وصل إِلَى الأفضل أن القاضي أحدث فِي مجلس الحكم بمصر، فأمر بعزله فِي ربيع الأول منها، وَكَانَتْ ولايته شهراً واحداً.
محمد بن الحارث: هو ابن أبي الليث يأتي ذكره.
محمد بن الحسن بن عبد الله بن علي بن محمد بن عبد الملك بن أبي الشوارب أبو الحسن من المائة الرابعة.
ولد سنة اثنتين وتسعين ومائتين وسمع من أبي العباس بن مسروق. روى عنه الحسين بن محمد الكاتب. وَكَانَ أحد الأجواد لكنه لَمْ يكن محموداً فِي الولاية. منسوباً إِلَى الارتشاء فِي الأحكام شاع ذَلِكَ وكثر الحديث بِهِ.
قال ابن الصابئ: ضمن ابن أبي الشوارب القضاء بمال مرتب لمعز الدولة فكان يحال بِهِ، فلا يخلو بابه من مطالب، وربما ضحوا وحملوا الجوارح والكلاب فأرسلوها ببابه فتكثر الشناعة بذلك، فدخل أبو عبد الله ابن الداعي إِلَى معزّ الدولة فقال: رأيت علياً فِي المنام وحمَّلني إِلَيْكَ رسالة. فارتاع معز الدولة وقال: مَا هي؟ قال: يقول لَكَ: هب لي مَا عَلَى ديوان الحكم من المال. ففعل.
وأرسل لما ولي القضاء الحسين بن محمد المطلبي فتسلّم لَهُ القضاء بمصر، وقُرِئ عهده من قِبَل القاهر ثُمَّ وصل أبو جعفر بن قتيبة فناب عن ابن أبي الشوارب فِي القضاء، وَكَانَ ذَلِكَ فِي الثامن عشر من جمادى الآخر سنة إحدى وعشرين وثلاثمائة.
وكان ولي القضاء ببغداد من قِبَل المستكفي فِي صفر سنة ثلاث وثلاثين وثلاثمائة، ثُمَّ قُبِض عليه فِي صفر سنة أربع وثلاثين، ثُمَّ قلده المطيع قضاء الشرقية والحرمين ومصر وسُرَّ من رأى وبعض السواد وبعض عمل الشأم. ثُمَّ صرف عن جميع ذَلِكَ فِي صفر سنة خمس وثلاثين. وعمل فِيهِ ابن سُكَّرة الشاعر قصيدة أبدع فِي هجائه فِيهَا:
ولقد جنى قاضي القضا ... ة حسينُ نَجْلُ أبي الشواربْ
هَذَا الَّذِي هَتَكَ الشرا ... ئع بالبَدائع والمَثالِبْ
هَذَا المُضَمِّر للفُرو ... ج وللدماء بغير راكبْ
وكانت وفاته فِي شهر رمضان سنة سبع وأربعين وثلاثمائة.
محمد بن الحسن بن عبد العزيز بن أبي بكر عبد الله بن عبيد الله بن العباس بن محمد بن علي بن عبد الله بن العباس الهاشمي العباسي يكنى أبا بكر.
ولي قضاء مصر مضافاً إِلَى قضاء الرَّمْلَة وطَبَرِيَّة والإِسكندرية وغير ذَلِكَ. فاستخلف أوّلاً ابن وليد، ثُمَّ استخلف أخاه عمر بن الحسن. وَكَانَ خطيب الجامع العَمْريّ بمصر وإمامه وإليه إقامة الحج وإمامة الحرمين. قال الخطيب..
محمد بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازُوري إسماعيلي من المائة الخامسة. تقدم ذكره فِي ترجمة والده.
قال سليمان بن علي بن عبد السميع العباسي: ولي محمد بن الحسن هَذَا القضاء بمصر نيابة عن أبيه، ولقب خطير الملك وأمين الملك ذا الرياستين. وأضيف إِلَيْهِ جميع أعمال مصر، وإلى أخيه جميع أعمال بلاد الشام وأفرد كل منهما بما إِلَيْهِ من ذَلِكَ. فلم يزل أمرهما مستقرّاً طول ولاية أبيهما الوزارة إِلَى أن قبض عَلَيْهِ كما تقدم فِي ترجمته. فقتل هو بعد أن نفي هو وأولاده إِلَى تنيس سنة خمسين وأربعمائة.
محمد بن الحسن بن أبي الدبس الطرابلسي طرابلس الغرب. كَانَ قاضيها فاستدعى بِهِ الوزير يعقوب بن كِلِّس فأمره بالنظر فِي الأحكام، وفوض إِلَيْهِ قضاء دمياط وبلبيس والفرما وغيرها، عوضاً عن محمد بن النعمان. كل ذَلِكَ نكاية فِي علي بن النعمان القاضي. والقاضي لا يعترضه فِي شيء، ووقع فِي حق محمد بن الحسن هَذَا مما تقدم ذكره فِي ترجمة علي بن سعيد الجَلْجُوليّ.
محمد بن الحسين بن رَزين بن موسى بن عيسى بن موسى بن نصر الله العامري المعروف بابن رَزين الحموي الأصل تقي الدين من المائة السابعة.
ولد سنة ثلاث وستمائة، وسمع من كريمة الزبيرية والصَّريفيني. وأخذ عن الموفق ابن يَعيش النحوي. وقرأ عَلَى ابن الصلاح بدمشق ولازمه وسمع منه الكثير، وتميز فِي حياته، وأفتى ودرس مدة.

ثم رحل إِلَى مصر لما جفل أهل الشام من التتار، وناب فِي الحكم بالقاهرة، ولازم ابن عبد السلام. ومن محفوظاته (المستصفي) للغزالي و (المفصَّل) للزَّمَخْشَري. ثُمَّ درس بالصلاحية جوار الشافعي، ودرس بالظاهرية، واشتهر بالكتابة عَلَى الفتاوى فكان يُقصد من البلاد.
روى عنه الحافظ الدمياطي، والبدر ابن جماعة، ومن قبلهما الشيخ محيي الدين النووي.
واستقر فِي قضاء القاهرة والوجه البحري، ثُمَّ أضيف إِلَيْهِ قضاء مصر بعد أبي الصلاح الصفراوي، وعزل فِي آخر سنة ست وسبعين.
محمد بن الحسين بن يوسف الرصافي ... .
محمد بن رجاء أبو الطاهر ولي القضاء بعد محمد بن عبد الحاكم فلم يول إِلَى أن مات ثلاث وتسعين وأربعمائة وتولى بعده محمد بن جوهر.
محمد بن سلامة بن جعفر بن علي بن حَكمُون بن إبراهيم ابن محمد بن مُسْلم القُضَاعي أبو عبد الله .... .
وأسند ابن عساكر عن الشيخ نصر المقدسي أنه قال: قدم علينا القضاعي رسولاً من المصريين إلى الروم، فذهب وَلَمْ أسمع منه. ثُمَّ إني رويت عنه بالإجازة. قال ابن عساكر: يعني لَمْ يرضه فِي أول الأمر لدخوله فِي الولاية عن المصريين.
قرأت عَلَى المسند أبي عبد الله محمد بن علي بن أحمد بن عبد الله بالإسكندرية عن أحمد بن أبي الحسن بن عبد العزيز بن المصفى فِي آخرين قالوا: أنبأنا أبو البركات ابن زُوَين، أنبأنا أبو القاسم ابن مُوقا، أنبأنا أبو عبد الله محمد بن أحمد بن الخطاب الرازي، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي قاضي مصر، حدثنا أبو مسلم محمد بن أحمد بن علي البغدادي، حدثنا أبو القاسم البغوي، حدثنا أبو نصر التمار وعلي بن الجَعْد وعبد الأعلى بن حماد وكامل بن طلحة وعبيد الله العَيْشِيّ قالوا: حدثنا حَمَّاد بن سَلَمَة، عن أبي العُشَرَاء الدَّارميّ، عن أبيه قال: قلت يَا رسول الله! مَا تكون الذكاة إِلاَّ من اللَّبَّةِ والحَلْق. فقال: (لو طَعَنْتَ فِي فَخِذِها لأَجْزَأكَ). قال التمار: ثبت أن سفيان الثوري سمع هَذَا الحديث من حماد بن سلمة. قلت أخرجه أبو داود عن أحمد بن يونس، عن حماد بن سلمة فوقع لَنَا بدلاً عالياً.
وأخرجه الترمذي من طريق وكيع ومن طريق يزيد بن هارون كلاهما عن حماد وقال: غريب لا نعرفه إِلاَّ من حديث حماد. ولا نعرف لأبي العُشَرَاء عن أبيه غير هَذَا الحديث. كذا قال. وَقَدْ جاءت عن أبي العُشَرَاء عدة أحاديث جمعها تمام الرازي فِي جزء مفرد. وجاء هَذَا الحديث من رواية غير حماد. وأخرجه النَّسائي من رواية عبد الرحمن بن مهدي عن حماد. وابن ماجه من رواية وَكِيع.
قال ابن طاهر فِي ترجمة محمد بن شافعي: مات القضاعي فِي سنة تسعين أَوْ نحوها.
وقال ابن عساكر: ذكر أبو بكر بن موسى الحداد، أن القضاعي مات سنة اثنتين وخمسين وأربعمائة وقال أبو محمد الأكْفاني: حدثنا أبو محمد الكناني، ورد الخبر من مصر بموت القاضي القضاعي فِي ذي الحجة سنة أربع وخمسين. وكذا ذكر أبو إسحاق الحبال أنه مات فِي ذي الحجة وتبعه ابن ناصر، وزاد ليلة الجمعة سابع عشرة. وذكر ابن ميسر أن قبره معروف بجانب الخندق يزار ويتبرك بِهِ.
محمد بن شاذان بن زكريا الجوهري، يكنى أبا بكر. بصري قدم مصر.
ذكره أبو سعيد ابن يونس فِي الغرباء قال: وَكَانَ صاحب بكّار بن قتيبة قاضي مصر وخليفته على مصر لما خرج إِلَى الشام.
وقال غيره: أقامه أحمد بن طولون يحكم بَيْنَ الناس عوضاً عن بكّار بن قتيبة لما غضب عَلَى بكار وسجنه. وَكَانَ محمد بن شاذان يمضي الأحكام، وَقَدْ تقدم بيان ذَلِكَ فِي ترجمة بكار.
قال أبو سعيد: كتب عنه بمصر - يعني الحديث - ومات فِي المحرم سنة أربع وسبعين ومائتين.
وقال مُسْلمة بن قاسم فِي (تاريخه) الَّذِي ذيل بِهِ عَلَى البخاري: كَانَ يرى رأي أبي حنيفة، وخلف بَكَّاراً فِي الحكم.
محمد بن صالح بن علي بن يَحْيى بن عبد الله بن محمد بن عُبيد الله ابن عيسى بن موسى بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي.
يعرف بابن أُمِّ شَيْبَان، وهي والدة يحيى جدّ والده، وهي تيميَّة من ذرية طلحة بن عُبيد الله، وهو كوفي نزل بغداد وَكَانَ قَدِمها مع أبيه فِي سنة سبع وثلاثمائة، فلقي الشيوخ ثُمَّ استوطنها سنة ست وعشرين ويكنى أبا الحسن.

وكان مولده فِي سنة ثلاث وتسعين، وقيل فِي يوم عاشوراء سنة أربع وتسعين.
وأخذ عن أبي بكر بن مجاهد، وعبد الله بن زيدان البَجَلي، ومحمد بن محمد بن عُقبة وغيرهم. وصاهر قاضي بغداد أبا عمر محمد بن يوسف المالكي.
وكان يتفقه لمالك، فلما ولي قضاء القُضاة ببغداد أضيف إِلَيْهِ قضاء مصر والشأم وغيرهما. فشرط شروطاً، منها: أن لا يتناول عَلَى القضاء أجراً ولا يقبل شفاعة فِي فعل مَا لا يجوز ولا فِي إثبات حقّ. ورتب لكاتبه فِي كل شهر ثلاثمائة، ولحاجبه مائة وخمسين، ولمن يعرض عَلَيْهِ الأحكام مائة، ولخازن ديوان الحكم ولمن معه من الأعوان ستمائة، وتسلَّم عهده من المطيع، وكان الَّذِي أنشأه أحمد بن عبيد الله الشيرازي.
قال طلحة بن محمد بن جعفر: كَانَ أبو الحسن عظيم القدر، وافر العقل، واسع العلم، كثير الطَّلب للحديث، حسن التصنيف، مُدمِناً للدَّرْس والمذاكرة والنظر فِي فنون العلم والآداب متوسطاً فِي الفقه مالكي المذهب. قال: ولا أعلم من تقلَّد القضاء من بني هاشم بمدينة السلام قبله. قال: وَكَانَتْ ولايته القضاء بمدينة المنصور عوضاً عن أبي السائب عتبة فِي ربيع الأول سنة أربع وثلاثين. ثُمَّ قلده المطيع قضاء الشرقية مضافاً إِلَى مدينة المنصور فِي رجب سنة خمس وثلاثين فصار عَلَى قضاء الجانب الشرقي بأسره، ثُمَّ فِي شهر ربيع الآخر سنة ست وثلاثين جمع قضاء بغداد لأبي السائب، وقلَّد أبا الحسن قضاء مصر وأعمالها والرملة وبعض الشأم.
قال: وَكَانَ عض الدولة كثير الغض من أهل بغداد والازدراء لأهلها حَتَّى قال: مَا وقعت عيني فِي هذا البلد عَلَى أحد يستحق اسم الفضل أَوْ أن يُسمَّى برجل غير نفسين - فلمّا تأمَّلت وجدتهما ليسا من أهل بغداد - : أحدهما أبو الحسن ابن أمّ شَيبان ومحمد بن عمر العلوي، وأصلهما من الكوفة.
قال أبو الفتح ابن أبي الفوارس: مات أبو الحسن فجأة فِي جمادى الأولى سنة تسع وستين وثلاثمائة. وَكَانَ نبيلاً سرياً فاضلاً وَلَمْ يُرَ فِي معناه مثله فِي الصدق.
محمد بن عبَّاد بن مُكْنِف أقامه كَيْدَر أمير مصر يحكم بَيْنَ الناس لما عزل عيسى بن المُنْكَدِر وحُمِل إِلَى العراق، فأقامت مصر بغير قاض من ذي القعدة سنة أربع وعشرين ومائتين إِلَى أن قدم المأمون إِلَى مصر فِي أول سنة سبع عشرة، فأمر يحيى بن أكثم بالقضاء فِي المسجد الجامع، فجلس يوم السبت لإحدى عشرة ليلة خلت من المحرم إِلَى أن رحل المأمون وقرر هارون بن عبد الله فِي القضاء.
وكان محمد بن عباد كُوفيّاً، يجلس للمظالم ويقضي بَيْنَ الناس عند دار أبي عَون، وَكَانَ لَهُ صاحب مسائل، ويحضر عنده الوكلاء، فلمَّا وَلِيَ هارون فسخ كثيراً من أحكامه.
محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام بن يوسف أبو البقاء السبكي بهاء الدين مشهور بكنيته.
ولد فِي ذي الحجة سنة سبع وسبعمائة، واشتغل بدمشق والقاهرة كثيراً، ومهر وبرع، وتفقه على عَلَى القطب السنباطي، والمجد الزنكلزني، وعلاء الدين القونوي، والزين الكَتْنَانِيّ وأخذ النحو عن أبي حَيَّان ولازمه حَتَّى كَانَ والده يغضب منه ينهاه عن الاشتغال فِيهِ، وبلغ بِهِ ذَلِكَ إلى أن وجد بيده نسخة من سيبويه بخط ابن خروف فانتزعها من يده وقطّعها بالسكّين، ومع ذلك ففاق أبو البقاء أقرانه فِي النحو. وسمع الحديث عَلَى الحجار، والواني، وغيرهما وناب عن قريبه الشيخ تقي الدين السبكي فِي الحكم.
ولما خرج إِلَى قضاء دمشق لَمْ يخرج معه من أقاربه غيره.
قال الصَّفَدي: لَمْ يوافق عَلَى مباشرة النيابة حَتَّى سأله قريبه مراراً وتحمل عَلَيْهِ برفقته القضاة الثلاثة فسار سيرة جميلة، ورتبه تنكز مُصدّرا بالجامع فشغل الناس وأفتى.
ثُمَّ ولي قضاء بدمشق استقلالاً عوضاً عن قريبه تاج الدين ثُمَّ صرف عن قريب ودخل القاهرة فولي وكالة بيت المال وناب فِي الحكم عن عز الدين ابن جماعة. ثُمَّ ولي قضاء العسكر بعد موت تاج الدين المناوي، وولي قضاء القضاة لما استعفى عز الدين ابن جماعة.
وتوجه إِلَى مكة وَكَانَ الَّذِي اعتنى بِهِ عند يلبغا دواداره وطشتمر، وذلك فِي ثالث عشري جمادى الآخرة سنة ست وستين وسبعمائة.
قال الصَّفَدي: سألته أن يكتب لي شيئاً من نَظْمه فقال:

أَأَعرِضُ أشعاري عليم وإنّها ... لَمُخْتَلَّةُ الأوزانِ ناقصة المعنى
وأنت خلَيلُ الوقت وارِثُ علمِه ... إِلَيْكَ يشير الفضل أن مُشْكِلٌ عَنّا
وإن قريضي بَيْنَ أزهار رَوضِكم ... أخو البقلة الحَمْقاء فِي الروضة الغنّا
قال: وباشر القضاء أحسن مباشرة، وتباين هو وقرينه بهاء الدين ابن تقي الدين، فضار كل منهما بذم الآخر. وَكَانَ مهيباً وقوراً إِلاَّ أنه كَانَ مَسِيكاً قليلَ الإِفضال عَلَى الطلبة، حَتَّى يقال غن أعظم مَا كَانَ يعطى لمن يبالغ فِي الإِحسانِ إِلَيْهِ أربعين درهماً.
وقرأت بخط صاحبنا الشيخ جمال الدين عبد الله بن أحمد البشبيشي: حصل بَيْنَ أبي البقاء السبكي ورفيقه برهان الدين الإخنائي المالكي منافسة اقتضت كلام كل منهما فِي الآخر، ودام ذلك بينهما، حَتَّى اتفق أن شخصاً من طلبة الشافعية كَانَ يطالع فِي تفسير الزمخشري مما عدل فِيهِ عن الصواب وأساء فِيهِ الأدب عَلَى مقام النبوة، فكان ذَلِكَ الطالب يقرأ فِي الكراس وهو يمشي، فسمعه بعض اليهود وَكَانَ بينهما وحشة، فقال لبعض من حضر: اسمعوا مَا يقول هَذَا واضبطوا، وتوجه إِلَى البرهان الإِخنائي فطلبه من عنده فأحضر فادُّعِي عَلَيْهِ بِمَا فَاة بِهِ فأنكر، فأقيمت عَلَيْهِ البينة فاعتقله.
فبلغ ذَلِكَ بهاء الدين السبكي فخشي من بادرة الإِخنائي، فتوجَّه إِلَى أبي البقاء فاستنهضه فِي خلاص الطالب، فقال لَهُ أبو البقاء: ينبغي للطالب أن يثبت أن بينه وبين مَن شهد عَلَيْهِ عداوة، فتحيل البَهَاءُ فِي ذَلِكَ إِلَى أن أقام البينة عند أبي البقاء بالعداوة، فأشهد عَلَى نفسه بثبوت العداوة جماعة منهم الشيخ جمال الدين الإِسناوي، وأرسل إِلَى الإِخنائي يعرفه بذلك، فأجابه غداً أشاور السلطان وأضرب عنقه.
فخشي البهاء من بادرته، فاستشار أبا البقاء فِي ذَلِكَ فقال: الَّذِي أراه أن تتوجه أنت إِلَيْهِ وتأخذه بالرغبة والرهبة، وتوسع الحيلة إِلَى أن يخلص هَذَا الطالب، وإلا فالرجل جَسور وَقَدْ يحمله ذَلِكَ عَلَى أن يقتل الرجل وينكر أن يكون علم بالعداوة، فإن رجع وإلا فأعلمه أني حلفت أنه متى سفك دمه لأُقِيدَنَّه بِهِ لكونه يقتل مسلماً بغير حق.
فتوجه إِلَيْهِ الشيخ بهاء الدين وَكَانَ عارفاً بالأمور، وهو يلح، فلما رأى لجاجه ذكر لَهُ مَا قال أبو البقاء وعرفه أنه أحد من شهد عَلَيْهِ بثبوت العداوة وكذلك الجمال الإِسنوي، وأنه متى استمر على لجاجه راسل السلطان بحقيقة الحال، فتحير الإِخنائي وخضع وقال: فما الرأي؟ قال: الرأي إطلاقه، فأذعن وأمَر بإطلاقه.
فتوجه الرجل إِلَى أبي البقاء فتشكر لَهُ، فأمر لَهُ بمبلغ وأرسله إِلَى الشيخ بهاء الدين، وشرط عليه أن لا ينظر بعد ذَلِكَ فِي كلام الزمخشري، وتأكدت الوحشة بَيْنَ القاضيين حَتَّى قال مرة في بحث جرى بينهما: قال مالك، فقال أبو البقاء: البحث مع مالك! فعظم ذَلِكَ عَلَى الإِخنائي، وقال: لو غيرك قالها، وبلغ كبار المالكية ذَلِكَ فأعظموه وأطلقوا ألسنتهم فِي أبي البقاء.
واتفق أن أبا البقاء كَانَ يتصلب فِي الأحكام ولا يحابي أحداً من كبار الدولة فيما يتصل بِهِ من الأحكام، فاتفق أن الأشرف أراده أن يبتاع بيت كتبغا وهو وقف، فالتمس من أبي البقاء إعمال الحيلة فِي تبطيل وقفيتها فلم يجب لذلك، فعاوده فِي ذَلِكَ فأصر، فمضى عَلَى ذَلِكَ مدة. فاتفق أنه خرج من الموكب، ودخل السلطان داخل القصر وأمر بدره فلما رآه قال لَهُ: يَا قاضي، لأي معنى أسألك فِي شيء لا مشقة عَلَيْكَ فِيهِ فلا تفعل! فأجابه بغلظة: اسمع يَا مولانا السلطان، إن كنت مَا تعرفني فأنا أعرفك نفسي، والله الَّذِي لا إله إِلاَّ هو لو علمت أحداً يصلح القضاء فِي هَذَا العصر غيري مَا توليت وخرج مغضباً بغير سلام، فوجد من كَانَ فِي نفسه من أبي البقاء من أكابر الدولة الطريق إِلَى الوقيعة فِيهِ، فتكلموا مع السلطان فِي عزله، وتولية برهان الدين خطيب القدس، وبالغ بعضهم فِي وصفه.

فلما جاء الموكب الآخر خرج القضاة فجلسوا فِي الجامع عَلَى عادتهم إذ ذَاكَ، فدخل رجل فأطبق دواة القاضي أبي البقاء، وقال لَهُ: السلطان يأمرك أن تلوم بيتك، فصُرف عن القضاء فِي خامس جمادى الآخرة سنة ثلاث وسبعين ووقع الترسيم عَلَى أمنائه وحاشيته.
واستقر البرهان ابن جماعة فِي الولاية، وخلع عَلَيْهِ، ونزل القاهرة فِي موكب عظيم إِلَى الغاية ما عهد نظيره بعد أن شرط شروطاً كثيرة أجيب إِلَيْهَا، فلما كَانَ فِي العشر الأخير من رجب أمر بإخراج أبي البقاء إِلَى الشام، فوصل إِلَى بلبيس ثُمَّ رفع إِلَيْهِ أن فِي جهته مالاً من المودع، فكشف عن ذَلِكَ فوجد الخلل من أمين الحكم، وَكَانَ يسمى إسحاق وَكَانَ قاصراً فِي الحساب، فدخل عَلَيْهِ الدخيل فقيل لأبي البقاء مَا جرى، فاستدعى بِهِ وسأله عن ذَلِكَ. وقال لَهُ: غررتني بتعويج رقبتك وسَدْل كمِّك وتشبهك بالكتّاب وأنت لا تحسن شيئاً! ثُمَّ قال لَهُ: أخبِرْني، هل فِي جهتي من هَذَا المال شيء؟ قال: لا والله. قال: فما الحيلة؟ قال: يتفضل مولانا ويساعدني عَلَى الغرامة. فقال: أنا أغرم مَا تضيعه! إن هَذَا لا يكون وسعي القاضي فِي براءة نفسه، وساعده جماعة من الأكابر عَلَى ذَلِكَ لِمَا ظهر لهم من براءته، وظهرت إمارات التهمة عَلَى إسحاق من أنه صار يظهر الثروة الزائدة بعد الإملاق.
ثم اتفق موت بهاء الدين السبكي فاستقر أبو البقاء فِي تدريس المنصورية، والمدرسة المجاورة للشافعي، ثُمَّ شغر قضاء الشام ففوض إِلَيْهِ فِي المحرم سنة خمس وسبعين، فتوجه إِلَى الشام وباشر مباشرة فاضلة إِلَى أن مات فِي ثالث عشر ربيع الآخر سنة سبع وسبعين وسبعمائة.
محمد بن عبد الحاكم بن وهيب بن عبد الرحمن المَلِيحي يكنى أبا الفضل إسماعيلي من المائة السادسة.
قرأت بخط الحافظ قطب الدين الحلبي فِي تاريخ مصر: أنه ولي قضاءها بعد علي بن يوسف بن الكمال النابلسي فِي سنة سبع وثمانين وأربعمائة.
وذكر ابن ميسر فِي تاريخه: أن القاضي عند وفاة المستنصر - وهي سنة سبع وثمانين - كَانَ أبو الفضل ابن عبد الحاكم ويلقب فخر القضاة.
وذكر فِي حوادث سنة خمس وتسعين وأربعمائة فِي قضاة المستعلي: ابن الكحال ثُمَّ أعيد ابن عبد الحاكم ثُمَّ ابن رَجَا ثُمَّ ذَكا، ومات المستعلي وهو قاضٍ. وكأنّ هؤلاء كانوا يتناوبون المنصب وَقَدْ كَانَ بدر الجمالي أمير الجيوش يعظم هَذَا المَلِيجي ويزوره فِي بيته. وَكَانَتْ ولايته القضاء من قبل الأفضل ابن أمير الجيوش.
محمد بن عبد الدائِم بن سلامة ناصر الدين الشاذلي ابن بنت المَيْلَق وربما قبل لَهُ الملقي من المائة الثامنة ولد سنة إحدى وثلاثين وسبعمائة.
وسمع من جماعة من أصحاب النجيب، وحدث ببعض مسموعاته فِي حال ولايته القضاء.
ونشأ عَلَى طريق الوعاظ، واشتغل بالأدب فمهر ونظم الشعر الحسن، فكان يقص ببعض المجامع، ويجمع لَهُ مَا ينفقه عَلَى عياله، فاشتهر بَيْنَ العوام والجند، وَكَانَ حسن التأَتِّي، بهج الهيئة، جميل الشكل والقامة.
وولي الخطابة بالمدرسة الناصرية الحسنية بالرميلة، وحَسُن اعتقاد الناس فِيهِ، فصار يتعفف عن الَّذِي يحصل من الجباية فِي مجالس الوعظ ويفرق ذَلِكَ عَلَى الفقراء، فعظم قدره، واشتهر صيته، فاتفق أن الظاهر تغير عَلَى القاضي بدر الدين ابن أبي البقاء فالتمس من حاشيته من يصلح للقضاء، فذكروا لَهُ جماعة منهم الشيخ ناصر الدين المذكور. وَكَانَ حينئذ كثير التقشف ولبس الصوف الخشن والثياب البيض والطيلسان اللطيف، فاستدعاه الظاهر وفوض القضاء وخلع عَلَيْهِ ونزل معه جمع كثير من الأمراء والأعيان وسكن بحارة برجوان.
وساق القضاء بحرمة ومهابة، ولبس الملابس الفاخرة، والفُرش الهائلة، والخيل المسومة، حَتَّى صار فِي إصطبله نحو العشرين رأساً من الخيل والغزلان والنعام، وتشبه بأهل الدولة فِي استخدام البابا والفراش وغيرهما حَتَّى الشربدار، وأفرط فِي التقعير فِي أقواله وأفعاله.
وادعى أنه شرح مختصر المزني، فكان يدفع كراساً بخطه لمن يقرأ عَلَيْهِ فيضحك كل من يحضر من آحاد الطلبة، وجمع من الخلو من معرفة الأحكام والفقه جملة، إِلَى التعاظم المفرط والدعاوى الزائدة، والتف عَلَيْهِ قوم لأخلاق لهم فصاروا يحسنون أقواله وأفعاله.

ويقال لَهُ: إنه لَنَا حضر عند الملك الظاهر كَانَ عَلَيْهِ طيلسان صوف يساوي ديناراً، فلما تولى وحر الموكب كَانَ عَلَيْهِ ثياب تساوي ثلاثين ديناراً، فقال الظاهر لمن كَانَ سعى لَهُ عنده وأشار بطلب الطيلسان الصوف منه للتبرك ففعل: انظر الرجل الصالح كَيْفَ أمالته الدنيا بسرعة!.
ويحكى عن ابن ميلق أن رجلاً ولدت امرأته وهو مُقِلٌّ، فجاء إِلَيْهِ يلتمس منه شيئاً يعمل بِهِ لَهَا عصيدة فلم يسمح لَهُ بشيء، فخرج الرجل فرأى بَطْرِيك النصارى وَكَانَ يعرفه فسلم عَلَيْهِ، وشكى إِلَيْهِ ضرورته، فقال: تعال معي عَلَى الفتوح فجلس عنده، فجاءه عسل ودقيق وشمع فدفعه لَهُ كله فحمله، وجاء بالحمال إِلَى باب القاضي فقال لَهُ: ردَدْتَنِي خائباً وأنت قاضي المسلمين! ففتح الله لي من كبير النصارى. وأراد أن يوبخه بذلك فما تأثر لذلك، فاستمر بقية أيام الظاهر الأولى.
ثُمَّ غلب يَلْبُغا النَّاصِرِيّ عَلَى المملكة فلم يغيره، ثُمَّ غلب منطاش يلبغا عَلَى تدبير المملكة فصرفه فِي سلخ ذي الحجة سنة إحدى وتسعين، وقرر المناوي. فلما عاد الملك الظاهر من الكرك فِي صفر سنة اثنتين وتسعين، قرر المناوي مع أمين الحكم بمصر بدر الدين البيدفي أن يرفع إِلَى السلطان قصة تتضمن أن ابن الميلق فِي حال ولايته أذن فِي اقتراض مال من المودع يكمل بِهِ الحمل لحرمين، فأحضره الظاهر فأهين بإيقافه مع خصمه، وادعى عَلَيْهِ فلم يثبت لذلك، واندهش حَتَّى خرّ مغشياً عَلَيْهِ، فذكر لي بعض أصدقائه عنه أنه كَانَ يقول: ذكرت فِي تِلْكَ الحالة الوقوف بَيْنَ يدي الله تعالى حَيْثُ لا ينفع مَال ولا بنون. ومن لا يحبه يقول إنه حصل لَهُ قعر فسقط فِي يده.
وفي الجملة صار السلطان يهزأ بِهِ ويضحك منه، وَلَمْ ينفعل لَهُ بل قسى عَلَيْهِ، فسأله عما ادُّعِي بِهِ عَلَيْكَ فأجاب بجواب غير سديد، فسأل من حضر فعرف أن المال لازم لَهُ، فأخرجه موكلاً بِهِ فباع بستاناً لَهُ ووزن المال، ولزم بيته مقهوراً إِلَى أن مات غمّاً فِي سنة سبع وتسعين وسبعمائة.
محمد بن عبد الرحمن بن عمر كَانَ ينسب إِلَى أبي دُلَف العِجْلي القاضي جلال الدين القَزْوِينيّ.
ولد فِي سنة ست وستين وستمائة بالموصل، وسكن الروم مع والده، وولي بِهَا قضاء ناحيةٍ وَلَهُ نحو من عشرين سنة، وقدم صحبة أخيه الشيخ إمام الدين وهو الأكبر، وتصدى للإِشغال، وأخذ فِي تِلْكَ الأيام عن شمس الدين الأيكي، وناب عن أخيه إمام الدين لما ولي القضاء، ثُمَّ ولاه السلطان بعده ووصله بمال كثير.
وسمع من العز أحمد بن إبراهيم الفاروثي وغيره. وولي الخطابة بالجامع الأموي، ثُمَّ ولي القضاء وجفل مع من جفل فِي وقعة قازان، فسكن الديار المصرية إِلَى أن ولي القضاء بعد عَمَى القاضي بدر الدين ابن جماعة سنة سبع وعشرين وسبعمائة.
وصنف (تلخيص المفتاح) فتلقاه العلماء فِي الأقطار بالقَبول وعَنَوْا بِهِ وشرحوه، وبرع فِي الفقه والنحو والتصريف والمعاني والبيان والأصول، وَلَهُ كتاب (الإيضاح)، وَكَانَ جواداً مفضالاً كثير الإحسان، متأنقاً فِي المآكل والملابس والمساكن، وبلغ من العز والجاه وتعظيم السلطان لَهُ مَا لا مزيد منه.
وحج مع السلطان فِي سنة اثنتين وثلاثين فوصله بجملة، وَكَانَ إِذَا جلس فِي دار العدل لَمْ يكن لأحد معه كلام، ويرمّل على يد السلطان فِي دار العدل وتَخرج القصص الكثيرة، فترجع بشفاعته مقضية.
وَكَانَ ملجأ للسائلين فِي ذَلِكَ، وحصل لهم بوجوده رفق كبير إِلَى الغاية.
هذا مَا كَانَ فِيهِ من جميل المحاضرة، وحسن الملاقاة، وفصاحة اللسان، والجمال وحسن الصورة، وحلاوة العبارة، وحدة الذهن، والإنصاف فِي البحث والتأني، والذكاء المفرط، والميل الكبير إِلَى الأدب، وحسن الخَطّ.
قال الصفدي: كَانَ من كَمَلة الزمان وأفراد العصر فِي مجموعه.

ويحمى أن فقيهاً من جيرانه كَانَ يؤم ببعض المساجد نيابة عن صاحب ذَلِكَ المسجد بستين درهماً فِي كل شهر، وأنه أقام سنة وصاحب المسجد لا يسمع لَهُ بشيء، فَقَرُبَ عيد الفطر واحتاج إِلَى توسعةٍ، فطالب ناظر المسجد فَسَوَّفَ بِهِ، فتوسل إِلَى القاضي جلال الدين بعض جيرانه أن يرسل إِلَى الناظر يأمره بصرف معلومه، فأخذه التاجر وتوجه بِهِ إِلَى منزل القاضي فصلى معه المغرب، وذلك فِي أواخر شهر رمضان وهو بمنزله بجزيرة الفيل، فمدّ السماط فكان شيئاً فاخراً جدّاً، وَلَمْ يحجب عنه أحد.
ثُمَّ صلى معه العشاء والتراويح، ثُمَّ أتى بالحلوى وهي أنواع كثيرة بديعة، فِيهَا الكُنافة متبّلة بدُهن الفستق والقطر النبات، ثُمَّ أمره بالنوم عنده فعند السحر أعيدت تِلْكَ المآكل كلها وَمَا هو فوقها، ففي أثناء السحور سأل القاضي التاجر عن الرجل، فذكر لَهُ ضرورته فالتفت إِلَيْهِ وقال: يَا فقيه نحن ناس غرباء من هَذِهِ البلدة، وكلامنا ثقيل عليهم، وقطع الكلام فخجل الرجل. فلما كانت صلاة الصبح صلى معه وخرج فناول التاجر ورقة فقال: أعطيها لذلك الفقيه فوجدها خفيفة، ففتحها فإذا هي من ذهب، فأخذه الرجل وتوجه فوسع عَلَى عياله، فما انتصف النهار حتى جاء الناظر إِلَى التاجر يعاتبه عَلَى شكواه للقاضي فقال: معاذ الله! لَمْ أطلب منه إِلاَّ الشفاعة عندك. فصرف لَهُ مَا استحق لذلك النائب فِي الحال.
ولم يزل أمر القاضي جلال الدين مستقيماً حَتَّى نشأ ولده عبد الله، فإنه بسط يده فِي نواب البلاد والتمس منهم الهدايا، وكثرت القالة، وعظمت الشناعة، وانتشر الأمر حَتَّى بلغ السلطان وهو لا يقبل فِي الجلال ملاماً، ثُمَّ غلظ الأمر فاقتنى المماليك الحسان الخاصكية، واستخدم أوجاقية وركابين، وارتبط خيولاً مسومة وسابق عَلَيْهَا، ثُمَّ جاهر بسماع آلات الملاهي مع أنه ساكن فِي دار الحديث الكاملية، فرفع حاله إِلَى السلطان فأمر بإخراجه إِلَى الشام. فشق عَلَى أبيه فصبر إلى أن مضت سنة فتشفع ببعض الأمراء فأمر بعوده وعدل عن تِلْكَ السيرة إِلَى تعمير دار سكنه، فشرع فِيهَا وهي بطرف جزيرة الفيل، ففرض عَلَى نواب البر من القضاة بحمل الأخشاب والرخام وغير ذَلِكَ، وأفرط فِي ذَلِكَ حَتَّى كثر من ينكر عَلَيْهِ من الأمراء فضلاً من دونهم.
وكان عبد الله المذكور قليل المداراة، كثير المجافاة للناس، فتألبوا عَلَيْهِ ورتبوا فِيهِ قصصاً إِلَى السلطان كثيرة، بعضها منظوم، فأمر الناصر بعض الخاصكية يعرف القاضي أنه إِذَا حضر الموكب يستعفي من قضاء مصر، فإنه يستحيي أن يبدأه بالعزل ولا بد من ذَلِكَ ففعل فأجابه إِلَى مَا طلب، وولاه قاضياً عَلَى الشام عوضاً عن الَّذِي مات، وأمره بالمسير عَلَى خيل البريد، فاستشفع بأن يقيم أياماً قلائل يتجهز فِيهَا فأجابه إِلَى ذَلِكَ.
واستحضر مباشري الأوقاف فحاسبهم عَلَى مَا صار إِلَيْهِ وإلى أولاده من الأموال، فكان شيئاً كثيراً جدّاً، بحيث أنه ثبت فِي جهتهم للأشرفية المجاورة للمشهد النفيسي نحو من مائتي ألف، فأخرج كتبه وَكَانَتْ فِي غاية من النفاسة فباعها ووفّى بِهَا مَا عَلَيْهِ.
وباع ولدُه عبدُ الله من الأمتعة شيئاً كثيراً، حَتَّى قيل إنه باع من الصيني خاصة بأربعين ألفاً، ومن الجواري نحو العشرين من عشرة آلاف فما دونها، ومن الجواهر واللؤلؤ والزركش مائة ألف. ويقال إن جميع مَا أبيع لهم كَانَ بنصف قيمته. وبعد ذَلِكَ كله أكروا ستين محارة خارجاً عن الأحمال من الزاد والماء. ومع ذَلِكَ شق عَلَى أكثر الناس مفارقة القاضي جلال الدين لما كانوا يرون منه من الإحسان بعلمه وجاهه وماله، وَلَمْ يكن جوده مقصوراً عَلَى طائفة، بل يكرم الطلبة والفقهاء والفقراء.
وكان صرفه فِي سنة ثمان وثلاثين وسبعمائة. وَكَانَ الناصر كثير الميل إِلَيْهِ حَتَّى أنه لما أراد الرحيل راسل السلطان أن يأذن لَهُ فِي توديعه فقال: لا أقدر أن أراه، فإنني متى رأيته وليته قضاء مصر. وذلك لكثرة ميله إِلَيْهِ ومحبته فِيهِ. وَلَمْ تطل مدته بدمشق بل أقام بِهَا إِلَى جمادى الآخرة سنة تسع وثلاثين وسبعمائة ومات.==

ج 2. رفع الإصر عن قضاة مصر لابن حجر العسقلاني   

= محمد بن عبد الله بن الحسن بن عبد الله بن علي بن صَدَقَة بن حَفْص الصَّفْرَاوِيّ شرف الدين أبو المكارم ابن القاضي رشيد الدين أبي الحسن ابن أبي الحسن ابن أبي المجد ابن عين الدولة الصفراوي الإِسكندراني الأصل، نزيل مصر، من المائة السابعة.

ولد فِي مستهل جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، وكتب لابن درباس، وناب عنه فِي الحكم فِي سنة أربع وثمانين وخمسمائة وهو من أهل بيت علم وقضاء ومال، وَكَانَ أول أمره مالكي المذهب، فاتفق أن خطيب الجامع الأزهر عزل، فأمر صدر الدين ابن دِرْبَاس أبا المكارم أن يخطب وَكَانَ يوقع عنه فأجاد وأبلغ وأدى الموعظة أحسن تأدية، ولما صلى جهر بالبسملة، فلما فرغ شكره القاضي وأبلغ فِي الثناء عَلَيْهِ. فقال لَهُ بعض من حضر: جهرت بالبسملة وخالفت مذهبك، فقال:
فراقٌ ومن فارقتُ غير مُذمَّم ... وأمِّمْ ومن يممت خير ميممِ
فاستحسن ذَلِكَ من حضر، واستمر شافعياً، وَكَانَ يقول: حَكَم من أقاربي سبعة عشر نفساً، منهم ثمانية بالإِسكندرية، وسائرهم بالفيوم والبحيرة.
ويقال إن دِرْباس لما استنابه توقف، وَكَانَ جمال الدولة أبو طالب صهر القاضي حاضراً فَأسَرَّ إليه لا تستعف، فإنك بعد ثلاثين سنة قاضي القضاة، فكان كذلك، ثُمَّ ناب بعد ذَلِكَ لمن ولي صدر الدين إِلَى أن استقل بالقضاء فِي سنة ثلاث عشرة وستمائة واستمر إِلَى أن مات فِي ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة، فكانت مدة حكمه نيابة واستقلالاً خمساً وخمسين سنة.
ولما تحول شافعياً تفقه عَلَى أبي إسحاق العراقي، وضياء الدين ابن دِرْبَاس، وأخذ أيضاً عن أخيه أبي القاسم، وروى عن والده، والسِّلَفِيّ، وأبي الطاهر ابن عوف، والصدر ابن دِرْبَاس، وأبي الطاهر ابن بُنان، واليسع بن عيسى بن حزم، ومحمد بن يوسف القرطبي. وأجاز لَهُ أبو الفرج ابن الجوزي وجماعة.
وذكره الحافظ المنذري وقال: علقتُ عنه شيئاً، وَكَانَ حسن الخط، لَهُ نظم ونثر ويحفظ من الشعر شيئاً كثيراً، وسمعته يقول: ولدت فِي جمادى الآخرة سنة إحدى وخمسين وخمسمائة، ودخلت مصر فِي سنة ثلاث وسبعين وخمسمائة وكتبت فِي الحكم عند صدر الدين ابن دِرْبَاس سنة أربع وثمانين، ثُمَّ ولي قضاء القاهرة والوجه البحري فِي سنة ثلاث عشرة وستمائة ثُمَّ ضم إِلَيْهِ مصر والوجه القبلي فِي سنة سبع عشرة وستمائة وأضيفت إِلَيْهِ من بلاد الشام غزة وغيرها، وَكَانَ عارفاً بالأحكام مطلعاً عَلَى غوامضها.
قرأت فِي تاريخ مصر لشيخ شيوخنا القطب: كَانَ هَذَا القاضي جواداً زاهداً، وَلَمْ تجب عَلَيْهِ زكاة قط، وَكَانَتْ وفاة والد أبي المكارم فِي سنة سبع وسبعين وخمسمائة وَلَهُ سماع من السِّلفي. سمع منه ولده ومن نوادره أنه ناظر فقيهاً فتبين لَهُ أن دعواه أكثر من علمه فأنشد:
وادعى أنه خبير بصير ... وهو فِي العمى ضائع العكّاز
ومنها أنه تلقى الملك الكامل وَقَدْ قدم من سفر وصحبته الملك الناصر داود ابن المعظم فقال لَهُ الكامل لمّا سلم عَلَيْهِ: سلم عَلَى الملك الناصر، فسلم عَلَيْهِ وقال:
وكثرة النور تغشى ناظر المُقَلِ
فأعجب الكامل سرعة استحضاره. وكتب عَلَى نسخته من المقامات للحريري بط بعض الأكابر: وصار الحريري لَمَّا انتسبتْ إِلَيْهِ أجل من المطرز المذهب.
واتفق أن فخر الدين عثمان لَهُ بنت تزوجت بالريف ثعلب فمات فورثت منه. ثُمَّ تزوجت بالأمير شجاع الدين ابن علكان فأقر لَهَا انم جميع دوره ملك لَهَا، وكتب لَهَا بذلك مكتوباً، فلما وقف ابن عين الدولة عَلَيْهِ قال: كأنها استطابت الميتة فتعجلت الميراث، وكتب فِي آخر الإِسجال:
وكذا الحلاوة حين طاب مدامها ... جُعلت مؤخرة عن الألوانِ
وثبت عنده لشخص عَلَى آخر دين فطلب اعتقاله، فقال: أنا أحتال لَهُ برهن فأنشده القاضي:
الجودُ طبعي ولكن لَيْسَ لي مال ... وكيف يصنع من بالرهن يحتالُ

كتب لَهُ حسن بن محمود مدة، وَكَانَ فائقاً بذلك فاستقل بِهَا، ثُمَّ ولي وكالة بيت المال، فكتب لَهُ المخلص عبد الرحمن بن عبد الملك، وَكَانَ عارفاً بالفقه قادراً عَلَى النظم والنثر. ثُمَّ كتب لَهُ عبد الكريم بن علي العسقلاني، وَكَانَ عفيفاً جواداً، وَلَمْ يكن لَهُ سوى بغلة واحدة، فإذا كَانَ الربيع استأجر بغلة فِي كل يوم بثلاثة دراهم.
وقال علي بن سعيد المغربي فِي تاريخه: كَانَ أبو المكارم من أعجب الحُكام لأنه كَانَ من أهل الزهد والورع مع النوادر واللطائف، فكان بالأدباء أشبه منه بالقضاة. قال: وَقَدْ أجمع الملأ عَلَى أنه مع طول ولايته لَمْ يتهمه أحد بدرهم واحد أخذه عَلَى الحكم وَكَانَ السلطان الكامل يستطيب مجالسته ويستكثر منها. وسأله مرة عن سنّه فارتجل يقول:
يَا سائلي عن قُوَى جسْمي وَمَا فعلتْ ... فِيهِ السنونَ ألا فاعلمه تَبْيينا
ثَاءُ الثلاثين أَحْسَسْتُ الفتورَ بِهَا ... فكيف حالي فِي ثاء الثمانينا
قال وأنشدني لنفسه:
سَلَّتْ عَلَيْكَ سيوفَهَا الأَجْفَانُ ... وتمايلتْ بك للهوى الأغصانُ
وتعطَّفَتْ بك للمعاطف رِقَّةٌ ... أمستْ تُقِرُّ لَهَا الصَّبا والبَانُ
الله من تِلْكَ الجفونِ وسِحْرِها ... يَا نائماً وغرامُه يَقْظَانُ
ومن نوادره أن خصمين تقدما إِلَيْهِ، فقال المدعي: قَدِم هذا من سفَر فقدمت إِلَيْهِ كذا وكذا زبدية من طعام. ثُمَّ قدمت من سفر فلم يقدم لي شيئاً. فقال: يَا وَفِي الدولة، اسمع مَا يقول كريم الدولة، فتبسم من حضر.
ومن نوادره أن القاضي شمس الدينِ ابن خَلِّكان استشفع عنده أن يوليه نيابة الحكم فامتنع، وقال لا خَلَّ كَانَ ولا عَسَلَ صار. فاتفق أن البدر السِّنْجَارِيّ لما قدم إِلَى القاهرة وخشي أبو المكارم أن ينضم ابن خَلِّكان عن نادرته فقال: لا شرقية ولا غربية. ثُمَّ قدم السنجاري فكان مَا ظنه أبو المكارم.
ولما صرف العماد ابن السكري أشار صدر الدين ابن شيخ الشيوخ عَلَى الكامل أن يقسم العمل شطرين، فولي ابن عين الدولة القاهرة والوجه البحري. وابن الخراط مصر والوجه القبلي، فلما صرف ابن الخراط فِي قضية ابن مرزوق، أضيف عمله إِلَى ابن عيد الدولة، فاستكمل القضاء بالديار المصرية، وذلك فِي سنة سبع عشرة وستمائة، وجمع لَهُ أبو الغيث منهال ابن عوز القضاة محمد بن منصور ابن منهال (سيرة) فِي مجلد وقال فِيهَا: كَانَ عالماً بأمور الشريعة مطلعاً عَلَى غوامضها بصيراً بالأحكام عارفاً بالسياسة حافظاً للقرآن ذاكراً للعلوم مستحضراً لأيام العرب ملازماً للصيام كثير الصدقة.
أسند الحديث عن السِّلَفي، وابن عوف. وَكَانَ يعرف الأنساب وأين العرب من أبدع الناس خَطّاً وأصحهم ضبطاً، وَكَانَ محاضره يستفيد منه أكثر مما يفيد، مع الورع وكثرة الذكر فِي الخلوة، وموالاة الصيام والصدقة، لا يدخر شيئاً، ولا يعتني بلباس ولا غيره، لَهُ سجادة خضراء ومشط ومسبحة ومقراض وسواك، وبِذْلَةٌ واحدة إِذَا اتسخت غسلها ليلاً.
وَقَدْ أضيف إِلَيْهِ الحكم فِي عدة بلاد من الشام منها: غزة والخليل وبانياس وطَبَرية ودمياط وقَطيا ويَنبع. كل ذَلِكَ بعد الثلاثين، وَلَمْ يزل عَلَى حاله إِلَى سنة وفاته، فإن الملك الصالح أفرد عنه مصر والوجه البحري وولاها للبدر السِّنْجارِيّ وذلك فِي سنة سبع وثلاثين وستمائة، واقتصر فِيهِ عَلَى القاهرة إِلَى أن مات فِي تاسع ذي القعدة سنة تسع وثلاثين وستمائة.
محمد بن عبد الله بن سعد بن أبي بكر بن سعد المَقْدِسي القاضي شمس الدين ابن الدَّيْري الحنفي أبو عبد الله.
ولد سنة خمس وأربعين وسبعمائة، وقال مرة: سنة أربع وأخرى سنة ثلاث وأخرى سنة اثنتين. وَكَانَ يذكر أنه اختلف عَلَيْهِ قول أبيه وأمه، وَكَانَ أبوه تاجراً وحبّب إِلَيْهِ هو الاشتغال، فقرأ ببلده، ثُمَّ رحل إِلَى الشام وَلَمْ يكن لَهُ التفات إِلَى الحديث لا رواية ولا دراية.
وحدث بالبخاري عن تاج الدين المقدسي بسماعه من الملك الأوحد، وست الوزراء، فغلطوه وقالوا: إنما سمعه من وَزِيرَةَ والحَجّار، ووجد سماعه للثلاثيات وبعض الكتاب فقط، ومهر فِي مذهبه واشتهر بقوة الجَنَان وطَلاَقة اللسان والقيام فِي الحق.

ودخل القاهرة مراراً، وَكَانَ حسن القامة، مهاب الخِلقة، فلما مات ناصر الدين محمد بن العديم وكان أمر التَّفَهْنِيّ أن يتم، طلبه المؤيد فحضر من القدس، وولي القضاء فِي سنة تسع وثمانمائة، ثُمَّ صرف فِي ذي القعدة سنة اثنتين وعشرين وثمانمائة فولي التَّفَهْنِيّ، واستقر فِي مشيخه المؤيدية إِلَى أن مات ببيت المقدس فِي ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وثمانمائة، وَكَانَ دَخَله زائراً لأهله رحمه الله تعالى.
محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان بن إبراهيم بن مصطفى صدر الدين ابن التركماني ولد جمال الدين ابن علاء الدين.
ولي القضاء للحنفية استقلالاً هو وأبوه وجده، وَكَانَ مولده فِي رابع شهر رجب سنة ثلاث وأربعين وسبعمائة واشتغل ومهر وناب فِي الحكم عن والده، ونشأ نشأة حسنة، وولي القضاء بعد السراج الهندي فِي رابع عشر شهر رجب سنة ثلاث وسبعين وسبعمائة وَقَدْ أكمل الثلاثين، فلم تطل مدته.
وكان حسن الصورة والسمت، فصيحاً وقوراً مهيباً، ولما ولي عرف الناس أن شيوخ العجم حسدوه لما مات أبوه وعين للقضاء، فإنهم اجتمعوا وقالوا: لا نرضى بِهِ لأنه حَدَث السن قليل العلم والمعرفة بالشروط، فولي السراج الهندي، فلما مات واستقر هَذَا ظَهَر من سيرته خلاف مَا وصفوه، واغتبط الناس بِهِ وأحبوه وعدوه من حسنات الدهر، وَكَانَ ينظم الشعر أحياناً واتفق أنه أصابه رمد فقال:
أفِرُّ إِلَى الظلامِ بِكُلِّ جهْدِي ... كَأَنَّ النورَ يَطلُبُني بِدَينِ
وَمَا للِنّور من كَلَب ولكن ... أراه حقيقةً مطلوبَ عَيْنِي
ولما حضرته الوفاة أوصى أن يكتب عَلَى قبره:
إن الفقير الذي أمسى بحُفرته ... نزيل رب كثير العفو سَتَّارِ
يوصيك بالأهل والأولاد تحفظهم ... فهم عِيَال عَلَى معروفك السَّارِي
ورثاه شهاب الدين ابن العطار بقوله:
وفاتك صدر الدين قاضي قضاتنا ... قَد اغبر من زهر العلوم أَنيقُهُ
وقطّب بعد الضحك وجهاً وكيف لا ... يُقَطِّبُ والنعمان مات شقيقهُ
محمد بن عبد الله بن قاسم، يأتي فِي محمد بن قاسم.
محمد بن أبي سعد عبد الله بن محمد بن هبة الله بن علي بن المطهَّر ابن أبي عَصْرُون محيي الدين أبو حامد ابن أبي سعد الشافعي، من المائة السابعة.
كان موصلي الأصل، سكن دمشق، وولي قضاء الديار المصرية بعد صرف زين الدين علي بن يوسف الدمشقي فِي الخامس والعشرين من جمادى الأولى سنة إحدى وتسعين وخمسمائة، فِي سلطنة الملك العزيز عثمان ابن صلاح الدين، وصرف فِي سادس عشر المحرم سنة اثنتين وتسعين، وَكَانَتْ ولايته سنةً واحدةً، وأُمر بعد عزله بلزوم بيته فأغلق بابه وأقام فِيهِ ثُمَّ أذن لَهُ أن يخرج من مصر فتحول إِلَى دمشق، فأقام بِهَا إِلَى أن مات فِي شهر ربيع الأول سنة إحدى وستمائة.
وكان قَدْ سمع أباه، والسِّلفي وغيرهما، وحدث باليسير، وَكَانَ شجاعاً جواداً، وَكَانَ أبوه من أعيان الشافعية ومشاهيرهم، وَلَهُ تصانيف مشهورة، استوطن دمشق إِلَى أن مات فِيهَا.
محمد بن عبد الله بن محمد بن الخصيب بن الصقر بن حبيب الإصبهاني ولد سنة ثلاثمائة، وكتب الحديث، وَكَانَ ينوب فِي القضاء خلافة عن أبيه، واستقل بالقضاء بعد وفاة والده فِي النصف من المحرم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، فلما خُلع عَلَيْهِ وركب إِلَى الجامع يوم الجمعة ثارت بِهِ العامة وشغبوا عَلَيْهِ وحَصَبوه فصاح: مَا الَّذِي يُنْقَم عليَّ وَقَدْ عمرتُ الأحباس ووفَّرتُها وفُرّقت فِي مستحقيها! وَمَا يضبط أحد قط أنني ارتشيت أنا ولا أبي، فما ارتدعوا عنه، وراسل الأمير وهو يومئذ كافور الإِخشيدي فأنفذ إِلَيْهِ غلامه مقبل الخادم يسأله عن حاله فأظهر تجلداً، وباحث من حضر من العلماء فِي شيء من المسائل واستمر إِلَى صلاة العصر.
وَكَانَ ضَمِنَ لكافور عَلَى ولايته مصر وعملها والرَّمْية وطَبريَّة مالاً، فحلّ الأجل فطالبه الوزير جعفر وتهدّده فهلع وخار طبعه، فاعتلّ سبعة أيام ومات، وقيل إنه مات مسموماً سمّه خادم لَهُ خصِيّ.

قال ابن زولاق: وَكَانَ كاتباً حاسباً يعرف الأدب وأيام الناس، وكتب الحديث، وخدم كافور قديماً، وأكل معه وسامره وَكَانَ جريّاً عَلَى مَا يريد. وَكَانَ يمازح صالح بن نافع ممازحة قبيحة فِي الصفاع، فعمل فِيهِ بعض الشعراء عَلَى لسان شخص كَانَ ينقر نقوش الخواتيم بيده.
إني إِلَى القاضي أمتُّ بحُرمةٍ ... هي بيننا حق كفرض لازم
سِرٌّ لطيف فِي قَفاه وَفِي يدي ... هي آية بَهَرَتْ عقول العالَم
فَقَفَاه ينتقد الأَكُفّ بحسّه ... ويداي تَخْشَى فَضَّ نَقْشِ الخاتمِ
وَكَانَ ذَلِكَ فِي رمضان سنة سبع وأربعين، وَكَانَ جواداً وَقَدْ مدحه أبو الطيب المتنبي بالقصيدة التي أولها:
أَفَاضِل الناس أغراضٌ لِذَا الزَّمنِ
يقول فِيهَا:
قاض إِذَا التبس الأمرانِ عَنَّ لَهُ ... رأيٌ يُفَرِّقُ بَيْنَ الماء واللَّبَنِ
وذكر ابن زولاق فِي ترجمة أبيه عبد الله بن محمد أنه كَانَ يباشر معه القضاء، وأنه كَانَ كثير التزوير، وأنه زوَّر عهداً عن المطيع لأبيه، وشاع عن الخَصِيبيّ أنه قال: العمل لولدي وإنما أنا معين لَهُ.
وكان الخَصِيبيّ يوقّع بيده وبخط أبيه توقيعات ويختِمها ويكتب فِي عُنوانها (محمد بن عبد الله)، ثُمَّ استبدّ بالأنكحة وتقدّم إِلَى كُتّاب الشروط أن لا يكتبوا إِلاَّ للقاضي (محمد بن عبد الله).
وامتدت يد الابن فعزل وولّى حَتَّى كَانَ هو المستقل بالأمر، وَلَيْسَ لأبيه إِلاَّ الاسم فِي الغالب، وكان إِذَا بلغه أن أحداً سعى فِي قضاء مصر دبّر عَلَيْهِ المكايد واحتال عَلَيْهِ بكل حيلة إِلَى أن يبالغ فِي أذاه.
فبلغه أن أحمد بن إبراهيم الأندلسي أحد العدول بمصر سعى من بغداد، فدبّر عَلَيْهِ مكيدة عند كافور حَتَّى قبض عَلَيْهِ وهَمّ بقتله، وكذلك صنع بأبي بكر محمد ابن طاهر النقيب، ولولا أن أبا جعفر مسلماً العلوي توسَّط فِي أمرهما لَهَلَكا. ثُمَّ زاد أمر الولد فِي مخالفة أبيه حَتَّى تَبَايَنَا وتَعَادَيا وتَعَانَدَا فِي كل شيء، حَتَّى كَانَ الأب إِذَا قرَّب أحداً أبعده ابنه وبالعكس.
وانقطع الابن إِلَى كافور، وتولّى لَهُ عمارة داره وقال لَهُ: أنا ألبس الدُّرَّاعة ولا أريد القضاء. ووقع الإرجاف بمصر بوصول توقيع الأندلسي من بغداد، فاتفق أن مات ووصل التقليد بعد موته بخمسة أيام، وكذلك اتفق لمحمد بن طاهر المذكور من فجأة الموت، لكنه لَمْ يردْ لَهُ توقيع. وَكَانَ موت أحمد بن إبراهيم سنة اثنتين وأربعين، وموت محمد بن طاهر سنة ست وأربعين.
وقال ابن زولاق: إن الابن كَانَ فِي الغاية فِي قلة الدين وصَفَاقة الوجه.
قلت: وقع لابن عساكر فغي تاريخه الكبير مع سعة اطلاعه فِي ترجمة الخَصِيبِيّ هَذَا تقصير كبير فإنه قال مَا نصّه: محمد بن عبد الله بن الخَصيب ولي قضاء دمشق نيابة عن أبيه بن محمد، وَكَانَ أبوه يلي القضاء عَلَيْهَا من قِبَل المطيع لله أبي القاسم الفضل بن جعفر.
ذكر أبو محمد ابن الأكفاني أن عبد الله بن محمد بن الخصيب ولي القضاء بمصر فِي أيام المطيع فِي سنة أربعين وثلاثمائة إِلَى أن توفي فِي تاسع المحرم سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة، وولي ابنه محمد بن عبد الله فأقام ينظر شهراً ثُمَّ اعتلّ، ومات لستّ خلونَ من شهر ربيع الأول كذا قال ابن الأكفاني.
وبلغنا من وجه آخر أن محمد بن عبد الله كَانَ يقضي بمصر خليفة لأبيه فِي حياته وأبوه يحضر معه إِلَى أن مات فِي يوم الأربعاء لسبع خلون من ربيع الأول سنة ثمان وأربعين وثلاثمائة بعد وفاة أبيه بخمسة وأربعين يوماً هَذَا آخر كلامه.
والذي بلغه عن غير ابن الأكفاني فِي كونه كَانَ ينوب عن أبيه بمصر صحيح، وَمَا عدا ذَلِكَ القول قول ابن زولاق لأنه أعلم بأهل بلده.
قال أبو الطيب أحمد بن الحسين المتنبي يمدح محمد بن عبد الله بن محمد الخصيب المصري القاضي وهو يومئذ قاضي أنطاكية فقال:
أفاضِلُ الناسِ أغراضٌ لذا الزَّمن ... يخلو من الهمّ أَخْلاَهُمْ من الفِطَنِ
وَإِنَّمَا نَحْنُ فِي جِيلٍ سَواسِيّةٍ ... شَرٌّ عَلَى الحرِّ مِنْ سُقْمٍ عَلَى بَدَنِ

حَوْلِي بِكُلِّ مكان مِنْهُم خِلْقٌ ... تُخْطى إِذَا جئتَ فِي استفهامها بِمَنِ
لا أَقْتَري بَلَداً إِلاَّ عَلَى غَرَرٍ ... وَلا أَمُرُّ بِخَلْقٍ غَيرِ مُضْطَغنِ
وَلاَ أُعَاشِرُ مِنْ أَمْلاكِهِمْ أحَداً ... إِلاَّ أَحَقَّ بِضَرْبِ الرَّأْسِ من وَثَنِ
إني لأعْذِرهم هم مِمَّا أُعَنِّفُهُمْ ... حَتَّى أُعَنِّفُ نَفْسِي فِيهِمُ وأنِي
فقر الجهول بلا عقل إِلَى أدب ... فقر الحمار بلا رأس إِلَى رسن
وَمُدْقِعِينَ بَسُبْرُوتٍ صَحِبْتُهم ... عَارِينَ مِنْ حُلَلٍ كَاسِينَ مِنْ دَرَنِ
خُرَّابِ بَادِيَةٍ غَرْثَيَ بُطُونُهُمُ ... مَكْنُ الضَّبَابِ لهمُ زَادٌ بِلا ثَمَنِ
يَسْتَخْبِرُونَ فَلاَ أُعطِيهمُ خبرِي ... وَمَا يَطِيشُ لهم سَهمٌ مِنَ الظِّننِ
وخَلَّةٍ فِي جَلِيسٍ أتَّقِيهِ بِهَا ... كَيما يُرَى أننا مِثلانِ فِي الوَهَنِ
وكلْمَةٍ فِي طَريقٍ خِفْتُ أعْرِبها ... فيُهْتَدَى لي فلم أَقْدرْ عَلَى اللَّحَنِ
قَدْ هَوَّنَ الصَّبْرُ عِندي كل نازِلةٍ ... وَلَيَنَ العَزْمُ حَدَّ المَرْكَب الخشِن
كمْ مَخْلصٍ وعُلاً خوْض مهلكةٍ ... وَقَتْلَةٍ قُرِنَتْ بالذمّ فِي الجُبُنِ
لا يُعجِبَنَّ مَضِيماً حُسْنُ بِزَّتِهِ ... وَهَل يَرُوق دَفِيناً جَوْدَةُ الْكَفَنِ
لله حالٌ أُرَجِّيها وتُخْلِفُنِي ... وَأَقْتضي كَوْنها دَهْري وَيمْطُلُني
مَدَحْت قوماً وَإن عشنا نظمتُ لهمْ ... قَصَائداً من إِناثِ الخيل والحُصُنِ
تَحْتَ العَجاجِ قَوافيها مُضَمَّرةً ... إِذَا تُنُوشِدْن لَمْ يَدْخُلْن فِي أُذنِ
فَلاَ أُحارِبُ مَدْفُوعاً عَلَى جُدُرٍ ... وَلاَ أُصَالِحُ مَغْرَوراً عَلَى دَخَنِ
مُخَيَّمُ الجَمْع بالبَيْدَاء يَصْهَرُهُ ... حَرُّ الهَوَاجِرِ فِي صُمٍّ مِنَ الفِتَنِ
ألقى الكرامُ الأَولى بادوا مكارِمَهُمْ ... عَلَى الخَصِيبيّ عند الفرضِ والسُّنَنِ
فهنَّ فِي الحَجرِ منه كُلَّما عَرَضَتْ ... لَهُ اليَتَامَى بَدَا بالمجْدِ والمِنَنِ
قاضٍ إِذَا التَبَسَ الأَمْرَانِ عنَّ لَهُ ... رَأيٌ يُخَلِّصُ بَيْنَ الماء واللَّبَنِ
غَضَّ الشباب بعيدٌ فَجْرُ لَيْلَته ... مُجَانِبُ العَينِ لِلْفَحْشَاءِ والْوَسَنِ
شَرَابُهُ النَّشْحُ لا لِلرِّيِّ يَطْلُبُهُ ... وطَعْمُهُ لِقِوامِ الجسمِ لا السِّمَنِ
النائلُ الصِّدْقَ فِيهِ مَا يَضُرُّ بِهِ ... والوَاحِد الحَالَتين السِّرِّ والعَلَنِ
الفاصِلُ الحُكْمَ عَيَّ الأوَّلون بِهِ ... والمُظْهِرُ الحقَّ للسَّاهي عَلَى الذَّهنِ
أَفْعَالُهُ الهَتِنُ بنُ العارِضِ الهَتِنِ اب ... ن العارِضِ الهَتِنِ ابن العارض الهَتِنِ
قَدْ صَيَّرَتْ أول الدنيا أوَاخِرَها ... آباؤُهُ مِنْ مٌغارِ العِلْمِ فِي قَرَنِ
كَأَنَّهُمْ وُلدُوا مِنْ قَبلِ أَنْ وُلِدُوا ... أَوْ كَانَ فَهْمُهُمُ أيامَ لَمْ يَكُنِ
الخَاطِرينَ عَلَى أَعْدَائِهِمْ أبَداً ... مِنَ المَحَامِدِ فِي أَوْقى مِنَ الجنَنِ
للناظرِينَ إِلَى إقْبَالِهِ فَرَحٌ ... يزيلُ مَا بِجِباهِ القَوْمِ مِنْ غَضَنِ
كَأَنَّ مال ابن عبد الله مُغتَرفٌ ... من رَاحَتَيْهِ بأرض الرُّومِ واليَمنِ
لَمْ نَفْتَقِدْ بِكَ من مُزْنٍ سوَى لَشَقٍ ... وَلا مِنَ البحرِ غيرَ الرّيحِ والسُّفُنِ

وَلا منَ اللَّيِ إِلاَّ قُبْحَ مَنْظَرِهِ ... وَمِن سَواهُ سوى مَا لَيْسَ بالحسَنِ
مُنذُ احتْبَيْتَ بأَنطاكيةَ اعتدلت ... حَتَّى كَأَنَّ ذَوِي الأوْتارِ فِي هُدَنِ
وَمُذْ مَرَرْتَ عَلَى أَطْوَادِها قُرِعَتْ ... منَ السُّجودِ فَلاَ نَبْتٌ عَلَى القُنِنِ
أَخْلَتْ مَوَاهِبُك الأَسْوَاقَ مِنْ صنع ... أغنى نَدَاكَ عن الأعمال والمِهَنِ
ذا جودُ من لَيْسَ من دَهرٍ عَلَى ثِقةٍ ... وَزُهْد من لَيْسَ فِي دنياهُ فِي وَطنِ
وهَذِهِ هَيْبَةٌ لَمْ يُؤْتِها بَشَرٌ ... وذَا اقْتِدارُ لِسانٍ لَيْسَ فِي المُنَنِ
فَمُرْ وأوْمِ تُطعْ قُدّستَ من جَبَلٍ ... تَبارَكَ اللهُ مَجْرِي الرُّوح فِي حَضَنِ
محمد بن عبد الله بن محمود جار الله أبو الثناء الحنفي.
قدم من الشرق وهو متأهل فِي عدة فنون، فصاهر السراج الهندي وناب عنه، وولي مشيخة سعيد السعداء فثار عَلَيْهِ أهلها وكتبوا عَلَى باب داره.
يَا خانقاه شيخنا ... عن اللواط لَمْ يتب
لا تعتبيه واصبري ... عَلَى أذى الجار الجنب
فاتفق أن الأشرف مرض فعالجه فعوفي، وَكَانَ حسن المعرفة بالطب، فولاه قضاء الحنفية لكثرة تشكي شرف الدين أحمد بن منصور وتضجره من الإقامة بمصر، فأذن لَهُ فِي العود إِلَى دمشق واستقر الجار مكانه فاستعظم الناس ذَلِكَ لما يعرفوه منه من البَأْوِ وكونه عارياً من الفقه.
فلما ولي ساس الناس سياسة جميلة، وصفح عمن أساء إِلَيْهِ، وَكَانَ فِي نفسه مهذّباً غير فحاش، واعتمد فِي ولايته عَلَى شمس الدين محمد القرمي صهره عَلَى ابنته، فأغراه القرمي بأن يضاهي قاضي الشافعية فِي لبس الطرحة والاستنابة فِي البلاد، فأنشأ مودعاً للحنفية، وَكَانَ السراج الهندي أراد ذَلِكَ فِي أيام يلبغا فلم يتم لَهُ ذَلِكَ، فسعى الجار عند بَرَكة فألبس الخلعة، فسعى ابن جماعة حَتَّى أبطل ذَلِكَ وساعده أكمل الدين، وقال فِيهِ الشعراء، من ذَلِكَ قول ابن العطار:
أمرت تركياً بمودع حكم ... حنفي لأجل منع الزكاة
رَبّ خُذهم فإنهم إن يعيشوا ... يُخشَ أن يأمروا بترك الصلاة
وقال المجد إسماعيل:
أراد الجَارُ جَوْراً فِي اليتامى ... وَفِي الأموال حَيْفاً وَفِي الأَيَامَى
فالبرهان قَدْ قطع اعتداه ... ولو قَدْ مُكِّنَ القرمي ياما
ومما مدح بِهِ جار الله:
للهِ جارُ اللهِ حاكِمُنا الَّذِي ... مَا مِثلُه يُسعَى لَهُ ويُزَارُ
حُبَّاً لَهُ وكرامةً مِن ماجِدٍ ... حَسْنَت خلائِقُه ونِعْم الجارُ
ومات قاضياً فِي رابع عشرين رجب سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة.
ورثاه الشهاب ابن العطار:
قاضي القضاة جلالُ الدين مات وَقَدْ ... أعطاه مَا كَانَ يرجو بَارِئُ النَّسَمِ
حاشاه أن يُحْرِم الراجي مكارِمَهُ ... أَوْ يرجع الجارُ منه غيرَ مُحْتَرِم
محمد بن عبد الله الميَاروداني نسبة إِلَى جزيرة فِي دجلة.
قال مسلمة بن قاسم: ولي القضاء بمصر سنتين، ثُمَّ رجع إِلَى بغداد فمات بِهَا سنة عشر وثلاثمائة، وَكَانَ حنفي الفقه متعصباً فِيهِ، ولعله ولي الحكم فِي بعض بلاد مصر.
محمد بن عبد المولى أبو عبد الله ابن أبي محمد بن محمد بن عبد الله ابن عتبة اللخمي اللُّبْني المالكي، واللبني: بضم اللام وسكون الموحدة بعدها نون منسوب إِلَى لُبْنَة، بُلَيدة بالقرب من المهدية.
ولاه الوزير رضوان عقود الأنكحة وَمَا يتعلق بذلك خاصة بعد موت الأعز أبي المكارم أحمد بن أبي عقيل، وذلك فِي شعبان سنة ثلاث وثلاثين، فباشر ذَلِكَ ثلاثة أشهر إِلَى أن استقر فِي القضاء فر الأمناء هبة الله بن حسن ابن الأزرق، ثُمَّ ولاه أبو علي أحمد ابن الأفضل القضاء رابع أربعة كما تقدم بيان ذَلِكَ فِي ترجمة الفقيه سلطان بن إبراهيم.
محمد بن عبد الواحد بن الحسين.

ولاه حسن ابن الخليفة الحافظ عبد المجيد الفاطمي بعد القبض عَلَى أبي عَلي ابن الأفضل وعزل القضاة الأربعة الَّذِين رتبهم أبو علي كذا فِي شرح أرجوزة ابن دانيال حَيْثُ قال:
ثُمَّ وليه ولد الميسر ... أعني سناء الملك رب المفخر
ثُمَّ أبو الفخر ونَجْل جعفراً ... ثُمَّ محمد ولي بلا مِرا
وبعد هَذَا ولي الرعيني ... ثُمَّ سنا الملك بغير مَيْن
فذكر بَيْنَ ابن ميسر سناء الملك اثنين فأبو الفخر هو صالح ونجل جعفر هو أبو الثريا نجم. ومحمد هو محمد بن عبد الواحد بن حسين كذا قال. وَلَمْ يذكر هَذَا ابن ميسر ولا غيره. والذي يغلب عَلَى ظني أن محمداً هَذَا هو ابن ميسر سناء الملك أيضاً فيكون ولي ثلاث مرات. وأما ولد الرعيني فيقال هو حسن بن قاسم بن طاهر وَقَدْ تقدم مَا فِيهِ فيمن اسمه حسن.
محمد بن عَبْدَة بن حَرْب البَصَريّ العَبَادَانيّ أبو عُبَيد الله - بالتصغير - حنفي من المائة الثالثة.
وُلد سنة ثماني عشرة ومائتين. وروى عن أبي الأشعث، وعمر بن شَبَّة، وأبي موسى الزمن، وأبي الربيع الزَّهْراني، وإبراهيم بن الحجَّاج، وهُدْبَة بن خالد، وعبد الأعلى بن حَمَّاد، وَعَلَى بن المديني، فِي آخرين.
روى عنه عبد العزيز بن جعفر الخِرَقي، وَعَلَى بن لؤلؤ، وأبو حفص ابن الزيات، وعلي بن عمر الحربي، وآخرون.
قال الدارَقُطني: لا شيء: سمعت الحسن بن أحمد السبيعي يقول: كَانَ يُظهر جزءاً من سماعه ويحدّث بِهِ، ثُمَّ صار يأخذ كُتب الناس ويحدّث بِهَا فانكشف أمره.
وقال البَرْقانيّ: تركه أبو منصور ابن الكرخي وغيره، وَكَانَ ابن أبي سعد لا يكتب حديثه.
وقال ابن عديّ فِي الكامل: كَانَ يحدّث من كُتُب قوم عن لَمْ يَرَهم، كتبت عنه ببغداد والموصل، وادَّعى أنه كتب عن بكر بن عيسى وكذب فِي ذَلِكَ، فإن بكراً مات بعد مولده بثلاث سنين فكيف يكتب عنه! والضعف عَلَى حديثه بيّن، وبكر هَذَا كتب عنه أحمد بن حنبل ومات سنة أربع ومائتين فكيف يكتب عنه ووفاته قبل مولده بهذه المدة! قال: وَكَانَتْ كتبه الَّتِي تحدث منها محكوكة الظهر، وحدث بأحاديث انفرد بِهَا الحفاظ الأجلاد، يعني فسرقها منهم.
وقال ابن زُولاق: ولي من قِبَل خُمَارَوَيْه بن أحمد بن طولون فِي سنة ثمان وسبعين، وَكَانَ ينظر فِي المظالم قبل ذَلِكَ، ثُمَّ أظهر ولاية من المعتمد، وَكَانَ بَيْنَ موت بكّار وولايته فترة بقيت فِيهَا مصر بغير قاضٍ سبع سنين، نظر فِيهَا ابن عَبْدَة فِي المظالم أربعاً قبل أن يلي القضاء.
قال ابن زولاق: كَانَ يذهب إِلَى قول أبي حنيفة، وَكَانَ متملكاً جباراً سخيّاً جواداً مفضالاً، كَانَ له مائة مملوك مَا بَيْنَ خصيّ وفحل، وَكَانَ يعرف الحديث.
واعتذر ابن زُولاق: عمَّا رُمي بِهِ من الكذب بأن موسى بن هارون الحافظ ببغداد، كَانَ خرّج لنفسه مجلساً عن جماعة من الشيوخ وحدث بِهِ وكتب عنه، فاتفق أن بعض أصحاب الحديث خرج لأبي عبيد الله مجلساً صادف بعض أولئك الشيوخ ببعض تِلْكَ الأحاديث فحدّث بِهِ أبو عبيد الله، فظنَّ من لَمْ يطلع عَلَى صورة الحال أن أبا عبيد الله سرقه من موسى وَلَيْسَ كذلك، وإنما وقع ذَلِكَ اتفاقاً. قال: وَقَدْ قال القاضي أبو الطاهر الذُّهْليّ: إنه كتب المجلس المذكور عن موسى بن هارون، ثُمَّ كتب المجلس الآخر عن أبي عبيد الله.
وقال الخطيب: حدثني محمد بن علي بن يعقوب، حدثنا محمد بن عبد الله يعني الحاكم: سمعت أبا علي حامد بن محمد الهروي يقول: كَانَ أبو عبيد الله القاضي ببغداد منصرفاً من قضاء مصر وَكَانَ فِي مصر يعرف بأبي عبيد الله بن حربويه وَكَانَ أولاً يحدّث عن أبي الأشعث وطبقته ثُمَّ ارتقى إِلَى بندار وأبي موسى ثُمَّ ارتقى إِلَى إبراهيم بن الحجاج وأبي الربيع. قال: فحكى لي إبراهيم بن حمزة قال: فقال لي يوماً: يَا أبا إسحاق، عزمتُ عَلَى أن أحدّث عن الحَوضيّ والطيالسيّ. فقلت: الله الله أَيُّها القاضي كنّا نُرْجَم. قال الخطيب: صاحب هَذِهِ القصة هو أبو عبيد الله بن عبدة بن حرب لا أبو عبيد بن حربويه فإن أبا عبيد بن حَرَبْوَيْه كَانَ أحد الثقات الأمناء الصادقين.
قلت: لعله ظنَّ أنهما واحد وَلَيْسَ كذلك.

ومن منا كيره مَا أخرجه الخطيب فِي أماليه من طريقه، عن إبراهيم بن الحجاج، عن حماد عن قَتَادة، عن أنس رفَعهُ: فِي الجنة دار يقال لَهَا دار الفرح لا بدخلها إِلاَّ من يُفرح الصبيان. قال الذهبي فِي الميزان: هَذَا نكرة.
واستكتب ابنُ عبدة أبا جعفر الطحاوي وأغناه وَكَانَ مهيباً يرعبه الشهود ويلزمون مجلسه، فاتفق أنه حضر المسجد الجامع فلما كَانَ قرب انصرافه نظر إِلَى شاهد لَمْ يحضر فاستدعى بِهِ فقال: ما أَخَّرَك. قال: شُغل. قال: فلك أشغل مني!؟ وأمر بِهِ إِلَى السجن ثُمَّ شفع فِيهِ فأطلقه.
ويقال إنه بنى داراً عظيمة كَانَ يدَّعي أنه صرف عَلَيْهَا مائة ألف دينار ثُمَّ يقول: صرفت عَلَيْهَا هَذَا القدر سوى أصل ثمنها، ودرهمي دينار والسعيد من قضى لي حاجة. يعني فيكون مصروفها ضعف مَا ذكر.
وَكَانَ أبو الجيش يجلّه ويعظّمه ويُجرى عَلَيْهِ كل شهر ثلاثة آلاف دينار، وفوض إِلَيْهِ مع القضاء النظر فِي المظالم والمواريث والأحباس والحِسبة، وَلَهُ مجلس فِي الفقه يحضره الفقهاء من الحنفية والشافعية، ومجلس للحديث يحضره الحُفَّاظ، وَكَانَ يُطْعِم الناس فِي داره. وأما فِي العيد فلا يتأخَّر عنه أحد من وجوه البلد من فقيه ومتفقِّه وشاهد وصاحب حديث ووجوه الكُتَّاب والقُوَّاد والتجار. وَكَانَ الطحاوي يجلس بَيْنَ يديه فإذا حضر الخصوم قال: من مذهب القاضي - أيَّده الله - كذا - ومن منه بعض تيهٍ فقال لَهُ: مَا هَذَا الَّذِي أنت فِيهِ؟ والله لو أرسلت بقَصبةٍ فنُصِبت فِي حارتك لترين الناس يقولون: هَذِهِ قَصَبة القاضي. فاحذَرْ يَا أبا جعفر.
وَكَانَ القاضي قويَّ النفس، كثير الجُرْأَة، حَتَّى أن أبا الجيش حصل لَهُ غيظ من أكابر جيشه فتوسَّط بينهم القاضي إِلَى أن انصلح الحال فشكره أبو الجيش. وَكَانَ فِي جملة مَا قال لهم القاضي: أنا أشد السيف والمِنْطَقَة وأَحْمِلُ عن الأمير. وَمَا زال حَتَّى تراضوا فشكر لَهُ الأمير ذلك.
وقال الطحاوي: كَانَتْ لأبي الجيش شهادةٌ، فأمر بإحضار الشهود، وَكَانَ كلما كتب كاتب شهادته يقرأها الأمير ويكتب الشاهد: أشهدني الأمير أبو الجيش خمارويه بن أحمد بن طولون مولى أمير المؤمنين أطال الله بقاءه وأدام عزه وعُلاه. فلما قرأها قال للقاضي: مَن هَذَا؟ قال: كاتبي. قال: أبو مَن؟ قال: أبو جعفر. فقال لي: وأنت يَا أبا جعفر فأطال الله بقاءك وأدام عِزَّك وعلاك.
قال: وأراد الطحاوي أن يقاسم عمه فِي رَبع كَانَ بينهما فحكم القاضي بالقسْمة، وأرسل إِلَى أبي جعفر قال: تستعين بِهِ عَلَى ذَلِكَ.
واتفق إِمْلاَك عند أبي الجيش فحضر القاضي وأبو جعفر فقرأَ الكتاب وعقد النكاح، فخرج خادم بصينيَّة فِيهَا مائة دينار وطيب فقال: كُمّ القاضي. فقال: القاضي: كُمَّ أبي جعفر. ثُمَّ خرج إِلَى الشهود وكانوا عشرة بعشرة صوانٍ والقاضي يقول: كُمَّ أبي جعفر. فألقيت كلها فِي كُمّ أبي جعفر ثُمَّ خرجت صينية أبي جعفر فانصرف يومئذ بألف دينار ومائتي دينار سوى الطِيب.
قال ابن زولاق: وَلَمْ يزل محمد بن عبدة ينظر فِي القضاء وغيره مما فوَّض إِلَيْهِ وهو يصطنع الناس وينفع كل من قصده، إِلَى أن قُدّر قتل أبي الجيش فوصل تابوته إِلَى مصر فصلَّى عَلَيْهِ القاضي.
واستقر فِي إِمْرة مصر ولده جيش، والقاضي مستمر عَلَى حاله إِلَى أن خُلع جيش ووقع الاختلاف والشغب، وقُتل علي بن أحمد الماذرائيّ وجماعة، وثارت الفتنة، وَكَانَ القاضي خرج ينظر فبلغه الخبر فرجع إِلَى داره وأغلق أبوابه واستتر مدة طويلة، وشغر القضاء. فعمد محمد بن أبَّا خليفة هارون بن أبي جيش إِلَى أصحابه فضيق عليهم، واعتقل الطحاوي وطالبه بحساب الأوقاف، واستمر أبو عُبيد الله مُسْتَتراً عشر سنين، ورضي منه الأمير وغيره بذلك، فلم يطلبوه ولا سألوا عنه.

قال: وَكَانَ علي بن أحمد قَدْ أودع عند القاضي مالاً جزيلاً، وأودَع عند إبراهيم بن هارون العباسي نحو ذَلِكَ، فطلب أبو بكر محمد بن علي الماذرائيّ المال من القاضي فقال: أمرني أبوك أن أشتري لكم بِهِ ضياعاً بالبصرة وأعمال العراق ففعلتُ. وطلب من العباسي فقال: أرسل من يتسلَّم المال. فعاد الرسول فقال لَهُ: وجدت الأكياس عَشَّش عَلَيْهَا العنكبوت. فشكر الماذرائيّ للعَبَّاسِيّ ذَلِكَ واشترى لَهُ داراً بخمسة آلاف دينار ووهبها لَهُ.
وكانت مدة أبي عبيد الله إِلَى أن استتر ست سنين وسبعة أشهر، وأقامت مر بغير قاضٍ مدّة إِلَى أن ولَّى هارون بن أبي جيش أبا زُرعة القضاء فِي سنة أربع وثمانين ومائتين فباشره إِلَى أن وُلِّي محمد بن سليمان الكاتب إمرة مصر فأعاد ابن عبدة إِلَى القضاء وذلك فِي مستهل ربيع الأول سنة اثنتين وتسعين، فسار سيرة جميلة، وقُرِئَ عهده بالجامع من قِبَل المكتفي، فلما كَانَ فِي العشر الأخير من جمادى الأولى مِنْهَا أمسك عن الحكم وسار صحبة محمد بن سليمان الكاتب إِلَى العراق وذلك بأمر محمد بن سليمان الكاتب، أخذ صحبته جميع وجوه أهل البلد إِلَى العراق فأقام محمد بن عبدة بالعراق حَتَّى مات.
ويقال إنه خرج فِي تجمّل زائد، وَكَانَ يُوصَف بسَعَة الصدر وكثرة الجود والصدقة، وَكَانَ أبو زرعة أيضاً قَدْ سافر وبقيت مصر بغير قاض إِلَى أن قدم أبو عبيد بن حربويه فِي رجب سنة ثلاث وتسعين.
وكان مسير محمد بن سليمان فِي مستهل شهر رجب سنة اثنتين وتسعين ومائتين لثلاث خلون منها. وعاش أبو عبيد الله بن عَبدة إِلَى سنة ثلاث عشرة وثلاثمائة فمات عن خمس وتسعين سنة.
محمد بن عثمان بن إبراهيم بن زُرعة ابن أبي زُرعة بن إبراهيم الثَّقفي مولاهم الشافعي الدمشقي.
قال ابن عساكر: ولي قضاء مصر فِي سنة أربع وثمانين ومائتين فِي إمارة خمارويه ابن أحمد بن طولون كذا قال. وسيأتي أن الَّذِي ولاه هارون بن خُمارويه. قال وروى عن ... روى عنه محمد بن يوسف الهَرَويّ، والحسن بن حبيب الحَصائِرِي وآخرون.
قال أبو سعيد ابن يونس: ولي قضاء مصر، وَكَانَ محمود الأمر فِي ولايته ثقة، فلما عزل رجع إِلَى دمشق، وهو أول شافعي ولي قضاء مصر.
قال ابن الحداد: قال لي ولده الحسين: كَانَ أبي يتعصب للشافعي، وَكَانَ شرط لمن يحفظ مختصر المزني مائة دينار، وَكَانَ الغالب عَلَى أهل دمشق قول الأوزاعي، فكان أبي هو الَّذِي أدخل دمشق مذهب الشافعي وحكم بِهِ. وتبعه مَن بعدهُ من القضاة، وَكَانَ حسن المذهب، عفيفاً عن أموال الناس، شديد التوقف فِي الحكم، وَكَانَتْ فِيهِ سلامة، وَكَانَ لَهُ مال وضياع كبار بالشأم.
ويقال إنّ جَدَّ جَدِّه إبراهيم كَانَ يهودياً فأُسلم. وقيل إن ولايته من قبل هارون بن خُمارويه لأنه كَانَ فِي عهده أن اختيار القضاة إِلَيْهِ، وقيل بل ولاَّه المعتضد.
وقال ابن زولاق: حدثني عبيد الله بن عبد الكريم: كَانَ أبو زُرْعَةَ دَاهِيةً أول مَا قدم مصر لزم قبر أحمد بن طولون يبكي ويقرأ، فبلغ ذَلِكَ خُمارَوَيه فأعجبه، فدخل عَلَيْهِ أبو زُرعة ومعه رغيف فقال: هَذَا الرغيف ختمت عَلَيْهِ عشر ختمات، وختمت عَلَيْهِ عشرة آلاف (قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ) فقبله منه وتبرّك بِهِ.
وولي قضاء الشام ثُمَّ ولاه هارون قضاء مصر. وقال تمام الرازي: حدثنا أبو عبد الله بن مروان، حدثنا أبو الفيض قال: لمّا قدِم المعتضد لحرب خُمارويه بن أحمد بن طولون أخرج معه إِلَى العراق أبا خازم عبد الحميد، وولَّى عوضه أبا زُرْعَة، ثُمَّ ولَّى عبيد الله بن الفتح المظالم، ثُمَّ ولَّى خُمارويه عبيد الله بن محمد العمري، ثُمَّ أقرَّه عَلَى الأردُنّ وفلسطين وأعاد أبا زرعة إلى دمشق إِلَى أن قُتل خُمارويه.
ثم إن هارون بن خُمارويه ولَّى أبا زُرْعة قضاء مصر وضمّ إِلَيْهِ فِلَسطين والأردُنّ وحمص وقِنَّسرين والعواصم، فاستخلف أبو زرعة عَلَى دمشق أحمد بن المعلى، وأبا الحارث بن أحمد بن علي، وفارس بن أحمد، ثُمَّ بعَّده مدة فِي سنة تسع وتسعين، ووُلّي أبو زرعة القضاء من قِبَل الخليفة فدخلها.

قرأت بخط الحافظ أبي محمد بن أبي القاسم ابن عساكر، أن والده أخبره قال: قرأت بخط أبي الحسين الرازي قال: سمعت جماعة من شيوخ أهل دمشق منهم عبد الرحمن بن عبد الله بن راشد قالوا: لما اتَّصل بأبي أحمد الموفق أن أحمد بن طولون خلعه بدمشق وكتب بذلك كتباً إِلَى سائر أعماله، أمر الموفّق بلعن أحمد بن طولون عَلَى المنابر. فلما بلغ ابن طولون أمر بلعن الموفَّق عَلَى المناب بالشأم ومصر.
وكان أبو زُرْعة محمد بن عثمان ممَّن خلع الموفَّق ولعنه، وقف قائماً عند المنبر بدمشق يوم الجمعة، فلما خطب الإمام ولعن الموفّق قال أبو زرعة: نحن أهل صِفِّين وأهل دمشق، وَكَانَ فينا من حضر الجَمَل ونحن القائمون عَلَى من عاند أهل الشام وأنا أشهدُ الله وأشهدكم أني خلعتُ أبا أحمق - يريد أبت أحمد - كما يُخلع الخاتم من الإِصبع، فالعنوه لَعَنَهُ الله.
قال: فلما رجع أحمد بن الموفق - يعني المعتضد الخليفة - من وقعة الطواحين الَّتِي كَانَتْ بينه وبين خُمارويه فيما حدثني بِهِ إبراهيم بن محمد بن صالح، وذلك فِي سنة إحدى وسبعين ومائتين. قال لأبي عبيد الله أحمد بن محمد الواسطي: انظر مَن انتهى إِلَيْكَ - ممَّن كَانَ يُبغضُ دولتنا من أهل دمشق فليُحمَل إِلَى الحضرة. قال: فحمل يزيد ابن محمد بن عبد الصمد، وأبو زُرْعةَ عبد الرحمن بن عَمْرو، وأبو زرعة محمد بن عثمان القاضي، حَتَّى صاروا بهم إِلَى أَنْطاكِيَّة مقيَّدين، ثُمَّ حملوا إِلَى بغداد. فبينما الخليفة يسير يوماً إذ بُصِرَ بمحامل الشاميين فقال لأبي عبد الله الواسطي: مَنْ هؤلاء؟ قال: هؤلاء أهل دمشق. قال: وَفِي الأحياء هم؟ إِذَا نزلت فأذكروني بهم.
قال إبراهيم: فحدَّثنا أبو زُرْعَةَ عبد الرحمن بن عَمرو سنة إحدى وثمانين أنه لما نزل وجلس فِي مجلسه أحضرنا الواسطي فأوقفنا بَيْنَ يديه مذعورين فقال: أيكم القائل: قَدْ خلعت أبا أحمق من هَذَا الأمر كنزعي خاتمي هَذَا من إِصبعي؟ قال: فَرَبَّت أَلسِنَتُنا فِي أفواهنا حَتَّى خُيّل إلينا أننا نُقتل. فأما أنا فأُبلستُ، وأما يزيد بن عبد الصمد وَكَانَ تمتاماً فخرس.
وكان أبو زرعة محمد بن عثمان أَحدثَنا سِنّاً فتكلَّم فقال لَهُ الواسِطيّ: أمسك حَتَّى يتكلَّم من هو أكبر سِنّاً منك. فقلنا: أصلحك الله هو رجل متكلّم يتكلّم عنا. وَكَانَ هو المتكلم بالكلمة الَّتِي يطالبها القوم منَّا. فقال: والله مَا هُنا هاشمي صريح ولا قرشي صحيح ولا عربيّ فصيح ولكنَّا قوم مُلِكنا - يعني قُهِرْنا - وذكر أحاديث كثيرة فِي السمع والطاعة، ثُمَّ أحاديث فِي العَفْو والإِحسان ثُمَّ قال: أنا أشهدكم أن نسائي طوالق، وعبيدي أحرار، وَمَالي عليَّ حرام غم كَانَ فِي هؤلاء من قال هَذِهِ الكلمة ووراءنا حُرَمٌ وعِيال وضُعَفاء، وَقَدْ تسامع الناسُ بهلاكنا وَقَدْ قَدرْتَ وإنما العفو بعد القُدرة فقال للواسطي: أطلقهم لا كثَّر الله أمثالهم. قال: فأَطلقنا.
قال: فاشتغلت أنا ويزيد بن عبد الصمد عند عثمان بن خُرَّزاد فِي نُزَه أَنْطاكِيَة، وسبق أبو زرعة الجميع إِلَى حِمص حَتَّى ورد دمشق قبلنا بأيام كثيرة، فتحامل أهل دمشق عَلَى أبي زُرْعَة بسببنا فكتبوا فِيهِ كتاباً ذكروا فِيهِ مثالب لَهُ، وتوجَّه أبو زرعة إِلَى مصر فسبقه كتابهم إِلَى خُمارَوَيه فدفعه إِلَيْهِ، فأقسم لَهُ أن هَذَا مختلق عَلَيْهِ وذكرهم بالجميل، فكتب لَهُ بولاية القضاء فرجع إِلَى دمشق قاضياً، ثُمَّ وضع يدع فِي كل من تكلَم فِيهِ حَتَّى أفضى لَهُ إِلَى شيخين كانا يلبسان الطويلة فمُدَّا فِي خضراء دمشق فضُربا بالدِّرَّة.
قال ابن عساكر عن غيره: إنه مات فِي شوال سنة إحدى وثلاثمائة. قال: وَكَانَ حافظاً للحديث وَكَانَ يُرمَى بالنَّصب.
وقال الحسن بن القاسم بن دُحَيم الدمشقي: وُلد لأبي زرعة وَلد فسماه الحسين وكنّاهُ أبا عبد الله، ثُمَّ ولد لَهُ آخر فسماه الحسن وكنّاه أبا محمد. قال فكتبت لَهُ رقعة أقول فِيهَا: لَوْ عقق القاضي عن ولديه معاوية وعمراً مَا كَانَ إِلاَّ ناصبيّاً.

قال ابن زُولاق: كَانَ أبو زرعة يَرْقى من وجع الضرس يقرأ عَلَيْهِ ويدفع إِلَى صاحبه حشيشةً فيسكن، فاتَّفق أن أبا زُنبور الوزير الماذرائي اشتكى ضرسه فجاءَ إِلَى أبي زرعة وسأله أن يرقيه فوضع رأسه فِي حجره وشرع غي الرُّقية، فقال: لَهُ فِي خِلال ذَلِكَ: أسألك أن تترك شيئاً حَتَّى تنفعك الرُّقية؟ قال: مَا هو؟ الكَذِب! فقال: سبحان الله. قال: الَّذِي عندي قلتُ لَكَ. قال: أَفعلُ فرقاه فلما فرغ قال لَهُ: سكن الوجع؟ قال: لا. قال: سبحان الله. فقال أبو زُنبور: شرطتَ أن لا أكذب فكرهت أن أقول: سكن وهو لَمْ يسكن. فحصل لأبي زرعة بذلك خجل شديد وَكَانَ يألفه هِرٌّ ولا يفارقه. وَكَانَ يمسح عَلَى ظهره وهو يقضي بَيْنَ الناس.
وزوّج أبو زرعة ولده الحسين ببنت أبي زنبور الماذرائي، وَكَانَ اسم أبي زنبور الحسين لن احمد وَكَانَ حينئذ بدمشق، فكتب أبو زنبور أسامي مائة نفس فِي دَرْج ووعدهم بأن يكونوا عنده قبل صلاة الصبح. فحضروا فأخرج إليهم مائة غلام بمائة قَدَح غالية، ومائة قُمقُم ماء ورد، ومائة مُشط، ومائة مِرآة، ومائة مِبْخَرة. ثُمَّ عقد النكاح. فخرج مائة غلام بمائة طَست ومائة إبريق وعشرة موائد. فعقدوا عَلَى كل مائدة عشرة أنفُس، فأكلوا، ثُمَّ عشرة موائد. فعقدوا عَلَى كل مائدة عشرة أنفُس، فأكلوا، ثُمَّ عشرة أنفُس، فأكلوا ثُمَّ غسلوا أيديهم، فأُلقيت عَلَى أيديهم مائة منديل، وأُعيدَ عليهم الطيب والبَخُور، وأُخرجت مائة صينيَّة فِيهَا الدنانير وتماثيل النَّدّ والعنبر فألقيت فِي أكمام الناس، وَكَانَ إِملاكاً مَا سُمع بمثله. ثُمَّ كَانَ العُرس بعد ذَلِكَ أعظم من الإِملاك.
وكان أبو زرعة كثير الشفَقَة، رقيق القلب، يغرَم عن الفقراء والمستورين إذَا أَفلسوا، حَتَّى كَانَ بعضهم إذَا أراد أن يتنزَّهَ أخذ بيد رفيقه فادَّعى عَلَيْهِ عند القاضي فيعترف ويبكي ويدَّعي أنه لا يقدر عَلَى وفائه ويسأَل خصمه فِيهِ فلا يُجيبه فيغرم عنه.
وحكى بعض الشاميين أنه حصلت لَهُ إضافة فقال لبعض أصدقائه: قدّمني إِلَى القاضي فلعلَّه يُعطيك عني شيئاً أنتفع بِهِ. ففعلتُ وقلت: أيَّد الله القاضي: لي عَلَى هَذَا الرجل ستّون درهماً صحاحاً. فقال: مَا تقول؟ فأقرّ. فقال: أعطه حقَّه، فبكى وقال: مَا معي شيء. فقال لي: إن رأيت أن تنظِره؟ فقالت: لا. قال: فصالِحه. فقلت: لا. فقال إنك لقيط فما الَّذِي تريد؟ قلت: السجن. فقال: لا تفعل. فأدخل يده تَحْتَ مصلاَّه فأخرج دراهم فعدَّ لي ستين درهماً فدفعتها للرجل وآليت أن لا أفعل ذَلِكَ بعدها.
وحكى أبو زرعة أنه كَانَ عند عبيد الله بن سليمان بن وهب وهو وزير وَكَانَ قدِم دمشق قال: فقال لي: يَا أبا زُرعة، بلغني أن القضاة والشهود يركبون بخفاف بغير سراويل، فقال: معاذ الله أَيُّهَا الوزير. قال: واتفق أني كنت بغير سراويل فعاهدت الله إن سلِمتُ من التفتيش أن لا أعود، فسهَّل الله أن نهضت قبل أن يمتحنني بالتفتيش.
قال ابن زولاق. وَكَانَ أبو زرعة أحد الأكَلة، فيقال: إنه أكل سَلَّةَ مِشمِش، وسَلَّة تين، وسَلَّة خَوْج.
قال: وَلَمْ يزل أبو زرعة عَلَى القضاء إِلَى سلخ صفر سنة اثنتين وتسعين ومائتين إِلَى مَا صرفه محمد بن سليمان الكاتب لمحمد بن عَبْدَة، ثُمَّ خرج محمد بن سليمان وهما معه فولَّى محمد بن سليمان أبا زرعة قضاء الشأْم. وتأخرت وفاة أبي زرعة إِلَى سنة اثنتين وثلاثمائة فمات فِي شهر ربيع الآخر منها. ويقال مات سنة إحدى وثلاثمائة. حكاه ابن عساكر. وقيل: مات فِي شوال سنة ثلاث وثلاثمائة.
قال محمد بن يوسف الهرويّ: قلت لأبي زرعة القاضي: مَا أكثر حمل إسماعيل بن يحيى المُزَنيّ عَلي عن الشافعي. فقال: لا: بل مَا أكثر ظُلم المزني للشافعي.
محمد بن عثمان الحَرِيريّ الحنفي شمس الدين.
ولي بعد عزل شمس الدين السَّرُوجِيّ فِي ربيع الآخر سنة عشر وسبعمائة إِلَى أن مات سنة ثمان وعشرين، فولي إبراهيم المعروف بابن عبد الحق إِلَى أن طُلب منه بيع بعض الأوقاف فامتنع، فعُزل من مصر خاصة، ووليه عمر الرازي فِي مستهل رجب إِلَى أن مات فِي ثالث عشري رمضان كله من سنة سبع عشرة، فأعيد الحَرِيريّ.
محمد بن عطاء الله بن محمد بن أحمد بن محمود ابن الإِمام فخر الدين محمد بن عمر شمس الدين الهَرَوِيّ الرازي الأصل.

كان اسمه شمس ثُمَّ تَسَمَّى محمداً، وَكَانَ يذكر أنه من ذرية الإِمام فخر الدين. ومولده فيما يقال سنة ثمان وستين وسبعمائة، واشتغل بالعلم فِي بلاده حنفياً ثُمَّ تحول شافعياً، وتولع بالحفظ فذكر أنه حفظ تفسير الزهراوين من الكشاف وصحيح مسلم، وكثيراً من البخاري. وَكَانَ ذهنه جيداً ومشاركته حَسنة، إِلاَّ أنه كَانَ كثير المجازفة مقتدراً عَلَى الاختلاف فِي الحال من غير تلعثم.
قدم البلاد الشامية فِي سنة أربع عشرة وثمانمائة فحج ورجع إِلَى الشام، فقرر فِي تدريس الصلاحية، ثُمَّ ولي القضاء فِي جمادى الأولى سنة إحدى وعشرين وثمانمائة بعد عزل الجلال البلقيني، ثُمَّ صرف فِي ربيع الأول سنة اثنتين وعشرين، فأعيد الجلال فِي سادسه، ثُمَّ وليه ثانية فِي سابع ذي القعدة سنة سبع وعشرين بعد ابن حجر، ثُمَّ صرف فِي ثاني رجب سنة ثمان وعشرين، فأعيد ابن حجر وخرج الهروي هارباً ممن لَهُ عَلَيْهِ ظلامة، فما طلع خبره إِلاَّ من بيت المقدس. فاستمر عَلَى تدريس الصلاحية إِلَى أن مات فِي ذي الحجة سنة تسع وعشرين وثمانمائة.
محمد بن علي بن الحسين بن أبي الحديد العسكري الفقيه من المائة الرابعة.
لما ولي محمد بن موسى السرخسي بعد أحمد بن حماد. ورد كتابه عَلَيْهِ وَعَلَى عليّ بن أحمد بن إسحاق. يعني فتسلما القضاء من ابن حماد. وَكَانَ عزله فِي صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة.
فكان ابن أبي الحديد يركب إِلَى دار ابن إسحاق وهو أسنّ منه وأَفْقَه. ثُمَّ دخل السرخسي البلد فِي جمادى الآخرة.
محمد بن عَلي بن مَعْبَد القدسي المعروف بالمدني المالكي، كَانَ مؤذناً بالمسجد النبوي.
ولي قضاء المالكية مرتين: الأولى سنة عشر وثمانمائة بعد عزل الجمال يوسف البساطي، ثُمَّ عزل فِي سنة اثنتي عشرة وثمانمائة، فأعيد البساطي. ثُمَّ أعيد ثانية فِي سابع عشري شوال منها بعد عزل البساطي. ثُمَّ عزل فِي ثامن عشر ربيع الآخر سنة ست عشرة. فولي الشهاب أحمد الأموي.
ومات فِي ربيع الأول سنة تسع عشرة وثمانمائة عن سبعين سنة. وَكَانَ مشكوراً فِي أحكامه موصوفاً بالعفة مع قلة العلم.
محمد بن علي بن منصور صدر الدين الدمشقي الحنفي. أخو القاضي شرف الدين من المائة الثامنة.
ولد بدمشق سنة سبع وسبعمائة ونشأ بِهَا وأخذ الفقه عن البرهان ابن عبد الحق وسمع الحديث من الحجار والبندنيجي وغيرهما.
وروى عنه شمس الدين محمد بن علي المصري الزَّراتِيتي، ومحب الدين ابن جمال الدين ابن هشام وغيرهما.
وكان واسع العلم، لين الجانب، مهذب الخلاق، كثير التودد والبشر.
استدعاه برقوق بعد موت جار الله، فولاه القضاء فِي ثامن رمضان سنة اثنتين وثمانين وسبعمائة فباشر مباشرة حسنة، وَكَانَ متحفظاً فِي أحكامه نَزِهاً، مات فِي حادي عشر ربيع الأول سنة ست وثمانين وسبعمائة.
محمد بن علي بن وَهْب بن مطيع بن أبي الطاعة القُشَيْرِيّ أبو الفتح المعروف بابن دَقِيق العيد، الإِمام العلم الشهير الماهر فِي الفقه والحديث ومعرفة طرق الاجتهاد، تقي الدين.
ولد بطريق مكة فِي المحرم سنة خمس وعشرين وستمائة، ويقال إن والده طاف بِهِ عَلَى يديه ودعا لَهُ بالعِلم والعمل.
ونشأ مع أبيه بقوص، وتفقه عَلَى مذهب مالك ومَهَر فِيهِ ودرس بقوص، ثُمَّ تَمذهب للشافعي، ورحل قاصداً ابن عبد السلام ولازمه، وبَرَعَ فِي علم الحديث وأصول الفقه حَتَّى فاق الأقران.
وصنّف التصانيف المشهورة، وَلَهُ النظم الرائق، والدين المتين، والأحكام المسدّدة، والنوادر العجيبة، ومن أعظم مَا حكى عنه أنه كَانَ يقول: ما تكلمت بكلمة ولا فعلتُ فعلاً إِلاَّ أعددتُ لَهُ جواباً بَيْنَ يدي الله تعالى، وَكَانَ الَّذِي أشار بِهِ عَلَى المنصور لاجين الضياء العبدي. فقال: أدلك عَلَى محمد بن إدريس الشافعي، وسفيان الثوري، وإبراهيم بن ادهم؟.
وولي القضاء بعد موت التقي عبد الرحمن ابن بنت الأعز ثامن عشر جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وستمائة، فباشره إِلَى أن مات فِي سنة اثنتين وسبعمائة. وَكَانَ قَدْ عزل نفسه يوم الأربعاء سادس ربيع الآخر سنة ست وتسعين ثُمَّ أعيد فِي اليوم الثاني.

قرأتُ بخط صاحبنا الشيخ جمال الدين بن عبد الله بن أحمد البشبيشي الشاهد: أخبرني قاضي القضاة بدر الدين محمد بن أبي البقاء، عن والده، عن أبي حيّان النحوي، أن ابن دقيق العيد شرح الإِلمام وأنه جاء فِي نحو ستين سِفْراً أَوْ أكثر من ذَلِكَ، وأن بعض المالكية حَقَدَ عَلَيْهِ انتقاله عن مذهب مالك وحسد الشافعية كيْفَ صار منهم، وأنه ارتَصد غيبة الشيخ فصادف فرصَة فأخذ الكتاب فوضعه فِي فسقية الصالحية، فلما فَقَدَ الشيخُ الكتابَ تألم، وأصبح الناس فرأوا ماء الفسقية أسود فبحثوا عن ذَلِكَ فوجدوا الكتابَ داخل الفسقية، وأن القطعة الموجودة بأيدي الناس كَانَ بعض الطلبة انتسخها، انتهى.
وفي سياق هَذِهِ القصة مُجَازَفَات كثيرة، وَقَدْ كنت أسمع شيخنا حافظ العصر أبا الفضل ابن الحسين يحكى أن الشيخ أكمل الإِمام فجاء فِي عشرين مجلداً، وأن بعض المحدثين حسده عَلَيْهِ فَتَرَقَّبَ وفاته فأخذ الكتاب فأعدَمه. وَكَانَ شيخنا فِي بعض الحيان يسمى الَّذِي اخذ الكتاب وهو من الحنابلة فلا أُوثر تسميته، لأن شيخنا كَانَ يجزم بذلك.
وصاحبنا جمال الدين لَمْ يفرق بَيْنَ الإِمام وبين شرح الإِلمام، كأنه كغيره من الطلبة يظن أن الإِمام وَلَيْسَ كذلك، فالإِمام كتاب فِي أحاديث الأحكام عَلَى الأبواب، وَكَانَ استمداد الإِلمام منه، والموجود منه قطعة نحو الربع، لكنها مفرقة، وأكثرها فِي ربع العبادات وَلَيْسَ فِيهَا شيء من الاستنباط وإنما يذكر علل الحديث كثيراً. وأما شرح الإِلمام فهو الَّذِي يوجد منه قطعة من أول الطهارة.
قال الحافظ قطب الدين شيخ شيوخنا فِي حقه: قيل إنه لَمْ يتكلم عَلَى الحديث من عهد الصحابة إِلَى زماننا مثل ابن دقيق العيد، ومن أراد معرفة ذَلِكَ فعليه بالنظر فِي القطعة الَّتِي شرح فِيهَا الإِلمام، فإن من جملة مَا فِيهَا أنه أورد حديث البَراء بن عازِب أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع ونهانا عن سبع واشتمل عَلَى أربعمائة فائدة.
ومن تصانيفه شرح العُمدة أملاه عَلَى إسماعيل ابن الأثير لما قرأ عَلَيْهِ العمدة، وهو جم الفوائد. وشرح مقدمة المطرزي فِي أصول الفقه. وعمل الاقتراح فِي بيان الاصطلاح. وخرّج الأربعين المسلسلة بأهل العلم. وشرح مختصر ابن الحاجب الأصلي والفرعي وَلَمْ يكملهما.
وذكر القطب أنه جمع أسماء كل من وصف فِي الأسانيد بالحفظ، وَكَانَتْ ولايته فِي العشرين من جمادى الأولى سنة خمس وتسعين وسِنُّه يومئذ سبعون سنة. وباشر القضاء بنزاهة وعفة وقيام فِي الحق وصلابة فِي الحكم.
وَكَانَ إذَا تخاصم إِلَيْهِ أحد من أهل الدولة بالغ فِي التشدد والتثبت، فإن سمع مَا يكرهه عَزَلَ نفسه، فعل ذَلِكَ مراراً، وَلَمْ يَدخل عَلَيْهِ شيء فيما يتعلق بالقضاء، إِلاَّ أن جماعة من حاشيته كادوه فِي توليته الحكم لمن لا يصلح.
وكانوا إذَا اعتنوا بشخص عرفوه موضع الدرس فإذا حضر مع الشيخ أخذ فِي الكلام معه فيعجبه ويصفه بالفضل ويسأل عنه فيصفونه بزيادة عَلَى ذَلِكَ، ولكنه يحتاج إِلَى مَا يعينه عَلَى القيام بأوده، ويسألونه لَهُ فِي جهة معينة فيوليه.
وَكَانَ يحب أهل العلم ويكرمهم ويتفضل عليهم، وَلَمْ يكن للدنيا عنده قيمة، وَكَانَ مغري بتحصيل الكتب حَتَّى كَانَ قبل أن يلي القضاء يركبه الدَّين بسبب ذَلِكَ. ويقال إنه اشترى كتباً من تَرِكَة ليتيم فطالَبه أمين الحكم فلم يكن معه مَا يدفعه لَهُ، فأحضر مجلس القاضي بدر الدين ابن جماعة وادعى عَلَيْهِ، فعرّف البدر بحاله، فلاَمَه عَلَى الاستدانة والابتياع وَلَيْسَ عنده مَا يوفى بِهِ، فاعتذر بمحبة الكتب، فتوسّط شخص بينه وبين أمين الحكم حَتَّى أحاله بمعلوم الكاملية. وعاب الناس عَلَى القاضي بدر الدين لكونه سمع هَذِهِ الدعوى وَلَمْ يوف الثمن عن الشيخ.
وكان كثير الورع والمحاسبة لنفسه حَتَّى قال التاج الدِّشناويّ: خلوتُ بِهِ مرة، فقال لي: فزتَ برؤية الشيخ زكي الدين المنذري؟ فقلت لَهُ: وبرؤيتك. فقال: كَانَ الشيخ زكيُّ الدين أديَنَ مِنِّي وسكتَ ساعة ثُمَّ قال: غير أني أعلم منه.

وانتزع فِي أيام ولايته كثيراً من الأوقاف كَانَتْ أخرجت إقطاعات، وهو أول من غيّر خِلَع القضاة من الحرير إِلَى الصوف، وَكَانَ يرتب مع الأوصياء من يباشر أحوالهم ويطالعه بِهَا، وكان يقول ضابط مَا يطلب مني أن يجوز شرعاً ثُمَّ لا أبخل، وَكَانَ يتكلم عَلَى الخواطر ويخبر بأمور ستأتي فيقع كما قال وجُرّب لَهُ ... .
نبذة من نظمه أخبرنا أبو الحسن محمد بن الحسن إذناً مشافهة عن الحافظ أبي الفتح اليَعْمُري، أنشدنا قاضي المسلمين أبو الفتح محمد بن المجد علي بن وهب بن مطيع القشيري لنفسه يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
يَا سائراً نَحو الحجاز مُشمراً ... اجْهَدْ فَدَيْتك فِي المَسير وَفِي السُّرىَ
وتَدَرَّعَ الصبرَ الجميلَ ولا تكُنْ ... فِي مطلب المَجْدِ الأثيل مُقَصرَا
اقصدْ إِلَى حَيْثُ المكارم والنّدى ... يلقاكَ وجههما مضيئاً مُقمرا
وإذا سهرتَ الليلَ فِي طلب العُلا ... فحذار ثُمَّ حَذَار من خدع الكَرَى
إنْ كَلّت النجبُ الركائب تارة ... فأعِد لَهَا ذِكر الحبيب مُكررا
وابعث لَهَا سيَر المدام فإنها ... بالذكر لا تنفك حَتَّى تَسْكَرَا
وإذا اختفت طرق المسير وظَلَّ مِنْ ... أشكالها نظر البصير محيرا
فالقصد حَيْثُ النور يشرق ساطعاً ... والطرف حَيْثُ ترى الثَّرَى مُتعطرا
قِفْ بالمنازل والمَناهل من لَدُنْ ... وادي قباءَ إِلَى حِمى أمّ القُرى
وَتَوَخَّ آثار النَّبي فضَع بِهَا ... متشرفاً خَدَّيك فِي عَفْرِ الثَّرَى
وإذا رأيتَ مَهَابط الوحي الَّتِي ... نشرت عَلَى الآفاق نوراً أنورا
فاعلم بأنك مَا رأيتَ شبيهها ... مذ كنتَ فِي ماضي الزمان ولا يرى
شرفاً لأمكنة تنزل بينها ... جبريل عن رب السماء مُخَبِّرا
فتأثَّرت عنه بأحسن بهجة ... أفدي الجمالَ مؤثَّرَا ومُؤَثِّرا
فتردد المختارُ بَيْنَ بعيدها ... وقريبها متبدياً متحضرا
فَتَبرجَت بجماله وتَشَرَّفْتَ ... بجلاله ورأت مقاماً أكْبَرا
واستودعت من سِرّه ما كاد أن ... يبدي لَنَا معنى الكَمال مُصَوَّرَا
الله أكبر مَا أعزَّ جنابَه ... وأجلَّ رفْعَتَه عَلَى كل الوَرَى
ولقد أقول إِذَا الكواكب أَشْرَقَتْ ... وترفعتْ فِي منتهى شرف الذُّرَى
لا نَفخرنْ زهرٌ فإنّ محمداً ... أعلى عُلاً منها وأشرف جَوهرا
أحيى الله ببعثه سُنَن الْهُدَى ... وأعاد من عهد النبوة أَعْصُرَا
وأتى بِهِ والناس فِي ظُلَمِ الْعَمَى ... مَوْتَى المعارف والقلوب فأنشرا
نلنا بِهِ مَا قَدْ رأينا مِن عُلاً ... مع مَا نؤمل فِي القيامة أن نرى
فبه الملاذُ تقدُّماً وتأخرا ... وَلَهُ الجميل مُحقَّقاً ومقَرَّرَا
لله مَا فِيهِ من الشرف الَّذِي ... أعيا عَلَى حُسَّابه أن يَحْصَرَا
فسعادة أزلية سبقت وَمَا ... هو ثابت أزَلاً فلن يَتَغَيرا
وسيادة بارَى الأنامَ بِهَا ولا ... سيما إِذَا قدموا عَلَيْهَا المحشرا
وَزَهَادة مَا استصلحت شيئاً من الدن ... يا لأن يُصغِي إِلَيْهِ وينظرا
وجلالة فِي الخُلْق حَتَّى أنَّه ... أثنى عَلَيْهَا من بَرَاهُ وَصَوَّرَا
وطهارة فِي الخلق حَتَّى أنَّه ... يندَى مع الأعراف مِسكاً أذْفَرَا
وتجاوزٌ يُنسى العيوب تكرماً ... ويغادر الذنب الكبير مُحقرا
ومواهب يأتي لَهَا التَّأْمِيلُ مُسْت ... قصَى فيرجع عندها مُستقصِرا

ومَهَابة مَلأَ القلوب بَهاؤها ... واستنزلتْ كِبْرَ الملوك مصغَّرا
ولربما كفتِ القتال فلو غدت ... للَّيْثِ نال بِهَا الفريسة مُخْدَرَا
وبديع لطف شمائل من دونها ... ماء الغَمامة والنسيم إِذَا سَرَى
مع سطوة لله فِي يوم الوَغَى ... تَعنو لشدّة بأسها أسْدُ الشَّرَى
متعادل الطرفين فِي طرق العلا ... عدلاً وحاشاه بأن يَسْتَجْوِرَا
لا يُنكرُ المعروفُ من أخلاقه ... فإذا استُبيح حِمَى الإِلهِ تنكّرا
عضبا لو أن البيض تدرك كنهه ... دانت لَهَا رعباً فسالَت أنهرا
وقي لقرب جَنَابه وصحابه ... شوقاً يجل يَسيره أن يُذكرا
أفنى كنوز الصبر من إسرافه ... وجرى عَلَى الأحشاء منه مَا جرى
إن لاح صُبح كَانَ وجداً مقلقاً ... أَوْ جنَّ ليلٌ كَانَ هَمّاً مسهرا
لا وَاخَذَ الله الزمانَ فإنه ... أعني مرداي منه أن يتيسرا
أرجو وصال أحبتي فكأنما ... أرجو المحال وجُودَه المتعذّرا
وأسير نحو مقامهم حَتَّى إِذَا ... شارفتُ رُؤْيته رجعتُ القَهْقَرا
متلوناً فِي الحال والمتغير الأحْوِ ... ال يلقى شربه متغيرا
يَا خاتم الرسل الكرام نداءَ مَنْ ... وافى إِلَيْكَ مديحه مستعذرا
أنا ضيفك المدعو يوم معادنا ال ... مرجوّ فاجعل منْ قرايَ الكوثرا
وبهذا السند إِلَى الإِمام القشيري قال يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم:
شرف المصطفى رفيعٌ عمادُهْ ... لَيْسَ يحصى لكثرة تعدادهْ
لاَحَ للمُهتدين منه سِراج ... بيد الله قِدْحُه وزنادهْ
وبدا للغاوين سيف انتقام ... مستحيل عليهم إغمادهْ
بعثه كل خير وميلا ... دُ الهدي والتقى معاً ميلادهْ
فالمَعالي لِذاتِه وعلوم الغيْ ... ب لذاتُه ومنها مِدادهْ
وَلَهُ فِي صفاته ومزايا ... هُ كمالٌ تَشْجَى بِهِ حسَّادهْ
لا ينال العدو منها ولا يق ... دَحُ فها عُتُوُّهُ وعتَادُهْ
بهرت كل من رآها كمالاً ... وأقرت بفضلها أضدادهْ
ثابت الجأْشِ طاهر النفس ... سمح الطبع فِي البذل الجزيل جوادهْ
حامل الكَلِّ وافر الفضل وافي ال ... عَدْلِ هَيِّن المرام سَهْلٌ قيادهْ
أبطحيّ لَهُ من النسب الوا ... فِرِ فَخْرٌ تنمَّى بِهِ أجدادهْ
وَلَهُ فَوْقَ فخرهم من مساعيه طري ... قٌ لا يدعيه تِلادُهْ
وبه قَدْ تدارك الله أهل ال ... أرض لما طغى عليهم عبادهْ
وغدا فيهمُ لإِبليس سوق ... قائم بينهم بعيد كسادهْ
وضلال لو أن لاح للعَيْ ... نِ غَطى وجه الصباح سوادهْ
فأتاهم نور مبين ودين ... واضح حقه جلى سدادهْ
جاء من عند ربه بكتاب ... محكم الرَّصف كامل إرشادهْ
هو غَض عَلَى الزمان لذيذٌ ... درسُهُ لا يمله تردادهْ
أعجز العالمين طرّاً ومن غا ... لَبَ بحراً أودت بِهِ أطوادهْ
سخِر الكون للرسول فأبدى ... صامت نطقه وحيا جمادهْ
وَلَهُ الجذع حنَّ لما شجاه ... بعد قرب المزار منه بعادهْ
وأجاب استدعاه الشجر المنقا ... د طوعاً لما أريد انقِيادهْ
وأتى بانشقاق بدر الدياجي ... خبر عنه ثابت إسنادهْ

كثرت معجزات أحمد حَتَّى ... صار خَرْق العادات فِيهَا اعتيادهْ
هي كالدر فِي الغنا إن تؤلف كَا ... نَ فضلاً أوْلا اكتفت آحادهْ
ثُمَّ لو لَمْ يكن لكان دليلاً ... واضحاً حسن شرعه واعتقادهْ
ويقيناً بالله حقّاً فلا تلْ ... قاه إِلاَّ عَلَى الإِله اعتمادهْ
وعلوم لَمْ يدرها قومه قبْ ... ل وحُكْمٌ لا تقتضيه بلادهْ
وعباداته الَّتِي لَمْ يَحُل عنها ... ملالاً وطال فِيهَا اجتهادُهْ
سعدتَ منه أنْجُمُ بالصُّحْ ... بَة لَمّا اشتكى الفراق وسادُهْ
تَعَب للجسوم يبْدِيه اللَّ ... ه من راحة المعاد مرادُهْ
يَا رسول المليك دعوة من ... زاد بع شوقه وصح ودادُهْ
لَكَ أشكو حالاً من الدين والدن ... يا شديد غلوه واقتصادهْ
هو حَدّ بَيْنَ السرور وبَيْنِي ... كدَّرَ العيش عكْسُه واطرادُهْ
فعليك السلام من ذي اشتياق ... أنت فِي الحشر كنزه وعتادهْ
وبه إِلَيْهِ مخمس يشكو حاله:
ذَرُوا فِي السرى نحو الجناب الممنع ... لذيذ الكرى واجفوا لَهُ كل مَضْجَعِ
وأهدوا إِذَا جئتم إِلَى خير مربع ... تحية مُضْنىً هائم القلب موجعِ
سريع إِلَى داعي الصَّبابة طيِّع
يقوم بأحكام الهوى ويُقيمها ... فكم ليلة قَدْ نازلته همومها
فسامرها حَتَّى تولَّتْ نجومُها ... لَهُ فكرة فيمن يحب نديمها
وَطَرْفٌ إِلَى اللقيا كثير التطلُّعِ
وكم ذاق فِي أحواله طعم محنة ... وكم عارضته من مواقف فتنة
وكم أنّةٍ يأتي بِهَا بعد أنِّةٍ ... تَنِمُّ عَلَى سرٍّ لَهُ فِي أَكِنَّة
وتخبر عن قلب لَهُ متقطع
نعى صَبْرَه شَوْقٌ أقام ملازماً ... وحب يحاشى أن يطيع اللوائما
وجفن ترى أن لا يرى الدهر نائماً ... وعقل ثوى فِي سكرة الحب دائما
وأقسم أنْ لا يَسْتَفِيقَ ولا يَعي
أقام عَلَى بُعد المزار متيماً ... وأبكاه بَرْق بالحجاز تبسما
وشوّقه أحبابه نظرُ الحمى ... دعوه لأمر دونه تقطر الدَّما
فيا وَيحَ نفس الصب مَاذَا لَهُ دُعي
لَهُ عند ذكر المنحني سَفح عَبرة ... وبين الرجا والخوف موقف عبرة
فحيناً يوافيه النعيم بنظرة ... وحيناً ترى فِي قلبه نار حسرة
يجيء إِلَيْهِ الموت من كل مَوْضِعِ
سلامٌ عَلَى صفو الحياة وطيبها ... إِذَا لَمْ تَفُزعَيْني بلقيا حبيبها
وَلَمْ تحظَ من إقباله بنصيبها ... ولا استعطفته عبرتي بصبيبها
ولا وقعت شكواي منه بموقع
موكل طرفي بالسها المؤرق ... ومجرى دموعي كالحيا المتدفق
وملهب وجد فِي فؤادي محرق ... بعينك مَا يلقى الفؤاد وَمَا لقي
وعندك مَا تحوي ونخفيه أضلعي
وبه لَهُ:
تمنيت أن الشيب عاجل لمتى ... وقرب مني فِي صباي مزاره
لآخذَ من عصر الشباب نشاطه ... وآخذ من عصر المشيب وقاره
وبه لَهُ:
تهيم نفسي طرباً عندما ... أستلمحُ البرقَ الحجازيا
ويستخف الوجد عقلي وَقَدْ ... لبست أثواب الحجى زِيّا
يَا هل أقضّي حاجتي من منىً ... وأنحر البزلَ المهاريَّا
وأرتوي من زمزم فهي لي ... ألذ من ريق المهاريا
وبه لَهُ:
يَا مُنْيتي أَمَلي ببابِكَ واقِفٌ ... والجُودُ يَأْتِي أن يكونَ مُضَاعَا
أشكو إِلَيْكَ صبابةً قَدْ أَتْرَعَتْ ... لي فِي الهوى كأسَ النَّوى إتراعَا
ونِزَاعَ شوق لَمْ تزل أيدي النوى ... تَنْمِي بِهِ حَتَّى استحال نِزاعا
وبه لَهُ:

عطيّتُهُ إِذَا أعطى سرور ... فإن سلب الَّذِي أعطى أثابا
فأي النعيمين أَعُدُّ فضلاً ... وأحمد عند عقباها إِيَابَا
أنِعمته الَّتِي كَانَتْ سروراً ... أم الأخرى الَّتِي جلّت ثوابا
وله:
سحاب فكري لا يزال هامياً ... وليل همي لا أراه راحلا
قَدْ أتعبَتْني همتي وفطنتي ... فليتني كنت مهيناً جاهلاً
وله:
أفكر فِي حالي وقرب مَنيتي ... وسَيْري حثيثاً فِي مصيري إِلَى القبرِ
فيُنشئ لي فكري سَحَائِبَ للأسى ... تسحُّ هموماً دونها وابِلُ القَطْرِ
إِلَى الله أشكو من وجودي فإنني ... تعبتُ بِهِ مذ كنتُ في مَبْدأِ العمرِ
نروح ونغدو للمنايا فجائعٌ ... تكدره والموت خاتمة الأمر
محمد بن قاسم الصقلي. تقدم فِي محمد بن أحمد بن قاسم.
محمد بن أبي الليث الحارث بن شَدَّاد الإِيادي الخوارزمي الحنفي يكنى أبا بكر.
قال ابن يونس: ويقال إن أصله من بلخ ولد سنة ... وتفقه عَلَى مذهب الكوفيين ثُمَّ دخل مصر فيما ذكر أبو عمر الكندي قبل أن يلي القضاء فِي سنة خمس ومائتين، فأقام بِهَا ثُمَّ قدم أبو الوزير صاحب الخراج ومعه عهد من قبل المعتصم فِي ربيع الأخر سنة ست وعشرين ومائتين وَكَانَ بفلسطين قاضٍ يقال لَهُ محمد بن الحارث بن النعمان الإِيادي، فكانا يتجاذبان مَا يرد من العراق إِلَى محمد بن الحارث القاضي، فانتسب محمد قاضي مصر لكنية أبيه فصار يقال لَهُ محمد بن أبي الليث لذلك. قال أبو عمر: كَانَ أول مَا صنع ابن أبي الليث لما ولي أن أرسل منادياً ينادي: برِئت الذِّمة ممن كَانَ فِي يده شيء من مال يتيم أَوْ غائب إن لَمْ يحضره. فتسارع الناس إِلَى حمل مَا بأيديهم فأدخلوه ببيت المال، وأقام فِي قبض ذَلِكَ رجلاً يقال لَهُ حمدون بن عمر، ثُمَّ باشر الأحباس بنفسه ودونها بخطه وقضى فِي كثير منها.
وكان يقول: لقد هممت أن أضع يدي عَلَى كل حُبس بمصر حَتَّى الأهلية احتياطاً ثُمَّ لَمْ يفعل ذلك، فقيل إن الحارث بن مسكين كَانَ يقول: ليته فعل.
ودَسّ ابنُ الليث من ادعى عَلَى هارون بن عبد الله الَّذِي كَانَ قاضياً قبله أنه استهلك من مال بيت المال، فأمر بإحضاره مجلسه، ونُوظِر فِي ذَلِكَ مرة بعد أخرى إِلَى أن ثبت عَلَيْهِ مَا وقع عليه. وَكَانَ سبب ذَلِكَ أنه كَانَ يدفع المفتاح إِلَى مَن يثق بِهِ فحاز منه مالاً كثيراً. وَكَانَ ابن أبي الليث يمتهن هارون ويجلسه مع الخصوم بَيْنَ يديه إِلَى أن ورد عَلَيْهِ كتاب من العراق بعدم التعرض لَهُ فكف عنه.
وقال أبو عُمر: أخبرني ابن قُدَيد أن الواثق لما ولِي الخلافة ورد كتابه بواسطة ابن أبي دُواد على ابن أبي الليث بأن يمتحن الناس بخلق القرآن، فشدّد فِي ذَلِكَ وَلَمْ يترك فقيهاً ولا متحدثاً ولا مؤذناً حَتَّى أخذه بالمحنة، وملأ السجون ممّن لَمْ يجب، وهرب كثير من الناس، وأمر بأن يكتب عَلَى المساجد لا إله إِلاَّ الله رب القرآن المخلوق. ومنع الفقهاء من أصحاب مالك من الجلوس فِي المسجد الجامع.
وقال نصر بن مَرْزُوق: كنت فِي المسجد فسمعت صُراخاً ورأيت الناس قَدْ ماجوا، فنظرت فإذا هارون بن سعيد الأيلي وطَيْلَسانه تَحْتَ عضُده وعمامته فِي عنقه، ومَطَر غلامُ ابن أبي الليث يسوقه بعمامته وهارون ينادي بأعلى صوته: القرآن مخلوق. ثُمَّ أخرجه من المسجد فطوف بِهِ وهو عَلَى تِلْكَ الصورة.
وكذلك صنع بمحمد بن عبد الله بن عبد الحكم، هجم عَلَيْهِ مَطَر فأخذ برِجله فوثَب محمد فأراد مطر أن يأخذ قَلنْسُوَتَه فبادر محمد فأخذها فجعلها فِي كُمّه، ثُمَّ أقامه مطر فطوف بِهِ ينادي بخلق القرآن فمضى عَلَى طائفة المعتزلة فقالوا لَهُ: الحمد لله الَّذِي هَدَاك يَا أبا عبد الله. وهرب أحمد بن صالح من ابن أبي الليث إِلَى اليمن ولزم يوسف بن أبي طَيْبه منزله فلم يظهر. وكذلك محمد بن سالم، ثُمَّ ظفر بِهِ فحمله إِلَى العراق. وهرب ذو النون الإِخْميمي ثُمَّ جاء فوضع يده فِي يده وأجاب.

قال أبو عُمر: كَانَ أحمد بن أبي أمية أوصى إِلَى يونس بن عبد الأعلى وابن الغَمر وغيرهما، ومات ولك يخلف إِلاَّ بنتاً، فوضع الأوصياء أيديهم عَلَى المال فقضى ابن الغَمر عن نفسه ديناً كَانَ عَلَيْهِ من ذَلِكَ المال، فطولب يونس بالمال لما ولي محمد بن أبي الليث فحمل مَا كَانَ حمل إليه منه، فبقيت بقايا فطولب بِهَا فشهد عَلَيْهِ اثنان أن المال حمل إِلَيْهِ، فأمر ابن أبي الليث بسجنه عدة سنين إِلَى أن حضر قاصد المتوكل، فأمر برفع المحنة، وانكشف عن محمد بن أبي الليث، فقيل لَهُ إن يونس بن عبد الأعلى يشهد عَلَيْهِ وهو فِي سجنه فأحضره وسأله عن محمد بن أبي الليث فقال: مَا علمت إِلاَّ خيراً، فقيل لَهُ: فإنه سجنك عدة سنين! فقال: لَيْسَ الذنب لَهُ. الذنب للَّذِي شهد عليّ فأطلقه القاصد.
ويقال إنه أقام فِي سجنه سبع سنين. فلما قدم يزيد التركي بعد ذَلِكَ من قبل المتوكل لاستخراج أموال الجروي أخرج ابن أبي الليث من السجن، وَكَانَ سجن لما عزل وأمره أن يحكم عَلَى بني عبد الحكم عليهم وحكم ببراءة يونس بن عبد الأعلى مما كَانَ رمى بِهِ شكراً عَلَى كلامه الماضي فِي حقه.
وقال نصر بن مرزوق كَانَ سعيد بن زياد المعروف بالقَطاس من أهل الدين والفضل، وَكَانَ شهد عند لَهِيعَةَ بن عيسى ومن بعده، وَلَهُ حلقة فِي المسجد، فلما ولي ابن أبي الليث بلغه أنه يذكره بالسوء ويرميه بالبدعة ويدعو عَلَيْهِ، فأحضره وأنكر عَلَيْهِ مَا بلغه عنه فجَحَدَ فصرفه، ثُمَّ بلغه أنه عاود ذَلِكَ.
وذكر لَهُ شخص أن القطاس لَمْ يعتق، فأقام شهوداً عند ابن أبي الليث بذلك، فأحضره وأقامه للناس، فأتى رجل يقال لَهُ ابن الأبرش فادعى رقبته وأقام شهوداً فشهدوا بذلك. فحبسه القاضي خمسة أيام، ثُمَّ حكم بشهادتهم، وأمر بِهِ فنودي عَلَيْهِ فبلغ ثمنه ديناراً، فاشتراه ابن أبي الليث ودفع الدينار لابن الأبرش، وأشهد عَلَيْهِ أنه أعتقه.
ونقل الطحاوي عن يحيى بن عثمان بن صالح أمه حضر ذَلِكَ. قال: وسمعت محمد بن العباس يقول: مَا علمت أن أحداً نَزَلَ بِهِ مَا نزل بالقطاس.
وَكَانَ ابن قُدَيْد يقول: أقبح مَا أتى بِهِ أهل المسجد شهادتهم عَلَى القطاس حَتَّى باعوه.
قال الطحاوي: وقلت لمحمد بن العباس: مَا كَانَ حال الذين شهدوا عَلَيْهِ، قال: لَمْ يكونوا عدولاً، وإنما رَدّ ابن أبي الليث أمرهم إِلَى رجلين فعدلاهم فحكم عَلَيْهِ بالرق.
قال الطحاوي: وأخبرني غير واحد من أهل الثقة أن الشهادة المذكورة كَانَتْ زُوراً.
وقرأت فِي بعض التواريخ أن محمد بن أبي الليث أولاً كَانَ ينكر القول بخلق القرآن حَتَّى كتب إِلَى ابن أبي دُواد ينكر عَلَيْهِ ذَلِكَ ويقول فِي كتابه: لقد أعظمت عَلَى الله الفِرْيَة. هل كَانَ الخلفاء الراشدون يقولون مَا قلت أَوْ يفعلون مَا فعلت؟ الويل لَكَ من ديان يوم الدين. ويقال إنه لما عزل رجل ليضربه فعجز فقال ابن أبي الليث: مَا كَانَ الله ليسلط أيدي الظالمين عَلَى أجساد تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
قرأت عَلَى أم الحسن التنوخية، عن سليمان بن حمزة أنبأنا جعفر بن علي أنبأنا السلفي أنبأنا علي بن الحسين الموازيني، عن محمد بن سلامة القضاعي قال قرأت عَلَى محمد بن أحمد بن شاكر أن الحسن بن رشيق حدثه، حدثنا أحمد بن سعدون بن عباد المروزي قال سمعت أبا إبراهيم المزني يقول قال لي أبو بكر محمد بن أبي الليث القاضي: قطع العادة عداوة مستفادة.
وقال يحيى بن عثمان بن صالح: كَانَ يحيى بن زكريَّا مولى كندة مقبولاً عند القضاة وشهد عند ابن أبي الليث زماناً ثُمَّ أوقفه. وَكَانَ يجلس فِي الجامع فيرجف بعزل ابن أبي الليث ويشنع بذلك، فبلغ ذَلِكَ ابن أبي الليث فنهاه فعاد فأرسل إِلَيْهِ فحبسه زماناً.
وقال كَهْمَس بن مَعْمَر: لما أمر ابن أبي الليث بطَرح القلانس الطوال لَمْ يستمر عَلَى لباسها إِلاَّ محمد بن رُمح بن المهاجر فلم يعارضه محمد بن أبي الليث.
وقال إسماعيل بن إسحاق بن إبراهيم بن تَميم توقّف النيل فاستسقى أهل مصر فحضر ابن أبي الليث مع الناس وهو قاضٍ، فوثب بِهِ العامة فأخذوا قلنسوته، فلعب بِهَا بعض الصبيان. وَكَانَ ذلك بعدما فعل بقلانس الشيوخ بثمانية أيام.

وقال ابن قديد: قدم الحارث بن مسكين بعد أن أقام بالعراق خمس عشرة سنة، فاتفق موت حمدون بن عمر بن إياس وهو ابن أخت محمد بن أبي الليث، فحضر الحارث بن مسكين جنازته، وأطال الجلوس عَلَى باب داره، فشكر لَهُ ذَلِكَ ابن أبي الليث، فأراد أصحاب ابن أبي الليث بعد ذَلِكَ أن يمنحوا الحارث فكفهم عنه ابن أبي الليث وقال لهم: أليس كَانَ بالعراق؟ قالوا: بلى. قال: فإذا كَانَ السلطان هناك كف عنه! فما لَنَا وَلَهُ فسكتوا عنه.
وقال يحيى بن عثمان: قدم قوصرة واسمه يعقوب بن إبراهيم من العراق عَلَى البريد فِي ربيع الأول سنة خمس وثلاثين، وقدم معه حسن الخادم المعروف بعَرَق الموت. فطالبوا بني عبد الحكم بمال عَلَى عبد العزيز الجروي، فأحضر بنو عبد الحكم براءة بينهم وبين الجروي فمال نجوهم قوصرة وتحامل عليهم ابن أبي الليث، وكتب إِلَى العراق بأن قوصرة مَال معهم، فجاء الأمر بعزل قوصرة عن البريد فخرج عن مصر، فلما كَانَ ببعض الطريق ورد عَلَيْهِ كتاب يأمره بالرجوع والكشف عَلَى محمد بن أبي الليث، فرجع وكشف عنه وبالغ فِي أمره وكاتب المتوكل بما صح من أمره، فورد عَلَيْهِ كتاب المتوكل بحبس ابن أبي الليث واستصفاء ماله فحبس، وحبس أولاده وأعوانه.
ووثب أهل مصر عَلَى مجلس ابن أبي الليث فرموا حُصُره وغسلوا موضعه بالماء وذلك فِي شعبان سنة خمس وثلاثين ومائتين.
ثم ورد كتاب المتوكل يأمر بلعن ابن أبي الليث عَلَى المنبر فلعن، وضجت العامة بلعنه وبقي بالسجن إِلَى شهر ربيع الآخر سنة سبع وثلاثين ومائتين فورد كتاب المتوكل صُحبة عبد الله بن عبد العزيز الجروي بمطالبة بني عبد الحكم بالمال وأذن لابن أبي الليث بالحكم عليهم فأخرج من السجن فحكم عَلَى زكرياء كاتب العُمريّ بمائة ألف دينار. واشتد الأمر عَلَى بَني عبد الحكم حَتَّى مات عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم فِي العذاب.
ثم ورد كتاب المتوكل بإطلاق بني عبد الحكم وردّ أموالهم عليهم وبأن يطاف بابن أبي الليث على حمار بإكاف. فطيف بِهِ فِي جميع الفسطاط وذلك فِي رمضان سنة سبع وثلاثين ومائتين ولم يزل فِي السجن إِلَى ذي القعدة سنة إحدى وأربعين ومائتين.
قال يحيى بن عثمان بن صالح المصري: كَانَ زي أهل مصر وجمال شيوخهم وأهل الفقه والعدالة منهم لبس القلانس الطوال، وكانوا يبالغون فِيهَا، فأمرهم ابن أبي الليث بتركها ومنعهم من لبسها وأن يتشبهوا بلباس القاضي وزيه، فامتنعوا. فجلس فِي مجلس حكمه فِي المسجد وَقَد اجتمع أولئك الشيوخ، فأقبل عبد الغني ومطر جميعاً فضربا رؤوس الشيوخ حَتَّى ألقوا قلانسهم.
قال ابن أبي الحَديد: حدثني عُتبة بن بِسطام قال رأيت قلانس الشيوخ يومئذ فِي أيدي الصبيان والرعاع يعبون بِهَا، وكانوا بعد ذَلِكَ لا يدخلون إِلَى ابن أبي الليث ولا يحضرون مجلسه بقلنسوة.
ولما عزل ابن أبي الليث استمر كثير من الشيوخ عَلَى ترك لبس القلانس. واتفق أن أهل مصر خرجوا إِلَى الاستسقاء فخرج ابن أبي الليث فبصُر بِهِ بعض المصريين فوثبوا بِهِ ورموا قلنسوته، فرأيت بعد ذَلِكَ يلعب بِهَا بعض الصبيان. وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ وبيم مَا فعله بقلانس الشيوخ ثمانية أيام.
ولما أذن المتوكل لابن أبي الليث بالحكم فِي أموال الجروي عَلَى بني عبد الحكم أخرج ابن أبي الليث من السجن، فأمره عبد الواحد بن يحيى أمير نصر أن يحكم فحكم عليهم بألف ألف دينار وأربعة آلاف. وحكم عَلَى زكرياء كاتب العُمَريّ بثمانية آلاف دينار، وذلك لثمان خلون من جمادى الأولى سنة سبع وثلاثين ومائتين.
ومات عبد الحكم بن عبد الله بن عبد الحكم فِي العذاب لأنه كَانَ أَقَرَّ أنه صار إِلَيْهِ من مال الجروي تسعة آلاف دينار، فألزم بحملها، فلم يجد عنده مَا يرد بِهِ، فعذب حَتَّى مات فِي ذَلِكَ.
وذكروا أنه صار لقوصرة صاحب الخبر اثنا عشر ألف دينار، ولابن أبي عون ستة عشر ألف دينار، وعيسى بن صفوان النصراني كاتب قوصرة ستة آلاف دينار وأقرّ محمد بن هلال أن عنده من كال الجروي نيفاً وثلاثين ألف دينار أودعها عنده بنو عبد الحكم.

وقال أبو عمر: أخبرني أحمد بن الحارث بن مسكين، حدثني نصر بن مرزوق، أن ابن أبي الليث لما أذن لَهُ فِي الحكم وضع يده عَلَى مَا وجده فِي بيت المال وهو نحو مائة ألف دينار. وعشرين ألف دينار، فبذرها كلها عطايا وجوائز، ودفع إِلَى كل مَن كَانَ معه فِي الحبس الألف والألفين إِلَى العشرة، حَتَّى قال لي جاري: إنه دخل إِلَيْهِ فقال لَهُ: إنك تكثر الدعاء لَنَا والثناء علينا فخذ من ذَلِكَ المال مَا شئت. قال: فأخذت مَا قدرت عل حمله قال فأرانيه فإذا هو كثير جداً. فقال: مَا استطعت أن أحمل أكثر من هَذَا.
وبعث إِلَى أبي قولة - رجل كَانَ ينادمه فِي أيام قضائه - بثلاثة آلاف دينار فتحدث أبو قولة بها يثنى عَلَيْهِ حَتَّى يبلغه فيزيده. فبعث أمير البلد فأخذها منه.
وقال عُتْبَة بن بسطام سألت ابن أبي الليث عن مذهبه فِي القَدَر فأجاب بجواب أهل السنة، وَلَمْ أسأله عن مذهبه فِي القرآن. وَقَدْ شهد عنده شاهدان فقبلهما. فقال لَهُ رجل أتقبلهما وهما لا يقولان بخلق القرآن؟ فلم يلتفت ابن أبي الليث لقوله، فلعله كَانَ يفعل ذَلِكَ لأجل رضا السلطان.
وقال يحيى بن عثمان: حدثني نوح بن عيسى بن المُنكَدِر، قال: رأيت ابن أبي الليث فِي مجلسه فِي الجامع وهو مشجوج فسألت عن ذَلِكَ فقيل لي: إن شيخاً ينادمه ضربه عَلَيْهِ فشجه.
وقال إبراهيم بن عبد الصمد: دعوته إِلَى وليمة فكان أجودنا شرباً.
وتأخرت وفاة ابن أبي الليث إِلَى سنة خمسين ومائتين فمات فِيهَا حينئذ ببغداد.
وقد مدح الحسين بن عبد السلام الشاعر المصري المعروف بالجمَل محمد بن أبي الليث بقصيدة طويلة ذكر فِيهَا سيرته فيما تقدم فِي المصريين يقول فِيهَا:
ووَليت حُكْمَ المسلمين فَلَمْ تَكُنْ ... بَرِم اللِّقاء ولا بِفَظِّ أَزْوَرِ
ولقد بَجَسْتَ العِلْمَ فِي طُلاَّبِهِ ... وفَجَّرْتَ منه ينابعاً لَمْ تُفْجَرِ
فحميتَ قولَ أبي حنيفة بالهُدَى ... ومحمدٍ واليُوسُفِيِّ الأَذْكَرِ
وفتى أبي ليلى وقَوْلِ قَرِيعِهِمْ ... زُفَرِ القِيَاسِ أَخِي الحَجاجِ الأَنْظَرِ
وَحَطَمْتَ قولَ الشافِعيِّ وصَحْبِهِ ... ومقالة ابن عُلَيَّة لَمْ تُصْحَرِ
أَلْزَمْتَ قولَهم الحضيضَ فلم يجز ... عَرْضَ الحضيضِ فَإِنْ بَدَا لَكَ فَاشْبُرِ
والمالكيةُ بعد ذِكْرٍ شائِعٍ ... أَخْمَلْتَها فَكَأَنَّهَا لَمْ تُذْكَرِ
إِنَّ ابنَ هُرْمُزَ أَوْ ربيعة لا يَرَى ... مَاذَا تقوَّل بالمقال الأَجْوَرِ
كَسَّرْتَه فَهَوَى بِرَأْيِكَ كَسْرَةً ... لَبِثَتْ عَلَى قِدَم المَدَى لَمْ تُجْبَرِ
أَعْطَتْكَ أَلْسِنَةٌ أَتَتْكَ ضَمِيرَها ... وَأَتَتْكَ ألسنةٌ بما لَمْ تُضْمِرِ
وأَطَفْتَ بالأَيّلِيّ يَنْعَق صائِحاً ... فِي كُلِّ مَجْمَعِ مَشْهَدٍ أَوْ مَحْضَرِ
ومحمدُ الحَكَمِيُّ أنت أَطَفْتَهُ ... وأخاه يَنْعَقُ بالصِّياحِ الأَجْهَرِ
كُلٌّ يُنَادِي بالقرآن وخَلْقِه ... فَشَهَرْتَهُم بمقالةٍ لَمْ تُشْهَرِ
لَمْ تَرْضَ أَنْ نَطَقَتْ بِهَا أفواهُهُمْ ... حَتَّى المساجِدُ خَلْفَهُ لَمْ تُنْكِرِ
لما أَرَيْتَهُمُ الرَّدَى مُتَصَوَّراً ... زعموا بأن الله غَيْرُ مُصَوَّرِ
أَحْجَرْتَ يُوسُفَ فِي خِزَانَةِ بَيْتِهِ ... فَطَوَتْه عنك وطَالَمَا لَمْ يحجر
أأخليت من عُمَرِ الزناء مقامه ... وعَمَرْتَ مِنْه مَدَاخِلاً لَمْ تُعْمَرِ
وَكَفَرْنَكَ الأَرْضُونَ حِين سَأَلْتَها ... حَتَّى ابنُ صَالحٍ الْخَبِيثِ الأَكْفَرِ
وَثَوَى ابنُ سَالِمَ خُفْيةً فِي بَيْتِهِ ... ثُمَّ امْتَطَى غَلَسَ الظَّلاَمِ الأَسْتَرِ
فأُتِيَ بِهِ كَفُرَيْجَ أَوْ كَأَبِي النَّدَى ... وَالنَّاسُ بَيْنَ مُهَلِّلٍ وَمُكَبِّرِ
وَكَذَاكَ دَاوُدُ بْنُ حَمّادَ اختَفَى ... بَعْدَ الإِجابَةِ بِالْخَبِيثِ الأَغْدَرِ

أَسَفِي عَلَى شُمْطَانِهِ إِذْ أَفْلَتَتْ ... مِنْ سَائِقٍ يَشْتَالُهَا أَوْ مُجْرِرِ
أَنْ لا أَرَى مَطَراً بنِصْفِهَا ... وَالنِّصْفُ عِنْدَ مُحَلِّقٍ وَمُقَصِّرِ
وَدَعَوْتَ أَصْحَابَ الْوَصَايَا بِالَّذِيقَعَدُوا عَلَيْهِ مِنَ التُّرَاثِ الأَوْفَرِ
فَأَتَاكَ مَنْ خَشِيَ الْعِقَابَ بِمَالِهِ ... وَطَوَى الْوَصِيَّةَ كُلُّ عَوْدٍ مُجْسَرِ
فَجَعَلْتَ أَطْبَاقَ السُّجُونِ بُيُوتَهُمْ ... لا يَأْنَسُونَ بِمُقْبِلٍ أَوْ مُدْبِرِ
وَثَنَيْتَ وَحْدَتَهُم بِيُونُسَ مُؤْنِساً ... وَفَتَى أَبِي عَوْنِ الخَئُونِ الأَكْبَرِ
طَرَحُوا لَهَا الأَمْوَالَ خَلْفَ ظُهُورِهِمْوَلَقُوا السُّجُونَ بِقِعْدَةٍ وَتَصبُّرِ
أَرْضَى لَهُمْ ضَنْكَ السُّجُونِ وَضِيقَها ... وَلَجَاجَ رَأْيكَ فِي الأَلَدِّ الأَفْخَرِ
لَمْ يُشْبِع الثُّلُثَانِ جُوعَ بُطُونِهِمْحَتَّى غَشُوا ثُلُثَ الضَّعِيفِ الأَفْقَرِ
فَكَأَنَّنِي بِكَ قَدْ حَشَوْتَ بِبَعْضِهِمْوَعْرَ السُّجُونِ وُكُلَّ حَبْسٍ أَقْذَرِ
وَبَطَشْتَ بالقَطُّوسِ بَطْشَةَ قَائِمٍ ... بِالحَقِّ غَيْرِ مُقُصِّرٍ وَمُعَذّرِ
مَا زِلْتَ تَفْحَصُ عَنْ أُمُورِ شُهُودِهِفِي السِّرِّ وَالْعَلَنِ الْمُبِينِ الأَظْهَرِ
فَرَبَطْتَهُ فِي رِقِّهِ وَمَنَعَتهُ ... يَطَأُ الْحَرَائِرَ وَهْوَ غَيْرُ مُحَرَّرِ
والآخذوه رأوه فِي أيديهم ... عند ابتياع بطائل مستكبر
هَذَا النِّدَاء وهَذِهِ أُذُنِي لَهُمْ ... إِنْ جاء فِيهِ بِغَيْرِ فَلْسٍ أقشرِ
يُفْتَى وَيَنْظُرُ فِي المُكَاتِبِ دائباً ... وَالْعَبْدُ غَيْرُ مُكاتبٍ وَمُدْبِرِ
وَأخَفْتَ أيام الطِّوَالِ وَأَهْلَهَا ... فَرَمَوْا بِكُلِّ طَوِيلَةٍ لَمْ تُقْصَرِ
مَا زِلْتَ تَأْخُذُهُمْ بِطَرْحِ طِوَالِهِمْوَالْمَشْيِ نَحْوَكَ بالرُّؤُوسِ الحُسَّرِ
حَتَّى تَرَكْتُهم يَرَوْنَ لِبَاسَها ... بَعْدَ الْجَمَالِ خَطِيَّةً لَمْ تُغْفَرِ
يَتَفَزَّعُونَ بِكُلِّ قِطْعَة خِرْقَةٍ ... يَجِدُونَهَا مِنْ أَعْيُنٍ وَمُخَبِّرِ
فَإِذَا خَلاَ بِهِمْ الْمَكانُ مَشَوْا بِهَاوَتَأَبَّطُوهَا فِي الْمَكَانِ الأَعْمَرِ
فَلَئِنْ ذَعَرْتَ طِوَالَهُم فَلَطَالَما ... ذَعَرتْ وَمَنْ بِرُؤَائِهَا لَمْ يَذْعُرِ
كَانُوا إِذَا دَلَفُوا بِهِنَّ لِمِفْضَلٍ ... أَمْضى عَلَيْهِ مِنَ الْوَشِيجِ الأَسْمَرِ
كَمْ مُوسِرٍ أَفْقَرْتَهُ وَمُفَقَّرٍ ... أعْتَيْتَهُ مِنْ بَعْدِ جَهْدٍ مُفْقَرِ
مَا إِنْ عَلَيْكَ لَقِيتَ مِنْهُمْ وَاحِداً ... أَوْفَى الْعَجَاجَ مُدججاً فِي مِغْفَرِ
لًبِسُوا الطِّوَالَ لِكُلِّ يَوْمِ شَهَادَةٍوَلَقُوا القُضَاةَ بِمِشْيَةٍ وَتَبَخْتُرِ
مَا لِي أَرَاهُمْ مُطْرِقِينَ كَأَنَّمَا ... دُمِغَتْ رُؤُوسُهُمُ بِحُمَّى خَيْبَرِ
محمد بن محمد بن أبي بكر بن عيسى بن بدران السَّعْدِيّ الإِخْنَائِيّ تاج الدين أبو عبد الله ابن علم الدين ابن أخي الَّذِي قبله فِي الولاية كَانَ شافعياً عَلَى مذهب أبيه وجده ثُمَّ تحول مالكياً واشتغل بالكتابة وولي نظر الخزانة السلطانية وغيرها، وناب فِي الحكم، ثُمَّ ولي القضاء استقلالاً بعد عمه فِي سنة خمسين وسبعمائة.
وكان وسيماً رئيساً عفيفاً عارفاً بالأحكام، فأقام إِلَى صفر سنة ست وخمسين وسبعمائة فصرف بالسخاوي، فلبث نيفاً وسبعين يوماً ومات، فأعيد التاج فِي سابع جمادى الأولى منها فاستمر إِلَى ثامن صفر سنة ثلاث وستين وسبعمائة ومات قاضياً وقرر أخوه برهان الدين بعده.
محمد بن محمد بن عبد البر بن يحيى بن علي بن تمام السبكي الأنصاري الخزرجي أبو عبد الله، بدر الدين ابن أبي البقاء.

ولد سنة إحدى وأربعين وسبعمائة ونشأ ... وسمع من زينب بنت إسماعيل ابن الخباز، وعبد الرحيم بن أبي اليسر فِي آخرين. وتفقه عَلَى أبيه وغيره من علماء العصر، وفضل فِي عدة فنون وولي قضاء الشافعية بعد قتل الأشرف شعبان فِي ثامن عشر شعبان سنة تسع وسبعين وسبعمائة.
قرأت بخط الشيخ جمال الدين البشبيشي: كَانَ يقرر الدروس أحسن تقرير مع قلة مطالعته، وكان يعرف الفقه والنحو والأصول والمعاني والبيان، وليست لَهُ فِي التاريخ والآداب يد، وَكَانَ دمث الأخلاق طاهر اللسان عفيف الفَرْج. وسلك فِي ولايته خلاف مَا ألف من البرهان ابن جماعة من عدم التوقف فِي الأمور وإجابة الرسائل. فاستكثر من النواب ومن الشهود ومن تغيير الحكام فِي البلاد لمن يبذل فِي ذَلِكَ المال، وكثرت الشناعة إِلَى أن وقعت كائنة الشيخ سراج الدين ابن الملقن.
وملخصها: أنه كَانَ يصحب برقوق قبل أن يلي السلطنة ويسمع عنده صحيح البخاري، وَكَانَ حسن السمت، بهي الشيبة، فعينه لقضاء الشافعية.
وكان من عزمه أن تكون ولايته مجاناً، فاستبطأه فأشار عَلَيْهِ أن يجتمع بالأمير بركة، فتوجه إليه فتكلم معه أستاداره أن يبذل للأمير مالاً، فكتب لَهُ خطه بألفي دينار أَوْ أكثر، فاجتمع بركة ببرقوق وأراه الخط فانزعج وأمر شاد الدواوين أن يستخلص منه المال، وغضب عَلَيْهِ وأبعده، فما خلص منه إِلاَّ بشفاعة الركراكي. وَكَانَ يدل عَلَى برقوق وحضر الشفاعة معه الضياء والبلقيني والأبناسي وغيرهم، كذا قرأت بخط البشبيشي وهو قَدْ أدرك الواقعة، فلما خلص لزم منزله وصرفه ابن أبي البقاء من النيابة عنه.
ثم كثرت الشناعة عَلَى ابن أبي البقاء فعزل بالبرهان ابن جماعة. وَكَانَ قَدْ أحضر عَلَى البريد من القدس فِي ثالث عشري شهر ربيع الأول سنة إحدى وثمانين وسبعمائة. ثُمَّ أعيد البدر ثانياً فِي يوم الخميس سلخ صفر سنة أربع وثمانين بعد صرف البرهان فسار عَلَى عادته، إِلاَّ أنه لَمْ يستكثر من النواب ولا الشهود.
واتفقت لَهُ كائنة بسبب تركة ابن مازن شيخ عرب البحيرة، وَكَانَ لما مات ترك أيتاماً وتركة واسعة جداً، فاختلس بعض معارفه من التركة مالاً كثيراً. ثُمَّ جاء إِلَى القاضي فالتمس منه أن أمين الحكم يضع يده ليستتر هو فسارع القاضي إِلَى ذَلِكَ، فشاع فِي الناس قصة الَّذِي اختلس، فنسبوا ذَلِكَ للقاضي وأمينه، إِلَى أن طلب الظاهر القاضي وكلمه بكلام سيئ فالتجم وَلَمْ يحسن يتخلص، فأغرمه فِي تِلْكَ الكائنة مائة ألف قيمتها إذ ذَاكَ خمسة آلاف دينار. فباع فِيهَا ثياباً وكتباً وغير ذَلِكَ. ولما أكملها عزل وقرر ابن ميلق فِي رابع شعبان سنة تسع وثمانين.
ثم أعيد ابن أبي البقاء الولاية الثالثة، وذلك فِي صفر سنة إحدى وتسعين وسبعمائة، ثُمَّ صرف بالعماد الكركي فِي رجب سنة اثنتين وتسعين، ثُمَّ صرف العماد وأعيد المناوي.
ثم أعيد ابن أبي البقاء الولاية الرابعة فِي شهر ربيع الأول سنة أربع وتسعين، وصرف فِي شعبان سنة سبع وتسعين.
وعظم الخطب فِي ولايتيه الثانيتين بولده جلال الدين حَتَّى كَانَ الملك الظاهر يقول: لولا جلال الدين لما عزلت بدر الدين. لكن جلال الدين لا يطاق. ولما صرف المرة الأخيرة قرر معه تدريس الصلاحية بجوار الشافعي، ونظر الظاهرية، واستمر معه إِلَى أن مات فِي سابع عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة بالقاهرة.
محمد بن محمد بن عبد المنعم بن داود بن سليمان البغدادي الحنبلي بدر الدين، ابن ناصر الدين، ابن الشيخ شرف الدين.
وكان الشيخ شرف الدين قدم من بغداد فأقام بدمشق وصحب التاج السبكي وغيره، وتمهر فِي مذهبه مع الكياسة والحشمة والمروءة وحسن الشكل والتواضع والسكون والوقار، ثُمَّ تحول إِلَى القاهرة وولي إفتاء دار العدل، وتدريس مدرسة أم السلطان الأشرف، عوضاً عن البدر حسن النابلسي، إِلَى أن مات فِي شوال سنة سبع وثمانمائة.
وخلفه فِي وظائفه ولده ناصر الدين، فلم تطل مدته فمات، وأنجب ولده القاضي بدر الدين فمات وتركه صغيراً، فنشأ طالباً للعلم حريصاً عَلَى جمعه إِلَى أن استقر فِي جهات والده، وناب فِي الحكم عن القاضي علاء الدين ابن المغلي، ثُمَّ استقل بولاية قضاء القضاة بعد موت القاضي محب الدين سنة خمس وأربعين.

محمد بن محمود بن محمد، ويقال: محمود بن محمد بن محمود جار الله النيسابوري.
محمد بن محمود بن محمد النيسابوري جار الله - نقدم فِي الجيم. ويقال كَانَ اسمه محموداً - فَتَسَمَّى محمداً.
محمد بن مَسْرُوق بن مَعْدَان بن المَرْزَبَان بن النُّعمان بن زيد بن شرحبيل بن يزيد بن امرئ القيس بن عمرو بن حجر بن عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور الكندي الكوفي الأصل نزيل مصر يكنى أبا عبد الرحمن حنفي المذهب.
روى عن عبد الله بن الوليد الرصافي، والوليد بن جميع، وإسحاق بن الفرات، وسفيان الثوري، وأبي جناب الكلبي، ومحمد بن عمرو بن علقمة، وأبي معشر، وشيبان بن عبد الرحمن، ومهدي بن ميمون.
روى عنه عبد الله بن وهب، وإسحاق بن الفرات، وسعيد بن أبي مريم، وسليمان بن عبد الرحمن، ومحمد بن خليل بن حماد البلاطي، وهشام بن عمار، وموسى بن عبد الرحمن المسروقي - وهو ابن ابنه، وسعيد بن عفير، وأبو حاتم وأبو زرعة الرازيان وغيرهم وقع لَنَا حديثه فِي فوائد تمام.
قال سعيد بن عمرو البرذعي: سألت أبا زرعة عن محمد بن مسروق القاضي فقال: شيخ حدث عن الوليد بن جميع عن أبي الطفيل عن سعيد بن زيد بحديث أوهم فِيهِ قلت: فما صوابه؟ قال: حدثنا أبو نعيم قال حدثنا الوليد حدثني من سمع سعيد ابن زيد.
وقال ابن يونس: قدم عَلَى القضاء بعد المفضل بن فضالة سنة سبع وسبعين، وذلك لخمس خلون من صفر، وخرج عنها فِي سنة أربع وثمانين ومائة واستناب إسحاق بن الفرات، ثُمَّ ورد الأمر بعزله فِي سنة خمس وثمانين.
ثم أسند من طريق ابن عُفَيْر قال: قدم علينا محمد بن مسروق الكندي عَلَى القضاء وَكَانَ متجبراً فأعدي عَلَى العمال وأنصف منهم ولحق جماعة البلد منه استخفاف. ثُمَّ ذكر قصته مع أمير مصر وامتناعه عن حضور مجلسه.
وذكر أبو عُمر فِي كتاب الموالي عن ابن وَزِير قال: كَانَ عبد الله بن محمد بن حكيم من أشراف الموالي ومن سُراتهم وذوي الجاه، وَكَانَ مقبولاً عن غوث والمفضل وغيرهما من القضاة، فشهد عند محمد بن مسروق فأوقفه فقال لَهُ: لِمَ أوقفت شهادتي. فقال: شهد عندي رجلان أنك طربت عَلَى غناء جارية عمرو بن يسار وهي تغني!.
ولما التقينا عند أسفل واضم ... وأيقَن قلبي أنها أم جعفر
أتتني تزياها الصَّبا منذ نسمت ... أفانين من مِسْك ذَكيّ وعَنْبَرِ
قال: صدقاً أصلحك الله امرأته الطلاق إن كَانَ غنّى بذلك غير امرأته وهي الطلاق إن لَمْ تكن كنيتها أم جعفر. فقال ابن مسروق: فإنهما شهدا عندي أيضاً أنك طربتَ وصفَّقتَ بيديك حين غَنَّت:
يوم اللِّوَى أبكاك نوح حمامةٍ ... هَتُوف الضحى بالنوح ظلت تَفَجَّعُ
فادري ولا نبكي وتبكي وَمَا درت ... بعولتها عند البُكى كَيْفَ تصنع
فقال: صدقاً أصلحك الله وَلَمْ أدر إِلاَّ الخير. قال: فإنا لا نقبل شهادة من فِيهِ هَذِهِ الأريحية عند السماع فإن السماع ليُثمل كما يثمل الشراب، انصرف راشداً. فقال: السلام عَلَيْكَ. فلما ولي العمري بعث إِلَيْهِ يقول: أخبرني مَا قال لَكَ ذَاكَ الجافي. فأخبره فقال لَهُ العمري: نحن نقبل شهادتك. قال بعض من سمع هَذِهِ القصة: لَيْسَ بالجافي من حفظ تِلْكَ الأبيات.
قال أبو عمر الكندي: لما ولي محمد بن مسروق تشدّد في الحكم وأعدى عَلَى العمال وأنصف منهم وباعد الخصوم وأظهر التكبر عَلَى الأمراء وَكَانَتْ القضاة يحضرون مجالس الأمراء. فلما قدم ابن مسروق أرسل إِلَيْهِ الأمير عبد الله بن المسيب يأمره بالحضور فقال: لو كنت تقدمتُ إليك فِي هَذَا لفعلت بك وفعلت يَا كذا وكذا. فانقطع ذَلِكَ عن القضاة من يومئذ.
واتخذ قوماً للشهادة ورسمهم بِهَا وأوقف شهادة غيرهم فوثبوا بِهِ ووثب بهم وشتموه وشتمهم وتولع بأشرافهم حَتَّى خوصم إِلَيْهِ هاشم بن حُدَيْج فقال لَهُ: إنما أنت من السَّكون ولست من الملوك. فقال: لَيْسَ لهذا حضرنا والله لأحضرت لَكَ مجلساً أبداً، ومن تظلم إِلَيْكَ مني فأعده عليّ واقض لَهُ فِي مَا يَدّعيه بالغاً مَا بلغ.

وكانت أموال اليتامى والأوقاف والغائبين تحمل إِلَى بيت المال من عهد المنصور، فلما ولي محمد بن مسروق تحامل عَلَى أهل مصر شاعوا عنه انه يريد أن يحمل مَا فِي بيت المال من هذه الأموال إِلَى الخليفة فقام أبو إسحاق الحوفي وَكَانَ مثرياً فنادى فِي المسجد الجامع يدعو على محمد بن مسروق فأمر بإحضاره وناله بمكروه فازداد عند أهل البلد مقتاً.
وكان هارون بن سليم بن عياض يتكلم مع طائفة معه فِي العصبية فأرسل إِلَيْهِ محمد بن مسروق فقال مَا يؤمنك أن أكتب فيك إِلَى أمير المؤمنين بما تضرب بِهِ بَيْنَ الناس فلم يرجع. فأخذ جمعاً من جلسائه فضربهم وطوَّف بهم.
وقال يونس بن عبد الأعلى: لما تفاقم الأمر بَيْنَ ابن مسروق وبين أهل مصر وقف عَلَى باب المقصورة ونادى بأعلى صوته: أَيْنَ أصحاب الأكسِية العسَليَّة؟ أَيْنَ بنو البغايا؟ لَمْ لا يتكلم متكلمهم بما شاء حَتَّى يرى ويسمع؟ فما أجابه أحد بكلمة.
وقال يحيى بن بكير: مَا كَانَ بأحكام محمد بن مسروق بأس إِلاَّ أنه كَانَ من أعظم الناس تكبُّراً.
وقال الحارث بن مسكين: كَانَ محمد بن مسروق يُذلّ الجبارين فيما فضحه إِلاَّ ابنه يعني أن ابنه لما قدم عَلَيْهِ صار يأتي إِلَى من عنده مال من الودائع فيقول: أعطِنيه حَتَّى أتّجر فِيهِ فآخذ الفضل وأعيد لَكَ الأصل! فتلف عَلَى يديه شيء كثير.
ولم يكُن للقضاة قِمَطْر فيما مضى وإنما كَانَ الكاتب يحضر ومعه الكتب فِي المنديل فاتخذ محمد بن مسروق القمطر فهو أول من اتخذه بمصر، وَكَانَ يختمه فيودع فإذا جلس أحضر عنده.
وكان يروح من داره ماشياً إِلَى المسجد. وخوصم إِلَيْهِ وكيل زُبيدة فأمر بإحضاره فجلس مع خصمه متربعاً فأقامه وأمر بِهِ فَبُطِحَ وضُرب عَشر درر.
قال أبو عمر: اسم هَذَا الوكيل عبد الرحمن وَكَانَ مولى زبيدة فأرسل إِلَى زبيدة يشكوه. وشدد على عبد الوهاب بن موسى بن عبد العزيز بن عمر بن عبد الرحمن بن عوف الزهري فخافه، فشخص إِلَى الرقة فشكاه للرشيد ورفده القرشيون فلم يزل حَتَّى أمر أبو البَخْتَريّ بعزله فبلغه ذلك فخرج عن مصر قبل أن يقدم الَّذِي ولي أبو البختري عوضه واستخلف إسحاق بن الفرات ويقال إنه مات بعد أن رجع إِلَى العراق.
محمد بن مَعْبَد - تقدم فِي محمد بن علي بن مَعْبد.
محمد بن مُكْنِف بن عَبّاد الكوفي قدم مصر وَكَانَ يَنْزِل عند دار أبي عون. أذن لَهُ كيدر أمير مصر لما عزل المعتصم عيسى بن المنكدر وسجنه ثُمَّ حوله إِلَى العراق، وبقيت مصر بغير قاضٍ، فأذن كيدر لمحمد فِي الحكم بَيْنَ الناس، فكان الوكلاء يحضرون عنده وَلَهُ صاحب مسائل يسأل عن الشهود، فلما ولي هارون الزهري فسخ لمحمد بن مكنف أحكاماً كثيرة.
محمد بن موسى بن إسحاق السَّرَخْسيّ الحنفي من المائة الرابعة.
ولي بعد صرف أبي عثمان أحمد بن إبراهيم بن حمّاد فِي صفر سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة، فكتب إِلَى محمد بن علي بن أبي الحديد وعلي بن إسحاق المعدّل أن يتسلما من أبي عثمان فتسلَّما منه، وتوجه محمد بن موسى طالباً لمصر من العراق، فلما وصل إِلَى الفَرَما وجد الفتنة قائمة بمصر فتأخر دخوله إِلَى الخامس والعشرين من جمادى الآخرة، فباشر الأمور مباشرة حسنة ووقف عن قبول كثير من الشهود تحرزاً من غير غَرَض، وتصلَّب فِي كثير من الأحكام، وَلَمْ يتساهل فِي شيء، واحتاط فِي أموال الأوقاف والأيتام، وَلَمْ يُطلق من الرِّزق إِلاَّ القليل.
وكان عبد الله بن محمد الخَصِيبيّ يقول: وليتُ قضاء الرَّمْلة وولي محمد بن موسى قضاء مصر فِي وقت واحد، فشاوَرني فيمن يكاتبه فأشرت عَلَيْهِ بأبي بكر ابن الحدَّاد، فبلغني أنه كتب إِلَى ابن أبي الحديد فالتقينا فاعتذر بأنه بلغه أن ابن الحداد كَانَ يعمل مع ابن قيس قال: فعذرته. قلتُ: كذا ذكر ابن زُولاق هَذِهِ الحكاية عن الخَصِيبيّ. والخَصِيبيّ كَانَ يكره ابن الحدّاد لسلاطته عَلَيْهِ بلسانه لمَّا ولي القضاء بمصر كما مضى فِي ترجمته فلا يُقبل قوله فِيهِ.
قال أبو عمر: كَانَ محمد بن موسى فقيهاً عَلَى مذهب الكوفيين، حافظاً لمذهبه، عفيفاً عن الأموال، سَتيراً، كثير الصمت. وأكثر الشهود التردد إِلَيْهِ فقال لهم: مَا لكم معاش عندنا، فلا يجيء أحد منكم إِلاَّ لحاجة أَوْ لشهادة.

وسأل بعض شهوده أن يشتري لَهُ خلاًّ بدينار فأرسل لَهُ حملين فاسترخصه وسأل سرّاً، فقيل لَهُ: إن الَّذِي أُحضر يساوي أربعة دنانير، فردّ الخلّ وطلب من نائبه أبي الحسن بن إسحاق أن يعمل لَهُ بَهَطَّة، فتوجه مهتمّاً بعمل ذَلِكَ، فوافاه غلام القاضي ومعه زنبيل فِيهِ جميع آلات ذَلِكَ.
وحكى متولي الأحباس فِي زمانه أنه باع ثمرة الأحباس مَرَّةً بخمسة آلاف دينار وزيادة. قال: فعملت الحساب فنظر فِيهِ محمد بن موسى فوجد فِيهِ باسم المتولي لذلك خمسمائة دينار فسأله عنه: هل لَكَ فِيهِ شِركة؟ قال: لا. ولكن هَذَا حق العمل. فقال لَهُ: كم عملتَ هَذَا الحساب فِي يوم؟ فقال لَهُ: فِي ثلاثة أيام. فأطلق لَهُ ثلاثين ديناراً، فكلمه أبو الحسن بن إسحاق فما بلغه خمسين ديناراً إِلاَّ بعد جُهد. قال: وَكَانَ يحبّ مذاكرة العلم.
وانقبض عنه أبو بكر ابن الحداد لأنه بلغه أنه سأل عنه فقيل لَهُ إنه شافعي فقال: ليته كَانَ حنفياً. فانقطع عنه.
قال ابن زولاق: رأيت أبا الحسن محمد بن علي بن أبي الحديد ركب إِلَى دار محمد بن موسى حَتَّى ينظر بَيْنَ الناس وهو أفقه من محمد وأسنُّ بثلاث عشرة سنة.
واستمر محمد بن موسى إِلَى أن صُرف فِي الخامس والعشرين من شوال سنة اثنتين وعشرين وثلاثمائة بمحمد بن بدر. ورد كتاب محمد بن الحسن بن أبي الشوارب قاضي القضاة ببغداد وسائر الممالك بذلك فوقف فِي أمره محمد بن علي الماذرائي مدبّر المملكة. فلم يزل الطحاوي وغيره بِهِ إِلَى أن أذعن لَهُ فتسلم لَهُ ابن الحداد من ابن موسى، فتوجه ابن الحداد إِلَى ابن موسى ففرِح لمَّا قيل لَهُ إنه توجه إِلَيْهِ، وظن أنه جاء ليسلّم عَلَيْهِ، فلما تحقق أنه جاء بعزله قال لَهُ: هَذِهِ السلال بخواتمها. فقال: لا أتسَّم إِلاَّ مفتوحاً. ففُتحت وتشدَّد ابن الحداد فِي التسليم حَتَّى إن الشهود كتبوا: شهِد من تسمَّى فِيهِ أنهم حضروا مجلس محمد بن موسى القاضي. فقال ابن الحداد: لا تكتبوا - القاضي - فقال محمد بن موسى: لا تكتبوا فقال ابن الحداد: اكتبوا - السَّرَخْسّي. فقال: اكتبوا فإن هَذِهِ النسبة لا تزول عنا ليوم القيامة. وتعجب الناس من عقله وجلَده وعتب بعضهم ابن الحدَّاد عَلَى مَا صنع فقال: حاجةٌ فِي نفس يعقوب قضاها.
وقال ابن زُولاق: وَكَانَ بعد ذَلِكَ يظهر عَلَيْهِ الندم بما صنع. وتهيأ محمد بن موسى للرحيل فركب إِلَيْهِ الماذرائي وسأله التأنّي حَتَّى يكاتب فِيهِ لبغداد فامتنع. وباع جميع مَا فِي منزله حَتَّى بغلته ولِجامه وسرجه. ثُمَّ سأل الَّذِي اشترى ذَلِكَ أن يُعيره السرج واللِّجام إِلَى تِنيس ففعل. وسار فِي النيل إِلَى تنِّيس وخرج محمد بن بدر معه يودّعه ويشيّعه. فلما ودَّعه قال: يأمر القاضي بشيء؟ فقال: آمرك بتقوى الله. وإن كَانَ مَا قاله هؤلاء عنك حقاً فما يَحِلّ لَمْ أن تنظر بَيْنَ اثنين. وأشار إِلَى شهوده فخجل محمد بن بدر وأطرق وانصرف. فكانت مدَّة السَّرَخْسيّ ستة أشهر وأياماً. ومات فِي سنة ثلاثين وثلاثمائة.
قلت: أخلَّ بذكره أبو سعيد ابن يونس فِي تاريخ الغُرَباء الذين قدموا مصر. واستدركه ابن الطحان فِي ذيله لكنه اختصره جدّاً، فلم يزد عَلَى أن قال: محمد بن موسى السَّرَخْسّي كَانَ قدم عَلَى قضاء مصر حُكي عنه.
ووجدت فِي تاريخ بغداد للخطيب مَا نصُّه: محمد بن موسى بن أحمد السَّرَخْسّي، قدم بغداد وحدَّث بِهَا عن أحمد بن إبراهيم بن مَزِيز من أهل سَرَخْس. روى عنه عبد الله بن عثمان الصفار. وَلَمْ يزد الخطيب عَلَى هَذَا، فما أدري أهو قاضي مصر أَوْ غيره؟ ولكن ظاهر تسمية جده أحمد أنه غيره. فإن اسم جد القاضي كما تقدم - إسحاق. ثُمَّ رأيت فِي المؤتلف: محمد بن أحمد بن إسحاق إبراهيم بن مزيز السرخسي وآل بيته وضبطوا - مَزِيز بوزن عظيم وزايين منقوطتين.
محمد بن نَامَاوَر بن عبد الملك أفضل الدين الخُوَنجِيّ شافعي من المائة السابعة.
ولد سنة تسعين وخمسمائة، واشتغل بعدة علوم، وغلبت عَلَيْهِ العلوم العقلية حَتَّى مهر فِيهَا، مع معرفة تامة فِي الفقه.

قال ابن أبي أصيبعة فِي طبقات الأطباء بعد أن أثنى عَلَيْهِ بأنه أوحد زمانه وأنه تميز فِي العلوم الحكمية وأنه اجتمع بِهِ سنة اثنتين وثلاثين وستمائة وقرأ عَلَيْهِ بعض الكليات لابن سينا. قال: وكان يعتريه فِي بعض الأوقات أنشداه خاطر لكثرة انصباب ذهنه إِلَى العلم. قال: ووجدته الغاية القصوى فِي سائر العلوم، وَكَانَتْ ولايته قضاء مصر إِلَى أن مات فِي خامس شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة ورثاه عِزُّ الدين الإِرْبليّ بأبيات منها:
قَضى أفضلُ الدنيا فلم يبق فاضل ... وماتت بموت الخُوَنجِيّ الفضائلُ
أيدري بمن قَدْ سَارَ حامل نعشه ... عداه أحبوه ومن هو حامل
لئن أَفَلَت شمس المعالي بموته ... فما علمه عن طالب العلم زَائل
وَمَا كنتُ أدري أن للشمس فِي الثَّرَى ... أُفُولاً وأن البدر فِي التُّرْبِ نَازلُ
محمد بن النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حيُّون المغربي القيرَوَاني نزيل القاهرة إماميٌّ من المائة الرابعة.
ولد فِي ثالث صفر سنة أربعين وثلاثمائة بالمغرب، وقدم القاهرة صُحبة والده مع المُعِزّ وناب عن أخيه علي بن النعمان فِي آخر أمره، وولاه العزيز استقلالاً بعد موت أخيه فِي يوم الجمعة، لسبق بقين من رجب سنة أربع وسبعين وثلاثمائة، وخُلع عَلَيْهِ وقُلد سيفاً ونزل إِلَى مصر من يومه فِي قُبَّة عَلَى بغلٍ كَانَتْ بِهِ، فدخل الجامع فلم يقدِر عَلَى الجلوس فرجع إِلَى داره، وجلس ولده عبد العزيز وأولاد إخوته وجماعة الشهود حَتَّى قُرئ عهده فِي الجامع بعد صلاة الجمعة بالقضاء عَلَى الديار المصرية والإِسكندرية والحرمين وأجناد الشام.
وفُوّض إِلَيْهِ الصلاة وعيار الذهب والفِضَّة والمواريث والمكاييل، وذُكر فِي سِجِلّه أبوه وأخوه فأثنى عليهم.
ثم أرسل ابن أخيه الحسين بن علي إِلَى الجامع للحكم بَيْنَ الناس، وكاتب خُلَفاء النواحي.
فلما كان يوم الجمعة أول جمادى الأولى سنة خمس وسبعين وثلاثمائة عقد لابنه عبد العزيز على بنت جوهر القائد في مجلس العزيز، وكان الصداق ثلاثة آلاف دينار، والشاهدان: محمد بن عبد الله العُتقيّ وعبد الله بن محمد بن رجاء، وخلع العزيز على الزوج وانصرف محمد بن النعمان في جمع كثير من الخواص.
ثم قرَّر عبد العزيز فِي نيابته، وصرف ابن أخيه الحسين بن علي.
قال المُسَبِّحيّ: كَانَ محمد بن النعمان خبيراً بالأحكام حسن الأدب والمعرفة بأيام الناس.
قال العُتقيّ فِي تاريخه: أمر المعز وهو بالمغرب قاضي بلاده النعمان بن محمد أن يعمل لَهُ أَسطُرْلابات وأن يُجلس مع الصانع بعض ثِقَاته، فأجلس النعمان ولده محمداً، فلما فرغ توجه بِهِ إلى المُعِزّ فسأله: مَنْ أَجلستَ مع الصانع؟ قال: ولدي محمداً. فقال: هو قاضي مصر. قال محمد بن النعمان: كَانَ المعز إذا رآني قال لولده وأَنَا صَبِيّ: هَذَا قاضيك! قال المسبحي: وعدّل محمد بن النعمان فِي أيامه نحواً من ثلاثين نفساً، وَكَانَ محمد بن النعمان جيّد النظر فِي الأحكام. تقدمت إليه امرأة طالبت زوجها بحقها فامتنع من دفعه لها، فسألت القاضي أن يحبسه فأمر بذلك، ثُمَّ نظر إليها فوجدها جميلة وظهر عَلَيْهَا السرور، فلما توجه إِلَى الحبس أمر القاضي بحبسها مع وزجها فغضبت فقال لَهَا: حبسناه لحقكِ ونحبسكِ لحقّه. فلما تحققت ذَلِكَ أفرجت عنه. فلما توجهت قال القاضي: رأيتها فرِحتْ بحبسه فخشيت أنها تخلو بنفسها لغيبة زوجها.

قال: وَكَانَ الوزير ابن كِلِّس كثير المعارضة لبني النعمان فِي أحكامهم، فاتفق أن الحسن بن الحسين بن علي بن يحيى الدقّاق زَوَّج ولده يتيمة تعرف ببنت الديباجي بإِذن محمد بن النعمان، فقام فِي ذَلِكَ بكر بن أحمد المالكي أحد الشهود وادَّعى فَسَاد العقد لكونها غير بالغ، وبالغ فِي ذَلِكَ فقال ابن النعمان: ثبت عندي بإقرارها أنها بلغت. فَحُملَت إِلَى القصر ورُفع أمرها إِلَى العزيز وكشف عنها فوجدت غير بالغ، فتقدم إِلَى القاضي بفسخ النِّكاح فأحضر الوزير القاضي والشهود وتهدَّدهم وقال: يتقدم مولانا بفسخ هَذَا النكاح وبالوقوف عن قبول شهادة هؤلاء الشهود، ففعل. وكتب بذلك سِجلاًّ بإِمضاء ذَلِكَ، وفيه: أنه ثبت عنده أنها غير بالغ. ثُمَّ بالغ الوزير فِي الإنكار عَلَى الشهود فِي التساهل، وكان ذَلِكَ فِي سلخ جمادى الأولى سنة خمس وسبعين، وأمر بحفظ مال الصبية ثُمَّ ابتاع لها منه ربعاً.
ورُفع إِلَى محمد بن النعمان أن نصرانيّاً أسلم ثُمَّ ارتد وَقَدْ جاوز الثمانين، فاستتيب فأبى، فأنهى أمره إِلَى العزيز فسلَّمه لوالي الشرطة، وأرسل إِلَى القاضي أن يرسل أربعة من الشهود ليستتيبوه فإن تاب ضَمِنَ لَهُ عنه مائة دينار، وإن أصرّ فليقتل، فعرض عَلَيْهِ الإسلام فأبى فقُتل ثُمَّ أمر بتغريقه فِي النيل.
ورفع إِلَيْهِ رجل من ولد عَقِيل بن أبي طالب زوجته ومعها ابنة لَهَا جحدها فتلطف بِهِ النعمان فلم يجد فِيهِ حيلة، فأنهى أمره إِلَى العزيز فأمره بالملاعنة بينهما، وكتب فِي ذي القعدة سنة ثمان وسبعين إِلَى الجامع العتيق فاجتمع الشهود ووعظ الزوج فأبى إِلاَّ اللعان، فلاعن بينهما، ثُمَّ فرَّقَ بينهما.
ثم استخلف ولده عبد العزيز فِي الحكم وَكَانَ ينظر كل اثنين وخميس. وَفِي أول سنة إحدى وثمانين عدَّل جماعةً من الأشراف. وَفِي صفر سنة اثنتين وثمانين رتَّب رجلاً جعفريّاً بالجلوس فِي الجامع مع الفتوى عَلَى مذهب أهل البيت، فشغب عَلَيْهِ الفقهاء من أهل الجامع فبلغ ذَلِكَ القاضي فقبض عَلَى بعضهم وطوَّف بثلاثة منهم عَلَى الجِمال.
وعَلَتْ منزلةُ القاضي عبد العزيز وقطع النزول إِلَى الجامع، ونظر فِي الحكم فِي داره، وَلَمْ يكن أحد يخاطبه إِلاَّ بسيّدنا، فلما توفي العزيز سكن محمد بن النعمان فِي داره بالقاهرة ورتَّب ابنه عبد العزيز كل اثنين وخميس ينظر فِي الأحكام بمصر.
قال ابن زُولاق: مَا شهدنا لقاضٍ من القضاة بمصر مَا شاهدناه لمحمد بن النعمان، ولا بلغنا ذَلِكَ عن قاضٍ بالعراق، وَكَانَ مع ذَلِكَ مستحقاً لما هو فِيهِ من العلم والصيانة والتحفُّظ والهيبة وإقامة الحق. وفيه يقول أبو عبد الله السمرقنديّ:
وحيد فِي فضائله غريب ... خطير فِي مفاخره جليلُ
تألَّق بهجةً ومضى اعتزاماً ... كما يتألَّقُ السيفُ الصقيلُ
ويقضي السداد لَهُ حليفٌ ... ويُعطى والغَمام لَهُ زميلُ
إذَا ركِب المنابر فهو قُسٌّ ... وإن حضر المشاهد فالخليلُ
قال المُسبِّحيّ: وَلَهُ نظم كثير لَيْسَ بالقوي فمن أجوده:
أيا مُشْبِه البدر بدر السما ... لسبع وخمس مضت واثنتين
ويا كامل الحسن فِي نَعْتِهِ ... شغلتَ فؤَادي وأسهرتَ عيني
فهل ليَ فِي فِيكَ من مَطْمَع ... وإلا انصرفتُ بخُفَّي حُنَينِ
قال: وَفِي ولايته رجم رجلاً خبازاً أصاب امرأة علويّة من زناء. وَكَانَ رجمه بسوق الدواب بقرب الجامع الطولوني وذلك سنة اثنتين وتسعين.
قال: ولمَّا حصل لَهُ التمكّن وعلت رُتبته لَزِمته الأمراض كالنّقْرس والقُولَنْج، وَكَانَ أكثر أيامه عليلاً، وولده عبد العزيز ينظر فِي الأحكام ويُسجل فِي دار أبيه وغيرها. وَكَانَ بَرْجَوان يعوده فِي كل خميس مع عَظَمة بَرْجَوان. قال: وَكَانَ فِيهِ إحسان لأتباعه مع حسن الخلق والبِذَّة والركوب وكثرة الطيب والبخور إذَا جلس فِي مجلسه وإذا ركب. وَكَانَ إذا أعطى عطاء كثَّره وعجَّله. وَكَانَتْ وفاته وهو عَلَى القضاء فِي ليلة الثلاثاء الرابع من صفر سنة تسع وثمانين وثلاثمائة، فركب الحاكم فصلَّى عَلَيْهِ فِي داره ودفنه تَحْتَ قُبَّتها، ثُمَّ نقل بعد إِلَى القرافة.

وكانت مدة ولايته أربع عشرة سنة وستة أشهر وعشرة أيام.
ووجد عَلَيْهِ من أموال اليتامى وغيرهم ستة وثلاثون ألف دينار، فأمر الحاكم بَرْجَوان أن يحتاط عَلَى موجوده، فأرسل كاتبه أبو العلاء فهداً النصراني فاحتاطوا عَلَيْهِ وشرعوا فِي البيع وَفِي تغريم الشهود الذين كانت الودائع تَحْتَ أيديهم، فمن أحضر ورقة بخط القاضي تُرك، ومن لَمْ يُحضر خطّ القاضي غُرم، إِلَى أن تحصّل قدر نصف الدَّين فدفع للمستحقِّين بقدر النصف.
وتقدَّم أمر الحاكم أن لا يُودَع بعد ذَلِكَ عنه أحد من الشهود مال يتيم ولا غائب، وأفرد موضع بزُقاق القناديل يوضع فِيهِ المال ويختم عَلَيْهِ أربعة من الشهود لا يُفتح إِلاَّ بحضور جميعهم فاستمر الأمر عَلَى ذَلِكَ مدة.
وكان محمد بن النعمان سلَّم لعبد الله بن محمد المداديّ أحد الشهود مال يتيم وأراد الإِشهاد عَلَيْهِ بذلك فامتنع، فقال محمد: مَا كَانَ بالذي يودع الإشهاد. فاتفق أن المدادي مات فِي سنة تسع وسبعين وعنده ودائع كثيرة، فراسله يزيد بن السندي كاتب الحكم قبل أن يموت حَتَّى أشهد عَلَيْهِ بما عنده. فلما مات لَمْ يوجد أكثر ذَلِكَ، فباع القاضي داره بخمسة آلاف دينار فوفَّى بِهَا الودائع.
محمد بن هبة الله بن أحمد بن شكر أبو البركات نفيس الدين مالكي من المائة السابعة.
ولد سنة خمس وستمائة، واشتغل عَلَى مذهب مالك ومهر، وأول شيء وليه قضاء دمياط نيابة عن القاضي تاج الدين ابن بنت العز، ثُمَّ ولي القضاء بالقاهرة استقلالاً بعد موت شرف الدين السبكي فِي ذي القعدة سنة تسع وستين.
وكان الشيخ أبو عبد الله ابن النعمان يستعين بِهِ فيما يرومه من إزالة المنكرات وقمع اليهود والنصارى، وَكَانَ القاضي كريم النفس كثير الفتوّة حسن الاعتقاد كثير البر بأصحابه والمباسطة لهم، وَلَمْ يزل عَلَى حاله إِلَى جمادى الأولى سنة ثمان وسبعين فعزل هو ورفقته جميعاً، وهم: تقي الدين ابن رزين الشافعي، والمعز الحنفي والحنبلي، وعاش بعد ذَلِكَ إِلَى ذي الحجة سنة ثمانين وستمائة فمات رحمه الله.
محمد بن أبي الفرج هبة الله بن مُيَسَّر أبو عبد الله القَيْسَرَانيّ الأصل المصري.
شافعي من المائة السادسة، قدم والده من قيسارية فِي ولاية بدر الجمالي وهو معه شاب، وَكَانَ بدر قَدْ استدعى بذوي الأموال واليسار فأنزلهم مِصر لِمَا كَانَ جرى لَهَا من الخراب بالغلاء الشديد، ففوض بدر لأبي الفرج الخطابة بالجامع العتيق بمصر، وَكَانَ فقيهاً شافعياً، فعمل فِيهِ أبو علي حسين بن سعيد العسقلاني الشاعر المعروف بالمُكَرْبَل قوله:
إن الشريعة قَدْ وَهَت أركانها ... وتغيَّرت بالنقص أي تغيرِ
بوزارة ابن أسامة وشهادة اب ... ن قَتادة وخَطابة ابن مُيسّر
ومات أبو الفرج سنة خمس عشرة، ونشأ ولده فاضلاً، وولي قضاء مصر فِي ذي الحجة سنة إحدى وعشرين وخمسمائة بعد يوسف بن أيوب المغربي، ولُقِّب ثقة الدولة سناء الملك شرف الأحكام، فباشر القضاء واستكثر من قبول الشهود حَتَّى بلغت عدتهم فِي زمانه مائة وعشرين. وكانوا قبله ثلاثين.
ثُمَّ فوض إِلَيْهِ النظر فِي المظالم، فاستوضح أحوال المسجونين وأطلق منهم جمعاً كثيراً كانوا أيسوا من الخلاص لطول العهد بتركهم فِي السجن، فطالع بأمرهم الخليفة، وسأل فِي الإفراج عنهم فأذن لَهُ فِي ذَلِكَ.
قال ابن أَسْعَد الجَوّاني فِي كتاب النقط عَلَى الخطط: هو صاحب القيسارية بمصر، واستعمل منارة من النحاس ذات سواعد تُجَر قدّامه عَلَى عجلة تُوقَد فِيهَا الشموع ليالي الركوب إِلَى رؤية الهلال. وتفقّد المساجد. فلما عملها اجتازوا بِهَا فِي مكان فِيهِ أغصان سِدرة فعاقتهم عن جَرِّها فأمر بقطع السِّدرة أَوْ بعضها، فحذروه من ذَلِكَ وذكروا لَهُ حديث أبي داود " مَنْ قَطَعَ سِدْرَةً صَوَّبَ الله رأسَهُ فِي النَّار " . فتمادَى عَلَى قطع بعضها وذلك فِي ليلة نصف شعبان فما أسنى بل قتل تِلْكَ السنة.

قال وكانت القضاة تركب فِي النصف من شعبان لتفقّد الجوامع والمساجد لما يحتاج إِلَيْهِ من الإصلاح. وَكَانَ كبراء الدولة يبذلون فِي ذَلِكَ عَلَى سبيل المساعدة لابتغاء الثواب، فيحصل للقاضي من ذَلِكَ مقدار جيد، فركب القاضي فِي نصف شعبان ورجع فما أتت بعد ذَلِكَ غلا دون السنة، بل قُتل فِي شهر ربيع الأول من السنة المقبلة. وَكَانَتْ لَهُ أسمطة عظيمة فِي المواسم وهو أول من عمل الفُستق الملبس بمصر، وَكَانَ مشهوراً بالكرم.
قال الشريف الجواني سمع القاضي ابن ميسّر أن الوزير المَاذَرَائيّ عمِل الكعك المسمى " افْطِنْ لَهُ " ، يشير إِلَى مَا حكاه ابن زولاق أن الماذَرَائيّ عمل خُشْكَنَانا فِي العيد محشوّاً بالفُستق والسُّكر وفيه دنانير، فكان يعطى منه للشريف ويقول احتفظ بحشوه، ففطن لَهُ بعض الناس فسموه " افْطِنْ لَهُ " . فأحب ابن ميسر أن يصنع ذَلِكَ فأمر بعمل الفُستُق المُلَبَّس بالسكر، وأمر بسبك قطع ذهب قدر الفستق فلبس منها بالسَّكّر قَدْر صحن، فلما مدّ سماط الحلوى وضع ذَلِكَ الصحن فِي الوسط وَكَانَ عَلَى المائدة خادم، فلما أكلوا أشار الخادم لصديق لَهُ أن يأكل من ذَلِكَ الصحن فأكل منه وتفطن لما فِيهِ، فصار يأكل ويمص النوى ويضعه فِي كمه إِلَى أن حصل على جُملة، ففطن لَهُ بعض من حضر فتزاحموا عَلَى ذَلِكَ الصحن وَتَنَاهَبوه فِي قُدّامه، وهو يضحك فسمي من يومئذ: " افْطِنْ لَهُ " .
وَكَانَ قبل ولايته القضاء يباشر مشارفة المقياس أميناً عَلَى ابن أبي الرَّدَّاد.
فلم يزل معه حَتَّى قُتل وأضيفت إِلَيْهِ بعد ولايته القضاء الوكالة.
وذكر ابن ميسّر فِي تاريخه: أنه أمر أن لا يحكم إِلاَّ بمحضر من أربعة فقهاء من جملتهم الفقيه سلطان بن رَشَا المقدسي الَّذِي ولي القضاء بعد.
ويقال إن سبب ذَلِكَ أنه كَانَ قاصراً فِي العلم، وإنما كَانَتْ رياسته بالكرم والجاه.
ويقال إنه كَانَ تفقه عَلَى مذهب الشافعي وَلَمْ يزل ينظر فِي وظائفه إِلَى خلافة الحافظ، فعزله فِي ربيع الآخر سنة ست وعشرين بصالح بن عبد الله بن رجاء؛ ثُمَّ أعيد فِي ثاني ذي الحجة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة.
قال ابن ميسر فِي تاريخه: حكى لي خال والدي أن القاضي كَانَ أسقط شاهداً يقال لَهُ ابن الزعفراني، فسعى الزعفراني بأن رفع للخليفة الحافظ أن القاضي لما خلع أبو علي بن الأفضل الخليفة واعتقله دخل الشعراء فأنشدوه مدائح منها قول علي بن عباد الإسكندراني فأنشده قصيدة أولها:
تبسَّمَ الدهرُ لكن بعد تَعْبِيسِ
إِلَى أن قال:
هَذَا سُلَيْمانكم قَدْ رُدّ خاتَمُه ... واستنزع المُلك من صَخْر بن إبليس
فلما أنشد هَذَا البيت قام القاضي فألقى عَلَى هَذَا الشاعر عرضيَّتَه طَرَباً فحقدها الحافظ، وأمر بإحضار الشاعر وَكَانَ يلقب جلال الدولة فاستنشده القصيدة فجحدها، فألزمه وأوهمه أنه لا يصل إِلَيْهِ منه بسببها مَضرة، فأنشدها إِلَى أن بلغ البيت المذكور فأشار إِلَى الغلمان فلَكَمُوهُ إِلَى أن مات بيني يديه.
ولما كَانَ فِي السابع من المحرم سنة إحدى وثلاثين فِي وزارة بهرام عزل القاضي ونفى إِلَى تنِّيس فلما وصل إليها قُتل بِهَا عشية الاثنين ثاني شهر ربيع الأول من السنة.
محمد بن يحيى بن مهدي بن هارون بن عبد الله بن هارون بن إبراهيم الأَشوَانِيّ التَّمَّار أبو الذِّكْر - بكسر المعجمة وسكون الكاف - الفقيه المالكي من المائة الرابعة.
ولد فِي ربيع الأول سنة خمس وخمسين ومائتين، وتعاني التجارة فِي التمر، ويقال إن أصله من إِخْميم. وسمع من محمد بن عمر الأندلسي، واعتنى بالفقه فمهر فِيهِ حَتَّى كَانَ المشار إِلَيْهِ فِي مذهب مالك بمصر. وأول من نوّبه أبو جعفر أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، فإنه فوض إِلَيْهِ الفَرض للنِّساء، وتصدَّى للتدريس والإِفتاء.
قال ابن يونس: كَانَ لَهُ بمصر قَدْر ومنزلة جليلة، وهو الَّذِي تسلّم القضاء من أبي عبيد ابن حَرْبَويه لما انفصل من مصر وتولى قضاء مصر عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم البغدادي، فأرسل إِلَى أربعة من أهل مصر أن يختاروا من أهل مصر من ينوب عنه، فاختاروا أبو الذِّكر، وَكَانَتْ ولايته لليلتين خلتا من ذي القعدة سنة إحدى عشرة وثلاثمائة.

قال ابن يونس: وَكَانَ جَلْداً وَقَدْ حدَّث بشيء يسير، وَكَانَ عابداً وأصابه الباسور وَكَانَ يُضعفه عن إدمان التعبّد، وَكَانَتْ لَهُ حَلقة فِي جامع عمرو، ويتناظر عنده الفقهاء من القرويين وغيرهم، وَكَانَ يجلس للإِشغال بالعلم من الصبح إِلَى الزوال ثُمَّ بعد صلاة الظهر إِلَى العصر.
وذكره الشيخ أبو إسحاق الشيرازي فِي " طبقات الفقهاء " بعد الحارث ابن مسكين فقال: ومن دون هؤلاء أبو الذكر محمد بن يحيى المالكي قاضي مصر تفقه عَلَى يوسف بن عيسى المغامي. أخذ عنه أبو الطاهر محمد بن عبد الغني.
وقال الحسن ابن زولاق نظر فِي الأحكام وتصلّب فِي حساب الأُمَناء وَكَانَ من جملتهم ابن الحدَّاد، وكانوا قَدْ تهيئوا لتوديع أبي عبيد ابن حربويه فمنعهم أبو الذكر، وَكَانَ لَهُ عندهم أموال فسلّموها ثُمَّ أُخْرجُوا وأسمعهم المكروه فتأخروا، ولو أمكنهم الذهاب مع أبي عبيد إِلَى العراق لفعلوا، فولى أبو الذكر القضاء إِلَى يوم الخميس ثامن عشر صفر سنة اثنتي عشرة وثلاثمائة فوصل أبو محمد إبراهيم بن محمد بن عبد الله الكُرَيْزِيّ من قبل ابن مُكرَم فباشر القضاء، وكانت مدة ولاية أبي الذكر ثلاثة أشهر وعشرة أيام، وعاد يتعاطى الشهادة مع الشهود ويشهد عند الكُرَيْزيّ الَّذِي ولي بعده، ثُمَّ استنابه أبو جعفر ابن قُتيبة فِي الفَرض فباشره، ثم استنابه محمد بن بدر أيضاً في الفرض فباشره وزاد بأنه كان يحكم للمطلقة ثلاثاً بالسكنى والنفقة عملاً بمذهب مستنيبه تاركاً لمذهبه فِي ذَلِكَ.
ولما اعتل محمد بن بدر علّته الَّتِي مات فِيهَا استخلف أبا الذكر فِي النظر فِي الأحكام، فنظر إلى أن مات. فلما مات محمد بن بدر وذلك لثلاث بقين من شعبان أمر الإخشيد أمير مصر أبا الذكر أن ينظر فِي الأحكام، فركب إِلَى مسجد محمود لالتماس هلال رمضان عَلَى العادة، وركب معه الشهود وأعيان البلد وغيرهم من الناس. فلم يكمل عشرة أيام حَتَّى جاء كتاب الحسين بن عيسى باستخلاف الحسن بن عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري. وتأخرت وفاة أبي الذكر إِلَى يوم الفطر سنة أربعين وثلاثمائة فمات وصلى عَلَيْهِ أخوه مؤَمَّل بن يحيى الأسواني، وبلغ أبو الذكر خمساً وثمانين سنة.
محمد بن يوسف شمس الدين الرِّكْرَاكِيّ المالكي من المائة الثامنة ولد سنة ... تقريباً.
وقدم من المغرب وَقَدْ رَاهَق أَوْ بَلَغ الحلم، فلازم الاشتغال عَلَى مشايخ عدة من أبناء العرب وأبناء العجم، ومَهرَ فِي المعقول، وقرأ الأَصْلَيْن والعربية، وَكَانَ غاية فِي الذكاء، وحصل من الفقه طرفاً جيداً، فأول مَا اشتهر أمره أن نازع البرهان الإخنائي فِي تدريس المنصورية وانتزعها منه بمساعدة الأمير الكبير أُلْجَاي، وهو يومئذ ناظر المارستان.
وكان كثير الاستهتار بالكبار، والاستهزاء بالصغار، والازدراء بالجميع، فأغروا بِهِ، وتعصبوا عَلَيْهِ، وكتبوا فِيهِ محاضر ونسبوه إِلَى العمل بالسحر والنجوم، فطرح نفسه عَلَى أكمل الدين فحمله إِلَى الصدر التركماني فسمع الدعوى عَلَيْهِ وحَقَنَ دمه واستتابه، فأشار عَلَيْهِ أكمل الدين بالغيبة عن القاهرة فرحل إِلَى الشام فأقام هناك مدة حَتَّى مات الإِخنائي، وأكثر من كَانَ ساعده عَلَيْهِ.
فقدم القاهرة، ثُمَّ ثار عَلَيْهِ بعض المالكية وأراد تجديد مَا ذكر عنه، فحماه بعض الأمراء فلم يزل حَتَّى ولاه بدر الدين الإِخنائِي تدريس الحجازية فدرس بِهَا، وتصدر بالجامع الأزهر، ثُمَّ شغر درس الفقه بالشيخونية فقرّرهُ فِيهِ الأكمل، ثُمَّ درس بالقمحية بمصر، واتصل بالملك الظاهر، فَرَاجَ عَلَيْهِ وقرره فِي أول سلطنته وأجلسه عنده يوم المحاكمات.
ثُمَّ فسد الحال بينه وبين أكمل الدين إِلَى أن كَانَتْ كائنة برقوق وإخراجه إِلَى الكرك، فلما استقل منطاش بالتحدث فِي الدولة أمر بكتابة فتاوى وأخذ خطوط العلماء فِيهَا فيما يتعلق بالظاهر برقوق، فكتب أكثرهم وامتنع الركراكي، فأغرى أعداؤه منطاشاَ بِهِ فأهانه وأمر بضربه ثُمَّ قيد، فلم يثبت القيد فِي رجله فأعيد فِيهَا فانكسر فترك، فتحيروا فِي أمره، فمن قائل إن ذَلِكَ من جملة سحره، ومن قائل إن هَذَا صلاحاً، ومن قائل إن ذَلِكَ وقع اتفاقاً، وَقَدْ سئل الحداد الَّذِي ... .
محمود بن أحمد بن موسى بن أحمد بن حسين بن يوسف بن محمود العينتابي الحنفي.

ذكر لي أنه ولد فِي نصف رمضان سنن اثنتين وستين وسبعمائة بحلب. قال: وَكَانَ أبي قَدْ ولي قضاء عين تاب فنسب إليها، ثُمَّ قدم القاهرة وأول شيء ولي بِهَا من الوظائف التصوف فِي الظاهرية لما فتحت، ثُمَّ الخدمة بِهَا، ثُمَّ أخرج منها.
وتنقلت بِهِ الأحوال حَتَّى ولي الحبشية، ثُمَّ ولي نظر الأحباس، ثُمَّ أعيدت لَهُ الحسبة مضمومة إليها، ثُمَّ صرف.
ثم أعيد فِي الدولة الأشرفية. وولي القضاء فِي سابع عشري ربيع الآخر سنة تسع وعشرين وثمانمائة ثُمَّ صرف فِي أوائل صفر سنة ثلاث وثلاثين.
ثم أعيد فِي رجب سنة خمس وثلاثين ثُمَّ صرف فِي أوائل سنة اثنتين وأربعين.
وقد سمع من بعض شيوخنا كالشيخ زين الدين العراقي والشيخ تقي الدين الدجوي. وصنف شرح الطحاوي وأفرد رجاله، وشرح الكنز والمنار، وَلَهُ فِي العروض والتاريخ وغير ذَلِكَ. وكان قَدْ شرع فِي شرح عَلَى البخاري وكتب منه قطعة جيدة ثُمَّ كمل بعد ذَلِكَ، وَلَهُ تاريخ كبير لازم قراءته عند الملك الأشرف بَرْسَبَاي وحظي عنده.
محمود بن محمد بن عبد الله القَيْصَرِيّ جمال الدين ولد .. وقدم الديار المصرية فقطنها.
وكان ماهراً فِي عدة فنون فِي العربية والمعاني والبيان وغير ذَلِكَ، وتكسب فِي ابتداء أمره بتعليم مماليك بعض الأمراء، ثُمَّ نزل فِي طلبة الصَّرْغتمشية فِي غاية الضَّنْك وخُشونة العيش، ثُمَّ لَمْ يزل يترقى حَتَّى ولي الحِسبة بعناية الأمير اللفاف وذلك فِي ذي القعدة سنة ثمان وسبعين وسبعمائة بعد قتل الملك الأشرف.
ثم صرف عنها لتغير الدول إذ ذَاكَ فِي سلطنة وَلَدَي الأشرف شعبان، ثُمَّ أعيد مراراً حَتَّى صحب الأمير بَرَكة واختص بِهِ وولاه نظر الأوقاف ونظر المارستان المنصوريّ، فلما قبض عَلَى بركة عُزل مِنْ جميع مَا بيده، وأمر برقوق أن ينادي لمن ظلمه فما ثبت عَلَيْهِ شيء وأقام فِي داره عاطلاً إِلَى أن سعى بعد مدة فِي الحسبة فأعيد إليها، ثُمَّ غضب عَلَيْهِ بكلام نقله عنه إلى قاضي القضاة صدر الدين ابن منصور، فأمر بأن ينفى إِلَى الشام، فخرج من القاهرة وأقام بتربة فِي الصحراء ليتجهز للسفر، فشفع فِيهِ الشيخ أكمل الدين فأمره أن يلازم داره، ثُمَّ أعيد إلى الحسبة ونظر الأوقاف، ثُمَّ ولي قضاء العسكر وقوي جاهه ثُمَّ ولي نظر الجيوش فِي أيامه تكلم منطاش وسافر صحبة العسكر.
فلما غلب الظاهر برقوق قبض عَلَيْهِ ثُمَّ أطلقه، فقد القاهرة مدة ثُمَّ توصل بصهره المعلم شهاب الدين الطولوني فتزوج جمال الدين ابنته، وَكَانَ الملك الظاهر تزوج ابنته الأخرى. فسعى لَهُ إلى أن ولي القضاء فِي النصف من شعبان سنة ثلاث وتسعين وسبعمائة، ثُمَّ أعيد إِلَى نظر الجيش فباشر مباشرة حسنة. وَكَانَ رئيساً مفضالاً جواداًَ مسعود الحركات، وَلَمْ يزل عَلَى عظمته إِلَى أن مات فِي سابع ربيع الأول سنة تسع وتسعين وسبعمائة.
محمود بن محمد بن محمود النيسابوري المعروف بجار الله تقدم فِي الجيم.
مسعود بن أحمد بن مسعود بن زَيْد الحارِثيّ نزيل القاهرة كَانَ أبوه تاجراً فقدم ...
وسمع الكثير من النجيب عبد اللطيف، وعبد الله بن عَلاّق، وإسماعيل بن عبد القوى ابن عَزُّون وطبقتهم فِي القاهرة.
ورحل إِلَى الشام فأكثر عن أحمد ابن أبي الخير، والرضى ابن البرهان، والجمال ابن الصيرفي، وشمس الدين ابن أبي عمر فِي آخرين. وتفقه لأحمد فمَهَرَ واشتهر، وصنف، وخرّج لجماعة، وروى العالي والنازل، ودرس بالصالحية والناصرية وغيرهما.
ثم ولي القضاء فِي شهر ربيع الآخر سنة تسع وسبعمائة، فباشره مباشرة مرضية مع يقظة واحتياط، وَكَانَ مفرط العصبية لمذهبه فِي الأصول والفروع. فحكى الشيخ شمس الدين ابن القماح أنه قال لَهُ كل مَا يلزم من يقول بالجهة أقول بِهِ، ويقال إنه دخل إِلَى الكاملية ليجتمع بابن دقيق العيد فلما رآه قال دَاعِية وامتنع عن مكالمته.
وقال الصَّفَدي فِي أعيان العصر: شرح " سنن أبي داود " شرحاً حافلاً لكن لَمْ يكمل. وشرح " المقنع " فِي مذهبه وأتى فِيهِ بفوائد ومباحث ونقول كثيرة وَلَمْ يكمل أيضاً. وَكَانَ فصيح الإيراد حسن الحظ جدَّاً عذْب العبارة وافر الحرمة فاخر البزة.

وجرت للطوفي معه كائنة مشهورة مذكورة فِي ترجمة الطوفي، وَكَانَ أولها أن الحارثي تكلم فيمن بلغ رتبة الاجتهاد فقسم المجتهد إِلَى ثلاثة أقسام، فقال لَهُ الطوفي: فسيدنا من أي الأقسام؟ فسكتَ فغضب ولد القاضي وثار عَلَى الطوفي.
ثم جرت لَهُ معهم كائنة أخرى، وادعى عَلَيْهِ عند نائب الحكم بأنه رافضي فأنكر، فقامت عَلَيْهِ البينة فأمر بِهِ فضُرب وطوف بِهِ وسُجن ثُمَّ نفي إِلَى الشام، فتوجه من الطِّينَة إِلَى دمياط فأقام بِهَا مدة ثُمَّ توجه إِلَى قوص فأقام بِهَا مدة، ثُمَّ حج منها، ثُمَّ جاء إِلَى القدس.
ثُمَّ صرف الحارثي عن القضاء بعد سنتين ونصف من ولايته واستقر تقي الدين أحمد بن عوض، واستمر مقبلاً عَلَى الإفادة حَتَّى كَانَتْ وفاته فِي رابع عشر ذي الحجة سنة إحدى عشرة وسبعمائة. ودرس بالجامع الطولوني والصالحية وقَدَّمَ الفضلاء من أهل مذهبه عَلَى غيرهم.
مُسَلَّم - بتشديد اللام - بن علي بن عبد الله أبو الفتح الرَّسْعَني يلقب ثقة الملك الإسماعيلي من المائة السادسة.
ولي القضاء فِي سنة ثلاث عشرة وخمسمائة، وصرف فِي ذي القعدة سنة ست عشرة. ولما ولي المأمون ابن البطائحي اتفق أن مات فِي ولايته عز الأمة محمود بن ظفر والي قوص فعمل عَزَاءه وبات فِي تربته ومعه أعيان الدولة، فحضرت صلاة الصبح فتقدم القاضي فأمّ الناس فحصل لَهُ زمع فَأُرْتِج عَلَيْهِ فِي قراءة الفاتحة فلحن، ثُمَّ قرأ (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا) فوقف عند قوله: (نَاقَةَ الله) ساعة، ففتح عَلَيْهِ الوزير فلم يتيقظ ثم قرأنا وسقناها - بالنون بعد القاف - فأكمل المأمون الصلاة. ولما انفصل المجلس وكل الوزير بالقاضي من يحفّظه من القرآن مَا يصلى بِهِ، وصرفه عن القضاء وقرر لَهُ راتباً فِي كل شهر، وولي مكانه يوسف بن أيوب المغربي.
ومن سيرة مسلم المذكور أنه أراد التقرب من خاطر الأفضل وهو يومئذ سلطان مصر، فكتب إِلَيْهِ رقعة يقول إنه وجد فِي حاصل المواريث مالاً يبلغ مائة ألف دينار وَلَيْسَ لَهُ طالب من عدة سنين، ورَفْعُها إِلَى بيت المال أولى، وأراد بذلك التقرب إِلَى خاطره ليحظى عنده بذلك، فوقع فِيهَا: قلدناك قاضياً، وَلَمْ نجعلك ساعياً، ولا أرب لنا فيما لا نستحق قبضه، فاتركه عَلَى حاله حَتَّى يحضر مستحقه ولا تراجع فِي ذَلِكَ بعدها.
وفي ولايته أمر الخليفة بتوريث ذوي الأرحام، وَفِي أيامه قرر لشهود التركات جامكيات عَلَى الأموال الحشرية وكانوا يأخذون من أموال الأيتام ربع العشر يتوزعونه بينهم فِي مقابل الجامكية، فوفر ذَلِكَ عَلَى الأيتام بأمر الأمير المذكور، وَكَانَتْ وفاة الرسعني المذكور بعد ذَلِكَ فِي سنة ... .
مظفر بن ظافر أبو العز ... .
المُفضَّل بن فَضَالة بن عُبيد بن فضالة بن مَزيد بن نَوْف بن النُّعمان بن مَسْروق الرُّعَيني القتباني يكنى أبا معاوية.
جاء كتاب المهدي إِلَى موسى بن مُصْعَب بولايته وأجرى عَلَيْهِ ثلاثين ديناراً فِي كل شهر.
قال أحمد بن يحيى بن وزير: حدثني أبو ثمامة بن المُفَضَّل بن فضالة عن أبيه قال: سألت يَزيد بن أَبي حَبيب عن مسألة فِي الأحكام وأنا قَدْ ناهزت الاحتلام فضحك وقال تحبُّ أن تكون قاضياً؟ بلغك الله ذَلِكَ.
وكانت ولاية المفضل القضاء فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وستين.
قال أبو الطاهر ابن السَّرْح: رأيت المُفضَّل بن فَضَالة وأنا صبي، رجل أبيض عَلَيْهِ وَفْرة جسيم كأنه من رجال المغرب يعتمّ بعمامة سوداء عَلَى قلنسوة طويلة.
ويقال إن المفضل دعا الله أن يُذهب عنه الأمل فذهب فكاد أن يُخْتلَس عَقْلُه فدعا الله فرده عليه.
روى عن يزيد بن أبي حبيب، ومحمد بن عَجْلان، وعَيَّاش بن عَبَّاس القِتْبَانِيّ، وولده عبد الله بن عَيّاش، ورَبيعة بن سَيْف، وعبد الله بن سُلَيْمان الطويل، وعُقيل، ويونُس، وهشام بن سَعْد، وابن جُرَيْج، فِي آخرين.
وروى عنه ابنه، والوليد بن مسلم، وحَسَّان بن عبد الله الواسِطيّ، وأبو الأَسْوَد النَّضْر بن عبد الجَبَّار، وسعيد بن عيسى بن تَليد، وزكريا بن يحيى كاتب العُمَريّ، ويزيد بن خالد الرَّمْليّ، وقُتَيبة بن سعيد، ومحمد بن رُمْح، وغيرهم.

قال ابن مَعِين: ثقة. وَفِي رواية: رجل صدق. وَكَانَ يُجَبِّر، وإذا جاءه رجل قد انكسرت يده أَوْ رجله جَبَّرها، وَكَانَ يصنع الأرحية.
وقال أبو زُرعة: لا بأس بِهِ. وقال أبو حاتم وابن خِراش: صدوق.
وقال ابن يونس: كَانَ من أهل الفضل والدين ثقة فِي الحديث، من أهل الورع. ذكره أحمد بن شُعَيْب يوماً وأنا حاضر، فأحسن الثناء عَلَيْهِ ووثَّقهُ. وقال: سمعت قتيبة يذكر عنه فضلاً.
وقال الأجُريّ عن أبي داود: كَانَ مُجابَ الدعوة، وَلَمْ يحدث عنه ابن وهب لأنه قضى عَلَيْهِ بقضية.
وقال عيسى بن حماد: كَانَ مجاب الدعوة طويل القيام مع ضعف بدنه. وقال أشهب بن عبد العزيز: لَمْ يكن فِي قضاتنا أقوم بأمر اليتامى من المفضل بن فضالة. قال أشهب وسمعته يقول غير مرة: وليّ اليتيم كأبيه.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحكَم: أخبرني بعض مشايخنا أن رجلاً لقي المُفضّل بن فَضالة بعد أن عُزِل عنِ القضاءَ فقال لَهُ: حَسِيبُك الله قضيتَ عليَّ بالباطل وفعلتَ وفعلتَ فقال لَهُ المُفضَّل: لكنَّ الَّذِي قضينا لَهُ يُطيّب الثناءَ.
وقال أبو زُرارة القِتْبَانِيّ: كَانَ المُفضَّل يجلس فِي مسجده يقضي بَيْنَ الناس فيمر بِهِ عبد الله بن عياش بن عَبّاس القِتْبَانِيّ فيقول: إذَا رأى اجتماع الناس عَلَيْهِ: أهذا الثور يُحسن القضاء!. ويضرب بإحدى يديه عَلَى الأخرى.
وقال أحمد بن يحيى بن وزير: كَانَ المُفَضَّل أول من طوّل السِّجلاّت ونسخ فِيهَا كتب الأحباس والوصايا والديون.
وقال يحيى بن بكير: كَانَ إسحاق بن معاذ بن مجاهد شاعراً، فخاصم إِلَى المُفضّل، وَكَانَ قَدْ هجا المُفضَّل، فأدخل يده إِلَى كُمّه ليخرج قصتهُ فأخرج الهجو فدفعه إِلَيْهِ وهو:
خَفِ اللهَ واسْمَعْ مِنْ مَقَالِي مُفضَّل ... فإنَّكَ عن فَصْلِ الْقَضَاءِ سَتُسْألُ
وَقَدْ قَالَ أقْوامٌ عَجِبْتُ لِقَوْلِهِمْ ... أَقَاضٍ لَهُ شَعْرٌ طَوِيلٌ مُرَجَّلُ
فرمى المُفَضَّل بالرقعة وقال: قم لا حَيّاك الله.
وكان إسحاق قَدْ مدح المفضل قبل ذَلِكَ بأبيات عَلَى هَذِهِ الروى ثُمَّ هجاه بهذه وهي طويلة يقول فِيهَا:
أَفِي الْعدْلِ أن أقصى وأخرج متعباً ... وتدنى بلطف منك خصمي ويدخل
وتقبل منه فِي مَغِيبي شُهُودُهُ ... وَبَيِّنَتِي ليست إذَا غَابَ تُقْبَلُ
وقال يحيى بن عثمان عن صالح بن أبيه: لَمْ يكن يتبع القاضي فيما مضى غير كاتبه ومن يقوم بَيْنَ يديه فِي مجلس الحُكم حَتَّى كَانَ المفضّل فِي ولايته الثانية فإنه رسم أقواماً بالشهادة فكانوا عشرة رجال فرأى الناس أن قَدْ أتى أمراً عظيماً.
وقال فِيهِ إسحاق بن معاذ:
سأدعو إلهي حَتَّى الصَّبَاح ... لِكَيْمَا يُعيدُك كَلْباً هَزِيلاَ
سَننتَ لنا الجَوْرَ فِي حُكْمِنَا ... وَصَيَّرْتَ قَوْماً لُصُوصاً عُدُولاَ
وَلَمْ يَسْمَعِ النَّاسُ فِيمَا مَضَى ... بِأنَّ العدول عديداً قليلاَ
وقال سعيد بن عُفَيْر: جعل المفضل صاحب مسائل يبحث لَهُ عن أحوال الشهود وَكَانَ كاتبه فُلَيح بن سليمان الرُّعَيْني فيقال: إنه كَانَ يرتشي من أقوام ليذكرهم بالعدالة لكونه رسم لذلك قال: فشكى الناس من كاتب المفضل ومن أمرائه ومن ولده.
وقال محمد بن رُمْح: كَانَ بيني وبين جار لي مشاجَرة فِي حائط فقالت لي أمّي: امضِ إِلَى القاضي المفضل بن فضالة ليأتي فينظر فِيهِ. فأخبرت المفضل فأتى العصر فدخل دارنا فنظر إلى الحائط ثُمَّ دخل إِلَى دار جارنا فنظر إِلَيْهِ فقال: الحائط لجاركم. وانصرف.

وذكر أبو عُبَيد الله محمد بن الربيع الجيزي فِي كتابه أخبار قضاة مصر عن فضالة ابن المفضل بن فضالة عن أبيه قال: كتبت إِلَى مالك فِي حُبس عمير بن أبي مدرِك الخولاني أسأله عنه وكتبت لَهُ نسخته حرفاً بحرف، وكتبت لَهُ إن الذين طلبوا إثبات الحٌبس هم من ولد البنين الذين كانوا أجازوا قضاء أبيهم فِيهِ واحتجوا بأن خير بن نعيم كتب لهم بإجازة الحُبس للآخر فالآخر من ولد البنين وأن القضاة قبلي لَمْ يقضوا لنساء البنين ولا لغيرهم فِيهِ بميراث. واحتجّ مَن طلب أن يكون ميراثاً بأن جدهم لَمْ يصرفه بعد انقراضهم إِلَى شيء من وجوه الأحباس. فكتب إليَّ: قَدْ نظرت فِي حبس ابن أبي مدرك وفيما احتج من أراد رده ميراثاً، فوجدت فِي كتاب ابن أبي مدرك الَّذِي جاء بن بنوه وأقروا بِهِ وأنفذوه: أن كل دار هي لَهُ حبس عَلَى بنيه، وثلث فضل خراجها بعد مسكن بنيه. فِي سبيل الله. قال: والطاحونة مثل ذلك.
وقال الحارث بن مِسكِين: سمعت المفضل بن فضالة وَقَدْ سأله رجل عن وطء الزوجة فِي دُبُرها؟ فقال إن أصحاب هَذَا لَمْ يجدوا أصفق وجهاً منه فأرسلوه إِلَي! لَوْ كَانَ هَذَا حلالاً مَا كَانَ فِي ذكره فِي المسجد خير.
وقال الحارث بن مسكين عن ابن القاسم سألت مالكاً عن النصراني الَّذِي ذكر النبي صلى الله عليه وسلم بالشعر وَكَانَ ذكره النبي صلى الله عليه وسلم أن قال: مِسكين محمد، يقول لكم: إنكم فِي الجنة. أهو الآن فِي الجنة؟ مسكين فماله لا ينفع نفسه إذ كَانَتْ الكلاب تأكل ساقيه لَوْ كَانَ أُحرق بالنار استراح منه. فقال: اكتبوا للقاضي يضرب عنقه. وَكَانَ القاضي إذ ذَاكَ المفضل بن فَضالة فاجتمع القاضي والأمير فقتل ذَلِكَ النصراني.
قال أبو عمر: وتَحاكَمَ إِلَيْهِ أبو الكَرَوَّس وامرأته فخاطبه بأبيات يقول فِيهَا:
وَقَدْ أخَذْتَ مَهْراً لما كَانَ عندها ... وهذي شُهُودِي حِمْيَرٌ والمعافرُ
فقال لَهُ: يَا أبا الكَرَوَّس إن شهدوا لَكَ بالبراءة حكمنا لَكَ. وإن شهدوا عَلَيْكَ فعلينا الوفاء.
وقد ذكره ابن سعد فِي الطبقة الخامسة من أهل مصر وقال: منكر الحديث. وَلَمْ يتابع ابن سعد عَلَى ذَلِكَ بل هو صدوق فِي الحديث كما قال أبو حاتم الرازي. وحديثه فِي الكتب كلها.
ولم يزل المفضل قاضياً حَتَّى مات المهدي وولي الهادي فصرفه، وولي عبد الملك الحَزْميّ، وذلك فِي شوال تسع وستين ومائة، فكانت ولايته سنة وثلاثة أشهر، فقدم الحَزْميّ مصر فِي أول سنة سبعين، ثُمَّ صرف الحزمي فِي جمادى الأولى سنة أربع وسبعين ومائة وأعيد المفضل إِلَى القضاء وذلك فِي شهر رجب منها فِي إمرة داود ابن يزيد بن حاتم المهلبي بكتاب الرشيد إِلَى داود.
ولم يزل المفضل عَلَى ولايته إِلَى أن صرف فِي صفر سنة سبع وسبعين فكانت ولايته الثانية ثلاث سنين إِلاَّ شهرين.
وتأخرت وفاته بعد ذَلِكَ إِلَى النصف من شوال سنة إحدى وثمانين وصلى عَلَيْهِ أمير مصر إسماعيل بن صالح بن علي.
وقبره من المشاهد الَّتِي تذكر بالقرافة. ومات فضالة والده سنة اثنتين وعشرين ومائة.
ولولده فَضَالة ولد يقال لَهُ المفضَّل بن فضالة ذكره ابن يونس فقال: روى عن أبيه عن جَده. روى عنه أهل مصر، مات فِي رجب سنة اثنتين وخمسين ومائتين.
ومات فضالة والده سنة ست وعشرين ومائتين.
وأفاد القضاعي فِي الخطط أن القبر الَّذِي يزوره يوم السبت ويسمّون الَّذِي فِيهِ المفضّل بن فضالة هو قبر المفضّل بن فضالة بن المفضّل حفيد القاضي. وكثير من الناس يظنه القاضي وليس كذلك.
قلت: والناس فِي عصرنا لا يقولون المفضَّل بل يسمونه فضل بن فضالة بغير ميم فِي أوله. وكذا ذكره ابن يونس فِي حرف الفاء: فضل بن فضالة بن مفضَّل بن فضالة.
وقال يحيى بن بكير: ولد سنة مائة ومات سنة إحدى أو اثنتين وثمانين ومائة.
وجزم ابن يونس بأنه مات سنة إحدى وكذا قال البخاري فِي شوال.
المفضل بن كامل هو: هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم. يأتي فِي حرف الهاء: موهوب بن عمر بن موهوب الجزَري أبو منصور شافعي من المائة السادسة.

ولد فِي نصف جمادى الآخرة سنة تسعين وخمسمائة، وَكَانَ يقال لَهُ ابن الطيب، نشأ ببلاده، وتفقه عَلَى أبي القاسم عبد القاهر بن مهران ابن البزري، واشتغل بعدة علوم، وولي قضاء الجزيرة، وقدم القاهرة فناب عن الشيخ عز الدين بن عبد السلام. فلما أمسك عن الحكم أذن السلطان الصالح نجم الدين أيوب لنوابه بالاستمرار فِي الحكم منهم موهوب بمصر، وذلك فِي ذي القعدة سنة أربعين.
وكان موسعاً عَلَيْهِ فِي الدنيا، ومع ذَلِكَ يقتصد فِي ملبسه ونفقته، ويديم الاشتغال والإشغال ويقرئ النحو والتفسير والكلام.
ثم صرف فِي ذي الحجة سنة إحدى وأربعين بالجونجي وغيره، إِلَى أن أعيد فِي جمادى الآخرة سنة ثمان وأربعين، فباشره قليلاً ثُمَّ صرف فِي ذي القعدة منها.
وتأخرت وفاته إِلَى شهر رجب سنة خمس وستين وستمائة، فمات فجأة بالمعشوق من مصر، وَكَانَ يأكل بسِيسة فشرق بلقمة منها فكانت فِيهَا مَنِيّته.
والمعشوق المذكور كَانَ هناك ولعله المعروف بالمشتهي، وأما البستان المعروف بالمعشوق بالقرب من بركة الحبش فهو إنشاء الصاحب تاج الدين ابن حنا. وهو بعد هَذَا بمدة.
أبو منصور، كَانَ ينظر بَيْنَ الخصوم منذ قُتِل مالك بن سعيد إِلَى أن ولي أبو العباس ابن أبي العَوَّام هو ويعقوب بن إسحاق أكثر من مائة يوم.
حرف النون
نجم بن جعفر سراج الدين أبو الثريا الإسماعيلي مذهباً.
ولاه الحافظ العبيدي قاضي القضاة وداعي الدعاة بعد أبي الفخر صالح بن عبد الله بن رجاء فِي يوم الخميس لثلاث عشرة بقيت من جمادى الآخرة سنة ست وعشرين وخمسمائة. فلم يزل عَلَى ذَلِكَ حَتَّى قبض عَلَيْهِ حسن ابن الحافظ لما تغلب عَلَى الأمر، وحَجَر عَلَى أبيه. ثُمَّ قتل القاضي فِي ثامن شوال سنة ثمان وعشرين وخمسمائة. وقتل معه الشريف معتمد الدولة عَلَى بن جعفر ناظر الدواوين. وعلي بن السعيد بن زنبور وغيرهما - وقرر بعده ابن ميسر.
قال ابن دانيال فِي أرجوزته:
ثُمَّ وليه ولد الميسر ... أعني سناء الملك رب المفخر
ثُمَّ أبو الفخر ونجل جعفراً ... ثُمَّ محمد ولي بلا مرا
وبعد هَذَا ولد الرعيني ... ثُمَّ سنا الملك بغير مين
وأبو الفخر هو صالح المتقدم، ونجل جعفر هو نجم هَذَا. ومقتضاه أن سناء الملك ولي ثُمَّ صرف، فولي بعده اثنان، ثُمَّ أعيد وهو المراد بقوله: ثُمَّ محمد. ثُمَّ صرف بالرعيني ثُمَّ أعيد وهو سنا الملك المذكور. والمراد ولد الرعيني، حسن بن قاسم بن طاهر الرعيني، وَقَدْ تقدم في الحاء المهملة.
نصر بن يونس بن عطية بن أوس بن عَرْفج بن ضَمار بن مَرْثَد بن أمامة بن رحب الحضرمي.
يقال إنه ولي مكان أبيه لما حصل لَهُ المرض مستهل سنة ست وثمانين، فأقام إِلَى أن مات أبوه بعد شهرين، فولي عبد الرحمن بن معاوية، ويقال إن المَولَّى تِلْكَ المدة أوس بن عبد الله بن عطية ابن عم المذكور.
نصر الله بن أحمد بن محمد بن أبي الفتح بن هاشم بن إسماعيل بن إبراهيم بن نصر الله بن أحمد الكناني العسقلاني ناصر الدين أبو الفتح.
ولد سنة ثمان عشرة وسبعمائة، واشتغل بالفقه، وسمع الحديث بنابلس من عبد الله بن محمد بن يوسف بن نعمة، وبدمشق من أحمد الجزري، وبمصر من حسن الإربلي، والدُّلاصي وغيرهما.
وصاهر موفق الدين - يعني عَلَى ابنته زينب - وناب عنه، ثُمَّ استقل بعد وفاته يوم مات فِي سابع عشري المحرم سنة تسع وستين وسبعمائة.
وكان ديناً عفيفاً مصوناً، صارماً، مهيباً، محباً في الطاعة والعبادة. حدّث ودرس وأفاد. وَكَانَتْ وفاته فِي شعبان سنة خمس وتسعين وسبعمائة. فولي بعده ولده إبراهيم.
نصر الله بن عبد الله بن كامل .... .
النضر .....
النعمان بن الحسن بن علي بن يوسف الحِطِّينيّ معز الدين الحنفي من المائة السابعة.

كَانَ عارفاً بمذهبه خيراً، ناب عن صدر الدين ابن العِز، ثُمَّ ولي قضاء العسكر. ودرس بالصالحية فِي المحرم سنة ثلاث وثمانين وستمائة بعد العِز المارديني ثُمَّ ولي القضاء استقلالاً فِي شعبان سنة سبع وسبعين وستمائة، وصرف فِي جمادى الأولى سنة ثمان هو وابن شكر المالكي، وابن رزين الشافعي، ثُمَّ أعيدوا فِي رمضان سنة تسع إِلَى أن مات، وَكَانَتْ وفاته فِي سابع عشر شعبان سنة اثنتين وتسعين وستمائة، فولي بعده شمس الدين أحمد السروجي.
النعمان بن محمد بن منصور بن أحمد بن حَيّون الإِسماعيلي المغربي يكنى أبا حنيفة تقدم نسبه فِي ترجمة ولده علي.
وكان قدومه صُحبة المعِز من المغرب وهو يتولّى القضاء فِي عسكر المعز، فأقر المُعِزّ أبا الطاهر عَلَى حاله، وأول مَا فوض للنعمان الحكم فِي الضيعة الَّتِي كَانَ محمد بن علي الماذرائي حبسها ثُمَّ باعها فِي المصادرة فاشتراها منه عمر بن الحسن العباسي ثُمَّ باعها أولاده فاشتراها فرح التحكيمي، فأثبت أحمد بن إبراهيم بن حماد تحبيسها، ثُمَّ اتصل بالخصِيبيّ فحكم بأنها حُبسٌ، ثُمَّ اتصل ذَلِكَ بأبي الطاهر فأمضى ذَلِكَ، فتظلم فرح التحكيمي، إلى المعز فأمر النعمان بن محمد أن ينظر فِي أمرها، فاتصل بِهِ إشهاد أبي الطاهر بجميع مَا فِي كتاب التحبيس فشهِد عنده الحسين بن كهمش، وعبد العزيز بن أعين عَلَى إشهاد أبي الطاهر بما ذُكِر، فعاجلت النعمان المنية قبل إكمال القضية فكانت وفاته فِي سنة ثلاث وستين وثلاثمائة.
وكان يسكن مصر ويغدو منها إِلَى القاهرة فِي كل يوم، واستمر أبو الطاهر عَلَى حاله ولكن أضاف إِلَيْهِ المعز، علي بن النعمان، فكان يحكم بالجامع العتيق أيضاً، ثُمَّ بعد موت المعز وتولى العزيز، رَدَّ أمر دار الضرب والجامع لعلي بن النعمان بن محمد، فحضر الجامع وحضر أبو الطاهر فِي مجلسه عَلَى العادة وحكم، وحضر معه جمع كثير من الشهود والفقهاء والتجار وأعلنوا بالدعاء لأبي الطاهر.
فأحضر متولي الشرطة الذين أعلنوا بالدعاء لأبي الطاهر فسجنهم، فشفع فيهم علي بن النعمان فأطلقوا، وواصل أبو الطاهر الجلوس بالجامع، وَلَمْ يزل أمره مستقيماً إِلَى أن حصلت لَهُ رطوبة عطلت شِقَّه فعجز عن الحركة إِلاَّ محمولاً.
فركب العزيز يوماً فِي مستهل صفر سنة ستين وثلاثمائة فتلقاه أبو الطاهر وهو محمول عند باب الضيافة، فسأله أن يأذن لَهُ فِي استخلاف ولده أبي العلاء ابن أبي الطاهر نيابة عنه بسبب مَا بِهِ من الضعف فقال العزيز: مَا بقي إِلاَّ أن يقدّدوه.
ثم فِي ثالث يوم صَرف أبا الطاهر، وقلَّد علي بن النعمان كما سبق فِي ترجمته.
نِعْمة بن بَشِير بن أحمد أبو الفضل النابلسي المعروف بابن الجَليس إسماعيلي من المائة الخامسة ولي فِي سنة خمس وتسعين وأربعمائة بتعيين الأفضل أمير الجيوش، إلى أن مات في سنة ثلاث عشرة وخمسمائة فاستقر بعده مُسَلَّم بن علي الرسْعَني.
نعيم هو - خير بن نعيم. إِلاَّ أن جماعة وابن دانيال فِي منظومتهما سمياه نعيماً. وَقَدْ تقدم فِي الخاء المعجمة.
حرف الهاء
هارون بن إبراهيم بن حماد بن إسحاق بن إسماعيل بن حماد بن زيد الأزدي نزيل بغداد، يكنى أبا بكر، مالكي من المائة الرابعة، ولد سنة ثمان وسبعين ومائتين.
وسمع من العباس بن محمد الدوري، وعم أبيه إسماعيل بن إسحاق، وإبراهيم الحربي. وغيرهم.
وتولى القضاء ببغداد، وأضيف إِلَيْهِ القضاء فِي مدن كثيرة، منها قضاء مصر من قِبل المقتدر بعد صرف أبي يحيى عبد الله بن إبراهيم بن مُكرَم، فاستخلف أولاً عبد الرحمن بن إسحاق الجوهري، ثُمَّ عزله واستخلف أخاه أحمد، وَكَانَ ذَلِكَ فِي حياة والدهما.
وهو من بيت قضاء ورياسة.
وكان لين الجانب، جميل الطريقة، حسن المذهب والسمت، وافر الحُرْمة، مشكور السيرة، عارفاً بالأحكام.
ولمَّا عُزل هارون من القضاء انعزل أخوه بعزله، وذلك فِي سنة ست عشرة وثلاثمائة.
روى عن هارون جماعة منهم: أبو القاسم الطبراني. ومات فجأة فِي جمادى الأولى سنة ثمان وعشرين وثلاثمائة. ومات أبوه قبله بخمس سنين فِي سنة ثلاث وعشرين وثلاثمائة.

هارون بن عبد الله بن محمد بن كَثِير بن مَعْن بن عبد الرحمن بن عَوْف القرشي الزُّهْرِيّ يكنى أبا يحيى وقيل أبو عمرو. مالكي من المائة الثالثة وأصله من المدينة. وأمه من رهط أبيه وهي: سَهْلَة بنت مَعْن بن محمد بن كثير بن معن بن عبد الرحمن بن عوف.
قال الشيخ أبو إسحاق فِي الطبقات فِي أصحاب مالك: ومنهم هارون بن عبد الله. أخذ عن أبي مصعب الزهري والهديري وغيرهما، وَكَانَ أعلم من صنّف الكتب فِي مختلف قول مالك.
وذكره ابن سفيان فِي أصحاب مالك.
وذكره عياض فِي المدارك وقال: ذكره ابن سفيان فيمن روى عن مالك، وأسند لَهُ أحاديث وحكاية تشهد بسماعه من مالك. وَكَانَ فقيهاً عَلَى قول مالك، وسمع من ابن وهب وابن أبي حازم، وعبد الملك بن الماجشون، والمغيرة المخزومي، والواقدي وغيرهم. روى عنه يحيى بن عمرو، ويونس بن عبد الأعلى، وهارون بن سعيد الأيْلَى، وآخرون.
قلت: وأخرج لَهُ الخطيب فِي الرواة عن مالك من طريق أبي الفتح الأزدي، حدثنا محمد بن احمد بن الهَيثم، حدثنا الوليد بن مسافر، حدثنا هارون بن عبد الله القاضي، حدثنا مالك، عن حبيب بن عبد الرحمن، عن حفص بن عاصم، عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (مَا بَيْنَ قبري ومِنْبري رَوضة من رِياضِ الجنة) تابعه إسماعيل بن أبي أويس ورواه غيره عن مالك فقال فِيهِ عن أبي هريرة أو عن أبي سعيد الخُدْرِيّ كذا فِي الموطأ.
وذكره الدارقطني فِي الغرائب، والإِسماعيلي فِي المستخرج، وابن عبد البر فِي التمهيد.
وأخرجه البخاري من طريق عبد الرحمن بن مهدي عن مالك فلم يذكر أبا سعيد.
ولم أَرَ فِي شيء من طُرقه عن مالك لفظ " قبري " إِلاَّ من رواية هارون هَذَا. والكل قالوا: " بيتي " .
وقال الزُّبير بن بكّار: كَانَ هارون من كبار الفقهاء، وَكَانَ يقوم بنصرة قول أهل المدينة، سمعتُ منه بمكة وَكَانَ سكنها. وَلَهُ رواية عن مالك. وقال لي ابن عبد الحَكَم: لقيته وَكَانَ من أهل الأدب الواسع.
وقال الحميدي: كَانَ محموداً فِي قضائه عفيفاً، وأول شيء وليه قضاء المصيصة ولاّه المأمون، ثُمَّ ولاّه الرّقة ثُمَّ ولاّه قضاء عسكر المهدي ثُمَّ ولاّه قضاء مصر وشَافَهه بذلك. فأول مَا دخلها كَانَ فِي النصف من رمضان سنة سبع عشرة ومائتين.
قال يحيى بن عثمان: قدم فجلس فِي المسجد الجامع وَكَانَ فِي الشتاء فجلس فِي مقدَّم المسجد وأسندَ ظهره إِلَى القبلة بجدار المسجد ومنع المصلين أن يقربوا منه، وباعد كتّابه والخصوم، فكان أول من فعل ذَلِكَ، وَكَانَ يجلس فِي الصيف فِي صحن المسجد ويسند ظهره للحائط الغربي.
وقال يحيى بن عثمان: لما قدم هارون لَمْ يبقَ شيء من أمور القضاء حَتَّى باشره بنفسه وحضره، وَلَمْ يبق حُبْس يتولاه القاضي حَتَّى وقف عَلَيْهِ وعرف وجوه متحصله وغلته وأحاط عِلماً بأموال اليتامى وحاسَب عَلَيْهَا بنفسه. وضرب رجلاً كَانَ فِي حِجره يتيم فرأى فِي أمر اليتيم بعض الخلل فضربه وطوّف بِهِ وحمل أموال الغائبين ومَن لا وارث لَهُ إِلَى بيت المال.
وكان صليباً فِي الأحكام، قوي النفس، وَكَانَتْ العادة الجارية أن للخليفة فِي كل صاحب خير يكتب بجميع مَا يقع إِلَى الخليفة مع البريد شيئاً فشيئاً، فبينا هارون فِي مجلسه إذ جلس معه رجل فقال لَهُ: مَا حاجتك؟ قال: إن زكريَّاء بن سعد صاحب البريد أمرني أن أجلس معك. فقال: هَذَا مجلس أمير المؤمنين لا يجلس فِيهِ أحد إِلاَّ بإذنه! فركب زكرياء إِلَى أمير مصر فذكر لَهُ ذَلِكَ فحضر هارون فِي الحال، فوجد عند الأمير إسحاق بن إبراهيم بن تميم وأحمد بن محمد بن أسباط. فقال أحمد لهارون: أشهد عَلَيْكَ بما قلت. فقال: من يكون هَذَا؟ فقال لَهُ كاتبه: هَذَا أحمد بن محمد بن أسباط. فقال له هارون: لعلك يا كلب تتكلم. والله لقد هممت أن لا أقوم من مجلسي هَذَا حَتَّى يُضرب ظهرك لِما صحّ عندي من سوء سيرتك. فقال الأمير لأحمد - وخشي عَلَيْهِ من زيادة هارون - : انصرف من هنا.
وكتبوا إِلَى المأمون بالقصة فجاء - جوابه: إن أحبّ هارون أن يجلس معه أحد وإلاّ فَلاَ. فقال هارون لما بلغه ذَلِكَ: أما إِذْ رَدَّ إليّ أمير المؤمنين الأمر فليجلس من شاء.

قال أبو عمر الكندي: وَلَمْ يزل أمر هارون مستقيماً حَتَّى وقعت المحنة، فكتب أبو إسحاق - وأمْرُ مصر يومئذ إِلَيْهِ - : مِن أبي إسحاق ابن أمير المؤمنين الرشيد أخي أمير المؤمنين إِلَى نصر بن عبد الله، فذكر الكتاب وفيه أن أمير المؤمنين أمرني أن أكتب إِلَى قضاة عمَلي بامتحان الشهود. فمن أقرّ منهم بأن القرآن مخلوق استمر، ومن أبَى ذَلِكَ اعتزل عن الحكم. وأن يمنع أهل الحديث والفقه من الجلوس للناس إِلاَّ من انتحل منهم هَذِهِ النِّحلة. فذكر بقية الكتاب وهو مؤرخ بعشر بقين من جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين، فأحضر الأمير يومئذ وهو نصر بن عبد الله المعروف بكَيْدَر مولى أمير المؤمنين القاضي هارون بن عبد الله وامتحنه بما فِي الكتاب، فأجابه إِلَى ذَلِكَ، وَوَافَقَه عَلَيْهِ وتابعَه عامة الشهود وأكثر الفقهاء إِلاَّ من هرب منهم ومن أهل الحديث. واستمر هارون يمتحن مَن يشهد عنده، فإن أقرّ بذلك قَبِله، وإن امتنع وقفت شهادته.
قال أبو عمر الكندي: حدثني محمد بن محمد بن أبي الحديد، حدثني عنه عُتبة بن بَسْطام، قال: كَانَ هارون بن عبد الله إذَا شهد عنده شاهدان سألهما عقب الشهادة عن القرآن. فإن أقرّا أنه مخلوق قَبِلَهما، وإلاّ فلا.
ثم استشعر أحمد بن أبي دُوَاد مِن هارون بعض التصبر فِي ذَلِكَ، ففوض أمر المحنة إِلَى محمد بن أبي الليث، وذلك قبل أن يلي القضاء، فشدَّدَ فِي ذَلِكَ بحيث أمر بحمل البُوَيطيّ ونُعَيْم بن حمَّاد وغيرهما إِلَى العراق.
قال محمد بن الربيع الجِيزيّ: وَكَانَ أبي يقول: سمعت هارون بن عبد الله يحمد الله عَلَى المعافاة من الدخول فِي المحنة.
ثم حَمِد أحمدُ بنُ أبي دُوَاد قيامَ محمد بن أبي الليث، فصرف هارون عن القضاء وأضافه إِلَى ابن أبي الليث فكان منه مَا تقدم فِي ترجمته.
ويقال إنه رفع إِلَى ابن أبي دُوَاد قوله: اللهم لَكَ الحمدُ عَلَى مُعَافاتي مما بَلَوْتَ بِهِ غَيري فصرَفه. وصرف هارون فِي صفر سنة ست وعشرين ومائتين فكانت ولايته ثمان سنين وستة أشهر.
وذكره ابن يونس فِي الغرباء فقال بعد أن نسبه: قدم مصر عَلَى القضاء سنة سبع عشرة، ثُمَّ صرف فخرج إِلَى العراق فأقام بسُرّ مَن رَأى حَتَّى مات يوم السبت لإِحدى عشرة ليلة بقين من شعبان سنة اثنتين وثلاثين ومائتين. وَقَدْ كتب عنه بمصر.
قال أبو عمر الكندي: كَانَ ورود كتاب المعتصم إِلَيْهِ بأمره بالتوقف عن الحكم لثلاث عشرة ليلة خلت من صفر سنة ست وعشرين فوليها زيادة عَلَى ثمان سنين. وعاش بعدها زيادة عَلَى ثمان سنين.
ومما أورده لَهُ محمد بن خلف القاضي المعروف بوكيع من الشعر أشياء حسنة منها فِي الغَزَل والفخر العام:
مَاذَا على الحي يوم البَيْن لَوْ رَجَعُواوَوَاصَلُوا مِنْ حِبَالِ البَيْن مَا قَطَعُوا
مَن لم ينالُوا فِي الديار ولو ... نالوه لَمْ يصنعوا من ذَاكَ مَا صَنَعوا
لما رأيت حمول الحي باكرة ... يَحثها جذل بالبَيْن مُنْدَفع
ناديتُ ليلى ولا ليلى تودعني ... منها السلام فكاد القلب يَنْصَدع
يَا ليل أهلك أحموني زيارتكم ... والدار واحدة والشَّمل مُجتمعُ
فالآن مر عَلَى العيش بعدكم ... فلستُ بالعيش بعد اليوم أنتفع
هل الزمان الَّذِي قَدْ مرّ مُرْتجع ... أم هل يرد عَلَى ذي العلة الجزع
قالت سليمى عَلاَك الشيب من كبر ... والشيب أهون مَا لَمْ يأتك الصَّلَع
يَا سلم إني وإن شيب يفزعني ... رحب اليدين بما حملت مضطلع
ولن أرى بطراً يوماً لمفرحة ... وَلَمْ أرى لصروف الدهر أختشع
قَدْ جربتني صروف الدهر فاعترفت ... صلب القناة صَبوراً كيفما يقع
فرد الخلائق لا يقتادني طَمع ... إن اللئيم الَّذِي يقتاده الطمع
هَذَا وخائن قوم ظل يشتمني ... كالكلب ينبح حيناً ثُمَّ يَنْقَمع
تركته معرضاً لي واستهنتُ بِهِ ... إذ لَمْ يكن فِيهِ لي رِيّ ولا شبع

لا واضعاً غضبي فِي غير موضعه ... ولا انتصاري إِذَا مَا نالني الفزع
ولا ألين لقوم خاضعاً لهم ... ولا أكافئهم بالشر إن جمعوا
حلما بحلم وجهلا إن هم جهلوا ... إني كذلك مَا آتي وَمَا أَدَعُ
ومنها فِي الحكم:
أمسَى مَشيبك فِي المفَارق شائعاً ... ورددت من عهد الشباب وَدَائعا
وتركتَ وصل الغانيات وطالما ... غابتَ فيهن العواذل طائعا
ولقد لبست من الشباب غضارة ... ونضارة لو كَانَ ذَلِكَ راجعا
أزمان تصغي للصبا وحديثه ... سمعاً يميل إِلَى الغواية سامعا
فَدَع الغواية بالشباب وذكره ... كم موضع فِي الغي أصبح نازعا
لا تعطِ نفسك مَا تريد ولا تكن ... فيما يضرك إن دعيت مُسَارعا
لا تَمْسَ عبداً للمطامع ولتكن ... للفضل متبوعاً ولا تَكُ تابعا
كُن للعشيرة فِي الأمور إِذَا عَدت ... كهفاً وعنها فِي الخُطُوب مُدَافِعا
لا تَحسدن نبيهها واخضع لَهُ ... حَتَّى تَلين بِهِ وتصبح خاضعا
سهِّل لَهُ فيما يريد طريقه ... حَتَّى يكون برفعه لَكَ رافعا
فمتى ينل حظاً يكن لَكَ حظه ... وتكون فِيهِ مفارقاً ومجامعا
وإذا نشا لَكَ ناشئ فانهض لَهُ ... وامنعه من ضَيْم يكن لَكَ مانعا
دَارِ العداوة من عدوك بالتقى ... واحذر عدوك دانياً أَوْ شاسعا
أكثر صديقك مَا استطعتَ فما بِهِ ... ضر إِذَا مَا لَمْ يكن لَكَ نافعا
حافِظ عَلَيْهِ واتخذه عُدة ... سيفاً إِذَا لقي الكرِيهة قاطعا
وإذا دَعَاك إِلَى الرجوع مُجاملاً ... فارجع لَهُ وليلف سربك واسعا
إِلاَّ الحسود فإن تِلْكَ عداوة ... تبدي الرضا وتكون سماً ناقعا
واصبر عَلَيْهِ فليس فِيهِ حيلة ... ولتطلعن طوالعاً وطوالعا
ومنها:
أيام معروفك مَا لَمْ تعن ... بالصبر أحوالٌ وأَحوالُ
فاصبر لَهَا واصبر لمكروهها ... فللذي يدبر إقبال
ورب أمر مرتج بابه ... عَلَيْهِ أن يفتح أقْفَال
ضاق بذي الحيلة فِي فتحه ... حينئذ والمرء مُحتال
حَتَّى تلقته مفاتيحه ... من حَيْثُ لَمْ يخطر بِهِ البال
والرزق فاطلبه عَلَى أنه ... آت لَهُ وقت وآجال
وَلَيْسَ يبطئ عنك فِي مقته ... ولا لَهُ عن ذَاكَ إِعْجَال
فلا تقم عبداً عَلَى مطمع ... فربما أَخْنَى بك الحال
والفَقْرُ خَير من غِنى يَا فتى ... يكون فِيهِ لَكَ إِذْلال
والمال للمُكثر شَين إِذَا ... لَمْ يَكُ منه فِيهِ إِفْضال
والحر حُر حَيْثُ أمسى ولا ... يمنعه من ذَاكَ إقلال
وأنشد لَهُ الزبير بن بكّار يتشوق إِلَى المدينة المنورة:
هل الشوق إِلاَّ أن يحن غريب ... وأن يستطيل العهد وهو قريبُ
أرى الشوق يدنيني إِلَى من أوده ... وللشوق داع مسمع ومجيب
سقى الله أكناف المدينة إنه ... يحل بِهَا شخص إليَّ حبيب
وإني وإن شَطت بي الدار عنهم ... إِلَيْهِم لمشتاق الفؤاد طروب
وقائلة مَا بال جسمك شاحباً ... وأهون ما بي أن يكون شحوب
فقلت لَهَا فِي الصدر مني حرارة ... تقطع أنفاسي لَهَا وتذوب
إِذَا مَا تذكرت الحجاز وأهله ... فللعين من فيض الدموع غروب
قال يونس بن عبد الأعلى: مَا ولينا قاضٍ مثل هارون بن عبد الله، مَا استفاد عندنا إِلاَّ داراً، فلما انصرف باعها وتحمل بثمنها. وَكَانَ هارون أديباً فذكر عَلْقَمة بن يحيى عن هارون، قال: أنشدت عبد الملك بن عبد العزيز الماجِشون:

ولما رأيتُ البَيْنَ منها فجاءةً ... وأهون للمكروه أن يتوقّعَا
وَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ أن يُودِّع ظاعِنٌ ... مُقِيماً ويذرى عبرة إن تودَّعَا
نظرت إليها نظرة فرأيتها ... وَقَدْ أبرزت من جانب الخِدْر إِصْبَعا
قال: لمن هَذِهِ؟ قلت: قالها رجل من قريش. فقال: أحسن والله. فقلت لَهُ: أنا والله قُلتها فِي طريق سرتها إِلَيْكَ. قال: قد والله عرفت الضعف فِيهَا حين أنشدتها.
وقال القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي فِي فوائده: حدثنا أحمد بن عبد الله بن أحمد الدوري، أنبأنا القاضي أبو بكر أحمد بن إسحاق بن إبراهيم الملحمي، حدثني أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي بمصر، حدثنا هارون بن عبد الله الزهري - قاضي مصر سنة ست وعشرين ومائتين - بعد أن صُرف عن الحكم قال: رفع الواقدي قصة إِلَى المأمون يذكر فِيهَا غَلَبة الدَّين. فذكر القصة المشهورة وفيها. قال المأمون: وأنت حدثتني عن محمد بن إسحاق، عن الزهري، عن أنس، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال للزبير: (يَا زُبَيْر، إن باب الرزق مفتوح بباب العرش، ينزل الله عَلَى العباد أرزاقهم عَلَى قَدْر نَفَقَاتهم، فمن كثَّر كُثِّر لَهُ، ومن قَلَّلَ قُلِّلَ لَهُ.
وأخرجها أبو القاسم ابن عساكر فِي ترجمة الواقدي، عن أبي القاسم النسيب، قال: حدثنا أبو بكر الخطيب، أخبرنا أبو عبد الله محمد بن يوسف بن دُوسْت البزاز، حدثنا علي بن محمد المصري، حدثنا أبو زيد عبد الرحمن بن حاتم المرادي، حدثنا هارون بن عبد الله الزهري - الذي كَانَ قاضي مصر - قال: كتب الواقدي رقعة إِلَى المأمون يذكر فِيهَا غلبة الدَّين وغَمّه بذلك، فوقّع المأمون عَلَى ظهرها: فيك خلتان: السخاء والحياء. فأما السخاء فهو الَّذِي أطلق مَا ملكت. وأما الحياء فهو الَّذِي منعك من إبلاغنا مَا أنت عَلَيْهِ، وَقَدْ أمرنا لَكَ بكذا وكذا؛ فإن كُنا أصبنا إرادتك فِي بَسْط يدك فإن خزائن الله مفتوحة.
وأنت كنت حدثتني وأنت عَلَى قضاء الرشيد فذكر الحديث. لكن لفظه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للزبير: (يَا زبير إن باب الرزق مفتوح بباب العرش ينزل الله إِلَى العبادة أرزاقهم) والباقي مثله. وَفِي آخره قال الواقدي: وكنت قَدْ أنسيت الحديث، فكان تذكرته إياي أحب إليّ من جائزته. قال هارون القاضي الزهري: بلغني أن الجائزة كَانَتْ مائة ألف، فكان الحديث أحب إليّ من مائة ألف.
هاشم بن عبد الرحمن بن أبي بكر بن عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق أبو بكر البكري المدني الأصل، من أهل الكوفة، وَكَانَ يذهب إِلَى قول أبي حنيفة من المائة الثانية.
قال أبو عُمر وَابن يونس: تولى من قبل الأمين محمد بن هارون الرشيد فِي جمادى الآخرة سنة أربع وتسعين بعد صرف العمري.
قال الطحاوي عن يحيى بن عثمان: أن البكري كَانَ يقول: دخلتُ مصر وأنا مُقِلّ فزرعتُ زرعاً فَلحِقَته آفة فانكسر عليَّ خَراجه، فطولبت بذلك، وشدّد عليَّ فِيهِ، وَكَانَ كاتب الخراج يعرف بمقارّة، فقال لما عرفوه بيتي: يَا سبحان الله! ابن صاحب نبيكم والذي قام بعده يُطالَب بمثل هَذِهِ المطالبة، مَا كَانَ عَلَيْهِ فهو عليّ وهو لَهُ عليَّ فِي كل سنة. فكان البكري بعد ذَلِكَ لما ولي القضاء يقرب الكاتب المذكور ويقرب الكاتب المذكور ويقرب إدريس بن يحيى الخولاني لزهده.
وكان السبب فِي ولايته أن القاضي قبله وهو عبد الرحمن بن عبد الله العمري لما أثبت نَسب أهل الحرس وألحقهم بالعرب، وَفَّدَ أهل مصر - ومعهم أبو رَحْب العلاء بن عاصم الخولاني وهاشم بن حُدَيْج - وَفْداً إِلَى العراق بما فعل العمري بأهل الحرس وأنه ألحقهم بالعرب ونسَبَهم إِلَى حَوْتَكة بن أسلم بن الحاف بن قُضاعة. فكتب محمد الأمين إِلَى البكري بولاية القضاء؛ وأن يمنع مَن ينتمي إِلَى العرب وأن يرد أهل الحرس إِلَى مَا كانوا عَلَيْهِ من أنسابهم. فرجع البريد بذلك.
فدعا البَكريّ أهل الحرَس فطلب منهم قضِيَّة العمري فأحضروها لَهُ ظناً منهم بأنه يطلب منهم زيادة من الشهود. فلما مَلكها فِي يده أخرج مقْرَاضاً من تَحْتَ مُصلاّة فقطع القضيّة وقال لهم: العرب لا تحتاج إِلَى كتاب من قاضٍ، إن كنتم عَرَباً فليس ينازعكم أحد.

فقال فِي ذَلِكَ مُعَلَّى الطائيّ.
يَا بَنِي البَظْرَاءِ مُوتُوا كَمَداً ... واسْخَنُوا عَيْناً بِتَخْريقِ السِّجلْ
في أبيات.
وقال يحيى بن بُكَير: أمر البَكريّ بإقامة البيِّنة عنده عَلَى بطلان دعوى أهل الحرس فحضر من أهل مصر عنده: ابن وَهب، وسعيد بن أبي مَرْيَم، وسعيد بن عُفَير، وناس كثير من أهل العدالة، فَشَهِدوا عنده أنّ أهل الحرَس من القِبْط، وأن العُمَريّ قضى لهم بالباطل: فأبطل قَضِيَّة العُمَريّ فيهم وأشهد عَلَى نفسه بردّهم إِلَى أصلهم من القبط فقال الشعراء فِي ذَلِكَ وتتبع البكري أصحاب العمري كلهم وسجنهم، وأشار عَلَيْهِ أبو رَحْب بمطالبة العمري وسجنه ففعل، وطالبه بما صار إِلَيْهِ من الأموال والأوقاف وغيرها، وأسقَط كل مَن شَهِد لأهل الحرس، ونادى بعضهم وشهّره بخيانته فِي ذَلِكَ منهم يحيى بن عبد الله بن بُكيْر. وقام عبد العزيز بن مُطرَف فِي نصر العمري وضمِن عنه مالاً كثيراً، ورفع أهل مصر للبكري أن العمري استفاد مائة ألف دينار من جهات عَدَّدُوها، فطالبه البَكريّ بِهَا وعرّفه وجوهها، ثُمَّ هرب العُمَريّ من السجن.
وكان قَدْ حول أمواله قبل ذَلِكَ إِلَى مَدْين، فتوجه إِلَى مَدْيَن فتحمل بما لَهُ وصَحِب خفيراً من البَوادِي فلما وصل إِلَى فَيْد خرج عَلَيْهِ قوم من أَسَد وطَيئ فأوقعوا بِهِ وأخذوا جميع مَا معه، ونَجا بحُشاشة نفسه.
وكان كاتب البكري: محمد بن عميرة النَّخَعِيّ، وأحمد الكوفي. وَكَانَ عمرو بن خالد الحراني يلزَمه وربما كتب لَهُ.
وروى أبو عُمر من طريق عَمْرو بن خالد قال: كَانَ البكري لا يجلس للقضاء حَتَّى يتغذَّى ويشرَب ثلاثة أقداح نبيذاً.
وأخرج ابن يونس من طريق عمرو بن خالد أن البكري كَانَ يشرب النبيذ الشديد.
قال ابن يونس: وحدث البكري بمصر وكتب عنه وَلَمْ يَزَل قاضياً إِلَى أن مات فِي المحرم سنة ست وتسعين ومائة. فكانت مدة ولايته سنة وستة أشهر.
هبة الله بن الحسين بن عبد الرحمن بن نُبَاتة يكنى أبا الفضل. ولي القضاء فِي رابع شعبان سنة خمس وسبعين وأربعمائة بعد جلال الدولة علي بن أحمد بن عَمّار.
هبة الله بن عبد الله بن حسين بن محمد الأنصاري الأوسي المعروف بابن الأزرق يكنى أبا الفضائل إسماعيل من المائة السادسة.
قال ابن ميسر فِي تاريخه: ولاّه أبو علي أحمد بن الأفضل رابع أربعة الحكم من كل مذهب قاضي وهم: سلطان بن إبراهيم الشافعي. وأبو الفضل ابن الأزرق ويقال كنيته أبو الفضائل الإِسماعيلي. ومحمد بن عبد المولى اللبْني المالكي. وابن أبي كامل الإمامي. وَكَانَ يلقب فخر الأمناء، ولي فِي حادي عشر ذي القعدة سنة ثلاث وثلاثين وخمسمائة.
وكان الحافظ فوض إليه قبل ذَلِكَ نظر دار العلم والتدريس بِهَا مضافاً إِلَى الحكم، وَكَانَ مدرسها قبله أبو الحسن علي بن إسماعيل. فجرى بينه وبين القاضي مفاوضة أدت إِلَى الخصام ثُمَّ إِلَى المصافعة والملاكمة حَتَّى تقطعت ثيابهما وسقطت عمائمهما، فخرج القاضي وهو حنق عَلَى حالته القصر ماشياً بغير عمامة وثيابه مخرقة، فأعلم الحافظ بذلك فعظم عَلَيْهِ مَا صنع فصرفه عن الحكم، وأغرمه مالاً، وألزمه داره، وردّ أمر القضاء إِلَى أبي الطاهر إسماعيل بن سلامة المعروف بالموفق فِي الدين، وأخرجها أبو القاسم بن ... .
هبة الله بن عبد الله بن الحسن بن محمد بن أبي كامل. كَانَ عَلَى مذهب الشيعة الإمامية. ولاه أبو علي أحمد بن الأفضل رابع أربعة كما ذكر فِي ترجمة الَّذِي قبله وَكَانَ من فقهاء الإمامية وصدورهم.
هبة الله بن عبد الله بن كامل بن عبد الكريم بن الحسن بن محمد بن أبي كامل المُضَري - بضم الميم وفتح الضاد المعجمة - الشّهْرزُوريّ ثُمَّ الصوري القاضي المفضل يكنى أبا القاسم.
حرف الواو

وهب بن وهب بن كبير بن عبد الله بن زَمْعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العُزَّي بن قُصَي ... القرشي الأسدي أبو البَخْتَرِيّ - بفتح الموحدة وسكون المعجمة بعدها مثناة من فوق مفتوحة - تقدم فِي ترجمة محمد بن مسروق أن الرشيد أمر أبا البختري أن يعزله عن قضاء مصر فعزله، وولي بعده عبد الرحمن بن المجبّر، وهذا يدل عَلَى أنه كَانَ الرشيد ولاه القضاء عَلَى البلاد عموماً، وَكَانَتْ القضاة فِي البلاد نوابه كما كَانَ ذَلِكَ لأبي يوسف من قبل.
حرف الياء المثناة من تَحْت
يحيى بن أكْثَم بن محمد بن قَطَن بن سمعان بن مُشَنَّج بن عبد عَمرو بن عبد العُزَّى بن أكْثَم بن صَيْفي بن شريف التميمي الأُسَيْدِيّ المَرْوَزِيّ أبو محمد نزيل بغداد حنفي ويقال شافعي من المائة الثالثة.
قال أبو عمر الكندي: ولاه المأمون قضاء مصر لما دخلها سنة سبع عشرة، فجلس يوم السبت لإحدى عشرة ليلى خلت من شهر المحرم منها، فقضى بَيْنَ الناس. ويقال إنه لمن يباشر القضاء بِهَا سوى ثلاثة أيام، وتوجه صحبة المأمون إِلَى سَخَا، ثُمَّ رجع إِلَى مصر فحكم بِهَا أيضاً أياماً، ثُمَّ رحل المأمون فرحل معه، وتَشَاغَل المأمون بالحرب حَتَّى خرج منها وخرج معه يحيى وَلَمْ يقرر فِيهَا قاضياً بعد أن عرض عَلَيْهِ جماعة من أهلها، وعين عليّ بن مَعْبَد بن شَدّاد فامتنع ولَجَّ فِي الامتناع.
وَكَانَ مولد يحيى بن أكثم فِي سنة تسع وخمسين ومائة.
وسمع ببغداد ومكة وغيرهما من سُفيان بن عُيينة، وأبي بكر بن عَيّاش، والفضل بن موسى المروزي وعبد الله بن المبارك، وحفص بن غياث.
روى عنه التِّرمذيّ فِي الجامع، والبخاري خارج الصحيح، وإسماعيل القاضي. وَكَانَ يبرئه مما يرميه بِهِ الناس من حب الولدان.
وَكَانَ أحمد يقول: مَا عرفناه ببدعة. وذكر لَهُ مَا يقال عنه فأنكرَ إنكاراً شديداً. وقال: سبحان الله! مَن يقول هَذَا!.
قال ابن الجوزي: لما استخلف المتوكل وقبض عَلَى ابن أبي دُوَاد صَيَّر يحيى بن أكثم فِي مرتبته وخلع عَلَيْهِ خمس خلع. فلم يزل إِلَى أن كَانَ فِي صفر سنة سبع وثلاثين ومائتين. فعزل المتوكل يحيى بن أكثم من القضاء وقدم يعقوب بن قوصرة فأخذ من منزله خمسة وسبعين ألف دينار وصولح عَلَى أن يؤدي تمام ألف دينار وعشرين ألف دينار. وولي مكانه فِي قضاء بغداد جعفر بن عبد الواحد الهاشمي.
ويقال: إن سبب عزله قصته المتقدمة مع ابني مسعدة.
قال ابن الجوزي: وَكَانَ شاع عنه ذَلِكَ، يعني محبة الغلمان ولعله كَانَ يقنع بالنظر حسب مَا أسند عن أبي العيناء.
قال: وتولى يحيى بن أكثم ديوان الصدقات فلم يعط الأضِرَّاء شيئاً، فَطَالَبُوهُ فَمَطَلَهم، فاجتمعوا فلما رأوه انصرف من مجلسه بجامع الرصافة سألوه وطالبوه فقال: لَيْسَ لكم عند أمير المؤمنين شيء. فقالوا لَهُ: إن جئتنا لأمير المؤمنين يزيدنا عَلَى هَذَا الجواب؟.
قال: لا. قالوا لا تفعل يَا أبا سعيد! فقال: الحبس الحبس. فَأخِذوا وحُبِسُوا - جميعاً. فلما كَانَ الليل ضجوا فسمع المأمون، فسأل: مَا هَذِهِ الضجة؟ قالوا: الأضِرّاء حَبَسهم يحيى بن أكثم. فقال: لِمَ حَبسهم؟ قالوا: كَنّوه فاستدعى بِهِ فقال: تحبسهم إذْ أَكْنَوك! قال: لا. إنما حبستهم عَلَى التعريض. قالوا لي: يَا أبا سعيد وهي كنية شيخ مشهور باللواط من أهل الحَرْبيَّة.
وقال ابن الجوزي: أخبرنا محمد بن أبي طاهر، أخبرنا أبو الحسين بن المهتدي، أخبرنا أبو الفضل ابن المأمون، حدثنا أبو بكر ابن الأنباري، حدثنا ابن المرزبان، قال حدثنا الحسن بن المقدام قال: استعدى ابن عمار ابن أبي الخطيب يحيى بن أكثم عَلَى ورثة أبيه، وَكَانَ بارع الجمال فقال: أَيُّها القاضي أعدني عليهم فقال لَهُ يحيى بن أكثم فمن يعديني أنا عَلَى عينيك؟. قال فبلغ ذلك أم الصبي فهربته إِلَى بغداد فقال لَهَا وَقَدْ تقدمت إِلَيْهِ: والله لا أنفذتُ لكم حكماً أَوْ ترديه فهو أولى بالمطالبة منك واتفق أن يحيى بن أكثم خرج إِلَى مكة فحج وعزم عَلَى المجاورة فبله أن قلب المتوكل لَهُ فخرج يريد العراق فمات بالرَّبذَة ودفن هناك وذلك فِي سنة ثلاث وأربعين وقيل فِي الَّتِي قبلها.

وذكر الحاكم عن عبيد الله بن محمد بن عبد الرحمن الضبي عن الحسن بن محمد الكاتب عن بِشْر بن الوليد قال: قال لي المأمون إِذَا أردت العفيف فذكر رجلاً ثُمَّ قال وأما يحيى بن أكثم فما أدري مَا عَيبه. أما ظاهره فأَعَفّ خلق الله تعالى.
وقال أبو الفرج فِي الأغاني: أخبرني محمد بن العباس اليَزيديّ، حدثني عمي عُبَيد الله قال: زامل المأمونُ فِي بعض أسفاره بَيْنَ يحيى بن أكثم وعبّادةَ المضحك فقال عمي إبراهيم:
وحاكم زاملَ عبّاده ... وَلَمْ تَزَل تِلْكَ لَهُ عَادهْ
لو جَازَ لي حُكم لما جازَ أن ... يَحكم فِي قيمته لُبّادهْ
كم من غُلام عزّ فِي أهله ... وافتْ قَفَاه منه سجاده
قال وأخبرني عمي، حدثنا أبو العيناء، قال: نظر المأمون إِلَى يحيى بن أكثم يلحظ خادماً لَهُ، فلما قام إِلَى المستراح قال للخادم: تَعَرّضْ لَهُ وأخبرني بما يقول لَكَ. وتوجه المأمون وقَعَد يحيى إِلَى أن يجيء. فلما غاب المأمون غمز الخادم يحيى بعينه فقال يحيى (لَوْلاَ أَنْتُمْ لَكُنّا مُؤْمِنِينَ) فلما خرج المأمون أخبره فقعد المأمون للوضوء واستدبر يحيى وقال للخادم: قال لَهُ (أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى) الآية.
فقالها لَهُ. ففهم أنها من المأمون فكاد يموت فزعاً، ففرغ المأمون من صلاته ثُمَّ التفت إلينا وهو يقول: متى تَصلحُ الدنيا ويصلح أهلها. البيت.
ومن كلام يحيى بن أكثم قال لَهُ رجل: أصلحَ الله القاضي كم آكُل؟ قال: فَوْقَ الجُوع ودُونَ الشِّبع. قال: فكم أضْحَك؟ قال: حَتَّى يُسفرَ وجهُكَ، ولا يَعلو صوتك. قال: فكم أبكي؟ قال: لا تَمل من البكاء من خشية الله. قال: فكم أُخفي من عَمَلي؟ قال: مَا استطعتَ. قال: فكم أُظْهِر منه قال: مَا يقتدِي بك البَرّ الخيِّر، ويؤمن عَلَيْكَ قول الناس. فقال الرجل: سبحان الله! قولُ قَاطِنٍ، وعَمَلُ ظَاعِنٍ.
يحيى بن الحسن بن علي بن الأشعث: بار قضاء مصر نيابة عن أبي محمد عبد الله بن أحمد بن زَبْر فِي ولايته الثالثة شهرين، وَلَمْ يقدم ابن زبر مصر فِي هَذِهِ الولاية، ثُمَّ صرف يحيى بصرف ابن زبر، وولي الحسين بن أبي زرعة.
يحيى بن عبد المنعم بن حسن جمال الدين شافعي من المائة السابعة.
ولي قضاء مصر استقلالاً فِي شهر رمضان سنة ست وأربعين وستمائة وَكَانَ قبل ذَلِكَ ينوب فِي الحكم عن الخُونجيّ فِي الجيزة ثُمَّ ناب عنه بمصر. وَكَانَتْ ولايته استقلالاً سبعة أشهر، وعاش بعد ذَلِكَ دهراً طويلاً إِلَى أن مات فِي تاسع رجب سنة ثمانين وستمائة.
ذكره تاج الدين محمد بن عبد الوهاب ابن المتوج، وَلَمْ يذكره ابن دانيال فِي منظومته.
يحيى بن ميمون بن ربيعة بن إياس بن رَبيعة بن مِخْمَر بن مالك بن شَراحيل بن ربيعة الحضرميّ يكنى أبا عَمْرَة. من المائة الثانية.
قال ابن يونس: روى عن سَهْل بن سعد السَّاعِدِيّ.
روى عنه عَمرو بن الحارث، وعَيّاش بن عُقبة الحضرمي وعطاء بن دينار، وغيرهم.
وقال عبد الرحمن بن عبد الله بن عبد الحَكَم فِي الفتوح: لَمْ يكن بالمحمود فِي ولايته. ثُمَّ أسند عم المفضَّل بن فَضالة أنه كَانَ يقول: بئْس القاضي. وحكى عن المفضل أيضاً أن كُتَّابَه كانوا لا يكتبون قضية إِلاَّ برَشوة فكُلم فِي ذَلِكَ فلم ينكره.
وقال أبو عمر: تولى من قِبَل هشام بن عبد الملك فِي شهر رمضان سنة خمس ومائة.
وقال عبد العزيز بن أبي مَيْسَرة: لما استخلف هِشام وَلَّى قضاء مصر يحيى بن ميمون.
وقال ابن يونس كَانَ الناس يعيبونه لكثرة مَا يشكون من كُتَّابه فلا ينكِر عليهم.
ذكره النَّسائي فقال: لا بأس بِهِ. وقال أبو حاتم: صالح الحديث. وأخرج لَهُ أبو داود والنَّسائي.
وأسند أبو عمر الكندي إِلَى ابن قُدَيْد أن يتيماً من مُراد كَانَ فِي ولاية يحيى بن ميمُون وهو على القضاء تَحْتَ حجر رجل من قومه، فبلغ فتظلّم من العريف فلم بنصفه القاضي. فأحضر بيّنة شهدت عند القاضي بأنه مظلون، فلم يقبلهم يحيى بن ميمون فكتب إِلَيْهِ الغلام بأبيات أبي شِمْر:
أَلاَ أَبْلِغْ أَبَا حَسَّانَ عَنِّي ... بِأَنَّ الْحُكْمَ لَيْسَ عَلَى هَوَاكا

حَكَمْتَ بِبَاطِلٍ لَمْ تَأْتِ حَقّاً ... وَلَمْ يُسْمَعْ بِحُكْمٍ مِثْلٍ ذَاكَا
وَتَزْعُمُ أنَّهُ حَقٌّ وعَدْلٌ ... وَأَزْعُمُ أَنَّهَا لَيْسَتْ كَذَاكَا
أَلَمْ تَعْلَمْ بِأَنَّ اللهَ حَقٌّ ... وَأَنَّكَ حِينَ تَحْكُمُ قَدْ يَرَاكَا
فلما قرأ الرقعة أمر بسجنه فبلغ ذَلِكَ هشام بن عبد الملك فكتب إِلَى أمير مصر الوليد بن رِفاعة يأمره بعزله، وَفِي الكتاب: اصرفه مَذْمُوماً مَدْحُوراً. وعيّن للقضاء رجلاً عفيفاً تقيّاً لا تأخذه فِي الله لَومة لائم.
وكان ذَلِكَ فِي سنة أربع عشرة ومائة. ومات فِي آخرها.
أخبرني المحب محمد بن محمد بن مَنيع، أخبرنا عبد الله بن الحسين الأنصاري، أخبرنا محمد بن أبي بكر البلخي عن السِّلَفِيّ، أخبرنا أبو القاسم ابن بَيَان وثلاثة آخرون. قال الأربعة: أخبرنا أبو القاسم بن بِشْرَان، أخبرنا أبو محمد الفَاكِهِي، أخبرنا أبو يحيى بن مَيْسَرَةَ، حدثنا عبد الله بن يزيد المُقْرئ حدثنا سعيد بن أبي أيوب، عن عطاء بن دينار، عن حَكيم بن شَريك، عن يحيى بن ميمون الحَضْرَميّ، عن رَبيعة الجُرَشِيّ، عن أبي هريرة، عن عمر بن الخطاب قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تُجالِسُوا أهلَ الْقَدَر ولا تُنَاكِحُوهم). أخرجه أحمد عن المقرئ.
وأخرجه أبو داود عن أحمد. وأخرجه أبو يَعْلَى عن أبي خَيْثَمَة عن المقرئ. وأخرجه ابن حِبّان فِي صحيحه عن أبي يَعْلَى. وأخرجه الهَيْثَم بن كُلَيب فِي مسنده عن ابن المناوى وعباس الدوري كلاهما عن المقرئ. وأخرجه أبو داود أيضاً عن أحمد بن سَعِيد الهَمْداني، عن ابن وهب، عن ابن لَهِيعَة، وعَمرو بن الحارث، وسعيد بن أبي أيوب، ثلاثتهم عن عطاء بن دينار.
يزيد بن عبد الله بن خُذَامِر من المائة الثانية.
قال ابن يونس: أصله من الفُرس من موالي سبأ. ولي قضاء مصر. انتهى. وَقَدْ أخَلَّ بذكره بعض من صَنَّفَ فِي قضاة مصر. وذكره ابن دانيال فِي أرجوزته وقال: أقام يسيراً، وَكَانَتْ ولايته فِي سنة خمس عشرة ومائة عوضاً عن الخيار بن عبد الله.
يزيد بن عبد الله بن عبد الرحمن بن بلال الحضرمي. يكنى أبا خالد.
ذكره بعضهم فِي قضاة مصر وَلَمْ يكن ولي القضاء استقلالاً، وإنما كَانَ ولي نيابة عن غَوْث بن سليمان لما خرج مجاهداً، ثُمَّ فوض إِلَيْهِ غوث الحكم نيابة عنه فِي البلد واستراح غوث مدة.
قال ابن يونس: ولاّه غَوْثَ بن سليمان خلافته، وَكَانَ قَبْل ذَلِكَ عَلَى قضاء إِخميم، فبقي فِي الحكم أربعة أشهر، وَكَانَ فِي تِلْكَ المدة يكتب القضايا باسم غوث بن سليمان ولا يثبت اسمه عَلَى شيء منها. قاله سعيد بن عُفَيْر.
وقال أبو عمر الكندي بسنده إِلَى زَيد بن بشر عن ربيعة ابن أخي غوث بن سليمان، أن غوث بن سليمان استخلف يزيد بن عبد الله لما خرج إِلَى الصائفة. ثُمَّ أسند عن ابن قُدَيد أن ابن بلال مات فجأة فِي ذي القعدة سنة أربعين ومائة. فكانت مدة نظره أربعة أشهر.
وعن عبد الرحمن بن عبد الحكم، أن ابن بلال كَانَ يجلس للناس فِي المسجد الأبيضَ بحَضْرَمَوْت إِلَى أن مات. ولما مات رَكِب غَوْث فضم الديوان إِلَيْهِ فصاحت ابنة يزيد وَاذُلاّه. ولما تكاثرت الخصوم عَلَى غوث قال: رحمة الله عَلَى أبي خالد، لقد كَانَ يسدّ عَنَّا مسدّاً.
يعقوب بن إبراهيم بن حَبيب بن خُنَيْس بن سعد بن بُجَيْر بن معاوية البجلي حليف الأنصار أبو يوسف القاضي إمام أصحاب أبي حنيفة ومقدمهم. وجدّ جده يقال لَهُ: ابن حَبْتَةَ - بفتح المهملة والمثناة بينهما موحدة ساكنة - وهي بنت خَوَّات بن جُبَيْر الأنصاري. ولسعد صحبة وشهد الخندق.
وَكَانَ مولد أبي يوسف بالكوفة سنة ثلاث عشرة ومائة وطلب العلم من صغره وسمع الحديث من هشام بن عُروة، وعبد الله بن دينار، ويحيى بن سعيد الأنصاري، وأبي إسحاق الشيباني، وعطاء بن السائبِ، ويزيد بن أبي زياد، والأعمش، وعبيد الله بن عمر العمري، وحَجّاج بن أرطاه وغيرهم.
ولازم أبا حنيفة فِي الفقه وأخذ عن ابن أبي ليلى وغيره.
روى عنه محمد بن الحسن الشيباني، وهِلال الرَّأْي، ومُعَلَّى بن منصور، ومحمد بن سماعة، وبشر بن الوليد، وأسَد بن الفُرات وإبراهيم بن الجراح. أخذوا عنه الفقه وسمعوا منه الحديث.

وروى عنه من المحدِّثين: يحيى بن مَعِين، وأحمد، وعلي بن الجَعْد، وأحمد بن مَنيع، وعمرو الناقد، وعلي بن مُسْلم الطوسي وآخرون.
ولاه... قضاء الممالك فكان يتولى القضاء فِي كل مصر مِنْ قِبَله. وهو أول مَن قيل لَهُ: قاضي القضاة.
وكان أبوه فقيراً فكان أبو حنيفة لما رأى نَجَابَةَ أبي يوسف يتفقده بالمائة بعد المائة ليتوفر عَلَى طلب العلم.
فجاء عن أبي يوسف قال: كنت أطلب الحديث فجاء أبي يوماً وأنا عند أبي حنيفة فقال: يَا بُنيّ لا تَمُدَّنَّ رِجْلكَ مع أبي حنيفة، فإنك تحتاج إِلَى المعاش فأطعته وانقطعتُ عن أبي حنيفة. فتفقدني أبو حنيفة فلما أتيته دفع إليّ مائة درهم وقال لي: تعاهد الحَلْقة فإذا فَرَغَتْ هَذِهِ فَأَعْلِمْني.
ويقال إن أباه مات وهو صغير وأن القصة كَانَتْ مع أمه وَكَانَتْ أَسْلَمَته إِلَى قَصَّار الثياب يُعلمه.
وعن محمد بن الحسن قال: مرض أبو يوسِف فَعَادَه أبو حنيفة فلما خرج قال: إن مات هَذَا الفتى مات أعلم من عَلَيْهَا وَأَوْمَأَ إِلَى الأرض.
وقال الإِمام أحمد بن حنبل: أول مَا طلبت الحديث اختلفتُ إِلَى أبي يوسف فكتبتُ عنه، ثُمَّ دُرت عَلَى المشايخ وَكَانَ أبو يوسف أَمْيَل إِلَى المحدّثين من شيخه ومن محمد.
وقال أحمد أيضاً: كَانَ أبو يوسف منصفاً فِي الحديث. وقال إبراهيم بن سليمان البُرُلّسِيّ: سمعت يحيى بن مَعِين يقول: مَا رأيت فِي أصحاب الرأي أثبت فِي الحديث، ولا أحفظ، ولا أصح رواية من أبي يوسف.
وقال عباس بن الدوري عن ابن مَعِين: أبو يوسف صاحب حديث وصاحب سنة.
وقال عمرو الناقد أبو يوسف صاحب سنة.
وقال إبراهيم الحربي: كَانَ أبو يوسف قَدْ اطلع الفقه والعلك اطلاعاً يتناوله كَيْفَ شاء.
وقال بكر العَمِّيّ عن هلال الرّأْي كَانَ أبو يوسف يحفظ التفسير والمغازي وأيام العرب وَكَانَ أحد علومه الفقه.
وعن بشر بن غياث قال: قال أبو يوسف: صحبت أبا حنيفة سبع عشرة سنة.
وعن محمد بن سماعة: كَانَ أبو يوسف يصلي كل يوم مائتي ركعة بعد أن ولي القضاء.
وقال عليّ بن المَدِينيّ: مَا أخذت عَلَى أبي يوسف إِلاَّ حديثه فِي الحَجْر، عن هِشام بن عُرْوة. وكان صَدوقاً.
وقال يحيى بن يحيى التَّمِيميّ: سمعت أبا يوسف يقول عند وفاته: كل مَا أفتيتُ بِهِ فقد رجعتُ عنه، إِلاَّ مَا وافَقَ القرآن والسنة. وَفِي رواية: واجتمع عَلَيْهِ المسلمون.
وقال بِشْر بن الوليد: سمعت أبا يوسف يقول: مَن تتبع غريب الحديث كُذِّب، ومن طلب المال بالكيمياء أفلسَ، ومن طلب الدِّين بالكلام تَزَنْدَقَ.
وقال محمد بن سَماعة: سمعت أبا يوسف يقول يوم مات. اللهم إنك تعلم أني لَمْ أجُرْ فِي حُكْمٍ حكمتُ يه متعمداً ولقد اجتهدتُ فِي الحكم بما يوافق كتابك وَسُنَّة نبيّك.
وقال الطحاوي: حدثنا بَكّار، حدثنا أبو الوليد الطّيالسيّ قال: قدم أبو يوسف البصرة مع الرشيدِ فاجتمع أصحاب الرأي وأصحاب الحديث عَلَى بابه. فأشرَفَ عليهم وَلَمْ يأذَن لأَحَدٍ منهم، وقال: أنا من الفريقين جميعاً. ولا أُقَدِّم فرقةً عَلَى فرقة، ولكني أسأل عن مسألة فمن أصاب دخلت طائفته. ثُمَّ قال: رجلٌ مَضَغَ خَاتمي هَذَا حَتَّى هَشَمه، مَاذَا عَلَيْهِ؟ فاختلف أحاب الحديث، فلم يعجبه جوابهم. وقال رجل من الفقهاء: عَلَيْهِ قيمته صحيحاً، ويأخذ الفضة المهْشُومة إِلاَّ إن شاء رب الخاتم أن يمسكه لنفسه فلا شيء على هاشِمه. فقال أبو يوسف: يدخل أصحاب هَذَا الجواب.
قال أبو الوليد: فدخلنا معهم فأملَى حديثاً عن الحسن بن صالح، ثُمَّ قال مَا أخاف عَلَى رجل من شيء خوفي عَلَيْهِ من كلامه فِي الحسن بن صالح فوقع لي أنه أراد شُعبة، فقُمْتُ وقلت: لا أجلس فِي مجلس يُعرَّض فِيهِ بأبي بِسْطام. ثُمَّ رجعتُ إِلَى نفسي فقلت هَذَا قاضي الآفاق، ووزير أمير المؤمنين، وزميله فِي حجِّهِ، وَمَا يَضُرُّهُ غضبي، فرجعتُ وجلستُ حَتَّى فرغ المجلس. فأقبل عَلَيَّ إقبالَ رَجُلٍ مَا كَانَ لَهُ هَمٌّ غيري، فقال: يَا هشام، وإذا هو يُثنيني لأنّي كنت عنده ببغداد، والله مَا أردتُ بأبي بسطام سوءاً.

وهو فِي قلبي أكبر منه فِي قلبك فيما أرى. ولكني لا أعلم أني رأيتُ رجلاً مثل الحسن بن صالح. قال بكّار: فذكرت ذَلِكَ لهلال الرَّأْي فقال: أنا والله أجبتُ أبا يوسف عن مسألة الخاتم.
وقال محمد بن شجاع البلخي سمعت الحسن بن أبي مالك يقول: سمعتُ أبا يوسف يقول: القرآن كلام الله، مَن قال كَيْفَ؟ ولِمَ؟ وتعاطى مجادلة فِيهِ استوجب الحبس والضَّرْبَ المبرح. ولا يُفلح مَن استحلى شيئاً من الكلام. ولا يُصَلَّى خلف مَن قال: القرآن مخلوق.
وقال أبو خازِم القاضي: سمعتُ بن موسى قاضي هَمذَان، يحدث عن بِشْر بن الوليد قال: كَانَ أبو يوسف إِذَا ذُكِر محمد بن الحسن يقول: أيّ سيف هو، غير أن فِيهِ صَدَأ يحتاج إِلَى جِلاء. وإذا ذُكر الحَسَن بن زياد اللؤلؤي يقول: هو عندي كالعَطّار إن سألته يعطيك مَا يُسْهلْ ويعطيك مَا يمسِك. وإذا ذكر بشر بن الوليد يقول: هو كإبرة الرَّفَّاء، طرفها دقيق، ومدخلها لطيف وهي سريعة الانكسار. وإذا ذكر الحسن بن أبي مالك يقول: هو يحمل جمل جَمَل فِي يوم مَطِير، فتذهب يده هكذا مرَّة، وهكذا مرة، ثُمَّ يسلم.
وقال أبو سليمان الجَوْزجانيّ: سمعت أبا يوسف يقول: دخلتُ عَلَى الرشيد وَفِي يدر دُرَّتان يقبلهما، فقال: هل رأيتَ أحسنَ منهما؟ قلت: نعم، يَا أمير المؤمنين! قال: مَا هو؟ قلت: الوعاء الذي هما فِيهِ. فرمى بهما إِليَّ وقال: شأنك بهما.
قال بِشر بن الوليد: مات أَبو يوسف يوم الخميس لخمسٍ خَلَون من شهر ربيع الأول سنة اثنتين وثمانين ومائة.
وقال غيره: فِي ربيع الآخر.
وقال عباد بن العوام وهو فِي جنازته: ينبغي للمسلمين أن يُعزّي بعضهم بعضاً فِي أبي يوسف.
يعقوب بن إسحاق. كَانَ يفصل المحاكمات بَيْنَ الخصوم منذ قتل مالك بن سعيد الفارقي إِلَى أن استقر ابن أبي العوام كما مضى فِي ترجمته. ومن خبر يعقوب هَذَا... .
يعقوب بن إسحاق أبو يوسف من المائة الخامسة... .
يعقوب بن كِلَّس الوزير فِي الدولة الفاطمية تقدم فِي ترجمة عَلَى ابن النعمان مَا يدل عَلَى أن أمر القضاء فِي جميع المملكة كَانَ مفوضاً للوزير، فكان القاضي لا ينفذ أمراً دونه، ولا يعدّل شاهداً إِلاَّ بإذنه، ولا يقلد قاضياً إِلاَّ بعد مطالعته ومراجعته.
ثم جلس الوزير فِي الإيوان ونظر فِي الأحكام، وكل ذَلِكَ لا يظهر من علي ابن النعمان اعتراض وَكَانَ فِي طول نظره لا يرد إِلَى علي بن النعمان حكومة وإنما يردها تارة إِلَى أبي طالب أحمد بن القاسم بن المنهال الَّذِي قدَّمت ذكره فِي الأحمدين. وتارة إِلَى محمد بن الحسَن بن أبي الدبس الَّذِي قدمت ذكره فِي المحمدين.
يوسف بن أيوب بن إسماعيل الأندلسي الأصل أبو الحجاج المغربي كان قاضي الغربية نيابة عن قضاة مصر، فلما صرف أبو الفتح الرَّسْعَنِيّ قرره الوزير الملقب بالمأمون البَطَائحي فِي القضاء وذلك فِي ذي القعدة سنة ست عشرة وخمسمائة ولُقّب جلال الملك تاج الأحكام، وخلع عَلَيْهِ فِي القصر بذلة مذهبه وأدخله عَلَى الخليفة فسلّم عَلَيْهِ، ودَفَعَ لَهُ سِجل يشتمل عَلَى توليته القضاء والخطابة والصلاة وديوان الأحباس ودار الضرب. وذكر فِيهِ لَهُ أوصافاً جميلة من العلم والدين، فأخذ سِجله فَقَبَّلَه وَوَضَعَه عَلَى رأسه.
وتوجه إِلَى الجامع فَقُرِئَ عَلَى المنبر، وواظَب الجلوس يومي الاثنين والخميس عند المأمون بمجلس المظالم، فكانت القصص تُعرَض عَلَيْهِ فيجيب عنها بأحسن الأجوبة ويناقش فِي كثير مما يتعلق بأصحابها، ويرشد إِلَى أشياء تخفى عَلَى كثير من الناس. فكان ذَلِكَ يعجب المأمون ويزيده فِيهِ رغبة.

وكان المأمون يعرفه قديماً لأنه أَقْرَأَ أخاه المؤتمن القرآن والعربية واشترط علي المأمون أن لا يستشهد إِلاَّ مَن يقع عَلَيْهِ الاختيار ممن يَتَعاطى الشهادة، فاختار سبعة عشرة نفساً ومنع الباقين، وَلَمْ يزل يوسف فِي ولاية الحكم إِلَى أن مات فِي جمادى الآخرة وقيل فِي شوال من سنة إحدى وعشرين وخمسمائة، واستقر بعده ابن مُيسر واسمه محمد بن هبة الله. وَقَدْ تقدَّم ذكر أسماء الشهود الذين اختارهم: أبو محمد حسن بن آدم متولي دار العلم، وأبو الكرم المتكلم، وأبو الفخر الخطيب وخازن الكتب، وأبو علي الحسن بن سالم بن علي بن حسن بن أَنْجَب موقع الحكم، وأبو البركات بن نجايه، والشريف الخطيب أبو الفتوح ناصر بن الحسن الرندي الفقيه، وأبو مروان عبد الملك بن خَلاّد النائب بالجيزة، وولدا وَلي الدولة ابن العرفي، وولدا إبراهيم بن مسلم، وأبو الحسن خلف بن عمار، وأبو البركات عبد المنعم بن طاهر وأبو الفتح يحيى بن حسين، وأبو المنجا سالم بن عبد الغالب.
يوسف بن الحسن بن علي بن عبد الله الزّرزاري الكَردي المعروف بالسِّنْجارِي بدر الدين أبو المحاسن شافعي من المائة السابعة.
ولد سنة تسعن وخمسمائة، واشتغل قليلاً حَتَّى كَانَ من أعيان بلاده رياسة وحِشمة وجوداً، وَقَدْ سِنْجَار فِي شُبُوبيته فاتصل بالأشرف موسى، فلما ولي مملكة دمشق ولاّه بعلبك وغيرها، وَكَانَ كثير التَّجَمُّل فِي مَجلسه ومَلْبَسه وَمَرْكَبه بحيث يضاهي فِي ذَلِكَ أكابر الوزراء.
ثم رجع إِلَى بلاده وفوض إِلَيْهِ قضاء سِنْجار، فلما كَانَ بَيْنَ الصالح نجم الدين أيوب والخوارزمية مَا كَانَ، نازَله صاحب المَوْصِل بِسِنْجَار، فأنزل الصالح القاضي بدر الدين من السور وذهب إِلَى الخوارزمية واستمالهم وَوَعَدهم ومَنَّاهم إِلَى أن أنجدوا الصالح صُحبة ولده المغيث، فَرَحَل عنهم صاحب الموصل، واستولت الخوارزمية عَلَى أثقاله، وعظم قَدْر البدر عند الصالح. فلما ولي السلطنة بمصر وَفَدَ عَلَيْهِ البدر فبالَغ فِي إكرامه وولاّه قضاء مصر فِي سنة تسع وثلاثين، وأفرده عن ابن عين الدولة، فلما مات ضم إِلَيْهِ قضاء القاهرة وصار عنده فِي أعلى المراتب.
وكان فخر الدين ابن الشيخ يكرهه فكتب إِلَى الصالح يذكر لَهُ سيرته وَمَا هو عَلَيْهِ وَمَا يُنْسب إليه من تناول الرشوة من الشهود وقُضاة البلاد، فكتب لَهُ الجواب عَلَى رأس ورقته: يَا أخي يَا فخر الدين، للقاضي بدر الدين علينا حقوق عظيمة لا أقوم بشكرها، والذي تولاّه قليل فِي حقه فلم يراجعه فِي أمره بعدها، وَلَمْ يزل إِلَى أن صرف سنة ثمان وأربعين وستمائة واستقر عوضه ابن المقنشع مدة يسيرة، وأعيد السِّنْجَاري إِلَى ولاية القضاء فِي شعبان سنة تسع وأربعين فتنشط فِي الأحكام وشاع عنه الارتشاء ثُمَّ أضيفت إِلَيْهِ الوزارة فِي جمادى الأولى سنة خمس وخمسين لما مات الفائزي.
واستناب القاضي شمس الدين ابن خلِّكان فحكم بالبلاد المصرية مدة نيابة، وصارت أكثر الثبوتات والتعلقات: مَنوطة بِهِ، وَكَانَ صرف البدر بعد الرجوع من وقعة عين جالوت وسَلْطَنة الظاهر بيبرس وذلك فِي سنة تسع وخمسين، فقبض عَلَيْهِ وعوق القلعة، ثُمَّ أفرج عنه واستقر عوضه تاج الدين ابن بنت الأعز، ولزم بيته بطّالاً إِلَى أن مات وهو عَلَى مَا كَانَ عَلَيْهِ من الرياسة، وحج وجاور بمكة وحصل لأهل البلد والمجاورين بِهِ نفع كثير.
ويحكي من مكارمه ورياسته أشياء معجبة، وذكره مُصَنَّف نَجم المهتدي فقال: تَفَقَّه ببلاد الشّرق ورَحَلَ إِلَى بغداد وغيرها، ثُمَّ لما استقر الصالح أيوب فِي مملكة مصر رَحَل إِلَيْهِ فتَمكَن منه تَمكّنَ الروحِ من الجسد، وَكَانَ جميل الأخلاق، كريم النفس، كثير المروءة والفتوة، وَكَانَ يتعصب للأشاعرة، ويغض من الحنابلة.
وكانت وفاته فِي رجب سنة ثلاث وستين وستمائة.
ذكر ابن مسدي فِي ترجمة أبي المكارم عبد الله بن الحسن الدمياطي: أنه كَانَ يلي القضاء والخطابة والتدريس بدمياط مدة حَتَّى ولي البدر السِّنْجَارِي فعزله عن بلده وتعرض لما فِي يده، فَقَدِمَ مصر متوجهاً بِذِي الجاه، فلم يجد عن بذل المال مَنْجَاة، فأعطاه مَا طلب منه وَلَمْ يرض عنه، بل كدّر مَسَرته وسدّ ميسرته، وتوفي عَلَى تِلْكَ الحال.

يوسف بن خالد بن نعيم بن مقدم بن محمد بن حسن بن علَيم بن محمد بن علي جمال الدين البساطي المالكي من المائة التاسعة ولد فِي حدود الأربعين وسبعمائة وتفقه عَلَى أخيه، وَعَلَى شيخ المذهب خليل بن إسحاق، ويحيى الرهوني، وابن مرزوق، ونور الدين الحلاوي، وسراج الدين عمر بن عادل الحنبلي، أخذ عنه العربية والحساب. والشيخ محمد الكلائي، والشيخ تاج الدين القروي وغيرهم.
وناب فِي الحكم عن أخيه ثُمَّ أخيه عن النّحريري، ثُمَّ عن ابن خلدون، ثُمَّ عن البهنسي.
ثم وقع بينه وبين ابن خلدون، فانجمع عنه ثُمَّ سَعَى عَلَيْهِ فولي المنصب استقلالاً فِي رابع عشري شهر رجب سنة أربع وثمانمائة، فباشر مباشرة حسنة وأحبه أكثر الناس لما كانوا عليه من الكراهية لابن خلدون، ثُمَّ لن ينشب ابن خلدون أن أعيد فِي أواخر ذي الحجة من السنة. ثُمَّ أعيد الجمال البساطي فِي شهر ربيع الأول سنة ست وثمانمائة فباشر إِلَى شعبان سنة سبع وثمانمائة. فصرف وأعبد ابن خلدون. ثُمَّ صرف فِي أواخر ذي القعدة سنة سبع وثمانمائة وأعيد البساطي. ثُمَّ صرف فِي رمضان سنة ثمان وثمانمائة وأعيد ابن خلدون ثُمَّ لن يلبث أن مات فِي رمضان من عامه ثُمَّ أعيد فِي سادس عشر شوال سنة ثمان وثمانمائة ثُمَّ صرف سنة اثنتي عشرة وثمانمائة بشمس الدين محمد بن علي بن معبد المدني، واستمر خاملاً إِلَى أن مات جمال الدين عبد الله بن مقداد الأقفهسي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة فعين للقضاء وقبل التهنئة، ثُمَّ صرف عنه ذَلِكَ لابن عمه شمس الدين البساطي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة إِلَى أن ولي الحسبة فِي سنة ثلاث وعشرين وثمانمائة بعناية نائب الغيبة ططر الَّذِي ولي السلطنة فِي أواخر السنة.
ثم صرف عنها ولزم منزله إِلَى أن كَانَ سنة تسع وعشرين وثمانمائة.
قرأت بخط الشيخ جمال الدين البشبيشي: أنه كَانَ فاضلاً فِي عدة علوم وأنه صنَّف مصنَّفات كثيرة منها، شرح بانت سُعاد. وأفرد منها جزءاً فِي شرح قوله: (حرف أخوها أبوها من مهجنة وعمها خالها) وتصوير ذَلِكَ فِي الآدميين.
يوسف بن عمر بن أبي عمر محمد بن يوسف بن يعقوب بن إسماعيل بن حماد بن زيد المالكي. ولي قضاء بغداد وأضيف إِلَيْهِ قضاء الممالك. فقلد قضاء مصر للحسين بن أبي زُرعة وَفِي كتابه: وهذا عهدي إِلَيْكَ بخط يدي. وَكَانَ حسن الخطّ. وَقَدْ ذكر فِي ترجمة الحسين بن أبي زرعة.
يوسف بن موسى بن محمد الملَطي الحنفي جمال الدين الحلبي. نشأ بحلب وبرع فِي الفقه واشتهر ذكره. فأحضره الظاهر منها فولاه القضاء فِي العشرين من ربيع الآخر سنة ثمانمائة بعد موت شمس الدين محمد الطرابلسي بقريب أربعة أشهر فباشره مباشرة عجيبة فإنه قرّب الفُساق واستكثر من الاستبدال.
ثم أضيف إِلَيْهِ تدريس الصَّرْغَتْمِشِيّة بعد موت الكُلُسْتاني كاتب السر سنة إحدى وثمانمائة واتفق أنه قتل مسلماً بنصراني فشنع الناس عَلَيْهِ ذَلِكَ. ويقال: إنه كَانَ يفتى بإباحة الحشيشة، واشتهر أنه كَانَ يقول: من أكثر النظر فِي كتاب البخاري تَزَنْدَقَ. وأفتى بأنواع من الربا بالحيلة.
وذكر محب الدين أَيْنَ الشّحنة أنخ دخل يوماً فذاكره بأشياء وأنشده كأنما يخاطب غيره وإنما عناه:
عجبتُ لشيخٍ يأمر الناس بالتُّقَى ... وَمَا رَاقَبَ الرَّحْمَنَ يوماً وَمَا اتقَى
يَرَى جَائِزاً أكلَ الحَشِيشَة والرِّبا ... ومَنْ سَمع بالوَحي حقاً تَزَنْدَقا
مات ثامن عشر ربيع الآخر سنة ثلاث وثمانمائة. فولي بعده أمين الدين الطرابلسي نحو أربعين يوماً.
يونس بن عطية بن أوس بن عَرْفج بن ضَمار بن مَرْثَد بن أسد بن رحب بن وائل بن نعمان بن يزيد بن يسار بن ربيعة بن عمرو بن حجر بن عمرو بن قيس بن كعب بن سهل بن زيد الحضرمي أبو كثير من المائة الأولى.
قال ابن يونس كَانَ تابعياً. روى عن عثمان بن عفان وذكر أنه رأى العباس وعلياً فِي مجلس عثمان.
ولاه عبد العزيز بن مروان ثُمَّ أضاف إِلَيْهِ الشُّرَط فوليهما جميعاً. وَكَانَ كثير التلاوة.

قال أبو عمر: كتب عبد الملك بن مروان إِلَى أخيه عبد العزيز أنه اختلف عليَّ بدمشق فِي نَفقَة المبتوتة فاكتُبْ إليّ بما عندك. فجمع الأشياخ وتكلموا. وَكَانَ يونس فِي أخريَاتهم. فتكلَّم فأعجب عبد العزيز كلامه. فسأل عنه فقالوا هَذَا من سادات حَضْرَمَوْت. فولاه قضاء مصر عوضاً عن مالك بن شَراحيل وذلك فِي جمادى الأولى سنة أربع وثمانين. وصرفه فِي مستهل سنة ست وثمانين وَكَانَ اشتد بِهِ الضعف حَتَّى ثقل فِيهِ. فكانت مدة ولايته سنة ونصفاً وشهراً. ومات بعد قليل فِي ربيع الأول منها. وقيل عاش إِلَى سنة سبع وثمانين وولي بعده ابن أخيه أوس ابن عبد الله بن عطية.
يونس بن محمد بن الحسن المقدسي القرشي، كمال الدين المعروف بجوامرج شافعي من المائة السادسة. ولي فِي سابع المحرم سنة ثلاث وأربعين من قبل الخليفة الحافظ بإشارة الوزير العادل علي بن سلار.
قال محمد بن أسعد الجواني: كَانَ من الأعيان النزيهين، كثير الهمة، عظيم القدر، لَمْ يأكل لسلطان قَط خبزاً، وَلَهُ رواية فِي الحديث عن جده. ويقال: إنه لَمْ يشرب من ماء النيل قط. وإنما كَانَ يشرب من ماء البئر. وَكَانَ قبل أن يلي القضاء خطيب القدس. آخره.
ذكر من ولي قضاء مصر وَلَمْ يباشر بِهَا القضاء
أو باشره من غير أن يتولى من قِبَل الخليفة، أَوْ أقيم للحكم فِي الفترة بَيْنَ قاضيين، أَوْ اختلف فِيهِ.
إبراهيم بن يزيد الرعيني، استخلفه غوث بن سليمان قبل يزيد بن عبد الله الحضرمي ثُمَّ استعفاه. أحمد بن أبي دُوَاد. إسحاق بن الفرات.
بدر الجمالي، كَانَ إِلَيْهِ أمر القضاة وهو الَّذِي يوليهم. السائب بن هام.
شاهنشاه الأفضل ابن أمير الجيوش، كَانَ إِلَيْهِ أمر القضاة وهو الَّذِي يوليهم.
عبد الله بن شريك. عبد الأعلى أَوْ عبد الله أَوْ عبد الرحمن بن خالد بن ثابت العبسي. محمد بن شاذان الجوهري، كَانَ يحكم فِي مدة حبس بكار.
محمد بن عباد بن مكنف. النضر بن يونس بن عطية. يزيد بن عبد الله بن بلال الحضرمي، استخلفه غوث بن سليمان لما غَزَا سنة أربع عشرة. أبو الحسن محمد بن الحسن بن علي بن عبد الرحمن اليازُوري، خليفة والده لما ولي الوزارة.
أبو عبد الله المشرف بن محمد بن جعفر الموسوي.
أبو محمد العليمي، خليفة أبي علي أحمد بن عبد الحاكم بن سعيد لما ولي الوزارة.
أبو يحيى عبد الله بن إبراهيم بن مكرم البغدادي، صرف أبو الحسن بن الفرات بِهِ أبا عبيد بن حربويه، فاستخلف عَلَى قضاء مصر أبا الذكر المالكي، وخبره فِي ترجمة أبي عبيد.
باب الكنى للقضاة بالديار المصرية من غير استيعاب
أبو إسماعيل: عياض أبو البقاء: محمد بن عبد البر السبكي أبو بكر جماعة: عبد الله بن محمد بن الخصيب، ومحمد بن أحمد بن محمد بن جعفر ابن الحداد، ومحمد بن بدر، ومحمد بن أبي الليث، وهارون ابن ابراهيم، وهاشم بن عبد الرحمن.
أبو بكرة: بكار بن قتيبة أبو الثريا: نجم بن جعفر أبو حامد: محمد بن عبد الله بن أبي عصرون أبو الحسن، اثنان: مالك بن سعيد الفارقين ومحمد بن أحمد بن الحسن بن أبي الشوارب أبو الذكر: محمد بن يحيى بن مهدي أبو زرعة: محمد بن عثمان أبو سلمة: عبد الرحمن بن سالم أبو شرحبيل: عمران بن عبد الرحمن أبو صالح: عبد الله بن محمد أبو الطاهر جماعة: إسماعيل بن سلامة، وعبد الله بن محمد بن أبي بكر، ومحمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي، ومحمد بن رجاء.
أبو عبيدة بن حربويه: هو علي بن الحسين أبو عبيد الله ابن حرب: هو محمد بن عبدة أبو عثمان: أحمد بن إبراهيم بن حماد أبو العز: مظفر بن ظافر أبو عكرمة: لهيعة بن عيسى أبو علي: عبد الرحمن بن إسحاق أبو عمرو: يحيى بن ميمون أبو عمرو: الحارث بن مسكين أبو الفتح: عبد الجبار بن الجليس، وعبد الحاكم بن سعيد الفارقي ومسلم بن علي الرسعني أبو الفخر: صالح بن عبد الله بن رجاء أبو الفرج: محمد بن جوهر أبو الفضائل: يونس بن محمد ألو الفضل، جماعة: أحمد بن عبد الله الكشي، وسلطان بن الأزرق، ونعمة بن بشير أبو القاسم، جماعة: إسماعيل بن عبد الواحد، وعبد العزيز بن محمد بن النعمان، وعبد الملك بن درباس، والقاسم بن إبراهيم بن المقيشع أبو كثير: يونس بن عطية أبو محجن: توبة بن نمير

أبو مسعود: عبد الله بن يزيد أبو المعالي: مجلي بن جميع أبو معاوية: عبد الرحمن بن معاوية، والمفضل بن فضالة أبو المكارم، ابن عبن الدولة الصفراوي: محمد بن عبد الله بن حسن أبو المنصور: موهوب أبو النجم: اثنان، بدر الوافي، وبدر بن عالي بن نصر أبو نضلة: الخيار بن خالد أبو نعيم: إسحاق بن الفرات أبو هاشم: إسماعيل بن عبد الواحد أبو يحيى، جماعة: غوث بن سليمان، وعبد الله بن إبراهيم بن مكرم، وهارون بن عبد الله الزهري
باب الألقاب من غير ترتيب ولا استيعاب
الأعرج، هو: عبد الملك بن محمد بن أبي بكر الأنصاري جار الله جلال الدين: محمد بن محمد بن محمود جلال الملك: أحمد بن عبد الكريم الفارقي دحيم، هو: عبد الرحمن بن إبراهيم الرشيد الصقلي: محمد أَوْ أحمد بن قاسم سناء الملك: محمد بن هبة الله بن ميسر الأعز ابن أبي عقيل، هو: أحمد بن عبد الرحمن فخر الأمناء: هبة الله بن حسين وهو ثقة الدولة عمدة الأحكام فخر الحكام: أبو الفضل محمد بن عبد الحاكم المفضل بن كامل، هو: هبة الله بن عبد الله بن كامل أمين الدين الطرابلسي: عبد الوهاب بدر الدين، ابن جماعة: محمد بن إبراهيم بدر الدين السبكي: محمد بن محمد بن عبد البر بدر الدين السنجاري يونس بن الحسن بران الدين: ابن جماعة برهان الدين السنجاري، اسمه: خضر برهان الدين: إبراهيم بن عبد الرحيم بهاء الدين ابن عقيل: عبد الله بن عبد الرحمن بهاء الدين أبو البقاء: محمد بن عبد البر تاج الدين: ابن بنت الأعز: عبد الوهاب بن خلف تاج الدين، ابن الخراط: عبد السلام بن أبي الحسن تقي الدين، ابن بنت الأعز: أبو القاسم عبد الرحمن تقي الدين، ابن رزين: محمد بن الحسين تقي الدين السروجي: أحمد بن إبراهيم تقي الدين: محمد بن علي بن وهب جلال الدين البلقيني: عبد الرحمن بن عمر جلال الدين القزويني: محمد بن عبد الرحمن جمال الدين التركماني: عبد الله بن علي بن عثمان جمال الدين الملطي: يوسف جمال الدين ابن عد المنعم: يحيى بن عبد المنعم حسام الدين الرازي: حسن بن أحمد حسام الدين الغوري: حسن بن محمد زين الدين البسطامي: عمر بن عبد الرحمن زين الدين الدمشقي: علي بن يوسف سراج الدين: نجم بن جعفر السراج الهندي: عمر بن إسحاق شرف الدين، ابن منصور: محمد بن علي بن منصور صدر الدين، ابن بنت الأعز: عمر نب عبد الرحمن بن خلف صدر الدين، ابن درباس عبد الملك صدر الدين، ابن العز: سليمان بن وهب صدر الدين، ابن الكشك: علي بن علي بن محمد صدر الدين، ابن منصور: محمد بن علي بن منصور صدر الدين التركماني: محمد بن عبد الله بن علي بن عثمان صدر الدين المناوي: محمد بن إبراهيم هز الدين، ابن جماعة: عبد العزيز عز الدين، ابن عبد السلام: عبد العزيز علاء الدين التركماني: علي بن عثمان عماد الدين: ابن السكري: عبد الرحمن بن محمد عماد الدين الكركي: أحمد بن عيسى كمال الدين ابن أبي عصرون: محمد ابن عبد الله مجد الدين: إسماعيل بن محمد بن علي البلبيسي ناصر الدين، ابن الميلق: محمد بن عبد الدائم.
نجم الدين، ابن الكشك: أحمد بن إسماعيل الوجيه البهنسي: عبد الوهاب بن الحسين الإخنائي شمس الدين: محمد بن عثمان البلقيني جلال الدين: عبد الرحمن الخويي شمس الدين: محمد بن أحمد الحريري شمس الدين: محمد بن خلف الخونجي: محمد بن ناماور الزبيري تقي الدين: عبد الرحمن الزرعي: سليمان بن عمر الصالحي ناصر الدين: محمد بن محمد الصفراوي: محمد بن عبد الله بن حسن الطرابلسي: محمد بن أبي بكر فصل: قال أبو محمد عبد السلام، ابن الطوير المصري فِي كتاب نزهة المقلتين فِي أخبار الدولتين: أما القاضي فكان لَهُ النظر فِي الأحكام الشرعية، ويدعى قاضي القضاة، إِلاَّ إِذَا كَانَ وزير السيف موجوداً فإنه هو الَّذِي يلقب بذلك ويكون هو القاضي فقط. فإن كَانَ للخليفة وزير سيف كَانَ هو الَّذِي يوليه نيابة عنه وإلا فالخليفة هو الَّذِي يوليه.

وربما أضيفت إِلَيْهِ الدعوة فيكون قاضي القضاة وداعي الدعاة. وحال الداعي فِي التقليد كحال القاضي، ولا يخرج شيء من الأمور الدينية عن القاضي إِلاَّ للداعي إِذَا كَانَ مستقلاً بِهِ، وإلى القاضي استخلاف النواب فِي جميع الأعمال، وتقرير الخطباء بالجوامع، والمصدرين وأئمة المساجد، وكتاب الشروط الحكمية، والنظر فِي أحوال الجوامع وقَوَمَتها، ومؤذنيها، ومن بالأسواق من الدلالين عَلَى الرقيق، ومن يكتب العهد.
وَلَهُ صناديق مُعَدّة بالجامع العتيق توضع فِيهَا السجلات فِي كل شهر، يرجع إِلَيْهَا منت بَعُد عهده أَوْ جحد عند المخاصمة، وكذا مَا يَرِدُ من المكاتبات ويصدر إِلَى النواب ولم يكن أحد من النواب يتولى إِلاَّ بخط منه عَلَى قصته، وَكَانَ جلوسه بالجامع يومي السبت والثلاثاء بزيادة الجامع، ويفرش لَهُ طرحة ومرتبة حرير ومسند، ثُمَّ بطل ذَلِكَ من حين ولي ابن أبي عقيل، واقتصر عَلَى الطراحة السامان واستمر ذَلِكَ بعده وَكَانَ الشهود يجلسون حوله يمنة ويسرة، وجلوسهم بحسب السبق من تاريخ تعديله، وبين يديه حاجبان، وَعَلَى باب المقصورة الَّتِي يحكم فِيهَا آخران، وَلَهُ خامس عَلَى باب الجامع يوصل الخصوم إِلَيْهِ. وَلَهُ أربعة من الموقعين، اثنان يقابلان اثنين.
ودواته محلاّة بالفضة، تحمل إِلَيْهِ من خزانة الخليفة، وتوضع عَلَى كرسي لطيف، ولحاملها جامكية شهرية عَلَى ديوان السلطان.
ويقدم لَهُ من الإصطبلات برسم ركوبه بغلة شهباء تختص بهذا اللون دون غيره، وعليها من الخزانة السلطانية سرج ثقيل برادفتي فضة. ويخلع عَلَيْهِ الخلع المذهبة الفائقة.
ويزاد الداعي، الطبل والبوق والبنود، وإذا كَانَ أول ولايته مشى حوله الفراء، وبين يديه المؤذنون يعلنون بذكر الخليفة والوزير، ولا يتقدم عَلَيْهِ أحد فِي محفل إِذَا حَضر، لا من أصحاب السيوف ولا الأقلام. ولا يحضر إِلَى جنازة ولا إِلَى إِملاك إِلاَّ بإذن، ولا يقوم لأحد وهو منتصب للحكم إِلاَّ إِذَا كَانَ فِي داره، ولا يعدل شاهداً إِلاَّ بإذن بشرط أن يموت واحد أَوْ يتعذر، ولا يستخدم أحداً إِلاَّ بمطالعة يستأذن فِيهَا فيوقع لَهُ فِيهَا بإمضاء مَا أراد، وإذا أراد أحد أن يؤدي شهادة، قام فيقوم رفقته بقيامه، وكذا إِذَا أدى شهادته وعَادَ.
وإذا انقضى المجلس انصرف إِلَى داره بهيئة جميلة. ويجلس بالقصر يومي الخميس والاثنين، فيبدأ أولاً بالسلام عَلَى الخليفة.
وكان لَهُ بالقاهرة ومصر أربعة أنفس ينوبون عنه لا يفترون عن تعاطي الأحكام، ويحضر إِلَيْهِ وكيل بيت المال فِي أمر المواريث بما يحمله لبيت المال وبما يصرفه، وكل ذَلِكَ بتوقيعه. ويطالع بكل شيء فيكتب لَهُ بالحمل كل مَا يثبت عند القاضي، وكذا شأنه فِي دار الضرب، فيتولى التغليق بنفسه، ويختم عَلَيْهِ بختمه، ثُمَّ يحضر مرة أخرى لكشفه، فإذا وضعت الصفيحة فِي الميزان رفع شاهد من شهود القاضي يده فإذا رأى صحتها دفعها لآخر، فذا رأى ذَلِكَ دفعها للقاضي وأديا عِنده بصحتها فتنقش حينئذ عَلَيْهَا السكة.
وكان القاضي إِذَا عُزل بسبب من الأسباب يُقَرَّر لَهُ عَلَى مال الجوالي فِي الشهر عشرة دنانير، وَمَا يكفيه وعياله من القمح فِي كل سنة. وَكَانَتْ إِلَيْهِ أموال الأيتام والسفهاء، ويستعمل فِي ذَلِكَ أمناء لَهُ، وَكَانَ لَهُ بمصر أمين حكم وبالقاهرة آخر، وبالضواحي آخر، وَعَلَى كل منهم شاهدان يضبطان عَلَيْهِ مَا يدخل ويخرج.
وكان للعمال عَلَى ذَلِكَ ربع العشر من مال الأيتام أجرة فِي كل سنة، بشرط أن يكون مما يتصرف فِيهِ بالدخل والخرج والبيع والجباية. وأما مَا يوجد نقداً حاصلاً فلاَ عمالة لَهُ، وكانُوا لاَ يسمعون الدعوى إِلاَّ فِي أربعين ديناراً فصاعداً.
وكان المقرر للشهادة فيما يتعلق بالأيتام والوصايا عَشرة أنفس، ولمن يزكّى من يشهد عشرون نفساً، ويرسم الكشوف والاستفصاح فِي النوازل اثني عشر نفساً حذّاقاً، والله أعلم.

=

=

=

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرة مختصرة في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

  مذكرة مختصرة في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مستنبطة من كتاب المختصر من الممتع   أعدها / العبد الفقير إلى رحمة...