مصاحف انواع

المصحف تنزيلات

فهرس القرآن الكريم الكريمmp3 القرآن الكريم مكتوب

9مصاحف
/ / / /  / / /

Translate k..k..520....

الاثنين، 9 مايو 2022

مجلد5. و6. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي

 مجلد5. و6. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي

5.

مجلد5.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب
عبد القادر بن عمر البغدادي 

 = ( وساقك حمشةٌ ولأمّ عمرو ** خدلّجةٌ تضيق بها البرينا ) ( ورأسك أزعرٌ ولأمّ عمرو ** غدائر ينعفرن وينثنينا ) تضيق من الإضافة . والبرين : جمع برة وهي الخلخال .
ثم خلى سبيها فبلغ ذلك أم عمرو فعطفت عليه فاستمكن منها وكان رسولها إليه أبا ذؤيب الشاعر فلما أيفع أبو ذؤيب وكان جميلاً رغبت فيه واطرحت وهباً ففشا أمرهما في هذيل وقصر عن بعض زيارتها وأخفى أمرها خشية أن يرصد فيغتال .
فانطلق إلى ابن أخت له يقال له : خالد بن زهير فأخبره بأمر أم عمرو وقال له : هل لك أن تكون رسولي إليها وتعاهدني على أن لا تغدرني . فأعطاه خالدٌ مواثيقه واختلف بينهما فلم تلبث أن عشقت خالداً وتركت أبا ذؤيب .
وكان أبو ذؤيب يرسل خالداً إليها فينطلق فيتحدث إليها بحديث نفسه فإذا انصرف قال لأبي ذؤيب : لم ألج إليها الخبا وجدتها وسنى وكان ينصرف عنها ملطخاً بالطيب فارتاب أبو ذؤيب من ذلك وجعل يمس خده ويشم ثوبه فيجد منه ريح الطيب وأنكر ذلك خالدٌ من خاله فقال خالد لأمه وهي أخت أبي ذؤيب : الرجز ( يا قوم من لي وأبا ذؤيب ** كنت إذا أتوته من غيب ) ) ( يشمّ خدّي ويشدّ ثوبي ** كأنّني أربته بريب ) من أجل أن يرميني بغيب فقال له أبو ذؤيب يوماً : انطلق إليها يا خالد فإني أريد أن آتيها الساعة . فانطلق خالد إليها فعانقها وقضى ما أراد من لهوه وضاجعها وذهب بهما النوم فجاء أبو ذؤيب بعد ذلك فأخذ سهمين من سهامه فوضعهما عند رؤوسهما وأرجلهما ثم انصرف فلما انتبه خالد عرف السهمين فأعرض عن أبي ذؤيب إذ عرف أنه قد أيقن بغدره .
وأقبل أبو ذؤيب على أم عمرو فقال : الطويل
____________________

( تريدين كيما تجمعيني وخالداً ** وهل يجمع السّيفان ويحك في غمد ) فأجابه خالد من شعر : ( فلا تسخطن من سنّة أنت سرتها ** فأوّل راضٍ سيرةً من يسيرها ) وجرى بينهما أشعار مذكورة في أشعار الهذليين . فلما رأى وهب بن جابر فساد ما بينهما بعث ابنه عمرو بن وهب فبذل لأم عمرو ذات يده فعطفها على نفسه بالطمع وكان عمرو من أعظم شباب هذيل واستمسكت بخالد لعشقها إياه فكان لخالد سرها ولعمرو علانيتها .
فبينا عمرو عندها ذات يوم إذ أتاها خالد وهي وهو على شرابهما فقام مستبطناً سيفه فولج عليهما فضرب رأس عمرو ثم خرج هارباً فمر بأبي ذؤيب وأبي خراش وربيعة بن جحدر وهم يتصيدون فقال أبو ذؤيب : ما وراءك يا خالد فقال : قتلت عمراً . قال : قد أوقعتني في شر طويل عليك بالحزم فبلغ الخبر وهب بن جابر فركب وركب معه جبار بن جابر في رهطهما فمروا بأبي ذؤيب وأبي خراش وربيعة بن جحدر فسألهم عنه فقالوا : لم نعلمه ولكن هل لك في شياه من الأروى قال : ما لي بهن من حاجة ومضوا في طلب خالد حتى لحقوه بجبل يقال له : أظلم فقتلوه فبلغ ذلك أبا ذؤيب وخراشاً وربيعة ابن جحدر فعند ذلك قال ربيعة من شعر : الطويل ( فو اللّه لا ألقى كيومٍ لخالدٍ ** حياتي حتّى يعلو الرّأس رامس ) وقال أبو ذؤيب يرثي خالداً : ( لعمر أبي الطّير المربّة في الضّحى ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) ثم جمع أبو ذؤيب رهطه فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل عروة بن جحدر ونجا خراش بن أبي )
جحدر فعند ذلك قال أبو جحدر : الطويل ( حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض )
____________________

ثم إن القوم تحاجزوا والقتلى في أصحاب أبي ذؤيب أكثر فطلبوا خويلداً وهو أبو خراش ابن وائلة الهذلي وهو في الحزم ومعه امرأته فلما علم بأمرهم أمر امرأته أن تسير أمامه وتقيم بمكان وصفه لها فأخبرها أن قومه يطلبونه بذحل فإن أبطأت عليك فانعيني لقومك .
فقصدوا خويلداً حتى خرج عليهم فتنكروا له ورحبوا به ففطن لهم وانصرف راجعاً فاتبعوه فسبقهم ورموه بأسهم فلم تصبه .
فهو حيث يقول : الطويل ( رفوني وقالوا يا خويلد لا ترع ** فقلت وأنكرت الوجوه : هم هم ) هذا ما أورده السكري في آخر أشعار الهذليين .
وأوردنا القصة هنا لأن فيها أشعاراً فيها شواهد إذا جاءت فيما سيأتي نحيل عليها .
وكانت هذه الوقعة قبل إسلام أبي ذؤيب وأبي خراش . والله أعلم .
وأنشد بعده الوافر ( فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ ** هموز النّاب ليس لكم بسيّ ) على أن سيبويه استدل به على جر الجوار رداً على الخليل في زعمه أنه لا يجوز إلا إذا اتفق المضاف والمضاف إليه في أمور ذكرها الشارح المحقق : منها اتفاقهما في
____________________

التذكير والتأنيث وهذا البيت يرد عليه فإن هموز نعت الحية المنصوبة . وجر لمجاورته لأحد المجرورين وهو بطن أو واد .
وعينه ابن جني في شرح تصريف المازني فقال : جر هموز لمجاورته لواد مع اختلاف المضاف والمضاف إليه تذكيراً وتأنيثاً فإن حية مؤنث وما بعدها مذكر . وفيه أن كلاً من الحية وما بعدها مذكر .
أما الحية فقد قال صاحب الصحاح : الحية للذكر والأنثى وإنما دخله الهاء لأنه واحد من جنس كبطة ودجاجة . وفلان حية ذكر . على أنه قد روي عن العرب : رأيت حيا على حية أي : ذكراً على أنثى . انتهى . )
أما البطن فقد قال صاحب الصحاح أيضاً : البطن خلاف الظهر وهو مذكر وحكى أبو حاتم عن أبي عبيدة أن تأنيثه لغة . انتهى .
وأما الوادي فهو مذكر لا غير فيجوز للخليل أن يدعي توافق المضاف والمضاف إليه تذكيراً بجعل الحية للواحد المذكر من الجنس وكذلك هموز فإنه فعول يوصف به المذكر والمؤنث اللهم إلا أن يكتفي س للتخالف بالتأنيث والتذكير اللفظيين . وهذا سيبويه لم يستشهد بهذا البيت وإنما استشهد بقول العجاج : الرجز كأنّ نسج العنكبوت المرمل ووجه الاستدلال منه أن العنكبوت مؤنث والمرمل مذكر لأنه وصف للنسج فقد اختلفا تأنيثاً وتذكيراً . وللخليل أن يمنع هذا أيضاً فإن العنكبوت قد جاء مذكراً أيضاً نقل ذلك عن العرب .
وأنشدوا : الوافر
____________________

( على هطّالهم منهم بيوتٌ ** كأنّ العنكبوت هو ابتناها ) وعلى تسليم أنها في البيت مؤنثة فإنه تأنيث ليس بعلامة إذ ليس مؤنثاً بالتاء ولا بإحدى الألفين المقصورة والممدودة فأشبه التذكير إذ لم يظهر فيه من التنافر ما يظهر في التثنية .
وقد استدل لسيبويه بعضهم بقراءة يحيى بن وثاب والأمش : إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين بجر المتين ورد هذا أيضاً باحتمال أن يكون المتين صفة للقوة لأنها في معنى السبب فذكر على المعنى فلا يكون من باب الخفض على الجوار .
وهذا نص سيبويه في باب النعت : وقال الخليل رحمه الله لا يقولون إلا : هذان جحرا ضب خربان من قبل أن الضب واحد والجحر جحران وإنما يغلطون إذا كان الآخر بعدة الأول وكان مذكراً مثله أو مؤنثاً .
وقالوا : هذه جحرة ضباب خربة لأن الضباب مؤنثة ولأن الجحرة مؤنثة والعدة واحدة فغلطوا . وهذا قول الخليل رحمه الله . ولا نرى هذا والأول إلا سواء لأنه إذا قال : هذا جحر ضب متهدم ففيه من البيان أنه ليس بالضب مثل ما في التثنية من البيان أنه ليس بالضب .
قال العجاج : كأنّ نسج العنكبوت المرمل والمرمل مذكر والعنكبوت مؤنث . هذا كلام سيبويه . )
وقول الشارح المحقق : وقال بعض البصريين : إن التقدير : هذا جحر ضب خرب جحره الخ هذا تخريج ابن جني في الخصائص قال فيه : الأصل هذا جحر ضب خرب جحره حذف الجحر المضاف إلى الهاء وأقيمت الهاء مقامه فارتفعت لأن المضاف المحذوف كان مرفوعاً فلما ارتفعت استتر الضمير
____________________

المرفوع في نفس خرب فجرى وصفاً على ضب وإن كان الخراب للجحر لا للضب على تقدير .
وقال السيرافي : ورأيت بعض نحويي البصريين قال في هذا جحر ضب خرب قولاً شرحته وقويته بما احتمله من التقوية .
والذي قاله هذا النحوي أن معناه هذا جحر ضب خرب الجحر والذي يقويه أنا إذا قلنا خرب الجحر فهو من باب حسن الوجه وفي خرب ضمير الجحر مرفوع لأن التقدير كان خرب جحره .
ومثله مما قاله النحويون : مررت برجل حسن الأبوين لا قبيحين والتقدير لا قبيح الأبوين وأصله لا قبيح أبواه ثم جعل في قبيح ضمير الأبوين فثنى لذلك وأجرى على الأول فخفض واكتفى بضمير الأبوين ولم يعد ظاهرهما لما تقدم من الذكر . انتهى .
قال أبو حيان بعد أن نقل قولهما : ومذهبهما خطأ من غير ما وجه لأنه يلزم أن يكون الجحر مخصصاً بالضب والضب مخصص بخراب الجحر المخصص بالإضافة إلى الضب فتخصيص كل منهما متوقف على صاحبه وهو فاسد للدور ولا يوجد ذلك في كلام العرب أعني لا يوجد مررت بوجه رجل حسن الوجه ولا حسن وجهه ولأنه من حيث أجرى الخرب صفة على الضب لزم إبراز الضمير لئلا يلبس وقد فرق سيبويه بين حسن الوجه وحسن .
ولأن معمول هذه الصفة لا يتصرف فيه بالحذف لضعف عملها . فأما قول الشاعر : الطويل ( ويضحك عرفان الدّروع جلودنا ** إذا جاء يومٌ مظلم الشّمس كاسف ) فلا يريد كاسف الشمس فيكون قد حذف معمول الصفة وإن كان قد ذهب إليه بعضهم وإنما هو عندنا صفة لليوم نفسه لأن الكسوف يكون فيه فيكون نحو قولهم : نهارك صائم وليلك قائم .
ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف على طريق الحقيقة . ألا ترى أنه لا يصح عندنا مررت برجل حائض البنت لأن الحيض لا
____________________

يكون للرجل .
وكذلك الخرب لا يكون للضب والمرمل لا يكون للعنكبوت . وكذلك همز الناب لا يكون )
للوادي . والذي يقطع ببطلان ما ذهبا إليه قول الشاعر : البسيط ( يا صاح بلّغ ذوي الحاجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا انحلّت عرى الذّنب ) وقول أبي ثروان في المفضل كان والله من رجال العرب المعروف له ذلك بخفض المعروف على المجاورة . وفي كلام أبي ثروان وهو ممن تؤخذ عنه اللغة والعربية رد على من يقول بأن الجوار لا يكون إلا مع النكرة فإن كلاً من البيت ومن كلام أبي ثروان لا يمكن فيه أن يكون تابعاً للمجرور الذي قبله بحال .
وتشبيه السيرافي المسألة بنحو قول النحويين : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين تشبيه غير صحيح . انتهى كلام أبي حيان .
وبينه ابن هشام في المغني بعد نقل كلامهما بأنه يلزم استتار الضمير مع جريان الصفة على غير من هي له وذلك لا يجوز عند البصريين وإن أمن اللبس . وقول السيرافي إن هذا مثل : مررت برجل قائم أبواه لا قاعدين مردود لأن ذلك إنما يجوز في الوصف الثاني دون الأول . انتهى .
وقوله : ولأن هذه الصفة لا يجوز نقل الضمير إليها حتى يصح نسبتها إلى الموصوف إلى آخره هذا كلام السيرافي وهو معترف به فإنه قال بعد ما نقلناه عنه : ولا يشبه عندي : وحية بطن واد هموز الناب على هذه العلة لإنا إذا خفضنا هموز الناب فهو محمول على واد أو على بطن واد وليس هموز بمضاف إلى شيء إضافته إليه تصححه في التقدير كما كان تقدير إضافة خرب الجحر توجب تصحيح الخفض . انتهى .
وقد بين الشارح المحقق إضافة هموز إلى ما يصحح إضافته في التقدير وشرحه
____________________

بما لا مزيد عليه وكأنه قصد بهذا البيان الرد على السيرافي .
واعلم أن قولهم : جحر ضب خرب مسموع فيه الجر والرفع والرفع في كلامهم أكثر .
قال أبو حيان في تذكرته : ينبغي أن لا تجوز مسألة التثنية والجمع لأن جر الجوار لم يسمع إلا في المفرد خاصة فلا يتعدى فيه السماع .
وقد قال الفراء وغيره : لا يخفض بالجوار إلا ما استعملته العرب كذلك والمسموع منه ما تقدم ( فجئت إليه والرّماح تنوشه ** كوقع الصّياصي في النّسيج الممدّد ) ( فدافعت عنه الخيل حتّى تبدّدت ** وحتّى علاني حالك اللّون أسود ) وأسود نعت لحالك وجر لمجاورته المجرور . )
وقول آخر : البسيط ( كأنّك ضربت قدّام أعينها ** قطناً بمستحصد الأوتار محلوج ) ومحلوج نعت لقوله قطناً لكنه جر بالمجاورة .
وقول ذي الرمة : البسيط
____________________

( تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ ** ملساء ليس بها خالٌ ولا ندب ) وغير : نعت لسنة المنصوبة وجر للمجاورة . وروي بالنصب أيضاً .
قال الفراء : قلت لأبي ثروان وقد أنشدني هذا البيت بخفض غير : كيف تقول : تريك سنّة وجه غير مقرفةٍ قال : تريك سنّة وجهٍ غير مقرفةٍ بنصب غير . قلت له : فأنشد بخفض غير فخفض غير فأعدت عليه القول فقال : الذي تقول قيل : ومنه قوله تعالى : اشتدَّتْ به الريحُ في يومٍ عاصفٍ لأن عاصف من صفة الريح لا من صفات اليوم . وهذا القول للفراء . قال : لما جاء العاصف بعد اليوم أتبعته إعراب اليوم وذلك من كلام العرب أن يتبعوا الخفض الخفض إذا أشبهه .
قال أبو حيان في تذكرته : قد أولت هذه الآية . أقول : أولها الفراء بتأويلين : أولهما وهو جيد .
قال : جعل العصوف تابعاً لليوم في إعرابه وإنما العصوف للريح . وذلك جائز على جهتين : إحداهما : أن العصوف وإن كان للريح فإن اليوم يوصف به لأن الريح فيه تكون فجاز أن تقول يوم عاصف كما تقول : يوم بارد ويوم حار .
وقد أنشدني بعضهم : الرجز يومين غيمين ويوماً شمساً
____________________

فوصف اليومين بالغيمين وإنما يكون الغيم فيهما .
والوجه الآخر : أن تريد في يوم عاصف الريح فتحذف الريح لأنها قد ذكرت في أول الكلمة كقوله : إذا جاء يوم مظلم الشّمس كاسف يريد كاسف الشمس . انتهى . )
وجر الجوار لم يسمع إلا في النعت على القلة . وقد جاء في التأكيد في بيت على سبيل الندرة .
قال الفراء في تفسيره : أنشدني أبو الجراح العقيلي : ( يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا انحلت عرى الذّنب ) فاتبع كل خفض الزوجات وهو منصوب لأنه توكيد لذوي . انتهى .
وزعم أبو حيان في تذكرته وتبعه ابن هشام في المغني أن الفراء سأل أبا الجراح فقال : أليس المعنى ذوي الزوجات كلهم فقال : بلى الذي تقوله خير من الذي نقول . ثم استنشده البيت فأنشده بخفض كلهم . انتهى .
والفراء إنما نقل هذه الحكاية في بيت ذي الرمة السابق .
وهذا البيت لأبي الغريب . قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : هو أعرابي له شعر قليل أدرك الدولة الهاشمية .
قال أبو زياد الكلابي : كان أبو الغريب عندنا شيخاً قد تزوج فلم يولم فاجتمعنا على باب خبائه وصحنا : الرجز
____________________

( أولم ولو بيربوع ** أو لو بقردٍ مجدوع ) قتلتنا من الجوع ( يا ليت شعري عن أبي الغريب ** إذ بات في مجاسدٍ وطيب ) ( معانقاً للرّشأ الرّبيب ** أأحمد المحفار في القليب ) أم كان رخواً يابس القضيب فصاح إلينا : يابس القضيب والله يابس القضيب وأنشأ يقول : البسيط ( سقياً لعهد خليلٍ كان يأدم لي ** زادي ويذهب عن زوجاتي الغضبا ) ( كان الخليل فأضحى قد تخوّنه ** هذا الزّمان وتطعاني به الثّقبا ) وقال : ( يا صاح بلّغ ذوي الزّوجات كلّهم ** أن ليس وصلٌ إذا استرخت عرى الّنب ) انتهى .
وأراد باسترخاء عرى الذنب استرخاء الذكر .
وأما جر الجوار في العطف فقد قال أبو حيان في تذكرته : لم يأت في كلامهم ولذلك ضعف )
جداً قول من حمل قوله تعالى : وامْسَحُوا برؤُوسِكُمْ وأرجِلكم في قراءة من خفض على الجوار .
____________________


والفرق بينه وبين النعت كون الاسم في باب النعت تابعاً لما قبله من غير وساطة شيء فهو أشد له مجاورة بخلاف العطف إذ قد فصل بين الاسمين حرف العطف وجاز إظهار العامل في بعض المواضع فبعدت المجاورة .
وذهب بعض المتفقهة من أصحابنا الشافعية إلى أن الإعراب على المجاورة لغة ظاهرة وحمل على ذلك في العطف الآية الكريمة وقوله تعالى لم يَكُنِ الذينَ كَفَرُوا مِنْ أهْلِ الكتاب والمُشْرِكينَ مُنْفَكِّين قال : فخفض المشركين لمجاورة أهل الكتاب . وما ذهب إليه يمكن تأويله على وجه أحسن فلا حجة فيه . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل به في وحورٍ عين فيمن جرهما فإن العطف على ولدانٌ مخلدون لا على أكوابٍ وأباريق إذ ليس المعنى أن الولدان يطوفون عليهم بالحور .
وقيل العطف على جنات وكأنه قيل : المقربون في جنات وفاكهة ولحم طير وحور . وقيل على أكواب باعتبار المعنى إذ معنى يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب ينعمون بأكواب . انتهى .
وأما قوله في البدل فقد قال أبو حيان أيضاً : لم يحفظ ذلك في كلامهم ولا خرج عليه أحد من علمائنا شيئاً فيما نعلم .
وسبب ذلك والله أعلم أنه معمول لعامل آخر لا للعامل الأول على أصح المذهبين ولذلك يجوز ذكره إذا كان حرف جر بإجماع وربما وجب إذا كان العامل رافعاً أو ناصباً .
ففي جواز إظهاره خلاف فبعدت إذ ذاك مراعاة المجاورة ونزل المقدر الممكن إظهاره منزلة الموجود فصار من جملة أخرى . انتهى .
وقد آن لنا أن نرجع إلى البيت الشاهد فنقول : هو من أبيات للحطيئة وقد
____________________

تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة مدح بها عدي بن فزارة وعيينة بن حصن وحذيفة بن بدر فقال بعد تسعة أبيات من الغزل : ( فأبلغ عامراً عنّي رسولاً ** رسالة ناصحٍ بكم حفيّ ) ( فإيّاكم وحيّة بطن وادٍ ** حديد النّاب ليس لكم بسيّ ) ( فحلّوا بطن عقمة واتّقونا ** إلى نجران في بلدٍ رخيّ ) ) ( فكم من دار حيٍّ قد أباحت ** لقومهم رماح بني عديّ ) ( فما إن كان عن ودٍّ ولكن ** أباحوها بصمّ السّمهريّ ) وبعد هذا خمسة أبيات أخر .
وقوله : فأبلغ عامراً الخ قال أبو عمرو : يعني عامر بن صعصعة وهو أبو قبيلة . والرسول : الرسالة . انتهى .
فيكون على هذا قوله رسالة ناصح بدلاً من رسولاً وأجود منه أن يكون رسولاً حالاً من وقوله : فإياكم وحية الخ . إياكم محذر وحية محذر منه وهما منصوبان بفعلين أي : أبعدوا أنفسكم واحذروا الحية . وأراد الحطيئة بالحية نفسه يعني أنه يحمي ناحيته ويتقى منه كما يتقى من الحية الحامية لبطن واديها المانعة منه . والوادي : المطمئن من الأرض .
____________________


وقوله : حديد الناب هكذا وقع في رواية ديوانه وهذا لا يدل على أن المراد بالحية الذكر لأن حديداً في الأصل مسند إلى الناب أي : حديد نابه . والناب من الأسنان مذكر ما دام له هذا الاسم والجمع أنياب وهو الذي يلي الرباعيات .
قال ابن سينا : ولا يجتمع في حيوان ناب وقرن . كذا في المصباح . والحديد : القاطع وروي بالنصب إتباعاً للفظ الحية والمشهور في رواية النحويين هموز الناب بالجر على المجاورة كما تقدم . والهموز : فعول من الهمز بمعنى الغمز الضغط .
وقوله : ليس لكم بسي هذا يدل على تذكير الحية فإن ضمير ليس عائد إلى الحية ولو أراد المؤنث لقال ليست . والسي بكسر السين المهملة : المثل أي : لا تستوون معه بل هو أشرف منكم .
وقوله : فحلوا بطن عقمة الخ حلوا أمر من الحلول بمعنى النزول . وعقمة بضم العين وسكون القاف قال أبو عبيد البكري في المعجم : هو موضع ما بين ديار بني جعفر بن كلاب وبين نجران .
والمعنى : اتقونا من ها هنا إلى نجران . ونجران : مدينة بالحجاز من شق اليمن . ورخي : بعيد وقيل واسع مخصب .
وقوله : فكَمْ من دارِ حَيٍّ الخ حي هنا بمعنى القبيلة . وأباحت : بمعنى جعلته مباحاً .
وقوله : فما إنْ كان عن ودٍّ الخ يقول : لم ينزلوا هذه المنازل عن مودة بينهم وبين هؤلاء ولكن أباحتها لهم رماحهم وسيوفهم . )
وأما بيت سيبويه وهو : ( كأنّ نسج العنكبوت المرمل ) فهو للعجاج .
____________________


وبعده : ( على ذرى قلاّمة المهدّل ** سبوب كتّانٍ بأيدي الغسّل ) النسج : الغزل . والمرمل : المنسوج والمغزول . والذرى : الأعالي جمع ذروة بالكسر . والقلام : بضم القاف وتشديد اللام : ضرب من النبت وضمير قلامه راجع إلى الماء فإنه في وص ماء ورده . والمهدل : المدلى .
والسبوب : جمع سب بالكسر كجذوع . والسب : ثوب من كتان أبيض . والغسل : جمع غاسل وغاسلة . يعني أن العنكبوت قد نسجت على القلام الذي نبت حول الماء . شبه ما نسجت العنكبوت عليه بثوب رقيق من الكتان .
وأنشد بعده الشاهد الخمسون بعد الثلاثمائة الطويل كبير أناس في بجاد مزمل على أن قوله مزمل انجر لمجاورته ل أناس تقديراً لا ل بجاد لتأخره عن مزمل في الرتبة .
فالمجاورة على قسمين : ملاصقة حقيقية كما في البيت السابق وملاصقة تقديرية كما في هذا البيت .
وفيه رد على شراح المعلقات ومن تبعهم فإنهم قالوا : جر مزملاً على الجوار
____________________

ل بجاد وحقه الرفع لأنه نعت لكبير .
وممن تبعهم أبو حيان قال في تذكرته : خفض مزملاً على الجوار للبجاد وهو في المعنى نعت للكبير تغليباً للجوار .
ومنهم ابن هشام في بعض تعاليقه قال : لما جاور المخفوض وهو البجاد خفض للمجاورة . ولا يخفى أن المجاورة رتبية كانت أو لفظية كافية .
وما قاله الشارح المحقق لا داعي له . )
ولم يجعل أبو علي هذا البيت من باب الجر على الجوار بل جعل مزملاً صفة حقيقية ل بجاد قال : لأنه أراد مزمل فيه ثم حذف حرف الجر فارتفع الضمير واستتر في اسم المفعول . انتهى .
وقال الخطيب التبريزي في شرح المعلقات : وفي البيت وجه آخر وهو أن يكون على قول من قال كسيت جبة زيداً فيكون التقدير : في بجاد مزمله الكساء ثم تحذف كما تقول : مررت برجل مكسوته جبة ثم تكني عن الجبة فتقول : مررت برجل مكسوته ثم تحذف الهاء في الشعر . هذا قول بعض البصريين . انتهى .
ولا يخفى تعسف هذا القول . وتخريج أبي علي أقرب من هذا .
والمصراع عجز وصدره : كأنّ ثبيراً في عرانين وبله والبيت من معلقة امرئ القيس المشهورة . وثبير : جبل بمكة . والعرانين :
____________________

الأوائل والأصل في هذا أن يقال للأنف : عرنين استعير لأوائل المطر لأن الأنوف تتقدم الوجوه . والوبل : مصدر وبلت السماء وبلاً إذ أتت بالوابل وهو ما عظم من القطر . وضمير وبله راجع للسحاب في بيت قبله .
والبجاد بالجيم بعد الموحدة المكسورة وهو كساء مخطط من أكسية الأعراب من وبر الإبل وصوف الغنم . والمزمل : اسم مفعول بمعنى الملفف .
قال الزوزني في شرح المعلقات : كأن ثبيراً في أوائل مطر هذا السحاب سيد أناس ملفف بكساء مخطط . شبه تغطيه بالغثاء بتغطي هذا الرجل بالكساء . انتهى .
ونقل الخطيب التبريزي عن أبي نصر أن امرأ القيس شبه الجبل وقد غطاه الماء والغثاء الذي أحاط به إلا رأسه بشيخ في كساء مخطط . وذلك أن رأس الجبل يضرب إلى السواد والماء حوله أبيض . انتهى .
وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : شبه ثبيراً برجل مزمل بالثياب لأن المطر لما سح ستره .
وروى المبرد في الكامل تبعاً للأصمعي : ( كأن أبانا في أفانين ودقه ** كبير أناس . . . . . . . . الخ ) وقال : أبان : جبل . وهما أبانان : أبان الأسود وأبان الأبيض . وقوله : في أفانين ودقه يريد ضروباً )
قوله : كبير أناس الخ يريد مزملاً بثيابه قال تعالى : يا أيُّها المزَّمّل . قُمِ اللَّيل وهو المتزمل والتاء مدغمة في الزاي . وإنما وصف امرؤ القيس الغيث فقال قوم : أراد أن المطر قد خنق الجبل فصار له كاللباس على الشيخ المتزمل .
____________________

وقال آخرون : إنما أراد ما كساه المطر من خضرة النبت .
وكلاهما حسن . وذكر الودق لأن تلك الخضرة من عمله . انتهى .
تتمتان إحداهما : لم يذكر الشارح المحقق الرفع على المجاورة لأنه لم يثبت عند المحققين وإنما ذهب إليه بعض ضعفة النحويين في قوله : البسيط ( السّالك الثّغرة اليقظان كالئها ** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل ) أولهم الأصمعي ذكره علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال : سأل الرياشي الأصمعي عنه فقال : الفضل من نعت الخيعل وهو مرفوع وأصله أن المرأة الفضل هي التي تكون في ثوب واحد فجعل الخيعل فضلاً لأنه لا ثوب فوقه ولا تحته كما يقال امرأة فضل .
قال الرياشي : وهذا مما أخذ على الأصمعي . ثم رجع عن هذا القول وقال بعد : هو من نعت الهلوك إلا أنه رفعه على الجوار كما قالوا : جحر ضب خرب . انتهى .
ومنهم ابن قتيبة قال في أبيات المعاني : الثغرة والثغر سواء وهو موضع المخافة . والكالئ : الحافظ . والخيعل : ثوب يخاط أحد جانبيه ويترك الآخر . والهلوك : المتثنية المتكسرة . والفضل من صفة الهلوك وكان ينبغي أن يكون جراً ولكنه رفعه على الجوار للخيعل .
ومثله : كأنّ نسج العنكبوت المرمل ومثله جحر ضب خرب .
____________________


مثله : كبير أناسٍ في بجادٍ مزمّل وأراد أنه آمن لا يخاف فهو يمشي على هينته . انتهى .
وقد رد العلماء هذا القول منه ابن الشجري في أماليه قال : وزعم بعض من لا معرفة لهم بحقائق الإعراب بل لا معرفة لهم بجملة الإعراب أن ارتفاع الفضل على المجاورة للمعرفة فارتكب خطأً فاحشاً وإنما الفضل نعت للهلوك على المعنى لأنها فاعلة من حيث أسند )
المصدر الذي هو المشي إليها كقولك عجبت من ضرب زيد الطويل عمراً رفعت الطويل لأنه وصف لفاعل الضرب وإن كان مخفوضاً في اللفظ .
فلو قلت : عجبت من ضرب زيد الطويل عمرو فنصبت الطويل لأنه نعت لزيد على معناه من ( قد كنت داينت بها حسّاناً ** مخافة الإفلاس واللّيّانا ) ومثل رفع الفضل على النعت للهلوك رفع المظلوم على النعت للمعقب في قول لبيد يصف الحمار والأتان : الكامل ( يوفي ويرتقب النّجاد كأنّه ** ذو إربة كلّ المرام يروم ) ( حتّى تهجّر في الرّواح وهاجها ** طلب المعقّب حقّه المظلوم )
____________________

يوفي أي : يشرف . والنجاد : جمع نجد وهو المرتفع . أي : يشرف على الأماكن المرتفعة كالرقيب وهو الرجل الذي يكون ربيئة القوم يربض على نشز متجسساً . والإربة : الحاجة .
وقوله : حتى تهجر في الرواح أي : عجل رواحه فراح في الهاجرة . وهاجها أي : هاج الأتان وطردها وطلبها مثل طلب الغريم المعقب حقه فالمعقب فاعل الطلب . ونصب حقه لأنه مفعول الطلب . والمظلوم للمعقب على المعنى فرفعه لأن التقدير طلبها مثل أن طلب المعقب لمظلوم حقه . والمعقب : الذي يطلب حقه مرة بعد مرة . انتهى .
ومنهم أبو حيان في تذكرته قال في أولها : قال بعض معاصرينا : أكثرهم يعتقد الجوار مخصوصاً بالمجرور وقد جاء في المرفوع وأنشد : السالك الثغرة اليقظان كالئها . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو حيان : قلت : وليس الرفع كما ذكر اتباعاً للخيعل بل رفعه على النعت للهلوك على الموضع لأن معناه : كما تمشي الهلوك الفضل . وعليها الخيعل حال معمولة لتمشي أو جملة اعتراضية . انتهى .
واليقظان بالنصب : صفة للثغرة . وكالئها فاعل اليقظان ومشي مفعول مطلق أي : مشياً كمشي الهلوك . والفضل بضمتين : المرأة التي عليها قميص ورداء وليس عليها إزار ولا سروايل .
وقال الفراء والحسن السكري في الهذليات : الفضل : ثوب كالخيعل تلبسه المرأة في بيتها . وعلى هذا فلا مجاورة ولا إتباع على المحل . يقول : هذا من شأنه سلوك موضع المخافة متمكناً غير خائف كمشي المرأة المتبخترة الفضل . )
____________________


وقد تقدم الكلام على هذا البيت في حملة شرح قصيدته في الشاهد الثاني والثلاثين بعد الثلاثمائة .
ثانيتهما : قد ضرب المثل بخفض مزمل في كون الشريف يعاشر دنيئاً فيسفل بعشرته .
قال الأمين المحلي : الطويل ( عليك بأرباب الصّدور فمن غدا ** مضافاً لأرباب الصّدور تصدّراً ) ( وإيّاك أن ترضى صحابة ناقص ** فتنحطّ قدراً من علاك وتحقرا ) وأورد ابن هشام هذا الشعر في مغني اللبيب في الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة . منها : وجوب التصدر ومما له الصدارة كلمات الاستفهام يجب أن تتصدر في جملتها فإذا أضيف إليها اسم وجب تصدره أيضاً وحيئذ لا يعمل ما قبله فيه ولهذا وجب الرفع في قولك : علمت أبو من زيد . وإليه الإشارة بقوله : فرفع أبو من .
والإشارة بقوله : ثم خفض مزمل إلى بيت امرئ القيس الذي شرحناه . وقوله : مغرياً راجع إلى قوله أولاً عليك بأرباب الصدور وقوله : ومحذراً راجع إلى قوله ثانياً : وإياك أن ترضي صحابة ناقص .
فإن قيل : قوله : يبين قولي الخ لا يصح أن يكون خبراً عن مجموع قوله : فرفع أبو من ثم خفض مزمل إذ لم يقل يبينان . ولا عن أحدهما لاشتمال الجملة على قيد لا يصح تعلقه بكل منهما .
وذلك أن رفع أبو من لا يبين قوله مغرياً ومحذراً وإنما يبين قوله مغرياً وكذا الثاني .
أجيب بأن قوله : يبين قولي فقط هو خبر الأول وخبر الثاني محذوف وأن قوله مغرياً ومحذرا قيدان للمحذوف والتقدير فرفع أبو من يبين قولي وخفض مزمل كذلك هما يبينان قولي مغرياً ومحذرا . ومثل هذا الشعر قول ابن حزم الظاهري : الطويل
____________________

( تجنّب صديقاً مثل ما واحذر الذي ** يكون كعمرو بين عربٍ وأعجم ) قال ابن هشام في المغني في المبحث الذي تقدم ذكره : مراده بما الكناية عن الرجل الناقص كنقص ما الموصولة . وبعمرو الكناية عن المتزيد الآخذ ما ليس له كأخذ عمرو الواو في الخط .
وقال في موقد الأذهان وموقظ الوسنان وهي رسالة له بعد أن ذكر أنه سئل عن الأبيات : يريد بالصديق الذي كعمرو المستكثر بما ليس له فإن عمراً قد أخذ الواو في الخط في الرفع والجر وليس داخلة في هجائه ومن ثم نسب الشعراء إلحقها له إلى الظلم . )
قال الشاعر : الخفيف ( أيّها المدّعي سليماً سفاهاً ** لست منها ولا قلامة ظفر ) ( إنّما أنت من سليم كواو ** ألحقت في الهجاء ظلماً بعمرو ) وأما المشار إليه بما فهو الصديق الناقص وذلك على أنه يريد ما الموصولة فإنها مفتقرة إلى صلة وعائد وما الاستفهامية فإنه تنقص حرفاً إذا دخل عليها الجار .
وهذا أحسن من قوله في المغني كنقص ما الموصولة لأن ما الناقصة أعم من الموصولة لشمولها الاستفهامية . وأما الموصوفة فهي كالموصولة .
وأما الشاهد الذي أشار إليه ابن حزم فهو قول الأعشى ميمون من قصيدة : الطويل
____________________

( وتشرق بالقول الذي قد أذعته ** كما شرقت صدر القناة من الدّم ) وبيانه أن الفعل إنما تلحقه التاء إذا كان الفاعل مؤنثاً ولا يجوز قالت زيد فكان ينبغي أن لا يجوز كما شرقت لأن الصدر مذكر لكنه لما أضافه للقناة سرى منها التأنيث إليه .
وعكس ذلك قوله : البسيط ( إنارة العقل مكسوفٌ بطوع هوىً ** وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا ) فكان ينبغي أن يقول مكسوفة لأن الإنارة مؤنثة ولكنه لما أضافها إلى العقل سرى إليها منه التذكير .
والمين المحلي من الفضلاء المصرية له تأليفات في علم العروض . والمحلة : كورة بمصر القاهرة .
____________________

( باب العطف ) أنشد في أوله : المتقارب ( إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة في المزدحم ) على أن الصفات يعطف بعضها على بعض كما هنا . وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والسبعين في باب المبتدأ والخبر .
وأنشد بعده السريع ( يا لهف زيّابة للحارث ال ** صّابح فالغانم فالآيب ) على أن الصفة يعطف بعضها على بعض كما هنا فإن الغانم معطوف على الصابح والآيب معطوف على الغانم . وأشار بالبيتين إلى أن عطف الصفات يجوز بالواو إن قصد الجمع وبالفاء إن قصد التعقيب .
قال الخطيب التبريزي في شرح الحماسة : لما كانت هذه الصفات متراخية حسن إدخال فاء العطف لأن الصابح قبل الغانم والغانم أمام الآيب .
____________________

ويقبح أن تدخل الفاء إذا كانت الصفات مجتمعة في الموصوف فلا يحسن أن يقال عجبت من فلان الأزرق العين فالأشم الأنف فالشديد الساعد إلا على وجه يبعد لأن زرقة العين وشمم الأنف وشدة الساعد قد اجتمعن في الموصوف . انتهى .
والصواب أن يقال متعاقبة بدل متراخية فإن التعاقب هنا كالتعاقب في قولك : تزوج زيد فولد له وكذلك كل شيء بحسب حصوله وإن كان فيه تراخ .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : أراد : الذي يصبح العدو بالغارة فيغنم فيؤوب سالماً فعطف الموصول على الموصول وهما جميعاً لموصوف واحد . والشيء لا يعطف على نفسه من حيث كان العطف نظير التثنية في المعنى فكما لا يكون الواحد اثنين وليجوزن أن يكون ما فوق ذلك إلى ما لا غاية له كثرة .
وعلة جواز ذلك قوة اتصال الموصول بصلته حتى إنه إذا أريد عطف بعض صلته على بعض جيء به هو معطوف في اللفظ على نفسه . ومثله قول الله تبارك وتعالى : الذي هو يطعمني ويسقين . وإذا مرضت فهو يشفين إلى آخر الآية . وهذا كله صفة موصوف واحد وهو القديم )
عز اسمه .
وقد تقصيت هذا في كتاب المعرب وهو تفسير قوافي أبي الحسن . فأما قول الله تعالى : والعادياتِ ضَبْحاً . فالمورِياتِ قَدْحاً . فالمُغِيرَاتِ صُبْحاً فقد يمكن أن يكون مما نحن فيه وقد يمكن أن تكون العاديات غير الموريات والمغيرات غيرهما فيكون عطف موصوف على موصوف آخر حقيقة لا مجازاً كقولك :
____________________

مررت بالضاحك فالباكي إذا مررت باثنين أحدهما ضاحك والآخر باك . انتهى .
وأورد الزمخشري هذا البيت والذي قبله عند قوله تعالى : والذينَ يُؤمنُونَ بمَا أنزلَ إليك من سورة البقرة وفي توسّط العاطف بينه وبين قوله تعالى قبله : الذينَ يُؤمنون بالغَيب فإنهما واحد كما توسط بين الصفات في البيتين . وعطف الصفات على الصفات كثير بناء على تغاير المفهومات وإن كانت متحدة بالذات . وقد يكون العطف بالواو كما في الآية والبيت الأول وقد يكون بالفاء كما تقدم بيانه .
قال صاحب الكشاف في أول الصافات ونقله ابن هشام في المغني : للفاء مع الصفات ثلاثة أحوال : أحدها أن تدل على ترتب معانيها في الوجود كقوله : يا لهف زيابة البيت أي : الذي صبح فغنم فآب .
والثاني : أن تدل على ترتبها في التفاوت من بعض الوجوه نحو قولك : خذ الأكمل فالأفضل واعمل الأحسن فالأجمل .
والثالث : أن تدل على ترتب موصوفاتها في ذلك نحو : رحم الله المحلقين فالمقصرين . انتهى .
قال الفاضل اليمني : والقسمة الصحيحة تقتضي أربعة لأنه كما جاز في الصفات الدلالة على ترتيب معانيها في الوجود كذلك يجوز في الموصوفات كما تقول : حل المتمتع فالقارن فالمفرد .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة لابن زيابة مذكورة في الحماسة وبعده :
____________________

( واللّه لو لاقيته خالياً ** لآب سيفانا مع الغالب ) ( أنا ابن زيّابة إن تدعني ** آتك والظّنّ على الكاذب ) قال الجوهري : يا لهف فلان : كلمة يتحسر بها على ما فات . ولهف : منادى مضاف أي : يا لهف احضر . )
وزيابة بفتح الزاي المعجمة وتشديد المثناة التحتية وبعد الألف باء موحدة : اسم أم الشاعر .
ومثل هذا البيت في تلهيف الأم والتحسر على الفائت قول النابغة الذبياني : الكامل ( يا لهف أمّي بعد أسرة جعول ** أن لا ألاقيهم ورهط عرار ) وزعم ابن هشام في المغني أن زيابة أبو الشاعر ولم أره لغيره . وقال : أراد يا لهف أبي على الحارث أن لا أكون لقيته فقتلته . وذلك لأنه يريد يا لهف نفسي .
وفيه أنه يصح أن يكون اللهف من أمه وأبيه فلا حاجة إلى إقامة غيره مقام نفسه .
واللام في للحارث للتعليل أي : يا لهف أمي من أجل الحارث بن همام الشيباني . وجعلها ابن هشام بمعنى على .
قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : يجوز أن يكون أورد هذا الكلام على الحقيقة فلهف لما رأى من نجاحه في غزواته وسلامته في مآبه . ويجوز أن يكون أورده على طريق الاستهزاء فوصفه بهذه الصفات والأمر بخلافه .
والأشهر أن يوصف الرجل بما هو متصف بضده تهكماً به وسخرية . وهذا من أشد سباب العرب يقول الرجل لغيره : يا عاقل أو يا حليم إذا استجهله . ونحوه
____________________

قوله تعالى : ذقْ إنَّكَ أنتَ العزيزُ الكريم . انتهى .
وحمل أبو عبيد النمري في شرح الحماسة هذا الكلام على ظاهره فقال : يقول : يصبح أعداءه بالغارة فيغنم ويؤوب فوصفه بالفتك والظفر وحسن العاقبة . وهذا بين واضح .
ورد عليه أبو محمد الأعرابي الأسود فقال : هذا موضع المثل : أخطأت استك الحفرة كيف يذكره بالفتك والظفر وهو أعدى عدو له وإنما المعنى أنه لهف أمه وهي زيابة أن لا يلحقه في بعض غاراته فيقتله أو يأسره . انتهى .
ومنه تعلم أن قول ابن هشام : يا لهف أبي علي الحارث إذ صبح قومي بالغارة غير جيد من وجهين : أحدهما : تفسير زيابة بالأب والثاني : تقييد صبح بقوله قومي .
وقد ذهب إليه أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي فقال : تأسف أن صبحهم فغنم وآب سالماً . والصابح : الذي يصبح القوم بالغارة .
والحارث هذا هو الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وإنما قال ابن زيابة فيه هذا الشعر جواباً عن شعر له فيه . وهذا شعر الحارث بن همام : السريع ) ( أيا ابن زيّابة إن تلقني ** لا تلقني في النّعم العازب ) العازب : البعيد . يريد : إنك لا تراني راعي إبل . والمعنى : إنما صاحب فرس ورمح أغير على الأعداء وأحارب من يبتغي حربي . ويشتد : من
____________________

الشد وهو العدو . والأجرد : الفرس القصير الشعر : والبركة بكسر الموحدة : الصدر أي : متقدم مشرفه . كالراكب أي : إشرافه إشراف الراكب لا المركوب . وأيا : حرف نداء وابن زيابة : منادى .
وقوله : والله لو لاقيته خالياً الخ يقول : لو لاقيته لقتلته أو قتلني ورجع السيفان مع الغالب . وفي هذا الكلام وصف لنفسه بالشجاعة وقلة مبالاته بالموت وإنصاف للمحارب .
وقوله : إن تدعني الخ هذا يحتمل وجهين : أحدهما : أنك إن دعوتني علمت حقيقة ما أقول فادعني واخلص من الظن لأنك لا تظن بي العجز عن لقائك . والظن من شأن الكاذب مثل ما يقال : القيام بهذا الأمر على فلان أي : هو الذي يقع به .
والآخر : أن يكون معنى قوله والظن على الكاذب أي : يكون عوناً عليه مع الأعداء كما تقول : رأيك عليك أي : إنك تسيئه فيكون كالمتظاهر عليك . هذا كلام الخطيب التبريزي .
وقال الطبرسي : قوله والظن على الكاذب جرى مجرى الأمثال ومعناه قول لبيد : الرمل ( واكذب النّفس إذا حدّثتها ** إنّ صدق النّفس يزري بالأمل ) والمعنى كل منا يحدث صاحبه بكذبها ثم الظن على من لا يتحقق أصله . ويجوز أن يريد : أنا المشهور المعروف إن تدعني لمبارزتك أجبتك فإن كنت تظن غير هذا فظنك عليك لأنك تكذب نفسك فيما تتوهمه من قعودي عنك ونكولي عن الإقدام عليك .
ويجوز أن يريد : إن ظننت أن تكون الغالب فظنك عليك لأنك تكذب نفسك .
وابن زيابة شاعر من شعراء الجاهلية واختلف في اسمه فقال أبو رياش
____________________

في شرح الحماسة : هو عمرو بن لأي أحد بني تيم اللات بن ثعلبة وهو فارس مجلز .
وقال أبو محمد الأعرابي والمرزباني : اسمه سلمة بن ذهل .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي اسمه عمرو بن الحارث بن همام أحد بني تيم اللات بن ثعلبة .
وزيابة اسم مرتجل للعلم قال ابن جني في المبهج : هو فعالة أو فيعالة أو فوعالة من لفظ )
الأزيب وهو النشاط . انتهى .
قال صاحب الصحاح عن ابن السكيت : الأزيب على أفعل : النشاط ويؤنث يقال : مر فلان وله أزيب منكرة إذا مر مراً سريعاً من النشاط . والأزيب : الدعني . والأزيب : العداوة .
والأزيب : النكباء التي تجري بين الصبا والجنوب . وقال أبو زيد : أخذني من فلان الأزيب وهو وأخطأ محمد بن داود الجراح في ضبطه ابن زيابة بباءين موحدتين خفيفتين قال : وهي فأرة صماء يشبه بها الجاهل .
قال ابن حلزة : مجزوء الكامل ( وهم زبابٌ حائر ** لا تسمع الآذان رعدا )
____________________

وشعره يرد عليه فإنه لا يستقيم على ما قال . نقله عنه أبو عبيد البكري .
واللأي بفتح اللام وسكون الهمزة بمعنى البطء . وتيم بمعنى عبد . واللات صنم . ومجلز بكسر الميم وسكون الجيم وفتح اللام وآخره زاي معجمة : اسم فرسه وهو من الجلز وهو الفتل الشديد .
ولابن زيابة شعر جيد أورد منه المبرد في الكامل هذه الأبيات وأبو تمام في الحماسة : السريع ( ما لددٍ ما لددٍ ماله ** يبكي وقد أنعمت ما باله ) ( مالي أراه مطرقاً سامياً ** ذا سنةٍ يوعد أخواله ) ( وذاك منه خلقٌ عادةٌ ** أن يفعل الأمر الذي قاله ) ( إنّ ابن بيضاء وترك النّدى ** كالعبد إذ قيّد أجماله ) ( آليت لا أدفن قتلاكم ** فدخّنوا المرء وسرباله ) ( والرّمح لا أملأ كفّي به ** واللّبد لا أتبع تزواله ) قال المبردك قوله ما لدد يعني رجلاً . ودد في الأصل هو اللهو قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لست من دد ولا دد مني وقد يكون في غير هذا الموضع مأخوذاً من العادة . وقوله : أنعمت ما باله . ما زائدة والبال هنا : الحال .
وقوله : مطرقاً سامياً السامي : الرافع رأسه يقال : سما يسمو إذا ارتفع . والمطرق : الساكت المفكر المنكس رأسه فإنما أراد سامياً بنفسه .
وقوله : ذا سن يقول : كأنه لطول إطراقه في نعسة . انتهى . )
____________________


قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل حكى الزجاجي أن المطرق من هو بذيء في أفعاله ويطلب معالي الأمور . وقال غيره : المطرق الخامل الذكر أي : هو خامل في الحقيقة وهو يتكبر في نفسه .
وقوله : ذا سنة يريد أن وعيده لا حقيقة له فكأنه يراه في النوم . انتهى كلام ابن السيد .
وروى أبو تمام المصراع الأول : ( نبئت عمراً غارزاً رأسه ** ذا سنة . . . . . . . . . . . الخ ) قال الخطيب التبريزي : نبئ وأنبأ متعد إلى ثلاثة مفاعيل أولها نائب الفاعل وهو تاء المتكلم ورأسه منصوب بغارزاً بمعنى مدخلاً رأسه ومنه الغرز بالإبرة . وغرز الرأس : كناية عن الجهل والذهاب عما عليه وله من التحفظ . والسنة بالكسر : النعاس .
يقول : كأنه وسنان قد تغير عقله فهو يوعد من لا يحب أن يوعده وجملة يوعد : حال .
وروى : في سنة بفتح السين أي : في جدب وقحط . وقوله : وذاك منه خلق عادة روى بدله أبو تمام : وتلك منه غير مأمونة .
قال الخطيب : أي : تلك الخصلة لا يؤمن وقوعها من عمرو وهو فعله لما يقوله . وهذا تهكم .
وأن يفعل موضعه رفع على البدل من قوله : وتلك منه .
وقوله : كالعبد إذ قيد أجماله قال المبرد : يريد غير أنه مكترث لاكتساب المجد والفضل وذلك أن العبد الراعي إذا قيد أجماله لف رأسه ونام ناحية .
____________________


وهذا شبية بقوله : البسيط واقعد فإنّك أنت الطّاعم الكاسي وهذا البيت ساقط في رواية أبي تمام . قال الخطيب : قال النمري : وفيها : إنّك يا عمرو وترك العدى قال ابن السكيت : يقول : أنت كالعبد اقتصر على موضع يرعى فيه ولا يعزب بإبله . وعندي أنه يقول : وبخلك وحبسك مالك كالعبد قيد أجماله فلا يبرحه منها بعير . وكذلك أنت قيدت مالك فلا يبرحك منه شيء . قال أبو محمد الأعرابي : هذا موضع المثل : الوافر ( فلا يدري نضيرٌ من دحاها ** ومن هو ساكن العرش الرّفيع ) أخبرنا أبو الندى قال : هذا البيت من المختل القديم والصواب : ) ( إنّي وحوّاء وترك النّدى ** كالعبد إذ قيّد أجماله ) قال : حواء فرسه . ومعناه إني متى أترك الغزو على ظهر حواء واغتنام
____________________

الأموال وتفريقها على الزائرين والسائلين لم يبق لي هم لأن أكثر همي في ذلك وكنت مثل العبد إذا شبعت إبله فأراحها وقيدها في مراحها لم يبق له هم حينئذ . يقول : همي في الغزو واغتنام الأموال وبذلها . انتهى .
وقوله : فدخنوا المرء وسرباله . قال المبرد : يروي أنه طعن فارساً منهم فأحدث فقال : نظفوه فإني لا أدفن القتيل منكم إلا طاهراً .
وقوله : والدرع لا أبغي بها نثرة قال المبرد : النثرة : الدرع السابغة . يقول : درعي هذه تكفيني .
وقوله : كل امرئ مستودع ماله قال المبرد : أي : مسترهن بأجله وهو كقول الأعشى : الكامل ( كنت المقدّم غير لابس جنّةٍ ** بالسّيف تضرب معلماً أبطالها ) انتهى .
وقال الإمام أبو الوليد فيما كتبه على الكامل : ليس هذا بالمعنى لأن الاستيداع غير الاسترهان والمال غير الأجل وإنما المعنى مال الإنسان وديعة مرتجعة وعارية مؤداة كما قال لبيد : الطويل ( وما المال والأهلون إلاّ وديعة ** ولا بدّ يوماً أن ترد الودائع ) ويروى : والدّرع لا أبغي بها ثروةً
____________________

وهذا الرواية تدل على معنى بيت لبيد ولا يجوز معها تأويل المبرد . انتهى .
وهذه رواية شراح الحماسة . قال الخطيب : أي : درعي مالي الذي أدخره . وهذا كقول الآخر : الطويل ( ومالي مال غير درعٍ حصينةٍ ** وأبيض من ماء الحديد صقيل ) ويحتمل أنه لا يبيعها فيأخذ العوض عنها فيثرى به .
وقوله : كل امرئ الخ يريد احتفاظه بالدرع وأن كل إنسان يحفظ ماله فهو عنده كالوديعة التي قد لزم حفظها . ويحتمل أن يريد تعزية نفسه إذ لا مال له فيقول : كل امرئ مستودع ماله أي : أنه سيسترد منه كما تسترد الوديعة . ويجوز أن تكون ما بمعنى الذي فيكون المعنى كل امرئ ولا يمتنع أن يكون أشار بما إلى ما يقتنى من أعراض الدنيا . ويروى : مستودع بكسر الدال )
والمعنى أن ما يجمعه المرء ويكسبه إذا جاء محتوم القضاء يتركه لغيره لا محالة فلم أرغب فيه وأزهد في اكتساب المحامد .
ويروى : والدرع لا أبغي بها نثرة وهي الواسعة . والمعنى إني أكتفي من الدرع ببدنه . انتهى كلام الخطيب .
وقوله : والرمح لا أملأ كفّي به قال المبرد : يتأول على وجهين : أحدهما أن الرمح لا يملأ كفي وحده أنا أقاتل بالرمح وبالسيف وبالقوس وغير ذلك . والقول الآخر : إني لا أملأ به كفي إنما أختلس به اختلاساً كما قال : الكامل
____________________

( ومدجّج سبقت يداي له ** تحت الغبار بطعنةٍ خلس ) وقوله : واللّبد لا أتبع تزواله يقول : إن انحل الحزام فمال اللبد لم أمل معه أي : إني فارس ثابت على ظهور الخيل . انتهى .
وأوضح منه قوله الطبرسي : يجوز أن يكون المعنى أي : لا أقتصر من تعاطي أنواع السلاح على الرمح فقط ولكني أجمع في الاستعمال بينها وهذا كما يقال : ملأ كفه من كذا فليس فيه موضع لغيره . ويجوز أن يكون المعنى إني أستعمل رمحي بأطراف أصابع اليد لحذقي واقتداري ولا آخذه بجميع كفي .
وقوله : واللبد لا أتبع الخ يريد : ألزم دابتي فإن مال اللبد لم أمل معه . يصف نفسه بالفروسية ويعرض بأن أضداد هذه الأوصاف مجتمعة في خصمه .
وأنشد بعده
الشاهد الثاني والخمسون بعد الثلاثمائة الوافر ( ولست بنازل إلاّ ألّمت ** برحلي أو خيالتها الكذوب )
____________________

على أن قوله : خيالتها معطوف على الضمير المستتر في ألمت وجاز مع عدم تأكيد المستتر بمنفصل لوجود الفصل قبل حرف العطف وهو قوله : برحلي .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : عطف على الضمير المرفوع المتصل بغير تأكيد ولو أكد فقال : ألمت هي لكان أحسن غير أن الكلام طال بقوله برحلي فناب طوله عن التأكيد كما أن قوله الله سبحانه : ما أشْرَكْنا ولا آباؤُنا لما طال الكلام فيه بلا وإن كانت بعد الواو حسن الكلام بطولها . انتهى .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة مذكورة في الحماسة .
وبعده : ( فقد جعلت قلوص بني سهيلٍ ** من الأكوار مرتعها قريب ) ( كأنّ لها برحل القوم بوّا ** وما إن طبّها إلاّ اللّغوب ) قوله : ولست بنازل مفعول نازل محذوف أي : منزلاً أو مكاناً . والإلمام : زيارة لا لبث معها أو هو من ألم الرجل بالقوم إلماماً بمعنى أتاهم فنزل بهم . وفاعل ألمت ضمير الحبيبة . والرحل : كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع . والخيالة : الطيف يقال : خيال وخيالة كما يقال : مكان ومكانة .
____________________

والكذوب : صفة خيالة وإنما لم يؤنثه لأن فعولاً يستوي فيه المذكر والمؤنث . وجعلها كذوباً لأنها تخيل إليه في النوم ما لا يحق .
وقال المرزوقي : وجعلها كذوباً لما لم يحقق قولها وفعلها . يقول : لا أنزل محلاً إلا رأيت هذه المرأة ملحمة برحلي اي : متصورة لي بهذه الصورة تشوقاً مني وهذا في حال اليقظة أو رأيت خيالها الكاذب الذي لا حقيقة له وهذا في حال النوم . ( أآخر شيءٍ أنت في كلّ هجعةٍ ** وأول شيءٍ أنت عند هبوبي ) لأن هذا في حال دون حال وذاك الدهر كله .
وقد جعلت قلوص الخ جعلت هنا بمعنى طفقت وأقبلت وأخطأ العيني في قوله إن جعلت هنا بالبناء للمفعول وقلوص اسمها وهي الناقة الشابة . وجملة مرتعها قريب في محل نصب خبرها )
ومن الأكوار متعلق بقريب . واستعيرت الاسمية موضع الفعلية لأن المراد : وقد جعلت هذه القلوص يقرب مرتعها من الأكوار . وقد أورده الشارح المحقق في آخر أفعال المقاربة ويأتي بيانه هناك إن شاء الله تعالى .
وقال المرزوقي : ومرتها قريب في موضع الحال . يقول : أقبلت قلوص هذين الرجلين قريبة المرتع من رحالهم قصيرة المسرح في رواحهم لأنه لما لحقها من الكلال والإعياء لم تقدر على التباعد في المرعى . انتهى .
____________________


وقد شرحه قول الآخر وأبلغ فقال : الرجز ( من الكلال لا يذقن عوداً ** لا عقلاً تبغي ولا قيودا ) والأكوار : جمع كور بالضم وهو الرحل بأداته . أي : إذا سرحت لم تبعد في المرعى لشدة كلالها .
وزعم الدماميني في الحاشية الهندية وتبعه غيره أنه يصح أن يكون أكوار هنا جمع كور بالفتح وهي الجماعة الكثيرة من الإبل . وهذا وإن كان صحيحاً في نفسه إلا أنه لا يناسب المقام .
فتأمل .
وقوله : كأن لها برحل الخ . قال المرزوقي : يقول : كأن لهذه الناقة ولداً برحل القوم تتعطف عليه ولا تتباعد عنه وما داؤها إلا الإعياء . والطب بالكسر أصله العلم والمراد به هنا الذي يعلم ويعرف . والبو أصله جلد فصيل يحشى تبناً لتدر الأم عليه . انتهى .
وقال شارح آخر : قوله : وما إن طبها قال أبو الندى : أي ما شأنها وداؤها . وقال غيره : الطب ها هنا السقم ومنه آخر الطب الكي : وأكثر ما يستعمل ذلك في السحر ومنه رجل مطبوب .
واللغوب : الإعياء وقد لغب لغوباً كدخل دخولاً ولغب لغباً كفرح فرحاً . انتهى .
وهذه الأبيات أوردها أبو تمام في باب الحماسة مع أنه لا تعلق لها بها بوجه فإن البيت الأول من باب النسيب والبيتان الأخيران من باب الوصف وهو نعت الناقة بشدة التعب وهذا بمعزل عن الحماسة . ولم أر من تنبه لهذا من شراحه ولم أر أيضاً منهم من نسبها إلى قائلها .
ورأيت الصغاني نسبها في مادة الخيال من العباب إلى رجل من بني بحتر
____________________

ابن عتود بضم الموحدة وسكون المهملة وضم المثناة الفوقية . وعتود بفتح المهملة بعدها مثناة فوقية مضمومة وآخره دال .
الحافظو عورة العشيرة )
على أن أصله الحافظون عورة العشيرة فحذفت النون طلباً للاختصار لأن الصلة قد طالت .
وعورة منصوب به . وروي أيضاً بجرها بالإضافة .
وهذا صدؤ من بيت وهو : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) والوكف : العيب والإثم . أي : نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون به من تضييع ثغرهم وقلة رعايته .
وقد تقدم الكلام عليه مستوفى في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والخمسون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( فاليوم قرّبت تهجونا وتشتمنا ** فاذهب فما بك والأيّام من عجب ) على أن حرف الجر قد يترك ضورة عند البصريين أي : ما بك وبالأيام عجب .
____________________


قال سيبويه قبل أن ينشد هذا البيت : ومما يقبح أن يشرك المظهر علامة المضمر المجرور وذلك قولك : مررت بك وزيد وهذا أبوك وعمرو فكرهوا أن يشرك المظهر مضمراً داخلاً فيما قبله لأن هذه العلامة الداخلة فيما قبلها جمعت أنها لا يتكلم بها إلا معتمدة على ما قبلها وأنها بدل من اللفظ بالتنوين فصارت عندهم بمنزلة التنوين فلما ضعفت عندهم كرهوا أن يتبعوها الاسم ولم يجز أن يتبعوها إياه . إلى أن قال : وقد يجوز في الشعر . وأنشد هذا البيت وبيتاً آخر .
انتهى .
وأوضح منه قول ابن السراج في الأصول : وأما المخفوض فلا يجوز أن يعطف عليه الظاهر لا يجوز أن تقول : مررت بك وزيد لأن المجرور ليس له اسم منفصل فيتقدم ويتأخر كما للمنصوب وكل اسم معطوف عليه فهو يجوز أن يؤخر ويقدم الآخر عليه فلما خالف المجرور سائر الأسماء لم يجز أن يعطف عليه . وقد حكى أنه جاء في الشعر : فاذهب فما بك والأيام من عجب انتهى ووافق الكوفيين يونس والأخفش وقطرب والشلويين وابن مالك . )
وهذه المسألة أوردها ابن الأنباري في مسائل الخلاف بأدلة الفريقين قال : الحتج الكوفيون على جوازها بمجيئها في التنزيل قال تعالى : واتّقوا اللّه الذين تَساءَلُون بهِ والأرحامِ بالخفض وهي قراءة حمزة وغيره . وقال تعالى : ويَسْتَفْتونَك في النساء قُلِ اللّهُ يُفْتِيكُمْ فيهنَّ وما يُتْلَى عليكم فما عطف على ضمير فيهن .
____________________


وقال تعالى : لكِن الرّاسخُون في العِلْمِ منهُمْ والمُؤمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بما أنزلَ إليكَ وما أنزلَ مِنْ قبلك والمقِيمين الصّلاة فالمقيمين عطف على الكاف في إليك أو على الكاف في قبلك . وقال تعالى : وجَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعَايشَ ومَنْ لَسْتم لهُ برازقين فمن عطف على ضمير لكم .
وقال الشاعر : البسيط فاذهب فما بك والأيّام من عجب وقال الآخر : الوافر ( أكرّ على الكتيبة لا أبالي ** أفيها كان حتفي أم سواها ) أي : أم في سواها .
وقال آخر : الطويل ( نعلّق في مثل السّواري سيوفنا ** وما بينها والكعب غوطٌ نقانف ) أي : بين السيوف وبين كعب الرجل .
وقال آخر : الكامل أي : عنهم وعن أبي نعيم .
____________________


ثم قال : والجواب عن الأول من وجهين : أحدهما : أن الأرحام مجرور بواو القسم لا بالعطف وجواب القسم إن الله كان عليكم رقيبا .
وثانيهما : أنها مجرورة بباء مقدرة حذفت لدلالة الأولى .
وأما الجواب عن الثاني فمن وجهين أيضاً : أحدهما : أن ما معطوف على الله أي : الله يفتيكم فيهن وما يتلى عليكم يفتيكم فيهن وهو القرآن .
وثانيهما معطوف على النساء من قوله : يستفتونك في النساء .
وأما الجواب عن الثالث فمن وجهين أيضاً : أحدهما : أن المقيمين منصوب على المدح وذلك أن العرب تنصب على المدح عند ترك )
العطف وقد تستنأنف فترفع .
وثانيهما : أنه معطوف على ما من قوله : بما أنزل إليك أي : يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين . على أنه قد روي عن عائشة أنها سئلت عن هذا الموضع فقالت : هذا من خطأ الكاتب .
وروي عن بعض ولد عثمان أنه سئل عنه فقال : إن الكاتب لما كتب : وما أنزل من قبلك قال : ما أكتب فقيل له : اكتب والمقيمين الصلاة يعني أن المملي أعمل قوله اكتب في المقيمين على وأما الجواب عن الرابع فإن المسجد الحرام مجرور بالعطف على سبيل الله لا بالعطف على به لأن إضافة الصد عنه أكثر استعمالاً من إضافة الكفر به . ألا ترى أنهم يقولون : صددته عن المسجد الحرام ولا يكادون يقولون : كفرت بالمسجد الحرام .
وأما الجواب عن الخامس فإن من عطف على معايش أي : جعلنا لكم فيها المعايش والعبيد والإماء .
وأما قول الشاعر : فاذهب فما بك والأيام
____________________

فلا حجة فيه أيضاً لأنه مجرور على القسم لا بالعطف على الكاف .
وأما قول الآخر : أفيها كان حتفي أم سواها فإن سواها منصوب على الظرف لا أنها مجرورة بالعطف .
وأما قوله : وما بينها والكعب فالكعب مجرور بإضافة بين إليه محذوفاً لا بالعطف حذف بين الثانية لدلالة الأولى عليه .
هذا ما أورده ابن الأنباري ولا يخفى ما في غالبه من التعسف .
وقد أنكر النحاة قراءة حمزة بجر الأرحام وهي قراءة مجاهد والنخعي وقتادة وأبي رزين ويجبيى بن وثاب والأعمش وأبي صالح أيضاً .
قال الفراء في معاني القرآن : حدثني شريك بن عبد الله عن الأعمش عن إبراهيم النخعي أنه خفض الأرحام فقال : هو كقولهم بالله والرحم وفيه قبح لأن العرب لا ترد مخفوضاً على مخفوض وقد كني عنه وإنما يجوز هذا في الشعر لضيقه . )
وقد بالغ الزجاج في تفسيره في إنكار هذه القراءة فقال : القراءة الجيدة نصب الأرحام والمعنى واتقوا الأرحام أن تقطعوها فأما الخفض في الأرحام فخطأ في العربية لا يجوز إلا في اضطرار شعر . وخطأ أيضاً في أمر الدين عظيم لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لا تحلفوا بآبائكم فكيف يكون تساءلون بالله
____________________

وبالرحم على ذا ورأيت إسماعيل بن إسحاق ينكر هذا ويذهب إلى أن الحلف بغير الله أمر عظيم فإن ذلك خاص بالله عز وجل .
فأما العربية فإجماع النحويين أنه يقبح أن ينسق باسم ظاهر على اسم مضمر في حال الخفض إلا بإظهار الخافض . فقال بعضهم : لأن المخفوض حرف متصل غير منفصل فكأنه كالتنوين في الاسم فقبح أن يعطف باسم يقوم بنفسه على اسم لا يقوم بنفسه .
وقد فسر المازني هذا تفسيراً مقنعاً فقال : الثاني في العطف شريك الأول فإن كان الأول يصلح أن يكون شريكاً للثاني وإلا لم يصلح أن يكون الثاني شريكاً له . قال : فكما لا تقول : مررت بزيد وبك كذلك لا تقول : مررت بك وزيد وقد جاء في الشعر .
أنشد سيبويه : فاذهب فما بك والأيام من عجب انتهى وتعقبه أبو شامة في شرح الشاطبية بعدما نقل عبارة الزجاج بقوله : قلت : هاتان العلتان منقوضتان بالضمير المنصوب وقد جاز العطف عليه فالمجرور كذلك . انتهى .
أقول : قد فرق الشارح المحقق بينهما بأن اتصال المضمر المجرور بجاره أشد من اتصال الفاعل المتصل والمضمر المنصوب المتصل ليس كالجزء معنى كما بينه فالقياس ممنوع .
ثم قال أبو شامة : وأما إنكار هذه القراءة من جهة المعنى لأجل أنها سؤال بالرحم فهو حلف وقد نهي عن الحلف بغير الله تعالى فجوابه أن هذا حكاية ما كانوا عليه فحضهم على صلة الرحم ونهاهم عن قطعها ونبههم على أنها بلغ من حرمتها عندهم أنهم يتساءلون بها . وحسن حذف الباء هنا أن موضعها معلوم فإنه قد كثر على ألسنتهم قولهم : سألتك بالله وبالرحم
____________________

أقول : أول كلامه يدفع آخره فإن أوله اقتضى أن الواو للقسم السؤالي . وقد رد الشارح هذا بأن قسم السؤال لا يكون إلا مع الباء وأن آخره اقتضى أنها للعطف والجر بالباء المقدرة . وفيه انتزاع فتأمل . )
ثم قال أبو شامة في تعليل قراءة حمزة أنها على القسم وجوابه إن الله كان عليكم رقيباً : أقسم سبحانه بذلك كما أقسم بما شاء من مخلوقاته من نحو : والتينِ والزيتونِ . وهذا الوجه وإن كان لا مطعن عليه من جهة العربية فهو بعيدن لأن قراءة النصب وقراءة ابن مسعود وبالأرحام بالباء مصرحتان بالوصاة بالأرحام .
وأما رد بعض أئمة العربية ذلك فقد قال القشيري في تفسيره : لعلهم أرادوا أنه صحيح فصيح وإن كان غيره أفصح فإنا لا ندعي أن كل القراءات على أفصح الدرجات في الفصاحة . وإن أرادوا غير هذا فلا يقلد فيه أئمة اللغة والنحو فإن القراءات التي قرأ بها الأئمة ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم . وهذا كلام حسن صحيح . انتهى .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل .
وقوله : فاليوم قربت الخ قال الأعلم : معنى قربت وأخذت واحد يقال : قربت تفعل كذا اي : جعلت تفعله . والمعنى : هجوك لنا من عجائب الدهر فقد كثرت فلا يتعجب منها . انتهى .
فاليوم أنشأت تهجونا الخ فجملة تهجونا خبر قرب والتاء اسمها .
وزعم العيني وتبعه غيره أن قربت هنا بالتشديد بمعنى قربت بالتخفيف أي : دنوت وجملة تهجونا حال ويقال : قربت هنا من أفعال المقاربة فحينئذ تكون الجملة خبراً . هذا كلامه .
____________________


قال شارح شواهد الموشح : يروى : قربت معروفاً ومجهولاً . فعلى الأولى معناه : اليوم قربت هجاءنا أي : أدنيته ويجوز أن يكون معناه الإسراع أي : أسرعت في الهجاء . وجملة تهجونا حالية أي : قربت هاجياً .
وعلى الثاني يريد أنك كنت مهجوراً مبعداً فاليوم قربت تهجونا وليس هذا جزاء الإحسان والتقريب وقوله : فاذهب أمر تهديد وتحذير . انتهى .
وهذا ناشئ عن عدم الاطلاع ولا ينبغي تسويد الورق بمثله .
وقوله : فاذهب قال العيني : هو جواب شرط محذوف والتقدير فإن فعلت ذلك فاذهب فإن ذلك ليس بعجب من مثلك ومن مثل هذه الأيام . انتهى .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول الشاعر : المتقارب ( فإن كنت سيّدنا سدتنا ** وإن كنت للخال فاذهب فخل ) )
أراد ب اذهب توكيداً كما تقول : أخذ يتحدث وجعل يقول وأنت تريد حديثه . وكذلك قام يشتمني قال حسان : على ما قام يشتمني لئيم أي : علام يشتمني . وعليه بيت الكتاب : فاليوم قرّبت تهجونا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت أي : فما بك عجب . واذهب توكيد للكلام وتمكين له .
ومثله قوله : الرجز
____________________

( من دون أن تلتقي الأركاب ** ويقعد الأير له لعاب ) وليس هناك قيام ولا قعود ولا ذهاب ولكن هذه استراحات من العرب وتطريحات منها في القول . انتهى .
وأنشد بعده : الواهب المائة الهجان وعبدها على أن عطف قوله وعبدها بالجر على المائة ضعيف . ووجه الضعف أن اسم الفاعل المقرون بألأ المضاف يلزم أن يكون المضاف إليه معرفاً بها أيضاً لمشابهته للحسن الوجه فإذا عطف على المضاف إليه شيء لزم أيضاً أن يكون معرفاً بها لأن المعطوف في حكم المعطوف عليه .
وإنما جاز هنا عطف عبدها مع خلوه من أل على المائة لكونه مضافاً إلى ضمير المعرف بأل والتقدير وعبد المائة ولكونه تابعاً والتابع يجوز فيه ما لا يجوز في متبوعه .
وقد تقدم شرح هذا مستوفىً مع القصيدة التي هذا المصراع منها في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع والخمسون بعد الثلاثمائة الطويل
____________________

( أتعرف أم لا رسم دارٍ معطّلا ** من العام يغشاه ومن عام أوّلا ) ( قطارٌ وتاراتٍ خريقٌ كأنّها ** مضلّة بوّ في رعيلٍ تعجّلا ) على أن الشاعر قد فصل بالظرف وهو تارات بين العاطف وهو الواو وبين المعطوف وهو خريق والأصل : قطار وخريق تارات .
وهذان البيتان من أبيات خمسة للقحيف العقيي مذكورة في أواخر نوادر أبي زيد ولم أرها إلا فيها .
وقوله : أتعرف أم لا الخ رسم : مفعول تعرف . ومعناه الأثر . ومعطلا : صفة رسم أي : خالياً من الأنيس والسكان . ومن العام متعلق بمعطلا ومن عام أولا معطوف عليه . والعام : الحول .
قال ابن الجواليقي : ولا تفرق عوام الناس بين العام والسنة ويجعلونهما بمعنى فيقولون لمن سافر في وقت من السنة أي وقت كان إلى مثله عام وهو غلط والصواب ما أخبرت به عن أحمد بن يحيى أنه قال : السنة من أي يوم عددته إلى مثله والعام لا يكون إلا شتاء وصيفاً . وفي التهذيب أيضاً : العام حول يأتي على شتوة وصيفة .
وعلى هذا فالعام أخص من السنة وليس كل سنة عاماً . وإذا عددت من يوم إلى مثله فهو سنة وقد يكون فيه نصف الصيف ونصف الشتاء . والعام لا يكون إلا صيفاً وشتاء متواليين .
واللام فيه للعهد الحضوري أي : هذا العام وعام أول هو الحول السابق .
وأول له استعمالان : أحدهما : بمعنى سابق ومتقدم ويصرف على هذا . وثانيهما : بمعنى أسبق ولا ينصرف على هذا . قال صاحب المصباح : وتقول عام أول إن جعلته
____________________

صفةً لم تصرفه لوزن الفعل والصفة وإن لم تجعله صفة صرفته . انتهى .
وألف آخره للإطلاق ومن التفضيلية محذوفة أي : من عام أول من هذا العام .
وقال أبو الحسن علي بن سليمان الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : قوله ومن عام أولا يريد من عام زمان أول أو دهر أول فأقام الصفة مقام الموصوف .
قال أبو عبيدة في قوله تعالى : تَرمِيهمْ بحجارةٍ مِنْ سِجِّيلٍ . قال : أراد والله أعلم : من شديد . )
ولم يزد على هذا وتقديره عند أهل العربية : من رام شديد . انتهى .
ولا يخفى تعسفه .
ويغشاه من غشيه من باب تعب بمعنى أاه والاسم الغشيان . والذي رواه أبو زيد يمحاه بدل يغشاه . قال أبو الحسن الأخفش : تقول العرب : محا يمحو ويمحا وقد جاء يمحي وهو شاذ قليل .
يقول بعضهم : محيت كما يقول الآخرون محوت . ومن قال يمحا فإنما يفتح لأن الحاء من حروف الحلق . انتهى .
وقطار فاعل يغشاه أو يمحاه وجملة الفعل والفاعل في محل نصب على الحال من رسم ولا يجوز أن يكون حالاً من دار لتذكير الضمير في يغشى وقطار بكسر القاف : جمع قطر بمعنى المطر . وهذا عيب في الشعر عند الخليل ويسميه المضمن وهو أن يكون تمام المعنى في البيت الثاني .
وتارات منصوب على الظرف ليغشى وهو جمع تارة بمعنى مرة . وخريق
____________________

معطوف على قطار قال صاحب العباب : الخريق الريح الباردة الشديدة الهبوب . وضمير كأنها للخريق . ومضلة : اسم فاعل من أضللته بالألف بمعنى فقدته وأضعته . قال الأزهري : وأضللت الشيء بالألف إذا ضاع منك فلم تعرف موضعه كالدابة والناقة وما أشبههما .
فإن أخطأت موضع الشيء الثابت كالدار قلت : ضللته وضللته . ومضلة صفة موصوف محذوف أي : ناقة مضلة . والبو : جلد الحوار أي : ولد الناقة يحشى إذا مات فتعطف عليه الناقة فتدر . والرعيل بالراء والعين المهملتين : الجماعة من الخيل .
وتعجل : فعل ماض بمعنى أسرع وفاعله ضمير الرعيل وجملة كأنها مضلة الخ حال من خريق . شبه الريح العاصفة في رسم الدار بناقة أضاعت ولداً في جمع خيل أسرع ومضى فهي والهة تريد اللحاق إليه فتسرع بأشد ما يمكنها .
والقحيف بضم القاف وفتح الحاء المهملة وآخره فاء . والعقيلي بضم العين وفتح القاف هو شاعر جاهلي . وتقدم ذكره في الشاهد الثالث والخمسين بعد الثلاثمائة .
وأنشد بعده
الشاهد الخامس والخمسون بعد الثلاثمائة البسيط
____________________

على أن أو هنا بمعنى الواو وإنما احتيج إلى جعل أو بمعنى الواو لأن سواء وسيين يطلبان شيئين فلو جعلت أو لأحد الشيئين لكان المعنى سيان أحدهما . وهذا كلام مستحيل .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : والذي حسن ذلك للشاعر أنه يرى جالس الحسن أو ابن سيرين فيستقيم له أن يجالسهما جميعاً . وكل الخبز أو التمر فيجوز له أن يجمعهما في الأكل . فلما جرت مجرى الواو في هذه المواضع استجاز أن يستعملها بعد سي . ولم نعلم ذلك جاء في سواء وقياسه قياس سيان . انتهى .
وبين ابن جني سره في باب تدريج اللغة من الخصائص قال : وذلك أي تدريج اللغة أن يشبه شيء شيئاً من موضع فيمضي حكمه على حكم الأول ثم يرقى منه إلى غيره . فمن ذلك قولهم : جالس الحسن أو ابن سيرين . فلو جالسهما جميعاً لكان مصيباً مطيعاً لا مخالفاً وإن كانت أو إنما هي في أصل وضعها لأحد الشيئين .
وإنما جاز ذلك في هذا الموضع لا لشيء رجع إلى نفس أو بل لقرينة انضمت من جهة المعنى إلى أو . وذلك لأنه قد عرف أنه إنما رغب في مجالسة الحسن لما لمجالسته في ذلك من الحظ .
وهذه الحال موجودة في مجالسة ابن سيرين أيضاً فكأنه قال : جالس هذا الضرب من الناس .
وعلى ذلك جرى النهي في هذا الطرز من القول في قوله تعالى : ولا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أو كَفُوراً فكأنه والله أعلم قال : لا تطع هذا الضرب من الناس ثم إنه لما رأى أو في هذا الموضع قد جرت مجرى الواو تدرج من ذلك إلى غيره فأجراها مجرى الواو في موضع عار من هذه القرينة التي سوغته استعمال أو في معنى الواو .
ألا تراه كيف قال :
____________________

فكان سيّان أن لا يسرحوا نعماً . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وسواء سيان لا يستعمل إلا بالواو . انتهى .
وقد أخذ هذا من كلام أبو علي في التذكرة القصرية قال : إنما جاز أو مع سيان اتساعاً وذلك أنهم لما رأوا أن أو يجمع بها ما قبلها وما بعدها كما جمع بالواو وإن كان المعنى مختلفاً شبهوه بها فعطفوا بها في هذا الموضع كما يعطف بالواو . وكذلك العلم بأن هذا الموضع يقتضي اثنين )
فصاعداً ولا يقتصر فيه على أحد الاسمين . انتهى .
وسيان : مثنى سي بالكسر بمعنى مثل وأصله سوي لأنه من السواء والسوية فقلب وأدغم عملاً بالقاعدة .
قال ابن يسعون : كان ينبغي أن يقول سيين لأن المعرفة أولى بأن تكون اسم كان وكأنه كره اجتماع ثلاث ياءات فعدل إلى الألف أو قدر في كان ضمير الشأن ورفعه على الخبر لأن المبتدأ وقال أبو علي في إيضاح الشعر : إما أن يكون أضمر في كان الحديث أو الأمر فيكون سيان خبر الاسمين اللذين هما : أن لا يسرحوا نعماً أو يسرحوه أو يكون جعل سيان المبتدأ وإن كان نكرة وأدخل كان على قوله سيان . والوجه الأول أشبه . انتهى .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : ولقائل أن يقول : الإخبار عن المعرفة بالنكرة مغتفر في الضرورة . على أن ابن مالك قال بجوازه مطلقاً .
وسرحت الإبل سرحاً من باب نفع وسروحاً أيضاً : رعت بنفسها وسرحتها يتعدى ولا يتعدى . وهو هنا متعد . والنعم : المال الراعي وهو جمع لا واحد له من لفظه وأكثر ما يقع على الإبل .
____________________


قال أبو عبيد : النعم : الجمال فقط وتؤنث وتذكر وجمعه نعمان كحمل وحملان وأنعام أيضاً .
وقيل : النعم : الإبل خاصة . والأنعام : ذوات الخف والظلف وهي الإبل والبقر والغنم .
وقيل : تطلق الأنعام على هذه الثلاثة فإذا انفردت الإبل فهي نعم وإن انفردت البقر والغنم لم تسم نعماً . كذا في المصباح . وضمير بها قال ابن يسعون : للسنة المجدبة التي دلت الحال عليها .
ويحتمل أن يريد البقعة التي وصفها بالجدب . والباء بمعنى في . واغبرت اسودت في عين من يراها أو كثر فيها الغبار لعدم الأمطار . وروي بدله : وابيضت . والسوح : جمع ساحة وهي قال ابن الشجري في أماليه : وصف سنةً ذات جدب فرعي النعم وترك رعيها سواء . قال أبو علي في إيضاح الشعر : زعم أبو عمرو أن الأصمعي أنشدهم هذا البيت لرجل من هذيل .
وجميع النحويين رووا هذا البيت كذا وقد رأيته ملفقا من بيتين في قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي وهما : ( وقال راعيهم سيّان سيركم ** وأن تقيموا به واغبرّت السّوح ) ( وكان مثلين أن لا يسرحوا نعماً ** حيث استرادت مواشيهم وتسريح ) )
وعلى هذا لا شاهد فيه .
والقصيدة مرثية رثى بها أبو ذؤيب صديقاً له قتل في وقعة . وهذه أبيات منها من المطلع : ( نام الخليّ وبتّ اللّيل مشتجراً ** كأنّ عيني فيها الصّاب مذبوح )
____________________

( لمّا ذكرت أخا العمقى تأوّبني ** همّي وأفرد ظهري الأغلب الشّيح ) ( المانح الأدم كالمرو الصّلاب إذا ** ما حارد الخور واجتثّ المجاليح ) ( وزفّت الشّول من برد العشيّ كما ** زفّ النّعام إلى حفّانه الرّوح ) وقال ماشيهم سيّان سيركم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين ( واعصوصبت بكراً من حرجفٍ ولها ** وسط الدّيار رذيّاتٌ مرازيح ) ( لا يكرمون كريمات المخاض وأن ** ساهم عقائلها جوعٌ وترزيح ) قوله : نام الخلي الخ قال السكري في شرح أشعار هذيل : الخلي : الذي لا هم له . والمشتجر : الذي قد وضع حنكه على يده أو فمه عند الهم . والصاب : نبت إذا شق يخرج من ورقه كاللبن يحرق العين . ومذبوح : مشقوق . وذبحه : شقه .
وقوله : لما ذكرت أخا العمقى الخ العمقى بضم العين المهملة وكسرها وبالقصر : أرض قتل بها هذا الرجل المرثي . وتأوبني : أتاني ليلاً .
____________________

وأفرد ظهري أي : كان يمنع ظهري من العدو .
والأغلب : الأسد الغليظ الرقبة يقال : رجل شيح ومشيح إذا كان جلداً . يقول : خلاني للأعداء .
وقوله : المانح الأدم الخ ما أوردناه من الأبيات أورده أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات وقال : ومما وصف بن المحل قول أبي ذؤيب ومدح رجلاً ببذل ماله فيه .
قال السكري : المانح هو أن يدفع الأدم كالعارية يشرب لبنها سنة . كالمرو في صلابتها . والمرو : الحجارة البيض . والخور : الغزار الرقاق وليس بسمان . وحارد : ذهب ألبانها وهي من المحاردة . والمجاليح : اللواتي يدررن في القر والجهد والواحدة مجالح .
وقال الدينوري : المحاردة : انقطاع اللبن . والمجاليح : الصبر من النوق على الجدب الباقية الألبان وقوله : وزفت الشول الخ الزفيف : مشي سريع في تقارب الخطو . والشول : التي شالت ألبانها وخفت بطونها من أولادها وأتى على نتاجها سبعة أشهر أو ثمانية . والحفان بفتح المهملة وتشديد الفاء : صغار النعام . والروح : نعت النعام وهو جمع أروح وروحاء وصف من الروح )
وقوله : وقال راعيهم سيان الخ وروى السكري : وقال ماشيهم أيضاً . وقال يريد اغبرت ساحات ما حولهم من الجدب وماشيهم يريد ماشي الحي والممشي : صاحبها .
____________________


قال الباهلي : زعموا أن ماشيهم في معنى ممشيهم أي : صاحب الماشية يقال : أمشى الرجل .
أي : سواء سيركم إن سرتم وإن أقمتم فأنتم في جدب . وروى الدينوري : وقال رائدهم سيان سيركم الخ .
وقوله : وكان مثلين الخ هذا على القياس بنصب مثلين قال السكري : أراد : أن لا يسرحوا وتسريحهم سواء . ومعنى أن لا يسرحوا : أن لا يرعوا . واسترادت مواشيهم أي : ترود وتطلب المرعى أي : فهو جدب رعوا أم لم يرعوا .
وقوله : واعصوصبت بكراً الخ . قال الدينوري : اعصوصبت : اجتمعت من البرد يتقي بعضها والحرجف بتقديم المهملة المفتوحة على الجيم : الريح الباردة اليابسة . والرذية : الهزيلة الساقطة وكذلك المرازيح وهي التي رزحت فلا حراك لها . ولم يقل السكري في هذا البيت شيئاً .
وقوله : أما ألات الذرى الخ . قال السكري : ألات الذرى : ذوات الأسنمة . ف عاصبة أي : قد عصبت واستدارت لا تبرح . والأقاديح : جمع قداح أي : تجول القداح بين مناقيها وهو أن يضرب عليها بالقداح . يقول : يختار منقياتها أي : سمانها للعقر .
وقوله : لا يكرمون كريمات الخ . قال السكري : يقول : ينحرون كريمات المخاض وهي الحوامل فهي أنفس عندهم إذا نحروها . وعقائلها : كرائمها أي : أنساهم الجوع والترزيح وهي الرزاح التي قد قامت من الهزال وسقطت .
____________________


وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
وهو شاعر إسلامي .
وأنشد بعده
الشاهد السادس والخمسون بعد الثلاثمائة الرجز ( بات يعشّيها بعضب باتر ** يقصد في أسوقها وجائر ) وأورده الفراء والزجاج في تفسيرهما عند قوله تعالى : ويُكلِّمُ الناسَ في المَهْدِ على أن جملة يكلم معطوفة على وجيهاً . قال الزجاج وجائز أن يعطف بلفظ يفعل على فاعل لمضارعة يفعل فاعلاً أي : قاصد في أسؤقها وجائر .
وأورده الفراء في سورة الأنبياء أيضاً عند قوله تعالى : لاهِيَةً قُلُوبُهُم .
وكذلك استشهد به أبو علي في إيضاح الشعر وابن الشجري في أماليه ولم ينسبه أحد منهم إلى قائله ولم أر له تتمة .
وهو بيتان من الرجز المسدس .
وقوله : بات يعشيها الخ بات من أخوات كان اسمها مستتر فيها وجملة يعشيها في موضع نصب على أنها الخبر أي : يطعمها العشاء بالفتح
____________________

وهو الطعام الذي يؤكل وقت العشاء بالكسر .
ورأيت في أمالي ابن الشجري في نسخة صحيحة قد صححها أبو اليمن الكندي وغيره وعليها خطوط العلماء وإجازاتهم : بات يغشيها بالغين المعجمة من الغشاء كالغطاء بكسر أولهما وزناً ومعنىً أي : يشملها ويعمها . وضمير المؤنث للإبل وهو في وصف كريم بادر يعقر إبله لضيوفه .
وزعم العيني أن الضمير للمرأة التي عاقبها زوجها بالسيف . ولا يخفى أن هذا غير مناسب ورواه الفراء في تفسيره بت أعشيها بالتكلم .
والعضب بفتح العين المهملة وسكون الضاد المعجمة : السيف وهو في الأصل صفة بمعنى قاطع عضبه بمعنى قطعه والياء متعلقة ب يعشيها وهذا من باب : عتابه السيف وتحيته الضرب . وباتر : صفة أولى لعضب وجملة يقصد صفة ثانية له وجائر صفة ثالثة وهو بمعنى قاطع من بتره بتراً من باب قتل إذا قطعه على غير تمام .
ويقصد : مضارع قصد في الأمر من باب ضرب أي : توسط ولم يجاوز الحد . وفي متعلقه بيقصد . وأسؤق : جمع قلة لساق وهي ما بين الركبة والقدم . وجائر من جار في حكمه إذا ظلم . )
فإن قلت : عقره الإبل إما قصد وإما جور فكيف وصف بهما قلت : هو على التوزيع أي : يقصد في أسؤق إبل تستحق العقر كالنيب ويجور في أسؤق إبل لا تستحق العقر كالحوامل وذوات الفصال .
وجائر في الحقيقة معطوف على جملة يقصد الواقعة صفةً ثانية لعضب كقول راجز آخر : الرجز أمّ صبيٍّ قد حبا ودارج
____________________

وفاعله ضمير العضب .
وزعم العيني أن الضمير عائد على ما عاد عليه ضمير بات وأن الجملة حال . وهذا فاسد لأنه لو كان كما زعم لنصب جائر لأنه معطوف عليه ولا جائز أن يكون منصوباً أو مرفوعاً لأن الشعر من الرجز الذي يجب توافق قوافيه . ويدل لما قلنا رواية الفراء : ( بتّ أعشّيها بعضبٍ باتر ** يقصد في أسوقها وجائر ) والقافيتان مضبوطتان بضبط القلم بالجر في نسخ صحيحة مقروءة وعليها خطوط العلماء منها تفسير الفراء والزجاج ومنها إيضاح الشعر بخط ابن جني ومنها أمالي ابن الشجري كما ذكرنا .
ولو رفع باتر على أنه نعت مقطوع من النكرة غير المخصصة لرفع جائر . وفيه ما لا يخفى .
وكذلك لا يجوز أن يكون جملة يقصد خبراً ثانياً لبات أو بدلاً من يعشيها لما ذكرنا .
ولم يذكر الشارح المحقق شرط عطف الاسم على الفعل مضارعاً أو ماضياً وعكسه . وقد بينه ابن الشجري في أماليه في فصل عقده له فلا بأس بإيراده قال : عطف اسم الفاعل على ما يفعل وعطف يفعل على اسم الفاعل جائز لما بينهما من المضارعة التي استحق بها يفعل الإعراب واستحق بها اسم الفاعل الإعمال وذلك جريان اسم الفاعل على يفعل .
ونقل يفعل من الشياع إلى الخصوص بالحرف المخصص كنقل الاسم من التنكير إلى التعريف بالحرف المعرف فلذلك جاز عطف كل واحد منهما على صاحبه وذلك إذا جاز وقوعه في موضعه كقولك : زيد يتحدث وضاحك وزيد ضاحك ويتحدث لأن كل واحد منهما يقع خبراً للمبتدأ . وكذلك مررت برجل ضاحك يتحدث وبرجل يتحدث وضاحك لأن يفعل مما يوصف به النكرات . فمن عطف الاسم على الفعل قول الراجز : ( بات يغشّيها بعضبٍ باتر ** يقصد في أسؤقها وجائر )
____________________

فإن قلت : سيتحدث زيد وضاحك لم يجز لأن ضاحكاً لا يقع موقع يتحدث من حيث لا )
يلي الاسم السين . وكذلك : مررت بجالس ويتحدث لا يجوز لأن حرف الجر لا يليه الفعل .
فإن عطفت اسم الفاعل على فعل لم يجز لأنه لا مضارعة بينهما .
فإن قربت فعل إلى الحال بقد جاز عطف اسم الفاعل عليه كقول الراجز : أمّ صبيٍّ قد حبا ودارج فإن كان اسم الفاعل بمعنى فعل جاز عطف الماضي عليه كقوله تعالى : إنَّ المصدِّقين والمصَّدِّقات وأقرَضُوا اللَّه لأن التقدير إن الذين تصدقوا واللاتي تصدقن .
وأنشد بعده الشاهد السابع والخمسون بعد الثلاثمائة الطويل على أنه تجوز المخالفة في الإعراب إذا عرف المراد كما هنا فإن قوله مجلف معطوف على قوله مسحتاً وهما متخالفان نصباً ورفعاً .
قال أبو بكر محمد بن عبد الملك التاريخي في تاريخ النحاة في ترجمة عبد الله ابن أبي إسحاق النحوي الحضرمي : قال ابن سلام : وحدثنا يونس قال : قال ابن
____________________

أبي إسحاق في بيت الفرزدق إلا مسحتاً أو مجلف قال : للرفع وجه وكان أبو عمرو ويونس لا يعرفان للرفع وجهاً . قلت ليونس : لعل الفرزدق قالها على النصب ولم يأبه للقافية . قال : لا كان ينشدها على الرفع وأنشدنيها رؤبة على الرفع . انتهى .
وهذا البيت صعب الإعراب . قال الزمخشري : هذا بيت لا تزال الركب تصطك في تسوية إعرابه .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : رفع الفرزدق آخر البيت ضرورة وأتعب أهل الإعراب في طلب الحيلة فقالوا وأكثروا ولم يأتوا فيه بشيء يرضي .
ومن ذا يخفى عليه من أهل النظر أن كل ما أتوا به من العلل احتيال وتمويه وقد سأل بعضهم الفرزدق عن رفعه هذا البيت فشتمه وقال : علي أن أقول وعليكم أن تحتجوا . انتهى .
وقال الفراء في تفسيره : حدثني أبو جعفر الرؤاسي عن أبي عمرو بن العلاء قال : مر الفرزدق عزفت بأعشاشٍ وما كدت تعزف
____________________

حتى انتهى إلى هذا البيت فقال عبد الله : علام رفعت مجلف فقال له الفرزدق : على ما )
يسوءك .
وفي تذكرة أبي حيان من النهاية قال عبد الله بن أبي إسحاق للفرزدق : بم رفعت أو مجلف فقال : بما يسوءك وينوءك علينا أن نقول وعليكم أن تتأولوا . ثم قال الفرزدق : الطويل ( فلو كان عبد اللّه مولىً هجوته ** ولكنّ عبد اللّه مولىً مواليا ) فقال له عبد الله : أردت أن تهجوني فلحنت أيضاً . والفرزدق مشغوف في شعره بالإعراب المشكل المحوج إلى التقديرات العسرة بالتقديم والتأخير المخل بالمعاني . وسمعت شيخنا يقول : إني لأعجب من إبراهيم بن هشام المخزومي حين فهم قول الفرزدق : الطويل ( وما مثله في النّاس إلاّ مملّكاً ** أبو أمّه حيٌّ أبوه يقاربه ) وقال أبو محمد بن الخشاب في كتابه الموضوع لجوابه المسائل الست الإسكندرية : إن أبا حاتم السجستاني قال : ليس الفرزدق أهلاً لأن يستشهد بشعره على كتاب الله لما فيه من التعجرف .
وقال ابن الخشاب أيضاً : لم يجر في سنن الفرزدق من تعجرفه في شعره بالتقديم والتأخير المخل بمعانيه والتقدير المشكل إلا المتنبي ولذلك مال إليه أبو علي وابن جني لأنه مما يوافق صناعتهما .
ولا ينفع المتنبي شهادة أبي علي له بالشعر لأن أبا علي معرب لا نقاد وإنما تنفعه شهادة مثل العسكريين وأبي القاسم الآمدي فإنهم أئمة يقتدى بهم في نقد الإعراب . انتهى ما أورده أبو حيان .
____________________


وقد تكلف له العلماء عدة توجيهات ذكر الشارح المحقق منها ثلاثة أوجه والثلاثة مبنية على رواية لم يدع بفتح الدال وعلى رواية نصب مسحت .
أما الأول فهو للخليل بن أحمد وقال : هو على المعنى كأنه قال : لم يبق من المال إلا مسحت لأن معنى لم يبق ولم يدع واحد واحتاج إلى الرفع فحمله على شيء في معناه .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : نصب مسحت بيدع بمعنى الترك وحمل مجلف بعده على المعنى لأن معنى لم يدع من المال إلا مسحتاً تقديره : ولم يبق من المال إلا مسحت فحمل مجلف بعده على ذلك .
ومثل ذلك في الحمل على المعنى من أبيات الكتاب قوله : الكامل ) ( بادت وغيّر آيهنّ مع البلى ** إلاّ رواكد جمرهنّ هباء ) لأن معنى بادت إلا رواكد معناه بها رواكد فحمل مشججاً على ذلك فكذلك قوله لم يدع من المال إلا مسحتاً معناه بقي مسحت . قال أبو عمرو : هذا قول الخليل وليس البيت في الكتاب فلا أدري أسمعه عنه أم قاسه . انتهى .
ومحصله أن مجلفاً مرفوع بفعل محذوف دل عليه : لم يدع . وإليه ذهب ابن جني في المحتسب في سورة : والضحى قال : إنه لما قال لم يدع من المال إلا مسحتاً دل على أنه قد بقي فأضمر ما يدل عليه فكأنه قال : وبقي مجلف .
وأما الثاني فهو لثعلب قال في أماليه نصب مسحت بوقوع يدع عليه وقد وليه الفعل ولم يل مجلفاً فاستؤنف به فرفع والتقدير : هو مجلف . انتهى .
____________________


وقول الشارح المحقق إن أو في هذا الوجه للإضراب بمعنى بل لا يناسب المعنى وإنما يناسب لو كان مسحتاً بعد أو فهي هنا لعطف جملة على مفرد ومعناها أحد الشيئين .
وأما الثالث فهو لأبي علي الفارسي في التذكرة قال : مجلف معطوف على عض وهو مصدر جاء على صيغة المفعول قال تعالى : ومزَّقْنَاهُمْ كلَّ مُمزَّقٍ كأنه قال : وعض زمان أو تجليف .
وبقي غير ما ذكره الشارح توجيه الفراء قال : إن مجلفاً مرفوع الابتداء وخبره محذوف كأنه قال : أو مجلف كذلك . نسبه إليه ابن السيد في شرح أبيات الجمل وكذلك نسبه إليه علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة ونصه : قال الفراء : ومن روى مسحتاً أراد لم يدع فيه عض الزمان إلا مسحتاً أو مجلف بقي فرفعه على هذا الإضمار .
قال الكسائي : هذا كما تقول : ضربت زيداً وعمرو كأنه يرفعه بفعل مضمر أي : وعمرو مضروب أو وعمرو كذلك . انتهى .
وقد ذهب إلى هذا ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف قال ابن السيد في شرح أبيات المعاني : فيكون هذا من عطف جملة اسمية على جملة فعلية كما تقول : رأيت زيداً وعمرو مر بي أيضاً .
وبقي أيضاً توجيه الكسائي وهو أن مجلفاً معطوف على الضمير المستتر في مسحت . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : حكى هشام هذا التوجيه عن الكسائي .
هذا ما اطلعت عليه من توجيه هذه الرواية وهي الرواية المشهورة . وقد أوردها صاحب )
الكشاف في سروة طه .
وفيه روايات أخر : إحداها : إلا مسحت أو مجلف برفعهما . قال علي بن حمزة في كتاب
____________________

التنبيهات : رواه أبو جعفر بن حبيب في كتاب النقائض برفع الاسمين . قال ابن الأعرابي والفراء : حروف الاستثناء تجيء بمعنى قليل من كثير فجعل إلا معلقة بأن يكون فأضمرها ونواها ورفع مسحت على هذا المعنى أراد إلا أن يكون مسحت أو مجلف فرفعه بيكون المضمرة وإلا تدل على تعلقها بأن يكون كقولك : ما أتاني أحد إلا زيد وإلا أن يكون زيد .
ومثله لشبيب بن البرصاء : الطويل ( ولا خير في العيدان إلاّ صلابها ** ولا ناهضات الطّير إلاّ صقورها ) أراد : ولا خير في العيدان إلا أن يكون صلابها وإلا أن يكون صقورها . انتهى .
وهذا التوجيه مردود فإن الموصول لا يحذف مع بعض الصلة ويبقى بعضها .
والصواب توجيه صاحب الكشاف فإنه استشهد به على قراءة أبي والأعمش فشربوا منه إلا قليل بالرفع مع كونه استثناء من كلام موجب حملاً له على المعنى فإن قوله : فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه إلا قليل فرفعه كرفع الشاعر مسحتاً ومجلفاً مع كونه استثناء مفرغاً في موقع المفعول به لأنه في المعنى واقع موقع الفاعل لأن لم يدع في معنى لم يبق .
والأحسن ما ذهب إليه الطوسي نقله عنه صاحب التنبيهات قال : أراد لم يدع من الدعة .
ونقل ابن الأنباري أيضاً في شرح المفضليات عن أبي عمرو أنه قال : لم يدع من الدعة والسكون يقال : رجل وادع إذا كان ساكناً فيكون على هذا مسحت فاعل ليدع . ( وعضّ زمان يا ابن مروان ما به ** من المال إلاّ مسحتٌ أو مجلّف ) برفع الاسمين أيضاً حكاه عنه علي بن حمزة صاحب التنبيهات .
وقال الفراء في تفسيره : قيل لي إن بعض الرواة يقول : ما به من المال إلا
____________________

مسحت أو مجلف فقلت : ليس هذا بشيء . انتهى .
وعندي أن هذه أحسن الروايات وأصحها .
وثالث الروايات الأخر : لم يدع من المال إلا مسحت بكسر دال يدع ورفع الاسمين أيضاً وقد نسبها صاحب التنبيهات إلى أبي عبيدة وابن الأنباري في شرح المفضليات إلى عيسى بن عمر )
عند قول سويد بن أبي كاهل اليشكري من قصيدة : الرمل ( أرّق العين خيالٌ لم يدع ** من سليمى ففؤادي منتزع ) قال : يدع بمعنى يقر ويمكث . وإليه ذهب ابن جني في باب الاطراد والشذوذ من الخصائص قال فيه : ومن ذلك امتناعك من وذر وودع لأنهم لم يقولوهما . فأما قول أبي الأسود : الرمل ( ليت شعري من خليلي ما الذي ** غاله في الحبّ حتّى ودعه ) فشاذ وكذلك قراءة بعضهم : ما ودعم ربك وما قلى . فأما قولهم ودع الشيء يدع إذا سكن فاتدع فمسموع متبع وعليه بيت الفرزدق فمعنى لم يدع بكسر الدال أي : لم يتدع ولم يثبت .
والجملة بعد زمان في موضع جر لكونها صفة له والعائد منها إليه محذوف للعلم بموضعه وتقديره : لم يدع فيه أو لأجله من المال إلا مسحت أو مجلف فيرتفع به مسحت ومجلف عطف عليه . وهذا أمر ظاهر ليس فيه من الاعتذار والاعتلال ما في الرواية الأخرى . ويحكى عن معاوية رضي الله عنه أنه قال : خير المجالس ما سافر إليه البصر واتدع فيه البدن . انتهى .
وقال في سورة الضحى من المحتسب : قرأ : ما ودعك خفيفة النبي
____________________

صلى الله عليه وسلم وعروة بن الزبير . وهذه قليلة الاستعمال . قال سيبويه : استغنوا عن وذر وودع بقولهم ترك . على أنها قد جاءت في شعر أبي الأسود .
وأما لم يدع في بيت الفرزدق بكسر الدال فهو من الاتداع كقولك : قد استراح وودع فهو وادع من تعبه . والمسحت على هذه الرواية مرفوع بفعله ومجلف معطوف عليه . وهذا ما لا نظر فيه لوضوحه .
ورابع الروايات الأخر لم يدع بضم الياء وفتح الدال مع رفع الاسمين أيضاً ذكرها ابن جني في المحتسب ونقلها عنه ابن السيد واللخمي في شرح أبيات الجمل ولم ينسبها أحدهم إلى راو .
قال ابن جني : وأما رواية يدع بضم الياء وفتح الدال فقياسه يودع كقوله تعالى : لم يَلِدْ ولم يُولَدْ ومثله يوضع والحديد يوقع أي : يطرق من قولهم وقعت الحديدة أي : طرقتها . قالوا : إلا أن هذا الحرف كأنه لكثرة استعماله جاء شاذاً فحذفت واوه تخفيفاً فقيل لم يدع أي : لم يترك .
والمسحت والمجلف جميعاً مرفوعان أيضاً كما يجب . انتهى .
وهذا ما وقفت عليه من روايات هذا البيت . والله أعلم .
وقوله : وعض زمان هو مرفوع بالعطف على هموم المنى في بيت قبله وهو : ) ( إليك أمير المؤمنين رمت بنا ** هموم المنى والهوجل المتعسّف ) أراد : يا أمير المؤمنين . وابن مروان : عبد الملك بن مروان . شكا إليه ما فعل به الزمان من تفريق أمواله وتغيير أحواله . والهوجل : الفلاة التي لا أعلام فيها يهتدى بها . والمتعسف : التي يسار فيها بلا دليل . وعض الزمان : شدته .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قال الخليل بن أحمد : العض كله بالضاد إلا عظ الزمان والحرب .
____________________


وقال ابن سراج العظ المجازي بالظاء والحقيقي بالضاد . وهذا كقول الخليل . وقيل إن العض كله بالضاد مجازياً كان أو حقيقياً . انتهى .
والمجلف بالجيم الذي ذهب معظمه وبقي منه شيء يسير . والمسحت المستأصل الذي لم يبق منه بقية . قال الفراء في سورة طه في قوله تعالى : فيُسحِتَكم : سحت أكثر وهو الاستئصال .
وقال مثله الزجاج في سورة المائدة وأنشد البيت أيضاً .
وقال صاحب الصحاح : مال مسحوت ومسحت أي : مذهب . وأنشد هذا البيت أيضاً ومنه أخذ الشارح .
ومثل هذا البيت ما أورده أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني تلميذ ابن ولاد في طبقات النحويين في ترجمة أبي الفضل الرياشي بسنده عن أبي الفضل قال : وقع رجل بأمة لرجل فولدت فحلف سيدها أن لا يعتقه فقال الذي وقع في الجارية : الطويل ( تحلّل جزاك اللّه خيراً أما ترى ** تخاذل إخواني وقلّة ماليا ) ( وعضّ زمان لم تدع جفواته ** من المال إلاّ جلّةً وعناصيا ) ( تألّ على ما في يديك كأنّما ** رأيت ابن ذي الجدّين عندك عانيا ) انتهى .
التحليل في اليمين : أن يحلف ثم يستثني استثناء متصلاً . والجلة بكسر الجيم من الإبل : المسان وهو جمع جليل كصبي وصبية .
____________________


والعناصي بفتح المهملة قال صاحب الصحاح : ما بقي من ماله إلا عناص وذلك إذا ذهب معظمه وبقي نبذ منه . وتأل فعل أمر يقال : تألى على كذا أي : أقسم عليه . والعاني : الأسير .
والبيتان من قصيدة طويلة للفرزدق تزيد على مائة بيت ليس فيها مديح غير هذين البيتين )
وما قبلهما من أول القصيدة نسيب وما بعدهما عدة أبيات في كلال الإبل . وشرحها الشريف المرتضى قدس سره في أماليه غرر الفوائد ودرر القلائد .
وما بعدها إلى آخر القصيدة افتخار بآبائه على جرير .
وفيها شاهد يأتي شرحه مع أبيات منها إن شاء الله تعالى في باب الفعل . ومضى بيت منها في باب النعت .
وتقدمت ترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين .
____________________

( باب التوكيد ) أنشد فيه الشاهد الثامن والخمسون بعد الثلاثمائة : الرجز ( أقسم بالله أبو حفص عمر ) على أنه ربما دل على عطف البيان بعض متبوعاته مع قلة الاشتراك كأبي حفص وهو المتبوه وقد أورده في باب عطف البيان وشرحه هناك .
وهو أول رجز قاله أعرابي لعمر بن الخطاب رضي الله عنه .
وسببه ما رواه المحدثون عن أبي رافع أن أعرابياً أتى عمر فقال : يا أمير المؤمنين إن أهلي بعيد وإني على ناقة دبراء نقباء فاحملني . فقال عمر : كذبت والله ما بها نقب ولا دبر فانطلق الأعربي فحل ناقته ثم استقبل البطحاء وجعل يقول وهو يمشي خلف ناقته : ( أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر ** ما إن بها من نقبٍ ولا دبر ) اغفر له اللهمّ إن كان فجر ويروى : ما مسها من نقب . وعمر بن الخطاب رضي الله عنه مقبل من أعلى الوادي فجعل إذا قال : اغفر له اللهمّ إن كان فجر
____________________

قال : اللهم صدق حتى التقيا فأخذ بيده فقال : ضع عن راحلتك . فوضع فإذا هي كما قال فحمله على بعير وزوده وكساه .
وروي هذا الأثر بألفاظ مختلفة . )
وهذا المقدار من الرجز هو المشهور وفي رواية الأصمعي أزيد من هذا قال أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في طبقات النحويين في ترجمة الأصمعي أخبرنا ابن مطرف قال : أخبرنا ابن دريد قال : أخبرنا عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال : وقف أعرابي بين يدي عمر بن الخطاب فقال : يا أمير المؤمنين أبدع بي وأدمت بي راحلتي ودبر ظهرها ونقب خفها فقال له عمر : والله ما أظنك أنقبت ولا أحفيت فخرج الرجل ثم خرج عمر . قال : والرجل يقول : ( أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر ** ما مسّها من نقبٍ ولا دبر ) ( حقّاً ولا أجهدها طول السّفر ** واللّه لو أبصرت نضوى يا عمر ) ( وما بها عمرك من سوء الأثر ** عددتني كابن سبيلٍ قد حضر ) فرق له عمر وأمر له ببعير ونفقة . انتهى .
والدبراء من دبر ظهر الدابة من باب فرح إذا جرح من الرحل والقتب . وأدبرت البعير فدبر وأدبر الرجل إذا دبر بعيره فهو مدبر . والنقباء من نقب البعير من باب فرح أيضاً إذا رق خفه . وأنقب الرجل إذا نقب بعيره .
وقوله : فاحملني أي : أعطني حملةً وهي بالفتح ما يحمل عليه الناس من الدواب كالركوبة .
وقوله : أقسم بالله أبو حفص عمر عمر أبو حفص : فاعل أقسم بمعنى حلف وهو كنية عمر .
____________________


وقوله : ما إن بها إن زائدة . وقوله : إن كان فجر قال ابن الأنباري في الزاهر الفاجر في كلام العرب : العادل المائل عن الخير وإنما قيل للكذاب فاجر لأنه مال عن الصدق . وأنشد هذا الشعر .
وقوله : ضع عن راحلتك أي : ارفع عنها قتبها . وقوله في رواية الأصمعي : أبدع بي بالبناء للمفعول أي : انقطع بي لكلال راحلتي فكأن راحلته جاءت ببدعة .
وقوله : ما أظنتك أنقبت ولا أحفيت كلاهما بالبناء للفاعل يقال : أحفى الرجل إذا حفيت دابته أي : رق خفها وحافرها من كثرة المشي . والنضو بكسر النون وسكون المعجمة : المهزول .
وقوله : عمرك مبتدأ وخبره محذوف أي : قسمي والجملة معترضة وهي بفتح العين .
وهذا الرجز نسبه ابن حجر في الإصابة إلى عبد الله بن كيسبة بفتح الكاف وسكون المثناة التحتية وفتح المهملة بعدها باء موحدة النهدي . ذكره المرزباني في معجم الشعراء قال : وكيسبة )
أمه ويقال اسمه عمرو . وهو القائل لعمر بن الخطاب واستحمله فلم يحمله : أقسم باللّه أبو حفصٍ عمر الأبيات الثلاثة . وكان نظر إلى راحلته لما ذكر أنها أعجفت فقال : والله ما بها من علة فرد عليه فعلان بالدرة وهرب وهو يقول ذلك فلما سمع عمر آخر كلامه حمله وأعطاه . وله قصة مع أبي موسى في فتح تستر . وقيل بأن كنيته أبو كيسبة وإن عمر سمعه ينشدها فاستحلفه أنه ما عرف بمكانه فحلف فحمله . انتهى .
وقد ذكره في قسم المخضرمين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه .
وزعم ابن يعيش في شرح المفصل أن الرجز لرؤبة بن العجاج . وهذا لا أصل
____________________

له فإن رؤبة مات في سنة خمس وأربعين ومائة ولم يعده أحد من التابعين فضلاً عن المخضرمين . والله أعلم .
وأنشد بعده : الوافر ( فلا واللّه لا يلفى لما بي ** ولا للما بهم أبداً دواء ) على أنه ضرورة حيث أكد اللام الأولى باللام الثانية بدون ذكر مجرور الأولى والقياس لما لما بي .
وهذا البيت قد تقدم شرحه مع قصيدته وسببها مستوفىً في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائة .
____________________


وأنشد بعده : وصالياتٍ ككما يؤثفين لما تقدم قبله ومضى الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
الشاهد التاسع والخمسون بعد الثلاثمائة : الطويل ( فأين إلى أين النّجاء ببغلتي ** أتاك أتاك اللاّحقوك احبس احبس ) على أن المستقبل يجوز تكريره بلا فصل . والظاهر أن المراد أنه من تكرير المفردات لا الجمل وهو الظاهر أيضاً من كلام ابن جني في إعراب الحماسة قال : أول البيت توكيد الاستفهام وفي الثاني توكيد الخبر وفي آخره توكيد الأمر .
وقال ابن الشجري في أماليه : هذا البيت فيه تكرير ثلاث جمل أراد إلى أين تذهب إلى أين تذهب أتاك أتاك اللاحقوك احبس احبس وهذا يقوي ما ذهب إليه الكسائي من حذف الفاعل في باب إعمال الفعلين . ألآ تراه لو أضمر الفاعل . ولم يحذفه لقال : أتوك أتاك اللاحقوك أو أتاك أتوك . انتهى .
والصحيح أن الثلاثة من توكيد المفردات .
أما الأول فأين مجرورة بإلى المحذوفة المدلول عليها بالمذكورة وهو خبر مقدم وإلى أين توكيده والنجاء مبتدأ مؤخر وهو مصدر نجا ينجو نجاء إذا أسرع وسبق .
وزعم العيني أن إلى أين هو الخبر وأن أين ظرف لمحذوف أي : أين تذهب . وهذا غني عن وأما الثاني فإن اللاحقوك وهو جمع مذكر سالم مضاف للكاف وحذفت نونه للإضافة فاعل لأتاك الأول وأتاك الثاني تأكيد له . ولما كان الأول متصلاً به ضمير المفعول اتصل بالثاني ليوافق الأول .
وقد اختلف النحويون في نحو قام قام زيد فقيل : زيد فاعل الأول فقط وأما
____________________

الثاني فإنه يحتاج لفاعل لأنه لم يؤت به للإسناد وإنما أتي به لمجرد التأكيد . وقيل فاعلهما ولا يلزم منه اجتماع العاملين على معمول واحد لأن لفظهما ومعناهما واحد فكأنهما عامل واحد .
وقيل فاعل أحدهما وفاعل الآخر ضمير محذوف على أنهما تنازعاه . وقد رده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية لأنه ليس هذا من مواضع حذف الفاعل ولو كان من التنازع لقيل : أتوك أتاك أو أتاك أتوك .
وأما الثالث فإن الأمر الثاني توكيد للأمر الأول وتوكيد الضمير للضمير بالتبعية ضرورة إذ لا يمكن انفكاكه عن المر . ويجوز أن يكون توكيداً مقصوداً فيكون من قبيل توكيد الجمل . )
وزعم العيني أن مفعول احبس تقديره نفسك . وهذا لا يناسب المقام . والظاهر أنه : بغلتي لوجود القرينة .
وهذا البيت مع شهرته لم يعلم له قائل ولا تتمة والله أعلم .
الشاهد الستون بعد الثلاثمائة : الكامل ( لا لا أبوح بحبّ بثنة إنّها ** أخذت عليّ مواثقاً وعهودا ) لما تقدم قبله . وهذا في الحرف وما قبله في تكرير الاسم والفعل . وأبوح : مضارع باح الشيء بوحاً من باب قال بمعنى ظهر ويتعدى بالحرف فيقال : باح به صاحبه وبالهمزة أيضاً فيقال : أباحه .
بثنة بفتح الموحدة وسكون المثلثة بعدها نون : اسم محبوبة جميل بن معمر العذري والمشهور بثينة بالتصغير وهي مجرورة بالفتحة لأنها لا تنصرف .
____________________


وزعم العيني أنها في محل الجر . وقوله : إنها بالكسر استئناف بياني . ومواثق : جمع موثق وهو العهد . وأما المواثيق فهو جمع ميثاق وربما قيل مياثيق على لفظ الواحد .
والبيت من قصيدة لجميل العذري وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الرجز على أن المستقبل يجوز تكريره للتأكيد مع فاصل كما جاز بدونه . وتراك : اسم فعل أمر بمعنى اترك .
وله أورده سيبويه . وهو متعد إلى الضمير نصبه على المفعولية . ولما لم يتقدم مرجعه فسره بالتمييز المجرور بمن المبنية .
قال أبو عبيدة في أماليه كانوا في الجاهلية إذا غنموا الغنيمة فلحقها أربابها قالوا للسائقين : تراكها من إبل تراكها أي : خلوا عنها . فيقول السائقون :
____________________

أما ترى الموت على أوراكها أي : مآخيرها أي : إنا نحميها .
وبعضهم يقول : مناعها من إبل مناعها فيجاب بقولهم : أما ترى الموت لدى أرباعها يعنون أفتاءها . انتهى .
وقال يعقوب بن السكيت : أغير على إبل قوم من العرب فلحق أصحاب الإبل فجعلوا لا يدنو منها أحد إلا قتلوه فقال الذين أغاروا على الإبل : ( تراكها من إبل تراكها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) فقال أصحاب الإبل : ( مناعها من إبل مناعها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) وفي أمالي ابن الشجري : وقال آخر : ( تراكها من إبل تراكها ** أما ترى الموت لدى أوراكها ) أراد أن أوراكها من شدة السير كأنها في استرخائها قد شارفت الموت . ومثله قول الآخر : ( مناعها من إبل مناعها ** أما ترى الموت لدى أرباعها ) )
الأرباع : جمع الربع وهو ولد الناقة التي تلده في الربيع . والهبع : الذي تلده في أول الصيف وجمعه أهباع كرطب وأرطاب . انتهى .
____________________


وقوله : أراد أن أوراكها من شدة السير الخ لا وجه له وكأنه لم يقف على ما قدمنا .
وقال ابن خلف : هذا قول طفيل بن يزيد الحارثي حين أغارت كندة على نعمه فلحقهم وهو يقول : أما ترى الموت الخ ويروى : دراكها من إبلٍ دراكها ويروى : قد لحق الموت على أوراكها وحمل على فحل الإبل فعقره فاستدارت النعم حوله ولحقت به بنو الحارث ابن كعب فاستنقذوا ماله وهزمت كندة . قال سيبويه : فهذا اسم لقوله : اتركها أي : هي محمية من أن يغار عليها فاتركها وانج بنفسك .
وقوله : أرباعها الأرباع : جمع ربع وهو ولد الناقة . وأولاد الإبل تتبعها .
والقتال يشتد إذا لحق الإبل أصحابها وإنما يقع القتال عند مآخيرها لأن الذين أغاروا عليها يطردونها ويسوقونها وأصحابها يمنعونهم من ذلك . وهو مثل قول الآخر : أما ترى الموت لدى أوراكها ويجوز أن يريد بالأرباع جمع ربع بالفتح وهو المنزل يعني أنهم اقتتلوا في المواضع التي فيها الإبل . انتهى .
ولم يذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف هذا مع أنه أورد خمسة ممن اسمهم طفيل .
____________________


وأنشد بعده
الشاهد الثاني والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ** على قلاصٍ مثل خيطان السّلم ) على أن الأندلسي جوز أن يقال في جمع المذكر العاقل المكسر الرجال كلهن مستدلاً بهذا البيت . ولم يظهر لي وجهه وكأن وجه الاستدلال أن نون أقبلن ضمير العقلاء الذكور أي : الرجال أو الركب أو نحوهما وإنما أنث لتأويله بالجماعة .
والدليل على أن مرجع الضمير ما ذكر قوله بعد : الرجز حتّى أنخناها على باب الحكم فدل ما بعد الكلام على ما قبله . وفيه أنه لا يجب أن يتحدا ويجوز أن تكون النون ضمير النسوة أو أن أصله أقبلنا فحذفت الألف ضرورة فيكون من باب التقارض .
وهذه المسألة لم أرها إلا هنا عن الأندلسي . وقد راجعت شروح التسهيل وارتشاف الضرب فلم أر فيها أن النون تعود على الجمع المكسر للعاقل بتأويله بالجماعة .
____________________


بحوران يعصرن السّليط أقاربه سواء أجعلت النون حرفاً أم ضميراً . ويأتي شرحه بعد هذا في الشاهد السادس والسبعين بعد الثلاثمائة .
وهذا أول رجز لجرير بن الخطفى أورد المبرد بعضاً منه في الكامل وفي الاعتنان . قال أبو عبيدة : أخبرنا أيوب بن كسيب بن عطاء بن الخطفى قال : قدم جرير في إمرة الحكم بن أيوب الثقفي البصرة وكان الحكم ابن عم الحجاج وعامله . قال : وأنا معه وكان أيوب بن كسيب لا يفارقه ومدح الحكم فقال : ( أقبلن من ثهلان أو وادي خيم ** على قلاصٍ مثل خيطان السّلم ) ( حتّى أنخناها إلى باب الحكم ** خليفة الحجّاج غير المتّهم ) في ضئضئ المجد وبحبوح الكرم فأعجب به الحكم بن أيوب ووجده باقعة . قال : فكتب إلى الحجاج : إنه قدم علي أعرابي شيطان من أشعر الناس وأفصحهم ووصفه له . قال : فكتب الحجاج أن يسرحه إليه حين يقرأ كتابه . قال : فلما قدم الكتاب أمرنا الحكم فشخصنا حتى قدمنا على الحجاج وامتدحه جرير )
بكلمته التي يقول فيها : الطويل قال : وأما مسحل بن كسيب أخو أيوب فحدثني أن أول كلمة امتدحه بها كلمته التي يقول فيها : الكامل
____________________

( من سدّ مطّلع النّفاق عليكم ** أم من يصول كصولة الحجّاج ) ( أم من يغار على النّساء عشيّةً ** إذ لا يثقن بغيرة الأزواج ) قال : فأمر له الحجاج بأربعة آلاف درهم وكساء حلة صفراء وأنزلنا في دار ضيافته . انتهى .
وزاد في الكامل أن جريراً لما دخل على الحجاج قال له : بلغني أنك ذو بديهة فقل لي في هذه لجارية قائمة على رأسه فقال جرير : ما لي أن أقول فيها حتى أتأملها ومالي أن أتأمل جارية الأمير فقال : بلى فتأملها واسألها . فقال لها : ما اسمك يا جارية فأمسكت فقال لها الحجاج : خبريه يا لخناء . فقالت : أمامة . فقال جرير : الكامل ( ودّع أمامة حين حان رحيل ** إنّ الوداع لمن تحبّ قليل ) ( مثل الكثيب تمايلت أعطافه ** فالرّيح تجبر متنه وتميل ) ( هذي القلوب صوادياً تيّمتها ** وأرى الشّفاء وما إليه سبيل ) فقال الحجاج : قد جعل الله لك السبيل إليها خذها هي لك . فضرب بيده إلى يدها فتمنعت عليه فقال : الكامل فاستضحك الحجّاج وأمر بتجهيزها معه إلى اليمامة . وخبرت أنها كانت من أهل الري وكان إخوتها أحراراً فاتبعوه فأعطوه بها حتى بلغوا عشرين ألفاً فلم يفعل .
وفي ذلك يقول : الطويل
____________________

( إذا عرضوا عشرين ألفاً تعرّضت ** لأمّ حكيمٍ حاجةٌ هي ما هيا ) ( لقد زدت أهل الرّيّ عندي مودّةً ** وحبّبت أضعافاً إليّ المواليا ) فأولدها حكيماً وبلالاً وحرزة بني جرير . انتهى .
وثهلان : بفتح المثلثة : جبل باليمن وقال حمزة الأصبهاني : هو جبل بالعالية . وأصل الثهل الانبساط على الأرض . ولضخم هذا الجبل تضرب به العرب المثل في الثقل فتقول : أثقل من ثهلان . وخيم بكسر الخاء المعجمة : جبل .
قال صاحب الأغاني : ثهلان جبل كان لباهلة ثم غلبت عليه نمير . وخيم : جبل يناوحه من )
طرفه الأقصى فيما بين ركنه الأقصى وبين مطلع الشمس به ماء ونخل . انتهى .
وهذا هو المشهور والذي في ديوانه ورواه أبو عبيد البكري في المعجم : أقبلن من جنبي فتاخ وإضم وقال : فتاخ بكسر الفاء بعدها مثناة فوقية وآخره خاء معجمة : موضع . وقال الهجري : فتاخ بأطراف الدهناء مما يلي اليمامة . وإضم بكسر الهمزة : واد دون المدينة وقيل جبل . والقلاص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة . وخيطان جمع خوط بضم الخاء المعجمة وهو الغصن .
وروى الزمخشري في مستقصى الأمثال : مثل أغصان السلم . أراد أن القلاص هزلت من شدة السفر حتى صارت كأغصان السلم في الدقة والضمر .
وزاد أبو عبيد البكري بعد هذا في شرح أمالي القالي :
____________________

( قد طويت بطونها على الأدم ** إذا قطعن علماً بدا علم ) ( فهنّ بحثاً كمضلاّت الخدم ** حتّى تناهين إلى باب الحكم ) العلم : الجبل . قال الزمخشري في مستقصى الأمثال . قوله : إذا قطعن علماً بدا علم مثل يضرب لمن يفرغ من أمر فيعرض له آخر .
وقوله : فهن بحثاً أي : يبحثن بحثاً بمناسمهن الأرض كما يبحث المضلات خلاخيلهن في التراب .
والخدم : جمع خدمة بفتح الخاء المعجمة وفتح الدال المهملة هو الخلخال . والضئضئ بكسر الضادين المعجمتين والهمزة الأولى بينهما ساكنة : الأصل والجنس . والبحبوح بضم الباءين والحاء المهملة الأولى بينهما ساكنة : الوسط .
وقد أورد صاحب الأغاني حكاية جرير مع الحجاج على غير هذا النمط وأطال وزاد الأبيات .
وترجمة جرير قد تقدمت في الشاهد الرابع في أول الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( يا ليتني كنت صبيّاً مرضعا ** تحملني الذّلفاء حولاً أكتعا ) على أن الكوفيين استشهدوا به على جواز توكيد النكرة المؤقتة المعلومة المقدار وهو حول بمعنى العام .
____________________


قال صاحب المصباح : حال حولاً من باب قال إذا مضى . ومنه قيل للعام حول وإن لم يمض لأنه سيكون حولاً تسميةً بالمصدر .
وفيه شاهد آخر وهو التأكيد ب أكتع غير مسبوق بأجمع . وبعده بيت آخر وهو : ( إذا بكيت قبّلتني أربعا ** إذن ظللت الدّهر أبكي أجمعا ) وفيه أيضاً شاهدان : أحدهما : التأكيد بأجمع غير مسبوق بكل . وثانيهما : الفصل بين المؤكد قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : نظر أعرابي إلى امرأة حسناء ومعها صبي يبكي فكلما بكى قبلته فأنشأ يقول هذا الرجز .
وقوله : يا ليتني الخ يا حرف تنبيه ومرضع اسم مفعول من أرضعته إرضاعاً . وجملة : تحملني الذلفاء صفة ثانية . ويجوز أن تكون حالاً من ضمير مرضع ويجوز أن تكون خبراً ثانياً لكنت .
والذلفاء بفتح الذال المعجمة وبعد اللام الساكنة فاء : وصف مؤنث أذلف من الذلف وهو صغر الأنف واستواء الأرنبة . ويحتمل أنه اسم امرأة منقول من هذا . وأكتع قال صاحب الصحاح : يقال إنه مأخوذ من قولهم : أتى عليه حول كتيع أي : تام .
وقوله : أربعا أي : تقبيلاً أربعا . وظللت بكسر اللام وظل بمعنى استمر من أخوات كان التاء اسمها وجملة أبكى في موضع نصب خبرها والدهر ظرف لأبكي . وجملة إذن ظللت الخ جواب لشرط محذوف أي : إن حصل ما تمنيته استمررت في البكاء حتى تستمر الذلفاء تحملني وتقبلني كلما بكيت .
وزعم العيني أن التقدير : إن لم يكن الأمر كذا إذن ظللت الخ . ولا يخفى أن هذا عكس مراد الشاعر .
____________________


وأنشد بعده : الرجز لما تقدم قبله : )
قال ابن جني في إعراب الحماسة : هذا شاذ وإن لم يكن مصنوعاً فوجهه عندي أن أجمع هذه ليست التي تستعمل للتأكيد أعني التي مؤنثها جمعاء ولكن التي في قولك : أخذت الماء بأجمعه وأمعه بفتح الميم وضمها أي : بكليته فدخلو العامل عليها ومباشرته إياها يدل على أنها ليست التابعة للتوكيد فذلك قوله : يوماً أجمعا أي : يوماً بأجمعه ثم حذف حرف الجر ثم أبدل الهاء ألفاً فصار أجمعا . انتهى .
وقال العيني : الرواية الصحيحة : قد صرّت البكرة يوماً أجمع على أن يوماً من غير تنوين وأصله يومي فالألف منقلبة عن ياء المتكلم فأجمع توكيد للمعرفة .
أقول : إن كان يومي ظرفاً فلم لم ينصب أجمع وإن كان غير ذلك فما هو مع أن ما قبله عنده : إنّا إذا خطّافنا تقعقعا وهذا من الرجز الذي لا يجوز اختلاف قوافيه . وهذا التوجيه تعسفه ظاهر ككلام ابن جني .
وقد استدل الكوفيون بأبيات أخر منها قوله : البسيط
____________________

ومنها قوله : الوافر ثلاثٌ كلّهنّ قتلت عمداً ومنها قوله : الرجز ( إذا القعود كرّ فيها حفدا ** يوماً جديداً كلّه مطّردا ) ومنها قوله : المتقارب ( زحرت به ليلةً كلّها ** فجئت به مودناً خنفقيقاً ) قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : أجاب البصريون عن هذه الأبيات بأن الرواية في الأول يا ليت عدة حولي بالإضافة إلى الياء . وعن الثاني بأن كلهن بدل من ثلاث أو جملة كلهن قتلت خبر عن الثلاث . وعن الثالث بأن كله بالرفع لتوكيد الضمير في جديد . وأما قد صرت البكرة يوماً أجمعا فمجهول . لا يعرف قائله .
هذا كلامه وهو مبني على الطعن في روايتهم وهذا لا يجوز لأنهم ثقات .
ثم قال : وأما قول الكوفيين بأن اليوم مؤقت فيجوز أن تقعد بعضه والليلة مؤقتة فيجوز أن )
تقوم بعضها فإذا أكدت صح معنى التأكيد . قلنا : هذا لا يستقيم
____________________

فإن اليوم وإن كان مؤقتاً إلا أنه لم يخرج عن كونه نكرة شائعة وتأكيدها بالمعرفة لا يجوز لأن تأكيد ما لا يعرف لا فائدة أقول : ادعاؤه عدم الاستقامة ممنوع والفرق ظاهر فإن التأكيد باعتبار أجزاء اليوم والليلة ليشمل جميعها والشيوع باعتبار جنس اليوم والليلة فأين هذا من ذاك .
وقد أشار الشارح المحقق إلى ما ذكرنا والله أعلم .
وقد تقدم شرح هذا البيت في الشاهد الخامس والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والستون بعد الثلاثمائة الطويل ( أولاك بنو خيرٍ وشرٍّ كليهما ** جميعاً ومعروفٍ ألمّ ومنكر ) على أن حمل كليهما فيه على البدل عند أهل المصرين أولى لأن خيراً وشراً ليسا بمؤقتين .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : الوجه في قوله : بنو خير وشر كليهما أن لا يكون كليهما تأكيداً لكن يكون بدلاً من خير وشر حتى كأنه قال : بنو كل خير وشر فقد يضاف إلى المفرد المعطوف عليه مثله بالواو في ضرورة الشعر كما قال : الطويل ( كلا السّيف والسّاق التي ضربت به ** على دهشٍ ألقاه باثنين صاحبه ) وإنما جاز ذلك من حيث كان ما عطف بالواو بمنزلة ما جمع في لفظة واحدة . ألا تراك تقول : زيد وعمرو أخواك فإن أخبرت عنهما جميعاً قلت : اللذان هما
____________________

أخواك زيد وعمرو فتأتي بضميرهما جزءاً واحداً وكان أحدهما على صاحبه معطوفاً . وكذلك : زيد وعمرو مررت بهما . انتهى .
وهذا البيت آخر أبياتٍ أربعة لمسافع بن حذيفة العبسي مذكورة في باب المراثي من الحماسة وهي : ( أبعد بني عمروٍ أسرّ بمقبلٍ ** من العيش أو آسى على إثر مدبر ) ( وليس وراء الشيء شيءٌ يردّه ** عليك إذا ولّى سوى الصّبر فاصبر ) ( سلامٌ بني عمرو على حيث هامكم ** جمال النّديّ والقنا والسّنوّر ) أولاك بنو خير . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
قوله : أبعد بني عمرو الخ الهمزة للاستفهام الإنكاري وأسر بالبناء للمفعول من السرور ومقبل بمعنى آت ومدبر بمعنى ذاهب وآسى : مضارع أسي من باب تعب بمعنى حزن .
وقوله : سوى الصبر استثناء منقطع لأن الصبر ليس من الشيء الراد الفائت في شيء . يقول : أأسر بعيش مقبل أو زمن مساعد بعد أن فجعت بهؤلاء أو أحزن في إثر فائت أو أجزع لتولي مدبر وليس وراء الشيء الفائت شيء يرده عليك فالأولى أن تتمسك بالصبر وتعتصم وقوله : سلام بني عمرو الخ سلام مبتدأ وجاز الابتداء به لتضمنه الدعاء . وخبره قوله : على حيث هامكم .
قال ابن جني في إعراب الحماسة هامكم مبتدأ محذوف الخبر من جملة مجرورة الموضع بإضافة حيث إليها أي : حيث هامكم متصورة أي : موجودة . ومثله قولهم : جئتك إذ ذاك أي : إذ ذاك كذاك فحذف الخبر من الجملة المجرورة الموضع بإضافة إذ إليها . انتهى .
وذكر الهام على عادة العرب في زعمهم أن عظام الموتى تصير هاماً تطير . وبني
____________________

عمرو : منادىً بحرف النداء المحذوف . وجمال الندي منصوب على المدح . وقال ابن جني : نصب جمال الندي لأنه بدل من بني عمرو . والندي بتشديد الياء : المجلس لغة في النادي .
وقال ابن جني : لام الندي واو لأنه فعيل من الندوة وهي موضع جلوس النادي والندي .
انتهى .
والقنا : جمع قناة وهي الرمح . والسنور بفتح السين والنون والواو المشددة : لبوس من قد كالدرع . يعني أنهم جمال المجالس يوم الجمع وزين السلاح غداة الروع .
وقوله : أولاك الخ هو مبتدأ لغة في أولئك وبنو خبر المبتدأ . أراد أنهم ملازمون لفعل الخير والشر مع الأصدقاء والأعداء كما يقال : فلان أخو الحرب . وجميعا : حال مؤكدة لصاحبها .
وقوله : معروف هو بالجر معطوف على خير وكذلك منكر . والمعروف : الجميل الظاهر وضده المنكر فهما أخص من الخير والشر فإن الخير قد يكون ظاهره شراً كالدواء المر . والشر قد يكون ظاهره خيراً كهوى النفس . وألم بمعنى نزل وعرض والجملة صفة معروف ومثله مقدر بعد منكر .
ومسافعل بضم الميم وكسر الفاء ابن حذيفة بالتصغير العبسي بالباء الموحدة وهو شاعر فارس من شعراء الجاهلية . )
____________________

( البدل ) أنشد فيه الشاهد الخامس والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( يا ميّ إن تفقدي قوماً ولدتهم ** أو تخلسيهم فإنّ الدّهر خلاّس ) ( عمروٌ وعبد منافٍ والذي عهدت ** ببطن عرعر : آبي الظّلم عبّاس ) على أن قوله : عمرو وعبد مناف والذي بدل مقطوع من قوماص .
قال ابن خلف : الشاهد فيه رفع عمرو وما بعده بالابتداء كأنه قال : منهم أو من القوم الذين فقدوا أو يكون خبر مبتدأ كأنه قال : بعضهم . ولو نصبت على البدل من القوم لجاز . وعباس بدل من آبي وآبي بدل من الذي ولو أبدلت فسد الكلام لأنا إذا نصبنا وجب أن ينصب الذي هو بدل منه فكنا نقول : عباساً .
وقوله : تخلسيهم بالبناء للمفعول أي : يؤخذون منك بغتة فإن الدهر من شأنه أن يؤخذ فيه الشيء بغتة . وعرعر : مكان . ويروى : ببطن مكة . وأراد بعمرو عمرو بن عبد مناف بن قصي وهو هاشم بن عبد مناف وسمي هاشماً
____________________

لهشمه الثريد لقومه في مجاعةٍ أصابتهم .
والعباس هو ابن عبد المطلب وإنما قال ولدتهم لما بين هذيل وقريش من القرابة في النسب والدار لأنهم كلهم من ولد مدركة بن الياس بن مضر .
وقوله : والذي عهدت الضمير يرجع إلى مي وعدل عن خطابها وأخبر عنها باللفظ الذي يكون للغائب أراد الذي عهدت فلم يستقم له . ومي : مرخم مية .
وهذان البيتان مطلعا قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي عدتها خمسة عشر بيتاً أوردها أبو سعيد السكري في أشعار الهذليين وبعدهما : ( يا ميّ إنّ سباع الأرض هالكةٌ ** والغفر والأدم والآرام والنّاس ) الغفر بضم الغين وسكون الفاء : ولد الوعل ونقل شارح شواهد المفصل عن صاحب المقتبس أنه القفز بالقاف والفاء والزاي المعجمة وهو جمع أقفز وهو من الخيل المحجل من يديه لا رجليه . وهذا تحريف قطعاً .
ونقل أيضاً عن صاحب الإقليد أنه العفر بعين مهملة وهو جمع أعفر وهو الأبيض . وليس )
بشديد . وظبية عفراء يعلو بياضها حمرة وهي قصار الأعناق .
والأدم بالضم من الظباء : بيض تعلوهن خطوط فيهن غبرة تسكن الجبال يقال : ظبية أدماء وظبي آدم . والآرام : الظباء البيض الخالصة البياض الواحد رئم بالهمز وهي تسكن الرمل . ( تاللّه لا يعجز الأيّام مبتركٌ ** في حومة الموت رزّامٌ وفرّاس ) لا يعجز : لا يغلب . والمبترك : الأسد من ابتركه إذا صرعه وجعله تحت بكره وهو الصدر .
وأغرب الكرماني في شرح شواهد الموشح ورواه المنتزك بالنون والزاي المعجمة أي : الذي له نيزك أي : رمح قصير كأنه فارسي معرب . وحومة الموت : الموضع الذي يدور فيه الموت لا يبرح منه
____________________

والرزام بتقديم المهملة : الصراع يقال : رزم به إذا صرعه . والفراس : الذي يدق الأعناق ومنه فريسة الأسد لأنه يدق عنقها . ( يحمي الصّريمة أحدان الرّجال له ** صيدٌ ومستمعٌ باللّيل هجّاس ) قال السكري : الصريمة ها هنا : موضع . وأحدان الرجال : ما انفرد من الرجال . وقال غيره : الصريمة : رملة فيها شجر حماها من أن يدخلها أحد خوفاً منه . وأحدان الرجال : الذين يقول أحدهم : أنا الذي لا نظير لي في الشجاعة والبأس . يقول : هذا الأسد يصيد هؤلاء الذين يدلون بالشجاعة .
وهذان البيتان أيضاً استشهد بهما سيبويه على جري الصفات على ما قبلها مع ما فيها من معنى التعظيم ولو نصب لجاز . هجاس : يهجس . وروى بدله : هماس من الهمس . قال النحاس : هماس : دقاق للرقاب مكسر لها .
قال ابن خلف : وأحدان الرجال يروى بالرفع والنصب فمن رفع قال : أحدان مبتدأ وصيد خبره ومن نصب جعله مفعول يحمي كأنه قال : يحمي الصريمة من أحدان الرجال ف صيد على هذا مبتدأ وله خبره . ومستمع وروى بدله : مجترئ : خبر مبتدأ محذوف أي : وهو مستمع أو هو معطوف على رزام وهو الوجه الذي رواه سيبويه والشاهد على أنه عطف هماس . قال النحاس : ويجوز نصب مجترئ على أعني . ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** بمشمخرٍّ به الظّيّان والآس )
____________________

روى صدره صاحب المفصل : على أن اللام في لله هنا للقسم والتعجب معاً . وتبعه صاحب المغني . ورواه صاحب الجمل )
تالله يبقى بالمثناة الفوقية . قال ابن السيد : ويروى بالباء الموحدة وكلاهما قسم فيه معنى التعجب .
وقال اللخمي : ورواية سيبويه لله باللام . وقوله : يبقى جواب القسم بتقدير لا النافية ويعني بقوله ذو حيد الوعل .
قال المبرد : الحيد بفتحتين : الروغان والفرار . والمشهور حيد بكسر المهملة وفتح المثناة التحتية جمع حيدة كحيض جمع حيضة . وهذه رواية ثعلب والسكري .
قال اللخمي : قوله ذو حيد يروى بفتح الحاء وكسرها فمن رواه بالفتح فهو اعوجاج يكون في قرن الوعل وقيل : إنه مصدر من حاد يحيد حيداً وأصله السكون فلما اضطر حرك الياء ومعناه الروغان . وقيل : هو جمع حيدة وهي العقدة التي تكون في قرنه . وقيل : الحيد القوة .
ومن روى حيدا بالكسر فهي نتوءات والواحدة حيدة . ويروى : ذو جيد بالجيم وهو جناح مائل من الجبل وقيل : يعني به الظبي . والوعل : التيس الجبلي ويقال للأنثى : أروية بضم الهمزة وتشديد الياء وربما قالوا وعلة . انتهى .
وزعم الدماميني في الحاشية الهندية أن حيدا بكسر الحاء جمع حيدة بفتحها كبدر جمع بدرة وهي الحرف الناتئ في عرض الجبل لا في أعلاه . هذا كلامه وهذا غير مناسب للمقام .
والمشمخر : الجبل الطويل وقيل : العالي . والباء بمعنى في . والظيان بفتح المعجمة وتشديد المثناة التحتية : ياسمين البر وقيل الرمان الجبلي . والآس قال ابن السيد : هو الريحان وقيل الآس : أثر النحل إذا مرت فسقط منها بعض نقط من العسل حكاه الشيباني .
وقال صاحب كتاب العين : هو شيء من العسل . وأوضحه ابن المستوفي في شرح شواهد المفصل فقال : هو نقط من العسل تقع من النحل على الحجارة
____________________

فيستدلون بتلك النقط على مواضع النحل .
وقال اللخمي : الآس هنا بقية العسل في موضع النحل كما سمي بقية التمر في الجلة قوساً وباقي السمن في النحي كعباً وقالوا للقطعة من الأقط ثور . والآس في غير هذا : المشموم . قال ابن دريد : وهو دخيل في كلام العرب إلا أنهم قد تكلموا به .
وقوله : على الأيام حال على حذف مضاف أي : على تعاقب الأيام أو على مرورها أي : لا يبقى ذو حيد والأيام متعاقبة عليه . وقوله : بمشمخر صفة لذي حيد . وكذلك قوله به صفة )
لمشمخر . والظيان فاعل به . ووقع في رواية سيبويه تركيب مصراعين من بيتين هكذا : ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** في حومة الموت رزّام وفرّاس ) قال السيرافي : وقع في البيت الأول من هذين غلط من كتاب سيبويه لأن قوله : ذو حيد : وعل ورزام وفراس : أسد والصواب الذي حملته الرواة : ( يا ميّ لا يعجز الأيّام ذو حيدٍ ** بمشمخرٍّ به الظّيّان والآس ) والقصيدة لأبي ذؤيب الهذلي كما ذكرنا وقد أثبتها له السكري في أشعار الهذليين وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين .
ووقع هذا الشعر في كتاب سيبويه معزواً لمالك بن خالد الخناعي بضم الخاء المعجمة وتخفيف النون : بطن من هذيل وهو خناعة بن سعد بن هذيل بن مدركة ابن إلياس بن مضر .
وقال اللخمي : وبعضهم روى هذا الشعر لأمية بن أبي عائذ الهذلي .
وأنشده الزمخشري في المفصل لعبد مناف الهذلي .
وقال ابن السيد : وروي للفضل بن عباس بن عتبة بن أبي لهب .
____________________


وقال ابن المستوفي في شرح شواهد المفصل : ورواه أبو الحسن الأخفش لأبي زبيد الطائي . والله أعلم .
وأنشد بعده : أقسم باللّه أبو حفص عمر وأنشد بعده
الشاهد السادس والستون بعد الثلاثمائة الوافر ( فلا وأبيك خيرٍ منك أنّي ** ليؤذيني التّحمحم والصّهيل ) على أن خير بالجر بدل من أبيك بتقدير الموصوف أي : رجل خير منك وهذا البدل بدل كل من كل . ومع اعتبار الموصوف يكون الإبدال جارياً على القاعدة وهي أنه إذا كان البدل نكرةً من معرفة يجب وصفها كقوله : بالناصية . ناصية كاذبة . وهذا على رواية الجر .
وفيه رواية أخرى وهي رفع خير قال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد . ومن روى خير منك بالرفع فكأنه قال : هو خير منك .
وهذا البيت من أبيات سبعة لشمير بن الحارث الضبي رواها أبو زيد في نوادره . وهي في رواية ابن الأعرابي خمسة بحذف الثالث والسابع .
____________________


وهذه رواية أبي زيد : ( دعوت اللّه حتّى خفت أن لا ** يكون اللّه يسمع ما أقول ) ( ليحملني على فرسٍ فإنّي ** ضعيف المشي للأدنى حمول ) ( ينعّم بال عيني أن أراه ** أمام البيت محجره أسيل ) ( فإن فزعوا فزعت وإن يعودوا ** فراضٍ مشيه عتدٌ رجيل ) ( فلا وأبيك خيرٌ منك إنّي ** ليؤذيني التّحمحم والصّهيل ) ( ولست بنأنأٍ لمّا التقينا ** تهيّبني الكريمة والأفيل ) قال أبو حاتم : يسمع أي : يجيب ومنه : سمع الله لمن حمده . وقوله : ليحملني علة لدعوت .
وقوله : ضعيف المشي رواه أبو حاتم ضعيف المتن وحمول : خير ثان لإن .
وقوله : أحب الخيل إن لامت عليه هو مثل قولك : أقوم إن قام زيد . ولامت من اللوم فاعله ضمير امرأته ونحوها .
قال أبو علي : أي : لامت على حبسه وفي لامت ضمير فاعلة أضمرت لدلالة الحال عليه . انتهى وفيه شاهد وهو رجوع الضمير المذكر على الخيل . وقوله : إناث الخيل هو خبر مبتدأ محذوف أي : الذي أحب أو ما أحب إناث الخيل . وقوله : الذكر الطويل أي : طويل الظهر .
وقوله : ينعم الخ من التنعم وهو الترفه يقال : نعمه تنعيماً أي : رفهه وفاعله قوله أن أراه )
والهاء ضمير الذكر الطويل . وروى ابن الأعرابي في نوادره ينعم بال نفسي . وعليه فالبال بمعنى الخاطر والقلب .
وجملة : محجره أسيل : حال منه . والمحجر كمجلس بتقديم الحاء على الجيم : ما حول العين أراد أسفل العين وهو الخد لأنه يقال أسيل الخد إذا
____________________

كان لين الخد طويله . وكل مسترسل أسيل أيضاً .
وقوله : فإن فزعوا فزعت الفزع الإغاثة والنصر . ويعودوا في رواية أبي زيد بالعين وفي رواية ابن الأعرابي بالقاف .
وقوله : فراض مشيه روي برفع مشيه على أنه مبتدأ أول وراض خبره أي : ذو رضا كقوله : عيشة راضية وليل نائم .
وروي بنصب مشيه براض فراض خبر مبتدأ محذوف أي : فأنا راض مشيه . كذا قال الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد .
وفرس عتد بفتحتين وبفتح فكسر : المعد للجري . قال ابن السكيت : هو الشديد التام الخلق .
والرجيل بالجيم هو من الخيل الذي لا يحفى وقيل الذي لا يعرق . وروى ابن الأعرابي في نوادره : ( فإن فزعوا فزعت وإن يقودوا ** فراضٍ مشيه حسنٌ جميل ) وعلى هذا تقديره : فأنا راض ومشيه : مبتدأ وحسن : خبره .
وقوله : فلا وأبيك خير منك الكاف في أبيك ومنك مكسورة خطاب للمرأة التي لامته على حب الخيل على طريق الالتفات من الغيبة إلى الخطاب ولا نفي لما زعمته والواو للقسم .
وجملة : إني ليؤذيني الخ جواب القسم . واختلفوا في معناه فقال أبو الفضل : قوله : ويؤذيني أي : يغمني وليس هو لي في ملك .
وقال أبو حاتم والفارسي : أي ليؤذيني فقد التحمحم . وفي هذا حذف مضاف ورواه ابن الأعرابي في نوادره : وتبعه ابن دريد ليؤذينني بنونين قال : يؤذينني أي : يعجبني من أذنت له .
قال أبو محمد الأسود الأعرابي فيما كتبه على نوادر ابن الأعرابي وسماه ضالة الأديب : وصوابه ليؤذيني التحمحم من الإيذاء أي : فقدان التحمحم فحذف .
____________________


والتحمحم : صوت الفرس إذا طلب العلف . يقال : حمحم الفرس وتحمحم . وصهيل الفرس : )
صوته مطلقاً فهو من عطف العام على الخاص .
وقوله : ولست بنأنأ الخ النأنأ بنونين وهمزتين على وزن جعفر هو الضعيف من الرجال . يقال : نأنأ في رأيه نأنأة إذا ضعف فيه .
وقوله : تهيبني أصله بتاءين مضارع تهيبه أي : هابه وفيه قلب أي : لا أهاب الكريمة من الإبل أن أعقرها للضيف ولا يتعاظمني ذلك . والأفيل قال أبو زيد : هو الأفتاء من الإبل . وقال وفي العباب : الأفيل : ابن المخاض وابن الليون والأنثى أفيلة فإذا ارتفع عن ذلك فليس بأفيل .
وروى بدل الكريمة الكريهة وهي الحرب . قال الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : الذي أختار رواية تهيبني الكريمة يقول : لا يهيبني كبير مالي ولا صغيره إذا ورد ضيف علي . والأفيل : الصغير هكذا حفظي وليس له وقت محدود .
ومن روى الكريهة يقول : أنا أقاتل وأعقر للأضياف الأفيل . ولا أدري لم خص الفيل دون غيره . انتهى .
وشمير بضم الشين المعجمة وفتح الميم وآخره راء مهملة وهكذا ضبطه أبو زيد . وقال الأخفش فيما كتبه عليه : الذي في حفظي سمير بالسين المهملة . وكذا ضبطه الصاغاني في العباب بالمهملة وقال : وهو شاعر جاهلي . والله أعلم .
وأنشد بعده : العائذات الطير وهو قطعة من بيت للنابغة الذبياني وهو : البسيط ( والمؤمن العائذات الطّير يمسحها ** ركبان مكّة بين الغيل والسّند )
____________________

وقد تقدم شرحه في الشاهد السابع والأربعين بعد الثلاثمائة .
أنا ابن التّارك البكريّ بشرٍ وتمامه : عليه الطّير ترقبه وقوعا وتقدم شرحه هذا أيضاً في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والستون بعد الثلاثمائة البسيط ( إنّا وجدنا بني جلاّن كلّهم ** كساعد الضّب لا طولٍ ولا قصر ) على أنه يجوز ترك وصف النكرة المبدلة من المعرفة إذا استفيد من البدل ما ليس في المبدل منه كما هنا فإن قوله : طول المنفي بدل من ساعد الضب ومعنى الطول وما عطف عليه موجود في ساعد الضب .
____________________


وفيه شاهد آخر وهو إبدال النكرة من المعرفة والنكرة بغير لفظ المعرفة . قال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول الماسي : الكامل ( نهل الزّمان وعلّ غير مصرّد ** من آل عتّابٍ وآل الأسود ) غير أنه أعاد العامل معه وهو الجار . وبهذا استدللنا على أن البدل من جملة غير الجملة التي منها المبدل . وهو كثير في القرآن والشعر . وأكثر ما يعاد العامل مع البدل إذا كان العامل جاراً من حيث صار الجار مع ما جره بمنزلة الجزء الواحد . نعم وأبد النكرة من المعرفة والنكرة بغير لفظ المعرفة .
وهذا شيء يأباه البغداديون ويقولون : لا تبدل النكرة من المعرفة حتى يكونا من لفظ واحد نحو قوله تعالى : بالناصية . ناصية كاذبة خاطئة . ورد ذلك أبو الحسن بما أنشده من قول الشاعر : إنّا وجدنا بني جلاّن كلّهم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله ما أنشده أبو زيد : فلا وأبيك خيرٌ منك إنّي . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
وإنما أوله الشارح المحقق بقوله : أي لا ذي طول ولا ذي قصر ليصح جعله بدل كل من كل إذ لولا التأويل لكانا متغايرين . وإنما لم يجعف لا طول بأحد التأويلات الثلاثة صفةً كقوله أبيك لتخالف الموصوف والصفة فيهما تعريفاً وتنكيراً فلو كان معرفاً لكان صفة كما في قول أبي
____________________

( فلا وأبيك الخير لا تجدينه ** جميل الغنى ولا صبوراً على العدم ) يقول : إن تزوجت زوجاً لا تجدينه متعففاً ولا يصبر على العدم بالضم أي : الفقر . )
وجلان بكسر الجيم وتشديد اللام علم لا ينصرف . قال الأصمعي في شرح هذا البيت من شعر ذي الرمة : البسيط ( وبالشّمائل من جلاّن مقتنصٌ ** رذل الثّياب خفيّ الشّخص منزرب ) الشمائل : جمع شمال . وجلان : قبيلة من عنزة وهم رماة . ورذل الثياب : خلقها . وخفي الشخص بمعنى ضئيل الشخص خلقةً . والمنزرب : الداخل في الزرب وهو قترة الصائد . يقال : انزرب إذا دخل . انتهى .
وعنزة حيان أحدهما عنزة بن أسد بن ربيعة بن نزار . وثانيهما : عنزة بن عمرو بن عوف بن عدي بن عمرو بن مازن بن الأزد . ولا أعرف عنزة المنسوب إليها جلان أي العنزتين .
وقوله : كلهم تأكيد لبني جلان لا لجلان . وقوله : كساعد الضب . الساعد : ذراع اليد .
والضب ساعد جميع أفراده على مقدار معين خلقة لا يزيد ساعد فرد من أفراده طولاً على ساعد فرد آخر وكذلك لا ينقص عن ساعد فرد آخر بخلاف سائر الحيوانات فإن بين ساعد أفرادها تفاوتاً في الطول والقصر بحسب الجثة .
____________________


وهذا ينبغي أن يكون من الأمثال في الأشياء المتساوية كقولهم : هم كأسنان المشط لكني لم أره في كتب الأمثال . أراد أن جلان متساوون في فضيلة رشق السهام لا يرتفع أحدهم على الآخر فيها ولا ينحط عنه .
وهذا البيت لم أقف على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده : فلا وأبيك خيرٍ منك البيت السابق ذكره آنفاً لما تقدم في البيت قبله . لكن قدم الشارح المحقق أنه بتقدير رجل خير منك فالبدل إنما هو النكرة الموصوفة غايته أنه حذف الموصوف وبقيت صفته .
ويمكن أن يقال : ما تقدم لأجل جمود البدل لا لأجل وصف النكرة المبدلة فإن اشتراط الوصف مذهب الكوفيين .
قال السمين عند قول صاحب الكشاف في قوله تعالى : ناصية كاذبة : جاز إبدال النكرة من المعرفة لأنها وصفت فاستقلت بفائدة . قلت : هذا مذهب الكوفيين لا يجيزون إبدال نكرة من غيرها إلا بشرط وصفها أو كونها بلفظ الأول . ومذهب البصريين : لا يشترط شيء . )
وأنشدوا : انتهى وقال ابن عقيل في شرح التسهيل : ولم يشترط البصريون في إبدال المعرفة من النكرة والنكرة من المعرفة اتحاد لفظ ولا وجود وصف . ونقل ابن مالك عن الكوفيين أنهم لا يبدلون النكرة من المعرفة إلا إن كانت من لفظ الأول ونسب هذا
____________________

بعض النحويين لنحاة بغداد . ونقل عن الكوفيين أيضاً أنهم لا يفعلون ذلك وعكسه إلا بالشرط المذكور . وكلام الكوفيين على خلاف هذا .
قال الكسائي والفراء في قتال فيه إنه على نية عن وصرح ب عن في قراءة عبد الله . وأجاز الفراء في هرون أخي كونه مترجماً لوزيراً . قال : فيكون نصاً للتكرير .
ونقل أيضاً عن الكوفيين والبغداديين اشتراط وصف النكرة المبدلة من المعرفة وتابعهم السهيلي وابن أبي الربيع .
ونقل عن بعض الكوفيين في إبدال النكرة المبدلة من النكرة اشتراط وصف المبدلة .
ويدل للبصريين حدائق وأعنابا وقوله : الطويل ( فألقت قناعاً دونه الشّمس واتّقت ** بأحسن موصولين كفٍّ ومعصم ) وقوله : فلا وأبيك خيرٍ منك . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأنشد بعده : الطويل لحافي لحاف الضّيف والبرد برده
____________________

هذا صدر بيت وعجزه : ولم يلهني عنه غزالٌ مقنّع على أن اللام قد تنوب عن الضمير كما هنا فإن الأصل وبردي برده . وتقدم شرح هذا البيت في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والستون بعد الثلاثمائة الرجز ( أوعدني بالسّجن والأداهم ** رجلي ورجلي شثنة المناسم ) على أن قوله : رجلي بدل بعض من ياء المتكلم في أوعدني .
هذا هو الظاهر . وعليه اقتصر الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : للذين اتَّقَوْا عِنْدَ ربِّهمْ جَنَّاتٌ .
واستشكلت البدلية بأن الرجل لا توعد بالسجن . وأجيب بأنها لما كانت سبباً للدخول ناسب وفيه وجوه ثلاثة : أحدها : ما قاله ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وهو أنه يجوز أن يكون رجلي مفعولاً ثانياً حذف منه حرف الجر اختصاراً كأنه أراد : لرجلي .
____________________


وثانيها : ما قاله أبو حيان في تذكرته ومن خطه نقلت وهو أن يكون رجلي منادىً على طريق الاستهزاء بالموعد .
ثالثها : ما نقله ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق عن بعضهم وهو أن تكون الأداهم معطوفةً على السجن ورجلي معطوفة على ضمير المتكلم أي : أوعدني بالسجن وأوعد رجلي بالأداهم كما تقول : ضربني بالعصا والسوط ظهري تريد ضربني بالعصا وضرب ظهري بالسوط ويكون على هذا من باب عطف معمولين على معمولي عاملين مختلفين .
ورجلي الثانية مبتدأ شثنة خبرها وأتى بها ظاهرةً غير مضمرة تعظيماً لأمرها وإشادةً بذكرها أو لأنها وقعت في جمله ثانية . والواو للحال وروي فرجلي بالفاء على السببية .
والشثنة : الغليظة الخشنة يقال : في صفة الأسد : شثن البراثن .
قال العيني : ويجوز أن يكون بتقديم النون على المثلثة من شنست مشافر البعير أي : غلظت من أكل الشوك . والمناسم : جمع منسم كمجلس وهو طرف خف البعير استعاره للإنسان .
وقال ابن السيرافي : المنسم : أسفل خف البعير ولا يستعمل لغيره إلا في ضرورة شعر . وأرد بالمناسم هنا باطن رجليه . يقول : رجلي غليظة لا تألم لجعلها في القيد . هذا كلامه وهذه الإرادة غير ظاهرة . والأداهم : جمع أدهم وهو القيد . والسجن بالكسر : اسم للمحبس والمصدر بالفتح . يقال : سجنته سجناً من باب قتل . وأوعده بكذا بمعنى هدده به . )
قال الخطيب التبريزي في شرح إصلاح المنطق : قال الفراء : يقال وعدته خيراً ووعدته شراً بإسقاط الألف فإذا أسقطوا الخير والشر قالوا في الخير وعدته وفي الشر أوعدته . فالوعد والعدة في الخير والإيعاد والوعيد في الشر . فإذا قالوا أوعدته بكذا أثبتوا الألف مع الباء .
وأنشد : أوعدني بالسّجن والأداهم . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى
____________________

وقال ثعلب في أماليه : يقال : وعدته خيراً وشراً وإذا لم يذكر الخير ولا الشر قيل في معنى الخير وعدته وفي الشر وعدته وفي بعض اللغات أوعدته بالشر . وأنشد هذا البيت .
وفيه مخالفة للفراء فيما إذا لم يذكر الموعود به فإنه إذا أريد المكروه زيدت الألف .
وثعلب ساوى بين ما إذا أريد الخبر أو المكروه في أنه يقال بلا ألف . قال في الفصيح : وعدت قال الإمام المرزوقي في شرح الفصيح : وعدته خيراً وشراً . فإن أطلقت ولم تقيد قلت في الخير وعدت وعداً وعدة وموعداً وموعدة . والميعاد : الوقت والموضع . وفي الشر أوعدته إيعاداً ووعيداً . هذا هو الصحيح .
وقوله : فإذا لم تذكر الشر قلت أوعدته بكذا قال أبو إسحاق الزجاج : قلت لثعلب : قولك بكذا ينقص ما أصلته لأن وعد بإطلاقه ضمان في الخير وأوعد ضمان في الشر ولا حاجة إلى بكذا .
قال أبو علي : ويمكن أن يقال في جوابه بكذا إشارة إلى نوع مما يتوعد به وإذا كان القصد إلى التنويع احتيج إليه ألا ترى قوله : أوعدني بالسّجن والأداهم وقول الآخر : أتوعدني بقومك يا ابن سعدى والمنكر أن يقال : أوعدني بالشر . فاعلمه . انتهى .
وهذا الشعر بيتان من الرجز المسدس . قال ابن السيد : لا أعلم قائله . وقال ياقوت في حاشية الصحاح وتبعه العيني : قائله العديل بن الفرخ وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية وهو بضم
____________________

قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : العديل بن الفرخ لقبه العباب بفتح العين المهملة وتشديد )
الموحدة الأولى . والعباب : اسم كلبه . وهو من رهط أبي النجم العجلي وكان هجا الحجاج وهرب منه إلى قيصر ملك الروم فبعث إليه : لترسلن به أو لأجهزن إليك خيلاً يكون أولها عندك وآخرها عندي فبعث به إليه فلما مثل بين يديه قال : أنت القائل : الطويل ( ودون يد الحجّاج من أن تنالني ** بساطٌ بأيدي النّاعجات عريض ) ( مهامه أشباهٌ كأنّ سرابها ** ملاءٌ بأيدي الغانيات رحيض ) فقال : أنا القائل : الطويل ( فلو كنت في سلمى أجا وشعابها ** لكان لحجّاج عليّ دليل ) ( خليل أمير المؤمنين وسيفه ** لكلّ إمامٍ مصطفىً وخليل ) ( بنى قبّة الإسلام حتّى كأنّما ** هدى النّاس من بعد الضّلال رسول ) فعفا عنه وأطلقه .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والستون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الوافر على أن قوله حلمي بدل اشتمال من الياء في : ألفيتني .
____________________


قال ابن جني في إعراب الحماسة : إنما يجوز البدل من ضمير المتكلم وضمير المخاطب إذا كان بدل البعض أو بدل الاشتمال نحو قولك : عجبت منك عقلك وضربتك رأسك . ومن أبيات الكتاب : ذريني إنّ أمرك لن يطاعا . . . . . . . . . . . . . . البيت ف حلمي : بدل من ني . ولو قلت : قمت زيد أو مررت بي جعفر أو كلمتك أبو عبد الله على البدل لم يجز من حيث كان ضمير المتكلم والمخاطب غايةً في الاختصاص فبطل البدل لأن فيه ضرباً من البيان وقد استغنى المضمر بتعرفه . انتهى .
وكذلك الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : مثلُ الذين كَفَروا بربِّهم أعمالُهمْ كَرمادٍ . الحلم : منصوب بالإلفاء على التكرير يعني البدل ولو رفعه كان صواباً . وأورده أيضاً عند قوله تعالى : ويومَ القيامة تَريَ الذينَ كَذَبُوا على اللَّهِ وجوهُهم مسودَّة .
وتبعه الزجاج فيها ونسبه إلى عدي بن زيد قال في الآية : ترفع وجوههم ومسودة لأن الفعل قد )
وضع على الذين ثم جاء بعد الذين اسم له فعل فرفعته بفعله وكان فيه معنى نصب . وكذلك فافعل بكل اسم أوقعت عليه الظن والرأي وما أشبههما فارفع ما يأتي بعده من الأسماء إذا كان أفاعيلها بعدها كقولك : رأيت عبد الله أمره مستقيم . فإن قدمت الاستقامة نصبتها ورفعت الاسم فقلت : رأيت عبد الله مستقيماً أمره . ولو نصبت الثلاثة في المسألة الأولى على التكرير كان جائزاً فتقول : رأيت عبد الله أمره مستقيماً . وقال عدي بن زيد : ذريني إنّ أمرك لن يطاعا . . . . . . . . . . . . . البيت فنصب الحلم والمضاع على التكرير .
____________________


ومثله : ما للجمال مشيها وئيدا فخفض الجمال والمشي على التكرير . فلو قرأ قارئ : وجوههم مسودةً على هذا لكان صواباً .
انتهى .
وقوله : ذريني خطاب لامرأته أي : اتركيني ودعيني . وجملة : إن حكمك الخ مستأنفة للتعليل .
وروى سيبويه : إن أمرك وهو بمعناه . وجملة : ما ألفيتني الخ معطوفة على الجملة المستأنفة .
وروى العيني : ولا ألفيتني . وألفى بمعنى وجد من أخوات ظن تنصب مفعولين والتاء المكسورة فاعلها والنون نون الوقاية والياء مفعول وحلمي بدل من الياء . وتساهل النحاس في شرح أبيات سيبويه وتبعه ابن السيد في أبيات المعاني فقالا : حلمي بدل من النون والياء .
ومن العجائب قول العيني : حلمي بدل من النون وكأنه أراد أن يتبع النحاس فيسقط من قلمه أو من قلم الناسخ عطف الياء على النون . والحلم بالكسر : العقل .
يقول لها : ذريني من عذلك فإني لا أطيع أمرك ولا وجدتني سفيهاً مضيع الحلم وعقلي يأمرني بإتلاف مالي في اكتساب الحمد . ومضاعا مفعول ثاني لألفى وهو اسم مفعول من الإضاعة ولا يصح أن يكون كما زعم بعضهم .
ونقل العيني عن تذكرة أبي حيان بأنه يجوز حلمي مضاع بالرفع على الابتداء والخبر والجملة مفعول ثان . وفيه أن هذا البيت من قصيدة قوافيها منصوبة .
____________________

قال ابن السيد : لا يجوز رفعهما لأن القوافي كلها منصوبة .
والبيت نسبه سيبويه لرجل من خثعم أو بجيلة . وتبعه ابن السراج في أصوله . وعزاه الفراء )
والزجاج إلى عدي بن زيد العبادي وهو الصحيح .
وكذلك قال صاحب الحماسة البصرية وأورد من القصيدة بعده هذه الأبيات : ( ألا تلك الثّعالب قد تعاوت ** عليّ وحالفت عرجاً ضباعا ) ( فإن لم تندموا فثكلت عمراً ** وهاجرت المروّق والسّماعا ) ( ولا ملكت يداي عنان طرفٍ ** ولا أبصرت من شمسٍ شعاعا ) قوله : تعاوت تفاعلت من العواء وهو صياح الكلب والذئب والثعلب . وأراد بالثعالب الذين لاموه على جوده حسداً ولؤماً . والثعلب سبع جبان مستضعف ذو مكر وخديعة ولكنه لفرط المكر والحيلة والخبث والخديعة يجري مع كبار السباع .
قال الجاحظ : ومن أشد سلاح الثعلب الروغان وفي المثل : أروغ من ثعلب . والروغان بالتحريك : مصدر راغ الثعلب يروغ روغاً وروغاناً أي : ذهب يمنة ويسرة في سرعةٍ خديعة فهو لا يستقر في جهة . وحالفت بالحاء المهملة أي : عاهدت يقال : تحالفا أي : تعاهدا وتعاقدا على أن يكون أمرهما واحداً في النصرة والحماية . وبينهما حلف بالكسر أي : عهد . والحليف : المعاهد .
____________________


وضباعاً : مفعول حالفت . وعرجا كان في الأصل صفة لضباعاً فلما تقدم صار حالاً منه .
أي : عاهدت تلك الثعالب من هو أسوأ حالاً منها . والضباع بالكسر : جمع ضبع وهي يضرب بها المثل في حمقها فيقال : أحمق من ضبع .
قال صاحب المصباح : الضبع بضم الباء في لغة قيس وبسكونها في لغة تميم وهي أنثى وقيل : يقع على الذكر والأنثى وربما قيل في الأنثى ضبعة كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء للتخفيف . والذكر ضبعان والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين . ويجمع الضبع بضم الباء والعرج : جمع عرجاء كصفر جمع صفراء . والضبع توصف بالعرج وليس بعرجاء وإنما يخيل ذلك للناظر . وسبب ذلك التخيل لدونة في مفاصلها وزيادة رطوبة في الجانب الأيمن على الأيسر منها . كذا في حياة الحيوان للدميري .
ومن الغرائب قول العيني هنا : قوله : تعاوت من عواء الكلب . وقوله : ضباعاً جمع ضبع وهو الحيوان المعروف وهذا الجمع للذكر والأنثى مثل سباع وسبع .
وقوله : عرجاً بفتح العين وكسر الراء صفة للضباع قدمت عليه للضرورة . وتوصف الضباع )
بالعرج كما توصف بالخمع .
والعرج أيضاً يقال : للقطيع من الإبل نحو الثمانين أو المائة والخمسين . فعلى هذا يكون قوله ضباعاً بالكسر : جمع ضابع إذا كانت شديدة الجري . هذا كلامه بحروفه . وأي فائدة في تسطيره ولا يزاد الطالب منه إلا جهالة .
وقوله : فإن لم تندموا الخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب . وأراد بالندم الرجوع عن لؤمه فإن الندم لازمه . وجملة ثكلت دعائية . وعمرو : ابنه . وهاجرت بمعنى قاطعت من الهجر بالفتح أي : الترك . والمروق أراد : به الخمر . يقال : خمر مروق . والسماع أراد به آلة الطرب واللهو .
____________________


والطرف بالكسر : الكريم من الخيل . والخطة بضم الخاء المعجمة : الحالة والخصلة وهو مفعول مقدم لكلفت . وذراعاً : تمييز محول عن الفاعل . ورحب الذراع واسعها . وبسطها : طولها .
وضيق الذراع والذرع قصرها .
ووجهه أن القصير الذراع لا ينال ما يناله الطويل الذراع ولا يطيق طاقته فضرب الذي سقطت قوته دون بلوغ الأمر والاقتدار عليه . وبالعكس طول الذراع وبسطها .
وقد تقدمت ترجمة عدي بن زيد مفصلة في الشاهد الستين . وهو شاعر جاهلي .
والعبادي بكسر العين وتخفيف الموحدة نسبة إلى عباد وهم قبائل شتى من العرب اجتمعوا على النصرانية بالحيرة . وزعم الجوهري أنه بالفتح . والصواب ما ذكرنا .
وأنشد بعده
الشاهد السبعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( وكأنّه لهق السّراة كأنّه ** ما حاجبيه معيّنٌ بسواد ) على أنه قد يعتبر الأول في اللفظ دون الثاني أي : يعتبر المبدل منه في اللفظ دون البدل فإن قوله حاجبيه بدل من ضمير كأنه .
____________________


وقال أبو علي في إيضاح الشعر قوله حاجبيه بدل من الضمير وما لا تكون إلا زائدة وقد روعي الضمير المبدل منه في اللفظ بجعل معين مفرداً ول روعي الذي هو حاجبيه لقيل معينان بالتثنية .
وقد يقال : إن الحاجبين لما لزم أحدهما الآخر صار الإخبار عنهما كالإخبار عن الشيء الواحد وكذا حال ما هو مثنى في البدن يجوز إفراد خبره وصفته على المعنى وتثنيته على اللفظ كقوله : الهزج ( لمن زحلوقةٌ زلّ ** لها العينان تنهلّ ) فأخبر عن العينين بما يكون خبراً عن الواحد . وعليه قول المتنبي : الطويل ( حشاي على جمرٍ ذكيّ من الهوى ** وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع ) وقال آخر : الكامل وكأنّ بالعينين حبّ قرنفلٍ أو سنبلاً كحلت به فانهلت وكان الظاهر أن يقول : كحلتا فأفرد لأنهما لا يفترقان . ويجوز عكس هذا فيخبر عن الواحد منهما بالتثنية كقوله : المتقارب ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ** وشقّت مآقيهما من آخر )
____________________

ومنه قول الآخر على وجه : الوافر ( تسائل بابن أحمر من رآه ** أعارت عينه أم لم تعارا ) فما استفهم عن الواحدة عطف بالاثنتين في قوله : أم لم تعارا . وقيل : معين مصدر كممزق وإذا أخبر بالمصدر كان موحداً .
هذا وسيبويه إنما أورد البيت للبدل ولم يذكر ما اعتبره الشارح المحقق . وهذه عبارته : وإن شئت قلت : ضرب عبد الله ظهره ومطر قومك سهلهم على قولك : رأيت القوم أكثرهم )
ورأيت عمراً شخصه كما قال : وكأنّه لهق السّراة . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
ويجوز أن يكون هذا من قبيل بدل البعض . وما ذكره الشارح المحقق هو كلام أبي علي في إيضاح الشعر قال في موضع آخر منه : قد جاء الحمل على المبدل منه . قال : وكأنّه لهق السّراة . . . . . . . . . . . . . . البيت فجعل الخبر فيه عن المبدل منه دون البدل .
وقوله : وكأنه لهق الخ رواه سيبويه فكأنه بالفاء . قال الأعلم : وصف الشاعر ثوراً وحشياً سبه به بعيره في حدته ونشاطه فيقول : كأنه ثور لهق السراة أي : أبيض أعلى الظهر أسفع الخدين كأنما عين بسواد . وكذلك بقر الوحش بيض كلها إلا سفعة في خدودها ومغابنها وأكارعها .
انتهى .
وقال ابن خلف : اللهق : البياض . والسراة : أعلى الشيء . وثور الوحش يوصف بأنه لهق السراة . وقيل : إنه يصف جملاً وسيره وسرعته وشبهه بثور وحش
____________________

في سرعته . والجملة التي هي : كأنه ما حاجبيه الخ وصف للثور . وترتيب الكلام : كأن هذا الجمل ثور لهق السراة كأن هذا الثور حاجبيه معين بسواد يعني أن ما حول حاجبيه وعينيه أسود . والعينة : ما حول العينين كأنه قال : مسود العينة . انتهى .
وفي العباب : قال الليث : اللهق بالتحريك : الأبيض ليس بذي بريق كاليقق إنما هو نعت في الثوب والشيب . والبعير الأعيس لهق والأنثى لهقة والجمع لهقات ولهاق . ولهق الشيء لهقاً مثل سحق سحقاً ولهق لهقاً مثل أرق أرقاً إذا كان شديد البياض . انتهى .
يريد أنه جاء من بابي فتح فتحاً وفرح فرحاً . والسراة بفتح السين قال صاحب الصحاح : وسراة كل شيء : ظهره ووسطه . والمعين : بزنة اسم المفعول ولم يزد صاحب الصحاج على قوله المعين ثور .
وفي القاموس : والمعين كمعظم : ثور بين عينيه سواد وهو مشتق من العينة بالكسر وهي مصدر عين عيناً من باب فرح وعينة إذا عظم سواد عينه في سعة . والعينة أيضاً من النعجة : ما حول عينيها . )
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل .
وأنشد بعده الشاهد الحادي والسبعون بعد الثلاثمائة الكامل ( إنّ السّيوف غدوّها ورواحها ** تركت هوازن مثل قرن الأعضب ) لما تقدم قبله فإن قوله غدوها بدل من السيوف .
قال المبرد في الكامل : هو بدل اشتمال وقد روعي المبدل منه في اللفظ بإرجاع الضمير إليه من الخبر ولم يراع البدل ولو روعي لقيل : تركا بالتثنية .
____________________


وهذا أيضاً كلام أبي علي في إيضاح الشعر فإنه أورد هذا البيت مع البيت الذي قبله لما ذكر .
وفيه أن يحتمل أن نصب غدوها على الظرف كخفوق النجم وكأنه قال : إن السيوف وقت غدوها ورواحها .
وهوازن : أبو قبيلة وهو هوازن بن منصور بن عكرمة بن خصفة بن قيس ابن عيلان بن مضر .
والأعضب بإهمال العين . قال صاحب العباب : العضباء : الشاة المكسورة القرن الداخل وهو المشاش .
ويقال : هي التي انكسر أحد قرنيها وقد عضبت بالكسر وكبش أعضب بين البعض . وأنشد هذا البيت .
وهو من قصيدة للأخطل عدتها ستة عشر بيتاً . مدح بها العباس بن محمد بن عبد الله بن العباس رضي الله عنه فأعطاه ألف دينار وكان يقال له المذهب لجماله . روي أنه خرج على فرس له وعليه مطرف خز فأشرفت امرأة فنظرت إليه فقالت : ما أحسن هذا فتقطر به فرسه فمات .
وهذا مطلع القصيدة : ( بان الشّباب وربّما علّلته ** بالغانيات وبالشّراب الأصهب ) ( ولقد شربت الخمر في حانوتها ** ولعبت بالقينات عفّ الملعب ) وقال في مدحه : ( لذّ تقبّله النّعيم كأنّما ** مسحت ترائبه بماءٍ مذهب ) )
____________________

( ينظرن من خلل السّتور إذا بدا ** نظر الهجان إلى الفنيق المصعب ) ( خضل الكياس إذا تنشّى لم تكن ** خلفاً مواعده كبرق الخلّب ) ( وإذا تعوورت الزّجاجة لم يكن ** عند الشّراب بفاحش متقطّب ) اللذ بالفتح : المتلذذ . وتقبله النعيم إذا استبان عليه . والربرب : جماعة النساء . والهجان من الإبل : كرامها وبيضها . والفنيق : الفحل المتروك لا يركب ولا يحمل عليه . والخضل : الندي والكياس . والتعاور : التداول .
وبعد هذا اقتضب الكلام فقال : إنّ السّيوف غدوّها ورواحها . . . . . . . . . . . . . . البيت وبعده : ( وتركن عمّك من غنيّ ممسكاً ** بإزاء منخرق كجحر الثّعلب ) ( وتركن فلّ بني سليمٍ تابعاً ** لبني ضبينة كاتّباع التّولب ) ( ألقوا البرين بني سليمٍ إنّها ** شانت وإنّ حزازها لم يذهب ) ( ولقد علمت بأنّها إذ علّقت ** سمة الذّليل بكلّ أنفٍ مغضب ) ( والخيل تعدو بالكماة كأنّها ** أسد الغياطل من فوارس تغلب ) وقوله : وتركن عمك من غني الخ غني : قبيلة . قال شارح ديوانه
____________________

السكري : هذا مثل يقول : لا شيء بأيديهم كأنهم تمسكوا بحوض صغير قد ذهب ماءه . وإزاء الحوض : موضع مصب الدلو في مقدمه فيوضع هناك جحر يصب عليه الماء أو عباءة لئلا يثور الطين فيفسد الماء ويكدر .
وقوله : وتركن فل بني سليم الفل بالفتح : المنهزمون . وسليم بالتصغير . وضبينة بفتح المعجمة وكسر الموحدة وقبل الهاء نون هي أم سعد مناة بن غامد بن الأزد غلبت على نسب ولدها .
قاله السكري .
وقوله : ألقوا البرين الخ ألقوا : أمر من الإلقاء . والبرين : جمع برة بضم الموحدة وهي ما يخزم به الأنف . وبني سليم : منادى . وذلك أن امرأة من سليم خزمت أنفها لما قتل عمير بن الحباب وحلفت أن لا تنزعها حتى تدرك بثأره .
والغياطل : جمع غيطل وهو الشجر الكثير الملتف . وتغلب : قبيلة الأخطل . افتخر بفوارس )
قومه .
وترجمته تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الرجز ( إنّ عليّ اللّه أن تبايعا ** تؤخذ كرهاً أو تجيء طائعا )
____________________

على أن الفعل قد يبدل من الفعل إذا كان الثاني راجح البيان على الأول كما في البيت .
فتؤخذ بدل من تبايع وتجيء : معطوف على تؤخذ . وهذا البدل أبين من المبدل منه والبدل في الحقيقة إنما هو مجموع المعطوف والمعطوف عليه إذ لا تكون المبايعة إلا على أحد الوجهين من إكراه أو طاعة . وهو كقولهم : الرمان حلو حامض وإن كان يقال باعتبار اللفظ إن تجيء معطوف على تؤخذ كما يقال في مثل ذلك من الخبر والحال .
والآية قبل البيت من بدل الكل قال الخليل : لأن مضاعفة العذاب هي لقي الأثام . والظاهر أن بدل الفعل من الفعل عند الشارح المحقق إنما يكون في بدل الكل وهو مذهب السيرافي قال : لا يبدل الفعل إلا من شيء هو في معناه لأنه لا يتبعض ولا يكون فيه اشتمال فتؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً هو معنى المبايعة لأنها تقع على أحدهما .
وقد يظهر من كلام سيبويه في باب ما يرتفع بين الجزمين .
وقد جوز المتأخرون الأبدال الأربعة في الفعل منهم الشاطبي في شرح الألفية قال : يتصور في بدل الفعل من الفعل ما تصور في بدل الاسم من الاسم فقد يكون فيه بدل الكل من الكل متى تأتنا تلمم بنا في ديارنا وقد يكون فيه بدل البعض كقولك : إن تصل تسجد لله يرحمك . وبدل الاشتمال أيضاً ومنه قوله :
____________________

إنّ على اللّه أن تبايعا . . . . . . . . . . . . . البيت لأن الأخذ كرهاً والمجيء طوعاً من صفات المبايعة . وظاهر كلام سيبويه يقتضي أنه أنشده شاهداً على بدل الاشتمال لأنه أتى به مع قول الآخر : الطويل فما كان قيسٌ هلكه هلك واحدٍ وقول الآخر : )
وما ألفيتني حلمي مضاعا وذلك في باب من أبواب بدل البعض والاشتمال . وإذا ثبت بدل البعض ثبت بدل الاشتمال : لأنه مشبه به إذ عدوا وصف الشيء كالجزء منه . وقد يكون فيه بدل الإضراب والغلط نحو إن تطعم زيداً تكسه أكرمك . وقد سأل سيبويه الخليل عن قولك : إن تأتنا تسألنا نعطك بجزم تسألنا .
فقال : هذا يجوز على أن يكون مثل الأول لأن الأول الفعل الآخر تفسير له وهو هو . يعني ما قال : ولكنه يجوز على الغلط والنسيان ثم يتدارك . وقال بعد : فلو قلت إن تأتني آتك أقل ذلك . كان غير جائز لأن القول ليس بالإتيان إلا أن تجيزه على ما جاز عليه تسألنا . فهذا نص لجواز بدل الغلط والنسيان . وجواز بدل الإضراب أولى . انتهى كلام الشاطبي .
____________________


فإن قلت : بدل الاشتمال والبعض لا بد لهما من ضمير فكيف الحال على قول الشاطبي قلت : لا يمكن الضمير هنا لظهور أن ذاك خاص بالأسماء لتعذر عود الضمير على الأفعال .
كذا في شرح التوضيح للشيخ خالد .
وقول الشارح المحقق : إذا كان الثاني راجح البيان مثله في التسهيل قال : ويبدل فعل من فعل موافق في المعنى مع زيادة بيان . انتهى .
ولي يعتبر غيرهما هذا القيد . ولم يتعرض له أصلاً أبو حيان في الارتشاف . قيل : والحق عدم اعتباره . وأما اعتبار الموافقة في المعنى فقد اعتبروه منهما بن معطي قال : وأبدلوا الفعل من الفعل إذا كان بمعناه .
قال ابن الخباز : إنما يكون ذلك إذا ترادف اللفظان كقولك من يأت يمش إلي أكلمه . . . انتهى .
وهذا عند الشارح المحقق من باب التوكيد كما صرح به هنا . وقوله : إنما يكون في ترادف اللفظين ممنوع .
وهنا فائدة حسنة ذكرها ابن هشام في حواشي الألفية وهي أنه ينبغي أن يشترط لإبدال الفعل من الفعل ما اشترط لعطف الفعل وهو الاتحاد في الزمان فقط دون الاتحاد في النوع حتى يجوز : إن جئتني تمش إلي أكرمك . انتهى .
واعلم أن إبدال الفعل من الفعل هو إبدال مفرد من مفرد بدليل ظهور النصب كما في الشاهد وظهور الجزم كما في الآية . )
وزعم ابن السيد في أبيات المعاني وتبعه ابن خلف والعيني والحفيد في حاشية المختصر أن هذا من إبدال جملة من جملة . وهو سهو .
قال الشيخ خالد في شرح التوضيح : والفرق بين بدل الفعل وحده الجملة أن الفعل يتبع ما قبله في إعرابه لفظاً أو تقديراً والجملة تتبع ما قبلها محلاً إن كان له محل . وإلا فإطلاق التبعية عليها مجاز إذ التابع كل ثان أعرب بإعراب سابقه الحاصل والمتجدد . انتهى .
وقضية هذا : أنه لا يتصور في الفعل المرفوع أن يكون بدلاً من فعل مرفوع
____________________

وذلك لأن سبب الإعراب متوفر فيه مع قطع النظر عن التبعية وهو تجرده عن الناصب والجازم فرفعه لتجرده لا لكونه تابعاً لغيره فكيف يكون بدلاً مع انتفاء التبعية لانتفاء الإعراب بإعراب سابقه . وهكذا يقال في العطف : لا يتصور عطف الفعل المرفوع على مثله .
ومما يشكل في البدل قول البيضاوي وغيره : إن يتزكى في سورة الليل بدل من قوله : يؤتي ماله لأن يؤتي مرفوع لتجرده فلم يعرب بإعراب سابقه .
وأجاب بعضهم بأن المراد أن البدل جملة يتزكى من جملة يؤتي ماله . وهذا لا يدفع الإشكال عن كلام البيضاوي لا عن ظاهر كلامهم أن الفعل يبدل من الفعل وعمومه شامل للفعل المرفوع .
وجزم السيد عيسى الصفوي بأنه لا يكون مضارع مرفوع تابعاً لمضارع مرفوع وأجاب عما أورد على البيضاوي بأن المراد كل ثان أعرب بإعراب سابقه ولم يكن معرباً لمقتض للإعراب غير التبعية .
قيل : قد يقال لا مانع من كون المضارع عند التبعية مرفوعاً بالتبعية وإن كان فيه مقتض آخر للرفع وهو التجرد بناء على جواز تعدد السبب . وفيه نظر فإنهم قالوا : العامل بمنزلة المؤثر الحقيقي ولا يجتمع مؤثران على أثر .
وسكت الشارح المحقق عن إبدال الجملة من الجملة وعن إبدال الجملة من المفرد وعكسه .
أما الأول فقد قال الشيخ خالد : تبدل الجملة من الجملة بدل بعض واشتمال وغلط ولا تبدل بدل كل نحو : قعدت جلست في دار زيد فإنه توكيد .
أما بدل البعض فنحو قوله تعالى : أمدكم بما تعلمون . أمدكم بأنعام وبنين فجملة أمدكم الثانية أخص من الأولى باعتبار متعلقيهما فتكون داخلة في الأولى . )
وأما بدل الاشتمال فكقوله : الطويل
____________________

أقول له ارحل لا تقيمنّ عندنا فقوله : تقيمن عندنا بدل اشتمال من ارحل لما بينهما من الملابسة اللزومية وليس توكيداً له لاختلاف لفظيهما ولا بدل بعض لعدم دخوله في الأول ولا بدل كل لعدم الاعتداد به ولا غلط لوقوعه في الفصيح .
وأما بدل الغلط فنحو : قم اقعد .
وأما إبدال الجملة من المفرد فقد أورد له ابن هشام في شرح الألفية قول الفرزدق : الطويل ( إلى اللّه أشكو بالمدينة حاجةً ** وبالشّام أخرى كيف يلتقيان ) قال أبدل كيف يلتقاين وهو جملة مستأنفة نبه بها على سبب الشكوى وهو استبعاد ما بين الحاجتين .
وأما عكس هذا وهو إبدال مفرد من جملة فقد قال أبو حيان في البحر في قوله تعالى : ولم يجعَلْ له عِوَجاً قَيِّماً قال : قيماً بدل من جملة لم يجعل له عوجاً لأنها في معنى المفرد أي : جعله وقال ابن هشام في المغني في بحث كيف : إن جملة كيف خلقت بدل من الإبل بدل اشتمال والمعنى إلى الإبل كيفية خلقها . ومثله : ألم تَرَ إلى ربِّك كيف مدَّ الظِّلَّ وكل جملة فيها كيف فهي بدل من اسم مفرد . وقال السيوطي
____________________

في الهمع : إن بدل الجملة من المفرد بدل اشتمال .
وبقي إبدال الفعل من اسم يشبهه وبالعكس وإبدال الحرف من مثله .
أما الأول فقد قال ابن هشام في حواشي الألفية : ينبغي أن يجوز إبدال الاسم من الفعل وبالعكس كما جاز العطف نحو : زيد متق يخاف الله أو يخاف الله متق . انتهى .
والظاهر أن يخاف الله اسئناف بياني أو البدل هو الجملة لا الفعل وحده في الأول ومتق خبر بعد خبر في الثاني والتقوى غير الخوف فإن الوقاية فرط الصيانة .
وأما الثاني فقد ذكره سيبويه وجعل منه : أَيَعِدُكُمْ أنَّكمْ إذا مِتُّمْ وكُنتم تُراباً وعظاما أنَّكُمْ مُخْرَجون فجلع أن الثانية بدلاً من الأولى لا توكيداً كما قال غيره .
وقوله : إن علي الله الخ قال ابن خروف في شرح الكتاب : الله منصوب على القسم ويجوز أن يكون اسم إن والخبر الجار والمجرور وأن مفعول من أجله .
وأنشد يحيى : الطويل ) ( وإنّ عليّ اللّه لا تحملونني ** على خطّةٍ إلاّ انطلقت أسيرها ) فلز حذفت إن لقلت : علي عهد الله لأضربنك . قال الفراء : ويجوز علي الله أن أضربك .
انتهى .
وقال ابن خلف : هذا الشاعر حلف على مخاطبه بالله أنه لا بد له من أن يبايع فلما حذف حرف القسم نصب الاسم وأن تبايع : اسم إن وعلي خبر إن والقسم معترض بين الاسم والخبر .
ونقل العيني عن بعض شراح الكتاب أن علي متعلق باستقرار محذوف في موضع خبر إن كأنه قال : وجب علي اليمين بالله لأن هذا الكلام قسم وأن تبايعا يتعلق
____________________

بعلي أعني بما فيه من معنى الاستقرار . انتهى .
وهذا التعلق غير ظاهر .
والمبايعة : بمعنى البيعة والطاعة للسلطان . وأصل البيعة الصفقة على إيجاب البيع . وأيمان البيعة هي التي رتبها الحجاج مشتملة على أمور مغلظة من طلاق وعتق وصوم ونحو ذلك . وتؤخذ بدل من تبايع كما تقدم .
قال السيرافي : النصب في هذه الأبيات على البدل جيد ولو رفع على الابتداء لكان أكثر وأعرف فيقول : هلكه هلك واحد وما ألفيتني حلمي مضاع وتكون الجملة في موضع الحال وتؤخذ كرهاً أو تجيء طائعاً على معنى أنت تؤخذ كرهاً فيكون أنت تؤخذ في موضع الحال .
انتهى .
وهذا كقوله : الطويل ( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره ** تجد خير نارٍ عندها خير موقد ) رفع تعشو بين المجزومين أعني الشرط والجزاء لأنه قصد به الحال أي : متى تأته عاشياً أي : ناظراً إلى ضوء ناره . وكذلك كل ما وقع بين مجزومين . وعليه قراءة : يرثني ويرث من آل يعقوب بالرفع لم يجعله جواباً وإنما جعله وصفاً أي : وارثاً من يعقوب . فتدبره فإنه كثير . كذا في أبيات المعاني لابن السيد .
وقوله : كرهاً مفعول مطلق أي : تؤخذ أخذاً كرهاً . ويجوز أن يكون حالاً بتأويله باسم الفاعل .
وهو المناسب لقوله : طائعاً فإنه حال .
____________________

)
وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي ومع شهرته لا يعلم قائله وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والسبعون بعد الثلاثمائة ( وكنت كذي رجلين رجلٌ صحيحةٌ ** ورجلٌ رمى فيها الزّمان فشلّت ) على أنه يروى رجل بالجر على أنه بدل مع أخرى مفصل من رجلين . ويروى بالرفع على أنه بدل مقطوع .
أنشده سيبويه في باب مجرى النعت على المنعوت والبدل على المبدل منه قال : ومثل ما يجيء في هذا الباب على الابتداء وعلى الصفة والبدل قوله جل وعز : قَد كان لَكُمْ آيةٌ في فِئَتَينَ التَقتا فئةٌ تقاتلُ في سَبيل اللَّه وأخرى كَافِرةٌ . ومن الناس من يجر والجر على وجهين : على الصفة وعلى البدل .
ومنه قول كثير عزة : وكنت كذي رجلين رجل صحيحة . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ومثل ما يجيء في هذا الباب الخ يريد أنه يرفع على أنه خبر مبتدأ محذوف والتقدير : إحداهما فئة تقاتل الخ . والجملة صفة لفئتين .
وقوله : ومن الناس من يجر الخ يريد أن فئة بدل من فئتين . والصفة جائزة كما تقول : سررت برجلين قائم وقاعد . وإنما جعل فئة صفة لفئتين لأن فئة موصوفة فكان اعتماد الصفة في فئتين على صفة فئة كما تقول : مررت برجلين
____________________

رجل صادق ورجل كاذب .
وقول كثير : ورجل على رواية الرفع إما خبر مبتدأ محذوف تقديره هما رجل صحيحة ورجل أخرى أو تقديره إحداهما رجل صحيحة والأخرى رجل . فالكلام على الأول جملة واحدة وعلى الثاني جملتان . وإما مبتدأ محذوف الخبر والتقدير : منهما رجل صحيحة ومنهما رجل فالكلام جملتان .
وقال العيني : ويجوز نصب رجل في الموضعين على إضمار أعني . وعلى رواية جر رجل يكون على الإبدال من رجلين بدل نكرة من نكرة . وجه أورده ابن هشام في المغني والمرادي في شرح الألفية . وإنما أبدل لأجل الصفة وهو وصف الرجل الأولى بصحيحة والثانية بجملة رمى . )
ولما كان المبدل منه مثنى وجب الإتيان باسمين . ويعرف نحو هذا الإبدال ببدل المفصل من المجمل لأنه أجمل أولاً ثم فصل ثانياً . وجملة رمى الخ صفة لرجل الثانية . ومفعول رمى محذوف تقديره : رمى فيها الزمان داء فشلت .
وشلت : أصله سللت تشل شللاً من باب فرح . والشلل : آفة تصيب اليد أو الرجل فتيبس منها وقيل تسترخي . يقال : سلت يده وأشلها الله .
وقبل هذا البيت : ( وكنّا سلكنا في صعودٍ من الهوى ** فلمّا توافينا ثبتّ وزلّت ) ( أريد الثّواء عندها وأظنّها ** إذا ما أطلنا عندها المكث ملّت ) ( فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ** بجعل ضعيفٍ عزّ منها فضلّت ) ( وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ** وكان لها باغٍ سواي فبلّت ) الصعود بالفتح : خلاف الهبوط . والثواء بالفتح : الإقامة . وعز منه
____________________

بمعنى غلبه وقوي عليه .
وفي العباب : قال الفراء : يقال بلت مطيته على وجهها إذا همت ضالة . وأنشد هذا البيت وهو بالباء الموحدة .
واختلف أصحاب المعاني في معنى البيت الشاهد فقال الأعلم : تمنى أن تشل إحدى رجليه وهو عندها وتضل ناقته فلا يرحل عنها فيكون قوله : وكنت كذي رجلين الخ معطوفاً على قوله : قيدت ليدخل في التمني .
وقال ابن سيده : لما خانته عزة العهد فزلت عن عهده وثبت هو على عهدها صار كذي رجلين رجل صحيحة وهو ثباته على عهدها وأخرى مريضة وهو زللها عن عهده .
وقال عبد الدائم : معنى البيت أنه بين خوف ورجاء وقرب وثناء كما قال المتنبي : الطويل ( وأحلى الهوى ما شكّ في الوصل ربّه ** وفي الهجر فهو الدّهر يرجو ويتّقي ) وقال غيرهم : تمنى أن تضيع قلوصه فيبقى في حي عزة فيكون ببقائه في حيها كذي رجل حكى هذه الأقوال اللخمي وقال : وهذا القول الأخير هو المختار المعول عليه وهو الذي يدل عليه ما قبل البيت وهو اختيار الأستاذ أبي عبد الله بن أبي العافية . وقد أخذ كثير هذا البيت من النجاشي وهو قوله : الطويل
____________________

( وكنت كذي رجلين رجل صحيحةٍ ** ورجلٍ رمت فيها يد الحدثان ) ) ( فأمّا التي صحّت فأزد شنوءةٍ ** وأمّا التي شلّت فأزد عمان ) وقد أورده ابن رشيق في العمدة في السرقات الشعرية وسماه الاهتدام . قال : فأخذ كثير القسم الأول واهتدم باقي البيت فجاء بالمعنى في غير اللفظ .
وهذه القصيدة كلها نسيب بعزة وهي من منتخبات قصائده والتزم فيها ما لا يلزم الشاعر وذلك اللام قبل حرف الروي اقتداراً في الكلام وقوة في الصناعة وما خرم ذلك إلا في بيت واحد هو : ( فما أنصفت أمّا النّساء فبغّضت ** إليّ وأمّا بالنّوال فضنّت ) وهي قصيدة . وهذا مطلعها مع جملة أبيات منها وقعت شواهد للنحويين : ( خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ** قلوصيكما ثمّ ابكيا حيث حلّت ) ( وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتّى تولّت ) ( وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ** تخلّيت فيما بيننا وتخلّت ) ( لكالمبتغي ظلّ الغمامة كلّما ** تبوّا منها للمقيل اضمحلّت ) ( يكلّفها الغيران شتمي وما بها ** هواني ولكن للحليل استذلّت ) ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت )
____________________

( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ** لدينا ولا مقليّة إن تقلّت ) وقوله : وما كنت أدري قبل عزة الخ استشهد به ابن هشام في شرح الألفية على نصب موجعات عطفاً على محل مفعول أدري المعلق بما الاستفهامية لأن المعلق أبطل عمله لفظاً لا محلاً .
وقال في مغني اللبيب : فائدة الحكم على محل الجملة في التعليق بالنصب ظهور ذلك في التابع فتقول : عرفت من زيد وغير ذلك من أموره .
واستدل ابن عصفور بنصب موجعات من هذا البيت . ولك أن تدعي أن البكاء مفعول وأن ما زائدة أو أن الواو للحال وموجعات اسم لا أي وما كنت أدري قبل عزة والحالة أنه لا موجعات للقلب موجودة ما البكا . انتهى .
وقوله : وإني وتهيامي بعزة الخ التهيام بالفتح : مبالغة الهيام بالضم وهو كالجنون من العشق .
قال ابن جني في سر الصناعة : سألت أبا علي عن قول كثير : وإني وتهيامي بعزة البيت وجعل )
الجملة اعتراضاً بين اسم إن وخبرها لأن فيها ضرباً من التسديد للكلام . ويحتمل أن تكون الواو للقسم فالباء على هذا متعلقة بتهيامي . وعرضت هذا على أبي علي فقبله . انتهى .
وقد نقل ابن هشام ما حكيته عنهما في الجملة المعترضة من المغني .
وقوله : هنيئاً مريئاً غير داء الخ أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : كلوا واشربوا هَنِيئاً بما كُنتمُ تَعْملُون على أن الباء زائدة وما : فاعل هنيئاً وهو صفة استعملت استعمال المصدر القائم مقام الفعل كأنه قال : هنأكم الأكل والشرب .
وهنيئاً لعزة ما استحلت من أعراضنا . الهنيء والمريء صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ كشرف إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه . والمخامر : المخالط .
____________________


وقوله : أسيئي بنا أو أحسني الخ هذا التفات من الغيبة إلى الخطاب .
وأورده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : أنفقوا طَوْعاً أو كَرْهاً لن يُتقبَّل منكم على تساوي الإنفاقين في عدم القبول كما ساوى كثير بين الإحسان والإساءة في عدم اللوم .
والنكتة في مثل ذلك إظهار نفي تفاوت الحال بتفاوت فعل المخاطب كأنه يأمرها بذلك لتحقيق أنه على العهد . ومقلية بمعنى مبغضة من القلي وهو البغض . وقوله : إن تقلت التفات وروى صاحب الأغاني بسنده عن هيثم بن عدي قال : سأل عبد الملك بن مروان كثيراً عن أعجب خبر له مع عزة فقال : يا أمير المؤمنين حججت سنة وحج زوج عزة معها ولم يعلم أحدنا بصاحبه فلما كنا ببعض الطريق أمرها زوجها بابتياع سمن تصلح به طعاماً لرفقته فجعلت تدور الخيام خيمة خيمة حتى دخلت إلي وهي لا تعلم أنها خيمتي وكنت أبري سهماً فلما رأيتها جعلت أبري لحمي وأنظر حتى بريت ذراعي وأنا لا أعلم به والدم يجري فلما علمت ذلك دخلت إلي فأمسكت يدي وجعلت تمسح الدم بثوبها وكان عندي نحي سمن فحلفت لتأخذنه .
فأخذته وجاءت زوجها فلما رأى الدم سألها عن خبره فكاتمته حتى حلف عليها لتصدقنه . فصدقته فضربها وحلف عليها لتشتمني في وجهي فوقفت علي وهو معها وقالت لي وهي تبكي : يا ابن الزانية ثم انصرفا وذلك حيث أقول :
____________________

يكلّفها الغيران شتمي وما بها الأبيات الثلاثة . )
وروى صاحب الأغاني أيضاً قال : وقفت على جماعة تكلموا في وفي جميل : أينا أصدق عشقاً وهم لا يعرفونني ففضول جميلاً فقلت لهم : قد ظلمتم كثيراً كيف يكون جميل أصدق ( رمى اللّه في جفني بثينة بالقذى ** وفي الغرّ من أنيابها بالقوادح ) وكثير حين أتاه ما يكره من عزة قال : هنيئاً مريئاً غير داء مخامر . . . . . . . . . . . . . البيت وهذه القصيدة جيدة فلا بأس بإيرادها على رواية أبي علي القالي في أماليه قال : قرأت هذه القصيدة على أبي بكر بن دريد في شعر كثير وهي من منتخبات كثير وأولها : ( خليليّ هذا ربع عزّة فاعقلا ** قلوصيكما ثمّ ابكيا حيث حلّت ) ( ومسّا تراباً كان قد مسّ جلدها ** وبيتاً وظلاّ حيث باتت وظلّت ) ( ولا تيأسا أن يمحو اللّه عنكما ** ذنوباً إذا صلّيتما حيث صلّت ) ( وما كنت أدري قبل عزّة ما البكا ** ولا موجعات القلب حتّى تولّت ) ( وقد حلفت جهداً بما نحرت له ** قريشٌ غداة المأزمين وصلّت ) ( أناديك ما حجّ الحجيج وكبّرت ** بفيفا غزالٍ رفقةٌ وأهلّت ) ( وكانت لقطع العهد بيني وبينها ** كنا ذرةٍ نذراً فأوفت وحلّت ) ويروى : وفت فأحلت ( فقلت لها يا عزّ كلّ مصيبةٍ ** إذا وطّنت يوماً لها النّفس ذلّت )
____________________

( كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت ) ( صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت ) ( أباحت حمىً لم يرعه النّاس قبلها ** وحلّت تلاعاً لم تكن قبل حلّت ) ( فليت قلوصي عند عزّة قيّدت ** بقيدٍ ضعيقٍ فرّ منها فضلّت ) ( وغودر في الحيّ المقيمين رحلها ** وكان لها باغٍ سواي فبلّت ) ( وكنت كذي رجلين في رجلٍ صحيحةٍ ** ورجلٍ رمى فيها الزّمان فشلّت ) ( وكنت كذات الظّلع لمّا تحاملت ** على ظلعها بعد العثار استقلّت ) ( أريد الثّواء عندها وأظنّها ** إذا ما أطلنا عندها المكث ملّت ) ( فما أنصفت أمّا النّساء فبغّضت ** إلينا وأمّا بالنّوال فضنّت ) ) ( يكلّفها الغيران شتمي وما بها ** هواني ولكن للمليك استذلّت ) ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزّة من أعراضنا ما استحلّت ) قال أبو علي : قي لكثير : أنت أشعر أم جميل فقال : بل أنا . فقيل له : أتقول هذا وأنت راويته قال جميل الذي يقول : وأنا أقول : هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامر . . . . . . . . . . . . . البيت ( وواللّه ما قاربت إلاّ تباعدت ** بصرمٍ ولا أكثرت إلاّ أقلّت )
____________________

( فإن تكن العتبى فأهلاً ومرحباً ** وحقّت لها العتبى لدينا وقلّت ) ( وإن تكن الأخرى فإنّ وراءنا ** منادح لو سارت بها العيس كلّت ) ( خليليّ إنّ الحاجبيّة طلّحت ** قلوصيكما وناقتي قد أكلّت ) ( فلا يبعدن وصلٌ لعزّة أصبحت ** بعاقبةٍ أسبابه قد تولّت ) ( أسيئي بنا أو أحسني لا ملومةً ** لدينا ولا مقليّةً إن تقلّت ) ( ولكن أنيلي واذكري من مودّةٍ ** لنا خلّةً كانت لديك فضلّت ) ( وإنّي وإن صدّت لمثنٍ وصادقٌ ** عليها بما كانت إلينا أزلّت ) ( فما أنا بالدّاعي لعزّة بالجوى ** ولا شامتٌ إن نعل عزّة زلّت ) ( فلا يحسب الواشون أنّ صبابتي ** بعزّة كانت غمرةً فتجلّت ) ( فأصبحت قد أبللت من دنفٍ بها ** كما أدنفت هيماء ثمّ استبلّت ) ( وواللّه ثمّ اللّه ما حلّ قبلها ** ولا بعدها من خلّةٍ حيث حلّت ) ( فأضحت بأعلى شاهقٍ من فؤاده ** فلا القلب يسلاها ولا العين ملّت ) ( فيا عجباً للقلب كيف اعترافه ** وللنّفس لمّا وطّنت كيف ذلّت )
____________________

( وإنّي وتهيامي بعزّة بعد ما ** تخلّيت ممّا بيننا وتخلّت ) ( لكالمرتجي ظلّ الغمامة كلّما ** تبوّأ منها للمقيل اضمحلّت ) ( كأنّي وإيّاها سحابة ممحلٍ ** رجاها فلمّا جاوزته استهلّت ) قال أبو علي : المأزمان : عرفة والمزدلفة . وأناديك : أحادثك مأخوذ من الندي والنادي جميعاً )
وهو المجلس . وميعة كل شيء : أوله . والصفوح : المعرضة . وبلت : ذهبت .
قال أبو علي : ما أعرف بلت ذهبت إلا في تفسير هذا البيت . ولا العتبى : الإعتاب يقال : عاتبني فلان فأعتبته إذا نزعت عما عاتبك عليه والعتبى الاسم والإعتاب المصدر .
وقوله : طلحت الطلح : المعيي الذي قد سقط من الإعياء . وطلت : هدرت . وأزلت : اصطنعت . ويقال : بل من مرضه وأبل واستبل إذا برأ . واعترافه : اصطباره يقال : نزلت به مصيبة فوجد عروفاً أي : صبوراً . والعارف : الصابر . هذا ما أورده أبو علي القالي .
وروى السيوطي : في شرح شواهد مغني اللبيب عن أبي الحسن بن طباطبا في كتاب عيار الشعر أن العلماء قالوا : لو أن كثيراً جعل قوله : في وصف حرب لكان أشعر الناس . ولو جعل قوله أسيئي بنا أو أحسني البيت في وصف الدنيا كان أشعر الناس .
وكثير بضم الكاف وفتح المثلثة وكسر الباء المشددة التحتية . وهو كثير ابن عبد الرحمن بن أبي جمعة بن الأسود بن عامر .
وقال اللخمي : هو كثير بن أبي جمعة . وهو خزاعي وأبو خزاعة الصلت بن النضر بن كنانة .
____________________


وفي ذلك يقول كثير : الطويل ( أليس أبي بالنّضر أم ليس والدي ** لكلّ نجيبٍ من خزاعة أزهرا ) فحقق كثير أنه من قريش . وقيل إنه أزدي من قحطان . وهو شاعر حجازي من شعراء الدولة الأموية ويكنى أبا صخر واشتهر بكثير عزة بالإضافة إلى عزة وهي محبوبته وغالب شعره تشبيب بها .
وعزة بفتح العين المهملة وتشديد الزاي . والعزة في اللغة : بنت الظبية وبها سميت . وهي كما قال ابن الكلبي : عزة بنت حميل بضم المهملة ابن حفص بفتحها من بني حاجب بن غفار بكسر المعجمة وخفة الفاء وكنيتها أم عمرو الضمرية نسبة إلى قبيلة ضمرة . وكثيراً ما يطلق عليها الحاجبية نسبة إلى جدها الأعلى كقوله في هذه القصيدة : الطويل ومن الغرائب تفسير العيني للحاجبية هنا بالرمل الطويل . وهو غفلة عن نسبها .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : بعثت عائشة بنت طلحة بن عبيد الله إلى كثير فقالت له : يا ابن أبي جمعة ما الذي يدعوك إلى ما تقول من الشعر في عزة وليست على ما تصف من )
الجمال لو شئت صرفت ذلك إلى من هو أولى به منها أنا أو مثلي فأنا أشرف وأوصل من عزة وإنما أرادت تجربته بذلك فقال : الطويل ( إذا وصفلتنا خلةٌ كي تزيلها ** أبينا وقلنا : الحاجبيّة أوّل ) ( لها مهلٌ لا يستطاع دراكه ** وسابقةٌ ملحبّ لا تتحوّل )
____________________

( سنوليك عرفاً إن أردت وصالنا ** ونحن لتلك الحاجبيّة أوصل ) فقالت عائشة : والله لقد سميتني لك خلة وما أنا لك وعرضت علي وصالك وما أريد هلا قلت كما قال جميل : الكامل ( يا ربّ عارضةٍ علينا وصلها ** بالجدّ تخلطه بقول الهازل ) ( فأجبتها بالرّفق بعد تستّرٍ ** حبّي بثينة عن وصالك شاغلي ) ( لو كان في قلبي كقدر قلامةٍ ** وصلتك كتبي أو أتتك رسائلي ) وروى القالي في أماليه عن العتبي قال : دخلت عزة على عبد الملك بن مروان فقال لها : أنت ( وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها ** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر ) قالت : لا أروي هذا ولكني أروي قوله : الطويل ( كأنّي أنادي صخرةً حين أعرضت ** من الصّمّ لو تمشي بها العصم زلّت ) ( صفوحاً فما تلقاك إلاّ بخيلةً ** فمن ملّ منها ذلك الوصل ملّت ) وروى ابن قتيبة في كتاب الشعراء إن عائشة بنت طلحة قالت لعزة : أرأيت قول كثير : الطويل ( قضى كلّ ذي دينٍ فوفّى غريمه ** وعزّة ممطولٌ معّنى غريمها ) ما كان ذلك الدين قالت : وعدته قبلةً فتحرجت منها . فقالت : اقضيها وعلي إثمها .
____________________


قال صاحب الأغاني : كان ابن إسحاق يقول : كثير أشعر أهل الإسلام وكانت له منزلة عند قريش وقدر وكان عبد الملك معجباً بشعره .
وقال الجمحي : كان لكثير في النسيب نصيب وافر وجميل مقدم عليه وعلى أصحاب النسيب جميعاً في النسيب وكان له من فنون الشعر ما ليس لجميل وكان راوية جميل . وإنما صغر اسمه لشدة قصره وحقارته .
وقال الوقاصي : رأيت كثيراً يطوف بالبيت فمن حدثك أنه يزيد على ثلاثة أشبار فلا تصدقه وكان إذا دخل على عبد الملك أو أخيه عبد العزيز يقول : طأطئ رأسك لا يصيبه السقف ) ( قصير قميصٍ فاحشٌ عند بيته ** يعضّ القراد باسته وهو قائم ) وروى صاحب الأغاني عن طلحة بن عبيد الله قال : ما رأيت أحمق من كثير دخلت عليه يوماً في نفر من قريش وهو مريض وكنا كثيراً ما نهزأ به وكان يتشيع تشيعاً قبيحاً فقلت له : كيف تجدك يا أبا صخر قال : أجدني ذاهباً . قلت : كلا . قال : فهل سمعت الناس يقولون في شيئاً قلت : نعم يتحدثون بأنك الدجال . قال : أما لئن قلت ذاك فإني لأجد في عيني هذه ضعفاً منذ أيام .
فقال له محمد بن علي : تزعم أنك من شيعتنا وتمدح آل مروان قال : إنما أسخر منهم وأجعلهم حيات وعقارب وآخذ أموالهم .
وكانت وفاته في خلافة يزيد بن عبد الملك بالمدينة المنورة على ساكنها أفضل الصلاة والسلام .
قال جويرية بن أسماء : مات كثير وعكرمة مولى بن عباس في يوم واحد فقال الناس : اليوم مات أفقه الناس وأشعر الناس ولم يتخلف رجل ولا امرأة عن
____________________

جنازتيهما وذلك في سنة خمس أو سبع ومائة وغلبت النساء على جنازة كثير يبكينه . ويقال : أنه لما حضرته الوفاة قال : الوافر ( برئت إلى الإله من ابن أروى ** ومن دين الخوارج أجمعينا ) ( ومن عمرٍ برئت ومن عتيقٍ ** غداة دعي أمير المؤمنينا ) قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : هذا الشعر من حماقته ورفضه . وابن أروى هو عثمان بن عفان رضي الله عنه .
وقد أطنب الأصبهاني في الأغاني في ترجمته .
____________________

( عطف البيان ) أنشد فيه : أقسم باللّه أبو حفص عمر تقدم الكلام عليه في الشاهد الثامن والخمسين بعد الثلاثمائة .
وأنشد بعده : أنا ابن التّارك البكريّ بشرٌ تقدم أيضاً ما يتعلق به في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين . والله أعلم . ( المبنيات )
____________________

( المضمر ) أنشد فيه : تمامه : والمرء عند الرّشا إن يلقها ذيب وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثاني والثمانين .
وأنشد بعده :
الشاهد الرابع والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر إذا زجر السّفيه جرى إليه تمامه : وخالف والسّفيه إلى خلاف على أن الضمير في إليه راجع على المصدر المدلول عليه بالوصف أي : إلى السفه .
____________________


وهذا البيت أورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولكنَّ البرَّ من آمنَ باللّه في توجيه صحة الخبر عن المبتدأ فيه قال : من كلام العرب قولهم : إنما البر الصادق الذي يصل رحمه ويخفي صدقته فيجعل الاسم خيراً للفاعل والفعل خبراً للاسم لأنه أمر معروف المعنى .
فأما الفعل الذي جعل خبراً للاسم فقوله تعالى : ولا تَحسَبَنّ الذينَ يَبخلونَ بما آتاهم اللَّهُ مِنْ فَضْلهِ هو خيراً لهم فهو كناية عن البخل . فهذا لمن جعل الذين في موضع نصب وقرأها تحسبن بالتاء من فوق ومن قرأ بالياء من تحت جعل الذين في موضع رفع وجعل عماداً للبخل المضمر فاكتفى بما ظهر في يبخلون من ذكر البخل . ومثله في الكلام : البسيط ( هم الملوك وأبناء الملوك لهم ** والآخذون به والسّاسة الأول ) وقوله : به يريد بالملك .
وقال الآخر : إذا نهي السّفيه جرى إليه البيت يريد إلى السفه . انتهى .
وأنشده ثعلب أيضاً في أماليه وقال : أي : جرى إلى السفه . واكتفى بالفعل من المصدر .
وأورده ابن جني أيضاً في إعراب الحماسة عند قوله : الطويل ( ولم أر قوماً مثلنا خير قومهم ** أقلّ به منّا على قومهم فخرا )
____________________

وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر بعد الثلاثمائة .
وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الأعمش : ومن يرد ثواب الدنيا يؤته منها ومن يرد ثواب الآخرة يؤته منها وسيجزى الشاكرين بالياء فيهما . قال : أضمر الفاعل لدلالة الحال عليه إذا زجر السّفيه جرى إليه . . . . . . . . . . . . . . البيت )
أقول : هذا ليس من قبيل إضمار الفاعل في قراءة الأعمش كما هو ظاهر . وقوله بعد هذا وكما أضمر المصدر مجروراً أعني الهاء في إليه يعني إلى السفه . كذلك أيضاً أضمره مرفوعاً بفعله لم أفهم معنى قوله أضمره مرفوعاً بفعله وفاعل جرى وخالف ضمير السفه .
وأورده ابن الشجري أيضاً عند شرح قول الشاعر : الوافر ( ومن يك بادياً ويكن أخاه ** أبا الضّحاك ينتسج الشّمالا ) قال : الهاء في قوله أخاه عائدة إلى البدو الذي هو ضد الحضر يقال : بدا فلان يبدو بدواً إذا حل في البدو دل على عود الهاء إلى البدو قوله بادياً كما دل السفيه على السفه فأضمره القائل : إذا نهي السّفيه جرى إليه . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله قول القطامي : هم الملوك وأبناء الملوك لهم البيت المذكور . ثم ذكر كلام الفراء من غير أن يعزوه إليه . ثم قال ومثل ذلك قوله تعالى : وإنْ تَشكرُوا يَرضهُ لكُمْ أي : يرض الشكر . وكذلك قوله تعالى : الذينَ قالَ لهم النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قد
____________________

قال : وقوله : أبا الضحاك نصب على النداء فكأنه قال : ومن يك بادياً ويكن أخا البدو : يا أبا الضحاك . وجعله أخا البدو كقولك : يا أخا العرب ويا أخا الحضر .
وإنما قال : ومن يك بادياً ثم قال : ويكن أخا البدو لأنه قد يحل في البدو من ليس من أهل البدو فسمي بادياً ما دام مقيماً في البدو . والشمال : هنا وعاء كالكيس يجعل فيه ضرع الشاة يحفظ به . يقال : شملت الشاة أي : جعلت لها شمالاً . وينتسج : يفتعل من قولك : نسجت الثوب . فالمعنى : من يكن من أهل البدو يمارس ما يحتاج إليه الغنم . انتهى مختصراً .
وقوله : إذا زجر هو بالبناء للمفعول ورواه الجماعة : إذا نهي مثله . ومتعلق النهي عام محذوف أي : عن أي شيء كان . وقوله : وخالف مفعوله محذوف أي : خالف زاجره . وقوله : والسفيه إلى خلاف جملة تذييلية أي : شأن السفيه الميل إلى مخالفة الناصح .
وهذا البيت لم يعزه الفراء إلى أحد . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الخامس والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر ( ولو أنّ الأطبّا كان حولي ** وكان مع الأطبّاء الأساة ) ولو أن الأطباء كانوا حولي فحذفت الواو ضرورة وبقيت الضمة دليلاً عليها .
____________________


وأورده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى في سورة البقرة : فلا تخشَوْهُمْ واخشَوْنِي ولأتمَّ نِعمتي عَليكمْ قال : وقوله : واخشوني أثبتت فيها الياء ولم تثبت في غيرها وكل ذلك صواب . وإنما استجازوا حذف الياء لأن كسرة النون تدل عليها وليست العرب تهاب حذف الياء من آخر الكلام إذا كان ما قبلها مكسوراً .
من ذلك : أكرمن وأهانن في سورة الفجر . وقوله : أتمدُّوننِ بمالٍ . ومن غير النون : المناد والداع وهو كثير يكتفى من الياء بكسرة ما قبلها ومن الواو بضمة ما قبلها مثل قوله سَندْعُ الزَّبانِية ويَدْعُ الإنسانُ وما أشبهه . وقد تسقط العرب الواو وهي واو جمع اكتفاءً بالضمة قبلها فقالوا في ضربوا : قد ضرب وفي قالوا : قد قال . وهي في هوازن وعليا قيس أنشدني بعضهم : الوافر
____________________

إذا ما شاء ضرّوا من أرادوا وأنشدني الكسائي : البسيط كأنّهم بجناحي طائرٍ طار وأنشدني بعضهم : وتفعل ذلك في ياء التأنيث من تحت كقول عنترة : الكامل ( إنّ العدوّ لهم إليك وسيلةٌ ** إن يأخذوك تكحّلي وتخضّب ) يحذفون الياء وهي دليل على الأنثى اكتفاءً بالكسر . انتهى .
وظاهر كلامه أن هذا لغة لا ضرورة .
وأورده صاحب الكشاف أيضاً في سورة المؤمنين شاهداً لقراءة من قرأ : قد أفلح بضم الحاء اجتزاء بالضمة عن الواو والأصل قد أفلحوا على لغة أكلوني البراغيث .
ونقل ابن هشام في المغني في الجهة الرابعة من الكتاب الخامس عن التبريزي في قراءة يحيى بن يعمر : على الذي أحسن بالرفع أن أصله أحسنوا
____________________

فحذفت الواو اجتزاءً عنها بالضمة كما قال : )
إذا شاء ما ضرّوا من أرادوا البيت ثم قال : وحذفت الواو . وإطلاق الذي على الجماعة ليس بالسهل والأولى قول الجماعة إنه بتقدير مبتدأ أي : هو أحسن . وأما قول بعضهم في قراءة ابن محيصن : لمن أراد أن يتم الرضاعة إن الأصل أن يتموا بالجمع فحسن لأن الجمع على معنى من . ولكن أظهر منه قول الجماعة : إنه جاء على إهمال أن الناصبة . انتهى مختصراً .
وهذا الكلام أيضاً يدل على أنه غير ضرورة .
وفي البيت شاهد آخر وهو قصر الممدود وبه أورده ثعلب في أماليه قال : قصر الأطباء في أول البيت ومد في آخره وأصله المد . وأما قوله : كان حولي فإنه اكتفى بالضمة عن واو الجمع .
هذه عبارته .
وأورده ابن الأنباري أيضاً في مسائل الخلاف في موضعين بالوجهين ذكره في المسألة الخامسة والسبعين في مسألة فعل الأمر هل هو معرب أو مبني على أن الاكتفاء بالضمة ضرورة .
وأورده في المسألة الثانية عشرة بعد المائة في المقصور والممدود على قصر الأطبا لضرورة الشعر .
قال : والقياس يوجب مده لأن الأصل في طبيب أن يجمع على طيباء كشريف وشرفاء إلا أنه اجتمع حرفان متحركان من جنس واحد فاستثقلوا اجتماعهما فنقلوه من فعلاء إلى أفعلاء فصار أطبباء فاستثقلوا أيضاً اجتماع حرفين متحركين من جنس واحد فنقلوا كسرة الباء إلى الطاء وأدغموا .
____________________


وأطنب في الموضعين وبين حجج الفريقين وجاء بما يجلو العين ويمحو عن القلب الرين .
وروى بعد البيت الشاهد بيتاً ثانياً والرواية عنده هكذا : ( فلو أنّ الأطبّا كان حولي ** وكان مع الأطبّاء الشّفاة ) والطب بالكسر في اللغة : الحذق . والطبيب : الحاذق . والأساة : جمع آس كقضاة جمع قاض .
قال في الصحاح : الآسي : الطبيب . وكذلك الشفاة جمع شاف .
وقوله : إذن ما أذهبوا جواب لو . ورواية العيني تقديم الأساة في قافية البيت الأول وتأخير الشفاة في قافية البيت الثاني .
ولم يعزهما الفراء فمن بعده إلى أحد . والله أعلم . )
وأنشد بعده الشاهد السادس والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل ( بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) على أنه جاء على لغة أكلوني البراغيث .
قال سيبويه : واعلم أن من العرب من يقول : ضربوني قومك وضرباني أخواك فشبهوا هذا بالتاء التي يظهرونها في قالت فلانة وكأنهم أرادوا أن يجعلوا للجمع علامةً كما جعلوا للمؤنث وهي قليلة .
____________________

( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه ** بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) انتهى . ف أقاربه فاعل يعصر والنون علامة لكون الفاعل جمعاً كتاء التأنيث .
قال ابن هشام في شرح شواهده : إنما قال يعصرن لأنه شبههم بالنساء لأنهم لا شجاعة لهم والخدمة والتبذل في العرب إنما هو للنساء وإما الرجال فشغلهم بالحروب . وقيل شبهه ببعير ديافي ثم أقبل يصف أقارب البعير وأقاربه جمال . فلذلك جاء بالنون . انتهى .
أقول : الوجه الثاني بعيد لا قرينة له ويزيده بعداً يعصرن السليط .
قال ابن خلف : وفي رفع أقاربه أوجه أخر : أحدها : يجوز أن يكون مبتدأ ويعصرن خبر مقدم عليه وهذا سائغ عند أهل البصرة كما قالوا : مررت به المسكين يريدون : المسكين مررت به .
قال أبو علي : وفيه مع هذا قبح لأن الخبر جملة وليس بمفرد فلا ينبغي أن يجوز فيه ما جاز في الأصل الذي هو المفرد . وأهل الكوفة لا يجيزون مثل هذا . ويحتمل أن يكون رفعاً بحوران ويكون بحوران صفة لديافي ويعصرن حالاً من الأقارب .
ويجوز أن يكون بدلا من النون كما قيل في : وأسَرُّوا النَّجْوَى الذين ظَلَمُوا . ويجوز أن يكون خبر مبتدأ مضمر والجملة جواب لسؤال مقدر كأنه لما قيل بحوران يعصرن السليط فقيل : من أقول : هذه الوجوه الأربعة مبنية على أن النون ضمير وهذه النون في البيت سواء كانت حرفاً أم اسماً تدل على صحة ما نقله الشارح المحقق في باب التوكيد عن الأندلسي من جواز رجوع ضمير جماعة المؤنث إلى الجمع المكسر العاقل فكان ينبغي أن يستدل بهذا البيت دون البيت )
المتقدم لخفائه كما تقدم .
____________________


وقوله : ديافي خبر لمبتدأ محذوف تقديره : لكن أنت ديافي يدل عليه قوله فيما قبله : لو كنت ضبياً أو هو ديافي : لقوله فلو كان ضبياً كما يأتي . وهو منسوب إلى دياف بكسر الدال بعدها مثناة تحتية وآخره فاء .
قال صاحب العباب : دياف من قرى الشام وأهلها نبط الشام وتنسب الإبل إليها والسيوف .
وإذا عرضوا برجل أنه نبطي نسبوه إليها .
قال : ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه البيت وهذا يدل على أن ديافاً بالشام لا بالجزيرة كما قيل لأن حوران من رساتيق دمشق .
وكذا قال الحسن السكري في شرح ديوانه : وقال جرير : الرجز ( إنّ سليطاً كاسمه سليط ** لولا بنو عمروٍ وعمرٌ عيط ) أراد : عمرو بن يربوع وهم حلفاء بني سليط .
وقال الأخطل : الطويل ( كأنّ بنات الماء في حجراته ** أباريق أهدتها ديافٌ لصرخدا ) انتهى .
____________________


ولم يورد أبو عبيد البكري دياف في معجم ما استعجم .
وأبوه مرفوع بديافي لأنه خبر سببي . وأتى بضمير الغيبة لأن التقدير أنت رجل ديافي أبوه . وأمه معطوف عليه .
وقوله : بحوران متعلق ب يعصرن وجملة : يعصرن صفة لديافي وضمير أقاربه راجع عليه . هذا هو الظاهر .
وذكر ابن خلف أوجهاً متعسفة في إعراب كل لفظة من هذا البيت لا فائدة في نقلها .
ويعصرن بكسر الصاد . قال صاحب المصباح : عصرت العنب ونحوه عصراً من باب ضرب : استخرجت ماءه وأراد هنا يستخرجن السليط بفتح السين وكسر اللام . قال الصاغاني في العباب : السليط الزيت عند عامة العرب وعند أهل اليمن دهن السمسم .
وقال ابن دريد وابن فارس : السليط بلغة أهل اليمن وبلغة من سواهم : دهن السمسم : أقول : )
الأمر على خلافه فإني سمعت أهل مكة حرسها الله تعالى وأهل تهامة واليمن يسمون دهن السمسم : السليط . انتهى .
وقال ابن خلف : السليط الشيرج وهو هنا الزيت لأن حوران من مدن الشام وأهلها نبط فهي بعصر الزيت أشهر منها بعصر الشيرج . وقد يجوز أن يكون الشيرج لأنه يعصر بالشام كما يعصر الزيت . والدليل على أن السليط يقع على الزيت قول النابغة الجعدي : المتقارب ( أضاءت لنا النّار وجهاً أغ ** رّ ملتبساً بالفؤاد التباسا )
____________________

( يضيء كضوء سراج السّلي ** ط لم يجعل اللّه فيه نحاسا ) والنحاس : الدخان وذلك معدوم في الزيت وأما الشيرج فكثير الدخان . هجاه بذلك إذ جعله من أهل القرى المستخدمين لإقامة عيشهم ونفاه عما عليه العرب من الانتجاع والحرب .
والبيت من أبيات للفرزدق وهي : الطويل ( ستعلم يا عمرو بن عفرى من الذي ** يلام إذا ما الأمر عيّت عواقبه ) ( فلو كنت ضبّيّاً صفحت ولو سرت ** على قدمي حيّاته وعقاربه ) ( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمّه ** بحوران يعصرن السّليط أقاربه ) ( ولمّا رأى الدّهنا رمته حبالها ** وقالت ديافيٌّ مع الشام جانبه ) ( تضنّ بمال الباهليّ كأنّما ** تضنّ على المال الذي أنت كاسبه ) ( وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له ** حريماً ولا تنهاه عنّي تجاربه ) ( كمحتطبٍ يوماً أساود هضبةٍ ** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه ) ( أحين التقى ناباي وابيضّ مسحلي ** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه ) روى صاحب الأغاني بسنده عن محمد بن سلام قال : أتى الفرزدق عبد الله بن مسلم الباهلي فسأله فثقل عليه الكثير وخشيه في القليل وعنده عمرو بن عفراء الضبي راوية الفرزدق وقد كان هجاه جرير لروايته
____________________

للفرزدق في قوله : الطويل ( ونبّئت جوّاباً وسكناً يسبّني ** وعمرو بن عفرى لاسلامٌ على عمرو ) فقال ابن عفراء الضبي : لا يهولنك أمره . فقال : وكيف ذاك قال : أنا أرضيه عنك بدون ما كان هم له به . فأعطاه ثلثمائة درهم فبلغ الفرزدق صنيع عمرو فقال هذه الأبيات .
قال : فأتاه ابن عفراء في نادي قومه فقال له : اجهد جهدك هل هو إلا هذا والله لا أدع لك )
مساءةً إلا أتيتها ولا تأمرني بشيء إلا اجتنبته ولا تنهاني عن شيء إلا ركبته . قال : فاشهدوا أني أنهاه أن ينيك أمه . فضحك القوم وخجل ابن عفراء . وروى أيضاً بعد هذا في موضع آخر عن يونس النحوي قال : مدح الفرزدق عمرو بن مسلم الباهلي فأمر له بثلثمائة درهم وكان عمرو بن عفراء الضبي صديقاً لعمرو فلامه وقال : أتعطي الفرزدق ثلثمائة درهم وإنما كان يكفيه أن تعطيه عشرين درهماً فبلغ ذلك الفرزدق فقال : الطويل ( نهيت ابن عفرى أن يعفّر أمّه ** كعفر السّلى إذ جرّدته ثعالبه ) ( وإنّ امرأً يغتابني لم أطأ له ** حريما فلا تنهاه عنّي أقاربه ) ( كمحتطبٍ ليلاً أساود هضبةٍ ** أتاه بها في ظلمة اللّيل حاطبه ) ( ألمّا استوى ناباي وابيضّ مسحلي ** وأطرق إطراق الكرا من أحاربه ) ( فلو كان ضبّيّاً صفحت ولو سرت ** على قدمي حيّاته وعقاربه ) ( ولكن ديافيٌّ أبوه وأمه ** بحوران يعصرن . . البيت انتهى )
____________________

وقال ابن خلف وصاحب العباب : سبب هذا الشعر أن عمرو بن عفراء الضبي قال لعبد الله بن مسلم الباهلي : وقد أعطى الفرزدق خلعة وحمله على دابة وأمر له بألف درهم فقال له عمرو بن عفراء : ما يصنع الفرزدق بهذا الذي أعطيته إنما يكفي الفرزدق ثلاثون درهماً يزني بعشرة ويأكل بعشرة ويشرب بعشرة . فهجاه الفرزدق بهذا . انتهى .
وقوله : ستعلم يا عمرو الخ هذا تهديد وعفراء بالمد قصر ضرورةً فكتب بالياء وهي أمه .
وعي : بمعنى لم يهتد لوجهه .
وقوله : فلو كنت ضبياً الخ نفاه عن قبيلته لكونه سكن القرى ولم يكن على طريقة العرب .
وقوله : ولما رأى الدهنا الخ الدهنا يمد ويقصر وهو موضع ببلاد تميم . وحبالها : أسبابها .
وديافي بتقدير هو ديافي وجملة : مع الشام جانبه صفة له وجواب لما محذوف والتقدير سكن الشام ونحوه . وقال الحسن السكري : الواو هنا مقحمة في وقالت : لا موضع لها أراد قالت .
انتهى .
وقوله : فإن تغضب الدهنا هذا وجه رمي الدهنا له فإنه سوقي يتاجر بالزيت . والدهنا لا )
تقبل من هو كذا . وقوله : تضن أي : تبخل .
وقوله : كمحتطب يوماً الخ هو خبر إن في قوله وإن امرأ وهو الذي يجمع الحطب . والأساود : جمع أسود وهو العظيم من الحيات وفيه سواد . والهضبة : الجبل المنبسط على وجه الأرض أشار إلى المثل المشهور لمن يتكلم
____________________

بالغث والسمين : حاطب ليل لأنه لا يبصر ما يجمع في حبله ربما يجمع في حطبه حيةً يكون هلاكه بها .
وقوله : أحين التقى ناباي الخ التقاء النابين واستواؤهما كناية عن بلوغ الأشد . والمسحل : بكسر الميم وسكون السين وفتح الحاء المهملتين : عارض الرجل أي : صفحة خده . وأطرق أي : أرخى عينيه ينظر إلى الأرض .
والكرا لغة في الكروان . يقول : أيؤذيني في وقت شدتي وحين تهابني أقراني وأطرقوا مني كإطراق الكروان . والاستفهام إنكاري .
وقوله : نهيت ابن عفري أن يعفر أمه الخ التعفير : التمريغ في التراب . والسلى بفتح السين المهملة والقصر هو الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من المواشي .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والسبعون بعد الثلاثمائة : الرجز ( إن كنت أدري فعليّ بدنه ** من كثرة التّخليط أنّي من أنه ) على أنه قد يبين فتح أنا في الوقف بهاء السكت كما في آخر القافية في هذا البيت .
قال ابن جني في سر الصناعة : فأما قولهم في الوقف على أن فعلت : أنا وأنه فالوجه أن تكون الهاء في أنه بدلاً من الألف في أنا لأن الأكثر في الاستعمال إنما هو أنا بألف والهاء قليلة جداً فهي بدل من الألف .
ويجوز أن تكون الهاء أيضاً في أنه ألحقت لبيان الحركة كما ألحقت الألف ولا تكون بدلاً منها بل قائمةً بنفسها كالتي في قوله تعالى : كتابِيَهْ و حِسَابِيهْ و سُلطَانِيَهْ و مَالِيَهْ و ماهيَهْ .
انتهى .
____________________


والبدنة قال صاحب المصباح : قالوا هي ناقة أبو بقرة . وزاد الأزهري أو بعير ذكر . قال : لا تقع البدنة على الشاة . وقال بعض الأئمة : البدنة هي : الإبل خاصة وإنما ألحقت البقرة بالإبل بالسنة .
وقوله : من كثرة متعلق بالفعل المنفي ضمناً أي : ما أدري من كثرة التخليط .
قال صاحب الصحاح : والتخليط في الأمر : الإفساد فيه . وقوله : أني بفتح الهمزة . وقوله : من أنه من عند سيبويه مبتدأ وأنه خبر وعند غيره بالعكس والجملة في محل رفع خبر أني من أنه في محل نصب ساد مسد مفعولي أدري .
وهذا البيت لم أقف له على أثر . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والسبعون بعد الثلاثمائة الوافر ( أنا سيف العشيرة فاعرفوني ** حميداً قد تذرّيت السّناما ) قال ابن جني في شرح تصريف المازني أما الألف في أنا في الوقف فزائدة ليست بأصل . ولم نقض بذلك فيها من جهة الاشتقاق . هذا محال في الأسماء المضمرة لأنها مبنية كالحروف ولكن قضينا بزيادتها من حيث كان الوصل يزيلها ويذهبها كما يذهب الهاء التي تلحق لبيان الحركة في الوقف .
____________________


ألا ترى أنك تقول في الوصل : أن زيد كما قال تعالى : إنِّي انا ربَّك تكتب بألف بعد النون وليست الألف في اللفظ وإنما كتبت على الوقف فصار سقوط الألف في الوصل كسقوط الهاء التي تلحق في الوقف لبيان الحركة في الوصل وبينت الفتحة بالألف كما بينت بالهاء لأن الهاء ماورة للألف .
وقد قالوا في الوقف : أنه فبينوا الفتحة بالهاء كما بينوها بالألف وكلتاهما ساقطة في الوصل .
فأما قول الشاعر : انا سيف العشيرة فاعرفوني . . . . . . . . . . . . البيت فإنما أجراه في الوصل على حد ما كان عليه في الوقف . وقد أجرت العرب كثيراً من ألفاظها في الوصل على حد ما تكون عليه في الوقف وأكثر ما يجيء ذلك في ضرورة الشعر . انتهى .
وحميداً بدل من ياء اعرفوني لبيان الاسم أو هو منصوب على المدح .
قال أبو بكر الخفاف في شرح الجمل : قال الزجاج : حميداً بدل من الياء وهذا لا حجة فيه لاحتمال أن يكون منصوباً بإضمار فعل على المدح كأنه قال : فاعرفوني مشهوراً . وأناب قوله حميداً مناب قوله مشهوراً لكونه علماً . وحميد يروى مصغراً ومكبراً .
وأنشد صاحب الصحاح بدله جميعاً . وتذريت السنام بمعنى علوته من الذروة والذروة بالكسر والضم وهو أعلى السنام . وحقيقة تذريت السنام علوت ذروته .
ونسب ياقوت هذا البيت في حاشية الصحاح إلى حميد بن بحدل شاعر .
وقال ابن الأعرابي : بحدل الرجل إذا مالت لثته أي : لحم أسنانه . وقال الأزهري : البحدلة الخفة في السعي . قال : وسمعت أعرابياً يقول لصاحب له : بحدل بجدك . يأمره بالسرعة في )
المشي . انتهى .
____________________


وحميد مضاف إلى جده لأنه حميد بن حريث بن بحدل من بني كلب بن وبرة وينتهي نسبه إلى قضاعة .
وحميد شاعر إسلامي وكانت عمته ميسون بنت بحدل أم يزيد بن معاوية .
وكان ابن عمه حسان بن مالك بن بحدل سيد كلب في زمانه وهو الذي بايع مروان بن الحكم يوم المرج وكان ولاه يزيد بن معاوية على فلسطين والأردن . وأخوه مسعد بن مالك بن بحدل على قنسرين فلما مات يزيد بن معاوية وثب زفر بن الحارث على سعيد فأخرجه منها وبايع لابن الزبير ثم خرج عمير بن الحباب مغيراً على بني كلب بالقتل والنهب فلما رأت كلب ما لقي أصحابهم اجتمعوا إلى حميد بن حريث بن بحدل فقتل حميد بني فزارة قتلاً ذريعاً .
والقصة مفصلة في ترجمة عويف القوافي في الأغاني .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والسبعون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات المفصل : البسيط ( فقلت أهي سرت أم عادني حلم ) هذا عجز وصدره : فقمت للطّيف مرتاعاً فأرّقني
____________________

على أن هاء هي قد تسكن بعد همزة الاستفهام .
وفي التسهيل ما يقتضي أنه قليل وفي شرح مصنفه أنه لم يجئ إلا في الشعر .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : أسكن أول أهي لاتصال حرف الاستفهام به وأجراها في ذلك مجرى المتصل فصار أهي كعلم وأجرى همزة الاستفهام مجرى واو العطف وفائه ولام الابتداء . نحو قوله تعالى : وهْوَ اللّه وقوله : فَهْوَ جَزَاؤه وقولك : وهي قامت وفهي جالسة وإن الله لهو السميع العليم .
غير أن هذا الإسكان مع همزة الاستفهام أضعف منه مع ما ذكرناه ومن حيث كان الفصل بينهما وبين المستفهم عنه جائزاً نحو قولك : أزيد قام وأزيداً ضربت وليس كذلك واو العطف وفاؤه ولا لام الابتداء لا يجوز الفصل بين شيء منهن وبين ما وصلن به . )
فأما فصل الظرف في نحو : إن زيداً لفي الدار قائم فمغتفر لكثرته في الكلام ألا تراها في هذا البيت مفصولاً بينها وبين ما هي سؤال عنه من اللفظ . وهذا الاتصال أو ضده من الانفصال إنما هو شيء راجع إلى موجود اللفظ لا إلى محصول المعنى انتهى .
وهذا البيت من قصيدة مسطورة في الحماسة عدتها ثلاثة وأربعون بيتاً للمرار العدوي وقبله : ( زارت رويقه شعثاً بعد ما هجعوا ** لدى نواحل في أرساغها الخدم )
____________________

فقمت للزّور مرتاعاً وأرّقني . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وكان عهدي بها والمشي يبهظها ** من القريب ومنها النّوم والسّأم ) ( وبالتّكاليف تأتي بيت جارتها ** تمشي الهوينى وما يبدو لها قدم ) ( رويق إنّي ومن حجّ الحجيج له ** وما أهلّ بجنبي نخلة الحرم ) ( لم ينسني ذكركم مذ لم ألاقكم ** عيشٌ سلوت به عنكم ولا قدم ) ( ولم يشاركك عندي بعد غانيةٌ ** لا والذي أصبحت عندي له نعم ) قوله : زارت رويقة يقول : زار خيال رويقة قوماً شعثاً أي : غبراً بعدما ناموا عند إبل ضوامر شدت في إرساغها سيور القيد لشدة سيرها وتأثير الكلال فيها .
وقوله : فقمت للطيف الخ الطيف : الخيال الطائف في النوم . وروي : فقمت للزور وهو مصدر بمعنى الزائر يستوي فيه الواحد والجمع والمذكر والمؤنث . والمرتاع : الخائف الفزع .
وقد أنشده صاحب المفصل لما ذكره الشارح المحقق .
وأنشده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية على أن أم المتصلة وقعت بين جملتين فعليتين في معنى المفردين والتقدير فقلت : أسارت هي أم عادني حلمها أي : أي هذين .
وأنشده ابن هشام في موضعين من المغني .
الأول في أم قال : إن أم المعادلة لهمزة الاستفهام تقع بين مفردين وهو الغالب وبين جملتين ليستا في تأويل المفردين وتكونان أيضاً اسميتين وفعليتين
____________________

كهذا البيت . قال : وذلك على الأرجح في هي من أنها فاعل بمحذوف تفسره سرت .
والثاني في أول الباب الثاني قال : وتقدير الفعلية في أهي أكثر رجحاناً من تقديرها في : أبشر يهدوننا لمعادلتها الفعلية .
قال ابن الحاجب في أمالي المفصل : يريد : أني قمت من أجل الطيف منتبهاً مذعوراً للقائه )
وأرقني لما لم يحصل اجتماع محقق ثم ارتبت لعدم الاجتماع هل كان على التحقيق أم كان ذلك في المنام .
ويجوز أن يريد : فقمت للطيف وأنا في النوم إجلالاً في حال كوني مذعوراً لاستعظامها وأرقني ذلك لما انتبهت فلم أجد شيئاً محققاً ثم من فرط صبابته شك أهي في التحقيق سرت أم كان ذلك حلماً على عادتهم في مبالغتهم كقوله : الطويل آأنت أم أمّ سالم انتهى .
قال الدماميني بعد أن نقل هذا في الحاشية الهندية : حاصله احتمال كون القيام في اليقظة أو في المنام وأما الشك في الاجتماع هل كان في النوم أو في
____________________

اليقظة فثابت على كل من الاحتمالين .
وقوله : وكان عهدي بها الخ يقول : كيف يجوز مجيئها وقد عهدتها . يبهظها أي : يعييها قطع المسافة القريبة والغالب عليها طلب الراحة بالنوم . ونصب الهوينى على المصدر أي : تمشي مشياً هيناً . والهوينى : تصغير الهونى مؤنث الأهون . وقوله : وما يبدو لها قدم أي : تجر أذيالها .
وقوله : بيض ترائبها جمع تريبة وهو أعالي الصدر . ومرفق أدرم إذا لم يكن له حجم لاكتنازه باللحم والخلق بالفتح : الخلقة . والعمم بفتح العين المهملة والميم : الطول .
وقوله : رويق إني الخ هو منادى مرخم رويقة . ونخلة : موضع قرب مكة قال صاحب معجم ما استعجم : نخلة على لفظ واحدة النخل : موضع على ليلة من مكة وهي التي تنسب إليها بطن نخلة وهي التي ورد فيها الحديث ليلة الجن . انتهى .
وزعم العيني أنه موضع قرب المدينة . وحرم بضمتين : جمع حرام كسحب جمع سحاب بمعنى المحرم .
وروي أيضاً : وما حج الحجيج . قال ابن جني في إعراب الحماسة : ما هنا يحتمل أن تكون عبارةً عن الله تعالى وأراد في ما الثانية له غير أنه حذفها .
ويجوز أن تكون مصدرية فتكون الهاء في له لله تعالى وإن لم يجر له ذكر لأنه قد جرى ذكر الحج فدلت الطاعة على المطاع سبحانه فكأنه قال : إني وحج الحجيج لله . ويؤكد ذلك أنه لم يعد مع الثانية له لأنه غير محتاج إليها من حيث كان مصدراً . )
ويجوز أن تكون عبارة عن البيت فأقسم به فحينئذ يحتمل الهاء في له أن تكون للبيت على أن اللام بمعنى إلى وأن تكون لله أي : والبيت الذي حجه الحجيج لطاعة الله .
____________________


وقوله : لم ينسني الخ هو مضارع أنسى وذكركم : مفعول مقدم وعيش : فاعل مؤخر وقدم بكسر القاف معطوف على عيش . قال ابن جني : هذا البيت جواب القسم وأجاب بلم وحرفا الجواب في النفي إنما هما : ما ولا لكن اضطر فشبه لم بما كما اضطر إلى ذلك الأعشى في قوله : المتقارب أجدّك لم تغتمض ليلةٌ فاعرف ذلك فإنه لطيف .
ومن أواخر القصيدة : ( بل ليت شعري متى أغدو تعارضني ** جرداء سابحةٌ أو سابح قدم ) ( نحو الأميلح من سمنان مبتكراً ** بفتيةٍ فيهم المرّار والحكم ) بل للإضراب عما قبله . وتعارضني أي : أقودها فتسبقني من سلاسة قيادها . والجرداء : الفرس القصيرة الشعر وهو محمود في الخيل . وسابحة : كأنها تسبح في سيرها وجريها . وقدم بضم القاف والدال بمعنى متقدم يوصف به المذكر والمؤنث .
ونحو ظرف متعلق ب أغدو والأميلح : اسم ماء . وسمنان بفتح السين : ديار الشاعر . والفتية : جمع فتى . والمرار والحكم : رجلان .
وهذا البيت أول شاهد وقع في شرح الشافية للشارح المحقق قال فيه : وكذا سمنان إما أن يكون مكرر اللام للإلحاق بزلزال أو يكون زيد فيه الألف والنون لا للتكرير بل كما زيدا في سلمان .
ولا دليل في هذا البيت يمنع صرف سمنان على كونه فعلان لجواز كونه فعلالا . وامتناع صرفه لتأويله بالأرض والبقعة لأنه اسم موضع . انتهى .
____________________


قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : الأميلح بضم أوله وبالحاء المهملة كأنه مصغر أملح : موضع . ولم يقل : إنه ماء . وقال في سمنان : بفتح أوله وإسكان ثانيه على وزن فعلان : مدينة بين الري ونيسابور . وسمنان بضم السين : جبل في ديار بني أسد وقال أبو حاتم : في ديار بني تميم .
اه . )
وهذا ضبط مخالف لسائر الرواة .
وأول هذه القصيدة في ذم صنعاء اليمن ومدح بلده وقومه . وهذا أولها : البسيط ( لا حبّذا أنت يا صنعاء من بلدٍ ** ولا شعوب هوىً منّي ولا نقم ) ( إذا سقى اللّه أرضاً صوب غاديةٍ ** فلا سقاهنّ إلاّ النّار تضطرم ) ( وحبّذا حين تمسي الرّيح باردةً ** وادي أشيّ وفتيانٌ به هضم ) إلى أن قال : ( هم البحور عطاءً حين تسألهم ** وفي اللّقاء إذا تلقى بهم بهم ) ( وهم إذا الخيل جالوا في كواثبها ** فوارس الخيل لا ميلٌ ولا قزم ) ( لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم ** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم )
____________________

شعوب بفتح الشين وكذلك نقم بضم النون والقاف : موضع باليمن وهو جبل صنعاء الشرقي .
وعنس بفتح المهملة وسكون النون وقدم بضم القاف والدال : حيان من اليمن . وأشي بضم الألف وفتح الشين المعجمة وتشديد الياء قال أبو عبيد : هو واد وجبل في بلاد العدوية من بني تميم .
وقال عمر بن شبة : أشي بلد قريب من اليمامة . وأنشد هذا البيت . وهضم بضمتين : جمع هضوم وهو الذي ينفق في الشتاء أي : حبذا هم في برد الشتاء إذا اشتد الزمان لأنهم يطعمون فيه .
والبهم بضم ففتح : جمع بهمة بضم فسكون وهو الشجاع الذي لا يدرى من أين يؤتى من شدة وقوله : وهم إذا الخيل أراد بالخيل فرسانها كقولهم : يا خيل الله اركبي . وجالوا أي : وثبوا يقال : جال في ظهر دابته إذا ركبها . لا ميل : لا مائلون عن وجوه الأعداء جمع أميل وقيل هو الذي لا يثبت على ظهر الدابة وهو عطف على فوارس ويجوز أن يكون خبر مبتدأ محذوف كأنه قال : لا هم ميل .
وقزم بفتح القاف والزاي : رذال الناس وسفلتهم يطلق على الواحد والجمع والذكر والأنثى لأنه في الأصل مصدر بمعنى الدناءة والقماءة .
والكواثب : جمع كاثبة بموحدة بعد مثلثة وهي في عرف الفرس المتقدم من قربوس السرج حيث يقع عليه يد الفارس . كذا في شرح الحماسة . )
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت في سورة الأعراف على أن الخبر في قوله تعالى : يَمُدُّونهمْ في الغيّ جار على غير ما هو له كما في البيت فإن الخيل مبتدأ وجالوا خبره مسند إلى ضمير القوم . وفيه كلام طويل .
وقوله : لم ألق بعدهم الخ الحي : القبيلة . وخبرت الشيء أخبره من
____________________

باب قتل خبراً بالضم بمعنى علمته . وانتصب أخبرهم في جواب النفي . وهم الخير فاعل يزيد فصل ضرورة .
والمعنى : لم ألق بعد فراق قومي حياً من الأحياء فأخبرهم إلا ازدادوا في عيني إذا قستهم بمن وروى ابن قتيبة الصدر في كتاب الشعراء والأصبهاني في الأغاني : وما أصاحب من قومٍ فأذكرهم وزعم أبو حيان أن الرواية كذا من تحريف ابن مالك . هذا قصور منه . ويجوز رفع فأذكرهم عطفاً على أصاحب . والذكر هنا قلبي بمعنى التذكير فإن المعنى إني إذا صاحبت قوماً فتذكرت قومي ازددت محبةً فيهم لفضل قومي عليهم .
هذا البيت أورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية لما ذكرنا من فصل الضمير المرفوع ضرورة .
قال ابن هشام في المغني : ادعى ابن مالك أن الأصل يزيدون أنفسهم ثم صار يزيدونهم ثم فصل ضمير الفاعل للضرورة وأخره عن ضمير المفعول . وحامله على ذلك ظنه أن الضميرين لمسمى واحد وليس كذلك . قال في شرح شواهده وزعم بعض من فسر الضرورة بما ليس للشاعر عنه مندوحة أن هذا ليس بضرورة لتمكن قائله من أن يقول إلا يزيدونهم حباً إلي هم ويكون الضمير المنفصل توكيداً للفاعل .
ورده ابن مالك بأنه يقتضي كون الفاعل والمفعول ضميرين متصلين لمسمى واحد وإنما يجوز ذلك في باب ظن . وهذا سهو لأن مسمى الضميرين مختلفان إذ ضمير الفاعل لقومه وضمير ويحتمل عندي أن يكون فاعل يزيد ضمير الذكر ويكون هم المنفصل توكيداً لهم المتصل . اه .
كلام ابن هشام .
وقد أخذ مسلم بن الوليد معنى بيت المرار فقال : الوافر
____________________

( ويرجعني إليك إذا نأت بي ** دياري عنك تجربة الرّجال ) والمرا : شاعر إسلامي في الدولة الأموية من معاصري الفرزدق وجرير . وهو بفتح الميم )
وتشديد الراء . قال ابن قتيبة في كتابة الشعراء : المرار العدوي هو ابن منقذ من صدي ابن مالك بن حنظلة . وأم صدي بالتصغير من جل بن عدي فيقال له ولولده بنو العدوية .
وقال لهم عوف بن القعقاع : يا بني العدوية أنتم أوسع بني مالك أجوافاً وأقلهم أشرافاً .
والمرار هو القائل : ( وما اصاحب من قومٍ فأذكرهم ** إلاّ يزيدهم حبّاً إليّ هم ) وأنشد معه أبياتاً أخر من هذه القصيدة . قال : وفيه وفي قومه يقول جرير : الطويل ( إن كنتم جربى فعندي شفاؤكم ** وللجنّ إن كان اعتراك جنون ) ( وما أنت يا مرّار يا زبد استها ** بأوّل من يشقى بنا ويحين ) وقد رفع الآمدي نسبه في المؤتلف والمختلف فقال : هو المرار بن منقذ بن عمرو بن عبد الله بن واسم المرار هذا زياد بن منقذ قاله الحصري في زهر الآداب وإلى اسمه
____________________

نسب الشعر . وفي الحماسة قال شراح الحماسة : هو لزياد بن منقذ وهو أحد بني العدوية من تميم ولم يقل غير هذه القصيدة ولم يقل أحد مثلها . وكان قد أتى اليمن فنزع إلى وطنه ببطن الرمة . قال أبو العلاء : الرمة : واد بنجد يقال بتشديد الميم وتخفيفها اه .
وصحفه بعضهم وتبعه العيني فقال : ببطن الرمث بالمثلثة .
وقد نسب الحصري أيضاً هذا الشعر للمرار قال : أنشد أبو عبيدة لزياد بن منقذ الحنظلي وهو المرار العدوي نسب إلى أمه العدوية وهي فكيهة بنت تميم ابن الدئل بن جل بن عدي بن عبد مناة بن أد بن طابخة فولدت لمالك بن حنظلة عدياً ويربوعاً . فهؤلاء من ولده يقال لهم بنو العدوية .
وكان زياد نزل بصنعاء فاجتواها ومنزله في نجد فقال في ذلك قصيدةً يقول فيها وذكر قومه : ( لم ألق بعدهم حيّاً فأخبرهم ** إلا يزيدهم حبّاً إليّ هم ) وأراه أول من استثار هذا المعنى . وكان ابن عرادة السعدي مع سلم بن زياد بخراسان وكان مكرماً له وابن عرادة يتجنى عليه إلى أن تركه وصحب غيره فلم يحمده .
فرجع إلى سلم وفال : الطويل
____________________

( رجعت إليه بعد تجريب غيره ** فكان كبرءٍ بعد طولٍ من السّقم ) ومنه قول أبي العتاهية في جعفر بن المنصور المعروف بابن الكردية وهو جعفر الأصغر : )
الطويل ( جزى اللّه عنّي جعفراً بوفائه ** وأضعف إضعافاً له بجزائه ) ( بلوت رجالاً بعده في إخائهم ** فما ازددت إلاّ رغبةً في إخائه ) ومنه أيضاً لكنه في الهجو لبعضهم : الوافر ( ذممتك أوّلاً حتّى إذا ما ** بلوت سواك عاد الذّمّ حمدا ) ( ولم أحمدك من خيرٍ ولكن ** رأيت سواك شرّاً منك جدّا ) ( كمضطرٍّ تحامى أكل ميتٍ ** فلمّا اضطرّ عاد إليه شدّا ) قال الصولي : وآخر من أتى بهذا المعنى أحمد بن أبي طاهر : الوافر ( بلوت النّاس في شرقٍ وغربٍ ** وميّزت الكرام من اللّئام ) ( فردّني ابتلاي إلى عليّ ب ** ن يحيى بعد تجريب الأنام ) وعندي في هذا المعنى مقاطيع جيدة لولا خشية السأم لسردتها .
وزعم أبو تمام في الحماسة أن القصيدة التي منها البيت الشاهد لزياد بن حمل بن سعيد بن وأخطأ أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم في زعمه أن زياد بن حمل هو المرار العدوي .
وزعم الأصفهاني في الأغاني والخالديان في شرح ديوان مسلم بن الوليد أن هذه القصيدة للمرار بن سعيد الفقعسي . والله أعلم .
والصواب أنها لزياد بن منقذ العدوي . قاله ياقوت في معجم البلدان قال : والمرار والحكم أخوان .
____________________


تتمة ذكر الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له المرار ستة . أولهم المرار الفقعسي . وستأتي ترجمته إن شاء الله في الكاف من حروف الجر .
ثانيهم : المرار بن منقذ وتقدمت ترجمته هنا .
ثالثهم : المرار بن سلامة العجلي وهو إسلامي .
رابعهم : المرار بن بشير السدوسي .
خامسهم : المرار الكلبي .
سادسهم : المرار بن معاذ الجرشي . )
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ : ** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب ) على أن واو وهو قد يحذف ضرورة كما هنا فإن الأصل فبينا هو يشري .
____________________


قال سيبويه : في باب ما يحتمل الشعر : اعلم أنه يجوز في الشعر ما لا يجوز في الكلام . إلى أن قال : وليس شيء يضطرون إليه إلا هم يحاولون به وجهاً . وما يجوز في الشعر أكثر من أن أذكره لك ها هنا لأن هذا موضع جمل .
قال أبو الحسن : سمعت من العرب قول العجير السلولي : فبيناه يشري رحله قال قائل . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : اراد بينا هو فسكن الواو ثم حذفها ضرورة فادخل ضرورة على ضرورة تشبيها للواو الأصلية بواو الصلة في نحو منه وعنه .
وزعم ابن الأنباري في ترك صرف ما ينصرف من مسائل الخلاف : أن الواو حذفت متحركة .
قال : إذا جاز حذف الواو المتحركة للضرورة من فبيناه يشري فلأن يجوز حذف التنوين للضرورة من باب الأولى لأن الواو من هو متحركة والتنوين ساكن ولا خلاف أن حذف وبين ظرف لما وصل بالألف إشباعاً للفتحة جاز إضافته إلى الجمل وحدث فيه معنى زائد وذلك ظرف الزمان كما حدث في مع لما أشبعت فتحتها وحدث بعدها ألف من قولهم معاً .
وهو مبتدأ وجملة : يشري خبره والمجموع في محل جر بإضافة بينا إليها .
وإنما جاز هذا على تقدير حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامه والتقدير فبينا أوقات هو شار رحله فإنه يقول . وبينا عند سيبويه لا تقع إلا للمفاجأة ولا تقع إلا في صدر الجملة جعلوها بمنزلة الظروف المبهمة التي تقع في صدور الجمل فإذا أضفتها إلى الجملة التي بعدها جئت بالفعل الذي عمل فيها نحو قولك : بينا زيد قائم جاء عمرو . وأما الأصمعي فإنه يقول : إضافة بينا إلى المصدر المفرد جائزة ويروى لأبي ذؤيب : الكامل
____________________

بينا تعنّقه الكماة وروغه بجر تعنقه . )
وقال ابن قتيبة : سألت الرياشي عن هذه المسألة فقال : إذا ولي لفظة بينا الاسم العلم رفعت فقلت : بينا زيد قائم جاء عمرو . وإن وليها المصدر فالأجود الجر . وقوم من النحويين لا يجيزون إضافته إلى المصدر المفرد ولا إلى غير مصدر ويمضون على الأصل .
ويشري : هنا بمعنى يبيع وهو من الأضداد . والرحل : كل شيء يعد للرحيل من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن . والملاط بكسر الميم : الجنب . رخو الملاط : سهله وأملسه . كذا قال القالي . وقال ابن خلف : الملاط : مقدم السنام وقيل جانبه . وهما ملاطان : العضدان وقيل الإبطان . وقوله : رخو إشارة إلى عظمه واتساعه .
قال الأعلم : وصف بعيراً ضل عن صاحبه فيئس منه وجعل يبيع رحله فبينا هو كذلك سمع منادياً يبشر به . وإنما وصف ما ورد عليه من السرور بعد الأسف والحزن . والملاط : ما ولي العضد من الجنب ويقال للعضدين : ابنا ملاط .
ووصف برخاوته لأن ذلك أشد لتجافي عضديه عن كركرته وأبعد له من أن يصيبه ناكت أو ماسح أو حاز أو ضب . وهذه كلها أعراض وآفات تلحقه إذا حك بعضده كركرته . اه .
____________________


والنجيب : الجيد الأصيل والصواب بدله ذلول فإن القصيدة لامية .
قال ابن خلف : وهذا البيت قد وقع صدره في أكثر نسخ كتاب سيبويه وأنشده أبو الحسن الأخفش : رخو الملاط نجيب بالباء وأنشده أيضاً في كتاب القوافي كذا وقال : سمعت الباء مع اللام والميم والراء كل هذا في قصيدة واحدة وهي : ( ألا قد أرى إن لم تكن أمّ مالك ** بملك يدي أنّ البقاء قليل ) ( خليليّ سيرا واتركا الرّحل إنّني ** بمهلكةٍ والعاقبات تدور ) ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رخو الملاط نجيب ) قال : والذي أنشده أعرابي فصيح لا يحتشم من إنشادها وقال أبو الفتح بن جني : هكذا أنشده أبو الحسن وهو بعيد لأن حكم الحروف المختلفة في الروي أن يتقارب مخرجها كما أنشد سيبويه في كتاب القوافي . والذي وجد في شعر العجير السلولي : ( فباتت هموم الصّدر شتّى يعدنه ** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل ) ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول ) ) ( محلّى بأطواقٍ عتاقٍ كأنّها ** بقايا لجينٍ جرسهنّ صليل ) اه .
وقال صاحب العباب : البيت للعجير السلولي ويروى للمخلب الهلالي وهو موجود في أشعارهما . والقطعة لامية ووقع في كتاب سيبويه نجيب بدل ذلول وتبعه النحاة على التحريف . وهي قطعة غراء . اه .
قال الأسود أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب : قال أبو الندى : القصيدة للمخلب الهلالي وليس في الأرض بدوي إلا وهو يحفظها وأولها :
____________________

( وجدت بها وجد الذي ضلّ نضوه ** بمكّة يوماً والرّفاق نزول ) ( بغى ما بغى حتّى أتى اللّيل دونه ** وريحٌ تعلّى بالتّراب جفول ) ( أتى صاحبيه بعدما ضلّ سعيه ** بحيث تلاقت عامرٌ وسلول ) ( فقال : احملا رحلي ورحليكما معاً ** فقالا له : كلّ السّفاه تقول ) ( فقال : احملاني واتركا الرّحل إنّه ** بمهلكةٍ والعاقبات تدول ) ( فقالا : معاذ اللّه واستربعتهما ** ورحليهما عيرانةٌ وذمول ) ( شكا من خليليه الجفاء ونقده ** إذا قام يستام الرّكاب قليل ) ( فباتت هموم النّفس شتّى يعدنه ** كما عيد شلوٌ بالعراء قتيل ) ( فبيناه يشري رحله قال قائل : ** لمن جملٌ رخو الملاط ذلول ) ( محلّى بأطواقٍ عتاقٍ تزينه ** أهلّة جنّ بينهنّ فصول ) ( فهلّل حيناً ثمّ راح بنضوه ** وقد حان من شمس النّهار أفول ) ( فما تمّ قرن الشّمس حتّى أناخه ** بقرنٍ وللمستعجلات زليل ) ( فلمّا طوى الشّخصين وازورّ منهما ** ووطّنه بالنّقر وهو ذلول ) ( فقاما يجرّان الثّياب كلاهما ** لما قد أسرّا بالخليل قبيل ) وقد سلك العجير السلولي طريقة المخلب الهلالي وأدرج معاني قطعته في شعره فقال : الطويل ( ألا قد أرى إن لم تكن أمّ خالد ** بملك يدي أنّ البقاء قليل ) ( وأن ليس لي في سائر النّاس رغبةٌ ** ولا منهم لي ما عداك خليل )
____________________

( وما وجد النّهديّ وجداً وجدته ** عليها ولا العذريّ ذاك جميل ) ) ( ولا عروةٌ إذ مات وجداً وحسرةً ** بعفراء لمّا أن أجدّ رحيل ) ( ولا وجد ملقٍ رحله ضلّ نضوه ** بمكّة أمسى والرّفاق نزول ) ( سعى ما سعى حتّى أتى الليل دونه ** وريحٌ تلهّى بالتّراب جفول ) وساق هذا المساق حتى قال بعد سبعة أبيات : ( فبيناه يشري رحله قال قائلٌ ** لمن جملٌ رسل الملاط طويل ) كذا في شعر العجير رسل الملاط طويل فعلم أن السبق للمخلب الهلالي .
شبه الشاعر حاله في هوى امرأة يحبها وشدة وجده بها بوجد هذا الرجل الذي ضل بعيره وفارقه أصحابه فباتت هموم هذا الرجل شتى تذهب عنه حيناً فيسكنن وتجيئه جيناً فيعود إليه الألم ويأتيه كما يأتي العوائد إلى المريض وإلى القتيل ينظرنه فبينا هو يبيع رحل جمله الذي ضل منه سمع من يعرف الجمل ليرده على صاحبه .
والشلو بالكسر : العضو . والعراء بالفتح : الفضاء . والأطواق : جمع طوق . والعتاق : الحسان .
والجرس : الصوت . والصليل : صوت فيه شدة مثل صوت الحديد والفضة وما أشبههما .
والنضو بالكسر : البعير المهزول . والريح الجفول : التي تلقى التراب شيئاً على شيء . والسفاه بالفتح : مصدر سفه فلان سفاهة وسفاها . وتدول بمعنى تدور .
يقال : دالت الأيام تدول مثل دارت تدور وزناً ومعنى . واستام : افتعل من السوم يقال : سام المشتري السلعة واستامها إذا طلب بيعها . والركاب : الإبل وهو مفعول وقليل : خبر المبتدأ الذي هو نقده أي : دراهمه . وقرن الثاني : موضع . وزليل : مصدر زل بالزاي إذا مر مراً سريعاً .
والعجير السلولي بضم العين وفتح الجيم قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : هو منسوب إلى بني عجير وهو حي من أحياء العرب .
____________________


أقول : العجير لقب وليس فيه نسبة . على أن الصاغاني قال في العباب : بنو عجرة قبيلة من العرب . وليس فيه بنو عجير . والعجير يحتمل أن يكون مصغر عجر مصدر عجر عنقه إذا لواها ومصغر عجر بفتحتين مصدر عجر بالكسر أي : غلظ وسمن . ويحتمل أن يكون مصدر ترخيم أعجر يقال : كيس أعجر أي : ممتلئ وفحل أعجر أي : ضخم .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : اسم العجير عمير بالتصغير بن عبد الله بن عبيدة . بفتح )
العين وكسر الموحدة وقيل ابن عبيدة بضمها . وهو من بني سلول بن مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة .
وأم بني مرة سلول بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة غلبت عليهم وبها يعرفون . ويكنى العجير أبا الفرزدق وأبا الفيل . وهو شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية . اه .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : أبو الفرزدق فهو ال عجير السلولي مولى لبني هلال ويقال : هو العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب بن عائشة بن ضبيط بن رفيع بن جابر بن عمرو بن مرة بن صعصعة وهم سلول اه .
وسلول اسم مرتجل غير منقول .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين بعد الثلاثمائة .
وأما المخلب فهو بضم الميم وفتح الخاء المعجمة وتشديد اللام المفتوحة اسم منقول . قال صاحب العباب : يقال ثوب مخلب إذا كانت نقوشه كمخالب الطير وقيل هو الكثير الوشي من الثياب . وكرسي مخلب : معمول بالليف . وخلب التنور : طينه .
وهذا الشاعر لم أقف على نسبه ولا على شيء من أثره . والله أعلم .
____________________


دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن الأصل إذ هي فحذفت الياء ضرورة .
قال القالي في شرح اللباب أوله : هل تعرف الدار على تبراكا وهو بكسر التاء موضع .
وفي هذا رد على الكوفيين في زعمهم أن الضمير في هو وهي إنما هو الهاء والواو والياء زائدتان .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أن الاسم من هو وهي الهاء وحدها .
وذهب البصريون إلى أن الهاء والواو من هو والهاء والياء من هي هما الاسم بمجموعهما .
أما الكوفيون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الاسم هو الهاء أن الواو والياء يحذفان في التثنية نحو : هما ولو كانت أصلاً لما حذفت .
والذي يدل عليه أنهما يحذفان في الإفراد وتبقى الهاء قوله : )
فبيناه يشري رحله . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر : البسيط
____________________

وقال الآخر : الرجز ( إذاه سيم الخلف آلى بقسم ** باللّه لا يأخذ إلاّ ما احتكم ) وقال الآخر : دارٌ لسعدى إذه من هواكا فدل على أن الاسم هو الهاء وحدها . وإنما زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم كراهية أن يبقى على حرف واحد .
وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا : الدليل على أن الواو والياء أصل أنه ضمير منفصل والضمير المنفصل لا يجوز أن يبنى على حرف لأنه لا بد من الابتداء بحرف والوقف على حرف فلو كان الاسم هو الهاء لكان يؤدي أن يكون الحرف الواحد ساكناً متحركاً وهو محال .
وأما قولهم إن الواو والياء يحذفان في التثنية . قلنا : إن هما ليس تثنية وإنما هي صيغة مرتجلة للتثنية كأنتما . وأما ما أنشدوه من الأبيات فإنما حذفت الواو والياء لضرورة الشعر كقول الشاعر : الطويل ( فلست بآتيه ولا أستطيعه ** ولاك اسقني إن كان ماؤك ذا فضل ) أراد : ولكن اسقني فحذفت النون للضرورة . وأما قولهم : زادوا الواو والياء تكثيراً للاسم كما زادوا الواو في ضربتهو قلنا : هذا فاسد لأن هو ضمير منفصل والهاء ضمير متصل وقد بينا أن المنفصل لا يجوز أن يكون على حرف بخلاف المتصل لأنه لا يقوم بنفسهِ فلا يجب فيه ما وجب في المنفصل والواو في ضربتهو
____________________

لازمة السكون بخلاف واو هو فإنها جائزة السكون ولو كانا بمنزلة لوجب أن يسوى بينهما في الحكم . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل ( وإنّ لساني شهدةٌ يهتدى بها ** وهوّ على من صبّه اللّه علقم ) على أن همدان تشدد واو هو كما في البيت وياء هي ولم يمثل له . وهو في هذا البيت : البسيط ( والنّفس ما أمرت بالعنف آبيةٌ ** وهيّ إن أمرت باللّطف تأتمر ) وهمدان بفتح الهاء وسكون الميم والدال مهملة : قبيلة من اليمن وهو لقب واسمه أوسلة بن ربيعة بن لحيان بن مالك بن زيد بن كهلان . وهمدان وصف من الهمدة وهي السكتة .
وهمدت أصواتهم : سكتت .
وشهدة بضم الشين : العسل بشمعه . قال ابن هشام في شرح شواهده : هذا البيت أورده الفارسي في التذكرة عن قطرب والبغداديين وفيه أربعة شواهد : أحدها تشديد واو هو .
الثاني : تعليق الجار بالجامد لتأويله بالمشتق وذلك لأن قوله هو علقم مبتدأ وخبر والعلقم هو الحنظل وهو نبت كريه الطعم وليس المراد هنا بل المراد
____________________

شديد أو صعب فلذلك علق به على المذكورة .
ونظيره قوله : مخلع البسيط كلّ فؤادٍ عليك أمّ فعلق على بأم لتأويله إياها بمشتق . وعلى هذا ففي علقم ضمير كما في قولك : زيد أسد إذ أولته بقولك شجاع إلا إذا أردت التشبيه . ومن تعلق الظرف بالجامد لما فيه من معنى الفعل قوله : الطويل ( تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ** بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناصح ) ( منعت شفاء النّفس ممّن تركته ** به كالجوى مما تجن الجوارح ) لوحا بفتح أوله أي : عطشا يقال : لاح يلوح أي : عطش . وبعيد : متعلق ب ثلج لما فيه من معنى بارد وإذا كان ريقها بارداً في وقت تغيره من نومها فما ظنك به في غير ذلك . وكرمان الثالث : جواز تقديم معمول الجامد المؤول بالمشتق إذا كان ظرفاً . ونظيره في ذلك أيضاً في تحمل الضمير قوله : )
كلّ فؤادٍ عليك أمّ الرابع : جواز حذف العائد المجرور بالحرف مع اختلاف المتعلق إذ التقدير وهو علقم على من صبه الله عليه . فعلى المذكورة متعلقة بعلقم والمحذوفة متعلقة بصبه .
____________________


وبهذين الوجهين الأخيرين أورده في مغني اللبيب .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والثمانون بعد الثلاثمائة مجزوء الوافر ( رميتيه فأقصدت ** وما أخطأت الرّمية ) على أن أبا علي قال : تلحق الياء تاء المؤنث مع الهاء . قال أبو علي في الحجة في توجيه قراءة حمزة : وما أنتم بمصرخي : بكسر الياء المشددة من سورة إبراهيم عليه السلام : والأكثر أن يقال رميته بكسر التاء دون ياء كما قال أقصدت بدون ياء . وأقصدت : بمعنى قتلت .
قال صاحب الصحاح : وأقصد السهم أي : أصاب فقتل مكانه . وأقصدته حية : قتلته . ( فإن كنت قد أقصدتني أو رميتني ** بسهميك فالرّامي يصيد ولا يدري ) أي : ولا يختل . انتهى .
وهذه رواية أبي علي في كتابه الهاذور . ورواه في الحجة : رميته فأصمت . قال صاحب الصحاح : وأصميت الصيد إذا رميته فقتلته وأنت تراه .
____________________

وقد صمى الصيد يصمي كرمى يرمي إذا مات وأنت تراه . والرمية : فاعل أخطأت وسكن آخره للقافية .
وروى : وما أخطأت في الرّمية بالخطاب أيضاً . وبعده : ( بسهمين مليحين ** أعارتكيهما الظّبية ) وأعارتكيهما مثل رميتيه بزيادة الياء من إشباع الكسرة . كذا أنشد البيتين أبو حيان في تذكرته عن أبي الفتح بن جني .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل على أن بني عقيل وبين كلاب يجوزون تسكين الهاء كما في قوله له بسكون الهاء .
والذي نقله ابن السراج في الأصول وابن جني في الخصائص والمحتسب وغيرهما أن تسكين الهاء لغة لأزد السراة . وجعله ابن السراج من قبيل الضرورة عندهم . قال : وقد جاء في الشعر حذف الواو والياء الزائدة في الوصل مع الحركة كما هي في الوقف سواء . قال رجل من أزد السراة : فظلت لدى البيت العتيق أخيله . . . . . . . . . . . . . البيت وكذلك يشعر كلام أبي علي في المسائل العسكرية حيث قال : هذا من إجراء الوصل مجرى الوقف .
____________________


وأما قوله : البسيط ما حجّ ربّه في الدّنيا ولا اعتمرا فهذا خارج عن حد الموقف والوصل جميعاً والصواب أنه لغة لا ضرورة وإليه ذهب ابن جني في موضعين من الخصائص قال في الموضع الأول وهو باب تعارض السماع والقياس : ومما ضعف في القياس والاستعمال جميعاً بيت الكتاب : الوافر ( له زجلٌ كأنّه صوت حادٍ ** إذا طلب الوسيقة أو زمير ) فقوله : كأنه خلس بحذف الواو وتبقية الضمة ضعيف في القياس قليل في الاستعمال . ووجه ضعف قياسه أنه ليس على حد الوصل ولا على حد الوقف وذلك أن الوصل يجب أن تتمكن فيه واوه كما تمكنت في قوله أول البيت : له زجل والوقف يجب أن تحذف الواو والضمة فيه جميعاً وتسكن الهاء فضم الهاء بغير واو منزلة بين منزلتي الوصل والوقف .
وقال أبو إسحاق في نحو هذا : إنه أجري في الوصل مجرى الوقف .
وليس الأمر كذلك لما بيناه لكن ما أجرى من نحو هذا في الوصل على حد الوقف قول الآخر : فظلت لدى البيت العتيق أخيله . . . . . . . . . . . . . البيت على أن أبا الحسن حكى أن سكون الهاء في نحو هذا لغة لأزد السراة . ومثل هذا
____________________

البيت ما رويناه عن قطرب قول الشاعر : البسيط ) ( وأشرب الماء ما بي نحوه عطش ** إلاّ لأنّ عيونه سيل واديها ) اه .
وقال مثله في سورة الأعراف من المحتسب .
وقال في الموضع الثاني وهو باب الفصيح : يجتمع في الكلام الفصيح لغتان فصاعداً من ذلك قوله : فظلت لدى البيت الخ فهذان لغتان أعني إثبات الواو في أخيله وتسكين الهاء في قوله : له لأن أبا الحسن زعم أنها لغة لأزد السراة . وإذا كان كذلك فهما لغتان . وليس إسكان الهاء في له عن حذف لحق بصيغة الكلمة لكن ذلك لغة .
وأما قول الشماخ : له زجل كأنّه صوت حادٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت فليس هذا لغتين لأنا لا نعلم رواية حذف هذه الواو وإبقاء الضمة . قبلها فينبغي أن يكون ذلك ضرورة وصنعة لا مذهباً ولا لغة . انتهى .
تتمة ذكر الشارح المحقق حذف واو الصلة ويائها ولم يذكر حذف الألف من نحو رأيتها . قال ابن جني في سر الصناعة : أما الألف في نحو : رأيتها فزيدت علماً للتأنيث . ومن حذف الواو من نحو : كأنه صوت حاد ومن نحو : له أرقان لم يقل في نحو : رأيتها ونظرت إليها إلا بإثبات الألف وذلك لخفة الألف وثقل الواو . إلا أنا روينا عن قطرب بيتاً حذفت فيه هذه الألف تشبيهاً بالواو والياء لما بينهما وبينها من النسبة .
____________________


وهو قوله : البسيط ( أعلقت بالذّئب حبلاً ثمّ قلت له ** الحق بأهلك واسمل أيّها الذّيب ) يريد : تبيعها فحذف الألف . وهذا شاذ . انتهى .
وقوله : فبت بات من أخوات كان التاء اسمها وجملة : أريغه خبرها . وبات يفعل كذا معناه اختصاص ذلك الفعل بالليل كما اختص الفعل بالنهار في نحو : ظل يفعل كذا ومنه تعرف ضعف الرواية الأخرى وهي فظلت لدى البيت بفتح الظاء وأصله ظللت بلامين فخفف بحذف إحدى اللامين . وهي من أخوات كان أيضاً .
قال الخليل : لا تقول العرب ظل إلا لعمل يكون بالنهار . ولدى : بمعنى عند . والبيت العتيق : )
مكة شرفها الله تعالى . والعتيق : الشريف والأصيل أو لأنه عتق من الطوفان .
وروى : البيت الحرام بمعنى الممنوع من باب إطلاق المصدر وإرادة اسم المفعول . يقال : البيت الحرام والمسجد الحرام . والبلد الحرام أي : لا يحل انتهاكه . وأريغه : بمعنى أطلبه يقال : أرغت الصيد . وماذا تريغ أي : ماذا تريد وهو بالراء المهملة والغين المعجمة . ويقال : أريغوني إراغتكم أي : اطلبوني طلبتكم .
قال خالد بن جعفر بن كلاب في فرسه حذفة : الوافر ( أريغوني إراغتكم فإنّي ** وحذفة كالشّجا تحت الوريد ) وقال عبيد بن الأبرص يرد على امرئ القيس : الوافر
____________________

وقال زهير بن أبي سلمى في ابنه سالم : الطويل ( يديرونني عن سالمٍ وأريغه ** وجلدة بين العين والأنف سالم ) وهذا المصراع الثاني أراد عبد الملك في جوابه عن كتاب الحجاج : أنت عندي كسالم : وقد أخطأ صاحب الصحاح خطأ فاحشاً في قوله : يقال للجلدة التي بين العين والأنف سالم .
وأخطأ ابن خلف أيضاً في شرح أبيات سيبويه في نسبة هذا البيت لعبد الله ابن عمر قاله في ابنه سالم والصواب أنه تمثل به لا أنه قاله .
وأخطأ صاحب العباب أيضاً في زعمه أن هذا البيت لدارة أبي سالم والصواب أنه تمثل به أيضاً فإن البيت من أبيات لزهير بن أبي سلمى ثابتة في ديوانه .
قال شارح ديوانه : كان لزهير ابن يقال له سالم جميل الوجه حسن الشعر وبعث إليه رجل ببردين فلبسهما الفتى وركب فرساً له جيداً وهو بماء يقال لها النتاءة بضم النون بعدها مثناة فوقية بعدها ألف ممدودة ماء لغني فمر بامرأة من العرب فقالت : ما رأيت كاليوم رجلاً ولا بردين ولا فرساً فعثرت به الفرس فاندقت عنقه وعنق الفرس وانشق البردان فقال زهير يرثي ابنه سالماً :
____________________

( رأت رجلاً لاقى من العيش غبطةً ** وأخطأه فيها الأمور العظائم ) ( فأصبح محبوراً ينظّر حوله ** بمغبطةٍ لو أنّ ذلك دائم ) ( وعندي من الأيّام ما ليس عنده ** فقلت تعلّم أنّما أنت حالم ) ( لعلّك يوماً أن تراعي بفاجع ** كما راعني يوم النّتاءة سالم ) ) ( يديرنني عن سالمٍ وأريغه ** وجلدة بين العين والأنف سالم ) انتهى .
وروى جماعة بدل أريغه : أخيله بالخاء المعجمة يقال : أخلت السحابة وأخيلتها إذا رأيتها مخيلةً للمطر بضم الميم أي : تخيل من رآها أنها ممطرة . وهو من خال أي : ظن . ومخيلة أيضاً أي : موضع لأن يخال فيها المطر . كذا قال المعري في شرح ديوان البحتري . وأنشد هذا البيت .
وروى صاحب الأغاني وعلي بن حمزة البصري بدله : أشيمه يقال : شام البرق إذا نظر إليه أي : إلى سحابته أين تمطر . والهاء في الروايات الثلاث ضمير البرق في بيت قبله .
وقوله : ومطواي هو مثنى مطو حذفت نونه عند الإضافة إلى ياء المتكلم . قال علي بن حمزة البصري في كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة : المطو بكسر الميم وضمها : الصاحب .
وأنشد هذا البيت وقول الشاعر : الطويل
____________________

( علام تقول الأسعدان كلاهما ** ومطوهما كبشٌ بذروة معبر ) ( ناديت مطوي وقد مال النّهار بهم ** وعبرة العين جارٍ دمعها سجم ) وقال رجل من أزد السراة يصف برقاً : الطويل ( فظلت لدى البيت العتيق أخيله ** ومطواي مشتاقان له أرقان ) أي : صاحباي . انتهى .
وقوله : مشتاقان خبر مطواي . وكذلك أرقان وضمير له للبرق أيضاً .
وروى صاحب الأغاني ومحمد بن حمزة العلوي في حماسته : ومطواي من شوقٍ له أرقان وعليه لا شاهد فيه فأرقان خبر مطواي ومن تعليلية متعلقة بأرقان وهو مثنى أرق بكسر الراء وهو وصف من الأرق بفتحها بمعنى السهر .
وهذا البيت من قصيدة ليعلى الأحول الأزدي مطلعها في رواية أبي عمرو الشيباني : ( أويحكما يا واشيي أمّ معمرٍ ** بمن وإلى من جئتما تشيان )
____________________

( بمن لو أراه عانياً لفديته ** ومن لو رآني عانياً لفداني ) ( ارقت لبرقٍ دونه شدوان ** يمانٍ وأهوى البرق كلّ يمان ) ( فبتّ لدى البيت الحرام أشيمه ** ومطواي من شوقٍ له أرقان ) )
إلى أن قال بعد أربعة أبيات : ( ألا ليت حاجات اللّواتي حبستني ** لدى نافعٍ قضّين منذ زمان ) ( وما بي بغضٌ للبلاد ولا قلّى ** ولكنّ شوقاً في سواه دعاني ) ( فليت القلاص الأدم قد وخدت بنا ** بوادٍ يمان في رباً ومحان ) ( بوادٍ يمان ينبت السّدر صدره ** وأسفله بالمرخ والشّبهان ) ( يدافعنا من جانبيه كلاهما ** غريفان من طرفائه هدبان ) ( وليت لنا بالجوز واللّوز غيلةً ** جناها لنا من بطن حلية جاني ) ( وليت لنا بالدّيك مكّاء روضةٍ ** على فننٍ من بطن حلية داني ) ( وليت لنا من ماء زمزم شربةً ** مبرّدة باتت على طهيان ) الواشي : النمام وشى يشي وشياً . والعاني : الأسير . وشدوان بفتح الشين المعجمة والدال قال أبو عبيد في المعجم : هو موضع ذكره أبو بكر .
ونافع : والي مكة كان حبس الشاعر .
والقلاص : جمع قلوص وهي الناقة الشابة . والأدم : جمع أدماء . والأدمة في الإبل : البياض الشديد . ووخدت : أسرعت . ورباً : جمع ربوة . ومحان : جمع محنية : بفتح الميم وكسر النون
____________________

والمرخ : شجر سريع الوري . والشبهان بفتح الشين المعجمة وضم الموحدة وفتحها : شجر شائك وقيل : هو النمام من الرياحين .
والغريف بالغين المعجمة : الشجر الكثير الملتف أي شجر كان . والهدب بفتح فكسر : الشجر الذي له هدب بفتحتين وهو كل ورق ليس له عرض كورق الأثل والطرفاء والسرو .
والغيلة بكسر الغين المعجمة : ثمرة الأراك الرطبة . تمنى أن يأكل الغيلة بدل الجوز واللوز .
وحلية : بفتح الحاء المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحتية قال أبو عبيد في المعجم : أجمة باليمن معروفة وهي مأسدة .
وقوله : وليت لنا بالديك أي : بدل الديك .
وطهيان بفتح الطاء والهاء والمثناة التحتية وهو جبل . يريد أيضاً بدلاً من ماء زمزم .
وهذا البيت يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في حروف الجر في الشاهد الخامس والسبعين بعد السبعمائة . )
ويعلى الأزدي بفتح المثناة التحتية وسكون العين المهملة واللام بعدها ألف مقصورة . قال الأصبهاني في الأغاني : يعلى الأحول الأزدي هو ابن مسلم ابن أبي قيس أحد بني يشكر بن عمرو بن رالان . ورالان هو يشكر .
ويشكر لقب لقب به ابن عمران بن عمرو بن عدي بن حارثة بن لوذان بن كهف الظلام هكذا وجدته بخط المبرد ابن ثعلبة بن عمرو بن عامر . شاعر إسلامي لص من شعراء الدولة الأموية . وقال هذه القصيدة وهو محبوس بمكة عند نافع بن علقمة الكناني في خلافة عبد الملك بن مروان .
قال أبو عمرو الشيباني : كان يعلى الأحول الأزدي لصاً فاتكاً وكان خليعاً يجمع صعاليك الأزد وخلعاءهم فيغير بهم على أحياء العرب ويقطع الطريق على
____________________

السابلة فشكيي إلى نافع بن علقمة بن محرث الكناني ثم الفقيمي وهو خال مروان بن عبد الملك وكان والي مكة فأخذ به عشيرته الأزديين فلم ينفعه ذلك واجتمع إليها شيوخ الحي فعرفوه أنه خليع قد تبرؤوا منه ومن جرائره إلى العرب وأنه لو أخذ به سائر الأزد ما وضع يده في أيديهم .
فلم يقبل ذلك منهم وألزمهم إحضاره وضم إليهم شرطاً يطلبونه إذا طرق الحي يجيئونه به فلما اشتد عليهم في أمره طلبوه حتى وجدوه فأتوه به فقيده وأودعه الحبس فقال في محبسه هذه القصيدة .
كذا قال المبرد وعمرو بن أبي عمرو الشيباني عن أبيه . قال الشيباني : ويقال إنها لعمرو بن أبي عمارة الأزدي من بني خنيس . ويقال إنها لجواس بن حيان من أزد عمان . والله أعلم .
الشاهد الرابع والثمانون بعد الثلاثمائة البسيط ( وما نبالي إذا ما كنت جارتنا ** أن لا يجاورنا إلاّك ديّار )
____________________

على أن وقوع الضمير المتصل بعد إلا شاذ والقياس وقوعه بعدها منفصلاً نحو : أن لا يجاورنا إلا إياك ديار .
وإنما استحق النصب لأنه استثناء مقدم على المستثنى منه وهو ديار .
وإنما استحق الفصل مع أنه معمول ل إلا على الصحيح لأن نحو : ما لقيت إلا إياك معمول للفعل بالاتفاق فلا يصح اتصاله بغير عامله ثم حمل عليه غير المفرغ ليجريا على سنن واحد .
وإنما سهل وصله في الضرورة لثلاثة أمور : أحدها : أن الأصل في الضمير الاتصال .
الثاني : أن الأصل في الحرف الناصب للضمير أن يتصل به نحو : إنك ولعلك .
الثالث : أجرى إلا مجرى غير أختها فأجريت مجراها في الوصف بها .
وزعم ابن مالك في شرح التسهيل أن الفصل في البيت ليس بضرورة لتمكن الشاعر من أن يقول : وإذا فتح هذا الباب لم يبق في الوجود ضرورة وإنما الضرورة عبارة عما أتى في الشعر على خلاف ما عليه النثر كذا قال ابن هشام في شرح شواهده .
وهذا البيت أنشده الفراء في تفسيره ولم يعزه إلى أحد . قال شارح اللب : ورواية البصريين : أن لا يجاورنا حاشاك ديّار
____________________

قال صاحب الكشاف : ديار من الأسماء المستعملة في النفي العام يقال : ما في الديار ديار وديور كقيام وقيوم . وهو فيعال من الدور أو من الدار أصله ديوار ففعل به ما فعل بأصل سيد ولو كان فعالاً لكان دوار .
وقال ابن الحاجب في أمالي المفصل : معناه إذا حصلت مجاورتك فانتفاء مجاورة كل أحد مغتفرة غير مبال بها لأن مجاورتك هي المقصودة دون جميع المجاورات . وأن لا يجاورنا في موضع مفعول إما على تقدير حذف حرف جر كقولك : ما باليت بزيد أو على التعدي بنفسه كقولك : ما باليت زيداً . وديار فاعل ل يجاورنا . انتهى . )
وقول العيني إلا هنا بمعنى غير فاسد يظهر بالتأمل .
وهذا البيت قلما خلا عنه كتاب نحوي . والله أعلم بقائله .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الهزج كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا على أن إيانا فصل من عامله لوقوعه بعد معنى إلا وهو شاذ .
قال سيبويه في باب من أبواب المضمر : هذا باب ما يجوز في الشعر من أيا ولا يجوز في الكلام .
فمن ذلك قول حميد الأرقط : إليك حتّى بلغت إيّاكا وقال الآخر لبعض اللصوص : كأنّا يوم قرّى إنّما نقتل إيّانا انتهى .
____________________


قال الأعلم : الشاهد في وضع إيانا موضع الضمير المتصل في نقتلنا وفي وضع إياك موضع الكاف ضرورة .
وقال الزجاج : أراد بلغتك إياك فحذف الكاف ضرورة . وهذا التقدير ليس بشيء لأنه حذف المؤكد وترك التوكيد مؤكداً لغير موجود فلم يخرج من الضرورة إلا إلى أقبح منها .
والمعنى : سارت هذه الناقة إليك حتى بلغتك . انتهى .
أتتك عنسٌ تقطع الأراكا والعنس بسكون النون : الناقة الشديدة أي : تقطع الأراضي التي هي منابت للأراك .
وكان حق الكلام في البيت الشاهد أن يقول نقتل أنفسنا لأن الفعل لا يتعدى فاعله إلى ضميره إلا أن يكون من أفعال القلوب لا تقول : ضربتني ولا أضربني ولا ضربتك بفتح التاء ولا زيد ضربه على إعادة الضمير إلى زيد ولكن تقول : ضربت نفسي وضربت نفسك وزيد ضرب نفسه .
وإنما تجنبوا تعدي الفعل إلى ضمير فاعله كراهة أن يكون الفاعل مفعولاً في اللفظ فاستعملوا في موضع الضمير النفس نزلوها منزلة الأجنبي واستجازوا ذلك في أفعال العلم والظن الداخلة )
على جملة الابتداء فقالوا : حسبتني في الدار ولم يأت هذا في غير هذا الباب إلا في فعلين قالوا : عدمتني وفقدتني .
ولما لم يمكن هذا الشاعر أن يقول : نقتل أنفسنا ولا نقتلنا وضع إيانا موضع نا وحسن ذلك قليلاً أن استعمال المتصل ها هنا قبيح أيضاً وأن الضمير المنفصل أشبه بالظاهر المتصل ف إيانا أشبه بأنفسنا من نا . ولكن أقبح منه قول حميد : إليك حتّى بلغت إيّاكا والبيت من أبيات لذي الإصبع العدواني وهي :
____________________

( لقينا منهم جمعاً ** فأوفى الجمع ما كانا ) ( كأنّا يوم قرّى ** إنّما نقتل إيّانا ) ( قتلنا منهم كلّ ** فتىً أبيض حسّانا ) ( يرى يرفل في بردين ** من أبراد نجرانا ) كذا في أمالي ابن الشجري .
ولم يرو ابن الأعرابي في أماليه البيت الأول وأنشد بعد نجران : ( إذا يسرح ضأناً م ** ائةً أتبعها ضانا ) وقوله : فأوفى الجمع الخ هو فعل ماض من الوفاء ويجوز أن يريد فأوفى بما كان عليه فحذف وأوصل . ويجوز أن يريد فوفى الجمع الذي لقيناه ما كان عليه أن يفعله من الإقدام على قتالنا .
وقوله : كأنا يوم قرى الخ بضم القاف وتشديد الراء المهملة بعدها ألف مقصورة . قال أبو عبيد البكري وياقوت في معجمهما : قرى : موضع في بلاد بني الحارث بن كعب .
وزاد أبو عبيد : وقال أبو حنيفة الدينوري : قرى : ماءة قريبة من تبالة وتبالة بفتح المثناة الفوقية بعدها باء موحدة بعدها لام على وزن فعالة : بلد وهي التي يضرب بها المثل فيقال : أهون من تبالة على الحجاج أبو اليقظان : هي أول عمل وليه الحجاج وهي بلدة صغيرة من اليمن فلما قرب منها قال للدليل : أين هي قال : تسترها عنك هذه الأكمة . قال : أهون علي بعمل بلدة تسترها عني أكمة وكر راجعاً .
قال ابن الشجري : ومعنى قوله كأنا نقتل إيانا تشبيه المقتولين بنفسه وقومه في الحسن والسيادة فلذلك وصفه بما بعده أي : هم سادة يلبسون أبراد اليمن فكأننا بقتلنا إياهم قتلنا أنفسنا . )
انتهى .
____________________


وقال ابن الأعرابي : أي : لا ينبغي أن نقتل منهم لنفاستهم ولكن ألجئونا إلى ذلك .
وقال الأعلم : وصف قوماً أوقعوا ببني عمهم فكأنهم بقتلهم قاتلون أنفسهم .
وقوله : كل فتى أبيض حسانا هم بضم الحاء وتشديد السين : وصف بمعنى الكثير الحسن كالطوال بمعنى المفرط في الطول والكبار بمعنى المفرط في الكبر . والبياض هنا : نقاء العرض عن كل ما يعاب به .
وهذا البيت أورده سيبويه في باب ما لا يكون الاسم فيه إلا نكرة قال : حدثني أبو الخطاب أنه سمع من يوثق بعربيته من العرب ينشد هذا البيت : ( قتلنا منهم كلّ ** فتىً أبيض حسّانا ) ف أبيض وحسان منصوبان على أنهما نعتان . ويجوز عندي أن يكونا صفتين لفتى وفتحتهما نائبة عن الكسرة لأنهما ممنوعان من الصرف .
وتبع ابن الشجري سيبويه فقال : نصب حسانا على الوصف ل كل ولو كان في نثر لجاز حسانين وصفاً لكل على معناها لأن لفظها واحد ومعناها جمع . قال : يقال حسنة وحسن فإذا بالغوا في الحسن قالوا : حسان وحسانة مخففان فإذا أرادوا النهاية فيه قالوا : حسان وحسانة مشددان .
وقوله : يرى يرفل الخ الأول بالبناء للمفعول يقال : رفل فلان في ثوبه وذلك إذا طال الثوب على لابسه وجره في مشيه ويفعلون ذلك تكبراً . ونجران : بلد باليمن ينسج فيها البرود الجيدة .
وذو الإصبع العدواني : شاعر معمر من شعراء الجاهلية . قال أبو حاتم في كتاب المعمرين : عاش ذو الإصبع وهو حرثان بن محرث من عدوان بن
____________________

عمرو بن قيس عيلان ثلثمائة سنة وقال : البسيط ( أصبحت شيخاً أرى الشخصين أربعةً ** والشّخص شخصين لمّا مسّني الكبر ) ( لا أسمع الصّوت حتّى أستدير له ** ليلاً وإن هو ناغاني به القمر ) وإنما قال ليلاً لأن الأصوات هادئة فإذا لم يسمع بالليل والأصوات ساكنة كان من أن يسمع بالنهار مع ضجة الناس ولغطهم أبعد . وإنما قيل له ذو الإصبع لأنه كانت له في رجله إصبع زائدة . )
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : ذو الإصبع حرثان بن عمرو من عدوان بن عمرو بن قيس عيلان وكان جاهلياً . وسمي ذا الإصبع لأن حيةً نهشت إصبعه فقطعها . انتهى .
وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : نسبه أحمد بن عبيد وغيره . فقالوا : هو حرثان بن الحارث . والأصمعي يقول : ابن السموءل بن محرث بن شبابة بن ربيعة بن هبيرة بن ثعلبة بن الظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان وهو الحرث بن عمرو بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار . وإنما سمي ذا الإصبع لأن أفعلى نهشت إبهام رجله فقطعها . ويقال : إنه كانت له إصبع زائدة . انتهى .
وقال علم الهدى السيد المرتضى في أماليه غرر الفوائد ودد القلائد : ومن المعمرين ذو الإصبع العدواني واسمه حرثان بن محرث بن الحارث بن ربيعة بن وهب ابن ثعلبة بن ظرب بن عمرو بن عياذ بن يشكر بن عدوان وهو الحارث بن عمرو ابن قيس بن عيلان بن مضر . وإنما سمي الحارث عدوان لأنه عدا علي أخيه فهم
____________________

فقتله . وقيل : بل فقأ عينه .
وقيل : إن اسم ذي الإصبع محرث بن حرثان وقيل حرثان بن حويرث وقيل حرثان بن حارثة .
ويقال : إنه عاش مائة وسبعين سنة . وقال أبو حاتم : إنه عاش ثلثمائة سنة . وهو أحد حكام العرب في الجاهلية .
ثم أورد السيد جملاً من أحواله إلى أن أورد هذه الحكاية . وأوردها الزجاجي أيضاً في أماليه الصغرى بسندهما إلى سعيد بن خالد الجدلي أنه قال : لما قدم عبد الملك بن مروان الكوفة بعد قتل مصعب بن الزبير دعا الناس إلى فرائضهم فأتيناه فقال : ممن القوم فقلنا : من جديلة .
فقال : جديلة عدوان قلنا : نعم . فتمثل عبد الملك : الهزج ( عذير الحيّ من عدوا ** ن كانوا حيّة الأرض ) ( بغى بعضهم بعضاً ** فلم يرعوا على بعض ) ( ومنهم كانت السّاد ** ات والموفون بالقرض ) ثم أقبل على رجل كنا قدمناه أمامنا جسيم وسيم فقال : أيكم يقول هذا الشعر فقال : لا أدري . فقلت من خلفه : يقوله ذو الإصبع . فتركني وأقبل على ذلك الجسيم فقال : وما كان اسم ذي الإصبع فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : اسمه حرثان . فأقبل عليه وتركني . فقال : لم سمي ذا الإصبع فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : نهشته حية على إصبعه . )
فأقبل عليه وتركني . فقال : من أيكم كان فقال : لا أدري . فقلت أنا من خلفه : من بني ناج .
فأقبل على الجسيم فقال : كم عطاؤك فقال : سبعمائة
____________________

درهم . ثم أقبل علي فقال : كم عطاؤك فقلت : أربعمائة درهم . فقال لكاتبه حط من عطاء هذا ثلثمائة وزدها في عطاء هذا .
فرحت وعطائي سبعمائة وعطاؤه أربعمائة . اه .
وأورد له من شعره قوله : الطويل ( أكاشر ذا الضّغن المبيّن منهم ** وأضحك حتّى يبدو النّاب أجمع ) ( وأهدنه بالقول هدناً ولو يرى ** سريرة ما أخفي لبان يفزّع ) ومعنى أهدنه أسكنه .
ومنه قوله : الوافر ( إذا ما الدّهر جرّ على أناسٍ ** شراشره أناخ بآخرينا ) ( فقل للشّامتين بنا أفيقوا ** سيلقى الشّامتون كما لقينا ) ومعنى الشراشرة هنا الثقل . يقال : ألقى علي شراشره وجراميزه أي : ثقله .
ومن قوله أيضاً : الكامل
____________________

( ذهب الذين إذا رأوني مقبلاً ** هشّوا إليّ ورحّبوا بالمقبل ) ( وهم الذين إذا حملت حمالةً ** ولقيتهم فكأنّني لم أحمل ) وحرثان بضم الحاء المهملة وسكون الراء بعدها ثاء مثلثة . ومحرث بكسر الراء المشددة على زنة اسم الفاعل . وعدوان بفتح العين وسكون الدال المهملتين . والسموءل بفتح السين والميم وسكون الواو بعدها همزة مفتوحة ولام .
وشبابة بفتح الشين المعجمة بعدها موحدتان خفيفتان . وعياذ بكسر العين المهملة بعدها مثناة تحتية وآخره ذال معجمة . والظرب بفتح الظاء المعجمة وكسر الراء المشالة . وفهم بفتح الفاء وسكون الهاء وثالثه ميم وهو أخو عدوان .
وأنشد بعده : تراكها من إبلٍ تراكها وتقدم شرحه مستوفى في الشاهد الحادي والستين بعد الثلاثمائة : وأنشد بعده )
الشاهد السادس والثمانون بعد الثلاثمائة : البسيط ضمنت إيّاهم الأرض
____________________

هذا قطعة من بيت وهو : على أن فصل الضمير ضرورة والقياس ضمنتهم الأرض .
كذا أنشده ابن الشجري في أماليه وقال : ومثله في القبح ضمير الرفع . قال طرفة : الكامل ( أصرمت حبل الوصل بل صرموا ** يا صاح بل قطع الوصال هم ) وأنشده شراح الألفية وابن هشام في شواهده أيضاً بتقديم الباعث على الوارث . والأنسب الرواية الأولى .
والباء في قوله بالوارث متعلقة بحلفت في بيت متقدم وهو : ( إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ ** فناء بيتٍ من السّاعين معمور ) وقوله : ولم أحلف على فند الجملة حال من التاء في حلفت . والفند بفتح الفاء والنون : الكذب . وفناء البيت : ساحته وهو بكسر الفاء بعدها نون وهو ظرف لقوله حلفت .
وأراد بالبيت بيت الله الحرام زاده الله شرفاً . ومن متعلقة ب معمور . والساعين : الذين يسعون إليه من جميع البلاد . ومعمور صفة لبيت .
والوارث والباعث : اسمان من أسماء الله الحسنى أقسم بهما . والوارث : الذي يرجع إليه الأملاك بعد فناء الملاك . والباعث : هو الذي يبعث الخلق أي : يحييهم بعد الموت يوم القيامة .
وضمنت : بكسر الميم بمعنى تضمنت عليهم أي : اشتملت عليهم أو بمعنى كفلت كأنها
____________________

والدهر : الزمان . ودهر الدهارير : الزمان السالف وقيل أول الأزمنة السالفة . وإذا قيل دهر دهارير بالصفة فمعناه شديد كما يقال : ليلة ليلاء .
قال ابن هشام : والأموات إما منصوب بالوارث على أن الوصفين تنازعاه وأعمل الثاني والأول لا ضمير فيه وإما مخفوض بإضافة الأول أو الثاني على حد قوله : المنسرح بين ذراعي وجبهة الأسد وأما قوله : قد ضمنت إياهم الأرض فهو إما حال من الأموات أو وصف لها لأن أل فيها للجنس . )
والبيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها يزيد بن عبد الملك ويهجو يزيد بن المهلب : وقبله : ( يا خير حيٍّ وقت نعلٌ له قدماً ** وميّتٍ بعد رسل اللّه مقبور ) ( إنّي حلفت ولم أحلف على فندٍ ** فناء بيتٍ من السّاعين معمور )
____________________

( في أكبر الحجّ حافٍ غير منتعلٍ ** من حالفٍ محرمٍ بالحجّ مصبور ) ( بالباعث الوارث الأموات قد ضمنت ** إيّاهم الأرض في دهر الدّهارير ) ( إذا يثورون أفواجاً كأنّهم ** جراد ريحٍ من الأجداث منشور ) ( فأنت إن لم تكن إيّاه صاحبه ** مع الشّهيدين والصّدّيق في السّور ) والفند بفتح الفاء والنون : الكذب . والمصبور : الذي صبر نفسه على أفعال الحج أي : حبسها .
وقوله : إذا يثورون متعلق بالباعث يريد : كأنهم جراد نشرته الريح وفرقته . ومنشور كان حقه الرفع لأنه نعت لجراد ولكنه خفضه على المجاورة .
وقوله : لو لم يبشر به الخ هذا جواب القسم وفيه مبالغة فاحشة .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والثمانون بعد الثلاثمائة الطويل ( وإنّ أمرأً أسرى إليك ودونه ** من الأرض موماةٌ وبيداء سملق ) ( لمحقوقةٌ أن تستجيبي لصوته ** وأن تعلمي أن المعان موفّق )
____________________

على أن الكوفيين أجازوا ترك التأكيد بالمنفصل في الصفة الجارية على غير من هي له إن أمن اللبس فإن قوله : لمحقوقة خبر عن اسم إن وهو في المعنى للمرأة المخاطبة ولم يقل لمحقوقة أنت .
وأقول : الظاهر من كلام ابن الشجري في أماليه ومن كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف ومن كلام غيرهما أن مذهب الكوفيين جواز ترك التأكيد مطلقاً سواء أمن اللبس أم لا .
قال ابن الأنباري : احتج الكوفيون لمذهبهم بالشعر المتقدم وبقوله : الوافر ( ترى أرباقهم متقلّديها ** كما صدئ الحديد على الكماة ) ولو كان إبراز الضمير واجباً لقال متقلديها هم فلما لم يبرز الضمير دل على جوازه . وأجاب البصريون عن هذا بأنه على حذف مضاف أي : ترى أصحاب أرباقهم متقلديها . وعن الأول بجوابين : أحدهما : ما نقله ابن الشجري عن أبي علي وهو أنه ليس في قوله محقوقة ضمير لأنه مسند إلى المصدر الذي هو أن تستجيبي فالتقدير لمحقوقة استجابتك فجعل التأنيث في قوله لمحقوقة للاستجابة للمرأة حتى إنه لو قال : لمحقوق بالتذكير لجاز لأن تأنيث الاستجابة غير حقيقي .
وحاصله أن المصدر المؤول نائب الفاعل لقوله محقوقة . وإلى هذا ذهب ابن هشام في شرح شواهده .
والجواب الثاني ما ذكره ابن الأنباري بأن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم والجملة خبر اسم إن والرابط الضمير في لصوته .
ويحتمل هذين الجوابين ما نقله السكري في كتاب التصحيف قال : أخبرني أبي قال : أخبرنا عسل بن ذكوان قال : قال أبو عثمان المازني : سألني الأصمعي لم أنث محقوقة قلت : لأنه موضع مصدر مؤنث لأن معناه استجابتك لصوته وأن تستجيبي هي استجابتك . فلم يرد علي شيئاً . اه .
وأجاب صاحب اللباب بأن هذا لضرورة الشعر ولم يرتض الجوابين المذكورين . قال فيما أملاه )
على اللباب : قوله لمحقوقة إنما جرى على غير من هو له
____________________

لأن التقدير وإن امرأً محقوقة بالاستجابة .
لا يقال جاز أن يكون أن تستجيبي فاعلى محقوقة أو مبتدأ خبره محقوقة مقدماً لأنه يقال : زيد حقيق بالاستجابة فيسند إلى الذات ولا يقال الاستجابة حقيقة بزيد . ولذلك يتأول قوله تعالى : حقيقٌ علَى أن لا أقول كما هو مذكور في الكشاف . اه .
وأجاز شارحه الفالي ما منعه وأجاب عما أورده فقال : ويمكن أن يقال إن قوله أن تستجيبي مبتدأ مؤخر ومحقوقة خبر مقدم والجملة خبر إن فقد جرت على من هي له . ومحقوقة بمعنى جديرة . يقال : أنت حقيق أن تفعل كذا وزيد حقيق به ومحقوق به أي : خليق له .
وكان حقه أن يسند إلى الذات فيقال : زيد حقيق بالاستجابة لا أن الاستجابة حقيقة بزيد .
ونظير ذلك ما استشكل من قوله تعالى : حَقيقٌ علَى أنْ لا أقولَ على اللَّهِ إلاَّ الحقَّ فيمن قرأ بغير وتأول بتأويلات أحدها : أنه على القلب والثاني : أن ما لزمك فقد لزمته . والثالث : أن المراد حقيق على ترك القول إذ أكون أنا قائله ولا يرضى إلا بمثلي ناطقاً به . اه .
والبيت الأول من هذين البيتين قد أنشده الشارح في الشاهد الرابع بعد المائتين من باب الحال وتقدم الكلام عليه مع أبيات من أول القصيدة هناك .
والقصيدة للأعشى ميمون .
وقبله :
____________________

( وخرقٍ مجوفٍ قد قطعت بجسرةٍ ** إذا خبّ آلٌ وسطه يترقرق ) ( هي الصّاحب الأدنى وبيني وبينها ** مجوفٌ علافيٌّ وقطعٌ ونمرق ) ( وتصبح من غبّ السّرى وكأنّما ** ألمّ بها من طائف الجنّ أولق ) وإنّ امرأً أسرى إليك ودونه . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين ( وكم دونه من حزنٍ قفٍّ ورحلةٍ ** وسهبٍ به مستوضح الآل يبرق ) ( وأصفر كالحنّاء ذاوٍ جمامه ** متى ما يذقه فارط القوم يبصق ) ( به تنفض الأحلاس في كلّ منزلٍ ** وتعقد أطراف الحبال وتطلق ) ( وإنّ عتاق العيس سوف يزوركم ** ثناءٌ على أعجازهنّ معلّق ) قوله : وخرق بفتح الخاء المعجمة : الفقر والأرض تنخرق فيها الرياح وهو مجرور برب المقدرة بعد الواو . والجسرة بفتح الجيم وسكون السين المهملة : الناقة القوية على السير . وخب بمعنى )
خدع . والآل : السراب في أول النهار ووسطه ويترقرق أي : ينصب خبره والجملة صفة آل والعائد الضمير . يقال : رقرق الماء وغيره إذا صبه رقيقاً . والسراب هكذا يرى للناظر إليه .
وقوله : هي الصاحب الخ الأدنى : الأقرب . والمجوف بالجيم : الرحل . والعلافي منسوب إلى علاف بكسر المهملة وهو رجل من قضاعة
____________________

كان يعمل الرحال . والقطع بكسر القاف : طنفسة أي : بساط يجعله الراكب تحته ويغطي كتفي البعير . والنمرق : الوسادة وهي هنا وسادة فوق الرحل .
وقوله : وتصبح من غب الخ الغب بالكسر : عاقبة الشيء . وألم بمعنى نزل وفاعله أولق وهو الجنون . يريد : أنها شديدة جداً لا يحصل لها إعياء كالمجنون .
وقوله : وإن امرأً أسرى الخ هذا انتقال من وصف ناقته إلى خطاب امرأة . وأراد بالمرء نفسه .
وأسرى : لغة في سرى . ودونه بمعنى أمامه وقدامه . والموماة بفتح الميم : الأرض التي لا ماء فيها . والبيداء : القفر . والسملق : الأرض المستوية .
وهذا البيت روي في ديوانه وغيره من كتب الأدب كذا : فالمراد من المرء ممدوحه والخطاب لناقته المذكورة . وكان ممدوحه أهداها له فالكلام على هذه الرواية من أوله إلى هنا خطاب لناقته . ومنه يظهر أن المناسب في الرواية الأولى أيضاً كون المراد بالمرء ممدوحه والخطاب لناقته وأن أسرى بمعنى حمل على السرى وإلى بمعنى على ليكون الكلام على وتيرة واحد .
وفياف : جمع فيفاء وهي الفلاة . وتنوفات : جمع تنوفة وهي القفر واليهماء بفتح المثناة التحتية : الأرض التي لا يهتدى فيها . وروي : خيفق بدل سملق بفتح الخاء المعجمة وسكون المثناة التحتية وفتح الفاء وهي الفلاة الواسعة .
وقوله : أن المعان موفق كلاهما اسم مفعول من الإعانة والتوفيق . قال السيد المرتضى في أماليه : فيه قلب يريد أن الموفق معان .
____________________


وقال المرزباني في الموشح : ينبغي للشاعر أن يتفقد مصراع كل بيت حتى يشاكل ما قبله فقد جاء من أشعار القدماء ما تختلف مصاريعه كقول الأعشى : وأن تعلمي أن المعان موفّق غير مشاكل لما قبله . وكذلك قال صاحب تهذيب الطبع . )
وقوله : وكم دونه الخ الضمير للمرء . والحزن بالفتح : الأرض الوعرة . والقف بضم القاف : ما وقوله : وأصفر كالحناء يعني ماءً أصفر كالحناء . وذاو : متغير . والجمام بكسر الجيم : جمع جم بفتحها وهو الماء الكثير وفارط القوم بالفاء هو الذي يتقدمهم إلى الورد لإصلاح الحوض والدلاء .
يقال : فرط القوم يفرطهم فرطاً إذا تقدمهم لما ذكرنا . وإنما يبصق عند ذوقه لمرارة الماء وتغيره .
وقوله : به تنفض الخ الحلس بكسر المهملة : كساء على ظهر البعير تحت البرذعة ويبسط في البيت تحت حر الثياب . وإنما تنفض للرحيل .
وقوله : وإن عتاق العيس الخ هذا المعنى أول من اخترعه الأعشى وأخذه من جاء بعده .
قال القطامي : الكامل ( لأعلّقنّ على المطيّ قصائداً ** أذر الرّواة بها طويلي المنطق )
____________________

وقال نصيب : الطويل ( فعاجوا فأثنوا بالذي أنت أهله ** ولو سكتوا أثنت عليك الحقائب ) ومن هنا أخذ أبو العتاهية قوله : الكامل ( فإذا وردن بنا وردن خفائفاً ** وإذا صدرن بنا صدرن ثقالا ) وقوله : ولا بد من جار الخ الجار له معان والمراد هنا المجير ويقال أيضاً للمستجير وللحليف وللناصر وللمجاور الذي أجرته من أن يظلم . والسكي بفتح السين المهملة وتشديد الكاف والياء وهو المسمار ويقال له السك أيضاً بدون الياء . والفيتق بفتح الفاء وسكون المثناة التحتية وفتح المثناة الفوقية : النجار والحداد .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والثمانون بعد الثلاثمائة الوافر ( فلا تطمع أبيت اللّعن فيها ** ومنعكها بشيءٍ يستطاع )
____________________

على أن ما بعد الضمير المجرور إذا كان أنقص تعريفاً جاز فيه الانفصال والاتصال فإنه كما جاز منعكها يجوز منعك إياها . وكاف المخاطب محلها الجر بإضافة المصدر إليها وهو المنع وضمير الغائب أنقص تعريفاً من ضمير المخاطب .
قال ابن هشام في شواهده : هذا مما اتفق على أن فصله أرجح .
وأورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية على أن هذا أعني وصل ثاني ضميرين عاملهما اسم واحد ضعيف والقياس ومنعك إياها . كذا نقل العيني عنهما هذا . والمنقول في اللغة أن منع مما يتعدى إلى المفعول الثاني تارةً بنفسه وتارة بحرف الجر يقال : منعتك كذا أو منعتك عن كذا أو من كذا .
ففي تصوير الفصل ينبغي أن يقيد المفعول الثاني بحرف الجر . وفاعل المصدر هنا محذوف أي : منعيك عنها . والهاء ضمير راجع لسكاب وهو اسم فرس . والباء في قوله : بشيء زائدة في خبر المبتدأ الذي هو منعكها . وبه استشهد ابن هشام في المغني .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : قد جاء زيادة الباء في الخبر ألا ترى إلى قول أبي الحسن في قول الله تعالى : جزاءٌ سيِّئةٍ بمثلها إن تقديره جزاء سيئة سيئة مثلها اعتباراً لقوله عز اسمه : وجَزاء سَيئةٍ سَيِّئةٌ مثلُها فكأنه قال : ومنعكها شيء يستطاع أي : أمر مطاق غير باهظ ولا معجز أي : فاله عنها ولا تعلق فكرك بها .
ويجوز وجه آخر وهو أن يريد : ومنعكها بمعنىً من المعاني مما يستطاع وذلك المعنى إما غلبة ومعازة وإما بفداء نفديها به منك أو غير ذلك فيكون المعنى قريباً من الأول إلا أنه ألين جانباً منه .
فالباء على هذا متعلقة بنفس المنع . ويجوز أيضاً أن تعلق بيستطاع أي : يستطاع
____________________

بمعنى من وهذا البيت آخر أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة . ونسبها إلى رجل من بني تميم وقد طلب منه ملك من الملوك فرساً يقال لها سكاب فمنعه إياها وقال : ( أبيت اللّعن إنّ سكاب علقٌ ** نفيسٌ لا يعار ولا يباع ) ) ( مفدّاةٌ مكرّمةٌ علينا ** يجاع لها العيال ولا تجاع ) ( سليلة سابقين تناجلاها ** إذا نسبا يضمّهما الكراع ) فلا تطمع أبيت اللّعن فيها . . . . . . . . . . . . . البيت وكفّي تستقلّ بحمل سيفي وبي ممّن تهضّمني امتناع ( وحولي من بني قحفان شيبٌ ** وشبّانٌ إلى الهيجا سراع ) ( إذا فزعوا فأمرهم جميعٌ ** وإن لاقوا فأيديهم شعاع ) وقوله : أبيت اللعن الخ أي : أبيت الأمر الذي تلعن عليه إذا فعلته . قال المرزوقي في شرح الحماسة : أبيت اللعن : تحية كان يستعطف به الملوك وأصل اللعن الطرد .
قال الشاعر : مجزوء الكامل ( ولكلّ ما نال الفتى ** قد نلته إلاّ التّحيّة ) يعني إلا أن يقال لي : أبيت اللعن لأنه تحية الملوك وكأنه قال : نلت كل شيء إلا الملك . وأصل اللعن : الطرد . وسكاب : فرس إذا أعربته منعته
____________________

الصرف لأنه علم فلحصول التعريف فيه والتأنيث مع كثرة الحروف يمنع الصرف والشاعر تميمي وهذه لغة قومه .
وإذا بنيته على الكسر أجريته مجرى حذام لأنه مؤنث معدول معرفة . فلمشابهته هذه الأوصاف دراك ونزال بني وهذه اللغة حجازية . واشتقاق سكاب من سكبت إذا صببت . ويقال في صفة الفرس بحر وسكب .
وقوله : علق نفيس أي : مال يبخل به وهذا كما يقال هو علق مضنة بالكسر . يقول : إن فرسي نفيس لا يبذل للإعارة ولا يعرض للبيع .
وقوله : مفداة مكرمة الخ يقول : هي لعزتها على أربابها تفدى بالآباء والأمهات وتؤثر تكريماً لها على العيال عند الإضاقة والإقتار فيجوع العيال ولا تجوع هذه .
وقوله : سليلة الخ يقول : هي ولد فرسين سابقين إذا نسبا ضم مناسبهما الكراع وهو بالضم فحل كريم معروف . وأصل الكراع أنف يتقدم من الجبل فسمي هذا الفحل به لعظمه .
وسليلة ألحق الهاء بها وإن كان فعيل في معنى مفعول لأنه جعل اسماً كما تقول هي قتيلة بني فلان . ومعنى سل نزع . ويقال : نجلا ولدهما وتناجلاه بمعنى واحد ومنه النجل بمعنى الولد : ( وفيها عزّةٌ من غير نفرٍ ** نحيّدها إذ حرّ القراع ) )
وقوله : وفيها عزّة الخ نحيّدها : بالحاء المهملة أي : نجعلها حائدة . وحرّ بالمهملتين أي : اشتدّ .
والقراع : مصدر قارعه أي : ضاربه .
____________________


وقوله : فلا تطمع الخ قال المرزوقي : يقول : ارفع طمعك في تحصيل هذه الفرس أبيت أن تأتي ما تستحق به اللعن ودفعك عنها يقدر عليه بوجه ما وبحيلة ما .
والمعنى إني لا أسعفك بها أن استوهبتها ما وجدت إلى الرد طريقاً فلا تطمع ما دامت لي هذه الحالة .
وقوله : وكفي تستقل الخ يقال : تهضم حقه أي : ظلمه . وقحفان بضم القاف وسكون الحاء المهملة بعدها فاء . والشيب بالكسر : جمع أشيب وهو الذي حصل له الشيب .
وقوله : إذا فزعوا الخ الشعاع بفتح الشين : المتفرق . يقول : إن فزعوا من أمرٍ فكلمتهم واحدة وإذا لاقوا العدو فأيديهم متفرقة عليه بالطعن والضرب .
وعبيدة بن ربيعة : مصغر عبدة بالتأنيث وهو شاعر فارس جاهلي .
وأنشد بعده الشاهد التاسع والثمانون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل على أن الضمير الثاني إذا كان مساوياً للأول شذ وصله كما هنا فإنه جمع بين ضميري الغيبة في الاتصال وكان القياس لضغمهما إياها .
قال سيبويه في باب إضمار المفعولين : إذا ذكرت مفعولين كلاهما غائب قلت
____________________

أعطاهوها وأعطاهاه جاز وهو عربي ولا عليك بأيهما بدأت من قبل أنهما كلاهما غائب . وهذا أيضاً ليس بالكثير في كلامهم والكثير في كلامهم أعطاه إياها .
على أن الشاعر قال : وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ . . . . . . . . . . . . . البيت اه .
قال النحاس والأعلم : إنما كان وجه الكلام لضغمهما إياها لأن المصدر لم يستحكم في العمل والإضمار استحكام الفعل .
وجعل هنا من أفعال الشروع ونفسي اسمها وجملة تطيب خبرها . والضغمة بفتح الضاد )
وسكون الغين المعجمتين : العضة .
وقد اختلف الناس في معنى هذا البيت وأصوب من تكلم عليه ابن الشجري في أماليه في موضعين منها وتبعه صاحب اللباب في تعليقه على اللباب قال : يقول : جعلت نفسي تطيب لأن وصف ضغمة بالجملة والمصدر الذي هو الضغم مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف التقدير : لضغمي إياهما .
والهاء التي في قوله لضغمهماها عائدة إلى الضغمة فانتصابها إذن انتصاب المصدر مثلها في قوله تعالى : إنّ هذا لمكرٌ مكرتموه في المدينة وأضاف الناب إلى ضمير الضغمة لأن الضغم إنما هو بالناب .
واللام في قوله لضغمهماها متعلقة بيقرع أي : يقرع عظمهما نابي لضغمي إياهما ضغمة واحدة . اه .
وعلى هذا الضغمتان والقرع والناب جميعها للمتكلم واللام الأولى متعلقة بقوله تطيب .
____________________


وينبغي أن نورد الأبيات التي منها هذا البيت وسببها حتى يتضح المعنى ويزول الإشكال فإن غالب من تكلم عليه لم يقف على ما ذكرنا .
قال أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب وهو ما كتبه على نوادر ابن الأعرابي : إن مغلس بن لقيط وهو من ولد معبد بن نضلة كان رجلاً كريماً حليماً شريفاً وكان له إخوة ثلاثة : أحدهم أطيط بالتصغير وكان أطيط به باراً والآخران وهما مدرك ومرة مماظين فلما مات أطيط أظهرا له العداوة فقال : الطويل ( قرينين كالذّئبين يبتدرانني ** وشرّ صحابات الرّجال ذئابها ) ( وإن رأيا لي غرّةً أغريا بها ** أعاديّ والأعداء كلبى كلابها ) ( إذا رأياني قد نجوت تلمّسا ** لرجلي مغوّاةً هياماً ترابها ) ( وأعرضت أستبقيهما ثمّ لا أرى ** حلومهما إلاّ وشيكاً ذهابها ) ( لعلّ جوازي اللّه يجزين منهما ** ومرّ اللّيالي صرفها وانقلابها ) ( فيشمت بالمرأين مرءٌ تخطّيا ** إليه قراباتٍ شديداً حجابها ) ( وقد جعلت نفسي تطيب لضغمةٍ ** أعضّهما ما يقرع العظم نابها ) ( ولا مثل يومٍ عند سعد بن نوفلٍ ** بفرتاج إذ توفي عليّ هضابها ) ) ( لأجعل ما لم يجعل اللّه لامرئٍ ** وأكتب أموالاً عداءً كتابها ) ( خرجت خروج الثّور قد عصبت به ** سلوقيّة الأنساب خضعٌ رقابها )
____________________

( حبست بغمّى غمرةٍ فتركتها ** وقد أترك الغمّى إذا ضاق بابها ) ثم رثى أطيطاً فقال : ( ذكرت أطيطاً والأداوى كأنّها ** كلىً من أديمٍ يستشنّ هزومها ) ( لعمري لقد خلّيتني ومواطناً ** تشيب النّواصي لو أتاك يقينها ) انتهى ما أورده أبو محمد .
وقوله : والدنيا قليل عتابها أراد أن عتاب الدنيا غير نافع فمعاتبها غير مستكثر منه .
وقوله : قرينين كالذئبين شبههما بالذئبين لأن الذئاب أخبث السباع .
وقوله : وإن رأيا لي غرة الخ روى بدله : إذا رأيا لي غفلةً أسّدا لها أي : أفسدا قلوب أعادي حتى جعلا أخلاقهم كأخلاق الأسود . والكلبى : جمع كلب كزمنى جمع زمن .
وقوله : إذا رأياني قد نجوت الخ تلمسا ألفه ضمير الاثنين والمغواة بضم الميم وفتح الغين المعجمة وتشديد الواو : حفرة كالزبية . يقال : من حفر مغواةً وقع فيها . والهيام بفتح الهاء لا بكسرها كما زعمه العيني بعدها مثناة تحتية : الرمل الذي لا يتماسك أن يسيل من اليد للينه .
ونقل العيني عن أبي علي في التذكرة أن الرواية عنده هيالى ترابها قال : وهذا يدل على أن التراب جمع ترب ولو كان مفرداً لقال : هائل ترابها . قال صاحب العين : الهائل : الرمل الذي لا يثبت .
وضرب هذا مثلاً لكثرة معرفتهما بالشر والتحيل في جلب أنواع الضرر . وفرتاج بفتح الفاء : موضع .
____________________


والغمرة بالفتح : الشدة والغمى بفتح المعجمة وضمها : الغامة أي : المهمة الملتبسة .
وروى السيرافي بعد قوله هياماً ترابها : ( فلولا رجائي أن تؤوبا ولا أرى ** عقولكما إلاّ شديداً ذهابها ) ( سقيتكما قبل التفرّق شربةً ** يمرّ على باغي الظّلام شرابها ) وقد جعلت نفسي تطيب . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
والظلام بالكسر : جمع ظلم بالضم .
وقد أنشد البيت الشاهد أبو الحسن علي بن عيسى الربعي هكذا : ( فقد جعلت نفسي تهمّ بضغمةٍ ** على علّ غيظٍ يقصم العظم نابها ) والعل بفتح المهملة : التكرر . والقصم بالقاف : كسر مع فصل . وعلى هذا لا شاهد فيه والمشهور الرواية الأولى .
وقد اختلف العلماء في معناه فقال الخوارزمي : الضغمة : العضة ولضغمهماها بدل من قوله لضغمة والضمير الأول لسبعين وأما الثاني فلضغمة والضمير في نابها لضغمة . يقول : لكثرة ما ابتليت به من المحن قد طابت نفسي أن يعضني سبعان ناباهما يضربان العظم . وقرع الناب العظم كناية عن الصوت . هذا كلامه .
وقال الأعلم : هذا الشاعر وصف شدةً أصابه بها رجلان فيقول : قد جعلت نفسي تطيب لإصابتهما بمثل الشدة التي أصاباني بها . وضرب الضغمة مثلاً ثم وصف الضغمة فقال : يقرع العظم نابها فجعل لها ناباً على السعة . والمعنى : يصل الناب فيها إلى العظم فيقرعه . اه .
وقال الأندلسي في شرح المفصل : قيل إن معنى البيت أن نفسه طابت لإصابة الشدة من أجل أن هذين القاصدين له بالشدة أصابتهما مثلها . وفي البيت إشكال فإن الضغم عبارة عن الشدة فإذا قدرت إضافتها إلى المفعول وهو الظاهر وجب أن يكون ضميرها فاعلاً في المعنى فلا يستقيم لوجهين :
____________________

أحدهما : أنها ليست من ضمائر الرفع . والآخر : أن ضمائر الرفع لا تأتي بعد ضمير المفعول فالوجه أن يقال إن الضغم بمعنى الإصابة أضيف إلى الفاعل الذي هو ضمير التثنية ثم ذكر بعد ذلك المفعول فكأنه قال : لإصابة هذه الشدة التي عبر عنها بالضغمة أولاً . هذا كلامه .
ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أنه قال في الحواشي : هما عائدان للأسد والضبع وقيل للأسد والذئب وها للضغمة . ووجدت في موضع آخر من الحواشي قال : الضمير الأول يرجع إلى الذئب والضبع والثاني إلى النفس .
وهذا أشبه من الأول إلا أنه مع وجود ما يعود إليه ضمير الاثنين من قوله قرينين كالذئبين لا والذي أراه أن معنى البيت إن نفسي قد طابت أن تصيبها ضغمة بهذه الصفة لأجل ضغمهما إياها إذ ليسا من نظرائي وأشكالي . فيكون موضع لام لضغمهماها نصب على أنه مفعول له )
وموضع هما رفع بالفاعلية وموضع ها نصب بالمفعولية . هذا كلامه .
وقال ابن الحاجب في أماليه ونقله شارح اللباب : يقول : طابت نفسي للشدة التي أصابتني لوقوع القاصد لي بها في أعظم منها . والضغمة عبارة عن الشدة وهما اثنان قصداه بسوء فوقعا في مثل ما طلباه له .
وجعل من أفعال المقاربة ولضغمة معمول لتطيب إعمال الفعل في مفعوليه وليست بمعنى المفعول من أجله لأنه لم يرد أنها طابت لأجل الضغمة وإنما طابت بها . والتعليل هو قوله لضغمهماها أي : طابت نفسي لما أصابني من الشدة لإصابة من قصدني بمثلها .
____________________


والضغمة : العضة فكنى بها عن المصيبة . ويقال : ضغم الشدة وضغمته . وجاء البيت على الوجهين فقوله لضغمة من قولهم عضته الشدة لقوله يقرع العظم نابها .
وقوله : لضغمهماها من قولهم : عضضت الشدة لأن الفاعل ها هنا ضمير من أصابها وضمير المفعول ضميرها أي : لضغمهما إياها فهي معضوضة لا عاضة لمجيئها مفعولةً لا فاعلة .
ويجوز أن يكون الموضعان من ضغمت الشدة لا ضغمتني ويكون قوله : يقرع العظم نابها مبالغةً وموضع استشهاده مجيء الضميرين الغائبين متصلين وليس أحدهما فاعلاً وهما : ضمير الفاعلين وهو قوله : هما وضمير الضغمة وهو قولك : ها . وهو شاذ والقياس في مثله ضغمهما إياها كراهة اجتماع ضمائر الغائبين البارزة من جنس واحد بخلاف ما لو اختلفا .
والضمير الأول في موضع خفض بالإضافة وهو فاعل في المعنى والضمير الثاني في موضع نصب على المفعولية بالمصدر أي : لأن ضغماها . ويقرع العظم نابها في موضع صفة إما لضغمة الأولى وفصل للضرورة بالجار والمجرور الذي هو لضغمهماها ويضعف لأجل الفصل بين الصفة والموصوف بالأجنبي وهو غير سائغ .
وإما في موضع صفة لمعنى قولك ها إذ معناه لضغمهما مثلها إذ الأولى لم تصب هذين وإنما أصابهما مثلها فهو في المعنى مراد . ومثل نكرة وإن أضيفت إلى المعرفة فجاز أن توصف بالجملة .
ويجوز أن يكون يقرع العظم نابها جملة مستأنفة لتبيين أمر الضغمة في الموضعين جميعاً فلا موضع لها من الإعراب لأنها لم تقع موقع مفرد .
وما يتوهم من أن لضغمهماها مضاف إلى المفعول وها في المعنى فاعل فيؤدي إلى أنه أضاف )
إلى المفعول وأتى بعده بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب مندفع بما تقدم من أنه لم يرد أن الشدة عضت وإنما أراد أنهما عضا الشدة إذ لا
____________________

يستقيم أن يضاف المصدر إلى المفعول ويؤتى بالفاعل بصيغة ضمير المنصوب باتفاق فوجب حمله على ما ذكرناه دفعاً لما يلزم مما أجمع على امتناعه . اه كلامه .
وهذا كله مبني على خلاف التحقيق ومنشؤه عدم الاطلاع على الأبيات وسببها وكذلك قول بعض فضلاء العجم في شرح شواهد المفصل أن قوله لضغمهماها بدل من قوله لضغمة .
والضمير الأول في لضغمهماها للسبعين .
وأما الثاني فقال صاحب التحبير والإيضاح لضغمة . ووافقهما في ذلك صاحب الإقليد والموصل . وقال صاحب المقتبس : هو لنفسي . وتابعه في ذلك صاحب المقاليد .
وقوله : لضغمهماها مصدر مضاف إلى الفاعل على الوجهين إلا أن المفعول في الوجه الأول يكون محذوفاً وهو النفس وفي الثاني يكون مذكوراً . هذا كلامه .
وأغرب من هذا كله قول شارح اللب السيد عبد الله لضغمة مفعول تطيب على أنه مفعول به لا مفعول له .
وقوله : لضغمهماها هو المفعول له . أي : جعلت تطيب لضغمة سبع يقرع العظم ناب تلك الضغمة لضغمة هذين السبعين النفس . والمراد به أن ضغمة سبع واحد أهون من ضغمة وقد
____________________

لخص ابن هشام في شرح شواهده هذه الأقوال فقال : وفي معنى البيت وتوجيهه أوجه : أحدها : أن الضغمة الأولى له والثانية لهما أي : نفسه طابت لأن يوقع بهما مصيبة عظيمة لأجل ضغمهما إياه مثلها .
واللام من لضغمة تتعلق بتطيب وهي لام التعدية واللام من لضغمهما متعلق بضغمة أو بجعلت أو بتطيب وهي لام العلة . وضمير التثنية فاعل وضمير المؤنث مفعول مطلق .
والمعنى لضغمهما إياي ضغمةً مثلها فحذف المفعول به والموصوف وأناب عنه صفته ثم حذف المضاف وأناب عنه المضاف إليه ووصله شذوذاً .
الثاني : أن يكون المعنى كذلك لكن يكون ضمير المؤنث عائداً على الصفة المتقدمة في اللفظ والمراد غيرها على حد قولهم : عندي درهم ونصفه .
الثالث : أن الضغمتين كلتيهما من فعل المتكلم أي : جعلت نفسي لأجل إيذائهما لي تطيب لإيقاع )
ضغمة بهما يقرع العظم نابها لشدة ضغمهما إياها فحذف المضافين : الشدة المضافة إلى الضغمتين وياء المتكلم المضاف إليها الضغمتان وهي فاعل المصدر . فاللام الأولى متعلقة بتطيب والثانية متعلقة بيقرع .
الرابع : أن الضغمتين للمتكلم وأن الثانية على تقدير ياء المتكلم كما تقدم ولكن الثانية بدل من الخامس : أن الضغمة الأولى لأجنبي والثانية لهما أي : تطيب لأن يضغمني ضاغم ضغمةً يقرع العظم نابها لضغمهما إياي مثلها كما تقول : طابت نفسي بالموت لما نالني من أذى فلان . واللام الأولى للتعدية والثانية للتعليل .
وراجح الأوجه الثالث لأن السيرافي روى : تهم بضغمة علي على غيظ ولأن بعضهم روى : لغضمة أعضهماها . وضمير نابها راجع للضغمة إما على أنه جعل لها ناباً على الاتساع والمراد صاحبها أو على أن التقدير ناب صاحبها ثم حذف المضاف . اه .
____________________


وقال ابن يسعون في شرح شواهد الإيضاح : استشهد به أبو علي على وقوع الضمير المتصل موقع المنفصل لأن مجيء الضمير المنفصل مع المصدر أحسن والمصدر هو لضغمهما وهو مضاف إلى هما وهما في المعنى فاعلان والمفعول المضغوم محذوف .
ولو ذكره مع ها المتصلة العائدة على ضغمة لقال : لضغمهماها إياي . ولو أتى بضمير الضغمة منفصلاً على الوجه الأحسن لقال : لضغمهما إياي إياها فكان يتقدم لوجهين : أحدهما : لأنه ضمير المخاطب وهو أولى بالتقدم من ضمير الغائب .
والوجه الثاني أن إياي ضمير المفعول به وإياها ضمير المصدر وهي فضلة مستغنىً بما هو آكد منها وكان الأصل لضغمهما إياي مثلها أي : مثل تلك الضغمة فحذف المضاف وأقام وحذف المفعول مع المصدر إذا كان معه الفاعل كثير كما قد يحذف معه الفاعل أيضاً .
هذا ما وقفت عليه .
ومغلس بن لقيط : شاعر من شعراء الجاهلية وهو بضم الميم وفتح الغين المعجمة وكسر اللام المشددة . ولقيط بفتح اللام وكسر القاف ومعبد بفتح الميم الموحدة وسكون العين المهملة .
وكون الشعر لمغلس بن لقيط المذكور هو ما قاله الأعلم . قال : واسم هذا الشاعر مغلس بن لقيط الأسدي والرجلان من قومه وهما مدرك ومرة .
وكذا قال السيرافي لكنه قال : هو لمغلس بن لقيط الأسدي من ولد معبد
____________________

ابن نضلة يعاتب )
فيه مدرك بن حصن ومرة بن عداء ويذكر أخاه أطيط بن لقيط .
وقال العيني : هو المغلس بن لقيط بن حبيب بن خالد بن نضلة الأسدي جاهلي هو وأخواه بعثر ونافع ابنا لقيط شعراء وهو من قصيدة هائية يرثي فيها أخاه أطيطاً ويشتكي من قرينين له يؤذيانه . وقيل : هما ابنا أخيه وهما مدرك ومرة . اه .
ونسب ابن الشجري في أماليه وتبعه شارح اللباب هذا الشعر إلى لقيط بن مرة قال : رثى فيه أخاه أطيطاً وهجا مرة بن عداء ومدرك بن حصن الأسديين .
وقال ابن هشام في شرح شواهده : هو لمغلس بن لقيط السعدي لا الأسدي وكان له ثلاثة أخوة : مرة ومدرك وأطيط وكان أبرهم به فمات وأظهر الأخوان عداوته وآذياه فقال يرثيه ويشتكي من أخويه وقيل : هما ابنا أخيه المذكور وقيل : أجنبيان .
هذا ما وقفت عليه والله أعلم بحقيقة الحال .
وأنشد بعده الشاهد التسعون بعد الثلاثمائة الطويل ( لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا ** عن العهد والإنسان قد يتغيّر ) على أن المختار في خبر كان وأخواتها إذا كان ضميراً الانفصال كما هنا لأنه خبر والأصل في الخبر الانفصال .
____________________


وقال بدر الدين في شرح ألفيه والده : الصحيح اختيار الاتصال لكثرته في النظم والنثر الفصيح .
وهذا البيت من قصيدة لعمر بن أبي ربيعة وقبله : ( ألكني إليها بالسّلام فإنّه ** يشهّر إلمامي بها وينكّر ) ( بآية ما قالت غداة لقيتها ** بمدفع أكنان : أهذا المشهّر ) ( أهذا الذي أطريت ذكراً فلم أكن ** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر ) ( فقالت : نعم لا شكّ غيّر لونه ** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر ) لئن كان إيّاه لقد حال بعدنا . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله : ألكني أي : كن رسولي وتحمل رسالتي إليها . )
وقوله : قفي أمر من الوقوف والآمرة هي نعم محبوبة الشاعر . وأسماء : صاحبة نعم . وأسماء : منادىً بحرف النداء المحذوف .
وروي أيضاً : قفي فانظري يا أسم وهو مرخم أسماء .
وهذا على طريقته فإنه كثيراً ما يتغزل بنفسه زعماً منه أن المخدرات يعشقنه لحسنه وجماله وقد عيب عليه . والهاء في تعرفينه ضمير الشاعر وهو عمر كما أن المغيري عبارة عنه .
قال الخوارزمي : المغيري منسوب إلى المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وهو من أجداده .
وقوله : وعيشك أنساه الواو للقسم والجملة معترضة بين لم أكن وبين خبره وهو جملة أنساه وسرى الليل فاعل غير والتهجر معطوف عليه وهو السير في الهاجرة . ويحيي مضارع معلوم من الإحياء وفاعله ضمير المغيري ونصه مفعوله .
____________________


وقوله : قفي فانظري إلى آخر البيتين من مقول قالت . وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن البيتين من مقول الشاعر فإنه قال : والمعنى قلت لحبيبتي أسماء قفي يا أسماء فانظري وتأملي هل تعرفين هذا الرجل الذي ترينه يريد به نفسه .
ولما قال ذلك توهمته فقالت متعجبة متفكرة لفرط تغيره : الذي تراه عمر المغيري الذي كان يذكر عندنا والله لئن كان المغيري إياه لقد حال وتغير عما عهدناه فإنه عهدناه شاباً وقد كبر وعهدناه ناضراً طرياً وقد حال عن ذلك ثم قال تسليةً له : والإنسان قد يتغير عن حال إلى حال فلا تحزن .
ويجوز أن يكون هذا مقول الشاعر قال ذلك نفياً لتعجبها مما استعظمته من تغيره بعدها . أي : إن الإنسان يتغير فلا تتعجبي . اه . وفيه ما لا يخفى .
وقوله : لئن كان الخ اللام موطئة للقسم واسم كان ضمير المغيري وإياه خبرها وجملة لقد حال الخ جواب القسم المحذوف وقد سد مسد جواب الشرط . وحال بمعنى تغير من قولهم : حالت القوس أي : انقلبت عن حالها التي عمرت عليها وحصل في قالبها اعوجاج .
وبعدنا : متعلق بحال . وكذلك قوله : عن العهد أي : عما عهدنا من شبابه وجماله . وجملة والإنسان قد يتغير حالية . ومثله قول كثير عزة : الطويل ( وقد زعمت أنّي تغيّرت بعدها ** ومن ذا الذي يا عزّ لا يتغيّر ) وهذه القصيدة عدة أبياتها ثمانون بيتاً أوردها القالي في أماليه ومحمد بن المبارك بن محمد بن )
ميمون في منتهى الطلب من أشعار العرب .
وقد أنشد المبرد أبياتاً منها في الكامل وقال : يروى من غير وجه أن ابن
____________________

الأزرق أتى ابن عباس رضي الله عنه يوماً فجعل يسأله حتى أمله فجعل ابن عباس يظهر الضجر وطلع عمر بن عبد الله بن أبي ربيعة على ابن عباس وهو يومئذ غلام فسلم وجلس فقال له ابن عباس : ألا تنشدنا شيئاً من شعرك فأنشده : الطويل ( أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر ) حتى أتمها وهي ثمانون بيتاً فقال له ابن الأزرق : لله أنت يا ابن عباس أنضرب إليك أكباد الإبل نسألك عن الدين فتعرض ويأتيك غلام من قريش فينشدك سفهاً فتسمعه فقال : تالله ما سمعت سفهاً . فقال ابن الأزرق : أما أنشدك : الطويل ( رأت رجلاً أيماً إذا الشّمس عارضت ** فيخزى وأمّا بالعشيّ فيخسر ) فقال : ما هكذا قال : إنما قال : فيضحى وأما بالعشيّ فيخصر قال : أو تحفظ الذي قال قال : والله ما سمعتها إلا ساعتي هذه ولو شئت أن أردها لرددتها قال : فارددها . فأنشده إياها . وروى الزبيريون أن نافعاً قال له : ما رأيت أروى منك قط فقال ابن عباس : ما رأيت أروى من عمر ولا أعلم من علي . انتهى كلام المبرد .
وفي هذه القصيدة أبيات شواهد في هذا الشرح وغيره لا بأس بإيرادها هنا . وهي هذه :
____________________

( أمن آل نعمٍ أنت غادٍ فمبكر ** غداة غدٍ أم رائحٌ فمهجّر ) ( بحاجة نفسٍ لم تقل في جوابها ** فتبلغ عذراً والمقالة تعذر ) ( نهيم إلى نعمٍ فلا الشّمل جامعٌ ** ولا الحبل موصولٌ ولا القلب مقصر ) ( ولا قرب نعمٍ إذ دنت لك نافعٌ ** ولا نأيها يسلي ولا أنت تصبر ) ( وأخرى أتت من دون نعم ومثلها ** نهى ذا النّهى لو ترعوي أو تفكّر ) ( إذا زرت نعماً لم يزل ذو قرابةٍ ** لها كلّما لاقيتها يتنمّر ) ( عزيزٌ عليه إن ألمّ ببيتها ** مسرٌّ لي الشّحناء للبغض مظهر ) ( ألكني إليها بالسّلام فإنّه ** يشهّر إلمامي بها وينكّر ) ( على إنّها قالت غداة لقيتها ** بمدفع أكنانٍ : أهذا المشهّر ) ) ( قفي فانظري يا أسم هل تعرفينه ** أهذا المغيريّ الذي كان يذكر ) ( أهذا الذي أطريت نعتاً فلم أكن ** وعيشك أنساه إلى يوم أقبر ) ( فقالت : نعم لا شكّ غيّر لونه ** سرى اللّيل يحيي نصّه والتّهجّر )
____________________

( رأت رجلاً أمّا غذى الشّمس عارضت ** فيضحى وأمّا بالعشيّ فيخصر ) ( أخا سفرٍ جوّاب أرضٍ تقاذفت ** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر ) ( قليلٌ على ظهر المطيّة ظلّه ** سوى ما نفى عنه الرّداء المحبّر ) ( وأعجبها من عيشها ظلّ غرفةٍ ** وريّان ملتفّ الحدائق أنضر ) ( ووالٍ كفاها كلّ شيءٍ يهمّها ** فليست لشيءٍ آخر اللّيل تسهر ) ( وليلة ذي دوران جشّمني السّرى ** وقد يجشم الهول المحبّ المغرّر ) ( فبتّ رقيباً للرّفاق على شفاً ** أراقب منهم من يطوف وأنظر ) ( إليهم متى يستأخذ النّوم فيهم ** ولي مجلسٌ لولا اللّبانة أوعر ) ( وباتت قلوصي بالعراء ورحلها ** لطارق ليلٍ أو لمن جاء معور ) ( فبتّ أناجي النّفس أين خباؤها ** وأنّي لما تأتي من الأمر مصدر ) ( فدلّ عليها القلب نارٌ عرفتها ** بها وهوى الحبّ الذي كان يظهر ) ( فلمّا فقدت الصّوت منهم وأطفئت ** مصابيح شبّت بالعشاء وأنور ) ( وغاب قميرٌ كنت أهوى غيوبه ** وروّح رعيانٌ ونوّم سمّر )
____________________

( فحيّيت إذ فاجأتها فتولّهت ** وكادت بمرفوع التّحيّة تجهر ) ( فقالت وعضّت بالبنان فضحتني ** وأنت امرؤٌ ميسور أمرك أعسر ) ( أريتك إذ هنّا عليك ألم تخف ** رقيباً وحولي من عدوّك حضّر ) ( فقلت كذاك الحبّ قد يحمل الفتى ** على الهول حتّى يستقاد فينحر ) ( فو اللّه ما أدري أتعجيل حاجةٍ ** سرت بك أم قد نام من كنت تحذر ) ( فقلت لها بل قادني الحبّ والهوى ** إليك وما نفسٌ من النّاس تشعر ) ( فقالت وقد لانت وأفرخ روعها ** كلاك بحفظٍ ربّك المتكبّر ) ( فأنت أبا الخطّاب غير منازعٍ ** عليّ أميرٌ ما مكثت مؤمّر ) ( فبتّ قرير العين أعطيت حاجتي ** أقبّل فاها في الخلاء فأكثر ) ) ( فيا لك من ليلٍ تقاصر طوله ** وما كان ليلي قبل ذلك يقصر ) ( ويالك من ملهىً هناك ومجلسٍ ** لنا لم يكدّره علينا مكدّر ) ( يمجّ ذكيّ المسك منها مفلّجٌ ** نقيّ الثّنايا ذو غروبٍ مؤشّر ) ( يرفّ إذا تفترّ عنه كأنّه ** حصى بردٍ أو أقحوانٌ منوّر ) ( وترنو بعينيها إليّ كما رنا ** إلى ظبيةٍ وسط الخميلة جؤذر ) ( أشارت بأنّ الحيّ قد حان منهم ** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور ) ( فما راعني إلاّ منادٍ تحمّلوا ** وقد شقّ معروفٌ من الصّبح أشقر )
____________________

( فلمّا رأت من قد تنوّر منهم ** وأيقاظهم قالت أشر كيف تأمر ) ( فقلت : أباديهم فإمّا أفوتهم ** وإمّا ينال السّيف ثأراً فيثأر ) ( فقالت أتحقيقٌ لما قال كاشحٌ ** علينا وتصديقٌ لما كان يؤثر ) ( فإن كان ما لا بدّ منه فغيره ** من الأمر أدنى للخفاء وأستر ) ( أقصّ على أختيّ بدء حديثنا ** وما بي من أن تعلما متأخّر ) ( لعلّهما أن تبغيا لك مخرجاً ** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر ) ( فقامت كئيباً ليس في وجهها دمٌ ** من الحزن تذري عبرةً تتحدّر ) ( فقالت لأختيها أعينا على فتىً ** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر ) ( فأقبلتا فارتاعتا ثمّ قالتا ** أقلّي عليك اللّوم فالخطب أيسر ) ( فقالت لها الصّغرى سأعطيه مطرفي ** ودرعي وهذا البرد إن كان يحذر ) ( يقوم فيمشي بيننا متنكّراً ** فلا سرّنا يفشو ولا هو يظهر ) ( فكان مجنّي دون من كنت أتّقي ** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر ) ( وقلن أهذا دأبك الدّهر سادراً ** أما تستحي أو ترعوي أو تفكّر )
____________________

( إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا ** لكي يحسبوا أنّ الهوى حيث تنظر ) ( على أنّني يا نعم قد قلت قولةً ** لها والعتاق الأرحبيّات تزجر ) ( هنيئاً لبعل العامريّة نشرها ال ** لذيذ وريّاها الذي أتذكّر ) ( فقمت إلى حرفٍ تخوّن نيّها ** سرى اللّيل حتّى لحمها يتحسّر ) ( وحبسي على الحاجات حتّى كأنّها ** بقيّة لوحٍ أو شجارٌ مؤسّر ) ) ( وماءٍ بموماةٍ قليلٍ أنيسه ** بسابس لم يحدث بها الصيّف محضر ) ( به مبتنىً للعنكبوت كأنّه ** على شرف الأرجاء خامٌ منشّر ) ( وردت وما أدري أما بعد موردي ** من اللّيل أم ما قد مضى منه أكثر ) ( فطافت به مغلاة أرضٍ تخالها ** إذا التفتت مجنونةً حين تنظر ) ( تنازعني حرصاً على الماء رأسها ** ومن دون ما تهوى قليبٌ معوّر ) ( محاولةٌ للورد لولا زمامها ** وجذبي لها كادت مراراً تكسّر ) ( فلمّا رأيت الضّرّ منها وأنّني ** ببلدة أرضٍ ليس فيها معصّر ) ( قصرت لها من جانب الحوض منشأً ** صغيراً كقيد الشّبر أو هو أصغر )
____________________

( ولا دلو إلاّ القعب كان رشاءه ** إلى الماء نسعٌ والجديل المضفّر ) ( فسافت وما عافت وما صدّ شربها ** عن الرّيّ مطروقٌ من الماء أكدر ) هذا آخر القصيدة . وقد شرح العيني ألفاظها اللغوية إجمالاً .
وقوله : رأت رجلاً أما إذا الشمس عارضت البيت أورده الشارح المحقق في حروف الشرط من أواخر الكتاب ويأتي إن شاء الله شرحه هناك .
وقوله : فكان مجني دون من كنت أتقي . البيت أورده أيضاً في باب العدد .
وقوله : إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا البيت أورده ابن هشام في المغني في حرف الكاف برواية : كما يحسبوا .
وعمر بن ربيعة قد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثمانين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : مجزوء الرمل
____________________

( ليت هذا اللّيل شهرٌ ** لا نرى فيه عريبا ) ( ليس إيّاي وإيّا ** ك ولا نخشى رقيبا ) لما تقدم قبله من أن الفصل هو المختار في خبر ان وأخواتها كما قال ليس إياي ولو وصل لقال ليسني .
قال سيبويه : ومثل ذلك كان إياه لأن كانه قليلة لا تقول : كانني وليسني ولا كانك فصارت غيا ها هنا بمنزلتها في ضربي إياك .
قال الشاعر : ليت هذا الليل شهر الخ وبلغني عن العرب الموثوق بهم أنهم يقولون : ليسني وكذلك كانني . اه .
قال الأعلم : الشاهد في إتيانه بالضمير بعد ليس منفصلاً ولوقوعه موقع خبرها والخبر منفصل من المخبر عنه فكان الاختيار فصل الضمير إذا وقع موقعه . واتصاله بليس جائز لأنها فعل وإن لم تقو قوة الفعل الصحيح .
وليس في هذا البيت تحتمل تقديرين : أحدهما أن تكون في موضع الوصف للاسم قبلها كأنه قال : لا نرى فيه عربياً غيري وغيرك .
والتقدير الآخر : أن تكون استثناء بمنزله غلا . وعريب بمعنى أحد وهو بمعنى معرب أي : لا نرى فيه متكلماً يخبر عنا ويعرب عن حالنا . اه .
وقوله : ليت هذا الليل شهر قال أبو القاسم سعيد الفارقي فيما كتبه في تفسير المسائل المشكلة في أول المقتضب للمبرد : وقد روي في شهر الرفع والنصب جميعاً وهو عندي أشبه بمعنى البيت . وكلاهما حسن . وقد قضينا هذا في كتابنا تفسير أبيات كتاب سيبويه . اه .
ولم يظهر لي وجه النصب .
____________________


ونرى من رؤية العين . وعريب من الألفاظ الملازمة للنفي واسم ليس ضمير مستتر راجع إلى عريب وإياي خبرها بتقدير مضاف أي : ليس عريب غيري وغيرك فحذف غير وانفصل الضمير وقام مقامه في النصب . تمنى أن تطول ليلته بمقدار شهر . )
وجملة لا نرى فيه خبر ثان لليت . وجملة لا نخشى رقيباً معطوف عليه والرابط محذوف أي : فيه . ويجوز أن يكون جملة لا نرى صفةً لشهر .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : يقول لحبيبته : ليت هذا الليل الذي نجتمع فيه طويل كالشهر لا نبصر فيه أحداً ليس إياي وإياك أي : ليس فيه غيري وغيرك أحد . وهو استثناء لنفسه كما قال إلاك لا نحاف فيه رقيباً .
وهذا الشعر نسبه خدمة كتاب سيبويه إلى عمر بن أبي ربيعة المذكور آنفاً . ونسبه صاحب الأغاني وتبعه صاحب الصحاح إلى العرجي وهو عبد الله بن عمر ابن عمرو بن عثمان بن عفان . نسب إلى العرج وهو من نواحي مكة لأنه ولد بها وقيل بل كان له بها مال وكان يقيم هناك . والله أعلم .
وتقدمت ترجمة العرجي في الشاهد السادس من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والتسعون بعد الثلاثمائة الرجز
____________________

( عددت قومي كعديد الطّيس ** إذ ذهب القوم الكرام ليسي ) على أنه جاء متصلاً . قال الزنجاني : هذا الشعر أنشده السيرافي وفيه شذوذ من وجهين : الأول : أنه أتى بخبر ليس متصلاً .
والثاني : أنه أسقط نون الوقاية وحقه أن يقال : ليسني . اه .
وأنشده شراح الألفية على أن حذف نون الوقاية منه ضرورة .
وكذلك حكم ابن هشام بأنه ضرورة في قد وفي النون من المغني وقال في شرح شواهده : والذي سهل ذلك مع الاضطرار أمور أحدها : أن الفعل الجامد يشبه الأسماء فجاء ليسي كما تقول : غلامي وأخي ومن ثم جاز : إن زيداً ليسي يقوم كما جاز لقائم ولا يجوز إن زيداً لقام وجاز أيضاً نحو : وأن ليس للإنسان إلا ما سعى كما جاز : علمت أن زيداً قائم ولا يجوز : علمت أن قام ولا أن يقوم .
والثاني : أن ليس هنا للاستثناء فحق الضمير بعدها الانفصال وإنما وصله للضرورة كقول الآخر : البسيط )
____________________


أن لا يجاورنا إلاّك ديّار والنون ممتنعة مع الفصل فتركها مع الوصل التفاتاً إلى الأصل .
الثالث : أن ليسي بمعنى غيري ولا نون مع غير . اه .
واسم ليس هنا ضمير اسم الفاعل المفهوم من ذهب والتقدير : ليس هو إياي أي : ليس الذاهب إياي .
وقال شارح أبيات الموشح : اسم ليس لمضمر يرجع إلى الكريم المستفاد من الكرام . وفيه ما لا يخفى .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : كذا أنشد العلماء هذا البيت .
ويروى : عهدي بقومي كعديد الطّيس وهو الصحيح . وكذا أنشده الخليل في كتاب العين في مادة طيس لرؤبة وقال : الطيس : العدد الكثير . وأنشد البيتين لرؤبة .
واختلفوا في تفسير الطيس فقال بعضهم : هو كل ما على وجه الأرض من خلق الأنام . وقال بعضهم : بل هو كل خلق كثير النسل نحو النمل والذباب والهوام . وقال غيره : الطيس : الكثير من الرمل والماء وغيرهما . وأراد به رؤبة هنا الرمل . اه .
وكذلك أنشده ابن الأعرابي في نوادره : عهدت قومي . ورواه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : عهدي بقوم . وقال : أراد بقوم
____________________

المنكر قومه بدليل رواية قومي واللام في القوم إشارة إليهم وهذا من باب وضع الظاهر موضع المضمر والأصل : إذ ذهبوا . وفائدته التوصل إلى وصفهم بالكرم .
وقوله : عهدي بقوم مبتدأ خبره محذوف وهو حاصل . وقوله : ليسي استثناء لنفسه من القوم الكرام الذاهبين . يفتخر بقومه ويتحسر على ذهابهم فيقول : عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل إذ ذهبوا إلا إياي . فإني بقيت بعدهم خلفاً عنهم .
ولا يبعد أن يريد قوماً غير كرام فيكون المعنى : أرى قوماً كثيراً غير كرام إذ ذهب الكرام غيري . اه . كلامه .
وهذا المعنى هو الظاهر دون الأول وهو معنى قول العيني : والمعنى عددت قومي وكانوا بعدد )
الرمل ومع تلك الكثرة ما فيهم كريم غيري . وعليه فيكون العامل في إذ : عددت أو عهدت أو عهدي على الروايات .
وقال شارح أبيات الموشح : قوله : كعديد الطيس حال من قومي . وقوله : إذ ذهب ظرف ليسي . يقول : عهدي بقومي الكرام الكثيرين مثل كثرة الرمل حاصل وليس فيهم الآن كريم غيري إذ ذهب القوم الكرام وبقيت بعدهم خلفاً عنهم . هذا كلامه فتأمله .
وقال العيني : عديد الطيس : صفة مصدر محذوف تقديره عداً كعدد الطيس . والعديد بمعنى العدد . يقال : هم عديد الحصى والثرى في الكثرة .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل
____________________

( فإن لا يكنها أو تكنه فإنّه ** أخوها غذته أمّه بلبانها ) لما تقدم قبله من وصل الضمير المنصوب بكان والقياس فإن لا يكن إياها أو تكن إياه .
وأنشده سيبويه في أوائل كتابه في باب الفعل الذي يتعدى اسم الفاعل إلى اسم المفعول واسم الفاعل والمفعول فيه لشيء واحد قال فيه : وتقول : كنا هم كما تقول : ضربناهم وتقول إذا لم نكنهم فمن ذا يكونهم كما تقول : إذا لم نضربهم فمن يضربهم .
قال أبو الأسود الدؤلي : فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : أراد سيبويه أن كان لتصرفها تجري مجرى الأفعال الحقيقة في عملها فيتصل بها ضمير خبرها اتصال ضمير المفعول بالفعل الحقيقي في نحو ضربته وضربني وما أشبهه . اه .
وقبل هذا البيت : ( دع الخمر تشربها الغواة فإنّني ** رأيت أخاها مجزئاً لمكانها ) قال شراح أبيات سيبويه وشراح أبيات أدب الكاتب : سبب هذا الشعر أن مولىً لأبي الأسود الدؤلي كان يحمل تجارة إلى الأهواز وكان إذا مضى إليها تناول شيئاً من الشراب فاضطرب أمر البضاعة فقال أبو الأسود هذا الشعر ينهاه عن شرب الخمر . فاسم يكنها ضمير الأخ وها )
ضمير الخمر وهو خبر يكن
____________________

واسم تكنه ضمير الخمر والهاء ضمير الأخ وهو خبر تكن .
وأراد بأخي الخمر الزبيب .
يقول : دع الخمر ولا تشربها فإني رأيت الزبيب الذي هو أخوها ومن شجرتها مغنياً لمكانها وقائماً مقامها فإلا يكن الزبيب الخمر أو تكن الخمر الزبيب فإن الزبيب أخو الخمر غذته أمه بلبانها يعني أن الزبيب شرب من عروق الكرمة كما شرب العنب الذي عصر خمراً .
وليس ثمة لبان وإنما هو استعارة . كذا قال جماعة منهم الجواليقي قال في شرح أبيات أدب الكاتب : نهاه عن شرب الخمر وقال له : إن الزبيب يقوم مقامها . فإن لم تكن الخمر نفسها من الزبيب فهي أخته اغتذتا من شجرة واحدة .
ومنهم ابن الأنبار في مسائل الخلاف قال : أراد بقوله أخاها الزبيب وجعله أخا الخمر لأنهما من شجرة واحدة .
ومنهم ابن هشام في شرح شواهده قال : زعم مولى أبي الأسود أنه يشرب الخمر لحرارتها فأمره بأكل الزبيب فإنه أخوها أي : ارتضع معها من ثدي واحد أي : إنه شرب من عروق الكرمة كما شرب العنب الذي هو أصلها .
وقال جماعة : أراد بأخي الخمر نبيذ الزبيب منهم الأعلم قال : وصف نبيذ الزبيب وأطلقه على مذهب العراقيين في الأنبذة وحث على شربه وترك الخمر بعينها للإجماع على تحريمها . وجعل الزبيب أصلاً للخمر لأن أصلهما الكرمة واستعار اللبان لما ذكره من الأخوة .
ومنهم ابن السيد ف شرح أبيات أدب الكاتب قال : يعني بأخيها نبيذ الزبيب . يقول : إن لم يكن الزبيب الخمر أو تكن الخمر الزبيب فإنهما أخوان غذيا بلبن واحد ينوب أحدهما مناب الآخر .
ومنهم صاحب فرائد القلائد . قال : إن أخاها نبيذ الزبيب يريد به الماء الذي نبذ بزبيب ليصير حلواً من غير أن تشوبه حرمة فإنه أخوها إلا أنه حلال وهي حرام .
____________________


وقد أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : يسألونك عن الخمر والميسر قال : الخمر المجمع عليه وقياس كل ما عمل عملها أن يقال له خمر وأن يكون في التحريم بمنزلتها لأن إجماع العلماء أن القمار كله حرام وإنما ذكر الميسر من بينه . وجعل كله حراماً قياساً على الميسر والميسر إنما كان قماراً في الجزر خاصة . )
فكذلك كل ما كان كالخمر فهو بمنزلته وتأويل الخمر في اللغة أنه ما ستر على العقل يقال : لكل ما ستر الإنسان من شجر وغيره خمر بالتحريك . وما ستره من شجر خاصة ضراً مقصور .
يقال : دخل في خمار الناس أي : في الكثير الذي يستتر فيهم . وخمار المرأة قناعها وإنما قيل له خمار لأنه يغطيها . والخمرة بالضم : التي يسجد عليها إنما سميت بذلك لأنها تستر الوجه عن الأرض .
وقيل للعجين : قد اختمر لأن فطورته قد غطاها الخمر أعني الاختمار . يقال : قد أخمرت العجين وخمرته وفطرته فهذا كله يدل على أن كل مسكر خمر وكل مسكر مخالط العقل ومغط عليه . وليس يقول أحد للشار إلا مخمور من كل مسكر وبه خمار . فهذا بين واضح .
وقد لبس على أبي الأسود الدؤلي فقيل له : إن هذا المسكر الذي سموه بغير الخمر حلال فظن أن ذلك كما قيل ثم رده طبعه إلى أن حكم بأنهما واحد فقال : دع الخمر يشربها الغواة . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين وما ذكره خلاف المعنى الذي ذكره الجماعة . وقد وافقه في هذا المعنى أبو القاسم عبد الرحمن السعدي الأندلسي وتوفي بمصر في سنة خمس وخمسين وخمسمائة
____________________

في كتاب مساوي الخمرة وهو كتاب ضخم وهو عندي في جلدين قال فيه : وقد حرم الخمر والقمار والزنى على نفسه في الجاهلية عفيف بن معد يكرب الكندي بقوله : الوافر ( وقالت لي : هلمّ إلى التّصابي ** فقلت عففت عمّا تعلمينا ) ( وودّعت القداح وقد أراني ** لها في الدّهر مشغوفاً رهينا ) ( وحرّمت الخمور عليّ حتّى ** أكون بقعر ملحودٍ رهينا ) أنت ترى كيف تفهم ما في القمار من المشاركة للزنى والخمر في سوء الذكر . ولا ننس قوله : وحرمت الخمر فأتى بها بلفظ الجمع إشارةً إلى اختلاف أجناسها كالخمر المتخذة من ماء العنب ونبيذ الزبيب والتمر والشعير والحنطة والعسل وأمثال هذه إذ الكل خمرو مختلفة الألوان والطعوم والأمزجة .
وقد قال ابن شبرمة منبهاً على اشتراك هذه كلها في المعنى : ( يا أخلاّء إنّما الخمر ذيب ** وأبو جعدة الطّلاء المريب ) ( ونبيذ الزّبيب ما اشتدّ منه ** فهو للخمر والطّلاء نسيب ) )
وقال عبيد بن الأبرص : المتقارب ( وقالوا هي الخمر تكنى الطّلاء ** كما الذّئب يكنى أبا جعدة ) وقد قال أبو الأسود الدئلي : دع الخمر يشربها الغواة . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________

فقيل له : فنبيذ الزبيب فقال : ( فإلاّ يكنها أو تكنه فإنّه ** أخوها غذته أمّه بلبانها ) اه .
وقوله : دع الخمر أي : اترك . والغواة : جمع غاو وهو الضال . وقوله : مجزئاً قال ابن الأنباري في وقوله : فإلا يكنها الخ الفاء للتفريع والتفسير وإن شرطية ولا نافية وتكنه معطوف على تكنها فهو منفي أيضاً وجملة : فإنه أخوها جواب الشرط وجملة : غذته أمه الخ لا محل لها من الإعراب لأنها مفسرة للأخوة كقوله تعالى : إنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ اللَّهِ كمثل آدمَ خَلَقه مِنْ تُراب وقال العيني : هي خبر بعد خبر ويجوز أن تكون حالاً من الهاء في أخوها والعامل فيها إن .
هذا كلامه .
واللبان بكسر اللام قال الأعلم : هو للآدميين واللبن لغيرهم وقد يكون جمع لبن في هذا الموضع . اه .
قال ابن السكيت : يقال هو أخوه بلبان أمه ولا يقال : بلبن أمه إنما اللبن الذي يشرب .
قال الكميت يمدح مخلد بن يزيد : الرجز ( ترى النّدى ومخلداً حليفين ** كانا معاً في مهده رضيعين ) تنازعا فيه لبان الثّديين وقال الحريري في درة الغواص : اللبان : مصدر لابنه . قال ابن بري في حاشيته عليه : اللبان مصدر لابنه أي : شاركه في اللبن ليس بإجماع بل الأكثر على جواز غير ذلك .
____________________


قال بعضهم : اللبان بمعنى اللبن إلا أنه مخصوص بالآدمي وأما اللبن فعام في الآدمي وغيره .
وقال آخرون : اللبان جمع لبن . فمما جاء فيه اللبان للمشاركة في اللبن قولهم : هو أخوه بلبان أمه . كذا فسره يعقوب أي : هو أخوه لمشاركته في الرضاع . وعليه قول الكميت المذكور .
وقال أبو سهل الهروي : لبان هنا جمع لبن وعلى قول غيره هو لغة في اللبن . وكذلك بيت أبي )
الأسود الدؤلي . اه كلامه .
وترجمة أبي الأسود قد تقدمت في الشاهد الأربعين .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والتسعون بعد الثلاثمائة السريع لولاك في ذا العام لم أحجج على أنه يجوز ورود الضمير المشترك بين النصب والجر على قلة بعد لولا .
ولولا حرف جر عند سيبويه كما ذكره الشارح ويأتي نص كلامه في البيت الذي بعد هذا .
وأنشده الزمخشري في سورة ص مستشهداً به على أن لات تجر الأحيان كما أن لولا تجر الضمائر .
وهو عجز وصدره :
____________________

وبعده : ( أنت إلى مكّة أخرجتني ** ولو تركت الحجّ لم أخرج ) وروي : حبّاً ولولا أنت لم أخرجه وهما من شعر عمر بن أبي ربيعة . وأومت : أشارت . والكاف في لولاك مفتوحة كما أن التاء من أنت كذلك . خاطبته حبيبته ومنت عليه بتحمل المشاق لأجله .
وزعم الخطيب التبريزي في شرح ديوان أبي تمام أن البيت الشاهد للعرجي المذكور آنفاً . ولم يوجد في ديوانه والذي رواه العلماء أنه لعمر بن أبي ربيعة وهو موجود في شعره .
وسبب توهمه : أن للعرجي أبياتاً على هذا النمط رواها الزجاجي في أماليه الوسطى بسنده إلى إسحاق بن سعد بن عمرو بن سعيد بن العاص قال : كان العرجي وهو عبد الله بن عمر بن عمرو بن عثمان بن عفان يشبب بامرأة محمد ابن هشام .
وقال غيره : إنه يشبب بامرأته الحارثية : السريع ( عوجي علينا ربّة الهودج ** إنّك إن لا تفعلي تحرجي ) ( أيسر ما قال محبٌّ لدى ** بين حبيب قوله عرّج )
____________________

) ( من حيّكم بنتم ولم ينصرم ** وجد فؤادي الهائم المنضج ) ( فما استطاعت غير أن أومأت ** بطرف عيني شادنٍ أدعج ) ( تذود بالبرد لها عبرةً ** جاءت بها العين ولم تنشج ) ( مخافة الواشين أن يفطنوا ** بشأنها والكاشح المزعج ) ( أقول لمّا فاتني منهم ** ما كنت من وصلهم أرتجي ) ( إنّي أتيحت لي يمانيّةٌ ** إحدى بني الحارث من مذحج ) ( نمكث حولاً كاملاً كلّه ** لا نلتقي إلاّ على منهج ) ( في الحجّ إن حجّت وماذا منىً ** وأهله إن هي لم تحجج ) فقال عطاء : الكثير الطيب يا خبيث .
وروى أيضاً صاحب الأغاني بسنده أن مما قال العرجي في الجيداء أم محمد بن هشام المخزومي وهي من بني الحارث بن كعب : عوجي علينا ربّة الهودج الأبيات الأربعة .
فلما سمع البيت الأخير عطاء بن أبي رباح قال : الخير والله كله في منى وأهله
____________________

حجت أم لم قال : ولقي ابن سريح عطاءً في منىً وهو راكب على بغلته فقال له : سألتك بالله إلا وقفت لي حتى أسمعك شيئاً . قال : ويحك دعني فإني عجل فقال : امرأتي طالق إن لم تقف مختاراً للوقوف لأمسكن بلجام بغلتك ثم لا أفارقها ولو قطعت يدي حتى أغنيك وأرفع صوتي .
فقال : هات وعجل فغناه : في الحجّ إن حجّت وماذا منىً . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال : الخير والله كله في منى وأهله لا سيما وقد غيبها الله عن مشاعره خل سبي البغلة .
اه .
وقوله : نلبث حولاً كاملاً كله البيت هو من شواهد الكوفيين استدلوا به على جواز توكيد النكرة المحدودة . وقد نقله عنهم ابن هشام في مغني اللبيب ولأجله أوردت هذه الأبيات .
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين .
وأنشد بعده )
الشاهد الخامس والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل
____________________

( وكم موطنٍ لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلّة النّيق منهوي ) لما تقدم قبله قال سيبويه في باب ما يكون مضمراً فيه الاسم متحولاً عن حاله إذا أظهر بعده وذلك لولاك ولولاي إذا أمضر فيه الاسم جر وإذا أظهر رفع .
ولو جاءت علامة الإضمار على القياس لقلت : لولا أنت كما قال الله تعالى : لولا أنتم لكُنَّا مؤمنين ولكنهم جعلوه مجروراً . والدليل على ذلك أن الياء والكاف لا تكونان علامة مضمر مرفوع قال يزيد بن الحكم : وكم موطنٍ لولاي طحت . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وهذا قول الخليل ويونس . وأما قولهم : عساك فالكاف منصوبة . قال الراجز : يا أبتا علّك أو عساكا
____________________

والدليل على أنها منصوبة إنك إذا عنيت نفسك كان علامتك ني قال عمران بن حطان : الوافر ( ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ** تنازعني لعلّي أو عساني ) فلو كانت الكاف مجرورةً لقال : عساي ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع . فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان ل لدن حال مع غدوة ليست مع غيرها وكما أن لات إذا لم تعملها في الأحيان لم تعملها فيما سواها فهي معها بمنزلة ليس فإذا جاوزتها ليس ورأي أبي الحسن أن الكاف في لولاك في موضع رفع على غير قياس كما قالوا : ما أنا كانت ولا أنت كأنا وهذان علم الرفع كذلك عساني .
ولا يستقيم أن تقول : وافق الرفع الجر في لولاي كما وافقه النصب إذ قلت معك وضربك لأنك إذا أضفت إلى نفسك فالجر مفارق للنصب في هذه الأشياء . ولا تقل وافق الرفع النصب في عساني كما وافق النصب الجر في ضربك ومعك لأنهما إذا أضفت إلى نفسك اختلفا .
وزعم ناس أن موضع الياء في لولاي وني في عساني في موضع رفع جعلوا لولاي موافقة للجر وني موافقة للنصب كما اتفق النصب والجر في الهاء والكاف وهذا وجه رديء لما ذكرت ولأنك لا ينبغي أن تكسر الباب وهو مطرد وأنت تجد له نظائر . )
وقد يوجه الشيء على الشيء البعيد إذا لم يوجد له غيره . وربما وقع ذلك في كلامهم وقد بين بعض ذلك وستراه فيما يستقبل إن شاء الله . هذا نص سيبويه برمته .
قال الأعلم : الشاهد في هذا البيت إتيان ضمير الخفض بعد لولا التي يليها المبتدأ
____________________

ولما كان مبتدؤها محذوف الخبر أشبه المجرور لانفراده والمضمر لا يتبين فيه الإعراب فوقع مجروره موقع مرفوعه والأكثر لولا أنت كالظاهر . ورد هذا المبرد وسفه قائله تحاملاً منه وتعسفاً . اه .
وقد رأيت كلام المبرد في الكامل فإنه بعد أن نقل كلام سيبويه قال : والذي أقول أن هذا خطأ ولا يصلح إلا أن تقول لولا أنت كما قال تعالى : لولا أنتُمْ لكُنَّا مؤمنين . ومن خالفنا يزعم أن الذي قلناه أجود ويدعي الوجه الآخر فيجيزه على بعده . اه .
وقد فصل ابن الشجري في أماليه الأقوال فقال في وقوع المضمر بعد لولا التي يرتفع الاسم بعدها بالابتداء : وللنحويين في ذلك ثلاثة مذاهب : فذهب سيبويه أن يرى إيقاع المنفصل المرفوع بعدها هو الوجه كقولك : لولا أنت فعلت كذا .
ولا يمتنع من إجازة استعمال المتصل بعدها كقولك : لولاي ولولاك ولولاه ويحكم بأن المتصل بعدها مجرور بها فيجعل لها مع المضمر حكماً يخالف حكمها مع المظهر .
ومذهب الأخفش أن الضمير المتصل بعدها مستعار للرفع فيحكم بأن موضعه رفع بالابتداء وإن كان بلفظ المضمر المنصوب أو المجرور . فيجعل حكمها مع المضمر موافقاً حكمها مع المظهر .
ومذهب المبرد أنه لا يجوز أن يليها من المضمرات إلا المنفصل المرفوع . واحتج بأنه لم يأت في القرآن غير ذلك . ودفع الاحتجاج بهذا البيت وقال : إن في هذه القصيدة شذوذاً في مواضع وخروجاً عن القياس فلا معرج على هذا البيت .
وأقول : إن الحرف الشاذ أو الحرفين أو الثلاثة إذا وقع ذلك في قصيدة من الشعر القديم لم يكن قادحاً في قائلها ولا دافعاً للاحتجاج بشعره .
وقد جاء في شعر لأعرابي : لولاك في ذا العام لم أحجج
____________________

وللمحتج لسيبويه أن يقول : إنه لما رأى الضمير في لولاي ونحوه خارجاً عن حيز ضمائر الرفع )
وليست لولا من الحروف المضارعة للفعل فتعمل النصب كحروف النداء ألحقها بحروف الجر .
وحجة الأخفش أن العرب قد استعارت ضمير الرفع المنفصل في قولهم : لقيتك أنت وكذلك استعاروه للجر في قولهم : مررت بك أنت أكدوا المنصوب والمجرور بالمرفوع .
وأشذ منه إيقاعهم إياه بعد حرف الجر في قولهم : أنا كأنت وأنت كأنا . فكما استعاروا المرفوع للنصب والجر كذلك استعاروا المنصوب للرفع في قولهم : لولاي ولولاك ولولاه . اه .
وقد نسب ابن الأنباري في مسائل الخلاف مذهب الأخفش إلى الكوفيين وذكر حجج الفريقين وصحح مذهب الكوفيين ورد كلام سيبويه بأن قوله إن الياء والكاف لا يكونان علامة مرفوع غير مسلم فإنه يجوز أن يستعار للمرفوع علامة المخفوض كما يستعار له علامة المنصوب في نحو عساك . ثم قال : والذي يدل على أن لولا ليس بحرف خفض أنه لو كان كذلك لوجب أن وقول البصريين إنه قد يكون الحرف في موضع مبتدأ لا يتعلق بشيء قلنا : الأصل في حروف الخفض أن يجوز الابتداء بها وأن تقع في موضع مفيد وإنما جاء ذلك نادراً في قولهم : بحسبك زيد وما جاءني من أحد لأن الحرف في نية الاطراح إذ لا فائدة له بخلاف لولا فإنه حرف جاء لمعنى وليس بزائد .
ألا ترى أنك لو حذفتها لبطل ذلك المعنى الذي دخلت من أجله بخلاف الباء ومن . فبان الفرق بينهما . انتهى كلامه .
وما نسبه ابن الأنباري للكوفيين نسبه النحاس في شرح أبيات سيبويه للفراء قال : مذهب سيبويه عند المبرد خطأ لأن المضمر يعقب المظهر فلا يجوز أن نقول المظهر مرفوعاً والمضمر مجروراً . وأبو العباس المبرد لا يجيز لولاك ولولاه وإنما يقول لولا أنت .
____________________


قال أبو العباس : وحدثت أن أبا عمرو اجتهد في طلب مثل لولاك ولولاي بيتاً يصدقه أو كلاماً مأثوراً عن العرب فلم يجده . قال أبو العباس : وهو مدفوع لم يأت عن ثقة ويزيد بن الحكم ليس بالفصيح .
وكذلك عنده قول الآخر : لولاك هذا العام لم أحجج قال : إذا نظرت إلى القصيدة رأيت الخطأ فيها فاشياً . وقول سعيد الأخفش في لولاك : وافق ضمير الخفض في لولاي ليس هذا القول بشيء ولا يجوز هذا . وقال الفراء : لولاي ولولاك )
المضمر في موضع رفع كما تقول لولا أنك ولولا أنت .
قال : فإنما دعاهم أن يقولوا هذا لأنهم يجدون المكني يستوي لفظه في الخفض والنصب والرفع فيقال : ضربنا ومر بنا وقمنا فلما كان كذلك استجازوا أن تكون الكف في موضع أنت رفعاً إذ كان إعراب المكني بالدلالات لا بالحركات .
قال أبو الحسن بن كيسان : الوجه لولا أنت ولا يجوز أن يكون المضمر خلاف المظهر في الإعراب وهو بدل منه وموضوع موضعه ولكن المكني مستغن عن دلالته بالحرف الذي يوجب فيه الرفع ولا يقع منصوب ولا مخفوض واكتفى بدلالة الحرف مندلالة المكني وكان حرف أخصر من حروف . قال وهذا الذي اخترته هو مذهب الفراء .
ثم قال النحاس : وأما أبو إسحاق فجرى على عاداته في الاحتجاج عن سيبويه والتصحيح عنه فقال إن خبر المبتدأ الذي بعد لولا لا يظهر فأشبهت لولا حروف الجر لوقعوع اسم بعدها وكان المضمر لا يتبين فيه إعراب فجعل موضع المجرور .
وهذا احتجاج لطيف لم نر أحداً يحسن مثل هذا . وزاد عليه هذا أنه احتج بقول
____________________

رؤية وهو لولاكما قد خرجت نفساهما انتهى ما أورد النحاس مختصراً .
قال ابن الأنباري : وأما إنكار أبي العباس المبرد جوازه فلا وجه له لأنه قد جاء كثيراُ في كلامهم وأشعارهم .
قال الشاعر : وأنت امرؤٌ لولاي طحت كما هوى . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر : الطويل ( أتطمع فينا من أراق دماءنا ** ولولاك لم يعرض لأحسابنا حسن ) وقال بعض العرب : لولاك هذا العام لم أحجج وأما مجيء الضمير المنفصل بعده فلا خلاف أنه أكثر وأفصح وعدم مجيء الضمير المتصل في التنزيل لا يدل على عدم جوازه .
وقد أنشد المبرد في الكامل في الموضع الذي نقلنا منه آنفاً بيتاً في وقعة للخوارج وهو : ) ( ويومٌ بجيّ تلافيته ** ولولاك لاصطلم العسكر )
____________________

والموطن قال صاحب الصحاح : هو المشهد من مشاهد الحرب .
وقد استشهد صاحب الكشاف بهذا البيت عند قوله تعالى : لقد نَصَرَكُمْ اللّهُ في مَوَاطِنَ كَثيرةٍ على أن المراد بالمواطن مواقف الحروب كما في البيت . ولولا هنا عند سيبويه حرف الجر لا يتعلق بشيء .
وعند غيره الياء مبتدأ استعير لفظ غير المرفوع للمرفوع وخبره محذوف تقديره حاضر .
وجملة : طحت في موضع النعت لموطن والرابط محذوف تقديره فيه وهو قد سد مسد جواب لولا عند من يجعلها على بابها وتكون معترضة بين النعت والمنعوت .
قال ابن الشجري : والجملة التي هي لولاي طحت محلها جر على النعت لموطن والعائد محذوف . انتهى .
وهذا باعتبار مذهب سيبويه .
وطاح يطوح ويطيح أيضاً بمعنى هلك وسقط وكذلك إذا تاه في الأرض .
وقوله : كما هوى الخ مفعول مطلق لطحت من غير لفظه أي : طحت طيحاً كهوي الساقط فما مصدرية وقيل : كافة . وهوى بالفتح يهوي بالكسر هوياً بضم فكسر فتشديد أي : سقط إلى أسفل . والأجرام : جمع جرم بالكسر وهو الجسد .
قال المبرد : في الكامل بعد إنشاده هذا البيت : جرم الإنسان : خلقه . والنيق : أعلى الجبل . وهذا مثل : شابت مفارقه كأنه جعل أعضاءه أجراماً توسعاً .
وقد زل قلم ابن الشجري فقال : بأجرامه أي : بذنوبه جمع جرم .
____________________


ويروى : بإجرامه مصدر أجرم يقال : جرم وأجرم لغتان إذا أذنب . وأجرم لغة القرآن .
انتهى .
ولا يخفى أن جعل الأجرام جمع جرم بالضم وتفسيره بالذنب لا وجه له هنا .
والنيق بكسر النون : أرفع الجبل . وقلته : ما استدق من رأسه .
ومنهوي : ساقط وهو فاعل هوى .
ونقل عن المبرد الطعن في هذه أيضاً قال : انفعل لا يجيء مطاوع فعل إلا حيث يكون علاج وتأثير . )
وقال ابن جني في شرح تصريف المازني : اعلم أن انفعل إنما أصله من الثلاثة ثم تلحقها الزيادتان نحو قطعته فانقطع ولا يكاد يكون فعل منه إلا متعدياً حتى تمكن المطاوعة والانفعال . وقد جاء فعل منه غير متعد وهو : وكم موطن لولاي طحت البيت .
فإنما هذه مطاوع هوى إذا سقط وهو غير متعد كما ترى . وقد جاء في هذه القصيدة وهو من قصيدة طويلة ليزيد بن الحكم يعاتب بها ابن عمه وقيل أخاه . وقد تقدمت مشروحة في الشاهد الثمانين بعد المائة .
وهذا البيت مع شهرته لم يعرفه شارح شواهد التفسيرين خضر الموصلي حتى إنه قال : هو بيت لم يعزه أحد إلى قائله .
____________________


وأنشد بعده الشاهد السادس والتسعون بعد الثلاثمائة الطويل لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ على أنه قد يجيء خبر لعل مضارعاً مقروناً ب أن حملاً لها على عسى .
قال الزمخشري في المفصل : قد جاء في الشعر : ( لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ ** علك من اللاّئي يدعنك أجدعا ) قياساً على عسى .
وقال ابن هشام في المغني : ويقترن خبر لعل بأن كثيراً حملاً على عسى . كقوله : لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّةٌ ( فقولا لها قولاً رقيقاً لعلها ** سترحمني من زفرةٍ وعويل ) انتهى .
فلم يخصه بالشعر .
وأما كثرة الاقتران بأن فهو بالنسبة إلى اقترانه بحرف التنفيس وأما بالنسبة إلى التجرد فهو قليل قطعاً . ويؤيده أن المبرد قال في الكامل عند إنشاده هذا
____________________

البيت : إن التجرد من أن هو الجيد والاقتران بها غير جيد . فلم يقيده بالشعر .
وقال بعضهم : الخبر في هذا البيت محذوف تقديره : لعلك معد لأن تلم ملمة أو نحوه . )
قال الخطيب التبريزي في شرح المفضليات قوله : لعلّك يوماً أن تلمّ الخ أظنك أن ألم بك ملمة ممن الملمات التي تتركك ذليلاً مجدوع الأنف والأذن . وخبر لعل محذوف مع حرف الجر من أن تلم ويكون تقدير الكلام ومعنا : لعلك لأرجوك لأن تلم بك ملمة .
قال سيبويه : لعل طمع وإشفاق يريد أنه يكون للأمرين جميعاً . فإذا كان هذا المعنى فكأنه يرجو الشر له ويطمع فيه . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لمتمم بن نويرة الصحابي رثى بها أخاه مالك بن نويرة لما قتله خالد بن الوليد بتهمة الردة .
وقد تقدم الكلام على قصة قتله مع شرح أبيات من هذه القصيدة في الشاهد السادس والثمانين .
وهذه أبيات قبل البيت المذكور : ( ألم تأت أخبار المحلّ سراتكم ** فيغضب منكم كلّ من كان موجعا )
____________________

( بمشمته إذ صادف الحتف مالكاً ** ومشهده ما قد رأى ثمّ ضيّعا ) ( أآثرت هدماً بالياً وسويّةً ** وجئت بها تعدو بريداً مقزّعا ) ( فلا تفرحن يوماً بنفسك إنّني ** أرى الموت وقّاعاً على من تشجّعا ) لعلّك يوماً أن تلمّ ملمّة . . . . . . . . . . . . . البيت ( نعيت أمرأً لو كان لحمك عنده ** لآواه مجموعاً له أو ممزّعا ) ( فلا يهنئ الواشين مقتل مالكٍ ** فقد آب شانيه إياباً فودّعا ) وهذا آخر القصيدة .
وقوله : ألم تأت أخبار المحل الخ هو بضم الميم وكسر الحاء المهملة وهو رجل من بني ثعلبة مر بمالك مقتولاً فنعاه كأنه شامت به فذمه متمم .
وقال ابن الأنباري في شرحه : المحل بن قدامة مر بمالك فلم يواره . والسراة : الأشراف . وروي : فيغضب منهم ومنها أي : من الأخبار . وقوله : بمشمته متعلق بموجعاً وهو مصدر شمت به شماتة ومشمتاً .
ويروى : أن صادف الحتف مالك ورفع الحتف أجود من نصبه . ومشهده معطوف على مشمته والضمائر كلها للمحل . )
وقوله : أآثرت استفهام توبيخي والخطاب للمحل . والهدم بالكسر : الثوب الخلق . والبالي : الفاني . والسوية بفتح المهملة وكسر الواو : كساء محشو بثمام أو نحوه يجعل على ظهر الإبل كالحلقة لأجل السنام .
قال أبو جعفر : أعطي المحل سلب مالك ففرح به وأقبل راجعاً . وقزع الرجل بالقاف والزاي المعجمة إذا أسرع في سيره . وقزع القوم رسولاً إذا أرسلوا أراد : إنك تسعى بخبره مسرعاً كمجيء البريد .
____________________


وقوله : فلا تفرحن يوما الخ هذا دعاء عليه أي : لا فرحت بنفسك . وقوله : وقاعاً على من تشجعا أي : لا يفلت من الموت أحد . يقول : آثرت الثياب وجئت تعدو بشيراً تري الناس أنك قد فزعت لمقتله وإنما ذاك شماتة منك وسرور به .
وقوله : لعلك يوماً الخ الإلمام : النزول . والملمة : البلية النازلة . والأجداع : المقطوع الأنف والأذن ويستعمل في الذليل وهو المراد هنا . يقول : إيها الشامت لا تكن فحاً بموت أخي عسى أن تنزل عليك بلية من البليات اللاتي يتركنك ذليلاً خاضعاً .
وقوله : نعيت امرأً الخ النعي : الإخبار بالموت . والممزع : الممزق والمفرق . يقول : لو كنت أنت القتيل لآوى لحمك بدفنه سواء كان مجموعاً أو ممزقاً .
وقوله : فلا يهنئ الواشين الخ هذا دعاء عليهم في صورة النهي .
وأنشد بعده
الشاهد السابع والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( ولي نفسٌ أقول لها إذا ما ** تنازعني لعلّي أو عساني ) على أن سيبويه استدل على كون الضمير وهو الياء منصوباً بلحوق نون الوقاية في عساني .
قد تقدم نص سيبويه قبل هذا ببيتين .
____________________


قال النحاس : قال سيبويه في قولهك عساك : الكاف منصوبة . واستدل على ذلك بقولهم : عساني ولو كانت الكاف مجرورة لقال عساي . قال : ولكنهم جعلوها بمنزلة لعل في هذا الموضع .
قال : فهذان الحرفان لهما في الإضمار هذا الحال كما كان ل لدن مع غدوة حال ليست مع غيرها . قال محمد بن يزيد المبرد : هذا غلط منه يعني جعله عسى بمنزلة لعل . قال : لأن أفعال الرجاء لا تعمل في المضمر إلا كما تعمل في المظهر . قال : تقديره عندنا أن المفعول مقدم والفاعل مضمر كأنه قال عساك الخير والشر .
وأراد المبرد أن عسى ككان لأنهما فعلان . وذهب أبو إسحاق إلى صحة قول سيبويه واحتج له بأن عسى ليس بفعل حقيقي بل هو شيبة بلعل . ووجدت بخطي عن أبي إسحاق : يجوز أن يكون الضمير في موضع نصب بعسى في عساك والمرفوع محذوف أي : عسى الأمر إياك .
وليس هذا بناقض لما أخذته عنه لأنه قال : يجوز . فذاك عنده الأصل وأجاز قول المبرد .
انتهى .
وزعم الأخفش تبعاً ليونس أن عسى باقية على عملها عمل كان ولكن استعير ضمير النصب مكان ضمير الرفع .
قال ابن هشام في المغني : ويرده أمران : أحدهما : أن إنابة ضمير عن ضمير إنما ثبت في المنفصل نحو ما أنا كأنت لا أنت كأنا .
والثاني : أن الخبر قد ظهر مرفوعاً في قوله : الطويل انتهى .
____________________


وهذا البيت لعمران بن حطان الخارجي . وقبله : الوافر ( ومن يقصد لأهل الحقّ منهم ** فإنّي أتّقيه كما اتّقاني ) ) ( عليّ بذاك أن أحميه حقّاً ** وأرعاه بذاك كما رعاني ) يقال : قصدته وقصدت إليه . وضمير منهم للخوارج . ومن للبيان . جعل الخوارج بزعمه أهل حق . أي : من قصد لأهل الحق من الخوارج بمكروه فإني أدافعه وأحاربه واتقيه كما يتقيني .
وقوله : ولي نفس تنازعني الخ يقول : إذا نازعتني نفسي فيحملها على ما هو أصلح لها أقول لها : طاوعيني لعل أجد المراد والظفر أو قلت لها لعلي أفعل هذا الذي تدعوني إليه . فإذا قلت لها هذا القول طاوعتني .
وعمران بن حطان هو على ما في الجمهرة : عمران بن حطان بن ظبيان ابن شعل بن معاوية بن الحارث بن سدوس بن شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن وائل السدوسي البصري التابعي المشهور أحد رؤوس الخوارج من القعدية بفتحتين وهم الذي يرون الخروج ويحسنونه لغيرهم ولا يباشرون بأنفسهم القتال . وقيل : القعدية لا يرون الحرب وإن كانوا يزينونه .
وفي الأغاني إنما صار حطان من القعدة لأن عمره طال وكبر وعجز عن الحرب وحضورها فاقتصر على الدعوة والتحريض بلسانه . وكان أولاً مشمراً لطلب العلم والحديث ثم بلي بذلك المذهب فضل وهلك لعنه الله . وقد أدرك صدراً من الصحابة وروى عنهم وروى عنه أصحاب الحديث .
قال ابن حجر في الإصابة : وقد أخرج له البخاري وأبو داود واعتذر عنه بأنه إنما خرج عنه ما حدث به قبل أن يبتدع . واعتذر أبو داود عن التخريج بأن الخوارج أصح أهل الأهواء حديثاً عن قتادة .
وكان عمران لا يتهم في الحديث . وكان سبب ابتلائه أنه تزوج امرأة منهم فكلموه
____________________

فيها فقال : سأردها عن مذهبها . فأضلته .
وفي الإصابة أنها كانت بنت عمه بلغه أنها دخلت في رأي الخوارج فأراد أن يردها عن ذلك فصرفته إلى مذهبها .
وذكر المدائني أنها كانت ذات جمال وكان دميماً قبيحاً فقالت له مرة : أنا وأنت في الجنة .
قال : من أين علمت ذلك . قالت : لأنك أعطيت مثلي فشكرت وابتليت بمثلك فصبرت .
والشاكر والصابر في الجنة . )
ومن شعره في مدح عبد الرحمن بن ملجم المرادي قبحهما الله تعالى قاتل أمير المؤمنين وقائد الغر المحجلين زوج البتول وصهر الرسول رضي الله عنه : البسيط ( لله درّ المراديّ الذي سفكت ** كفّاه مهجة شرّ الخلق إنسانا ) ( أمسى عشيّة غشّاه بضربته ** معطىً مناه من الآثام عريانا ) ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( إنّي لأذكره حيناً فأحسبه ** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا ) قال أبو محمد بن حزم : إنّ ابن ملجم عند الخوارج النصرية أفضل أهل الأرض لأنه خلص روح اللاهوت من ظلمة الجسد وكدره وعند الشيعة أنه أشقى الخلق في الآخرة . انتهى .
وقد أجابه من القدماء بكر بن حماد التاهرتي من أهل القيروان وأجابه عنها السيد الحميري الشيعي وهي : البسيط ( قل لابن ملجم والأقدار غالبةٌ ** هدمت ويلك للإسلام أركانا ) ( قتلت أفضل من يمشي على قدمٍ ** وأوّل النّاس إسلاماً وإيمانا )
____________________

( وأعلم النّاس بالإيمان ثمّ بما ** سنّ الرّسول لنا شرعاً وتبيانا ) ( صهر الرّسول ومولاه وناصره ** أضحت مناقبه نوراً وبرهانا ) ( وكان في الحرب سيفاً ماضياً ذكراً ** ليثاً إذا لقى الأقران أقرانا ) ( ذكرت قاتله والدّمع منحدرٌ ** فقلت سبحان ربّ العرش سبحانا ) ( إنّي لأحسبه ما كان من بشر ** يخشى المعاد ولكن كان شيطانا ) ( أشقى مرادٍ إذا عدّت قبائلها ** وأخسر النّاس عند اللّه ميزانا ) ( كعاقر النّاقة الأولى التي جلبت ** على ثمودٍ بأرض الحجر خسرانا ) ( قد كان يخبرهم أن سوف يخضبها ** قبل المنيّة أزماناً وأزمانا ) ( فلا عفا اللّه عنه ما تحمّله ** ولا سقى قبر عمران بن حطّانا ) ( لقوله في شقيّ ظلّ مجترماً ** ونال ما ناله ظلماً وعدوانا ) ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( بل ضربةٌ من غويّ أوردته لظى ** فسوف يلقى بها الرّحمن غضبانا ) ( كأنّه لم يرد قصداً بضربته ** إلاّ ليصلى عذاب الخلد نيرانا ) )
قال ابن السبكي في طبقات الشافعية : لقد أحسن وأجاد بكر بن حماد في معارضته فرضي لاله عنه وأرضاه وأخزى الله عمران بن حطان وقبحه ولعنه ما أجرأه على الله قال : وقال القاضي أبو الطيب الطبري : البسيط ( إنّي لأذكره يوماً فألعنه ** ديناً وألعن عمران بن حطّانا ) ( عليك ثمّ عليه من جماعتنا ** لعائنٌ كثرت سرّاً وإعلانا ) ( فأنتما من كلاب النّار جاء به ** نصّ الشّريعة إعلاناً وتبيانا ) وقد أجاب أيضاً الإمام طاهر بن محمد الأسفرائني في كتاب الملل والنحل المسمى
____________________

بالتبصير في الدين : البسيط ( كذبت وأيم الذي حجّ الحجيج له ** وقد ركبت ضلالاً منك بهتانا ) ( لتلقينّ بها ناراً مؤجّجة ** يوم القيامة لا زلفى ورضوانا ) ( تبّت يداه لقد خابت وقد خسرت ** وصار أبخس من في الحشر ميزانا ) ( هذا جوابي في ذا النّذل مرتجلاً ** أرجو بذاك من الرّحمن غفرانا ) ونقل الإمام الباقلاني أن السيد الحميري نقضها عليه بقوله : البسيط ( لا درّ المراديّ الذي سفكت ** كفّاه مهجة خير الخلق إنساناً ) ( أصبح ممّا تعاطاه بضربته ** ممّا عليه ذوو الإسلام عريانا ) ( أبكى السّماء لبابٍ كان يعمره ** منها وحنّت عليه الأرض تحتانا ) ( طوراً أقول ابن ملعونين ملتقطٌ ** من نسل إبليس لا بل كان شيطانا ) ( عبدٌ تحمّل إثماّ لو تحمّله ** ثهلان طرفة عينٍ هدّ ثهلانا ) انتهى ما أورده ابن السبكي .
ونقل الذهبي في تاريخ الإسلام أن شعر عمران بن حطان المذكور لما بلغ عبد الملك بن مروان أدركته الحمية ونذر دمه ووضع عليه العيون واجتهد الحجاج في أخذه وقيل : لما اشتهر بمذهبه أراده الحجاج ليقتله فهرب فلم يزل ينتقل من حي إلى حي إلى أن مات في تواريه في سنة أربع وثمانين .
قال المبرد في الكامل : وكان من حديث عمران حطان فيما حدثني العباس بن الفرج الرياشي عن محمد بن سلام أنه لما أطرده الحجاج كان ينتقل في القبائل فكان إذا نزل في حي انتسب )
نسباً يقرب منه ففي ذلك يقول : الوافر
____________________

( نزلنا في بني سعد بن زيد ** وفي عكّ وعامر وعوبثان ) ( وفي لخمٍ وفي أدد بن عمرو ** وفي بكرٍ وحيّ بني الغدان ) ثم خرج حتى نزل عند روح بن زنباع الجذامي وكان روح يقري الأضياف وكان مسامراً لعبد الملك بن مروان أثيراً عنده فانتمى له من الأزد .
وكان روح بن زنباع لا يسمع شعراً نادراً ولا حديثاً غريباً عند عبد الملك فيسأل عنه عمران فذكر ذلك لعبد الملك فقال : إن لي جاراً من الأزد ما أسمع من أمير المؤمنين خبراً ولا شعراً إلا عرفه وزاد فيه .
فقال : خبرني ببعض أخباره . فخبره وأنشده فقال : إن اللغة عدنانية وإني لأحسبه عمران بن حطان . حتى تذاكروا ليلة قول عمران بن حطان يمدح ابن ملجم لعنه الله : ( يا ضربةً من تقيّ ما أراد بها ** إلاّ ليبلغ من ذي العرش رضوانا ) ( إنّ لأذكره حيناً فأحسبه ** أوفى البريّة عند اللّه ميزانا ) فلم يدر عبد الملك لمن هو . فرجع روح فسأل عمران بن حطان عنه فقال عمران : هذا يقوله عمران بن حطان يمدح به عبد الرحمن بن ملجم قاتل علي بن
____________________

أبي طالب رحمة الله عليه فرجع روح إلى عبد الملك فأخبره فقال له عبد الملك : ضيفك عمران بن حطان اذهب فجئني به . فرجع إليه فقال : إن أمير المؤمنين قد أحب أن يراك .
فقال عمران : قد أردت أن أسألك هذا فاستحييت منك فامض فإني بالأثر . فرجع روح إلى عبد الملك فخبره فقال له عبد الملك : أما إنك سترجع فلا تجده . فرجع فوجد عمران قد احتمل وخلف رقعة فيها : البسيط ( يا روح كم من أخي مثوى نزلت به ** قد ظنّ ظنّك من لخمٍ وغسّان ) ( قد كنت جارك حولاً ما تروّعني ** فيه روائع من إنسٍ ومن جان ) ( حتّى أردت بي العظمى فأدركني ** ما أدرك النّاس من خوف ابن مروان ) ( فاعذر أخاك ابن زنباعٍ فإنّ له ** في النّائبات خطوباً ذات ألوان ) ( يوماً يمانٍ إذا لاقيت ذا يمنٍ ** وإن لقيت معدّيّاً فعدناني ) ( لو كنت مستغفراً يوماً لطاغيةٍ ** كنت المقدّم في سرّي وإعلاني ) ) ( لكن أبت لي آياتٌ مطهّرةٌ ** عند الولاية في طه وعمران ) ثم ارتحل حتى نزل بزفر بن الحارث الكلابي أحد بين عمرو بن كلاب وانتسب له أوزاعياً .
وكان عمران يطيل الصلاة وكان غلمان من بني عامر يضحكون منه فأتاه رجل يوماً ممن رآه عند روح بن زنباع فسلم عليه فدعاه زفر . فقال : من هذا فقال : رجل من الأزد رأيته ضيفاً لروح بن زنباع .
فقال له زفر : يا هذا أزدياً مرة وأوزاعياً مرة إن كنت خائفاً آمناك وإن كنت فقيراً جبرناك .
____________________


فلما أمسى خلف في منزله رقعة وهرب فيها : البسيط ( إنّ التي أصبحت يعيا بها زفر ** أعيت عياءً على روح بن زنباع ) ( حتّى إذا انقطعت عنّي وسائله ** كفّ السّؤال ولم يولع بإهلاع ) ( فاكفف كما كفّ عنّي إنّني رجلٌ ** إمّا صميمٌ وإمّا فقعة القاع ) ( واكفف لسانك عن لومي ومسألتي ** ماذا تريد إلى شيخٍ لأوزاع ) ( أمّا الصّلاة فإنّي لست تاركها ** كلّ امرئ للذي يعنى به ساعي ) ( أكرم بروح بن زنباعٍ وأسرته ** قومٌ دعا أوّليهم للعلا داع ) ( جاورتهم سنة فيما أسرّ به ** عرضي صحيحٌ ونومي غير تهجاع ) ( فاعمل فإنّك منعيّ بواحدةٍ ** حسب اللبيب بهذا الشّيب من ناعي ) ثم ارتحل حتى أتى عمان فوجدهم يعظمون أمر مرداس أبي بلال ويظهرونه فأظهر أمره فيهم فبلغ ذلك الحجاج فكتب إلى عامل عمان فيه فهرب عمران حتى أتى قوماً من الأزد فلم يزل فيهم حتى مات .
وفي نزوله بهم يقول : الطويل ( نزلنا بحمد اللّه في خير منزلٍ ** نسرّ بما فيه من الأنس والخفر ) ( نزلنا بقوم يجمع اللّه شملهم ** وليس لهم أصلٌ سوى المجد يعتصر ) ( من الأزد إنّ الزد أكرم معشرٍ ** يمانيةٍ طابوا إذا نسب البشر )
____________________

( أم الحيّ قحطان وتلكم سفاهةٌ ** كما قال لي روحٌ وصاحبه زفر ) ( وما منهما إلاّ يسرّ بنسبةٍ ** تقرّبني منه وإن كان ذا نفر ) ) ( فنحن بنو الإسلام واللّه واحدٌ ** وأولى عباد اللّه باللّه من شكر ) وكان عمران رأس القعدية من الصفرية وفقيههم وخطيبهم وشاعرهم . وقال : لما قتل أبو بلال وهو مرداس بن أدية وهي جدته وأبوه حدير وهو أحد بني ربيعة بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم : الوافر ( لقد زاد الحياة إليّ بغضاً ** وحبّاً للخروج أبو بلال ) ( أحاذر أن أموت على فراشي ** وأرجو الموت تحت ذرا العوالي ) ( فمن يك همّه الدّنيا فإنّي ** لها واللّه ربّ البيت قالي ) وفيه يقول أيضاً : البسيط ( يا عين بكّي لمرداسٍ ومصرعه ** يا ربّ مرداس الحقني بمرداس ) ( تركتني هائماً أبكي لمرزئتي ** في منزلٍ موحشٍ من بعد إيناس ) ( أنكرت بعدك ما قد كنت أعرفه ** ما النّاس بعدك يا مرداس بالنّاس ) ( إمّا شربت بكاسٍ دار أوّلها ** على القرون فذاقوا جرعة الكاس ) هذا ما أورده المبرد في الكامل .
وقال المرزباني : كان عمران شاعراً مفلقاً مكثراً . وقال الفرزدق : كان عمران من أشعر الناس لأنه لو أراد أن يقول مثلنا لقال ولسنا نقدر أن نقول مثله .
____________________


ويروى أنه امرأته قالت له يوماً : أما زعمت أنك لم تكذب في شعرك قط قال : أوقع ذلك قال : نعم ألم تقل : مجزوء الكامل ( فهناك مجرأة بن ثو ** رٍ كان أشجع من أسامه ) أفيكون رجل أشجع من أسد قال : أما رأيت مجزأة بن ثور فتح مدينة والأسد لا يقدر على ذلك .
وروي عن قتادة أنه قال : لقيني عمران بن حطان فقال : يا عمي احفظ عني هذه الأبيات : الكامل ( حتّى متى تسقى النّفوس بكأسها ** ريب المنون وأنت لاهٍ ترتع ) ( أفقد رضيت بأن تعلّل بالمنى ** وإلى المنيّة كلّ يومٍ تدفع ) ( أحلام نومٍ أم كظلّ زائلٍ ** إنّ اللّبيب بمثلها لا يخدع ) )
وفي تاريخ الإسلام للذهبي : أن سفيان الثوري كان يتمثل بأبيات عمران بن حطان هذه : الطويل ( أراها وإن كانت تحبّ فإنّها ** سحابة صيفٍ عن قليلٍ تقشّع ) كركبٍ قضوا حاجاتهم وترحّلوا طريقهم بادي الغيابة مهيع ومن شعره السائر : الخفيف ( أيّها المادح العباد ليعطى ** إنّ للّه ما بأيدي العباد ) ( فسل اللّه ما طلبت إليهم ** وارج فضل المهيمن العوّاد ) ومن شعره وأورده أبو زيد في النوادر وقال : إنها قصيدة طويلة : الوافر
____________________

( وليس لعيشنا هذا مهاهٌ ** وليست دارنا هاتا بدار ) ( وإن قلنا لعلّ بها قراراً ** فما فيها لحيّ من قرار ) ( لنا إلاّ ليالي هيّناتٍ ** وبلغتنا بأيّام قصار ) ( أرانا لا نملّ العيش فيها ** وأولعنا بحرصٍ وانتظار ) ( ولا تبقى ولا نبقى عليها ** ولا في الأمر نأخذ بالخيار ) ( ولكنّا الغداة بنو سبيلٍ ** على شرف ييسّر لانحدار ) ( كركبٍ نازلين على طريقٍ ** حثيثٍ رائحٌ منهم وساري ) ( وغادٍ إثرهم طرباً إليهم ** حثيث السّير مؤتنف النّهار ) والمهاه بهاءين وفتح الميم : الصفاء والرقة . والصفرية بضم الصاد وسكون الفاء : جنس من الخوارج نسبوا إلى زياد بن الأصفر رئيسهم .
وزعم قوم أن الذي نسبوا إليه هو عبد الله بن الصفار وأن الصفرية بكسر الصاد . كذا في الصحاح .
ويقال للخوارج : الشراة بالضم الواحد شار سموا بذلك لقولهم : إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله أي : بعناها بالجنة حين فارقنا الأئمة الجائرة . يقال منه : تشرى الرجل .
وقد أطنب المبرد في أواخر الكامل في الكلام على الخوارج وفرقهم ووقائعهم .
____________________

ومن أراد الاطلاع عليه فليرجع إليه .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والتسعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الرجز يا أبتا علّك أو عساكا على أن الكاف خبر منصوب المحل واسم عسى ضمير مستتر على أحد قولي المبرد . وقد تقدم نص سيبويه قبل هذا بثلاثة أبيات .
وقد أنشد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت والذي قبله عن سيبويه ونقل عنه أن الكاف منصوبة ولو كانت مجرورة لقال عساي .
قال أبو علي : وجه ذلك أن عسى لما كانت في المعنى بمنزلة لعل ولعل وعسى طمع وإشفاق فتقاربا أجري عسى مجرى لعل إذ كانت غير متصرفة كما أن لعل كذلك فوافقتها في العمل حيث أشبهتها في المعنى والامتناع من التصرف .
فإن قلت : إذا صارت بمنزلتها لهذا الشبه فما المرفوع بها وهي إذا صارت بمنزلة لعل تقتضي مرفوعاً لا محالة لأنه لا يكون المنصوب في هذا النحو بلا مرفوع . قيل : إن ذلك المرفوع الذي تقتضيه محذوف ولم يمتنع أن تحذفه وإن كان الفاعل
____________________

لا يحذف لأنها إذا أشبهت لعل جاز أن تحذف خبر هذه الحروف من حيث كان الكلام في الأصل الابتداء والخبر فحذفت كما تحذف أخبار المبتدءات .
وكذلك المرفوع الذي يقتضيه عسى حذف على هذا الحد كما حذف الخبر من لعل في قوله : علك أو عساكا وقوله لعلّي أو عساني وكما حذف في : المنسرح وكما حذف الخبر في قوله سبحانه : إنَّ الذينَ كفرُوا ويصُدُّونَ عَنْ سبيلِ اللَّه لا كما يحذف الفاعل .
ويقوي ذلك أنهم قالوا : عسى الغوير أبؤساً فجعلوها بمنزلة ما يدخل على الابتداء والخبر .
ومما يقوي حذف ذلك لهذه المشابهة وأن حذفه لا يمتنع من حيث امتنع حذف الفاعل أن ليس لما كانت غير متصرفة صارت عينها بمنزلة ليت في السكون ولم يكن في يائها الكسر والسكون ويكون ذلك المحذوف غائباً كأنه عساك الهالك أو عساك هو . )
____________________


فإن قلت : فإن جاء شيء بعد شيء من هذه الأبيات التي تشبه ما ذكر من عساك تفعل ولعلي أو عساني أخرج فما يكون الفاعل على قوله قيل : أما على ما ذهب إليه من أنه بمنزلة لعل فلا نظر فيه ويكون بمنزلة لعلك تخرج والقول فيه كالقول فيه . وأما على القول الآخر الذي رأيناه غير ممتنع فهو أشكل لأن الفاعل لا يكون جملة .
فإن شئت قلت : إن الفعل في موضع رفع بأنه فاعل وكأنه أراد عساني أن أخرج فحذف أن وصار الفعل مع ان المحذوفة في موضع رفع بأنه فاعل كما كان في موضع رفع بالابتداء في قولهم : تسمع بالمعيدي خير من أن تراه وكقول أبي دواد : لولا تجاذبه قد هرب ( وما راعنا إلاّ يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفشّ بكير ) فكما أن هذا على حذف أن وتقديره : ما راعنا إلا سيره بشرطة كذلك يكون فاعل عسى في نحو : عسى يفعل إنما هو على : عسى أن يفعل كقوله تعالى : عسى أن تكرَهُوا شيئاً فتحذف أن وهي في حكم الثبات .
ولو قال قائل إن عسى في عساني وعساك قد تضمن ضميراً مرفوعاً وذلك الضمير هو الفاعل والكاف والياء في موضع نصب على حد النصب في قوله : عسى
____________________

الغوير أبؤساً لا على حد تشبيهه بلعل ولكن على أصل هذا الباب كأنه عداه إلى المضمر على حد ما عداه إلى المظهر الذي هو أبؤس كان وجهاً .
فأما فاعلها فإنه لا يخلو من أحد أمرين : إما أن يكون قد جرى له ذكر أو لم يجر له ذكر . فإن كان ذكره قد جرى فلا إشكال في إضماره . وإن لم يجر له ذكر فإنما تضمره لدلالة الحال عليه كما ذكر من قولهم : إذا كان غداً فأتنا فكذلك يكون إضمار الفاعل في عسى وتكون على بابها ولا تكون مشبهة بلعل . والأول الذي ذهب إليه كأنه إلى النفس أسبق . انتهى كلام أبي علي .
وقد استشهد لما ذكره الشارح المحقق جماعة منهم الزمخشري في المفصل وابن هشام في أحدهما ما ذكره سيبويه من أن فيه تنوين الترنم . قال : وأما ناس كثير من بني تميم فإنهم يبدلون مكان المدة النون فيما ينون وفيما لا ينون لما لم يريدوا الترنم أبدلوا مكان المدة نوناً ولفظوا بتمام البناء وما هو منه كما فعل أهل الحجاز ذلك بحروف المد سمعناهم يقولون للعجاج : )
يا أبتا علّك أو عساكن ثانيهما : ما ذكره شارح اللباب وغيره من أن في يا أبتا الجمع بين عوضين قال فإن التاء عوض من ياء المتكلم وإنما جاز الألف دون ياء المتكلم لأن التاء عوض من ياء التكلم فيمتنع الجمع بين العوض والمعوض بخلاف الألف فإن غايته أن يذكر عوضان وهو غير ممتنع وليس فيه الجمع بين العوض والمعوض كما زعم العيني وتبعه السيوطي في شواهد المغني .
وقد خطأ أبو محمد الأعرابي الأسود رواية يا أبتا وقال : إنما الرواية تأنيا . وهو من التأني كما يجيء بيانه .
وقد ذكر جميع شراح الشواهد أن ما قبله : الرجز تقول بنتي قد أنى إناكا
____________________

وأنى : فعل ماض بمعنى قرب . والإنى بكسر الهمزة والقصر : الوقت . قال تعالى : غَير ناظِرينَ إناه على أحد قوليه . وأنى إناك : حان حينك أي : حين ارتحالك إلى سفر تطلب رزقاً فسافر وعلك بمعنى لعلك والخبر محذوف . وزعم العيني وتبعه السيوطي أن أناك بفتح الهمزة والمد .
قال : أصله أناءك والأناء على فعال اسم من الفعل المذكور .
وقد نازع أبو محمد الأعرابي في كون هذا ما قبله وقال : هما من أرجوزتين . ورد رداً شنيعاً على ابن السيرافي فإنه قال في شرح أبيات سيبويه : قوله يا أبتا علك أو عساكن قبله : تقول بنتي قد أتى إناكا وفي شعره : فاستعزم اللّه ودع عساكا وقوله : قد أتى إناكا أي : ممن تلتمس منه مالاً تنفقه . وقوله : يا أبتا علك أو عساكا أي : لعلك إن سافرت أصبت ما نحتاج إليه .
وقوله : فاستعزم الله الخ أي : استخره في العزم على الرحيل والنصر ودع قولك : عساي لا أفوز بشيء إذا سافرت ويحصل بيدي التعب .
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : خلط ابن السيرافي ها هنا من حيث أن النوى أشباه .
وصحف في كلمة من البيت أيضاً وهو قوله : يا أبتا وإنما هو : تأنّياً علّك أو عساكا )
____________________


فاستعزم اللّه ودع عساكا من أرجوزة وقوله : تأنّياً علّك أو عساكا من أرجوزة أخرى . فالتي فيها فاستعزم الله هي قوله يمدح بها الحارث بن سليم الهجيمي يقول فيها : ( تقول بنتي قد أنى إناكا ** فاستعزم اللّه ودع عساكا ) ( ويدرك الحاجة مختطاكا ** قد كان يطوي الأرض مرتقاكا ) ( تخشى وترجى ويرى سناكا ** فقلت إنّي عائكٌ معاكا ) ( غيثاً ولا أنتجع الأراكا ** فابلغ بني أميّة الأملاكا ) ( بالشّام والخليفة الملاّكا ** وبخراسان فأين ذاكا ) ( منّي ولا قدرة لي بذاكا ** أو سر لكرمان تجد أخاكا ) ( إنّ بها الحارث إن لاقاكا ** أجدى بسيبٍ لم يكن ركاكا ) والأرجوزة الأخرى يمدح فيها إبراهيم بن عربي وهي : ( لمّا وضعت الكور والوراكا ** عن صلبٍ ملاحكٍ لحاكا )
____________________

( تصفير أيدي العرس المداكا ** تأنّياً علّك أو عساكا ) ( يسأل إبراهيم ما ألهاكا ** من سنتين أتتا دراكا ) ( تلتحيان الطّلح والأراكا ** لم تدعا نعلاً ولا شراكا ) هذا ما أورده والله أعلم بالصواب : والأكثرون على أن هذا الرجز لرؤبة بن العجاج لا للعجاج . وقد تقدم ترجمتهما في أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع والتسعون بعد الثلاثمائة الكامل ( هل تبلّغنّي دارها شدنيّةٌ ** لعنت بمحروم الشّراب مصرّم ) على أن النون الأولى في تبلغني نون التوكيد الخفيفة والنون الثانية نون الوقاية .
وهذا البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي . وقبله : ( تمسي وتصبح فوق ظهر حشيّةٍ ** وأبيت فوق سراة أدهم ملجم ) ( وحشيّتي سرجٌ على عبل الشّوى ** نهدٍ مراكله نبيل المحزم ) هل تبلغنّي دارها شدنيّةٌ . . . . . . . . . . . . . . . .
____________________

البيت قوله : تمسي وتصبح الضمير المؤنث لحبيبته وهي عبلة . والحشية : الفراش المحشو . والسراة بفتح السين : أعلى كل شيء وأراد به هنا ظهر فرسه . يقول : تمسي وتصبح فوق فراش وطيء وأبيت أنا فوق ظهر فرس أدهم ملجم . يعني أنها تتنعم وأنا أقاسي شدائد الأسفار والحروب .
وقوله : وحشيتي سرج مبتدأ وخبر . يريد أن مستوطئ بسرج الفرس كما يستوطئ غيره الحشية والاضطجاع عليها . ثم وصف الفرس بأوصاف محمودة وهي غلظ القوائم وانتفاخ الجنبين وسمنها والعبل بالفتح : الغليظ . والشوى بالفتح : القوائم جمع شواة أي : على فرس غليظ القوائم والعظام كثير العصب .
والنهد بفتح النون : الضخم المشرف . والمراكل جمع مركل كجعفر وهو الموضع الذي يصيب رجل الفارس من الجنبين إذا استوى على السرج . والنبيل : العظيم . والمحزم : موضع الحزام .
وقوله : هل تبلغني الخ استبعد الوصول إليها لشدة بعدها فاستفهم عنه . وأبلغه المنزل إذا أوصله إليه . ودارها أي : دار عبلة . وشدنية : ناقة منسوبة إلى شدن بفتحتين وهو حي باليمن وقيل : أرض فيه .
وقوله : لعنت بالبناء للمفعول قال التبريزي في شرح المعلقة : دعا عليها بانقطاع لبنها أي : بأن يحرم ضرعها اللبن فيكون أقوى لها وأسمن وأصبر على معاناة شدائد الأسفار لأن كثرة الحمل وقوله : بمحروم الشراب أي : بضرع ممنوع شرابه . وأصل حرم منع . وقيل : بمحروم الشراب أي : في محروم الشراب . وقال خالد بن كلثوم : لعنت :
____________________

نحيت عن الإبل لما علم أنها معقومة فجعلت للركوب الذي لا يصلح له إلا مثلها . والمصرم : الذي أصاب أخلافه شيء فقطعه من صرار أو )
غيره .
وقال أبو جعفر : المصرم : الذي يلوى رأس خلفه حتى ينقطع لبنه . وهو هنا مثل لاكي يريد : أنها معقومة ولا لبن لها . انتهى .
وقال الأعلم في : شرح الأشعار الستة : قوله لعنت أي : سبت بضرعها كما يقال : لعنه الله ما أدهاه وما أشعره . وإنما يريد أن ضرعها قد حرم اللبن فذلك أوفر لقوتها وأصلب لها فتلعن ويدعى عليها على طريق التعجب من قوتها . والمصرم : المقطوع اللبن .
وقيل معنى لعنت أنه دعا عليها بأن ضرعها يكون مقطوع اللبن إذ كان أقوى لها . والمعنى الأول أحسن وأبلغ . انتهى .
وقوله : خطارة غب الخ هو صفة لشدنية . والخطارة : التي تخطر بذنبها يمنةً ويسرة لنشاطها .
والسرى : سير الليل وغب الشيء : بعده . يقول : هي خطارة بعد السرى فكيف بها إذا لم تسر والزيافة : التي تزيف في سيرها كما تزيف الحمامة تسرع .
وقوله : تقص الإكام أي : تكسرها بأخفافها لشدة وطئها وسرعة سيرها . يقال : وقص يقص بالقاف والصاد المهملة . ويروى : تطس بمعناه . يقال : وطس يطس إذا كسر . والإكام بالكسر : جمع أكم بفتحتين كجبال جمع جبل وهو ما ارتفع من الأرض .
والميثم : الشديد الوطء . يقال : وثم الأرض يثمها بالمثلثة إذا وطئها وطئاً . وقوله : بذات خف أي : بقوائم ذات أخفاف .
وقد تقدم في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب شرح أبيات من هذه القصيدة مع ترجمة عنترة .
____________________


وأنشد بعده
الشاهد الموفي الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : الوافر ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) على أنه قد جاء حذف نون الوقاية مع نون الضمير للضرورة كما هنا . والأصل : إذا فلينني بنونين .
قال سيبويه : وإذا كان فعل الجميع مرفوعاً ثم أدخلت فيه النون الخفيفة أو الثقيلة حذفت نون وتقول : هل تفعلن ذاك بحذف نون الرفع لأنك ضاعفت النون وهم يستثقلون التضعيف فحذفوها إذ كانت تحذف وهم في هذا الموضع أشد استثقالاً للنونات وقد حذفوها فيما هو أشد من ذا بلغنا أن بعض القراء قال : تحاجوني وكان يقرأ : فبم تبشروني خفيف وهي قراءة أهل المدينة وذلك لأنهم استثقلوا التضعيف .
قال عمرو بن معد يكرب : ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) يريد : إذا فلينني . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في حذف النون في قوله فليني كراهةً لاجتماع النونين وحذفت نون الياء دون جماعة النسوة لأنها زائدة لغير معنىً . انتهى .
____________________


وهذا موافق لما قاله الشارح .
وأخذ ابن مالك بظاهر كلام سيبويه في التسهيل أن المحذوف هنا نون النسوة وقال : هو مذهب سيبويه .
ووجهه في شرحه بأنهم حافظوا على بقاء نون الوقاية مطلقاً لما كان للفعل بها صون ووقاية .
والبيت من أبيات ثمانية لعمرو بن معد يكرب قالها في امرأة لأبيه تزوجها بعده في الجاهلية . ( تقول حليلتي لما قلتني ** شرائج بين كدريٍّ وجون ) ( تراه كالثّغام يعلّ مسكاً ** يسوء الفاليات إذا فليني ) ( فزينك في شريطك أمّ عمرو ** وسابغةٌ وذو النّونين زيني ) ( فلو شمّرن ثمّ عدون رهواً ** بكلّ مدجّجٍ لعرفت لوني ) ( إذا ما قلت إنّ عليّ ديناً ** بطعنة فارسٍ قضّيت ديني ) ) ( لقعقعة اللّجام برأس طرفٍ ** أحبّ إليّ من أن تنكحيني ) ( أخاف إذا هبطن بنا خباراً ** وجدّ الرّكض أن لا تحمليني ) ( فلولا إخوتي وبنيّ منها ** ملأت لها بذي شطبٍ يميني ) الحليلة : الزوجة . وقلتني من القلى وهو البغض . وشرائج خبر مبتدأ محذوف أي : شعرك شرائج . والجملة مقول القول . وشرائج : جمع شريج بفتح الشين المعجمة وآخره جيم : الضرب والنوع .
____________________


قال ابن دريد في الجمهرة : كل لونين مختلفين هما شريجان . وأنشد هذا البيت .
وقوله : بين كدري وجون أي : بعض الشرائج كدري أي : أغبر وبعضها جون . والكدري : منسوب إلى الكدرة . وجون بضم الجيم : جمع جونة وهو مصدر الجون بالفتح وهو من وقوله : تراه كالثغام الخ الضمير المستتر للحليلة والضمير البارز المنصوب لشعر الرأس المفهوم مما قبله .
ورواه الفراء وابن دريد : رأته بالماضي وهو من رؤية العين . وكالثغام حال من الهاء وكذلك قوله يعل . والثغام بفتح المثلثة والغين المعجمة قال الأعلم : هو نبت له نور أبيض يشبه به الشيب .
وقال صاحب الصحاح : هو نبت يكون في الجبل يبيض إذا يبس يقال له بالفارسية : درمنه إسبيذ يشبه به الشيب الواحدة ثغامة . وعللته ماءً عللاً من باب طلب : سقيته السقية الثانية . وعل هو يعل من باب ضرب إذا شرب .
قال الأعلم : ومعنى يعل يطيب شيئاً بعد شيء . وأصل العلل الشرب بعد الشرب . وهذا غير مناسب فإنه هنا متعد إلى مفعولين : أحدهما : نائب الفاعل وهو الضمير المستتر العائد إلى ما عاد إليه الهاء من تراه والثاني مسكاً .
وقوله : يسوء الفاليات فاعله ضمير الشعر والفاليات مفعوله وهو استئناف وهو دليل جواب إذا . والفالية هي التي تفلي الشعر أي : تخرج القمل منه .
وقوله : فزينك في شريطك الخ هذا خطاب لها . وأم عمرو : منادى .
____________________

والزين : نقيض الشين مصدر زانه بمعنى زينه إذا جعل له زينةً . والشريط قال جامع ديوانه : هو العيبة الصغيرة .
والعيبة بالفتح ما تجعل فيه الثياب . )
وقوله : وسابغة خبر مقدم . وزيني مبتدأ مؤخر . والسابغة : الدرع الواسعة الطويلة . وذو النونين : السيف والنون شفرته .
وقوله : فلو شمرن ثم عدون الخ يعني النساء الفاليات . وشمر إزاره تشميراً : رفعه . والرهو : السير السهل مصدر رها يرهو في السير أي : رفق . والمدجج بجيمين على صيغة اسم المفعول هو اللابس آلة الحرب والسلاح .
وقوله : إذا ما قلت الخ هو بضم التاء في الموضعين والطرف بالكسر : الفرس الجواد . والخبار بفتح الخاء المعجمة بعدها موحدة : الأرض الرخوة . وذو شطب هو السيف . وشطب السيف : طرائقه التي في متنه الواحدة شطبة .
وترجمة عمرو بن معد يكرب تقدمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة . وهو من الصحابة رضي الله عنهم .
وأنشد بعده الشاهد الحادي بعد الأربعمائة
____________________

( كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ** أصادفه وأفقد جلّ مالي ) على أن حذف نون الوقاية من ليتي ضرورة عند سيبويه .
قال سيبويه : وقد قالت الشعراء ليتي إذا اضطروا كأنهم شبهوه بالاسم حيث قالوا : الضاربي والمضمر منصوب .
قال زيد الخيل : ( كمنية جابرٍ إذ قال ليتي ** أصادفه وأتلف بعض مالي ) انتهى .
وهذا من أبيات لزيد الخيل رضي الله عنه وأولها : ( تمنّى مزيدٌ زيداً فلاقى ** أخا ثقةٍ إذا اختلف العوالي ) كمنية جابرٍ إذ قال ليتي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقد اقتصر عليهما أبو زيد في نوادره .
وبعدهما : ( تلاقينا فما كنّا سواءً ** ولكن خرّ عن حالٍ لحال ) ) ( ولولا قوله يا زيد قدني ** لقد قامت نويرة بالمآلي ) وقوله : تمنى مزيد الخ مزيد بفتح الميم وسكون الزاء المعجمة بعدها مثناة تحتية قال ابن السيرافي وغيره : هو رجل من بني أسد كان يتمنى أن يلقى زيد الخيل فلقيه زيد الخيل فطعنه فهرب منه .
وقوله : أخا ثقة أي : صاحب وثوق بشجاعته وصبره في الحرب . والعوالي : جمع عالية والعالية من الرمح : ما يلي الموضع الذي يركب فيه السنان . يعني وقت اختلاف الرماح ومجيئها وذهابها للطعان .
____________________


وقوله : كمنية جابر الخ هو في موضع المفعول المطلق أي : تمنى مزيد تمنياً كتمني جابر . والمنية بالضم : اسم للتمني وفي الأصل الشيء الذي يتمنى . وإنما قال : تمنى مزيد زيداً ولم يقل : تمناني مزيد للتهويل والتفخيم فإن زيداً قد اشتهر بالشجاعة فلو أتى بالضمير لفات هذا .
وجابر : رجل من غطفان تمنى أن يلقى زيداً حتى صبحه زيد فقالت له امرأته : كنت تتمنى زيداً فعندك فالتقيا فاختلفا طعنتين وهما دارعان فاندق رمح جابر ولم يغن شيئاً وطعنه زيد برمح له كان على كعب من كعابه ضبة من حديد فانقلب ظهراً لبطن وانكسر ظهره فقالت امرأته وهي ترفعه منكسراً ظهره : كنت تتمنى زيداً فلاقيت أخا ثقة .
ومعنى البيتين أن مزيداً تمنى أن يلقى زيداً كما تمنى جابر وكلاهما لقي منه ما يكره . ( ألا أبلغ الأقياس قيس بن نوفلٍ ** وقيس بن أهبانٍ وقيس بن جابر ) قال : قيس بن جابر هو الذي يقول فيه زيد : كمنية جابرٍ إذ قال ليتي فسماه باسم أبيه كما قال الآخر : الرجز يحملن عبّاس بن عبد المطّلب وإنما يريد عبد الله بن عباس . انتهى .
وروى أبو جعفر أحمد بن محمد بن إسماعيل : كمنية حائن بالنون أي : هالك والمراد به جابر المذكور .
____________________


وقوله : وأفقد جل مالي فقد يفقد من باب ضرب بمعنى عدم .
وروى بدله : وأتلف من الإتلاف . وجل الشيء معظمه . وهذه رواية الجوهري وروى غيره : )
بعض مالي .
قال العيني : والأول أحسن . ومن زعم أن بعضاً يرد بمعنى كل وخرج عليه قوله تعالى : يُصِبْكُم بعضُ الذي يَعِدُكم قول الأعشى : البسيط ( قد يدرك المتمنّي بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزّلل ) صح عنده حمل رواية الجماعة على ذلك فيكون أبلغ من رواية الجوهري . إلا أن هذا القول مردود . انتهى .
وإذ ظرف عامله منية وجملة : أصادفه خبر ليت . وأفقد منصوب بإضمار أن فإنها تضمر بعد واو المعية الواقعة بعد التمني .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قال صدر الأفاضل : وأفقد بالنصب كما لو كان مكان الواو الفاء كأنه قال : ليتني أصادف زيداً وأن أفقد بعض مالي أي : يجتمع هذا مع فقدان بعض المال .
وقال العيني : أفقد بالرفع جملة فعلية عطف على أصادفه . كذا قيل وفيه نظر لأنه يلزم أن يكون فقد بعض ماله متمنى وليس كذاك والصحيح أنه مرفوع على أنه خبر مبتدأ محذوف تقديره : وأنا أفقد بعض مالي وتكون الواو للحال . انتهى .
أقول : لا مانع على الوجه الأول من جعل الواو للمعية .
ثم قال : ويقال أفقد منصوب لأنه جواب التمني . وهذا لا يتمشى إلا إذا قرئ بالفاء فأفقد .
انتهى .
أقول : كأنه لم يطرق أذنه أن المضارع ينصب بإضمار أن بعد واو المعية كما
____________________

ينصب بعد فاء ( وقل لمن يدّعي في العلم فلسفةً ** حفظت شيئاً وغابت عنك اشياء ) ثم قال : ولكن يجوز نصبه بإضمار أن .
أقول : كأن هذا الإضمار عنده من القسم السماعي الذي لم يطرد . وفيما قلنا غنية عن هذا .
فتأمل .
وقوله : تلاقينا فما كنا سواء الخ خر بالخاء المعجمة : سقط . والحال بالحاء المهملة : موضع اللبد من ظهر الفرس والحال الثانية : الوقت الحاضر . أي : سقط عن ظهر الفرس بطعن في الحال .
وقوله : ولولا قوله أي : لولا قول جابر . وقدني : اسم فعل بمعنى حسبي . ونويرة بضم النون : )
امرأة جابر . قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : والمآلي : جمع مئلاة وهي الخرقة التي تكون مع النائحة تأخذ بها الدمع أي : لولا قول جابر حسبي يا زيد من الطعن قامت امرأته ملتبسةً بالخرق . تنوح عليه وتبكي أي : قتلته .
وقوله : بمطرد المهزة أراد به الرمح فإنه إذا هز باليد يطرد . والخلال بكسر الخاء المعجمة : العود الذي يتخلل به وربما يخل به الثوب أيضاً . أراد أن الرمح كان سنانه دقيقاً مثل الخلال .
وزيد الخيل هو كما قال صاحب الاستيعاب : زيد بن مهلهل بن زيد ابن منهب الطائي قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم في وفد طيئ سنة تسع فأسلم وسماه رسول الله صلى الله عليه وسلم زيد الخير وقال له : ما وصف لي أحد في الجاهلية فرأيته في الإسلام إلا رأيته دون الصفة غيرك . وأقطع له أرضين في ناحيته .
____________________


ويكنى أبا مكنف وكان له ابنان مكنف وحريث وقيل : حارث . أسلما وصحبا النبي صلى الله عليه وسلم وشهدا قتال الردة مع خالد بن الوليد .
وكان زيد الخيل شاعراً محسنا خطيباً لسنا شجاعاً بهمةً كريماً . وكان بينه وبين كعب بن زهير هجاء لأن كعباً اتهمه بأخذ فرس له .
قيل : مات زيد الخيل منصرفه من عند النبي صلى الله عليه وسلم محموماً فلما وصل إلى بلده مات . وقيل بل مات في آخر خلافة عمر . وكان قبل إسلامه قد أسر عامر بن الطفيل وجز ناصيته .
هذا ما أورده صاحب الاستيعاب .
وقيل له زيد الخيل لخمسة أفراس كانت له .
وكان طويلاً جسيماً موصوفاً بطول الجسم وحسن القامة وكان يركب الفرس العظيم الطويل فتخط رجلاه في الأرض كأنه راكب حماراً .
وأنشد بعده الرمل ( أيّها السّائل عنهم وعنّي ** لست من قيسٍ ولا قيس منّي ) على أن حذف النون ضرورة عند سيبويه والقياس : عني ومني بتشديد النون فيهما .
____________________


قال ابن هشام في شرح شواهده : إذا جرت الياء بمن أو عن وجبت النون حفظاً للسكون لأنه )
الأصل فيما يبنون . وقد يترك في الضرورة .
قال : أيّها السّائل عنهم وعنّي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وفي النفس من هذا البيت شيء لأنا لم نعرف له قائلاً ولا نظيراً لاجتماع الحذف في الحرفين .
ولذلك نسبه ابن الناظم إلى بعض النحويين ولم ينسبه إلى العرب . وفي التحفة : لم يجئ الحذف إلا في بيتٍ لا يعرف قائله . اه .
ووقع فيه قيس في موضع الضمير مرتين . وارتفاع الثاني بالابتداء لأن لا لا تعمل إلا في النكرات . انتهى كلام ابن هشام .
وقيس في الموضعين غير منصرف للعلمية والتأنيث المعنوي لأنه بمعنى القبيلة . وهو أبو قبيلة من مضر ويقال له : قيس عيلان واسمه الناس بن مضر بن نزار بهمزة وصل ونون وهو أخو إلياس قال ابن الكلبي في الجمهرة : إنما عيلان عبد لمضر حضن الناس ورباه فغلب عليه ونسب إليه .
وقال صاحب القاموس : وقيس عيلان تركيب إضافي لأن عيلان اسم فرس قيس لا اسم أبيه كما ظنه بعض الناس . اه .
يقال : تقيس فلان إذا تشبه بهم أو تمسك منهم بسبب إما بحلف أو جوار أو ولاء .
قال رؤبة : الرجز
____________________

وقيس عيلان ومن تقيّسا وقال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : قيس عيلان بن مضر ويقال قيس ابن عيلان واسمه الناس بالنون وأخوه إلياس بالياء . وكان الناس بالنون متلافاً وكان إذا نفد ما عنده أتى أخاه إلياس بالتحية فيناصفه أحياناً ويؤيسه أحياناً فلما طال ذلك عليه وأتاه كما كان يأتيه قال له إلياس : غلبت عليك العيلة فأنت عيلان فسمي لذلك عيلان وجهل الناس .
ومن قال قيس بن عيلان فإن عيلان كان عبداً لمضر حضن ابنه الناس فغلب على نسبته .
اه .
وقد تقدم هذا الكلام في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب .
والقبيلة المنسوبة إلى قيس هي خصفة بن قيس بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة والفاء .
وأنشد بعده )
الشاهد الثالث بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : الرجز ( قدني من نصر الخبيبين قدي ** ليس الإمام بالشّحيح الملحد )
____________________

على أن هذا ضرورة والقياس قدني بالنون .
قال سيبويه : وسألته رحمه الله يعني الخليل بن أحمد عن قولهم قطني ومني وعني ولدني ما بالهم جعلوا علامة المجرور ها هنا كعلامة المنصوب فقال : إنه ليس من حرف تلحقه ياء الإضافة إلا كان متحركاً مكسوراً ولم يريدوا أن يحركوا الطاء ولا النونات لأنها لا تذكر أبداً إلا وقبلها حرف متحرك مكسور وكانت النون أولى لأن من كلامهم أن تكون النون والياء علامة المتكلم فجاؤوا بالنون لأنها إذا كانت مع الياء لم تخرج هذه العلامة من علامات الإضمار وكرهوا إن يجيئوا بحرف غير النون فيخرجوا من علامات الإضمار .
وإنما حملهم على أن لم يحركوا الطاء والنونات كراهية أن يشبه الأسماء نحو : يد وهن . وأما ما يحرك آخره فنحو مع ولد كتحريك أواخر هذه الأسماء لأنه إذا تحرك آخره فقد صار كأواخر الأسماء فمن ثم لم يجعلوها بمنزلتها فمن ذلك معي ولدي في مع ولد وقد جاء في الشعر قدي .
قدني من نصر الخبيبين قدي لما اضطر شبهه بحسبي وهني لأن ما بعد حسب وهن مجرور كما أن ما بعد قط مجرور فجعلوا علامة الإضمار فيهما سواء كما قال : ليتي حيث اضطر . انتهى كلام سيبويه .
ورده صاحب الكشاف والبيضاوي عند قوله تعالى : قَدْ بَلَغْت مِنْ لَدُنِي عُذْراً على قراءة نافع بتحريك نون لدن والاكتفاء بها عن نون الوقاية كما في : قدني من نصر الخبيبين قدي وعند ابن مالك نون الوقاية في قدني وقطني غير لازمة بل يجوز ذكرها وحذفها .
____________________


واستشهد لقط بما روي في الحديث من قوله : قطي قطي بعزتك يروى بسكون الطاء وبكسرها مع الياء وبدونها .
وقال في الألفية : الرجز ( وفي لدنّي لدني قلّ وفي ** قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي ) قال الشاطبي : قوله قل دليل على أن هذا جائز عنده في الكلام لا مختص بالشعر . وهذا دأبه في )
النظم إنما يعبر بلفظ القلة عما جاء في النثر . وهو ثابت بقراءة نافع وأبي بكر . ونبه بذلك على مخالفة ظاهر كلام سيبويه .
قال في شرح التسهيل : وزعم سيبويه أن عدم لحاقها من الضرورات . وليس كذلك بل هو جائز في الكلام الفصيح كقراءة نافع : قد بلغت من لدني عذراً بالتخفيف .
ثم قال الشاطبي : وقوله : وفي قدني وقطني الحذف أيضاً قد يفي يريد أن حذف نون الوقاية فيهما قد يأتي . وإتيانه بقد يفي إشعار بأنه مسموع في الكلام بل قد يكثر كثرةً ما إذ معنى يفي يكثر أي : إنه يكثر في السماع فلا يكون معدوداً في الشواذ ولا في الضرائر . وهذا تنكيت منه على سيبويه ومن قال بقوله : أن عدم اللحاق يختص بالشع . اه .
وقد تبعه ابن هشام في شرح شواهده قال : إذا جرت الياء بلدن أو قط أو قد فالغالب إثبات النون حفظاً للسكون وقد يترك . دليله في لدن قوله تعالى : قد بلَغْتَ من لدني عُذْراً قرئ مخففاً ومشدداً .
وأما قول سيبويه : إن ترك النون مع لدن ضرورة فمردود بالقراءة ولا يقال إنها جاءت على من يقول لد وتكون النون للوقاية لأنه لا وجه حينئذ لدخول النون إذ لا سكون فيحفظ .
ودليله في قد قوله : قدني من نصر الخبيبين قدي
____________________

وفي هذا نظر واضح .
وقد أغرب الجوهري في زعمه أن لحاق النون لقدني على خلاف القياس . قال : فأما قولهم قدك بمعنى حسبك فهو اسم تقول : قدي وقدني أيضاً بالنون على غير قياس لأن هذه النون إنما تزاد في الأفعال . واضح البطلان .
وقال ابن هشام في المغني : قد الاسمية على وجهين : اسم مرادف لحسب والغالب فيها البناء يقال : قد زيد درهم وقدني بالنون حرصاً على السكون . وتعرب بقلة يقال : قد زيد درهم بالرفع كما يقال حسبه درهم بالرفع وقدي بغير نون كما يقال حسبي .
والوجه الثاني : اسم فعل مرادفة ليكفي يقال : قد زيداً درهم وقدني درهم كما يقال : يكفي زيداً درهم ويكفيني درهم . )
وقوله : قدني من نصر الخبيبين قدي يحتمل قد الأولى أن تكون مرادفة لحسب على لغة البناء وأن تكون اسم فعل .
وأما الثانية فتحتمل الأول وهو واضح والثاني على أن النون حذفت ضرورة ويحتمل أنه اسم فعل لم يذكر مفعوله فالياء للإطلاق والكسر للساكنين اه .
وفيه أمور : أحدها : قال الدماميني : لو كانت مرادفة ليكفي لكانت فعلاً واللازم باطل ولا أدري لم جعلها بمعنى المضارع مع أن مجيء اسم الفعل بمعناه فيه كلام وابن الحاجب يأباه . وقد صرح ابن قاسم أنها بمعنى كفى . اه .
والصواب ما قاله الشارح في باب اسم الفعل أن معنى قدك اكتف ومعنى قدني لأكتف .
فيكون الأول أمراً للمخاطب والثاني أمراً للمتكلم نفسه . وهذا كلام في غاية الوضوح .
ثانيها : إذا كانت قد في الموضعين بمعنى يكفي فأين فاعلها ثالثها : يرد على قوله إن الياء للإطلاق والكسرة للساكنين قول شارحه الدماميني :
____________________

إن حرف الإطلاق حرف مد يتولد من إشباع حركة الروي فلا وجود له إلا بعد تحريك الروي فإذن لم يلتق ساكنان . اه .
وقد أعاد ابن هشام هذا الكلام في شرح شواهده فقال : الشاهد في قوله قدني بإلحاق النون .
وأما قدي فقال الشارح يعني ابن الناظم وغيره : إنه شاهد على ترك النون . وليس كما قالوا لجواز أن يكون أصله قد ثم ألحق ياء للقافية وكسر الدال للساكنين .
وإنما شاهد الحذف قوله : الطويل قدي الآن من وجدٍ على هالك قدي ولا يخفى فساد قوله ثم ألحق ياء للقافية فإنها دالية لا يائية .
وقوله : من نصر الخبيبين من متعلقة ب قدني لأنه بمعنى لأكتف كما حققه الشارح في باب اسم الفعل . وذهب بعضهم إلى أن قدني مبتدأ بمعنى حسبي والجار والمجرور خبره وأن المعنى حسبي من نصرة هذين الرجلين أي : لا أنصرهما بعد .
قال ابن هشام في شرح شواهده : ويجوز أن يكون النصر هنا بمعنى العطية كقول بعض السؤال : من ينصرني ينصره الله وخرج عليه قوله تعالى : مَنْ كان يظنُّ أنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّه وعلى هذا )
فالإضافة للفاعل : ويرجح الأول أنه لم يفرد أبا خبيب بالذكر وإنما يكون العطاء غالباً من ولي الأمر . اه .
والخبيبين قيل مثنى خبيب وقيل : جمع خبيب . فعلى الأول الباء الثانية
____________________

مفتوحة وعلى الثاني مكسورة . وخبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة : مصغر خب . وخبيب هو ابن عبد الله بن الزبير . وكان عبد الله يكنى بأبي خبيب .
قال بعض فضلاء العجم في شحر شواهد المفصل : وكنيته المشهورة أبو بكر وكانوا إذا أرادوا ذمه كنوه بأبي خبيب . وفي حاشيته : لعله للإشعار بكونه منقولاً من مصغر الخب بالكسر وهو الرجل الخداع .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : أراد بالخبيبين مثنى عبد الله ومصعباً ابن الزبير .
وخالف ما جاء للعرب من نحوه مثل العمرين يريدون أبا بكر وعمر للخفة والقمرين للشمس والقمر لتغليب المذكر لأن عبد الله بن الزبير يكنى أبا خبيب باسم ولده وأبا بكر فإذا ذموه قالوا أبو خبيب . قال فضالة بن شريك : الوافر ( أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ** نكدن ولا أميّة بالبلاد ) فعلى ما ذكره الشاعر ينبغي أن يريد به خبيباً واحد إخوته من بني عبد الله بن الزبير وهم : حمزة وثابت وعباد وقيس وعامر وموسى . اه .
ولا يخفى أن هذه الإرادة غير مناسبة لما سيجيء .
وأورد المبرد هذا البيت عند ذكر الخوارج وقال : يريد خبيباً ومن معه .
وقال الإمام أبو الوليد الوقشي في حاشيته على الكامل : هذا خطأ إنما يريد أبا خبيب وهو عبد الله بن الزبير .
وأنشده المبرد في أوائل الكامل أيضاً وقال : أراد عبد الله ومصعباً ابني الزبير وإنما أبو خبيب عبد الله .
وكتب أبو الوليد في حاشيته هنا أيضاً : أنشده في ذكر الخوارج : الخبيبيين جمعاً وقال : يريد خبيباً ومن معه كقراءة من قرأ : سلام على
____________________

الياسين قال : فإنما يريد إلياس ومن كان معه على دينه . كذا وقع هنا يريد خبيباً وإنما هو يريد أبا خبيب على كنيته الأخرى المشهورة ذهاباً إلى نسبة الخب إليه . اه . )
ونقل ابن المستوفي عند شرح قوله : بصير بما أعيا النّطاسيّ حذيما والأصل ابن حذيم . عن الخوارزمي : أن هذا ليس من باب الحذف إنما هو من باب تعدي اللقب من الأب إلى الابن كما في قوله : الطويل كراجي النّدى والعرف عند المذلّق أي : ابن المذلق ألا ترى أنه يقال : أفلس من ابن المذلق . ومنه : قدني من نصر الخبيبين قدي ونقل ابن هشام في شرح الشواهد عن ابن السيد فيما كتبه على الكامل رد رواية التثنية بأن الشاعر قال هذا الشعر عند حصار طارق ومصعب مات قبل ذلك بسنين اه .
ولم أر لابن السيد شيئاً من شرحه على هذا البيت في الموضعين من الكامل .
وذكر العيني للتثنية وجهين : أحدهما أن المراد عبد الله وأخوه مصعب .
وثانيهما : أن المراد عبد الله وابنه خبيب المذكور . وعلى هذا الثاني لا يرد الرد المذكور عن ابن السيد .
____________________


ورواه جماعة بفظ الجمع ومنهم أبو زيد في نوادره قال : أراد الخبيبيين فحذف ياء النسبة وأورد له نظائر .
ومنهم يعقوب بن السكيت في إصلاح المنطق قال ابن السيرافي في شرح شواهده : الخبيبين جمع يريد به عبد الله بن الزبير وأصحابه وجعلهم كأن كل رجل منهم خبيب .
ومثل هذا يفعل كثيراً يقولون الأشعرون إذا نسبوا إلى الأشعر كأنهم جمعوا رجالاً كل اسم رجل منهم أشعر وإنما أشعر الذي أضيفوا إليه فصار الخبيبين في موضع الخبيبيين والأشعرون في موضع الأشعريين فحذفوا ياء النسبة وجعلوا الاسم كأنه لكل واحد من المنسوبين . اه .
ومنهم أبو عبيدة نقله عنه أبو الحسن الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد .
ومنهم أبو جعفر النحاس في تفسير القرآن قال : إنما يريد أبا خبيب عبد الله ابن الزبير فجمعه على أنه من كان معه على مذهبه داخل فيه .
ومنهم ابن جني في المحتسب في سورة الصافات عند قراءة ابن محيصن : وإن الياس بغير همز سلام على الياسين بغير همز . قال : فأما الياس موصول الألف فإن الاسم منه ياس بمنزلة باب )
ودار ثم لحقه لام التعريف . والياسين على هذا كأنه على إرادة ياء النسب كأن الياسيين كما حكى عنهم صاحب الكتاب : الأشعرون والنميرون يريد الأشعريين والنمريين .
وروينا عن قطرب عنهم : هؤلاء زيدون منسوبون إلى زيد بغير ياء النسبة . وقال أبو عمرو : هلك اليزيدون يريد : ثلاثة يزيديين .
وقد يجوز أن يكون جعل كل واحد منهم من أهل الياس ياساً فقال الياسين كقوله : قدني من نصر الخبيبين قدي
____________________

يريد أبا خبيب وأصحابه كأنه جعل كل واحد منهم خبيباً . اه .
يفهم صنيعه أنه إذا جعل كل واحد منهم خبيباً لا يكون على تقدير ياء النسبة وإذا كان على تقديرها يراد أصحاب أبي خبيب فقط ولا يدخل أبو خبيب فيهم . كما قال أبو محمد التوزي : من أنشده بالجمع يريد أصحاب ابن الزبير كما يقال المهالبة .
وحقه الخبيبيين بالتشديد ولكنه حذف ياء النسبة نقله عنه صاحب كتاب التفسح في اللغة .
وإليه ذهب ابن هشام في شرح شواهده قال : يروى الخبيبين مثنى على إرادة عبد الله وأخيه مصعب ويروى على الجمع على إرادة عبد الله ومن على رأيه وكلاهما تغليب .
ويحتمل على الجمع أن يريد مجرد أصحاب عبد الله على أن الأصل الخبيبيين ثم حذفت الياء وهذا خلاف ما تقدم عن ابن السيرافي وخلاف قول أبي علي في الإيضاح الشعري قال : من أنشده على الجمع أراد الخبيبيين ونسب إلى أبي خبيب يريده ويريد شيعته .
وعلى هذا قراءة من قرأ : سلام على الياسين أراد النسب إلى الياس . ومن أنشد على التثنية أراد عبد الله ومصعباً فثناهما كما قالوا : العجاجان . اه .
ويؤيد كلام ابن جني ومن تبعه صنيع المبرد في الكامل قال عند ذكر الخوارج : باب للنسب وهو أن يسمى كل واحد منهم باسم الأب إذا كانوا إليه ينسبون . ونظيره المهالبة والمسامعة والمناذرة ويقولون : جاءني النميرون والأشعرون جعل كل واحد منهم نميراً وأشعر . فهذا يتصل في القبائل .
وقد تنسب الجماعة إلى الواحد على رأي أودين فيكون له مثل نسب الولادة
____________________

كما قلت : أزرقي لمن كان على رأي ابن الأزرق كما تقول تميمي وقيسي لمن ولده تميم وقيس .
ومن قرأ : سلام على الياسين فإنما يريد الياس عليه السلام ومن كان على دينه كما قال : )
قدني من نصر الخبيبيين قدي يريد أبا خبيب ومن معه . اه .
وقوله : قدي تأكيد للأول . وليس الإمام الخ أراد بالإمام الخليفة وعرض بعبد الله بن الزبير فإنه كان بخيلاً . والشح : البخل . وشح يشح من باب قتل وفي لغة من بابي ضرب وتعب فهو شحيح من قوم أشحاء .
والملحد قال صاحب المصباح : من ألحد في الحرم بالألف إذا استحل حرمته وانتهكها . وألحد إلحاداً : جادل ومارى . ولحد بلا ألف بمعنى جار وظلم .
والبيتان من أرجوزة لحميد الأرقط .
قال ابن المستوفي : ويروى : ليس أميري بالظلوم الملحد ولم أر البيت الأول في ديوانه . وأولها : الرجز
____________________

( ليس الإمام بالشّحيح الملحد ** ولا بوبرٍ بالحجاز مقرد ) ( إن ير بالأرض الفضاء يصطد ** وينجحر فالجحر شرّ محكد ) وهي أربعة أبيات . اه .
وكذلك أورد الأبيات القالي في أماليه ولم يورد بيت قدني . وأورد أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي أبياتاً ثلاثة قبلها قال : يمدح الحجاج وهي : الرجز ( أو تردي حوض أبي محمّد ** ليس الأمير بالشّحيح الملحد ) إلى آخر الأبيات وقال : هذا تعريض بابن الزبير في قوله : بالشحيح الملحد يريد أنه ألحد في الحرم .
وفي قوله : ولا بوبر بالحجاز مقرد . والوبر بفتح الواو وسكون الموحدة وآخره راء مهملة : دويبة مثل السنور طحلاء اللون حسنة العينين لا ذنب لها توجد في البيوت . والمقرد : اللاصق من جزع أو ذل .
وقوله : حتى تحسري وتلهدي يقال : لهد البعير يلهد إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه .
انتهى . )
وقوله : قلت لعنسي الخ العنس بفتح العين وسكون النون : الناقة الصلبة وعجلى : مؤنث عجلان . وتعتدي من العدو . وتحسري : مضارع حسر بالفتح يحسر بالكسر حسوراً إذا أعيا .
____________________


وتلهدي يقال : لهد البعير يلهد إذا عض الحمل غاربه وسنامه حتى يؤلمه . ولهده الحمل أي : أثقله . قال الأصمعي : لهد القوم دوابهم : أجهدوها وأتعبوها .
وقوله : أو تردي الخ أو بمعنى إلى أو إلا . وتردي من الورد منصوب بحذف النون بأن مضمرة وقوله ولا بوبر الخ قال ابن الأثير في النهاية : الوبر بسكون الباء : دويبة على قدر السنور غبراء أو بيضاء حسنة العينين شديدة الحياء حجازية والأنثى وبرة . ويشبه بها تحقيراً . اه .
وضبطه العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني بفتح الواو وسكون التاء المثناة من فوق وفي آخره نون بمعنى واتن . يعني : ولا بدائم ثابت بأرض الحجاز . ويقال للماء المعين الدائم الذي لا يذهب : واتن وكذلك بمعناه واثن بالمثلثة . هذا كلامه .
وهذا تحريف منه قطعاً ومقرد : اسم فاعل من أقرد بالقاف بمعنى ذل وخضع وقال الجوهري : أقرد أي : سكن وتماوت .
وروى : مفرد بالفاء على أنه اسم مفعول من أفردته إذا عزلته .
وقوله : إن ير يوماً الخ الجملة الشرطية صفة لوبر ونائب الفاعل في ير ضمير الوبر . والفضاء بالفاء . ويصطد بالبناء للمفعول .
وقوله : وينجحر الخ قال صاحب الصحاح : الجحر بضم الجيم : واحد الجحرة والأجحار .
وأجحرته أي : ألجأته إلى أن دخل جحره فانجحر . وفاعل ينجحر ضمير الوبر أيضاً . والمحكد بفتح الميم وسكون الحاء المهملة وكسر الكاف : الأصل ويقال له المحتد أيضاً بكسر المثناة الفوقية .
وحميد الأرقط : شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية وهو معاصر الحجاج . وهو حميد بن مالك بن ربعي بن مخاشن بن قيس بن نضلة بن أحيم ابن بهدلة بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
____________________


وقيل : هو أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم وهم ربيعة الجوع . وسمي الأرقط لآثار كانت بوجهه . والرقط النقط . والرقطة : سواد يشوبه نقط . والأرقط من الغنم : مثل )
الأبغث . والأرقط : النمر .
ولم أر ترجمة حميد هذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة ولا في المؤتلف والمختلف للآمدي ولا في الأغاني فيما يحضرني منه . وإنما نقلت ترجمته من الأنساب .
وقيل قائل الشعر المذكور أبو بجلة قاله ابن يعيش في شرح المفصل ولا أعرف هذا . والله أعلم .
وأنشد بعده : إذ ذهب القوم الكرام ليسي وأوله : عددت قومي كعديد الطّيس وأنشد بعده : وليس حاملني إلا ابن حمّال
____________________

أوله : ألا فتىً من بني ذبيان يحملني وتقدم شرحه في الشاهد الخامس والتسعين بعد المائتين من باب الإضافة .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع بعد الأربعمائة : الوافر ( وكائن بالأباطح من صديقٍ ** يراني لو أصبت هو المصابا ) على أن ربما وقع ضمير الفصل بلفظ الغيبة بعد حاضر لقيامه مقام مضاف غائب أي : يرى مصابي هو المصاب .
بيانه : أن هو فصل وقع بعد ضمير الحاضر أي : المتكلم فكان حقه في الظاهر أن يقول : يراني أنا المصاب لأن ضمير الفصل يجب أن يكون وفق ما قبله في الغيبة والخطاب التكلم لأن فيه نوعاً من التوكيد تقول : علمت زيداً هو المنطلق وعلمتك أنت المنطلق وعلمتني أنا المنطلق .
وحينئذ يتوجه عليه سؤالان : أحدهما : كيف وقع ضمير الغيبة بعد ضمير المتكلم وحق الفصل أن يكون وفقاً لما قبله وثانيهما : أن المفعول الثاني في باب
____________________

علم يجب أن يكون موافقاً للمفعول الأول في الماصدق فكيف يصح حمل المصاب الذي هو بمعنى المصيبة على الياء في يراني وأجاب الشارح المحقق عنهما بما ذكره وهو أن الضمير الحاضر وهو الياء قائم مقام المضاف الغائب أي : يرى مصابي هو المصاب . والمعنى يرى مصابي هو المصاب العظيم ويسقط بهذا الجواب السؤالان .
ووجه قيام الياء مقام المضاف أن مفعول يرى في الحقيقة هو المضاف المحذوف والياء مضاف إليه فلما حذف المضاف قام الياء المجرور محلاً مقام ذلك المضاف المنصوب على المفعولية فالفصل مطابق للمحذوف لا للقائم مقامه .
وإنما وصف المضاف بالغائب لأنه اسم ظاه وهو في حكم الغائب ولهذا يعود ضمير الغيبة إليه . والمصاب على هذا مصدر ميمي كقولهم : جبر الله مصابك أي : مصيبتك . وإنما وصف المصاب بالعظيم لتحصل الفائدة ومثله في حذف الصفة : الآن جئت بالحق أي : بالواضح وإلا لكفروا بمفهوم الظرف إذ يكون المعنى : وقبل الآن لم يجئ بالحق فيكون إنكاراً لما جاء به أولاً .
ويجوز أن لا تقدر الصفة ويكتفي بالفائدة الحاصلة من الحصر والمعنى لو أصبت يرى مصيبتي هي المصيبة ولا يعد غيرها مصيبة وذلك من تأكد صداقته لا يكترث بمصيبة غيري ولا يهتم لها . )
ولصحة المعنى هنا لم يقدر الشارح المحقق الصفة . فلله دره ما أدق نظره وهذا الذي ذكره في هذا البيت أحد تخريجين لأبي علي الفارسي ذكرهما في إيضاح الشعر قال : يجوز أن يكون التقدير في يراني يرى مصابي أي : مصيبتي وما نزل بي المصاب كقولك : أنت أنت ومصيبتي المصيبة . أي : ما عداه جلل هين فيكون هو فصلاً بين المضاف المقدر وبين الظاهر .
واقتصر على هذا التخريج ابن الشجري في أماليه ثم قال : ولو أنه قال : يراه لو أصبت هو المصابا فأعاد الهاء من يراه إلى الصديق والمعنى يرى نفسه
____________________

كما جاء في التنزيل : إنَّ الإنسان ليَطْغَى أنْ رآهُ استَغْنى لسقط الاعتراض واستغنى عن تقدير المضاف ولكان المصاب اسم مفعول من قولك : أصيب زيد فهو مصاب . ولكن المروي : يراني . انتهى .
أقول : لم يرو الأخفش في كتاب المعاياة إلا : يراه لو أصبت هو المصابا بالمثناة التحتية وضمير الغائب .
وقال ابن هشام في المغني : ويروى : يراه أي : يرى نفسه وتراه بالخطا ولا إشكال حينئذ ولا تقدير . والمصاب حينئذ اسم مفعول لا مصدر . ولم يطلع على هاتين الروايتين بعضهم فقال : ولو أنه قال يراه لكان حسناً أي : يرى الصديق نفسه مصاباً إذا أصبت . اه .
والتخريج الآخر الذي ذكره أبو علي : أن يكون تأكيداً لمستتر في يراني لا فصلاً . قال : موضع هو رفع لكونه تأكيداً للضمير الذي في يراني لأن هو للغائب والمفعول الأول في يراني للمتكلم والفصل إنما يكون الأول في المعنى كقوله سبحانه : أنا أقلُّ مِنْكَ مالاً وولَداً .
ألا ترى أن أنا هو المفعول الأول المعبر عنه بني . والمعنى : يراني هو المصابا أي : يراني للصداقة المصاب لغلظ مصيبتي عليه للصداقة وليس كالعدو أو الأجنبي الذي لا يهمه ذاك . اه .
فالمصاب على هذا اسم مفعلو لا مصدر .
وبقي تخريج ثالث نقله ابن هشام عن بعضهم في المغني وهو أن يجعل هو فصلاً للياء . ووجهه بأنه لما كان عند صديقه بمنزلة نفسه حتى كان إذا أصيب كأن صديقه قد أصيب فجعل ضمير الصديق بمنزلة ضميره لأنه نفسه في المعنى . اه .
وزعم ابن الحاجب في أماليه أن الرواية : لو أصيب هو المصابا وقال : شرط الفصل أن يأتي على طبق الخبر فكان ينبغي أن يكون أنا لأن المصاب مفعول ثان ليراني والمفعول الأول الياء )
وهي للمتكلم والمفعول الثاني هو الأول في المعنى
____________________

فكان يجب أن يكون الفاصل على القياس أنا . ووجهه أنه ليس على الفصل بل هو تأكيد للضمير المستتر في يراني أو للضمير في أصيب .
وأما إن قدر لو أصبت لم يستقم المعنى إذ تقديره يراني مصاباً إذا أصابتني مصيبة . ولا يخبر بمثل ذلك عاقل إذ لا يتوهم خلافه . اه .
فالمصاب المذكور عنده اسم مفعول لا مصدر .
وقد خفي هذا على ابن هشام فقال في المغني بعد نقل كلامه . وعلى ما قدمناه من تقدير الصفة لا يتجه الاعتراض .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : الصفة التي أشار إليها إنما قدرها على جعل المصاب مصدراً لا اسم مفعول وكلام ابن الحاجب فيما إذا كان المصاب اسم مفعول لا مصدراً ولذلك جعله مفعولاً ثانياً ليرى والمفعول الأول هو الياء ولولا ذلك لما صح بحسب الظاهر .
والاعتراض الذي أشار إليه ابن الحاجب غير متجه مع الإعراض عن تقدير الصفة وذلك لأن مبناه على أن يكون مصاباً اسم مفعول نكرة والواقع في البيت ليس نكرةً بل هو معرف بأل والحصر مستفاد من التركيب كقولك : زيد هو الفاضل لا غيره .
وكذا المعنى في البيت أي : لو أصبت رآني المصاب بمعنى أنه لا يرى المصاب إلا إياي دون غيري كأنه لعظم مكانه عنده وشدة صداقته له تتلاشى عنده مصائب غير صديقه فلا يرى غيره مصابا ولا يرى المصاب إلا إياه مبالغة . فالمعنى صحيح متجه كما رأيت بدون تقدير صفة . اه .
وقوله : لو أصبت جملة معترضة بين مفعولي يرى وجواب لو محذوف يدل عليه ما قبله ويراني بمعنى يعلمني وفاعله ضمير صديق والجملة خبر كائن . وبالأباطح كان في الأصل صفة لصديق فلما قدم عليه صار حالاً منه . ومن صديق تمييز لكائن وتمييزها مجرور ب من في الغالب .
وكائن هنا خبرية لإفادة التكثير ككم الخبرية .
ورواه الأخفش في المعاياة : وكم لي في الأباطح من صديق
____________________

وأورده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : وكائن من نبيٍّ قُتِلَ مَعَهُ ربِّيُّون كثيرٌ . قال : وكائن على وزن فاعل وأكثر ما جاء الشعر على هذه اللغة . ثم أنشد هذا البيت مع أبيات أخر . )
والأباطح : جمع أبطح وهو مسيل واسع للماء فيه دقاق الحصى .
وهذا البيت من قصيدة لجرير بن الخطفى مدح بها الحجاج بن يوسف الثقفي .
وبعده : ومنها : ( إذا سعر الخليفة نار حربٍ ** رأى الحجّاج أثقبها شهابا ) ومطلع القصيدة : ( سئمت من المواصلة العتابا ** وأمسى الشّيب قد ورث الشّبابا ) ومعنى وراثة الشيب الشباب حلوله محله فإن الوارث يحل محل الموروث .
وترجمة جرير قد تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الخامس بعد الأربعمائة : الطويل هو البيت حتّى ما تأنّى الحزائق
____________________

تمامه : ويا قلب حتّى أنت ممّن أفارق على أنه قد يخبر عن ضمير الأمر المستبهم تقديراً بالمفرد كما أخبر ب البين . هنا عن هو كأنه قيل : أي شيء وقع من المصائب فقال : هو البيت .
وقوله : حتى ما تأنى مبني على ما يفهم من استعظام أمر البين المستفاد من الضمير أي : ارتقي أمر البين في الصعوبة حتى لا تتأنى جماعات الإبل أيضاً .
وفي هذا رد على الواحدي في زعمه أن هذا الضمير من قبيل ما فسر بجملة . وهذه عبارته : هو كناية عن البين يسمون ما كان من مثل هذا الإضمار على شريطة التفسير كقوله تعالى : قُلْ هُوَ اللّضهُ أحَد .
وقوله تعالى : فإنَّها لا تَعْمَى الأبصار وقول الشاعر : هي النَّفس ما حملتها تتحمَّلُ ومثله كثير . اه . )
وقال المبارك بن المستوفي في النظام : قال أبو القاسم عبد الواحد بن علي : يقول : الحق والشأن هو الفراق لا الاجتماع كأنه نظر فيه إلى قوله تعالى : الذي خلقَ الموتَ والحياةَ فقدم الموت لأن الانتهاء إليه والأمور بخواتمها .
وهذا تفسير بعيد من معنى البيت وتقدير ضمير الشأن بما قدره به يغاير ما قدره النحويون .
اه .
وتأنى أصله تتأنى بتاءين مضارع من التأني وهو التلبث والخزائق : جمع حزيق بالحاء المهملة قال صاحب القاموس : الحزيق والحزيقة والحزاقة : الجماعة والجمع الحزائق . والظاهر أنه بمعنى الجماعة مطلقاً لا بمعنى جماعة الإبل كما صرح به الشارح . ويدل لما قلنا كلام شراحه .
____________________


قال ابن جني : تأنى تمكث . والحزائق : جمع حزيق وهو الجماعة . وقال أبو اليمن الكندي : أي هذا الذي تشتكيه هو البين حتى لا مكث للجماعات في التفرق بل لها إسراع وعجلة .
ثم التفت إلى خطاب قلبه أي : أنت أيضاً مع علقتك في الموجبة لقربك أنت مفارق .
وحتى في الموضعين ابتدائية . وأشار إليه ابن جني بقوله : معناه يفارقني كل واحد حتى أنت مفارقي كما قال الفرزدق : الطويل فيا عبجاً حتّى كليبٌ تسبّني أي : يسبني كل أحد حتى كليب تسبني .
قال ابن هشام في المغني : حتى الابتدائية حرف يبتدأ بعده الجمل أي : يستأنف . فيدخل على الجملة الاسمية والفعلية قال الفرزدق : فيا عجباً حتّى كليب تسبّني ولا بد من تقدير محذوف قبل حتى من هذا البيت يكون ما بعد حتى غايةً له أي : فواعجبا يسبني الناس حتى كليب تسبني . اه .
قال الواحدي : ومعنى البيت : هو البين الذي فرق كل شيء حتى لا يتمهل ولا يتأنى الجماعات أن يتفرقوا إذا جرى حكم البين فيهم . ثم خاطب قلبه : وأنت أيضاً على مالك من علائق القرب ممن أفارقه يعني : الأحبة إذا فارقوني ذهب القلب معهم ففارقني وفارقته .
اه .
وهذا البيت مطلع قصيدة لأبي الطيب المتنبي مدح بها الحسين بن إسحاق التنوخي . )
____________________


وترجمة المتنبي تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده الشاهد السادس بعد الأربعمائة وهو من شواهد المفصل : الطويل ( على أنّها تعفوا الكلوم وإنّما ** نوكّل بالأدنى وإن جلذ ما يمضي ) على أن الضمير في أنها ضمير القصة .
في التسهيل وشرحه لابن عقيل : وإفراده لازم لأن مفسره مضمون الجملة . وهو مفرد . وكذا تذكيره .
والمنقول عن البصريين جواز التأنيث لإرادة القصة وعن الكوفيين المنع ما لم يله مؤنث نحو : إنها جاريتاك ذاهبتان وإنها نساؤك ذاهبات أو مذكر شبه به مؤنث نحو : إنها قمر جاريتك أو فعل بعلامة تأنيث كقوله تعالى : فإنَّها لا تَعمَى الأبصار .
فيرجح تأنيثه باعتبار القصة على تذكيره باعتبار الشأن . فيجوز في هذه المسائل الثلالث : التذكير والتأنيث لكن الراجح التأنيث لأن فيه مشاكلةً تحسن اللفظ ولا يختلف المعنى بذلك إذ القصة والشأن بمعنىً واحد . اه .
وتعفو هنا فعل لازم بمعنى تدرس وتبرأ . والكلوم فاعله جمع كلم وهو
____________________

الجرح والحزة والجملة خبر ضمير الشأن . ولم يحتج إلى رابط لأنها نفس المبتدأ في المعنى . اه .
والبيت من أبيات لأبي خراش الهذلي أوردها السكري في أشعار الهذليين وكذلك المبرد في الكامل وأبو تمام في أول باب المراثي من الحماسة .
وكذلك الأصبهاني أوردها في الأغاني والقالي في أماليه وهي : الطويل ( حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا ** خراشٌ وبعض الشّرّ أهون من بعض ) ( فواللّه ما أنسى قتيلاً رزئته ** بجانب قوسى ما مشيت على الأرض ) ( على أنّها تعفو الكلوم وإنّما ** نوكّل بالأدنى وإن جلّ ما يمضي ) ( ولم أدر من ألقى عليه رداءه ** على أنّه قد سلّ عن ماجدٍ محض ) ( ولكنّه قد نازعته مجاوعٌ ** على أنّه ذو مرّة صادق النّهض ) عروة : أخو أبي خراش وخراش : ابنه . وأخطأ بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل )
وتبعه شارح أبيات الموشح في زعمه أن عروة ابن الشاعر .
وخراش بالراء لا بالدال .
وأبو خراش اسمه خويلد بن مرة وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والسبعين .
وكان لأبي خراش تسعة إخوة منهم عروة بن مرة وزهير بن مرة .
____________________


قال المبرد في الكامل : جاور عروة بن مرة أخو أبي خراش الهذلي ثمالة من الأزد فجلس يوماً بفناء بيته آمناً لا يخاف شيئاً فاستدبره رجل منهم بسهم من بني بلال فقصم صلبه ففي ذلك يقول أبو خراش : ( لعن الإله وجوه قومٍ رضّعٍ ** غدروا بعروة من بني بلاّل ) وأسرت ثمالة خراش بن أبي خراش فكان فيهم مقيماً فدعا آسره رجلاً منهم للمنادمة فرأى ابن أبي خراش موثقاً في القد فأمهل حتى قام الآسر لحاجة فقال المدعة لابن أبي خراش : من أنت قال : أنا ابن أبي خراش . فقال : كيف دليلاك قال : قطاة . قال : فقم فاجلس ورائي .
وألقى عليه رداءه ورجع صاحبه فلما رأى ذلك أصلت له السيف فقال : أسيري فنثر المجير كنانته وقال : والله لأرمينك إن رمته فإني قد أجرته فخلى عنه فجاء إلى أبيه فقال له : من أجارك فقال : والله ما أعرفه .
فقال أبو خراش : حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا الأبيات .
وتزعم الرواة أنها لا تعرف رجلاً مدح من لا يعرف غير أبي خراش . وقوله : وجوه قوم رضع هو جماعة راضع وقوم يقولون : هو توكيد للئيم كما يقولون جائع نائع . وقوم يقولون : الراضع : الذي يرتضع من الضرع لئلا يسمع الضيف والجار الحلب منه .
____________________


وقوله : كيف دليلاك فهو كثرة الدلالة . والفعيلي إنما يستعمل في الكثرة . اه .
وقال صاحب الأغاني : خرج زهير بن مرة أخو أبي خراش معتمرا حتى ورد ذات الأقير من نعمان فبينا هو يسقي إبلاً له إذ ورد عليه قوم من ثمالة فقتلوه فغزاهم أبو خراش وقتل منهم أهل دارين أي : حلتين من ثمالة ثم إن عروة وخراشاً خرجا مغيرين على بطنيني من ثمالة يقال لهما : بنو رزام وبنو بلال بتشديد اللام الأولى فظفر بهما الثماليون فأما بنو رزام فنهوا عن )
قتلهما وأبت بنو بلال عن قتلهما حتى كاد يكون بينهم شر فألقى رجل منهم ثوبه على خراش وانحرف القوم بعد قتلهم عروة إلى الرجل وكانوا سلموه إليه فقالوا : أين خراش فقال : أفلت مني فذهب . فسعى القوم في أثره فأعجزهم فقال أبو خراش في ذلك يرثي أخاه عروة ويذكر خلاص ابنه خراش : حمدت إلهي بعد عروة إذ نجا . . . . . . . . . . . . الأبيات اه .
وذكر التبريزي في شرح الحماسة بعد نقل هذين القولين عن المبرد أيضاً أن ملقي الرداء كان مجتازاً بعروة فرآه بادي العورة مصروعاً ففعل به ذلك .
قال التبريزي : قد روي فيما حكي عن الأصمعي وأبي عبيدة أنهما قالا : لا نعرف من مدح من لا يعرفه غير أبي خراش .
وقد سلك من شعراء الإسلام مسلكه أبو نواس في أبيات أولها : الطويل
____________________

( ودار ندامى عطّلوها وأدلجوا ** بها أثرٌ منهم جديدٌ ودارس ) ( مساحب من جرّ الزّقاق على الثّرى ** وأضغاث ريحانٍ جنيّ ويابس ) ( ولم أدر من هم غير ما شهدت لهم ** بشرقيّ ساباط الدّيار البسابس ) وقوله : حمدت إلهي بعد عروة الخ قال ابن جني في إعراب الحماسة : إذ بدل من بعد عروة والمعنى : أشكر الله بعد ما اتفق من قتل عروة على تخلص خراش وبعض الشر أخف من البعض كأنه تصور قتلهما جميعاً لو اتفق فرأى قتل أحدهما أهون .
قال ابن جني في إعراب الحماسة وأخذه التبريزي في شرحها : فإن قيل : ليس في الشر هين وأفعل هذا يستعمل في مشتركين في صفة زاد أحدهما على الآخر فكيف يجوز هذا ولا هين في الشر وجوابه أن هذا كلام محمول على معناه دون لفظه وذلك أنه إن كان هناك حال تهون الشر من صبر عليه أو احتساب أو طلب ذكر أو ثواب فإنه أيضاً مراتب وليس بجار على سنن واحد .
وقال التبريزي : قلت إن للشر مراتب ودرجات فإذا جئت إلى آحادها وقد تصورت جملها ورتب الآحاد فيها وجدت كل نوع منها بمضامته للغير له حال في الخفة والثقل . وإذا كان كذلك فلا يمنع أن يوصف منه شيء بأنه أهو من غيره . )
وقوله : فو الله ما أنسى الخ رواه القاري : فو الله لا أنسى .
وقوسى بالقاف والقصر قال المبرد في الكامل : وهو بلد تحله ثمالة بالسراة .
وقال القالي في المقصور والممدود وتبعه أبو عبيد في معجم ما استعجم : هو موضع ببلاد هذيل وفيه قتل عروة . وأنشد هذا البيت .
____________________


وأخطأ أبو عبيد في قوله : عروة أخو أبي كبير . وقال أبو عبيد أيضاً في شرح أمالي القالي : إن قوسى رواه أبو علي القالي بفتح القاف وغيره يأبى إلا ضمها . وقال في معجم ما استعجم بفتح أوله وضمه معاً .
وقال ياقوت في معجم البلدان : إن قوسى بفتح القاف وسكون الواو وسين مهملة ثم ألف مقصورة تكتب ياء : بلد بالسراة وبه قتل عروة أخو أبي خراش الهذلي ونجا ولده .
ورزئته بالبناء للمفعول أي : أصبت به . قال المرزوقي وتبعه التبريزي : تعلق الباء من قوله بجانب بقتيلاً كأنه قال : ما أنسى قتيلاً على الأرض بجانب قوسى رزئته ورزئته وبجانب جميعاً صفة للقتيل وقد دخله بعض الاختصاص بذكرهما . اه .
فأراد بالتعلق التعلق المعنوي وهو كونه صفة كما صرح به في آخر الكلام .
وقد غفل عنه الدماميني في الحاشية الهندية فقال : قال المرزوقي في الباء من قوله بجانب : يتعلق بقتيلاً . الظاهر أنه لا يعني قتيلاً المذكور لأن وصفه مانع من إعماله وإنما يعني قتيلاً محذوفاً .
أي : رزئته حالة كونه قتيلاً بجانب قوسى . هذا كلامه .
وقوله : ما مشيت على الأرض قال ابن جني في إعراب الحماسة وأخذه التبريزي : ما مع الفعل في تقدير مصدر وحذف اسم الزمان معه كأنه قال : مدة مشي على الأرض وإن أمش على وفي الكلام نية الشرط والجزاء . كأنه قال : لا أنسى قتيلاً رزئته إن مشيت على الأرض .
ومعناه إن بقيت حياً . فلذلك وقع الماضي فيه في موضع المستقبل لأن ما مشيت على الأرض في موضع ما أمشي على الأرض .
وقوله : على أنها تعفو الكلوم الخ قال التبريزي : هذا يجري مجرى الاعتذار منه والاستدراك على نفسه فيما أطلقه من قوله : لا أنسى قتيلاً رزئته .
____________________

والضمير للقصة وخبر إن الجملة بعدها .
ولو قال على أنه لجاز وكان الضمير للشأن . ويعني بالكلم الحزة عند ابتداء الفجيعة . اه .
وتعفو : تنمحي وتذهب وتبرأ من عفا المنزل يعفو عفواً وعفواً وعفاء بالفتح والمد بمعنى درس )
وانمحى . ويأتي متعدياً يقال : عفته الريح بمعنى محته وليس بمراد هنا .
وقوله : نوكل بالبناء للمفعول يروى بالنون وبالمثناة التحتية من وكلته بأمر كذا توكيلاً إذا فوضته إليه أي : ألزمته به إلزاماً . والأدنى : الأقرب أي : الرزي الأقرب .
قال القاري : يقول : إنما نحزن على الأقرب فالأقرب ومن مضى نسيناه ولو عظم ما مضى .
ومثله : السريع ( حادث ما مني يعولك وال ** أقدم تنساه وإن هو جل ) انتهى .
وقد ألم بهذا البيت أبو بكر بن دريد من قصيدة أوردها القالي في ذيل ماليه :
____________________

( بلى غير أنّ القلب ينكوه الأسى ال ** ملمّ وإن جلّ الجوى المتقدّم ) وضد هذا قول هشام في أخويه : أوفى وغيلان ذي الرمة : الطويل ( تعزّيت عن أوفى بغيلان بعده ** عزاءً وجفن العين ملآن مترع ) ( ولم ينسني أوفى المصيبات بعده ** ولكنّ نكء القرح بالقرح أوجع ) قال التبريزي : موضع على أنها نصب على الحال والعامل فيه ما أنسى . وهذا كما تقول : ما أترك حق فلان على ظلع لي كأن التقدير : أؤديه ظالعاً . فعلى هذا يجيء : ما أنسى قتيلاً رزئته على عفاء الكلوم أي : أذكره عافياً جرحى كسائر الجراح . اه .
قال ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصل : إن على هذه تقع في شعر العرب وكلامهم كثيراً والمعنى فيها استدراك وإضراب عن الأول .
ألا ترى أنك إذا قلت : لا يدخل فلان الجنة لسوء صنيعه على أنه لا ييأس من رحمة الله كان استدراكاً لما تقدم وإضراباً عن تحقيقه .
وكذلك قوله في البيت الذي قبله : فو اللّه ما أنسى قتيلاً رزئته ثم قال : على أنها تعفو الكلوم . لأن المعنى : على أن العادة نسيان المصائب إذا تطاولت والحزن على ما كان من المصاب قريب العهد وهذا إضراب واستدراك لما تقدم من قوله : أنسى .
____________________


وكذلك قوله وهو أيضاً في الحماسة : الطويل ) ( وقد زعموا أنّ المحبّ إذا دنا ** يملّ وأنّ النّأي يشفي من الوجد ) ( بكلّ تداوينا فلم يشف ما بنا ** على أنّ قرب الدّار خيرٌ من البعد ) ( على أنّ قرب الدّار ليس بنافعٍ ** إذا كان من تهواه ليس بذي ودّ ) فقوله : بكل تداوينا فلم يشف ما بنا ثم قال : على أن قرب الدار خير من البعد كالإضراب عن الأول لأن المعنى : فلم يحصل لنا شفاء أصلاً وإذا كان قرب الدار خيراً في المعنى المراد ففيه شفاء أو بعض شفاء أصلاً .
وكذلك قوله : على أن قرب الدار خير من البعد فاستدرك أنه لا يكون خيراً إلا مع الود فأبطل العموم المتقدم في قوله قرب الدار خير من البعد . هذا معناها وأما تعلقها على الوجه الإعرابي فيحتمل أمرين : أحدهما : أن تتعلق بالفعل المتقدم قبلها كما تعلقت حاشا الاستثنائية بما قبلها لكونها أوصلت معنى ما قبلها إلى ما بعدها على وجه الإضراب والإخراج . وأظهر منه أن يقال : إنها في موضع خبر محذوف المبتدأ كأنه قيل : والتحقيق على أن الأمر كذا . فتعلقها بمحذوف كما يتعلق كل خبر جار ومجرور لأن الجملة الأولى وقعت عن غير تحقيق ثم جيء بما هو التحقيق فيها وحذف المبتدأ لوضوح المعنى . اه .
وقد لخص ابن هشام في المغني هذا الكلام في على . والعجب من ابن هشام فإنه ذكر في شرح شواهده ما قاله التبريزي من كون على أنها تعفو حال وعامله لا أنسى وغفل عن كلام المغني هذا .
والذي رواه أبو بكر القاري في أشعار الهذليين والمبرد فيي الكامل وأبو علي القالي في أماليه وابن جني في المحتسب : بلى إنها تعفو الكلوم وإنما .
____________________


قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : هذا رجوع من قوله الأول إلى ما هو أصح .
وقال ابن جني عند توجيه قراءة الأعرج وغيره : يا حسره على العباد من سورة يس ساكنة الهاء : قالوا في تفسير قوله تعالى : لا يؤاخذْكم اللَّه باللَّغْوِ في أيمانِكُم : هو كقولك : لا والله وبلى والله .
فأين سرعة اللفظ بذكر اسم الله تعالى هنا من التثبت فيه والإشباع له والمماطلة عليه من قول فو اللّه لا أنسى قتيلاً رزئته )
البيت .
أفلا ترى إلى تنطعك هذه اللفظة في النطق هنا بها وتمطيك لإشباع معنى القسم عليها .
وكذلك أيضاً قد ترى إلى إطالة الصوت بقوله من بعده : بلى إنّها تعفو الكلوم . . . . . . . . . . . . البيت أفلا تراه لما أكذب نفسه وتدارك ما كان أفرط فيه لفظه أطال الإقامة على قوله بلى رجوعاً إلى الحق عنده وانتكائاً عما كان عقد عليه يمينه .
فأين قوله هنا فو الله وقوله بلى منهما في قوله : لا والله وبلى والله . وعليه قوله تعالى : ولكن يؤاخِذُكُمْ بما عَقَّتم الأيمان أي : وكدتموها وحققتموها . انتهى كلامه .
وقوله : ولم أدر من ألقى عليه رداءه الخ قال ابن جني : في إعراب الحماسة : من هنا استفهام وخبرها ألقى . ويجوز أن تكون موصولة
____________________

فتكون منصوبة الموضع بأدري على حد قولك : ما دريت به ثم تحذف حرف الجر .
ولا يحسن أن تكون نكرة وألقى صفة لها لأنه يصير المعنى لم أدر إنساناً ألقى عليه رداءه .
وهذا ربما أوهم أنه لم يلق أحد منهم رداءه . والأمر بضد ذلك . اه .
وقوله : على أنه قد سل قال التبريزي : موضع على نصب على الحال كأنه قال : لا أدريه مسلولاً عن ماجد محض .
وروى في الحماسة : سوى أنه وهو استثناء منقطع والمعنى لا أعرف اسمه ونسبه لكنه ولد كريم بما ظهر من فعله .
قال القاري : لما صرع خراش ألقى عليه رجل ثيابه فواراه وشغلوا بقتل عروة فنجا خراش .
والرجل الذي ألقى عليه ثوبه من أزد شنوءة فقال : لا أدري من ألقى عليه ثيابه ولكنه سل عن ماجد محض يعني الرداء . والماجد المحض أي : خالص النسب هو الذي ألقى عليه ثوبه . اه .
فالمسلول على هذا هو الرداء لا الوالد كما قال التبريزي .
وقال أبو عبيد البكري فما كتبه على أمالي القالي : في هذا البيت ثلاثة أقوال : قال قوم : إن عروة لما قتل ألقى عليه رداءه رجل من القوم فكفنه به .
وقال آخرون : بل الذي ألقى عليه الرجل هو خراش وذلك أن رجلاً من ثمالة ألقى عليه رداءه ليخفى عليهم وقد شغل القوم بقتل عروة فقال : اهرب . وعطف القوم عليه فلم يروه . وقيل : بل )
ألقى رجل على خراش رداءه إجارة له وكذلك كانوا يفعلون .
وهذا مثل قول بعضهم يذكر رجلاً من عليه : الطويل
____________________

انتهى .
وقد تقدم هذا الأخير عن المبرد .
وقوله : ولم يك مثلوج الفؤاد الخ قال القاري : أي : لم يكن مثلوج الفؤاد ضعيفه أي : بارد الفؤاد .
والمثلوج : البارد . يقال : للرجل إذا لم يكن ذا رأي وحزم : ما أبرد فؤاده وما أخلاه من ذاك .
وقال التبريزي : كأنه أصاب فؤاده ثلج فبردت حرارته . والمهبج بفتح الموحدة المشددة بعدها جيم قال القاري : هو المثقل الكثير اللحم المنتفخ الوجه .
وقال التبريزي : هو المرهل اللحم المتغير اللون . والربيلة بفتح الراء المهملة بعدها موحدة قال القاري : يقال إنها النعمة والخصب . وإنه لربل اللحم إذا كان رطب اللحم .
وليس عندي كما قالوا لبيت سمعته وهو : الطويل ( ربلنا على الأعدا لنبتغي البوا ** ولا من وترنا يستقاد وتير ) ف الربيلة : الكثرة والشدة . يقال : رل بنو فلان إذا كثروا . والوتير : الموتور . والبواء : أن يقتل الرجل بالرجل . اه .
وقال التبريزي : الربيلة : الرطوبة والسمن . يقال : رجل ربل . ومعنى الشعر أنه رجع إلى صفة عروة فقال : كان ذكي الفؤاد شهماً لم يكن ممن ضيع شبابه في صلاح البدن . وهذا أولى لشيئين : أحدهما : قوله ولم يك لأنه يدل ظاهره على أنه نعت فائت . والآخر : وصفه بأوصاف لا يوصف بها من لا يعرف . ولا يعدل عن هذا الوجه وإن كان قد ذكر أنه من صفات الذي أنجى خراشاً . اه .
____________________


والخفض : الدعة والراحة .
وقوله : ولكنه قد نازعته الخ قال التبريزي : ويروى : ولكنه قد لوحته مخامص . ولوحته : غيرته .
والمخامص : جمع مخمصة وهي خلاء البطن من الطعام جوعاً . والمجاوع مثل المخامص وإنما أثرت فيه المجاوع لأنه إذا سافر آثر صحبه على نفسه بزاده ويجوع .
وقوله : صادق النهض يعني النهوض للمكارم والعلا لا يكذب فيها إذا نهض لها .
هذا ما أورده صاحب الحماسة وغيره وزاد أبو بكر القاري والمبرد في الكامل بعد هذا )
بيتين وهما : ( كأنّهم يشّبّثون بطائرٍ ** خفيف المشاش عظمه غير ذي نحض ) قال القاري : يقول : هؤلاء الذين يعدون خلف خراش كأنهم يتعلقون بطائر خفيف المشاش أي : ليس بكثير اللحم . يقال لكل ما استخف وخف : إنه لخفيف المشاش بضم الميم . والطائر : العقاب . ثم قال : عظمه غير ذي نحض أي : هو خفيف ليس بمثقل . والنحض : اللحم . اه .
وروى المبرد : كأنهم يسعون في إثر طائر . وهذا البيت يؤيد ما اختاره التبريزي من أن الكلام في وصف خراش . ( يبادر جنح اللّيل فهو مهابذٌ ** يحثّ الجناح بالتّبسّط والقبض ) قال القاري : فهو مهابذ يعني الطائر والمهابذ : السريع فهو جاد ناج . وأصله من مر يهذب إهذاباً ولكنه قلب . والقبض : أن يقبض جناحيه .
وقال لي الأصمعي : سمعت ابن أبي طرفة ينشد مهابذ وإنما أراد مهاذب فقلبه فقال : مهابذ .
يقال : مر يهذب إهذاباً إذا عدا عدواً شديداً . وقد سمعت غيره يقول مهابذ أي : جاد . اه .
____________________


قال المبرد : وقوله فهو مهابذ يقول : مجتهد . وهذيل فيها سعي شديد وفي جماعة من القبائل التي تحل بأكناف الحجاز .
وأنشد بعده : الخفيف ( إنّ من يدخل الكنيسة يوماً ** يلق فيها جآذراً وظباء ) على أن اسم إن ضمير شأن محذوف والجملة بعدها خبرها وإنما لم يجعل من اسمها لأنها شرطية بدليل جزمها الفعلين والشرط له الصدر في جملته فلا يعمل فيه ما قبله .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين .
الشاهد السابع بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : الخفيف ( إنّ من لام في بني بنت حسّا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) على أن اسم إن ضمير شأن محذوف .
قال سيبويه في باب ما يكون فيه الأسماء التي يجازى بها بمنزلة الذي وذلك
____________________

قولك : إن من يأتيني آتيه وكان من يأتيني آتيه وليس من يأتيني آتيه . وإنما أذهبت الجزاء هنا لأنك اعملت كان وإن ولم يسغ لك أن تدع كان وإشباهه معلقة لا تعملها في شيء فلما أعملتهن ذهب الجزاء ولم يكن من مواضعه .
ألا ترى أنك لو جئت بإن ومتى تريد إن إن وإن متى كان محالاً . وإن شغلت هذه الحروف بشيء جازيت .
فمن ذلك قوله : إنه من يأتنا نأته وقال جل وعز : إنه مَنْ يأتِ ربَّهُ مُجْرِماً فإنَّ له جَهَنَّم وكنت من يأتني آته .
وتقول : كان من يأتنا نعطه وليس من يأتنا نعطه إذا أضمرت الاسم في كان أو في ليس لأنه حينئذ بمنزلة لست وكنت . فإن لم تضمر فالكلام على ما وصفتا وقد جاء في الشعر : إن من قال الأعشى : إنّ من لام في بني بنت حسّان . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فزعم الخليل أنه إنما جازى حيث أضمر الهاء فأراد إنه . ولو لم يرد الهاء كان محالاً . اه .
فعلم أن حذف اسم إن في هذا مخصوص بالضرورة .
وكذلك قال الأعلم : الشاهد في جعل من للجزاء مع إضمار منصوب إن ضرورة .
وقال النحاس : يقدره سيبويه على حذف الهاء وهو قبيح . وفيما كتبته عن أبي إسحاق : لم يجز إن من يأتني آته من جهتين لأن من إذا كانت شرطا واستفهاماً لم يعمل فيها ما قبلها ولأن تقديرها تقدير إن في المجازاة فكما لا يجوز : إن إن تأتنا نكرمك كذا لا يجوز هذا . فإذا جاء في الشعر فعلى إضمار الهاء .
____________________


وقال أبو العباس في الشرح : وأجاز الزيادي : إن من يأتنا نأته على غير ضمير في أن . وهذا لا يجوز لامتناع الجزاء من أن يعمل فيه ما قبله . اه . )
ولام : فاعله ضمير من الشرطية والجملة في محل جزم لأنه شرط وألمه مجزوم والأصل ألومه فحذفت الواو للساكن وهو جزاء الشرط والهاء ضمير من . وأعصه معطوف على ألمه وأصله أعصيه فحذفت الياء لما ذكرنا في ألمه . والخطوب : جمع خطب وهو الأمر والشأن .
من يلمني على بني بنت حسّان الخ وعليه لا شاهد فيه .
وهو من قصيدة له مدح بها قيساً أبا الأشعث بن قيس الكندي .
وأولها : ( من ديارٍ هضبٌ كهضب القليب ** فاض ماء الشؤون فيض الغروب ) ( أخلفتني بها قتيلة ميعا ** دي وكانت للوعد غير كذوب ) إلى أن قال : ( من يلمني على بني بنت حسّا ** ن ألمه وأعصه في الخطوب ) ( إنّ قيساً قيس الفعال أبا الأش ** عث أمست أعداؤه لشعوب ) ( ذاكم الماجد الجواد أبو الأش ** عث أهل النّدى وأهل السّيوب ) ( كلّ عامٍ يمدّني بجمومٍ ** عند ترك العنان أو بنجيب ) ( تلك خيلي منه وتلك ركابي ** هنّ صفرٌ أولادها كالزّبيب )
____________________

قوله : من ديار الخ من تعليلية . والهضب الأول : المطر يقال : هضبتهم السماء أي : مطرتهم .
وهضب القليب : ماء لبني قنفذ من بني سليم . كذا قال البكري في معجم ما استعجم . وهو في والقليب : البئر لأنه قلب ترابها . والشؤون : جمع شأن وهو مجرى الدمع في العين . والغروب : جمع غرب بفتح المعجمة وسكون المهملة : الدلو العظيمة .
وقتيلة بالتصغير : اسم امرأة . وقوله : بني بنت حسان وحسان أحد تبابعة اليمن .
وقوله : إن قيساً الخ هو قيس بن معد يكرب الكندي مات في الجاهلية وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني بعد المائتين وكان يكنى بابنه الأشعث .
والأشعث اسمه معد يكرب كان أبداً أشعث الرأس فسمي الأشعث .
وهو من الصحابة وفد على النبي صلى الله عليه وسلم سنة عشر وأسلم وكان شريفاً مطاعاً جواداً شجاعاً . وهو أول من مشت الرجال في خدمته وهو راكب . )
وكان من أصحاب علي رضي الله عنه في وقعة صفين وقد قاتل قتالاً شديداً حتى هجم على أصحاب معاوية ودفعهم عن ماء الفرات وأخذه منهم بعد أن منع منه أصحاب علي رضي الله عنه بليلة . وصلى عليه الحسن بن علي رضي الله عنهما وله من العمر ثلاث وستون سنة .
والفعال بفتح الفاء : الكرم والجود . وشعوب بالفتح : علم للمنية .
والسيوب : جمع سيب بفتح السين المهملة وسكون المثناة التحتية وهو العطاء .
____________________


يمدني من الإمداد . والجموم بفتح الجيم : الفرس الكثير الجري . وقوله : عند ترك العنان أي : عند تركك تحريكه في الجري يعطيك ما عنده من الجري عفواً . والنجيب : الجمل الكريم .
وقوله : تلك خيلي منه أي : من قيس . والركاب : الإبل لا واحد له من لفظه وإنما يعبر عن واحد بالراحلة . وصفر : جمع أصفر بمعنى أسود .
وقد استشهد به البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : صفراءُ فاقعٌ لونها من سورة البقرة . قال : عن الحسن البصري : صفراء : سوداء شديدة السواد وبه فسر قوله تعالى : جِمالاتٌ صُفْر .
وقال الأعشى : تلك خيلي منه وتلك ركابي . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ولعله عبر بالصفرة عن السواد لأنها من مقدماته أو لأن سواد الإبل يعلوه صفرة . وفيه نظر لأن الصفرة بهذا المعنى لا تؤكد بالفقوع . انتهى .
وهذا اعتراض على تفسير الصفرة في الآية بالسواد . وأما البيت فسكت عنه .
واعترضه صاحب الكشف من وجهين : الأول أن الزبيب الغالب عند العرب الطائفي وهو إلى الصفرة أقرب منه إلى الحمرة . والثاني جواز أن يراد : هن صفر وأولادها سود .
وأجيب عن الأول بأن تشبيه الشيء بالزبيب صار علماً في الوصف بالسواد في لسان وعن الثاني بأن الظاهر من العبارة كون أولادها فاعلاً لصفر أو كون هن صفر جملة وأولادها كالزبيب أخرى فبعيد لا يتبادر إلى الفهم السليم .
____________________


وترجمة الأعشى قد تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : الطويل فلو أنّك في يوم الرّخاء سألتني تمامه : طلاقك لم أبخل وأنت صديق على أن إعمال أن المخففة في الضمير البارز شاذ . وفيه شذوذ آخر وهو كون الضمير غير ضمير الشأن لأنهم قالوا : إن أن إذا خففت وجب أن يكون اسمها ضميراً غائباً وأن يكون ضمير شأن . قال سيبويه في الباب السابق بعد قول الأعشى : البسيط ( في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا ** أن هالكٌ كلّ من يحفى وينتعل ) يريد معنى الهاء ولا يخفف أن إلا عليه كما قال : قد علمت أن لا يقول
____________________

أي : أنه لا يقول وقال تعالى : أفَلا يَرَوْنَ ألاَّ يرجعُ إليهم قولاً وليس هذا بقوي في الكلام كقوة أن لا يقول لأن لا عوض من ذهاب العلامة . ألا ترى أنهم لا يكادون يتكلمون بغير الهاء فيقولون قد علمت أن عبد الله منطلق . انتهى .
وقال الفراء في تفسيره من سورة الحجر عند الكلام على حذف نون الوقاية : وقد خففت العرب النون من أن الناصبة ثم أنفذوا لها عملها وهي أشد من ذا .
قال الشاعر : الطويل ( فلو أنك في يوم الرّخاء سألتني ** فراقك لم أبخل وأنت صديق ) ( فما ردّ تزويجٌ عليه شهادةٌ ** ولا ردّ من بعد الحرار عتيق ) وقال الآخر : المتقارب ( وقد علم الضّيف والمرملون ** إذا اغبرّ أفقٌ وهبّت شمالا ) ( بأنك ربيعٌ وغيثٌ مريعٌ ** وقدماً هناك تكون الثّمالا ) انتهى .
وظاهره أنها تعمل مطلقاً كالمثقلة . ونقل ابن المستوفي عنه في شرح أبيات المفصل لم يسمع من العرب تخفيف أن وإعمالها إلا مع المكني لأنه لا يتبين فيه الإعراب فأما مع الظاهر فلا . ولكن ومنه تعلم أن نقل ابن هشام في المغني عن الكوفيين أنهم زعموا أنها إذا خففت لا تعمل شيئاً )
غير صحيح . وتحريره أن اسمها إذا كان ظاهراً لا تعمل شيئاً .
والبيت خطاب لزوجته في طلبها الطلاق ويريد بيوم الرخاء قبل إحكام عقد النكاح بدليل البيت الثاني .
____________________


وبه يسقط قول الدماميني في الحاشية الهندية على المغني : إن الشاعر خاطب امرأته واصفاً نفسه بالجود .
وقوله : في يوم الرخاء من التتميم .
وكذا قوله : وأنت صديق لوقوع كل منهما في كلام لا يفيد خلاف المقصود مفيداً لنكتة وهي المبالغة في الاتصاف بالجود .
ويحتمل أن يكون مراده وصف نفسه بمحبته هذه المرأة وأنه قد يؤثر ما تختاره هي على ما يختاره هو حرصاً على رضاها وحصول مرادها . انتهى .
وتبعه العيني فقال : إنه يصف نفسه بالجود حتى لو سأله الحبيب الفراق مع حبه لأجابه إلى ذلك وإن كان في الدعة والراحة كراهة رد السائل .
وإنما خص يوم الرخاء لأن الإنسان ربما يفارق الأحباب في يوم الشدة . هذا كلامه .
وزعم بعضهم أن الخطاب لمذكر وروى : فراقك بدل : طلاقك . وهذا كله ناشئ من عدم الاطلاع على البيت الثاني . ويوم الرخاء متعلق بسألتني وطلاقك مفعوله الثاني والجملة خبر أن المخففة ولم أبخل جواب لو وجملة : أنت صديق حال من ضمير أبخل .
فإن قلت : كان الواجب أن يقول : وأنت صديقة قلت : قال الشارح المحقق في شرح الشافية عند الكلام على جمع الصفة جمع تكسير : وقد جاء شيء من فعيل بمعنى فاعل مستوياً فيه المذكر والمؤنث حملاً على فعيل بمعنى مفعول نحو : جديد وسديس وريح خريق ورحمة الله قريب . ويلزم ذلك في سديس وخريق . انتهى .
وقال صاحب العباب : قد يقال للواحد والجمع والمؤنث قال الله تعالى : أو صديقكم أي : أصدقائكم .
____________________


وقال : الطويل ( نصبن الهوى ثمّ ارتمين قلوبنا ** بأعين أعداءٍ وهنّ صديق ) وأنشد الليث : الطويل ) ( إذ النّاس ناسٌ والزّمان بعزّةٍ ** وإذ أمّ عمّارٍ صديقٌ مساعف ) انتهى .
والبيتان أنشدهما الفراء ولم يعزهما لأحد .
____________________

( اسم الإشارة ) أنشد فيه الشاهد التاسع بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : الكامل ( ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى ** والعيش بعد أولئك الأيّام ) على أن أولاء يشار به إلى جمع عاقلاً كان أو غيره كما في البيت فإن أولاء أشير به إلى الأيام وهو جمع لغير من يعقل . وكذا قوله تعالى : إنَّ السَّمعَ والبَصَر والفُؤَادَ كُلُّ أولئكَ كَانَ عنهُ مسؤُولا .
قال ابن هشام في شرح الشواهد : ويروى الأقوام بدل الأيام فلا شاهد فيه . وزعم ابن عطية أن هذه الرواية هي الصواب وأن الطبري غلط إذ أنشده الأيام وأن الزجاج تبعه في هذا الغلط .
انتهى .
قلت : رواه محمد بن حبيب في النقائض ومحمد بن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب : الأقوام كما قال ابن عطية .
____________________


ومطلعها : ( سرت الهموم فبتن غير نيام ** وأخو الهموم يروم كلّ مرام ) ذمّ المنازل بعد منزلة اللّوى . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعد بيتين : ( فإذا وقفت على المنازل باللّوى ** فاضت دموعي غير ذات نظام ) ( طرقتك صائدة القلوب وليس ذا ** حين الزّيارة فارجعي بسلام ) ( تجري السّواك على أغرّ كأنّه ** بردٌ تحدّر من متون غمام ) ( لولا مراقبة العيون أريننا ** مقل المها وسوالف الآرام ) ثم بعد أن تغزل بأبيات شرع في هجو الفرزدق فقال : ) ( إنّ ابن آكلة النّخالة قد جنى ** حرباً عليه ثقيلة الأجرام ) ( خلق الفرزدق سوءةً في مالك ** ولخلف ضبّة كان شرّ غلام ) ( مهلاً فرزدق إنّ قومك فيهم ** خور القلوب وخفّة الأحلام ) ( الظّاعنون على العمى بجميعهم ** النّازلون بشرّ دار مقام ) ( لو غيركم علق الزّبير بحبله ** أدّى الجوار إلى بني العوّام )
____________________

وبعده بيتان هما آخر القصيدة .
وقوله : ذمّ المنازل الخ قال ابن هشام : الأرجح فيه كسر الميم الذي هو واجب إذا فك الإدغام على لغة الحجاز ودونه الفتح للتخفيف وهو لغة بني أسد والضم ضعيف ووجهه إرادة الاتباع . والمنازل : جمع منزلة أو منزلة . فهو كالمساجد والمحامد .
وهذا أولى لقوله منزلة اللوى . وبعد إما حال من المنازل أو ظرف . والعيش عطف على المنازل . والأيام صفة لاسم الإشارة أو عطف بيان .
وقوله : طرقتك صائدة الخ هذا التفات من التكلم إلى الخطاب . والطروق : الإتيان ليلاً .
قال ابن هشام : قد عيب عليه طرد خيال محبوبته . وأجيب بأنه طرقه في حال السفر فأشفق عليه من الخطر .
وقوله : تجري السوالك على أغر أي : على ثغر أغر .
وقوله : لولا مراقبة العيون أي : الرقباء جمع عين وهو الجاسوس .
وقوله : إن ابن آكلة النحالة يعني البعيث . وأراد بآكلة النخالة الخنزير والبعيث شاعر من بين مجاشع . والجرم بكسر الجيم : الجسد يقال : رماه بأجرامه أي : بجسده .
والخلف بسكون اللام : الرديء من الناس وغيرهم وبفتحها : الجيد من الناس ومن كل شيء .
وقوله : الظاعنون الخ معناه : أنهم يركبون ما لا ينالون غايته وينزلون شر البقاع لنذالتهم لا يمكنون من موضع جيد .
وقوله : لو غيركم علق الزبير الخ الحبل هنا : الذمة . والجوار : المجاورة والذمة . وعلق الشيء بكذا من باب تعب وتعلق به إذا نشب به واستمسك .
____________________


يريد أن قوم الفرزدق غدروا بالزبير بن العوام فقتلوه . يقول : لو كان في ذمة غيركم لأدى ذمته إلى بني العوام ولم يغدر به . )
وملخص سبب قتله أن الزبير لما جاء مع عائشة في وقعة الجمل ذكره علي رضي الله عنه بقول النبي عليه الصلاة والسلام : إنك ستحاربه وأنت ظالم له فاسترجع وقال : أذكرتني شيئاً أنسانيه الدهر .
ثم فارق المعركة آخذاً طريق مكة فنزل على قوم من بني تميم فقام إليه عمرو ابن جرموز المجاشعي فأضافه ثم قال له : يا أبا عبد الله حدثني عن خصال أسألك عنها . قال : هات .
قال : خذلك عثمان وبيعتك علياً وإخراجك أم المؤمنين وصلاتك خلف ابنك ورجوعك عن هذه الحرب . فظن بي كل شيء إلا الجبن .
فانصرف وهو يقول : وا لهفي على ابن صفية أضرمها ناراً ثم أراد أن يلحق بأهله قتلني الله إن لم أقتله . ثم رجع إليه كالمستنصح . قال : يا أبا عبد الله دون أهلك فيافي فخذ نجيبي هذا وخل فرسك ودرعك فإنهما شاهدان عليك بما تكره .
ولم يزل به حتى ترك عنده فرسه ودرعه وخرج معه إلى وادي السباع وأراه أنه يريد مسايرته ومؤانسته فقتله غيلة وهو يصلي وأتى بسيفه إلى أمير المؤمنين وأخبره بقتله فبشره علي بالنار .
ثم خرج ابن جرموز على علي مع أهل النهروان فقتل مع من قتل هناك .
وهذا البيت أورده المبرد في الكامل إلا أنه رواه بنصب غيركم قال : تصب بفعل مضمر يفسره ما بعده لأنها للفعل . وهو في التمثيل : لو علق الزبير غيركم . انتهى .
وأورده أيضاً أبو بكر بن السراج في الأصول في باب أن المفتوحة قال : إن الأسماء تقع بعد لو على تقدير تقديم الفعل الذي بعدها .
____________________


فمما وليها من الأسماء قول الله عز وجل : لو أنتم تملِكُون وقال جرير : لو غيركم علق الزّبير بحبله البيت . انتهى .
والظاهر أن الرواية عنده بالرفع وهو الصحيح لأن علق لا يتعدى إلى مفعول صريح .
وكذلك رواه ابن هشام في مغني اللبيب عند الكلام على لو غيركم بالرفع . ويرد عليه أن هذا لا يصح لأن المتعلق بالحبل الزبير لا غيركم . وقد يوجه بأن التعلق من الطرفين : من الزبير بنزوله عندهم ومن الغير بحفظ الذمام . وفيه تعسف والظاهر أن هذا مما حذف فيه كان الشأنية كقوله : البسيط )
لو في طهيّة أحلامٌ لما عرضوا وجملة غيركم علق الزبير بحبله من المبتدأ والخبر خبر كان الشانية المحذوفة . أو يكون غيركم اسم كان المحذوفة الناقصة وجملة علق الزبير في محل نصب على أنه خبرها .
وإنما أطنبت في شرح هذا البيت لأني لم أر أحداً وفي حقه من الشراح حتى إن الدماميني مع جلالته ما فهم معناه قال في الحاشية الهندية على المغني : والذي يظهر أن غرض الشاعر ذم مخاطبيه بأنهم لا قوة لهم يحكمون بها من التجأ إلى جوارهم .
يقول : لو تمسك الزبير بذمة غيركم لم يلتفت إلى جوار قومه واستمسك بهؤلاء الذين استجار بهم لكونهم من الحماية له بحيث يفوقون عصبة قومه .
يعني : وأما أنتم فلستم بهذه المثابة فلا يعتد الزبير باعتصامكم بل هو مستمسك بجوار قومه لا يرد عليهم لافتقاره إليه وضعفكم .
____________________


هذا كلامه على البيت بحذافيره ولا يخفى أن هذا لا مساس له بالبيت ومنشوء عدم الاطلاع وقوله : كان العنان على أبيك محرماً الخ أراد عنان الفرس . والكير : كور الحداد . يريد أنهم ليسوا بفرسان وأن أباه قين أي : حداد .
وقد عارضه الفرزدق بقصيدة منها هذه الأبيات : الكامل ( قال ابن صانعة الزّروب لقومه ** لا أستطيع رواسي الأعلام ) ( قالت تجاوبه المراغة أمّه ** قد رمت ويل أبيك غير مرام ) ( ووجدت قومك فقؤوا من لؤمهم ** عينيك عند مكارم الأقوام ) ( صغر دلاؤءهم فما ملؤوا بها ** حوضاً ولا شهدوا غداة زحام ) ( أشبهت أمّك إذ تعاض دارماً ** بأدقّةٍ متقاعسين لئام ) ( وحسبت بحر بني كليبٍ مصدراً ** فغرقت حين وقعت في القمقام ) ( في لجّةٍ غمرت أباك بحورها ** في الجاهليّة كان والإسلام ) إلى هنا كلام أم جرير له . ومن هنا شرع يفتخر فقال : ( إنّ الأقارع والحتات وغالباً ** وأبا هنيدة دافعوا لمقامي ) ( بمناكبٍ سبقت أباك صدورها ** ومآثرٍ لمتوّجين كرام )
____________________

( إنّي وجدت أبي بنى لي بيته ** في دوحى الرؤساء والحكّام ) ) ( منّا الذي جمع الملوك وبينهم ** حربٌ يشبّ وقودها بضرام ) ( خالي الذي ترك النّجيع برمحه ** يوم النّقا شرقاً على بسطام ) ( وأبي صعصعة بن ليلى غالبٌ ** غلب الملوك ورهطه أعمامي ) ويأتي إن شاء الله شرح جميع هذا عند الكلام على قوله : في لجّة غمرت أباك بحورها فإنه من شواهد هذا الكتاب في باب الأفعال الناقصة .
وأنشد بعده الشاهد العاشر بعد الأربعمائة الوافر ( تجلّد لا يقل هؤلاء هذا ** بكى لمّا بكى أسفاً وغيظا ) على أن هؤلاء بفتح الهاء وسكون الواو مخفف هؤلاء بحذف ألف ها وقلب همزة أولاء واواً .
وقال ابن جني في الخاطريات : الأصل هؤلاء فحذفت الألف ثم شبه هؤل بعضد فسكن ثم أبدل الهمزة واواً وإن كانت ساكنة بعد فتحة تنبيهاً على حركتها الأصلية .
ومثله في المعتل قول بعضهم في بئس : بيس بياء ساكنة بعد الباء .
وأسهل من ذلك أن يقال : أبدل الهمزة من هؤلاء واوا على غير قياس ثم استثقلت الضمة على الواو فأسكنت فحذفت الألف لالتقاء الساكنين .
____________________


وقال الشلوبين في حاشيته على المفصل : كثر هؤلاء في كلامهم حتى خففوه فقالوا هولاء .
قال الشاعر : الوافر ( تجلّد لا يقل هولاء هذا ** بكلا لمّا بكى أسفاً عليكا ) فالقافية في رواية الشلوبين كافية . ولم أدر أي الروايتين صحيحة لأني لم أقف على شيء بأكثر من هذا . والله أعلم .
وتجلد : فعل أمر من الجلادة وهو التحفظ من الجزع . ويقل مجزوم بلا الناهية .
وأنشد بعده
الشاهد الحادي عشر بعد الأربعمائة الطويل ( فقلت له والرّمح يأطر متنه ** تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا ) على أن الإشارة فيه من باب عظمة المشار إليه أي : أنا ذلك الفارس الذي سمعت به . نزل بعد درجته ورفعة محله منزلة بعد المسافة . وكذا القول في قوله عز وجل : آلم ذلك الكتابُ .
وقال المبرد في الكامل نقلاً عن ابن عباس وتبعه ابن الأنباري في مسائل الخلاف قالا : قد يأتي اسم الإشارة البعيد بمعنى القريب كما يكون ذلك بمعنى هذا . قال تعالى : آلم ذلك الكتابُ .
وقال خفاف بن ندبة .
____________________


تأمّل خفافاً إنّني أنا ذلكا أي : هذا . وأقره أبو الوليد القرشي في شرح الكامل وقال : وأقرب متأوّلاً من ذا وذاك في قول خفاف وأولى بالتأويل أن يريد أي : أنا خفاف فكنى عنه بقوله أنا ذلك كما يقول لك القائل : أنت زيد فتقول له : أنا ذلك الذي تريد . انتهى .
والبيت من أبيات لخفاف بن ندبة الصحابي وهي : ( فإن تك خيلي قد أصيب عميدها ** فإنّي على عمدٍ تيمّمت هالكا ) ( نصبت له علوى وقد خام صحبتي ** لأبني مجداً أو لأثأر هالكا ) ( لدن ذرّ قرن الشّمس حتّى رأيتهم ** سراعاً على خيل تؤمّ المسالكا ) ( فلمّا رأيت القوم لا ودّ بينهم ** شريجين شتّى منهم ومواشكا ) ( تيمّمت كبش القوم لمّا رأيته ** وجانبت شبّان الرّجال الصّعالكا ) ( فجادت له يمنى يديّ بطعنةٍ ** كست متنتيه أسود اللّون حالكا ) ( أنا الفارس الحامي حقيقة والدي ** به تدرك الأوتار قدماً كذلكا ) قوله : إن تك خيلي الخ أراد بالخيل هنا الفرسان . والعميد : السيد الذي يعمد أي : يقصد أي : إن قتل سيد الفرسان . وروى : صميمها والصميم : الشريف والخالص .
وأراد بهذا السيد الذي قتل ابن عمه وهو معاوية بن عمرو بن الشريد وهو أخو صخر والخنساء الصحابية الشاعرة . وتيممت : قصدت . ومالك هو ابن حمار . وهو سيد بني شمخ بن فزارة . )
وكان من خبره أن خفاف بن ندبة غزا مع معاوية بن عمرو مرة وفزارة فعمد ابنا حرملة : دريد وهاشم المريان عمد معاوية فاستطرد له أحدهما فحمل عليه معاوية فطعنه في عضده وحمل الآخر على معاوية فطعنه متمكناً فلما تنادوا :
____________________

قتل معاوية قال خفاف : قتلني الله إن برحت مكاني حتى أثأر به فحمل على مالك المذكور فطعنه فقتله . وإنما تيممه لأنه عدل معاوية .
وقوله : نصبت له علوى الخ ويروى : وقفت له علوى وهو بفتح المهملة وسكون اللام وبالقصر : اسم فرس خفاف أورده القالي في المقصور والممدود .
وخام بالخاء المعجمة بمعنى ارتد . يقال : أخام الرجل يده عن الطعام إذا رفع يده عنه .
والصحبة : مصدر صحبه يصحبه . وأراد به الأصحاب . والمجد : الشرف . وأثأر هالكاً أي : آخذ بثأر هالك يعني معاوية .
وقوله : لدن ذرّ قرن الخ يقال : ذر قرن الشمس ذروراً بالذال المعجمة من باب قعد : طلعت . وقرنها : أول ما يظهر منها . ولدن : ظرف لقوله نصبت له علوى .
وقوله : شريجين : مثنى شريج بفتح الشين المعجمة وكسر الراء وآخره جيم حال من القوم أي : صنفين . وشتى ومواشكا : يدل من شريجين . وشتى : جمع شتيت كجرحى جمع جريح .
ومواشك : اسم فاعل بمعنى مسرع . يعني رأيت القوم قسمين : فريق منهم رجع وتشتت عن معاوية قبل قتله كما يأتي في خبر مقتله وفريق هارب مسرع بعد قتله .
وقوله : تيممت كبش الخ هو جواب لما . وكبش القوم : رئيسهم وسيدهم . وإنما جانب الشباب ولم يقتل منهم لأنهم ليسوا بكفء لمعاوية . والصعالك : جمع صعلوك والقياس الصعاليك وهم الفقراء .
وقوله : فجادت له أي : لمالك . والمتنة : مثل المتن كما جاء به في البيت بعده .
قال ابن فارس : المتنان : مكتنفا الصلب من العصب واللحم . ومتنت الرجل متناً
____________________

من بابي وضر وقتل إذا ضربت متنه . وأراد بأسود اللون الدم . والحالك : الشديد السواد .
وقوله : وقلت له الخ معطوف على جادت والعاطف هو الواو لا الفاء كما في الشرح . والضمير لمالك وجملة والرمح يأطر متنه : حال من الهاء وحملة تأمل خفافاً مقول القول . ويأطر : يحنو ويثني . يقال : أطره أطراً من باب ضرب إذا عطفه ومنه إطار المنخل . ومتنه مفعول يأطر أي : )
يعطف ظهر مالك .
وتأمل فعل أمر خطاب لمالك من تأملت الشيء إذا تدبرته وهو إعادتك النظر فيه مرة بعد أخرى حتى تعرفه . وخفاف بضم الخاء المعجمة وفاءين كغراب : اسم الشاعر .
وإنما قال له ذلك ليعرفه أنه هو الذي قتله .
روى الأخفش في شرح ديوان الخنساء أن خفافاً لما قال له ذلك قال مالك : أنت ابن ندبة يريد أنت ابن جارية سوداء يعيره بذلك .
وقوله : إنني أنا ذلك استئناف بياني كأنه قال له : هل أنت مما يتأمل إنما أنت ابن ندبة فقال له : إنني أنا ذلك الشجاع الذي سمعت به . وأنا إما تأكيد للياء كما تقدم وجهه في الشرح في بابه وإما مبتدأ خبره لك والجملة خبر إنني والألف في ذلك للإطلاق وكذلك في جميع هذه القوافي .
وقوله : أنا الفارس الخ استئناف نحوي وهو ابتداء كلام لا علاقة له بما قبله معنى ابتدأ به وحقيقة والده هنا : أخذ ثأر ابن أخيه لأنه يحق على والده أن يأخذ ثأر معاوية . قال عامر بن الطفيل قاتله الله : الطويل
____________________

( لقد علمت عليا هوازن أنّني ** أنا الفارس الحامي حقيقة جعفر ) وجعفر هذا أبو جده لأنه عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب .
وقوله : به تدرك الأوتار الخ أي : إنما تدرك الأوتار بالحمي بالدال عليه الحامي لا بغيره . أو الضمير راجع للحامي يقال : حميت المكان من الناس حمياً من باب رمى وحمية بالكسر إذا منعته عنهم . والحماية اسم منه .
وتدرك بالبناء للمفعول . والأوتار : جمع وتر بالكسر وهو الثأر والذحل أي : الحقد .
وقوله : قدماً كذلك أي : كذلك تدرك الأوتار قدماً بكسر القاف . قال صاحب الصحاح : يقال قدماً كان كذا وكذا وهو اسم من القدم جعل اسماً من أسماء الزمان .
وروى صاحب الأغاني كذا : ( أنا الفارس الحامي الحقيقة والذي ** به أدرك الأبطال قدماً لذلكا ) وزاد بعده وهو : ( وإن ينج منها هاشمٌ فبطعنةٍ ** كسته نجيعاً من دم الجوف صائكا ) )
وخفاف بن ندبة هو خفاف بن عمير بن الحارث بن الشريج بن رياح ابن يقظة بن عصية بن خفاف بن امرئ القيس بن بهثة بن سليم بن منصور بن عكرمة ابن خصفة .
وخفاف بضم الخاء المعجمة وهو بمعنى الخفيف يقال : رجل خفاف وخفيف بمعنى كطوال وطويل . والخف بالكسر بمعنى الخفيف أيضاً .
____________________


وعمير : مصغر عمرو . والشريد اسمه عمرو . ورياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتية . ويقظة هو ضد النوم . وعصية : مصغر عصاً . وبهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها ثاء مثلثة . وسليم بالتصغير .
وأما ندبة فهو اسم أمه كان سباها الحارث بن الشريد حين أغار على بني الحارث بن كعب فوهبها لابنه عمير فولدت له خفافاً وكانت امرأةً سوداء . كذا في الأغاني .
وقال ابن الكلبي في الأنساب : ندبة هي بنت الشيطان بن قنان بن سلمة ابن وهب بن عبد الله بن ربيعة بن كعب . انتهى .
وقال صاحب العباب : ندبة هذه كانت سوداءً حبشية وهي بفتح النون وسكون الدال بعدها باء موحدة مأخوذ من قولهم : رجل ندب أي : خفيف في الحاجة وامرأة ندبة . وفرس ندب أي : ماض . وندب مثل شجع شجاعة أي : خف في العمل .
وقنان بفتح القاف بعدها نونان خفيفتان .
وخفاف بن ندبة مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وشهد فتح مكة وكان معه لواء بني سليم واللواء الآخر مع العباس بن مرداس . وشهد حنيناً والطائف وثبت على إسلامه في الردة وبقي إلى زمن عمر بن الخطاب وكنيته أبو خراشة . وكان في الجاهلية يهاجي العباس بن مرداس وله يقول العباس : البسيط
____________________

( أبا خراشة أمّا كنت ذا نفرٍ ** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع ) وتقدم الكلام عليه .
وخفاف هو أحد فرسان قيس وشعرائها المذكورين . قال الأصمعي : خفاف ودريد بن الصمة أشعر الفرسان وهو أحد أغربة العرب أي : سودانهم لأنه كان أسود حالكاً وهو القائل : ( كلانا يسوّده قومه ** على ذلك النّسب المظلم ) يعني : السودان . )
وأغربة العرب هم : عنترة بن شداد وسليك بن السلكة وأبو عمرو بن الحباب وخفاف بن ندبة وهشام بن عقبة بن أبي معيط .
وأما معاوية المذكور فهو ابن عمر خفاف وهو أخو الخنساء الصحابية وأخو صخر . وقد قتل روى هشام عن أبيه قال : كان عمير ابن الحارث بن الشريد يأخذ بيد ابنيه صخر ومعاوية في الموسم فيقول : أنا أبو خيري مضر فمن أنكر ذلك فليغير فما يغير ذلك عليه أحد .
وهذا خبر مقتل معاوية .
روى صاحب الأغاني عن أبي عبيدة قال : إن معاوية وافى عكاظ في موسم من مواسم العرب فبينما هو يمشي بسوق عكاظ إذ لقي أسماء المرية وكانت جميلة وزعم أنها كانت بغياً فدعاها إلى نفسه فامتنعت عليه وقالت : أما علمت أني عند سيد العرب هاشم بن حرملة فأغضبته فقال : أما والله لأقارعنه عنك .
____________________

قالت : شأنك وشأنه . فرجعت إلى هاشم فأخبرته بما جرى فقال هاشم : لا نريم أبياتنا حتى ننظر ما يكون من جهده .
قال : فلما خرج الشهر الحرام وتراجع الناس من عكاظ خرج معاوية غازياً يريد بني مرة وبني فزارة في فرسان أصحابه من سليم حتى إذا كان بمكان يدعى الحوزة أو الجوزة والشك من أبي عبيدة سنح له ظبي فتطير منه ورجع في أصحابه فبلغ ذلك هاشم بن حرملة فقال : ما منعه من الإقدام إلا الجبن .
قال : فلما كان في السنة المقبلة غزاهم حتى إذا كان في ذلك المكان سنح له ظبي وغراب فتطير فرجع ومضى أصحابه وتخلف في تسعة عشر فارساً منهم لا يريدون قتالاً إنما تخلف من عظم الجيش راجعاً إلى بلاده فوردوا ماءً وإذا عليه بيت شعر فصاحوا بأهله فخرجت إليهم امرأة فقالوا : ممن أنت قالت : امرأة من جهينة أحلاف لبني سهم بن مرة بن غطفان .
فوردوا الماء فانسلت فأتت هاشم بن حرملة فأخبرته أنهم غير بعيد وعرفته بعدتهم وقالت : لا أرى إلا معاوية في القوم فقال : يا لكاع أمعاوية في تسعة عشر رجلاً شبهت وأبطلت قالت : بل قلت الحق وإن شئت لأصفهم لك رجلاً رجلاً . قال : هاتي .
قالت : رأيت فيهم شاباً عظيم الجمة جبهته قد خرجت من تحت مغفره صبيح الوجه عظيم البطن على فرس غراء . قال : نعم هذه صفة معاوية وفرسه السماء .
قالت : ورأيت رجلاً شديد الأدمة شاعراً ينشدهم . قال : ذلك خفاف بن ندبة . )
____________________


قالت : ورأيت رجلاً ليس يبرح وسطهم إذا نادوه رفعوا له أصواتهم . قال : ذلك عباس الأصم .
قالت : ورأيت رجلاً طويلاً يكنونه أبا حبيب ورأيتهم أشد شيء له توقيراً قال : ذاك نبيشة بن حبيب .
قالت : ورأيت شاباً جميلاً له وفرة حنسة . قال : ذلك العباس بن مرداس .
قالت : ورأيت شيخاً له ضفيرتان فسمعته يقول لمعاوية : بأبي أنت أطلت الوقوف . قال : ذلك قال : فنادى هاشم في قومه وخرج وزعم أن المري لم يخرج إليهم إلا في عدتهم من بني مرة .
قال : فلم يشعر السلميون حتى طلعوا عليهم فثاروا إليهم فلقوهم فقال لهم خفاف : لا تنازلوهم رجلاً رجلاً فإن خيلهم تثبت للطراد وتحمل ثقل السلاح وخيلكم قد أنهكها الغزو وأصابها الحفاء .
قال : فاقتتلوا ساعة فانفرد هاشم ودريد ابنا حرملة لمعاوية فاستطرد له أحدهما فشد معاوية عليه وشغله واغتره الآخر فطعنه فقتله . واختلفوا أيهما استطرد له وأيهما قتله وكانت بالذي استطرد له طعنة طعنه إياها معاوية ويقال : هو هاشم وقال آخرون : بل دريد أخو هاشم .
قال : وشد خفاف بن ندبة على مالك بن حمار سيد بني شمخ بن فزارة فقتله .
ولما دخل الشهر الحرام من السنة المقبلة خرج صخر أخو معاوية حتى أتى بني مرة فوقف على ابني حرملة فإذا أحدهما به طعنة في عضده زعم خفاف في شعره أنه هاشم .
فقال صخر : أيكما قتل أخي معاوية فسكتا فلم يحيرا إليه شيئاً . ثم قال الصحيح للجريح : ما لك لا تجيبه فقال : وقفت له فطعنني هذه الطعنة في عضدي
____________________

وشد أخي عليه فقتله فأينا قتلت أدركت ثأرك إلا أنا لم نسلب أخاك .
قال : فما فعلت فرسه السماء قال : ها هي تلك خذها . فأخذها فرجع فلما كان في العام المقبل غزاهم صخر وهو على فرسه السماء فقال : أخاف أن يعرفوني ويعرفوا غرة السماء فيتأهبوا . فحمم غرتها .
فلما أشرف على الحي رأوها فقالت فتاة منهم : هذه والله السماء فنظر هاشم فقال : السماء غراء وهذه بهيم فلم يشعروا إلا والخيل عليهم فاقتتلوا فقتل صخر دريداً وأصاب )
بني مرة فقال : الكامل ( ولقد قتلتكم ثناء وموحداً ** وتركت مرّة مثل أمس المدبر ) ( ولقد دفعت إلى دريدٍ طعنةً ** نجلاء تزغل مثل عطّ المنحر ) تزغل : تخرج الدم قطعاً قطعاً . قال : والزغلة : الدفعة الواحدة من الدم والبول .
وقال صخر أيضاً فيمن قتل من بني مرة : الوافر ( قتلت الخالدين به وبشراً ** وعمراً يوم حوزة وابن بشر ) ( ومن شمخٍ قتلت رجال صدقٍ ** ومن بدرٍ فقد أوفيت نذري ) ( ومرّة قد صبحناها المنايا ** فروّينا الأسنّة غير فخر ) ( ومن أفناء ثعلبة بن سعدٍ ** قتلت وما أبيئهم بوتر )
____________________

وقال أبو عبيدة : ثم إن هاشم بن حرملة خرج غازياً فلما كان ببلاد جشم بن بكر بن هوازن نزل منزلاً وأخذ صفنا وخلا لحاجته بين شجر ورأى غفلته قيس بن الأمرار الجشمي فتبعه وقال : هذا قاتل معاوية لا نجت نفسي إن نجا فلما قعد لحاجته تكمن له بين الشجر حتى إذا كان خلفه أرسل عليه معبلةً فقتله .
فقالت الخنساء في ذلك : الوافر ( فداء الفارس الجشميّ نفسي ** وأفديه بمن لي من حميم ) ( خصصت بها أخا الأمرار قيساً ** فتىً في بيت مكرمةٍ كريم ) ( أفدّيه بكلّ بني سليمٍ ** بظاعنهم وبالأنس المقيم ) ( كما من هاشمٍ أقررت عيني ** وكانت لا تنام ولا تنيم ) انتهى كلام الأغاني .
وروى الأخفش في ديوان الخنساء عن ابن الأعرابي أن قيساً كان رجلاً راعياً فأغار عليه هاشم بن حرملة فأخذهم وقال : أتيتكم بهذا الراعي وغنمه . فاغتفله الراعي فرماه فقتله .
وللخنساء مراث كثيرة في أخيها معاوية وصخر .
والسماء التي هي اسم فرس معاوية هي بلفظ السماء خلاف الأرض .
وقد روى ابن عبد ربه في العقد الفريد عن أبي عبيدة أيضاً خبر مقتل معاوية
____________________

على غير هذا الوجه الذي نقلناه عن الأغاني تركناه لطوله ومن أراد الاطلاع عليه فلينظره في باب أيام العرب )
من العقد الفريد . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثاني عشر بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : البسيط تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً هذا صدر وعجزه : فاقدر بذرعك وانظر أين تنسلك على أن الفصل بين ها وبين ذا بغير إن وأخواته كالقسم قليل كما هنا .
قال سيبويه في باب ما يكون ما قبل المحلوف به عوضاً من اللفظ بالواو : قولك إي ها الله ذا يثبت ألفها لأن الذي بعدها مدغم .
ومن العرب من يقول إي ها الله ذا فيحذف الألف التي بعد الهاء ولا يكون في المقسم ها هنا إلا الجر لأن قولهم ها صار عوضاً من اللفظ بالواو فحذفت تخفيفاً على اللسان .
وأما قولهم ذا فزعم الخليل أنه المحلوف عليه كأنه قال : إي والله للأمر هذا فحذف الأمر لكثرة استعمالهم هذا في كلامهم وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا وها أنا ذا . وهذا قول الخليل .
____________________


وقال زهير : تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال النحاس : قال الخليل في ذا : إنه المحلوف عليه فكأنه قال : إي والله الأمر هذا فحذف الأمر وقدم ها كما قدم قوم ها هو ذا . وعند غيره أن المعنى : هذا ما أقسم به . وقسماً مصدر في القولين وما قبله يدل على الفعل . انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد فيه تقديم ها التي للتنبيه على ذا وقد حال بينهما بقوله لعمر الله .
والمعنى : لعمر الله هذا ما أقسم به ونصب قسماً على المصدر المؤكد لما قبله لأن معناه أقسم فكأنه قال : أقسم لعمر الله قسماً . ومعنى تعلمن اعلم ولا يستعمل إلا في الأمر .
وقال أيضاً في شرح الأشعار الستة قوله : تعلمن أي : اعلم وها تنبيه . وأراد : هذا ما أقسم )
به . ففرق بين ذا وها بقوله لعمر الله ونصب قسماً على المصدر المؤكد به معنى اليمين .
وقال شارح ديوان زهير صعودا وكان ضعيفاً في النحو : وقوله تعلمنها أي : اعلمها والمعنى تعلمن هذا وصل ها بالنون من تعلمن وفرق بين ها وذا ونصب قسماً بتعلم يريد : يا هذا كما تقول : اعلم زيد أني زائرك أي : يا زيد .
قال الأصمعي : وقد رويت ذا قسم فذا حينئذ نصب على الحال وهي ذو التي تتصرف وتصرفها في الإعراب نحو ذو مال وذا ثوب وذي قوم .
وبعضهم يقول : تعلمنها لعمر الله ذا ثم ينصب قسماً على كلامين كأنه قال : تعلم قسماً فاقصد بذرعك أي : اعرف قدرك . هذا كلامه . وكله خلاف الصواب
____________________

وإنما نقلناه للتعجب .
وقوله : فاقدر بذرعك الخ قال الأعلم في شرح الأشعار الستة : أي قدر لخطوك . والذرع : قدر الخطو . وهذا مثل والمعنى لا تكلف ما لا تطيق مني يتوعده بذلك .
كذلك قوله : وانظر أين تنسلك . والانسلاك : الدخول في الأمر وأصله من سلوك الطريق .
والمعنى لا تدخل نفسك فيما لا يعنيك ولا يجدي عليك . اه .
والأحسن أن يكون : اقدر من قدرت قدراً من بابي ضرب وقتل وقدرته تقديراً بمعنى .
والاسم القدر بفتحتين ومفعوله محذوف تقديره : فاقدر خطوك بذرعك . وذرع الإنسان : طاقته التي يبلغها .
وروى : فاقصد بذرعك من قصد في الأمر قصداً من باب ضرب إذا توسط وطلب الأسد ولم يجاوز الحد . فالباء بمعنى في . والذرع : بمعنى الطاقة أيضاً .
والبيت من قصيدة لزهير بن أبي سلمى عدتها ثلاثة وثلاثون بيتاً قال الأصمعي : ليس في الأرض قصيدة على الكاف أجود من قصيدة زهير التي مطلعها : البسيط ( بان الخليط ولم يأووا لمن تركوا ** وزوّدوك اشتياقاً أيّةً سلكوا ) ومن قصيدة أوس بن حجر التي أولها : البسيط ( زعمتم أنّ غولاً والرّجام لنا ** ومنعجاً فاذكروا والأمر مشترك ) وهذه القصيدة هدد بها زهير الحارث بن ورقاء أخا بني الصيداء بن عمرو بن
____________________

قعين الأسدي فإنه كان أغار على طائفة من بني سليم بن منصور فأصاب سبياً ثم انصرف راجعاً فوجد غلاماً لزهير حبشياً يقال له : يسار في إبل لزهير وهو آمن في ناحية أرضهم فسأله : لمن أنت )
قال : لزهير بن أبي سلمى .
فاستاقه وهو لا يحرم ذلك عليه لحلف أسد وغطفان فبلغ ذلك زهيراً فبعث إليه أن رد ما أخذت . فأبى فقال زهير في ذلك هذه القصيدة يهدده بأنه يهجوه إن لم يرسل ما أخذه .
وهذا أول الكلام معه بعد التغزل : ( فلن يقولوا بحبلٍ واهنٍ خلق ** لو كان قومك في أسبابه هلكوا ) ( يا حار لا أرمين منكم بداهيةٍ ** لم يلقها سوقةٌ قبلي ولا ملك ) ( اردد يساراً ولا تعنف عليه ولا ** تمعك بعرضك إنّ الغادر المعك ) ( ولا تكونن كأقوامٍ علمتهم ** يلوون ما عندهم حتّى إذا نهكوا ) ( طابت نفوسهم عن حقّ خصمهم ** مخافة الشّرّ فارتدّوا لما تركوا ) تعلّمن ها لعمر اللّه ذا قسماً . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لئن حللت بجوٍّ في بني أسدٍ ** في دين عمرو وحالت بيننا فدك ) ( ليأتينّك منّي منطقٌ قذعٌ ** باقٍ كما دنّس القبطيّة الودك ) هذا آخر القصيدة : قوله : هلا سألت بني الصيداء الخ بنو الصيداء : قوم من بني أسد وهم رهط الحارث بن ورقاء . وأي منصوب بأمتسك . والحبل : العهد والميثاق .
قال صعوداء : إنما يعني الحلف الذي بين مزينة وغطفان وصهره في بني الغدير .
____________________


والواهن : الضعيف . والخلق : بفتحتين : الذائب . وجملة : لو كان قومك الخ من المقول المنفي .
يقول : سلهم كيف كنت أفعل لو استجرت بهم فإني كنت أستوثق ولا أتعلق إلا بحبل متين .
وقوله : لو كان قومك الخ أي : في أسباب ذلك الحبل . يقول : هو حبل شديد محكم فمن تمسك به نجا وليس بحبل ضعيف من تعلق بأسبابه هلك .
وقوله : يا حار الخ هو مرخم الحارث بن ورقاء . ولا ناهية وأرمين بالبناء للمفعول مؤكد بالنون الخفيف . والسوقة : الرعية . وهذا البيت من شواهد علم العروض .
وقوله : اردد يساراً الخ هو عبد زهير كان الحارث أسره . وتعنف بضم النون من العنف وهو فعل الشيء على غير وجهه والتجاوز فيه . والمعك : المطل وماضيه ومضارعه بفتح العين . والمعك بكسر العين : الذي يماطل . يقول : ما تمطلني فمطلك غدر وكلما مطلتني لحق ذلك )
بعرضك . وإنما يتوعده بالهجو .
وقوله : ولا تكونن كأقوام الخ يقال : لواه يلويه لياً ولياناً أي : مطله . يمطلون بما عليهم من الدين .
ومعنى نهكوا شتموا وبولغ في هجائهم وأصله من نهكته الحمى إذا بلغت من جسمه وهزلته .
وقوله : فارتدوا لما تركوا أي : لما أوذوا بالهجاء دفعوا الحق إلى صاحبه وارتدوا إلى عطاء ما كانوا تركوه ومنعوه من الحق مخافةً من الشر وإبقاءً على عرضهم .
وقوله : لئن حللت بجو البيتين اللام الأولى موطئة والثانية جواب القسم . جو بالجيم : اسم واد .
ودين عمرو بالكسر : طاعته وسلطانه . وعمرو هو عمرو بن هند ملك العرب . وفدك بفتح
____________________

والقذع بفتح القاف والذال المعجمة : اسم بمعنى السب البليغ . يقال : أقذع فلان لفلان أي : استقبله بكلام قبيح . وباق أي : يبقى على الدهر بجريانه على أفواه الناس .
والقبطية بضم القاف وكسرها : ثياب بيض تصنع بالشام وقد يقع على كل ثوب أبيض .
والودك : الدسم .
يقول : لئن نزلت بحيث لا أدركك ليردن عليك هجوي ولأدنسن به عرضك كما يدنس الدسم الثياب البيض .
وقال أبو حاتم : فلما أتت القصيدة الحارث بن ورقاء لم يلتفت إليها فقال زهير : الوافر ( تعلّم أنّ شرّ النّاس حيٌّ ** ينادي في شعارهم يسار ) ( ولولا عسبه لرددتموه ** وشرّ منيحةٍ عسبٌ معار ) ( إذا جمحت نساؤكم إليه ** أشظّ كأنّه مسدٌ مغار ) ( يبربر حين يعدو من بعيدٍ ** إليها وهو قبقابٌ قطار ) ( كطفلٍ ظلّ يهدج من بعيدٍ ** ضئيل الجسم يعلوه انبهار ) ( إذا أبزت به يوماً أهلّت ** كما تبزي الصّعائد والعشار ) ( فأبلغ إن عرضت لهم رسولاً ** بني الصّيداء إن نفع الحوار ) وقوله : تعلم أن شر الناس الخ الشعار : علامة القوم في سفرهم وغزوهم وحربهم نحو : يا أفلح ويا سلامة فيصير كل قوم إلى داعيهم وكان شعار رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين يا أهل القرآن .
____________________


فلما انهزم الناس صاح العباس : يا أهل القرآن فرجع الناس وكان الفتح ويسار : عبد زهير . )
والعسب : الضراب والجماع . يقول : لولا حاجة نسائكم إليه لرددتموه علي . والمنيحة : العارية .
وجمحت : مالت . وأشظ : قام متاعه وصلب واشتد . والمسد : الحبل . والمغار : الشديد الفتل . يقال : أغرت الحبل أي : فتلته محكماً .
ويبربر : يصوت مثل بربرة الفحل إذا أراد الناقة والتيس إذا أراد الشاة . والقبقاب : المصوت من القبقبة وهي هدير الفحل . والقطار بضم القاف : القائم المنتصب الرأس يقطر إحليله من الشهوة .
والهدجان : مقاربة الخطو في سرعة والانبهار : علو النفس عند التعب . شبهه في عدوه على أربع إليها عند إرادة الفاحشة وعلو نفسه من الحرص والشهوة بطفل صغير يحبو بينهم لضعفه .
والإبزاء بالموحدة والزاء المعجمة من جميع الإناث : أن ترفع استها إلى الفحل . وأهلت : رفعت صوتها . والصعائد : جميع صعود وهي الناقة التي تخدج على سبعة أشهر أو ثمانية فتعطف وقيل : هي التي مات ولدها فعطفت على ولدها الأول والعشار : جمع عشراء وهي التي أتى عليها مذ حملت عشرة اشهر وربما بقي الاسم عليها بعد ذلك . وعليه مخرج البيت لأنه شبه النساء في حاجتهن إلى الجماع وإبرازهن أعجازهن وإهلالهن عند ذلك باحتياج الصعائد التي ألقت أولادها لغير التمام والعشار التي ولدت ثم حنت إلى الفحل ولذلك وصفه بالبربرة والقبقبة وهما صوت الفحل وهديره عند الضراب . والحوار بكسر المهملة : المحاورة والمجاوبة .
وقال أبو حاتم : فلما بلغتهم الأبيات قالوا للحارث بن ورقاء : اقتل يساراً .
____________________

فأبى عليهم وكساه وأحسن إليه ورده مع الإبل إلى زهير فمدحه زهير بعد ذلك .
ولولا خوف الإطالة لأوردت جملةً مما قال فيه .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث عشر بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل : البسيط ها إنّ تا عذرةٌ إن لم تكن نفعت هو صدر وعجزه : على أن الفصل بين ها وبين تا بغير إن وأخواتها قليل سواء كان الفاصل قسماً كما تقدم أو غيره كما هنا فإن الفاصل هنا إن .
وتا : اسم إشارة لمؤنث بمعنى هذه . وروى : ها إن ذي عذرة . وروى أبو عبيدة : وإن ها عذرة فلا شاهد فيه على روايته
____________________

.
وهذا البيت آخر قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة واعتذر إليه فيها مما افتري عليه .
وقد بينا سبب اعتذاره في ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة وتقدم شرح أبيات منها .
وقبله : ( نبّئت أنّ أبا قابوس أوعدني ** ولا قرار على زأرٍ من الأسد ) ها إنّ تا عذرة . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت نبئت بالبناء للمفعول بمعنى أخبرت . وروى أنبئت . وأبو قابوس : كنية النعمان بن المنذر .
وقابوس معرب كاوس على وزن طاوس : اسم ملك من ملوك العجم . وأوعد بالألف لا يكون إلا في الشر بمعنى هددني وزأر : مصدر زأر الأسد بالهمز يزئر ويزأر زأراً إذا صوت بحنق . وهذا تمثيل لغضبه .
وقوله : ها إن تا الخ ها للتنبيه وتا : اسم إشارة لما ذكره في قصيدته من يمينه على أنه لم يأت بشيء يكرهه . وهي مبتدأ خبره عذرة . وقال بعضهم : إن عذرتي هذه عذرة .
وقال الخطيب التبريزي في شرحه لهذه القصيدة : الإشارة للقصيدة أي : إن هذه القصيدة ذات عذرة . والعذرة بكسر العين اسم للعذر وبضمها قال صاحب الصحاح : يقال عذرته فيما صنع أعذره عذراً وعذراً . والاسم المعذرة والعذرى . وكذلك العذرة وهي مثل الركبة والجلسة . وأنشد هذا البيت .
____________________


وقال صاحب المصباح : عذرته فيما صنع عذراً من باب ضرب : رفعت عنه اللوم فهو )
معذور أي : غير ملوم . والاسم العذر وتضم الذال للإتباع وتسكن وقوله : إن لم تكن نفعت روى أيضاً : إلا تكن نفعت .
وقوله : إن صاحبها أي : صاحب العذرة ويعني به نفسه . وتاه : الإنسان في المفازة يتيه تيهاً : ضل عن الطريق وتاه يتوه توهاً لغة . وقد تيهته وتوهته ومنه يستعار لمن رام أمراً فلم يصادف الصواب فيقال إنه تائه . كذا في المصباح .
والبلدك الأثر والأرض وقيل هنا بمعنى المفازة فإن من تحير في المفازة يهلك . وقال شارح ديوانه : معناه لا أفارق بلدك ما دمت ساخطاً علي . والمعنى عندي : إن لم تقبل عذري وترضى علي فإني أختل حتى إني أضل في البلدة التي أنا فيها لما أنا فيه من عظم الدهشة الحاصلة لي من وعيدك . فتأمل .
وأنشد بعده الشاهد الرابع عشر بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : الطويل ( ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا ** فقلت لهم : هذا لها ها وذا ليا ) على أن الفصل بالواو بين ها وذا قليل والأصل : وهذا ليا .
نقل بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل عن صدر الأفاضل : إنما جاز تقديم ها على الواو لأن ها تبنبيه والتنبيه قد يدخل على الواو إذا عطفت جملة على أخرى كقولك : ألا إن زيداً خارج ألا وإن عمراً مقيم . اه .
____________________


قال سيبويه في باب استعمالهم علامة الإضمار الذي لا يوقع موقع ما يضمر في الفعل قال : وكذلك ها أنا ذا وها نحن أولاء وها هو ذاك وها أنت ذا وها أنتم أولاء وها أنتن أولاء وإنما استعملت هذه الحروف هنا لأنك لا تقدر على شيء من الحروف التي تكون علامة في الفعل ولا على الإضمار الذي في فعل .
وزعم الخليل أن ها هنا هي التي مع ذا إذا قلت هذا وإنما أرادوا أن يقولوا : هذا أنت ولكنهم جعلوا أنت بين ها وذا وأرادوا أن يقولوا : أنا هذا وهذا أنا فقدموا ها وصارت أنا بينهما .
وزعم أبو الخطاب أن العرب الموثوق بهم تقول : أنا هذا وهذا أنا . ومثل ما قال الخليل في هذا قول الشاعر : )
ونحن اقتسمنا المال نصفين بيننا . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه أراد أن يقول : وهذا لي فصير الواو بين ها وذا . وزعم أن مثل ذلك : إي ها الله ذا أي : إنما هو هذا . وقد تكون ها في ها أنت ذا غير مقدمة ولكنها تكون بمنزلتها في هذا .
ويدلك على هذا قوله عز وجل : ها أنتم هؤلاء فلو كانت ها هنا هي التي تكون أولاً إذا قلت هؤلاء لم تعد ها ها هنا بعد أنتم .
وحدثنا يونس أيضاً تصديقاً لقول أبي الخطاب أن العرب تقول : هذا أنت تقول كذا وكذا . لم يرد بقوله هذا أنت أن يعرفه نفسه كأنه يريد أن يعلمه أنه ليس غيره . هذا محال ولكنه أراد أن ينبهه كأنه قال : الحاضر عندنا أنت إذ الحاضر القائل كذا وكذا أنت .
وإن شئت لم تقدم ها في هذا الباب قال عز وجل : ثمَّ أنتمْ هؤلاء تَقتُلون أنفُسَكم .
هذا نص سيبويه ونقلناه بطوله لكثرة فوائده .
____________________


قال الأعلم : الشاهد في فصله بين ها وذا بالواو ونصب نصفين على الحال . وفي هذا حجة لما أجازه سيبويه من الحال في قول ذي الرمة : الطويل ( ترى خلقها نصفٌ قناةٌ قويمةٌ ** ونصفٌ نقاً يرتجّ أو يتمرمر ) وأطال على المبرد في إبطال جوازه فإنه قال : سيبويه رفع نصف وما بعده على القطع والابتداء ولو نصب على البدل أو على الحال لجاز . وغلطه المبرد وزعم أن نصفاً معرفة لأنه في نية الإضافة فكأنه قال ترى خلفها نصفه كذا ونصفه كذا .
والحجة لسيبويه أنه نكرة وإن كان متضمناً لمعنى الإضافة وليس من باب كل وبعض لأن العرب قد أدخلت عليه الألف واللام وثنته وجمعته وليس شيء من ذلك في كل وبعض .
وصف امرأةً فجعل أعلاها في اللطافة كالقناة وأسفلها في امتلائه كالنقا المرتج المتمرمر أي : يجري بعضه في بعض . انتهى .
ومعنى البيت الشاهد واضح .
ونسبه الأعلم إلى لبيد وكذلك نسبه الأندلسي في شرح المفصل إليه . وأنا لم أره في ديوانه .
وكذلك قال قبلي ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إنه لم يره في ديوانه . والله أعلم .
وأنشد بعده : الكامل
____________________

هذا صدر وعجزه : )
وبدا الذي كانت نوار أجنّت على أن هنا فيه بمعنى الزمان أي : لات حين حنت فهي ظرف زمان لأضافتها إلى الجملة .
قد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائتين .
والحنين : نزاع النفس إلى شيء . ونوار اسم امرأةٍ مبني على الكسر في لغة الجمهور وعند تميم معرب لا ينصرف . وأجنت بالجيم بمعنى أخفت وسترت وتاؤه وتاء حنت مكسورتان للوزن .
____________________


باب الموصول أنشد فيه الشاهد الخامس عشر بعد الأربعمائة الطويل ( وإنّي لراجٍ نظرةً قبل التي ** لعلّي وإن شطّت نواها أزورها ) على أن جملة لعلي الخ صلة التي بتقدير القول أي : التي أقول لعلي أزورها .
وإنما قدر أقول لأنها إنشائية لا يصح وقوعها صلة فقدر القول لتكون خبرية . وينبغي أن يقول وهذا تخريج أبي علي الفارسي في التذكرة القصرية قال فيها : قول الفرزدق : وإنّي لراجٍ نظرةً قبل التي هو على غير الظاهر وتأويله الحكاية كأنه قال : التي أقول فيها هذا القول . وإضمار القول شائع كثير والحكاية مستعملة إذا كان عليها دليل والدلالة هنا قائمة وهي أن الصلة إيضاح وما عدا الخبر لا يوضح .
____________________


وقال أيضاً في إيضاح الشعر : جاء في هذا البيت للفرزدق الصلة غير الخبر والصلة لا تكون إلا خبراً كما أن الصفة كذلك .
فإن قلت : فقد جاء من الموصولة ما وصل بغير الخبر نحو ما قالوه : كتبت إليه : أن قم وبأن قم قلت : ذلك وإن جاء في أن لا يستقيم في الذي ونحوه من الأسماء لأن الذي يقتضي الإيضاح بصلته وليست أن كذلك . ألا ترى أنها حرف وأنه لا يرجع إليها ذكر من الصلة .
وهذا وإن جاء في البيت فإن النحويين يجعلون لعل ك ليت في أن الفاء لا تدخل على خبرها فلا يجيزون : لعل الذي في الدار فمنطلق كما لا يجيزكون ذلك في ليت . )
فإن قلت : أحمل لعل على المعنى لأنه طمع كأنه قال : أطمع في زيارتها قيل لك : فصله أيضاً بالتمني وقل : المعنى الذي أتمنى وصله بالاستفهام والنداء وجميع ما لم يكن خبراً وقل : المعنى ويجوز فيه أن تقدر قبل لعلي فعلاً وتحذفه لطول الكلام فيكون الصلة الفعل الذي هو أقول فيها وهو خبر لا إشكال فيه . وحسن الحذف لطول الكلام . اه .
وأورده ابن هشام في الجملة المعترضة من الباب الثاني من المغني على أن جملة : وإن شطت نواها معترضة بين لعلي وبين أزورها . وصلة التي قول محذوف كما ذكرنا .
وذكره الخفاف في شرح جمل الزجاجي على أن أزورها صلة التي وفصل بينهما بلعل وإن شطت على وجه الاعتراض ويكون خبر لعل محذوفاً تقديره : لعلي أبلغ ذلك . والفصل بين الصلة والموصول بجمل الاعتراض جائز .
____________________


قال الشاعر : الكامل ذاك الذي وأبيك يعرف مالكاً ففصل بالقسم بين الصلة والموصول .
وتبعه ابن هشام في المغني فقال : ويحتم أن هذا البيت من قبيل الاعتراض بين الموصول وصلته على أن تقدير الصلة أزورها ويقدر خبر لعلي محذوفاً أي : لعلي أفعل ذلك .
وهذا التخريج مأخوذ من كلام أبي علي في إيضاح الشعر وما ارتضى ظاهره بل وجهه فقال : فإن قلت : أراد بأزورها التقديم كأنه قال : التي أزورها قلنا إن ذلك لا يستقيم لأنه واقع والوجه فيه أنه لما جرى أزورها خبراً ل لعل سد أزورها مسد الصلة التي يجب أن تكون خبراً فكأنه أراد التي أزورها فأغنى ذكر أزورها خبراً ل لعل عن ذكره لها قبل لعل والمعنى على التقديم .
وأشبه هذا قولهم : لو أن زيداً جاءني في أن الفعل الجاري في الصلة سد مسد الفعل الذي يقع قبل أن بعد لو ولولا هذا الفعل لم يجز .
ألا ترى أنه لا يجوز لو مجيئك . فكذلك سد ذكره بعد لعلي مسد ذكره قبل لعلي . فهذا وجهه .
ولا ينبغي أن يقاس على هذا ولا يؤخذ به وكأن الذي حسن هذا طول الكلام وذكر الخبر في الصلة . وقد رأيت طول الصلة يجوز فيه ما لا يجوز إذا لم تطل . اه . )
____________________


ولم يكتب الدماميني ولا شارح شواهد المغني على هذا البيت شيئاً .
هذا . وآخر البيت مغير عن أصله والرواية الصحيحة : لعلّي وإن شقّت عليّ أنالها والبيت من قصيدة لامية كما يأتي بعضها . وحينئذ يأتي في أنالها ما قيل في أزورها بل يتحتم إضمار القول . ( وقاتلةٍ لي لم يصبني سهامها ** رمتني على سوداءٍ قلبي نبالها ) ( وإنّي لرامٍ رميةً قبل التي ** لعلّي وإن شقّت عليّ أنالها ) ( ألا ليت حظّي من عليّة أنّني ** إذا نمت لا يسري إليّ خيالها ) ( فلا يلبث اللّيل الموكّل دونها ** عليه بتكرار اللّيالي زوالها ) وبعد هذا شرع في مدحه .
وقوله : وقاتلة لي الخ هو من القتل يقول : رب امرأة قتلتني مع أنها لم تصبني بسهامها الحقيقية لكنها رمت سويداء قلبي بنبال عيونها فقتلتني .
وقوله : رمتني جواب رب .
وقوله : وإني لرام الخ يقال : رمى نظره نحو كذا أي : توجه نحوه ورمى نحوه رميةً إذا قصده قصداً .
ومنه الحديث : ليس وراء الله مرمىً أي : مقصد ترامى إليه الآمال ويوجه نحوه الرجاء .
وشطت من بابي ضرب وقتل . يقال : شطت الدار أي : بعدت . ونواها : فاعل شطت .
والنوى مؤنثة لا غير وهي الوجه الذي ينويه المسافر
____________________

من قرب أو بعد . ويجوز أن يكون فاعل شطت ضمير التي ونواها منصوب بتقدير في . هذا على الرواية الأولى .
وأما شقت على الرواية الثانية ففاعله ضمير رمية من شق الأمر عليه إذا اشتد وثقل عليه .
ومنه حديث : لولا أن أشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة . وأنالها : مضارع نال خيراً نيلاً أي : أصابه .
وقوله : فلا يلبث الليل الخ قال شارح ديوانه : يقول زالت فذهبت فزوالها يهدي إلي خيالها كل ليلة وزوالها لا يحبس الليل عني فلا يلبث زوالها أن يعيد خيالها .
وقال الحرمازي : يقول : ليت حظي منها أن لا يلبث الليل الموكل على زوالها بالتكرار أي : بكر )
زوالها علي الليل يجعل الليلة ليالي .
وهو مثل قوله : الوافر ( كأنّ اللّيل يحبسه علينا ** ضرارٌ أو يكرّ إلى نذور ) أي : كأنه يغور كلما كاد يفنى . اه .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده : الرجز جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذّئب قط على أن الجملة الاستفهامية وقعت صفة ل مذق بتقدير : تقول عند رؤيته : هل رأيت الخ .
____________________

( ما زلت أسعى معهم وأختبط ** حتّى إذا جنّ الظّلام واختلط ) جاؤوا بمذق الخ . يقال : خبطت فلاناً وأختبطته أي : سألته بغير وسيلةٍ ما شكا قوماً وقال : لم أزل طول النهار أسعى معهم وأسألهم شيئاً حتى إذا أظلم الليل واختلط الظلام جاؤوني بلبن مخلوط بماء كثير يضرب لونه لكثرة مائه إلى لون الذئب فكل من رآه يستفهم عن رؤيته الذئب لأنه بلونه يحمل رائيه على السؤال عن الذئب .
وإنما قال هذا لأن الذئب موصوف بالورقة واللبن إذا كثر ماؤه يصير أورق . والورقة بالضم : لون أبيض يخالطه سواد .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد السادس والتسعين .
وأنشد بعده : الحافظو عورة العشيرة هو بعض بيت أصله : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائهم وكف ) على أنه حذف بعض الصلة تخفيفاً وهو النون والأصل الحافظون عورة العشيرة . ف أل موصول اسمي بمعنى الذين والوصف المجموع صلته وقد حذف بعضها وهو النون .
____________________


وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين من باب الإضافة .
والعورة : المكان الذي يخاف منه العدو وقال ثعلب : كل مخوف عورة . وقال كراع : عورة الرجل في الحرب : ظهره والعشيرة : القبيلة . )
والوكف بفتح الواو والكاف ويروى بدله نطف بفتح النون والطاء المهملة وكلاهما بمعنى العيب أي : يحفظون العشيرة أن يصيبهم ما يعابون به ولا يضيعون ما استحفظوا فيلحق العشيرة عيب بذلك .
وأنشد بعده الشاهد السادس عشر بعد الأربعمائة الطويل ( بسودٍ نواصيها وحمرٍ أكفّها ** وصفرٍ تراقيها وبيضٍ خدودها ) على أن رجوع الضمير من نواصيها على الموصوف بسود المقدر خاص بالضرورة والقياس : بنساء سود نواصيها .
وهذا على رواية البيت كذا وأما على ما سيأتي فمرجع الضمير وصف مذكور في بيت قبله . ( لقد كنت جلداً قبل أن توقد النّوى ** على كبدي ناراً بطيئاً خمودها )
____________________

( وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ** إذا قدمت أيّامها وعهودها ) ( فقد جعلت في حبّة القلب والحشا ** عهاد الهوى تولى بشوقٍ يعيدها ) بسودٍ نواصيها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( مخصّرة الأوساط زانت عقودها ** بأحسن ممّا زيّنتها عقودها ) ( يمنّيننا حتّى ترفّ قلوبنا ** رفيف الخزامى بات طلٌّ يجودها ) قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة تبعاً للخطيب التبريزي : يقول : كنت حمولاً لحوادث الزمان صبوراً عليها حتى منيت بفراق الأحبة وكنت أرجو أن تسكن صبابتي وتنصرم إذا مال عليها الدهر وتقادمت أيامها أي : أيام الصبابة .
والعهود : جمع عهد وهو اللقاء ها هنا والعهاد : جمع عهد وهو المطر في أول السنة . وروي بالنصب والرفع فالنصب على أنه مفعول أول لجعلت وتولى بشوق في موضع المفعول الثاني ويعيدها صفة شوق .
ومعنى تولى : تمطر الولي والولي : المطرة الثانية بعد الوسمي أي : صيرت في حبة القلب وأحشائه أمطار الهوى تتجدد وتتبع بولي من الشوق يردها كما كانت . )
والضمير في يعيدها يرجع إلى عهاد . يريد أن الشوق لا ينقضي . والرفع على أن يكون جعلت بمعنى طفقت وأقبلت فيكون غير متعد ويرتفع عهاد الهوى به .
ويروى : يولي بالياء . وبعيدها بالباء فاعل يولي أي : فقد طفقت أوائل هواها يمطر أبعدها بشوق يجددها .
____________________


والباء في قوله : بسود يجوز أن يتعلق بقوله : تموت صبابتي ويجوز أن يتعلق بجعلت إذا ارتفعت عهاد الهوى به . يريد جعلت العهاد تفعل ذلك بسبب نساء بهذه الصفات .
مخصرة الأوساط أي : دقيقة الخصور وقلائدهن تكتسب من التزين بهن إذا علقت عليهن أكثر مما يكتسبن منها إذا تحلين بها اه .
والأقرب أن تتعلق الباء في بسود بقوله : يعيدها وهو الأنسب من جهة المعنى .
وقال الخطيب التبريزي : وإنما جاز أن يجمع حمر وسود وغيرهما وإن ارتفع ما بعدها بها لأن هذه الجموع لها نظائر في الأسماء المفردة ولو كانت ما لا نظير له في الواحد لما جاز جمعه تقول : مررت برجال ظراف آباؤهم ولو قلت : برجال ظريفين آباؤهم لم يجز .
وقوله : يمنيننا يصف حسن مواعيدهن وتقريبهن أمر الوصال . حتى ترف قلوبنا أي : تهتز نشاطاً وترتاح وتفرح . والخزامى بضم أوله والقصر : خيري البر . ورفيفها : اهتزازها .
والطل : أثر الندى في الأرض من المطر . وإنما جعل الطل يجود جوداً لأنه يفعل في ري الخزامى ونعمتها ما يفعل الجود في نبات الأرض . يقال : رف يرف إذا اهتز نعمةً ونضارة .
وقد أورد هذه الأبيات بأكثر من هذا مع بعض تغيير السيد المرتضى في أماليه قال : أخبرنا أبو عبد الله المرزباني قال : أنشدنا علي بن سليمان الأخفش قال : أنشدنا أحمد بن يحيى ثعلب للحسين بن مطير : الطويل ( لقد كنت جلداً قبل أن يوقد الهوى ** على كبدي ناراً بطيئاً خمودها ) ( ولو تركت نار الهوى لتضرّمت ** ولكنّ شوقاً كلّ يومٍ يزيدها )
____________________

( وقد كنت أرجو أن تموت صبابتي ** إذا قدمت أيّامها وعهودها ) ( فقد جعلت في حبّة القلب والحشا ** عهاد الهوى تلوي بشوقٍ يعيدها ) ( بمرتجّة الأرداف هيفٍ خصورها ** عذابٍ ثناياها عجافٍ قيودها ) ( وصفرٍ تراقيها وحمرٍ أكفّها ** وسودٍ نواصيها وبيضٍ خدودها ) ) ( يمنّيننا حتّى ترفّ قلوبنا ** رفيف الخزامى بات طلٌّ يجودها ) اه .
وكذا روى هذه الأبيات القالي في أماليه عن ابن دريد وعن ابن الأعرابي .
وكتب الشريف المرتضى على قوله بمرتجة الأرداف . . . . البيت يعني أنها عجاف اللثات .
وأصول الأسنان هي قيودها .
قال أبو العباس ثعلب : خفض عجاف لحن لأنه ليس من صفة النساء وسبيله أن يكون نصباً لأنه حال من الثنايا . اه .
أقول : إنما قال ثعلب ذلك لأن الضمير في قيودها للثنايا وهذا عجب منه فإن باب جريان الصفة على غير من هي له واسع .
والباء في قوله : بمرتجة متعلقة بقوله : يعيدها ويجوز أن تتعلق بجعلت أو بتموت . ومرتجة الأرداف هو مرجع الضمائر الآتية بعده فلا يرد ما أورده الشارح المحقق في البيت الشاهد .
وقوله : مخصرة الأوساط بالجر ويجوز النصب والرفع على المدح .
وكذلك قوله : وصفر تراقيها والبيت مأخوذ من قول مالك بن أسماء بن خارجة : الخفيف ( وتزيدين أطيب الطّيب طيباً ** أن تمسّيه أين مثلك أينا ) ( وإذا الدّرّ زان حسن وجوهٍ ** كان للدّرّ حسن وجهك زينا )
____________________

وقوله : وصفر تراقيها بالتنوين في المواضع الأربعة وتراقيها : فاعل صفر وكذلك أكفها ونواصيها .
والتراقي : جمع ترقوة وهي أعالي الصدر . وصفها بالصفرة من الطيب كالزعفران وأراد بحمرة أكفها الخضاب .
وهذا البيت أورده ابن رشيق في العمدة في باب المطابقة قال : أنشد غير واحد من العلماء : بسود نواصيها البيت .
ورواه ابن الأعرابي في نسق أبيات : وصفر تراقيها وحمر أكفها . . . إلخ . وهذه الرواية أشكل في الصنعة .
وروى أبو تمام في الحماسة للحسين بن مطير أيضاً . ويشبه أن يكون الجميع من قصيدة واحدة : ( وكنت أذود العين أن ترد البكا ** فقد وردت ما كنت عنه أذودها ) ) ( خليليّ ما بالعيش عيبٌ لو انّنا ** وجدنا لأيّام الصّبا من يعيدها ) وروى أبو تمام أيضاً لغيره وبعض الرواة يرويها لابن مطير أيضاً : ( ولي نظرةٌ بعد الصّدود من الجوى ** كنظرة ثكلى قد أصيب وليدها ) ( هل اللّه عافٍ عن ذنوبٍ تسلّفت ** أم اللّه إن لم يعف عنها معيدها ) وحسين بن مطير هو كما قال في الأغاني حسين بن مطير بن مكمل مولى لبني أسد بن خزيمة ثم لبني سعد بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن
____________________

أسد . وكان جده مكمل عبداً فأعتقه مولاه وحسين من مخضرمي الدولتين الأموية والعباسية . شاعر متقدم في القصيد والرجز فصيح قد مدح بني أمية وبني العباس وكان زيه وكلامه يشبه مذاهب الأعراب وأهل البادية ووفد على معن بن زائدة لما ولي اليمن فلما دخل عليه أنشده : الطويل ( أتيتك إذ لم يبق غيرك جابرٌ ** ولا واهبٌ يعطي اللّهى والرّغائبا ) فقال له معن : يا أخا بني أسد ليس هذا بمدح إنما المدح قول نهار بن توسعة في مسمع بن مالك بن مسمع : الخفيف ( قلّدته عرى الأمور نزارٌ ** قبل أن يهلك السّراة البحور ) قال : وأول هذا الشعر : الخفيف ( اظعني من هراة قد مرّ فيها ** حججٌ مذ سكنتها وشهور ) ( اظعني نحو مسمعٍ تجديه ** نعم ذا المنثني ونعم المزور ) ( سوف يكفيك إن نبت بك أرضٌ ** بخراسان إذ جفاك أمير ) ( من بني الحصن عامل بن بريحٍ ** لا قليل النّدى ولا منزور ) ( والذي يفزع الكماة إليه ** حين تدمى من الطّعان النّحور ) ( فاصطنع يا ابن مالكٍ آل بكرٍ ** واجبر العظم إنّه مكسور )
____________________

( سلّ سيوفاً محدثاً صقالها ** صاب على أعدائه وبالها ) وعند معن ذي النّدى أمثالها فاستحسنها وأجزل صلته .
قال المفضل الضبي : كنت يوماً محتاجاً إلى درهم وعلي عشرة آلاف درهم إذ جاءني رسول المهدي فقال : أجب أمير المؤمنين فتخوفته لأني كنت خرجت عليه مع إبراهيم بن عبد الله بن )
الحسن فتطهرت ولبست ثوبين نظيفين وصرت إليه .
فلما مثلت بين يديه سلمت فرد علي وأمرني بالجلوس فلما سكن جأشي قال لي : يا مفضل أي بيت قالته العرب أفخر فشككت ساعة ثم قلت : بيت الخنساء .
وكان مستلقياً فاستوى جالساً ثم قال : وأي بيت هو قلت : قولها : البسيط ( وإنّ صخراً لتأتمّ الهداة به ** كأنّه علمٌ في رأسه نار ) فأومأ إلى إسحاق بن بزيع ثم قال : قد قلت له ذلك فأبى .
فقلت : الصواب ما قاله أمير المؤمنين . ثم قال : يا مفضل أسهرني البارحة قول ابن مطير الأسدي : الطويل ( وقد تغدر الدّنيا فيضحي فقيرها ** غنيّاً ويغنى بعد بؤسٍ فقيرها ) ثم قال : ألهذين البيتين ثالث قلت : نعم يا أمير المؤمنين .
____________________

( وكم قد رأينا من تغيّر عيشةٍ ** وأخرى صفا بعد اكدرار غديرها ) وكان المهدي رقيقاً فاستعبر ثم قال : يا مفضل كيف حالك قلت : كيف يكون حال من هو مأخوذ بعشرة آلاف درهم فأمر لي بثلاثين ألف درهم وقال : اقض دينك واصلح شأنك فقبضتها وانصرفت .
ودخل ابن مطير يوماً على المهدي فأنشده : البسيط ( لو يعبد النّاس يا مهديّ أفضلهم ** ما كان في النّاس إلاّ أنت معبود ) ( أضحت يمينك من جودٍ مصوّرةً ** لا بل يمينك منها صوّر الجود ) ( من حسن وجهك تبدو الأرض مشرقةً ** ومن بنانك يجري الماء في العود ) ( لو أنّ من نوره مثقال خردلةٍ ** في السّود طرّاً إذاً لابيضّت السّود ) فأمر له لكل بيت بألف درهم .
والبيت الثالث رأيته مجروراً كما هو .
ومن قصيدة له في مدح المهدي : الطويل ( إذا شاهد القوّاد سار أمامهم ** جريءٌ على ما يتّقون وثوب ) ( يعفّ ويستحيي إذا كان خالياً ** كما عفّ واستحيا بحيث رقيب ) ومن شعره المشهور في رثاء معن بن زائدة : الطويل )
____________________

( ألمّا بمعنٍ ثمّ قولا لقبره ** سقيت الغوادي مربعاً ثمّ مربعا ) ( أيا قبر معنٍ كنت أوّل حفرةٍ ** من الأرض خطّت للمكارم مضجعا ) ( أيا قبر معنٍ كيف واريت جوده ** وقد كان منه البرّ والبحر مترعا ) ( بلى قد وسعت الجود والجود ميتٌ ** ولو كان حيّاً ضقت حتّى تصدّعا ) ( أبى ذكر معنٍ أن تموت فعاله ** وإن كان قد لاقى حماماً ومصرعا ) هذا ما انتخبته من الأغاني .
وروى السيد المرتضى في أماليه بسنده عن محمد بن حميد قال : كنا عند الأصمعي فأنشده رجل أبيات دعبل : الكامل ( أين الشّباب وأيّةً سلكا ** لا أين يطلب ضلّ بل هلكا ) ( لا تعجبي يا سلم من رجلٍ ** ضحك المشيب برأسه فبكى ) ( يا سلم ما بالشّيب منقصةٌ ** لا سوقة يبقى ولا ملكا ) ( قصر الغواية عن هوى قمرٍ ** وجد السّبيل إليه مشتركا ) ( لا تأخذا بظلامتي أحداً ** قلبي وطرفي في دمي اشتركا ) فاستحسنها كل من كان حاضراً في المجلس وأكثروا التعجب من قوله : ضحك المشيب برأسه فبكى قال الأصمعي : إنما أخذ هذا من قول ابن مطير الأسدي : الخفيف ( أين أهل القباب بالدّهناء ** أين جيراننا على الأحساء ) ( جاورونا والأرض ملبسةٌ نو ** ر الأقاحي تجاد بالأنواء )
____________________

( كلّ يومٍ بأقحوانٍ جديدٍ ** تضحك الأرض من بكاء السّماء ) ( ذهبٌ حيث ما ذهبنا ودرٌّ ** حيث درنا وفضّةٌ في الفضاء ) وقد أخذه مسلم في قوله : ( مستعبرٌ يبكي على دمنةٍ ** ورأسه يضحك منه المشيب ) قال السيد المرتضى قدس الله روحه : ولأبي الحجناء نصيب الأصغر مثل هذا المعنى : الكامل ( فبكى الغمام به فأصبح روضه ** جذلان يضحك بالجميم ويزهر ) ولابن المعتز مثله : الطويل ) ( ألحّت عليه كلّ طخياء ديمةٍ ** إذا ما بكت أجفانها ضحك الزذهر ) ( تبسّم المزن وانهلّت مدامعه ** فأضحك الرّوض جفن الضّاحك الباكي ) ( وغازل الشّمس نورٌ ظلّ يلحظها ** بعين مستعبرٍ بالدّمع ضحّاك ) وروي عن أبي العباس المبرد أنه قال : أخذ ابن مطير قوله : تضحك الأرض من بكاء السذماء من قول دكين الراجز : الرجز ( جنّ النّبات في ذراها وزكا ** وضحك المزن به حتّى بكى ) انتهى ما أورده السيد في أماليه .
وهذا الخبر المسند إلى الأصمعي رواه صاحب الأغاني بسنده إلى أبي المثنى أحمد بن يعقوب ابن أخت أبي بكر الأصم وإنما اخترنا رواية السيد لأنها اشتملت على فوائد .
____________________


ولم يحك صاحب الأغاني في روايته إلا قوله : لا تعجبي يا سلم من رجل . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت مع أبيات ابن مطير .
وأنشد بعده
الشاهد السابع عشر بعد الأربعمائة ( وقد يخرج اليربوع من نافقائه ** ومن جحره بالشّيحة اليتقصّع ) ( يقول الخنى وأبغض العجم ناطقاً ** إلى ربّنا صوت الحمار اليجدّع ) على أن أل الموصولة قد وصلت بالمضارع في ضرورة الشعر كما في اليتقصع واليجدع ببنائهما للمفعول .
وهما من مقطوعة هي سبعة أبيات لذي الخرق الطهوي قد شرحناها في أول شاهد من شواهد الشرح .
والبيت الثاني هو ثاني الأبيات والأول هو خامسها . وكأنه نقل البيتين
____________________

من سر الصناعة لابن جني فإنهما كذا وقعا فيه والصواب أيضاً فيستخرج اليربوع بالفاء كما مر .
وقد ذكر الشارح المحقق هنا أن حق الإعراب في نحو الضارب والمضروب إنما هو ل أل الموصولة لكن لما كانت في صورة الحرف نقل إعرابها إلى صلتها عاريةً كما في إلا بمعنى غير .
وحقق أن أصلهما الضرب والضرب فكرهوا إدخال اللام الاسمية المشابهة للحرفية لفظاً ومعنى على صورة الفعل .
فظاهر هذا الكلام أن إعرابها ينقل أيضاً إلى صلتها إذا كان فعلاً لأن علة النقل موجودة بل ولو كانت الصلة جملة اسمية . وعليه فجملة : يجدع ويتقصع في محل جر على الوصفية للحمار .
فإن قلت : أل مبنية والبناء يقابل الإعراب فأي إعراب نقل منها إلى ما بعدها قلت : أراد أنها في محل لو كان بدلها معرب لظهر إعرابه فإعرابها محلي .
وقد صرح ابن هشام في تذكرته أن الجملة الواقعة صلة لا محل لها من الإعراب تطرد فيما عدا نحو قوله : إنّي لك الينذر من نيرانها فاصطل وقوله : من القوم الرّسول اللّه منهم لأنها في هذه حالة محل المفرد المعرب من قولك : الضارب والمضروب .
وبحث مثله الدماميني في شرح التسهيل فقال : أطلقوا القول بأن جملة الصلة لا محل لها من الإعراب وينبغي أن يستثنى من ذلك الجملة التي تقع صلة ل أل لأنها واقعة موقع المفرد . )
وتعقبه الشمني بأنا لا نسلم أن كل جملة واقعة موقع المفرد لها محل من
____________________

الإعراب وإنما ذلك للواقعة موقع المفرد بالأصالة والواقع بعد أل ليس مفرداً بطريق الأصالة لأنهم قالوا : إن صلة أل فعل في صورة الاسم ولهذا يعمل بمعنى الماضي ولو سلم فإنما ذلك للواقعة موقع المفرد الذي له محل والمفرد الذي هو صلة أل لا محل له والإعراب الذي فيه بطريق العارية من أل فإنها لما وعلى هذا الكلام أيضاً يرد أن علة النقل موجودة .
وقد خطر لي بتوفيق الله تعالى ما أرجو أن يكون سديداً وهو أن أل لما كانت مبنية وكان الوصف بعدها من جنسها وهو الاسمية وكان صالحاً لظهور الإعراب فيه حيث كان غير مشغول بإعراب عامل من حيث كونه صلةً وكان الغرض ظهور إعرابها المحلي نقل إعرابها إلى الوصف على سبيل العارية .
وفي اليجدع لما كان الفعل مخالفاً لها في جنسها وكان مشغولاً بإعراب عامله وهو التجرد كان غير صالح لظهور إعراب آخر فيه .
ولو نقل إعرابها إلى الجملة لما كان يظهر لفظها لكونه غير صالح له .
ولو نقلوه إلى محلها لنافى الغرض وكان نقل إعراب مما لا يظهر فيه إلى ما لا يظهر فيه وهذا لا وجه له .
فظهر الفرق بين نقل إعرابها إلى الوصف دون المضارع والجملة . ولله الحمد والمنة والله أعلم بالصواب .
وأنشد بعده
____________________


الشاهد الثامن عشر بعد الأربعمائة ( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ** وأقعد في أفيائه بالأصائل ) على أن الكوفيين جوزوا أن يكون الاسم الجامد المعرف باللام موصولاً كما قالوا في هذا : إن التقدير لأنت الذي أكرم أهله لكنه موصول غير مبهم كسائر الأسماء الموصولة . وعند البصريين اللام غير مقصود قصده والمضارع صفة له . وفيه أمور : الأول : كان ينبغي أن يقول : لأنت البيت الذي أكرم أهله فإن صنيعه يوهم أن البيت عند الكوفيين بمعنى الذي وهو باطل لم يقل به أحد وإنما الموصول مفهوم من اسم الجنس المعرف باللام إذا وقع بعده فعل أو ظرف أو مجرور .
الثاني : قوله لكنه موصول غير مبهم لم ينقله أحد عنهم ولو كان قولهم لما رد به البصريون عليهم كما يأتي .
الثالث : كون الجواب عند البصريين بجعل اللام للجنس والجملة المضارعية صفة للبيت غير منحصر فيه عندهم كما يأتي أيضاً .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أن الاسم المعرف باللام يوصل كالذي واستدلوا بقوله : لعمري لأنت البيت أكرم أهله ورد البصريون عليهم بأنه لا يجوز ذلك لأن الاسم الظاهر يدل على معنى مخصوص في نفسه وليس كالذي لأنه لا يدل على معنى مخصوص إلا بصلة توضحه لأنه مبهم وإذا لم يكن في معناه فلا يجوز أن يقام مقامه .
وأما البيت المذكور فلا حجة لهم فيه من وجهين : أحدهما : أن يكون البيت خبر المبتدأ الذي هو أنت وأكرم خبراً آخر .
والثاني : أن يكون البيت مبهماً لا يدل على معهود وأكر وصفاً له فكأنه قال :
____________________

لأنت بيت أكرم أهله كما تقول : إني لأمر بالرجل غيرك ومثلك وخير منك . انتهى .
واقتصر الخفاف في شرح الجمل على الخبرية فقال : لا حجة لهم فيه لاحتمال أن يكون خبراً ثانياً لأنت ويكون قوله : أنت البيت تعظيماً له أي : البيت المعظم بمنزلة قولك : أنت الرجل أي : الرجل العظيم . )
وقال ابن السيد في شرح سقط الزند : أكرم أهله عند الكوفيين صلة للبيت وعند البصريين جملة في موضع الحال أو في موضع خبر مبتدأ مضمر كأنه قال : أنا أكرم أهله ولو ظهر النصب في هذه الحال لقلت : مكرماً أهله أنا لأنها تصير حالاً جرت على غير من هي له فيلزم ظهور الفاعل المضمر والعامل في هذه الحال ما في قوله : لأنت البيت من معنى التعظيم كما أن العامل يا جارتا ما أنت جاره ما في قوله : ما أنت من معنى التعظيم . انتهى .
وأجاز ابن الأنباري أن يكون أكرم أهله صلة لموصول محذوف لا للبيت كأنه قال : لأنت البيت الذي أكرم أهله لكن الموصول حذف ضرورة .
وهذا الوجه جار على مذهب الكوفيين إذ يجيزون حذف الموصل دون صلته في غير ضرورة وهذا يأباه البصريون .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : لا يجوز أن تحذف الموصول وتدع الصلة لأنها تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول . ونظيره : أجمعون في التوكيد لا يجوز أن تذكره وتحذف المؤكد .
____________________


فإن قلت : لم لا يكون كالصفة والموصوف في جواز حذف الموصوف وذكر الصفة قيل : لم تكن الصلة كالوصف إذا كان مفرداً ألا ترى أن الوصف إذا كان مفرداً كان كالموصوف في الإفراد وإذا كان مثله جاز وقوعه مواقع الموصوف من حيث كان مفرداً مثله مع استقباح لذلك .
فأما الصلة فلا تقع مواقع المفرد من حيث كانت جملاً كما لم يجز أن تبدل الجملة من المفرد من حيث كان البدل في تقدير تكرير العامل والعامل في المفرد لا يعمل في لفظ الجملة .
فأما من تأول قوله : لعمري لأنت البيت أكرم أهله على تقدير : لأنت البيت الذي أكرم أهله وحذف الموصول فليس في البيت دلالة على هذا الذي تأوله وذلك أنه يجوز أن يكون أكرم أهله جملة مستأنفة معطوفة على الأولى ولم يحتج إلى حرف العطف لما في الثانية من ذكر ما في الأولى كقوله تعالى : أولئك أصحابُ النار هُم فيها خالدُون .
ويجوز أن يكون قوله : لأنت البيت على جهة التعظيم فأجرى عليه اسم الجنس لهذا كما تقول : أنت الرجل تريد به الكمال والجلد فكذلك يكون المراد بالبيت .
ألا ترى أنهم قد يقولون : له بيت وشرف : وإذا كان كذلك جاز أن يكون أكرم أهله في موضع )
حال مما في البيت من معنى الفعل كما أن علماً في قولك : أنت الرجل علماً وفهماً ينتصب عما في الرجل من معنى الكمال . وكما أن جارة في قوله : يا جارتا ما أنت جاره ينتصب عما في ما أنت من معنى التعظيم كأنه قال : كملت في جال علمك وبذك غيرك .
فإن قلت : فهل يجوز أن يكون البيت بدلاً من أنت ويكون أكرم في موضع خبر
____________________

المبتدأ كأنه قال : إذا أبدل البيت من أنت : أنت أكرم أهله أو البيت أكرم أهله قلت : إن قياس قول سيبويه عندي أنه لا يجوز هذا .
ألا ترى أنه لم يجز في قولهم : بي المسكين كان الأمر بدل المسكين من الياء . وإنما لم يجز ذلك لأن البدل إنما يذكر لضرب من التبيين فإذا لم يفد ذلك لم يستجز .
والمتكلم في غاية التخصيص والتبيين فلم يحتج لذلك فيه إلى بدل وإذا كان كذلك فالمخاطب في هذا كالمتكلم . انتهى كلام أبي علي ولكثرة فوائده نقلناه بجملته .
وقوله : لعمري اللام للابتداء وعمري : مبتدأ وخبره محذوف تقديره قسمي . أقسم بعمره .
وجملة : لأنت البيت الخ جواب القسم . وأكرم فعل مضارع وأهله مفعول .
وكتب بعض من عاصرناه في حاشيته على شرح القطر للفاكهي : كأن الداعي للكوفيين على جعل البيت اسماً موصولاً أنه لا يصح الإخبار به عن أنت على الظاهر بجعله اسماً معرفاً بأل .
ويمكن أن يجاب بأنه على حذف مضاف أي : أنت صاحب البيت ونحوه .
وقوله : أكرم فعل مضارع لأن الصلة لا تكون إلا جملة . فما في بعض النسخ من ضبطه على صيغة أفعل التفضيل وإضافته إلى أهله ليس كما ينبغي . هذا كلامه .
____________________


وهو من ضيق العطن وعدم الاطلاع على المعنى فإن البيت مستعمل في حقيقته والخطاب له فإن الشاعر وهو أبو ذؤيب الهذلي .
وتقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين بعد أن تغزل بأبيات خاطب دار حبيبته .
قال الإمام المرزوقي في شرح أشعار الهذليين : قوله : لعمري لأنت البيت الخ هذا رجوع من أبي ذؤيب إلى ذكر البيت لتعظيم شأن أهله . وأشار بقوله : وأقعد في أفيائه إلى ما كان يناله منهم فيدوم لذلك ملازمته له وحبه وإكرامه لسكانه .
قال : ويروى : وأجلس في أفيائه . ولا فضل بين أقعد وأجلس في المعنى وإن كان لكل منهما من )
التصرف ما يستبد به دون صاحبه .
ألا ترى أنه لا يقال مع القيام إلا القعود وأنه يقال للزمن : هو مقعد وبه قعاد ولا يبنى له من الجلوس مثل ذلك وأنه حكي عن أعرابي يصف رجلاً : هو كريم النحاس جميل الجلاس .
ويقال : فلان الجليس بمعنى النديم وهم جلساء الملك . ولم يكثر لهذا المعنى مثل هذا البناء من القعود وإن كان الخليل قد حكى : قعيد الرجل : جليسه . ونظائر هذا في اللغة كثيرة .
والبيت من قصيدة عدتها أربعة وعشرون بيتاً فلا بأس أن تشرح فإن فيها شواهد وهي هذه : الطويل ( أساءلت رسما الدّار أم لم تسائل ** عن السّكن أم عن عهده بالأوائل ) ( لمن طللٌ بالمنتضى غير حائل ** عفا بعد عهدٍ من قطارٍ ووابل )
____________________

( عفا بعد عهد الحيّ منهم وقد يرى ** به دعس آثار ومبرك جامل ) ( وإنّ حديثاً منك لو تبذلينه ** جنى النّحل في ألبان عوذٍ مطافل ) ( مطافيل أبكارٍ حديثٍ نتاجها ** يشاب بماءٍ مثل ماء المفاصل ) ( رآها الفؤاد فاستضلّ ضلاله ** نيافاً من البيض الحسان العطابل ) ( فإن وصلت حبل الصّفاء فدم لها ** وإن صرمته فانصرف عن تجامل ) لعمري لأنت البيت أكرم أهله . . . . . . . . . . . . البيت ( وما ضربٌ بيضاء يأوي مليكها ** إلى طنفٍ أعيا براقٍ ونازل ) ( تهال العقاب أن تمرّ بريده ** وترمي دروءٌ دونه بالأجادل ) ( تنمّى بها اليعسوب حتّى أقرّها ** إلى مألفٍ رحب المباءة عاسل )
____________________

( فلو كان حبلاً من ثمانين قامةً ** وتسعين باعاً نالها بالأنامل ) ( تدلّى عليها بالحبال موثّقاً ** شديد الوصاة نابلٌ وابن نابل ) ( إذا لسعته النّحل لم يرج لسعها ** وحالفها في بيت نوبٍ عوامل ) ( فحطّ عليها والضّلوع كأنها ** من الخوف أمثال السّهام النّواصل ) ( فشرّجها من نطفةٍ رجبيّةٍ ** سلاسلةٍ من ماءٍ لصبٍ سلاسل ) ( بماءٍ شنان زعزعت متنه الصّبا ** وجادت عليه ديمةٌ بعد وابل ) ( ويأشبني فيها الألاء يلونها ** ولو علموا لم يأشبوني بطائل ) ) ( ولم أنّ ما عند ابن بجرة عندها ** من الخمر لم تبلل لهاتي بناطل )
____________________

( فتلك التي لا يبرح القلب حبّها ** ولا ذكرها ما أرزمت أمّ حائل ) ( وحتّى يؤوب القارظان كلاهما ** وينشر في الهلكي كليبٌ لوائل ) قوله : أساءلت رسم الدار الخ المساءلة : مفاعلة تكون من اثنين وهذا اتساع على عادتهم .
والسكن : جمع ساكن مثل تاجر وتجر . وتقديره أساءلت رسم الدار عن السكن أم عن عهده بالوائل أم لم تسائل إذا جعلت عن السكن متعلقة بالفعل الأول .
خاطب نفسه على طريق التحزن والتوجع فقال : أباحثت رسم الدار فما وقفت عليها عن أخبار سكانها كيف انتقلوا وإلى اين صاروا أو عن مدة عهده بهم ومذ كم ارتحلوا ومتى ساروا أو لا .
والسؤال عن السكن أنفسهم غير السؤال عن مدة العهد بهم فلهذا فرق . والأوائل هم السكن ولكن فخم شأنهم بأن أعاد اسمهم الظاهر ولم يقل عن عهده بهم ودعته القافية إليه أيضاً .
وحسن ذلك لما لم يهجنه التكرير اختلافهما .
ويجوز أن يريد بالسكن الوحش التي استبدلتها من قطانها قبل وتلك الحالة من الدار مما يزيد ( يعزّ عليّ أن يرى عوض الدّمى ** بحافاته هامٌ وبومٌ وهجرس ) وقوله : لمن طلل الخ هذا وجه آخر من التحزّن كأنه استنكر أن تكون دارهم بالحالة التي رآها فجعل سؤاله سؤال من لا يثبتها تعظيماً للأمر . والمنتصي : ملتقى الواديين حيث يناصي أحدهما صاحبه .
وقال الباهلي : المنتصي : موضع . وروى أبو عمرو : المنتضي بالضاد معجمة وقال : هو موضع .
وقوله : غير حائل قال الباهلي : أراد عفا بعد عهد من قطار ووابل ولم يمر حول . والمشهور أن يقال : أحال الشيء . إذا أى عليه حول
____________________

إلا أن بعضهم حكى أن حال لغة فيه .
ويجوز أن يكون حائل بمعنى متغير يقال : حال الشيء واحتال إذا تغير كأنه كان دارس البعض باقي البعض فلم يعد ذلك تغيراً كاملاً ومتى كانت الرسوم بهذه الصفة ذكرت العهود أشد وجددت الغموم أجد .
ولذلك تمنى بعض الشعراء شمول الدروس عليها ليستريح منها فقال : الوافر ( ألا ليت المنازل قد بلينا ** فلا يرمين عن شزن حزينا ) )
وقوله : بعد عهد يجوز أن يريج بعد إلمام ويجوز أن يكون مصدر عهدت الروضة إذا أتى عليها العهد وهو كل مطر بعد مطر وجمعه عهاد .
وقوله : عفا بعد عهد الحي الخ ابتدأ يبين كيف عفا والمعنى : عفا الطلل والمكان بعد أن كان للحي فيه عهد .
والعهد : المنزل الذي لا يزالون إذا بعدوا عنه يرجعون إليه كأنهم تركوا النزول به وفارقوه فعفا يريد عفا منهم بعد عهدهم أي : بعد أن كانوا يعهدونه وقد بقي من آثارهم ومبارك إبلهم ما يستدل به على أنه ربعهم .
والدعس : شدة الوطء . وقال أبو نصر : هو تتابع الآثار . والجامل : اسم للجمع يقع على الذكور والإناث كالإبل وإن كان من لفظ الجمل .
وقوله : عفا غير نؤي الخ عفت آثار الدار وانمحت إلا نؤياً لا يستبان منها وأقطاعاً من خوص المقل تمزقت لقدمها فتفرقت في الساحات وكثرت بترديد الرياح لها . .
____________________


والنؤي : حاجز يمنع به السيل عن البيت والطفي واحدتها طفية . ومعنى عفا : درس . وعفت في المعاقل : كثرت . وهذا من الأضداد يقال : عفا المكان إذا درس عفاءً وعفواً وعفته الرياح عفاء وعفواً . وعفا الشيء عفواً : كثر وعفوته أنا . والمعاقل : جمع المعقل وهو ها هنا المنزل الذي نزلوه وحفظوا ما لهم فيه . والعقل : الحفظ .
وقوله : وإن حديثاً منك الخ ترك وصف الدار ودروسها وعطف إلى خطابها يغازلها . يقول : إن حلاوة حديثك لو تفضلت به حلاوة العسل مشوباً باللبن . والجنى أصله الثمر المجتنى فاستعاره . والعوذ : الحديثات النتاج واحدها عائذ .
ومطافل : جمع مطفل وهي التي معها طفلها . وإنما نكر قوله حديثاً منك ليبين أن موقع كلامها منه على كل وجه ذلك الموقع . ودل بقوله : لو تبذلينه على تمنعها وتعذر ذلك من جهتها .
وقوله : مطافيل أبكار الخ مطافيل بدل من قوله عوذ مطافل وأشبع في الفاء للزومها فحدثت الياء . والأبكار : التي وضعت بطناً واحداً لأن ذلك أول نتاجها فهي أبكار وأولادها أبكار ولبنها أطيب وأشهى فلذلك خصه وجعله مزاجاً .
ويشاب صفة لألبان أي : مشوبة بماء متناه في الصفاء . وقيل في المفاصل إنها المواضع التي ينفصل فيها السهل من الجبل حيث يكون الرضراض فينقطع الماء به ويصفو إذا جرى فيه . )
وهذا قول الأصمعي وأبي عمرو . واعترض عليه فقيل : هلا قال بماء من مياه المفاصل وماله يشبهه به ولا يجعله منه فقيل : هذا كما يقال مثل فلان لا يفعل كذا والمراد أنه في نفسه لا يفعل لأنه أثبت له مثل ينتفي ذلك عنه .
ألا ترى أنه لو جعل ذلك لنظيره لكان المدح لا يعلق به وقد علم أن القصد إلى مدح . وعلى هذا قد حمل قوله تعالى : ليس كمثله شيء .
____________________


وقال أبو نصر : أراد بالمفاصل مفاصل الجبل حيث يقطر الوشل وذلك أصفى من مياه المناقع والعيون .
وقيل : أراد يشاب بماء كالدمع صفاء فالمفاصل شؤون الرأس وهي تسمى مفاصل ومواصل والدمع منها يخرج . وهذا كما يقال : جئتك بخمرة كماء العين وأصفى من الدمع فالتشبيه حاصل في هذا الوجه وهو عندي حسن والمراد بماء العين الدمع لا غير .
وقال أبو سعيد : ماء المفاصل الدم وأراد بالماء الخمر وشبهها به . وقال ابن الأعرابي : ماء المفاصل ماء اللحم التي شبه حمرته بحمرته . وعهدة هذين القولين عليهما .
وقوله : رآها الفؤاد الخ أضاف الرؤية إلى الفؤاد تحقيقاً للأمر لأن العين رائد القلب فكأنها أدركت بالعين أولاً ثم تؤولت بالفكر في محاسنها ثانياً فتمكن الحب بإعادة النظر وبسط الفكر .
وقوله : فاستضل ضلاله قال الأصمعي : هو كما يقال : جن جنونه . وكشف هذا أن للنفس شهوةً في المستحسنات قد تضل بها عندها فتسمى تلك الشهوة ضلالاً لكونها سبباً فيه ثم إذا غلب عليها شيء يستتبع تلك الشهوة قيل استضل ضلال فلان أي : طلب منه أن يضل فضل .
وقال بعضهم : أراد استزيد ضلاله أي : زيد ضلاله ضلالاً كأنه لما تفكر في محاسنها وقال الأخفش : هذا كما يقال : خرجت خوارجه والمعنى دواخله فسماها بما آلت به فكذلك أراد استضل رشاده فقال : ضلاله لرجوعه إليه . ومثله : البسيط يدعون حمساً ولم يرتع لهم فزع أي : لم يرتع أمنهم . وهذا كثير .
وقوله : نيافاً نصب على الحال . والنياف : الطويلة المشرفة ومنه أناف
____________________

على كذا أي : أشرف .
والعطابل : جمع عطبول بحذف الزيادة منه كأنه كان عطبلاً وهي الطويلة الأعناق . )
وقوله : فإن وصلت حبل الخ يسأل عن موقع هذا الكلام مما قبله وعن زهده المسرف في هذا البيت بعد ضلاله المفرط في البيت المتقدم وكيف وجه التئامهما على تقاربهما وهل يجوز أن يتجلد في هذا ثم يقول بعقبه : لعمري لأنت البيت أكرم أهله والجواب أن هذا وفق ما تقدمه وغير مخالف له لكنه أظهر الاستسلام لها ولرأيها فإن وصلت حبله دام على مصافاتها لا يشرك أحداً في ودها وإن صرمت وده وقف عند محدودها في الانصراف ومرسومها لا يستعمل منكراً ولا يتعاطى رفثاً ولا هجراً .
وهذا من الآداب المحمودة فيما يجري عليه المتحابان . ويدل على ما قلنا إن أبا ذؤيب أمر نفسه بالدوام إن رأت الوصل والدوام على الوصل زيادة عليه وثبات فيه وبالانصراف عنها على أجمله إن رأت الصرم إلى أن ترى غيره . وإذا كان الأمر كذلك فما أظهر زهداً فيها .
وقوله : وما ضرب بيضاء الخ عاود وصف المرأة . والضرب : الشهدة ويقال : استضرب العسل إذا خثر فصلب . وهو ضرب وضريب . والعسل في لغتهم مؤنثة فلذلك قال بيضاء .
وقوله : يأوي مليكها أراد به اليعسوب وهو قائد النحل وأضاف المليك إلى العسل توسعاً وإنما هو مليك النحل المعسلة . والطنف بفتح الطاء وضمها : حيد نادر من الجبل . والمعنى : ما عسل بيضاء يأوي نحلها إلى أنف من الجبل يعيي الراقي إليه والنازل منه .
وقوله : تهال العقاب الخ قال الباهلي : الريد : شمراخ في الجبل . وقال أبو نصر : الريد : ما نتأ من الجبل فخرج منه حرف . والدروء : جمع الدرء وهو الحيد يدفع ما يلاقيه . ومنه تدارأ الرجلان إذا تدافعا .
وقال الأصمعي : هو الأنف المعوج . والمعنى : أن ذلك الجبل تهاب العقاب من المرور بحرفه لإشرافه وعلوه واعوجاج أطرافه وأنوفه .
____________________


وقوله : تنمى بها اليعسوب الخ ضمير بها للنحل ولم يجر لها ذكر لأنه يستدل عليها بالقصة .
يعني أن اليعسوب يرتفع بالنحل حتى يسكنها في مجمع لها ألفته واسع ذي عسل .
وإنما قال هذا لأن النحل تتبع قائدها فتطير بطيرانه وترجع برجوعه . والمباءة : مرجع الإبل ومبيتها الذي تتبوأ فيه وتأوي إليه فاستعاره ها هنا .
وقوله : أقرها إلى مألف عداه بإلى لأنه في معنى آواها وألجأها وهم يحملون النظير في التعدية )
على النظير والنقيض على النقيض كثيراً .
وقوله : فلو كان حبلاً من ثمانين البيتين الضمير المؤنث في نالها وعليها للخلية المفهومة من المقام وفاعل نالها . شديد الوصاة وجملة تدلى : حال بتقدير قد والتقدير : نالها بالأنامل شديد الوصاة نابل وابن نابل متدلياً عليها بالحبال . ويكون موثقاً حالاً من الضمير في تدلى .
ويجوز أن تكون جملة تدلى اعتراضاً بين الفعل والفاعل ويحسن الاعتراض أنه تفسير لنيل المشتار للعسل كيف كان وعلى أي وجه توصل .
وروى تقديم بيت تدلى عليها على بيت فلو كان حبلاً وبه يحسن الانتظام ويصير قوله فلو كان حبلاً من ثمانين قامة واقعاً في موقعه وبياناً لحذق المشتار وحسن تأتيه فيما يعانيه حتى لا يمتنع عليه شاق منيع . وعليه يكون شديد الوصاة فاعل تدلى وموثقاً حال .
قال الأصمعي : أراد بشديد الوصاة الشديد الحفاظ بما أوصي به . قال أبو نصر : بيانه شديد عند الوصاة لا يسترخي فيها ولا يتجوز .
وقوله : نابل وابن نابل أي : حاذق وابن حاذق يعني أنه ورث صناعته عن أسلافه ثم نشأ عليها وبرع فيها .
____________________


وقوله : فلو كان حبلاً تقديره : لو كان الحبل الذي تدلى به حبلاً طوله ثمانون قامة وتسعون باعاً .
والمعنى تدلى عليها ولو كانت أشق منها مطلباً وأبعد منالاً لاحتال فيها حتى ينالها بيده .
وقوله : إذا لسعته النحل الخ يروى : إذا لسعته الدبر وهو كالنحل وزناً ومعنى .
يقول : إذا لسعت النحل هذا المشتار لم يخف لسعها ولم يبال بها ولازمها في بيتها حتى قضى وطره من معسلها . ومعنى لم يرج لم يخف من قول الله تعالى : إنّهم كانوا لا يَرْجُونَ حِسَاباً .
وكما وضعوا الرجاء موضع الخوف وضعوا الخوف موضع الرجاء .
وقوله : وحالفها قال الأصمعي : أي : صار حليفها في بيتها وهي نوب . ولم يرد حالفها في بيت غيرها .
وروى أبو عمرو : وخالفها بالخاء معجمة . قال : يريد جاء إلى عسلها من ورائها لما سرحت في المراعي . والنوب : النحل ولا واحد له .
وقال ابن الأعرابي : هو جمع نوبي سموها بذلك لسوادها . وقال الأصمعي : هو جمع نائب كعائذ وعوذ . يريد أنها تختلف وتجيء وتذهب أي : تنتاب المراعي ثم تعود . وعوامل أي : )
وقوله : فحط عليها الخ يقول : انحدر المشتار على الخلية والقلب يجب والحشاء تضطرب خوفاً مما يكابده في التدلي حتى كأن ضلوعه سهام لا نصال لها رمي بها فطاشت وقلقت .
والسهم الناصل : الذي سقط نصله أو قلق يقال : نصلت السهم إذا ركبت عليه النصل وأنصلته فنصل إذا نزعت نصله .
وقوله : فشرجها من الخ أي : جعل العسل شريجين أي : خليطين بالمزاج الذي صبه عليها وكل واحد من الخليطين شريج . والنطفة : الماء .
____________________


وإنما نسبها إلى رجب لأن رجب وجمادى كانا في زمانهم من شهور الشتاء . والسلاسلة بالضم : التي تتسلسل في الحلق لصفائها وعذوبتها وسهولة صفاء مدخلها .
وجعلها من ماء لصب بكسر اللام وهو شق في الجبل ليدل على أنها من ماء المطر وأنه تنقل في مضايق الطرق وتقطع بمدارج الشقوق والنقر فتزيل الكدورة عنه وتسلسل في جريه ومروره حتى تناهى في مقره وربد بالريح في مستنقعه فقوله : سلاسل صفة لماء لصب وأراد به رقته وسرعة مره في مجاريه من المسايل والمناقع .
وقوله : بماء شنان الخ رواية الأصمعي بتنوين ماء وإجراء شنان وصفاً له . قال أبو نصر : وهو أحب إلي . والشنان بضم المعجمة : البارد ينشن من الجبل انشناناً . ومنه شن عليه الغارة .
وروى أبو سعيد : بماء شنان على الإضافة قال : والشنان بكسر المعجمة : جمع الشنة وهي القربة الخلق والماء فيها أبرد .
وقوله : زعزعت متنه أي : أعلاه . وقوله : وجادت عليه الخ القصد فيه إلى تكثير الماء حتى يكون أصفى .
وقوله : بأطيب من فيها الخ هذا خبر ما في قوله : وما ضرب بيضاء . وإذا جئت ظرف لطارقاً وإذا نامت ظرف لأشهى . والمراد : وأشهى من فيها إذا نامت .
والمشار إليه بإذا نامت غير المشار إليه بإذا جئت يدلك أن الوقت الذي يجيء فيه طارق يجوز أن يكون من أول الليل ومن أوسطه وآخره فإن الوقت الذي ينام فيه كلاب الأسافل يكون معلوماً متميزاً عن ساعات الليل .
وقد اختلف فيه فقال بعضهم : هو أول الصبح لأن الكلاب إذا تحرك الناس تنام وتسكن ومثله قول أبي ذؤيب في أخرى : الوافر )
____________________

( بأطيب من مقبّلها إذا ما ** دنا العيّوق واكتتم النّبوح ) وقيل الأسافل مراد به أسافل الحي لأن مواشيهم لا تبيت بل لها مباءة على حدة فرعاتها لا ينامون إلا آخر من ينام لأن منهم من يربق ومنهم من يحلب وكلابهم تحرس معهم فلا تنام إلا وقال الباهلي : الحواء يكون فيه الوجوه والأسافل يكون فيه الرعاء . وهذا كالبيان الأول .
وقال أبو سعيد : الأسافل سفلة الناس ويعني بهم هنا الرعاة وليس يراد به أسافل البيوت .
وقال الأخفش : الرواية كلاب المسافل يعني المواضع التي تسفل الناس فيها . يقال : أتيت المسفل من مكة وأتيت المعلى منها وهي مسافلها ومعاليها والمعنى على جميع هذه الوجوه أن فمها أشهى مما وصفه إذا خلفت الأفواه وتغيرت .
وقوله : ويأشبني فيها الخ يأشبني : يلطخني ويقذفني . يقال : أشبه بشيء إذا قذفه به . والألاء : اسم موصول بمعنى الذين . وعلم هنا بمعنى عرف يقول : لو عرفوا قصتي معها مع تمنعها لم يقولوا إني أصبت منها طائلاً .
والطائل : ما له فضل وقدر . وروي : بباطل والمعنى : لتحرجوا من قذفي بالباطل ويلونها : يقربونها .
وروي : الألى لا يلونها أي : الغرباء دون أهل بيتها .
وقوله : ولو أن ما عند الخ ابن بجرة بضم الموحدة وسكون الجيم : خمار معروف كان بالطائف .
والناطل هنا : جرعة من ماء أو لبن أو نبيذ ويأتي بمعنى المكيال للخمر وليس مراداً هنا .
وأبلغ من هذا : الطويل
____________________

وقوله : فتلك التي لا يبرح الخ ما مصدرية ظرفية وأرزمت بتقديم المهملة : حنت . والحائل : الأنثى من أولاد الإبل .
والسقب : الذكر . والمعنى : تلك المرأة التي وصفتها هي التي لا يفارقني حبها وذكرها أبداً .
وقوله : حتى يؤوب القارظان الخ المعنى : لا يفارقني حبها حتى يكون ما لا يكون .
القارظان أحدهما القارظ العنزي وهو يذكر بن عنزة بن أسد بن ربيعة كان يعشق ابنته فاطمة خزيمة بن نهد فطلبها من أبيها فلم يزوجها ثم خرج يذكر وخزيمة يطلبان القرظ وهو ورق تدبغ به الجلود الطائفية ومرا بقليب فاستقيا فسقطت الدلو فنزل يذكر ليخرجها فلما صار في البئر منعه الحبل وقال : زوجني فاطمة . )
فقال : أما على هذه الحالة اقتساراً فلا أفعل ولكن أخرجني حتى أزوجك . فامتنع وجعل يسأله ويأبى حتى هلك فيها .
والقارظ الثاني : رجل من النمر بن قاسط خرج يبغي قرظاً فأبعد فنهشته حية فقتلته فضرب المثل برجوعه فيما لا يكون .
قال عمارة بن عقيل : الطويل ( لأجزر لحمي كلب نبهان كالذي ** دعا القاسطيّ حتفه وهو نازح ) كذا ذكر المبرد أن القاسطي أحد القارظين هذا لخصته من شرح أشعار الهذليين للإمام المرزوقي .
وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال : القارظ الثاني : اسمه هميم وقيل عقبة وكان من عنزة أيضاً وكان يتصيد الوعول ويدبغ جلودها بالقرظ فعرض له في بعض الجبال ثعبان فنفخه نفخة فوقع منها ميتاً . انتهى .
____________________


وأما الميداني في مجمع أمثاله فقد قال : القارظ الثاني ليس له حديث غير أنه فقد في طلب القرظ واسمه هميم . والله أعلم بالصواب .
وأنشد بعده : ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني وتقدم الكلام عليه في الشاهد الخامس والخمسين من باب المبتدأ والخبر .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع عشر بعد الأربعمائة : الوافر ( وليس المال فاعلمه بمال ** وإن أغناك إلاّ للذيّ ) على أن كسرة الياء المشددة من الذي كسرة بناء .
والبيتان كذا رواهما ابن الشجري في المجلس الرابع والسبعين من أماليه . وقوله : بمال خبر ليس والباء زائدة وجملة : فاعلمه معترضة وكذلك جملة وإن أغناك معترضة وإن وصلية ونقل شارح شواهد الموشح عن بعضهم أنها نافية والمستثنى منه محذوف تقديره لأحد . وجملة : يريد بفاعله المستتر صلة الذي .
____________________


وروى بدله : ينال به . ويصطفيه معطوف على يريد . والعلاء : بفتح العين والمد : مفعول يريد وهو بمعنى الرفعة والشرف . ويصطفيه بمعنى يختاره .
وقوله : لأقرب : متعلق بيصطفيه . وإضافة أقرب إلى أقربيه كقولهم : أعلم الأعلمين . والقصي : البعيد .
يقول : ليس المال في الحقيقة مالاً لأحد إلا للذي يريد بسببه علو الدرجة في المجد ويختاره للقريب والبعيد .
وروى البيت الثاني الخفاف في شرح الجمل كذا : ( تحوز به العلاء وتصطفيه ** لأقرب أقربيك وللصّفيّ ) بالخطاب في المواضع الثلاثة . ( وليس المال فاعلمه بمالٍ ** من الأقوام إلاّ للذيّ ) ( يريد به العلاء ويمتهنه ** لأقرب أقربيه وللقصيّ ) وعليها فجزم يمتهنه ضرورة وهو من امتهنت الشيء بمعنى أهنته وحقرته .
والبيتان لا علم لي بقائلهما . والله أعلم .
وأنشد بعده
الشاهد العشرون بعد الأربعمائة الرجز ( واللّذ لو شاء لكنت صخراً ** أو جبلاً أشمّ مشمخرّا ) على أن حذف الياء من الذي والاكتفاء بكسر الذال لغة . والأشم من الشمم وهو الارتفاع .
والمشمخر : العالي المتطاول وقيل الراسخ .
____________________


وهذا ما رواه الخفاف وغيره ورواه ابن الشجري في أماليه وابن الأنباري في مسائل الخلاف : ( واللّذ لو شاء لكانت برّاً ** أو جبلاً أصمّ مشمخرّا ) قال شارح شواهد الموشح : ضمير كانت للدنيا أو الأرض . والبر : خلاف البحر . والمعنى هو الذي لو شاء أن يكون براً لكان براً ولو شاء أن يكون جبلاً . انتهى .
ولا أعلم قائل هذا البيت أيضاً وعلمه عند الله .
نهاية الجزء الخامس من تقسيم محققه
____________________

وأنشد بعده الشاهد الحادي والعشرون بعد الأربعمائة كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا على أن حذف الياء من الذي وتسكين الذال لغة . قال ابن الأنباري في المقصور والممدود : زبي وجمعها زبية وهي أماكن تحفر للأسد . أنشد الفراء : ( فكنت والأمر الذي قد كيدا ** كاللذ تزبى زبيةً فاصطيدا ) والزبى : أماكن مرتفعة يقال في المثل : قد بلغ الماء الزبى .
____________________

قال العجاج : قد بلغ الماء الزبى فلا غير وقد أخذه القالي في المقصور والممدود وزاده . قال : ومن أمثالهم : قد بلغ السيل الزبى يقال ذلك عند شدة الأمر . ومنه حديث عثمان : أما بعد فقد بلغ السيل الزبى . ويقال : إن النمل إذا أحست بندى الأرض ترفعت إلى زباها خوفا من السيل فيستدل بذلك من فعلها على كثرة المطر وخصب السنة . قال الكميت الطويل : انتهى . وقال أبو فيد مؤرج بن عمرو السدوسي في أمثاله : وتقول العرب : قد بلغ السيل الزبى وهو أن يبلغ الأمر منتهاه . والزبية غير القترة . الزبية تحفر للأسد فيصاد فيها وهي ركية بعيدة )
القعر إذا وقع فيها لم يستطع الخروج منها لبعد قعرها يحفرونها ثم يوضع عليها لحمٌ وقد غموها بما لا يحمله فإذا أتى اللحم انهدم غطاء الزبية . وأما القترة والناموس والبرأة فأنها حفيرة يحتفرها القانص على موارد الوحش ويطرح عليها الشجر فإذا وردت رمى من قريب . والزبية لا يستطيع أحدٌ نزولها لبعدها والرمي فيها أبعد من أن يرى إذا دخلها شيء . حدثني سعيد بن السماك بن حرب عن أبيه عن حنش بن المعتمر قال : أتي معاذ بن جبل بثلاثة نفر قتلهم أسدٌ في زبية . فلم يدر كيف يفتيهم فسأل علي بن
____________________

أبي طالب فقال : قصوا علي خبركم .
قالوا : صدنا أسداً في زبية فاجتمعنا عليه فتدافع الناس عليها فرموا برجل فيها فتعلق الرجل بآخر وتعلق الآخر برجل آخر فهوى فيها ثلاثتهم . فقضى فيها : أن للأول ربع الدية وللثاني النصف وللثالث الدية كلها . وروى البيت الأول ابن ولاد في المقصور والممدود : فظلت في الأمر الذي قد كيدا يقول : ظللت في شرٍّ من الذي كدت في حقه كالذي عمل حفرة ليصطاد فيها فاصطيد وأخد .
وفي هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : من حفر بئراً لأخيه يوشك أن يقع فيها . وروى ولا تكونن من اللذ كيدا وهو ماضٍ مجهول من الكيد . وتزبى : معناه حفر زبية بضم الزاي المعجمة وسكون الموحدة وجمعها زبىً . وأما الربا بضم الراء المهملة فجمع ربوة مثلثة الراء وهي ما ارتفع من الأرض .
وهذا من رجزٍ أورده السكري في أشعار الهذليين لرجل من هذيل وهو : ( أريت إن جاءت به أملودا ** مرجلاً ويلبس البرودا ) أي : إن جاءت به ملكاً أملوداً أملس . ولا ترى مالاً له معدودا أي : لا يعد ماله من وجوده . ( أقائلون أعجلي الشهودا ** فظلت في شرٍّ من اللذ كيدا )
____________________

كاللذ تزبى صائداً فصيدا ويروى : فاصطيدا . وتزبى زبية : حفر زبية . يقول : أرأيت إن ولدت هذه المرأة رجلاً هذه صفته أيقال لها : أقيمي البينة أنك لم تأتي به من غيره . هذا ما أورده السكري . ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في نون التوكيد من آخر الكتاب . وأنشد بعده )
الشاهد الثاني والعشرون بعد الأربعمائة ( فقل للت تلومك إن نفسي ** أراها لا تعوذ بالتميم ) على أن الياء حذفت من التي وسكن تاؤها . هذا البيت أنشده ابن الشجري في أماليه عن الفراء وقال : التميم : جمع تميمةٍ وهي التعويذ .
____________________

وأنشد بعده الشاهد الثالث والعشرون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س الوافر : ( أبني كليبٍ إن عمي اللذا ** قتلا الملوك وفككا الأغلالا ) على أن حذف النون من قوله اللذا وأصله اللذان تخفيفاً لاستطالة الموصول بالصلة . هذا قول البصريين . وأما الكوفيون فحذف النون عندهم لغة في إثباتها أطالت الصلة أم لم تطل .
حكاه عنهم ابن الشجري في أماليه . قال سيبويه : قال رجلٌ من الأنصار المنسرح : ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) لم يحذف النون للإضافة ولا ليعاقب الاسم النون ولكن حذفوها كما حذفوها من اللذين والذين حين طال الكلام وكان الاسم الأول منتهاه الاسم الآخر . وقال الأخطل : أبني كليب إن عمي اللذا البيت
____________________

لأن معناه الذين فعلوا يعني : الحافظو عورة العشيرة وهو مع المفعول . بمنزلة اسم مفرد لم يعمل ( و إن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد ) انتهى . والبيت من قصيدة للأخطل يفتخر بقومه ويهجو جريراً . والألف للنداء وبنو كليب بن يربوع : رهط جرير . فخر الأخطل على جرير بمن اشتهر من قومه من بني تغلب وساد كعمرو بن كلثوم التغلبي قاتل عمرو بن هندٍ ملك العرب وعصم أبي حنش قاتل شرحبيل بن عمرو بن حجر وغيرهم من سادات تغلب . والأغلال : جمع غل وهو طوقٌ من حديد يجعل في عنق الأسير وقد يكون من قدٍّ وعليه شعر فيقمل على الأسير ومنه قيل للمرأة السيئة الخلق : غلٍّ قملٌ بفتح القاف وكسر الميم أي : ذو قمل . أي : إن عميه يفكان الغل من عنق الأسراء وينجونهم من أسر أعدائهم قسراً عليهم . قال السكري في شرح ديوان الأخطل : أحد عميه أبو حنش عصم بن النعمان قاتل شرحبيل بن الحارث بن عمرو بن آكل المرار يوم الكلاب
____________________

الأول .
والآخر دوكس بن الفدوكس بن مالك بن جشم بن بكر بن حبيب بالتصغير . وبعده : ) ( وأخوهما السفاح ظمأ خيله ** حتى وردن جبا الكلاب نهالا ) الكلاب بضم الكاف : اسم ماءٍ فيما بين البصرة والكوفة على بضع عشرة ليلةً و من اليمامة على سبع ليالٍ أو نحوها . والجبا بكسر الجيم بعدها موحدة قال السكري : السفاح اسمه سلمة بن خالد بن برة القنفذ وهو كعب بن زهير من بني تيم بن أسامة بن بكر بن حبيب وإنما سمي السفاح لأنه لما دنا من الكلاب عمد إلى مزاد أصحابه فشققها وسفح ماءها وقال : لا ماء لكم إلا ماء القوم فقاتلوا عنه وإلا فموتوا عطاشا . انتهى . وللعرب وقعتان على الكلاب يقال لهما : يوم الكلاب الأول ويوم الكلاب الثاني . وقد تقدم شرح الكلاب الثاني في الشاهد الخامس والستين وهذا شرح اليوم الأول باختصار . قال الإمام العسكري في كتاب التصحيف : أما اليوم الأول فكان في الجاهلية لبني تغلب وعليهم سلمة بن الحارث الكندي ومعهم ناسٌ من بني تميم قليلٌ وفيهم سفيان بن مجاشع . وكانت تميمٌ يومئذ فرقتين : فرقةٌ مع تغلب وفرقة مع بكر بن وائل . فلقي سلمة بن الحارث بن عمرو أخاه شرحبيل بن الحارث ومع شرحبيل بكر بن وائل
____________________

وبعض بني تميم فهزم أصحاب شرحبيل وقتل شرحبيل . قال ابن الكلبي : شرحبيل بن حارث الكندي من ولد حجر آكل المرار : ملك بني تميم وسلمة بن الحارث ملك بني تغلب . انتهى . وقد تجوز الأخطل في جعل أبي حنشٍ ودوكسٍ عميه مع أنهما من أعمام آبائه كما تجوز في جعل السفاح أخاً لهما . والصواب ما قاله ابن قتيبة في ترجمة ابن كلثوم من كتاب الشعراء : يعني بعميه عمراً ومرة ابني كلثوم فإن عمراً قتل عمرو بن هند ومرة قتل المنذر بن النعمان بن المنذر .
ولذلك قال الفرزدق لجرير : ( ما ضر تغلب وائلٍ أهجوتها ** أم بلت حيث تناطح البحران ) انتهى . ونقل ابن المستوفي عن الخوارزمي أنه قال : في حاشية نسختي من المفصل : يعني بعميه ابن هبيرة التغلبي والهذيل بن عمران الأصغر . قال : سئلت كيف يكونان عميه وأحدهما ابن عمران والآخر ابن هبيرة أجبت بأنه يحتمل أن يكون أحدهما عمه والآخر عم أبيه أو جده .
وكلاهما يسمى عماً . انتهى . وقال ابن خلف : عماه أبو حنش وأخوه أو رجل آخر من قومه غير أخي أبي حنش . وقيل : عمه الآخر عمرو ابن كلثوم . انتهى . وأول القصيدة نسيبٌ وهذا مطلعها : ( كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ** غلس الظلام من الرباب خيالا )
____________________

) ( وتعرضت لك بالأبالخ بعدما ** قطعت بأبرق خلةً ووصالا ) ( وتغولت لتروعنا جنيةً ** والغانيات يرينك الأهوالا ) ( يمددن من هفواتهن إلى الصبا ** سبباً يصدن به الرجال طوالا ) ( ما إن رأيت كمكرهن إذا جرى ** فينا ولا كحبالهن حبالا ) ( المهديات لمن هوين مسبةً ** والمحسنات لمن قلين مقالا ) ( يرعين عهدك ما رأينك شاهداً ** وإذا مذلت يصرن عنك مذالا ) ( وإذا وعدنك نائلاً أخلفنه ** ووجدت عند عداتهن مطالا ) ثم بعد أربعة أبيات من هذا النمط قال : أبني كليب أن عمي اللذا البيت وذكر ثلاثة أيام أخر مما أوقع بنو تغلب ببني تميم وهي يوم الكحيل بالتصغير ويوم الشرعبية ويوم إراب . وكان السبب في يوم الكلاب أن الحارث بن عمرو الكندي جد امرئ القيس الشاعر ملك المدر والوبر أربعين سنة وقيل ستين سنة وقد كان فرق بينه في قبائل معدٍّ قبل موته فجعل حجراً وهو أبو امرئ القيس في بني أسد وكنانة وكان أسن ولده . وجعل شرحبيل في بكر بن وائل وبني حنظلة بن مالك وبني أسيد بن عمرو ابن تميم وطوائف من بني عمرو بن تميم والرباب وجعل ابنه معدي كرب في قيس عيلان وجعل سلمة وهو أصغرهم في بني تغلب والنمر بن قاسط
____________________

وبني سعد بن زيد مناة . فلما هلك أبو هم الحارث بن عمرو تشتت أمرهم وتفرقت كلمتهم ومشت الرجال بينهم وتفاقم أمرهم حتى جمع كل واحدٍ منهم لصاحبه الجموع وزحف إليه بالجيوش فسار شرحبيل فيمن معه فنزل الكلاب وأقبل أخوه سلمة فيمن معه من بني تغلب وسعدٍ وغيرهما وكان على بني تغلب السفاح المذكور فالتقى القوم فاقتتلوا قتالاً شديداً حتى إذا كان في آخر النهار خذلت بنو حنظلة وعمرو بن تميم والرباب وانصرف بنو سعد وصبر ابنا وائل : بكر وتغلب وليس معهم أحدٌ غيرهم حتى غشيهم الليل فنادى منادي شرحبيل : من أتاني برأس سلمة فله مائة من الإبل . ونادى منادي سلمة كذلك . ولما انهزم بنو حنظلة مع من ذكرنا خرج معهم شرحبيل ولحقه ذو السنينة كانت له سنٌّ زائدة فسمي بذلك فضربه شرحبيل على ركبته فأطن رجله وكان ذو السنينة أخا أبي حنش لأمه فقال ذو السنينة : يا أبا حنش قتلني الرجل وهلك ساعته . فقال أبو )
حنش : قتلني الله إن لم أقتله فحمل أبو حنش على شرحبيل فأدركه والتفت إليه فقال : يا أبا حنش اللبن اللبن قال : قد هرقت لبناً كثيراً . فقال : يا أبا حنش أملكا بسوقة فقال : إنه كان ملكي . فطعنه فألقاه فاحتز رأسه فبعث به مع ابن عم له إلى سلمة فطرحه بين يديه فقال سلمة : لو كنت ألقيته إلقاءً رفيقاً فقال : ما صنع به وهو حيٌّ شرٌّ من هذا وعرف القوم الندامة في وجهه واجزع على أخيه فهرب أبو حنش فقال سلمة : ( ألا أبلغ أبا حنشٍ رسولاً ** فما لك أن تجيء إلى الثواب ) ( تعلم أن شر الناس طراً ** قتيلٌ بين أحجار الكلاب ) فأجابه أبو حنش :
____________________

( أحاذر أن أجيئك ثم تحبو ** حباء أبيك يوم صنيبعات ) ( وكانت غدرةً شنعاء نهفو ** تقلدها أبوك إلى الممات ) وقوله : كذبتك عينك إلخ خطابٌ لنفسه وفيه حذف ألف الإستفهام أي : أكذبتك . وبه استشهد بعضهم . وأورده ابن هشام في المغني على أن أبا عبيدة قال : إن أم تأتي للإستفهام المجرد عن الإضراب وقال : إن المعنى في البيت هل رأيت وفي تفسير ابن جرير عند قوله تعالى : أم تريدون أن تسألوا رسولكم قال : أم هنا على الشك ولكنه قاله ليقبح به صنيعهم كقول الأخطل : كذبتك عينك البيت . والرباب : اسم امرأة . و واسط هذه : قرية غربي الفرات مقابل الرقة من أعمال الجزيرة . والخابور : قرب قرقيسياء وهي من منازل بني تغلب وليست واسط هنا واسط التي بناها الحجاج بين البصرة والكوفة خلافاً لشارح شواهد المغني . نقل ياقوت في معجم البلدان عن الأسود أبي محمد الغندجاني قال : أخبرني أبو الندى قال : للعرب سبعة أواسط : واسط نجد وواسط الحجاز وواسط الجزيرة . قال الأخطل : كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ البيت وواسط اليمامة وواسط العراق وهي التي بناها الحجاج في سنة أربع وثمانين وفرغ منها في ست وثمانين . قال أبو الندى : وقد أنسيت اثنتين .
____________________

ثم قال ياقوت : وواسط أيضاً : قرية مشهورةٌ ببلخ وواسط : قرية بحلب قرب بزاعة مشهورة عندهم وبالقرب منها قريةٌ يقال لها الكوفة .
وواسط : قرية بدجيل على ثلاثة فراسخ من بغداد . وواسط : قرية بالأندلس . وواسط : قريةٌ قرب مرزاباد حلة بني مزيد من أعمال بغداد يقال لها واسط مرزاباد . وواسط : قرية في شرقي )
دجلة الموصل بينهما ميلان ذات بساتين كثيرة . وواسط : قرية باليمن بسواحل زبيد . وواسط : موضع في بلاد تميم . وواسط من منازل بني قشير . وواسط : موضعٌ بين العذيب والصفراء .
وغير ذلك . وقوله : وتعرضت لك بالأبالخ هو جمع بليخ بفتح الموحدة وكسر اللام وآخره خاء معجمة قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : البليخ : نهر الرقة والفرات وبينه وبين شط الفرات ليلة . وجمعه باعتبار أجزائه . وتغولت : تهولت . والغانية : المرأة التي غنيت بجمالها عن الزينة .
وهفواتهن : جهلهن . والسبب : الحبل . والطول بضم الطاء بمعنى الطويل صفة لسبب . ومذلت بكسر الذال المعجمة . بمعنى قلقت وضجرت ومذال بكسر الميم : جمع مذلة بفتح فسكون كعبلة وعبال وجعدة وجعاد بمعنى قلقة ومتضجرة . والأخطل : شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والسبعين .
____________________

وقد نسب الزمخشري في المفصل البيت الشاهد للفرزدق ونقله العيني عنه . وهذا سهوٌ من قلم الناسخ . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الرابع والعشرون بعد الأربعمائة ( هما اللتا لو ولدت تميم ** لقيل فخرٌ لهم صميم ) على أن نون اللتان حذفت لاستطالة الموصول بالصلة تخفيفاً كالبيت المتقدم . قال شراح التسهيل : حذف النون من الذين واللذون واللتان : لغة بني الحارث ابن كعب وبعض بني ربيعة .
وأنشدوا هذين البيتين . والعجب من ابن مالك بعد أن قال في التسهيل : إنه يجوز حذف النون قال في شرحه : إن حذف النون من هما اللتا ضرورة . وهما مبتدأ واللتا خبره بتقدير موصوف أي هما المرأتان اللتان والجملة الشرطية مع جوابها صلة الموصول والعائد محذوف لكونه مفعولاً أي : ولدتهما وتميم فاعل ولدت وهو أبو قبيلة . والصميم : الخالص النقي وهو صفةٌ للمبتدأ الذي هو فخرٌ ولهم هو الخبر والجملة مقول القول . قال ابن الشجري : وهذا البيت أنشده الفراء . وقال العيني : هو للأخطل . وقد فتشت أنا ديوانه فلم أجده فيه . والله أعلم .
____________________


وأنشد بعده
الشاهد الخامس والعشرون بعد الأربعمائة ( قومي اللذو بعكاظٍ طيروا شرراً ** من روس قومك ضرباً بالمصاقيل ) على أنه قد تحذف النون من اللذون . وعكاظ بضم العين المهملة وبالتنوين باعتبار أنه اسم مكان . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : عكاظ : صحراء مستوية لا علم فيها ولا جبل إلا ما كان من الأنصاب التي كانت بها في الجاهلية وبها من دماء الإبل كالأرحاء العظام . وكانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً لمكة في الجاهلية . قال محمد بن حبيب : عكاظ بأعلى نجد قريبٌ من عرفات . وقال غيره : عكاظ وراء قرن المنازل بمرحلةٍ من طريق صنعاء وهي من عمل الطائف وعلى بريدٍ منها وأرضها لبني نصر واتخذت سوقاً بعد الفيل بخمس عشرة سنة وتركت عام خرجت الحرورية بمكة مع المختار بن عوف سنة تسع وعشرين ومائة إلى هلم جراً . قال أبو عبيدة : عكاظ فيما بين نخلة والطائف وكان سوق عكاظ يقوم صبح هلال ذي القعدة عشرين يوماً وسوق مجنة تقوم عشرة أيام بعده وسوق ذي المجاز تقوم هلال ذي الحجة .
ثم قال : وعكاظٌ مشتقٌ من قولك : عكظت الرجل عكظاً إذا قهرته بحجته لأنهم كانوا يتعاكظون هناك بالفخر . وكانت بعكاظٍ وقائع مرةً بعد مرة . وذكر أبو عبيدة أنه كان بعكاظ أربعة أيام : يوم شمطة ويوم العبلاء ويوم
____________________

شرب ويوم الحريرة وهي كلها من عكاظ قال : فشمطة من عكاظ هو الموضع الذي نزلت فيه قريش وحلفاؤها من بني كنانة بعد يوم نخلة وهو أول يوم اقتتلوا فيه من أيام الفجار بحولٍ على ما تواعدت عليه مع هوزان وحلفائها من ثقيف وغيرهم فكان يوم شمطة لهوازن على كنانة وقريش ولم يقتل من قريش أحدٌ يذكر واعتزلت بكر بن عبد مناة بن كنانة إلى جبلٍ يقال له دخم فلم يقتل منهم أحد . وقال خداش بن زهير : ( بأنا يوم شمطة قد أقمنا ** عمود الدين إن له عمودا ) ثم التقى الأحياء المذكورون على رأس الحول من يوم شمطة بالعبلاء إلى جنب عكاظ فكان لهوزان أيضاً على قريش وكنانة . قال خداش بن زهير : ( ألم يبلغكم أنا جدعنا ** لدى العبلاء خندف بالقياد ) ( ضربناهم ببطن عكاظ حتى ** تولوا طالعين من النجاد ) ثم التقوا على رأس الحول وهو اليوم الرابع من يوم نخلة بشرب وشربٌ من عكاظ . ولم يكن )
بينهم يومٌ أعظم منه . فحافظت قريش وكنانة وقد كان تقدم لهوزان عليهم يومان وقيد أبو سفيان وحربٌ ابنا أمية وأبو سفيان بن حرب
____________________

أنفسهم وقالوا : لا يبرح منا رجلٌ مكانه حتى يموت أو يظفر فانهزمت هوازن وقيس كلها إلا بني نصر فإنها صبرت مع ثقيف . وذلك أن عكاظ بلدهم لهم فيه نخل وأموال فلم يغنوا شيئاً ثم انهزموا وقتلت هوازن يومئذٍ قتلاً ذريعاً . قال أمية بن الأسكر الكناني : ( ألا سائل هوان يوم لاقوا ** فوارس من كنانة معلمينا ) ( لدى شربٍ قد جاشوا وجشنا ** فأوعب في النفير بنو أبينا ) وقال : ثم التقوا على رأس الحول بالحريرة وهي حرةٌ إلى جنب عكاظ مما يلي مهب جنوبها فكان لهوازن على قريش وكنانة . والشرر بفتحتين هو إما جمع شررة وهو ما يتطاير من النار وكذلك الشرار والشرارة وإما مصدر شررت يا رجل بفتح الراء وكسرها شراً وشرراً من الشر نقيض الخير . وقوله : من روس قومك هو بحذف الهمزة من رؤوس . وقوله : ضرباً إما منصوب بنزع الخافض أي : بضربٍ وإما منصوب بعاملٍ محذوفٍ حال من الواو في طيروا أي : يضربون ضرباً أو ضاربين ضرباً . والمصاقيل : جمع مصقول من الصقل وهو جلاء الحديد وتحديده أي : جعله قاطعاً . أراد كل آلة حديدٍ من السلاح مثل السيف والسنان . والبيت لأمية بن الأسكر الكناني . ولم أقف على ما قبله ولا ما بعده .
____________________

وأمية كما قال صاحب الأغاني : أمية بن حرثان بن الأسكر بن عبد الله بن سرابيل الموت بن زهرة بن زبينة بن جندع بن ليث بن بكر بن عبد مناة ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر بن نزار . شاعرٌ فارس مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . وكان من سادات قومه وفرسانهم وله أيامٌ مأثورة مذكورة . وابنه كلاب بن أمية أيضاً أدرك النبي صلى الله عليه وسلم فأسلم مع أبيه ثم هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى صاحب الأغاني بسنده إلى الزهري عن عروة بن الزبير قال : هاجر كلاب بن أمية بن الأسكر إلى المدينة في خلافة عمر بن الخطاب فأقام بها مدة ثم لقي ذات يومٍ طلحة بن عبيد الله والزبير بن العوام فسألهما : أي الأعمال أفضل في الإسلام فقالا : الجهاد . فسأل عمر فأغزاه في جيش وكان أبوه قد كبر وضعف فلما طالت غيبة كلابٍ عنه قال : ) ( لمن شيخان قد نشدا كلابا ** كتاب الله لو قبل الكتابا ) ( أناديه فيعرض في إباءٍ ** فلا وأبي كلابٍ ما أصابا ) ( إذا سجعت حمامة بطن وجٍّ ** إلى بيضاتها دعوا كلابا )
____________________

( أتاه مهاجران تكنفاه ** ففارق شيخه خطئاً وخابا ) ( تركت أباك مرعشةً يداه ** وأمك ما تسيغ لها شرابا ) ( تمسح مهدة شفقاً عليه ** وتجنبه أباعرها الصعابا ) ( فإنك وابتغاء الأجر بعدي ** كباغي الماء يتبع السرابا ) قال : تجنبه وتجنبه واحد من قول الله تعالى : واجنبني وبني أن نعبد الأصنام . فبلغت أبياته عمر رضي الله فلم يردد كلابا وطال مقامه فأهتر أمية وخلط جزعاً عليه ثم أتاه يوماً وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم وحوله المهاجرون والأنصار . فوقف عليه وأنشأ يقول : ( فإما كنت عاذلتي فردي ** كلاباً إذ توجه للعراق ) ( ولم أقض اللبانة من كلابٍ ** غداة غدا وآذن بالفراق ) ( فتى الفتيان في عسرٍ ويسرٍ ** شديد الركن في يوم التلاقي ) ( فلا وأبيك ما باليت وجدي ** ولا شغفي عليك ولا اشتياقي ) ( وإبقائي عليك إذا شتونا ** وضمك تحت نحري واعتناقي ) ( فلو فلق الفؤاد شديد وجدٍ ** لهم سواد قلبي بانفلاق )
____________________

( سأستعدي على الفاروق رباً ** له دفع الحجيج إلى بساق ) ( وأدعو الله مجتهداً عليه ** ببطن الأخشبين إلى دفاق ) ( إن الفاروق لم يردد كلاباً ** إلى شيخين هامهما زواقي ) قال : فبكى عمر بكاءً شديداً وكتب إلى سعد بن أبي وقاص بالكوفة يأمره بإقفال كلاب بن أمية إلى المدينة فلما دخل عليه قال له : ما بلغ من برك بأبيك قال : كنت أوثره وأكفيه أمره وكنت أعتمد إذا أردت أن أحلب له لبناً أغزر ناقةٍ في أبله وأسمنها فأريحها فأتركها حتى تستقر ثم أغسل أخلافها حتى تبرد ثم أحلب له فأسقيه . فبعث عمر إلى أمية فجاء يتهادى وقد ضعف بصره وانحنى فقال له : كيف أنت يا أبا كلاب فقال : كما ترى يا أمير المؤمنين . )
قال : فهل لك من حاجة قال : نعم أشتهي أن أرى كلاباً فأشمه شمةً وأضمه ضمةً قبل أن أموت فبكى عمر وقال : ستبلغ في هذا ما تحب إن شاء الله ثم أمر كلاباً أن يحتلب لأبيه ناقةً كما كان يفعل ويبعث إليه بلبنها . ففعل فناوله عمر الإناء وقال : دونك هذا يا أبا كلاب . فلما أخذه وأدناه إلى فمه قال : لعمر الله يا أمير المؤمنين إني لأشم رائحة يدي كلاب من هذا الإناء .
فبكى عمر وقال له : هذا كلابٌ عندك حاضر قد جئناك به . فوثب إلى إبنه فضمه إليه وقبله وجعل عمر يبكي ومن حضره وقال لكلاب : الزم أبويك فجاهد فيهما ما بقيا ثم شأنك بنفسك بعدهما .
____________________

وأمر له بعطائه وصرفه إلى أبيه فلم يزل معه مقيماً حتى مات أبواه . وأخبرنا الحسن بن علي قال : حدثنا الحارث عن المدائني قال : لما مات أمية بن الأسكر عاد ابنه كلاب إلى البصرة فكان يغزو مع المسلمين منها مغازيهم وشهد فتوحاً كثيرة . وبقي إلى أيام زياد فولاه الأبلة فسمع كلابٌ يوماً عثمان بن أبي العاص يحدث إلى داود نبي الله عليه السلام كان يجمع أهله في السحر فيقول : ادعوا ربكم فإن في السحر ساعةً لا يدعو فيها عبدٌ مؤمن إلا غفر له إلا أن يكون عشاراً أو عريفاً . فلما سمع ذلك كلابٌ كتب إلى زيادٍ فاستعفاه من عمله فأعفاه . قال المدائني : ولم يزل كلابٌ بالبصرة حتى مات . والمربعة المعروفة بمربعة كلابٍ بالبصرة منسوبة إليه . قال : وعمر أمية بن الأسكر عمراً طويلاً حتى خرف . وكذلك قال أبو حاتم في كتاب المعمرين . ولم يذكر ما مقدار عمره وفي أي سنةٍ أسلم وفي أي سنةٍ مات . والله أعلم .
ونقل صاحب الأغاني عن أبي عمرٍ و الشيباني أن كلاب بن أمية هاجر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال فيه أبوه شعراً فأمره النبي صلى الله عليه وسلم بصلة أبيه وملازمة طاعته . ثم قال : هذا خطأ من أبي عمرو وإنما أمره بذلك عمر . وذكره ابن حجر في قسم الصحابة ثم قال : إنما لم أؤخره إلى المخضرمين لقول أبي عمرٍ و الشيباني فإنه ليس في بقية الأخبار ما ينفيه فهو على الاحتمال ولا سيما من رجل كناني من جيران قريش . اه . وذكر الذهبي أمية هذا في التجريد وقال : في صحبته نظر .
____________________

قال ابن حجر : الأسكر بالسين المهملة فيما صوبه الجياني .
وضبطه ابن عبد البر بالمعجمة . تتمة الشاهد المشهور فيما بين النحويين لقولهم : اللذون هو قوله : ( نحن اللذون صبحوا الصباحا ** يوم النخيل غارةً ملحاحا ) قطعة من أرجوزة أوردها أبو زيد في نوادره وقال : هي لأبي حرب الأعلم من بني عقيل بالتصغير وهو شاعرٌ جاهلي . وبعدهما : ) ( نحن قتلنا الملك الجحجاحا ** ولم ندع لسارحٍ مراحا ) ( ولا دياراً أو دماً مفاحا ** نحن بنو خويلدٍ صراحا ) لا كذب اليوم ولا مراحا قوله : أو دماً مفاحا أو في معنى واو العطف . والمفاح : المهراق . يقال : فاح دمه وأفاح جميعاً يفيح فيحاً ويفيح إفاحةً . لم يعرف الرياشي ولا أبو حاتم : أفاح . لا كذب اليوم ولا مراحا أي : بضم الميم قال أبو حاتم : مراحا بكسر الميم وبالراء المهملة وهو النشاط .
____________________

قال أبو زيد : أفحت دمه ففاح يفيح فيحاناً . والجحجاح : السيد . هذا ما في النوادر . والنخيل بالتصغير : عين ماءٍ قرب المدينة على مشرفها الصلاة والسلام وموضعٌ من نواحي الشام . ولم يذكر أبو عبيد في معجم ما استعجم هذا اللفظ ولا ذا النخيل وهو موضع قرب مكة وموضع قرب حضرموت .
قاله الصغاني في العباب . وخلط العيني بينهما فقال : نخيل : أربعة مواضع . ثم ذكر معنييهما .
والغارة : اسمٌ من الإغارة على العدو وملحاحاً صفة غارة ولم يؤنثه لعدم اعتبار تأنيث المصدر لأنه في تأويل أن والفعل وهذا لا يتصف بتأنيث أو لأنه بمعنى النسبة أي : ذات إلحاح كقوله تعالى : السماء منفطرٌ به أي : ذات انفطار . وهو من ألح المطر إذا دام . والسارح : المال السائم . والمراح بالضم : اسم مكانٍ من أراح إبله إذا ردها إلى المراح وهو حيث تأوي إليه الإبل والغنم بالليل ولا يكون ذلك إلا بعد الزوال . وصراح بالكسر : جمع صريح وهو الخالص في النسب ككرامٍ جمع كريم . وروى العيني عن الصاغاني في العباب أن الرجز لليلى الأخيلية في قتل دهر الجعفي وأن الرواية كذا : ( لا كذب اليوم ولا مراحا ** قومي اللذين صبحوا الصباحا ) ( يوم النخيل غارةً ملحاحا ** مذحج فاجتحناهم اجتياحا ) فلم ندع لسارحٍ مراحا
____________________

إلى آخر الأبيات . وعليها لا شاهد فيه . وأنواح : جمع نوح بفتح النون . ومذحج بكسر الحاء المهملة بعد الذال المعجمة الساكنة : قبيلةٌ كبيرة . فاجتحناهم من الإجتياح بتقديم الجيم على الحاء المهملة وهو الإهلاك والاستئصال . وصبحه بمعنى أتاه صباحاً . وغارة مفعول لأجله .
وقال العيني ويجوز أن يكون حالاً من الواو في صبحوا . وقد فتشت هذا الرجز بجميع مواد ألفاظه في العباب فلم أرى له فيه أثراً ولم أدر من أي مادة نقله . والله أعلم . وأنشد بعده )
الشاهد السادس والعشرون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( وإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم خالد ) على أن أصله : وإن الذين وحذفت النون منه تخفيفاً . وقد تقدم نص سيبويه في هذا البيت عند شرح قوله :
____________________

أبني كليب إن عمي اللذا البيت قبل هذا ببيتين . قال الأعلم : الشاهد فيه حذف النون من اللذين استخفافاً والدليل على أنه أراوبة الجمع قوله دماؤهم ويجوز أن يكون الذي واحداً . يؤدي عن الجمع لإبهامه ويكون الضمير محمولاً على المعنى فيجمع كما قال جل وعز : والذي جاء بالصدق وصدق به أولئك هم المتقون . رثى قوماً قتلوا بفلج وهو موضعٌ بعينه كانت فيه وقعة . اه . وأورده ابن جني في المحتسب عند قراءة من قرأ : والمقيمي الصلاة بالنصب قال : أراد المقيمين فحذف النون تخفيفاً . أو شبه ذلك باللذين في قوله : فإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم البيت وأورده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : آلم ذلك الكتاب على أن السورة المسماة ب آلم هو الكتاب لكماله حتى كأن ما عداه من الكتب بالنسبة إليه لا يستحق أن يسمى كتاباً من باب حصر الجنس في بعض أفراده على حد قولك : زيد هو الرجل أي : الكامل في الرجولية .
ولما كان ذلك مستبعداً في الأوهام أتى بما صرح به بحصر كل الجنس في الفرد الكامل في قوله : هم القوم كل القوم يا أم خالد إزالةً لذلك الوهم . والمعنى : إن اللذين هلكوا بهذا الموضع هم القوم والرجال الكاملون فاعلمي ذلك وابكي عليهم يا أم خالد . قال الواحدي : قولهم يا أم خالد ويا ابنة القوم هو من عادة العرب بهذا الخطاب للنساء لحثهن على البكاء . وكل القوم صفة للقوم دلالةً على كمالهم .
____________________

وبه أورده ابن هشام في كل من المغني . والحين بالفتح : الهلاك . وحان الرجل : هلك . وأحانه الله أهلكه . ودماؤهم : فاعل حانت . ومعنى حانت دماؤهم : لم يؤخذ لهم بدية ولا قصاص . وفلج بفتح الفاء وسكون اللام وآخره جيم . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : هو موضعٌ في بلاد بني مازن وهو في طريق البصرة إلى مكة وفيه منازل للحجاج . وقال الزجاج : هو ماء لبني العنبر )
وما بين الحيل إلى المجازة . وقال ياقوت في معجم البلدان : قال أبو منصور : فلجٌ اسم بلد ومنه قيل لطريق يؤخذ من طريق البصرة إلى اليمامة : طريق فلج . وأنشد : وإن الذي حانت بفلج دماؤهم وقال غيره : فلج وادٍ بين البصرة وحمى ضرية من منازل عدي بن جندب بن العنبر بن عمرو بن تميم من طريق مكة . وبطن وادٍ يفرق بين الحزن والصمان يسلك منه طريق البصرة إلى مكة ومنه إلى مكة أربعٌ وعشرون مرحلة . وهذا البيت أنشده الجاحظ في البيان والتبيين بدون واو مع بيتين بعده للأشهب بن رميلة وهما : ( هم ساعد الدهر الذي يتقى به ** وما خير كفٍّ لا ينوء بساعد )
____________________

( أسود شرًى لاقت أسود خفية ** تساقوا على حردٍ دماء الأساود ) ( هم كاهل الدهر الذي يتقى به ** ومنكبه إن كان للدهر منكب ) وأنشده الآمدي في المؤتلف والمختلف للأشهب بن رميلة أيضاً مع البيت الثاني فقط وهو : هم ساعد الدهر إلا أنه أنشده : فإن الذي بالفاء . وقد أنشد الأبيات الثلاثة أحمد بن أبي سهل بن عاصم الحلواني في كتاب أسماء الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم إلا أنه أنشد البيت الأول كذا : إن التي مارت بفلجٍ دماؤهم وعليه لا شاهد فيه ومن خطه نقلت . فيكون بتقدير : إن الجماعة التي مارت أي : ساحت وجرت . يقال : مار الدم على وجه الأرض . وينوء . بمعنى ينهض . وفي معجم ما استعجم : قال الأصمعي : الشرى : أرض في جهة اليمن وهي مأسدة . وأنشد هذا البيت . قال أبو الفتح : لام الشرى ياءٌ لأنها مجهولة والياء أغلب على اللام من الواو . قال : وكذلك رأيته في الخط العتيق مكتوباً بالياء . اه . وقال صاحب الصحاح : والشرى : طريقٌ في سلمى كثيرة الأسد . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء قال صاحب الصحاح : قولهم أسود خفية كقولهم : أسود غابة وهما مأسدتان .
____________________

وقال صاحب المعجم : خفية : اسم غيضة ملتفة تتخذها الأسد عريسة . كذا قال الخليل وأنشد هذا البيت . وحرد بفتح الحاء وسكون الراء المهملتين : مصدر حرد من باب ضرب بمعنى قصد وبمعنى غضب من باب فرح أيضاً . ودماء : مفعول تساقوا أي : سقي كلٌّ منهما دم الأساود . وهو إما جمع أسود على أفعل وهو العظيم من الحيات وفيه سواد . وهو اسمٌ له ولو كان وصفاً لجمع على فعل بالضم . وإما جمع أسود بالضم وهو جمع أسد فيكون )
جمع الجمع . والمراد بالأساود الشجعان وهو عبارةٌ عنهم وعن أخصامهم . وقال العيني وتبعه السيوطي : الأساود : جمع أسودة وأسودةٌ : جمع سواد والسواد : الشخص وأراد بالأساود شخوص الموتى . وروى سمام بدل دماء وقال : هو جمع سمٍّ . فالمناسب على هذه الرواية تفسير الأساود بالحيات . وروى أبو تمام البيت الشاهد في كتاب مختار أشعار القبائل آخر أبياتٍ خمسةٍ لحريث بن محفض وهي : ( ألم تر أني بعد عمرٍ و ومالكٍ ** وعروة وابن الهول لست بخالد ) ( وكانوا بني ساداتنا فكأنما ** تساقوا على لوحٍ دماء الأساود ) ( وما نحن إلا مثلهم غير أننا ** كمنتظرٍ ظمأً وآخر وارد ) هم ساعد الدهر الذي يتقى بهم وما خير كفٍّ لا تنوء بساعد فإن الألى حانت بفلجٍ دماؤهم . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت والألى بمعنى اللذين وعلى هذه الرواية أيضاً لا شاهد فيه . واللوح بفتح اللام وسكون الواو آخره حاء مهملة : العطش . والظمء بكسر الظاء المشالة وسكون الميم بعدها همزة : اسم الزمان الذي يكون بين الشربتين
____________________

للإبل من الظمأ بفتح الميم وهو العطش . وآخر : ضد أول معطوف على منتظر . أما الأشهب بن رميلة فهو شاعرٌ إسلامي مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام أسلم ولم تعرف له صحبة واجتماعٌ بالنبي صلى الله عليه وسلم ولهذا أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة . ورميلة : اسم أمه وهي بضم الراء المهملة وفتح الميم .
وذكره المرزباني في معجم الشعراء في حرف الزاء المعجمة . قال صاحب الأغاني : هو الأشهب بن ثور بن أبي حارثة بن عبد المدان بن جندل بن نهشل بن دارم بن عمرو بن تميم . وفي المؤتلف والمختلف وفي كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم : المنذر بدل عبد المدان . وفي مختصر الجمهرة لياقوت ابن عبد المنذر . والله أعلم . ورميلة أمه وهي أمةٌ لخالد بن مالك بن ربيعي بن سلمى بن جندل المذكور . قال أبو عمرو : ولدها يزعمون أنها كانت سبية من سبايا العرب فولدت لثور ابن أبي حارثة أربعة نفر وهم رباب وحجناء والأشهب وصويط . وكانوا من أشد أخوةٍ لساناً ويداً ومنعة للجانب فكثرت أموالهم في الإسلام . وكان أبوهم ثورٌ ابتاع رميلة في الجاهلية وولدتهم في الجاهلية فعزو عزاً كثيراً
____________________

حتى إذا وردوا ماءً من ماء الصمان حظروا على الناس ما يريدونه منه . وكانت لرميلة قطيفةٌ حمراء فكانوا يأخذون الهدب من تلك القطيفة )
فيلقونه على الماء أي : قد سبقنا إلى هذا فلا يرده أحدٌ لعزهم فيأخذون من الماء ما يحتاجون إليه . فوردوا في بعض السنين ماءً من ماء الصمان وورد معهم ناسٌ من بني قطن بن نهشل فأورد بعضهم بعيره فأشرعه حوضاً قد حظروا عليه . وبلغهم ذلك فغضبوا فاقتتلوا فضرب رباب بن رميلة رأس بشير بن صبيح فمات بشير في ليلته فقتل رباب قودا ولما أرادوا ضرب عنقه قالوا له : أوصنا . قال لهم : دعوني أصلي ركعتين . فصلى ثم قال : أما والله إني إلى ربي لذو حاجة وما منعني أن أزيد في صلاتي إلا أن تقولوا : خاف من الموت فليضربني منكم رجل شديد الساعد حديد السيف . فدفعوه إلى ابن خزيمة بن بشير فضرب عنقه وذلك في الفتنة بعد مقتل بن عفان . ورثاه أخوه الأشهب بقصائد . وفي كتاب الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم ونقلته من خط مؤلفه : كان الأشهب يهاجي الفرزدق ولقيه يوماً عند باب عثمان بن عفان وهو يريد أن يجوز نهر أم عبد الله على قنطرة فاحتبسه الفرزدق عليها الفرزدق على فرس فقال الأشهب : ( يا عجباً هل يركب القين الفرس ** وعرق القين على الخيل نجس )
____________________

( والقين لا يصلح إلا ما جلس ** بالكلبتين والعلاة والقبس ) ثم إن غالباً لما بلغه ما قال الأشهب أتاه ليلاً فتعوذ منه وقال : أتشتمنا من غير إحنةٍ فأمسك عنا . فقال الأشهب : هلا كان هذا نهاراً ويقال : كان الأشهب ابن رميلة يهجو غالباً أبا الفرزدق فقال الفرزدق : ربما بكيت من الجزع أن الأشهب كان يهجونا فأريد أن أجيبه فلا يتأتى لي الشعر ثم فتح الله علي فهجوته فغلبته وسقط بعد ذلك . وأما حريث بن محفض فهو شاعرٌ إسلاميٌ من شعراء الدولة الأموية . وحريث بضم الحاء وفتح الراء المهملتين وآخره ثاء مثلثة . ومحفض بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر الفاء المشدودة وآخره ضاد معجمة وهو في الأصل اسم فاعل من حفضه تحفيضاً إذا طرحه خلفه وخلفه وراءه . وحفضه بالتخفيف بمعنى ألقاه وطرحه من يده كحفضه تحفيضاً . وحفض العود بالتخفيف أيضاً بمعنى حناه وعطفه . قال الإمام أبو أحمد الحسن بن عبد الله العسكري في كتاب التصحيف في باب ما يشكل ويصحف من أسماء الشعراء : هذا باب صعبٌ لا يكاد يضبطه إلا كثير الرواية غزير الدراية . وقال أبو الحسن علي بن عبدوس الأرجاني وكان فاضلاً ومتقدماً وقد نظر في كتابي هذا فلما بلغ هذا الباب قال لي : كم عدة أسماء الشعراء الذين ذكرتهم فقلت : مائةٌ ونيف . )
فقال لي : إني لأعجب كيف استتب لك هذا فقد كنا ببغداد والعلماء بها متوافرون وذكر أبا إسحاق الزجاج وأبا موسى الحامض وأبا محمد الأنباري واليزيدي وغيرهم فاختلفنا في إسم شاعرٍ واحد وهو حريث بن محفض وكتبنا أربع قاعٍ إلى أربعةٍ من العلماء فأجاب كل واحدٍ منهم بما يخالف الآخر فقال
____________________

بعضهم مخفض بالخاء والضاد المعجمتين وقال آخر : ابن محفض وقال آخر : ابن محفض . فقلنا : ليس لهذا إلا أبو بكر بن دريد . فقصدناه في منزله فعرفناه ما جرى فقال ابن دريد : أين يذهب بكم هذا مشهور هو حريث بن محفض الحاء غير معجمة ومفتوحة والفاء مشددة ومكسورة والضاد منقوطة . وهو من بني تميم ثم من بني مازن بن عمرو بن تميم . وهو القائل : ( ألم تر قومي إن دعوا لملمةٍ ** أجابوا وإن أغضب على القوم يغضبوا ) ( هم حفظوا غيي كما كنت حافظاً ** لقومي أخرى مثلها إن تغيبوا ) ( بنو الحرب لم تقعد بهم أمهاتهم ** وآباؤهم آباء صدقٍ فأنجبوا ) وتمثل الحجاج بهذه الأبيات على المنبر فقال : أنتم يا أهل الشام كما قال حريث بن محفض . قال : أنا والله حريث بن محفض . فقال : ما حملك على أن سابقتني قال : لم أتمالك إذ تمثل الأمير بشعري فأعلمته مكاني . ثم قال أبو الحسن ابن عبدوس : فلم يفرج عنا غيره . انتهى ما أورده العسكري .
____________________

وأنشد بعده
الشاهد السابع والعشرون بعد الأربعمائة وبئري ذو حفرت وذو طويت هذا عجز وصدره : على أن ذو اسم موصول وهو هنا بمعنى التي لأن البئر مؤنثة . قال ابن هشام في شرح الشواهد : وزعم ابن عصفور أن ذو خاصة بالمذكر وأن المؤنث يختص بذات وأن البئر في البيت ذكرت على معنى القليب كما قال الفارسي في قوله : ( يا بئرنا بئر بني عدي ** لأنزحن قعرك بالدلي ) حتى تعودي أقطع الولي إن التقدير : حتى تعودي قلبياً أقطع فحذف الموصوف . وفرق ابن الضائع بينهما بأن أقطع صفةٌ فيحمل على الفعل بخلاف ذو . قال : ألا ترى أن من قال نفع الموعظة لا يقول مشيراً إليها : هذا الموعظة . ولهذا قال الخليل في : قال هذا رحمةٌ من رب : إنه إشارة إلى القطر لا إلى الرحمة .
اه . والبيت مشهورٌ . وهو من أبيات خمسة أوردها أبو تمام في الحماسة لسنان ابن الفحل الطائي وهي :
____________________

( وقالوا قد جننت فقلت كلا ** وربي ما جننت ولا انتشيت ) ( ولكني ظلمت فكدت أبكي ** من الظلم المبين أو بكيت ) ( فإن الماء ماء أبي وجدي ** وبئري ذو حفرت وذو طويت ) ( وقبلك رب خصمٍ قد تمالوا ** علي فما هلعت ولا دعوت ) قال أمين الدين الطبرسي في شرح الحماسة : قد عيب على أبي تمام إيراده مثل هذه الأبيات في باب الحماسة والبكاء على الظلم ضعفٌ وعجز والوجه فيه أن بكاءه كان لمطالبتهم ما ليس لهم ولا سبيل له على الإعتساف . والمغالبة فعل أهل الجاهلية إذ لا يراقب دين ولا يرهب سلطان ويدل على ذلك ما ذكره ابن دريدٍ في سببه : أنه اختصم حيان من العرب إلى عبد الرحمن بن الضحاك وهو والي المدينة في ماءٍ من مياههم وعبد الرحمن مصاهرٌ لأحد الحيين فبرك شيخٌ بين يديه من الحي الآخر وقال : أصلح الله الأمير أنا الذي أقول : ( إلى الرحمن ثم إلى أميري ** تعسفت المفاوز واشتكيت ) ( رجالاً طالبوني ثم لجوا ** ولو أني ظلمتهم انتهيت ) ) ( رجوا في صهرهم أن يغلبوني ** وبالرحمن صدق ما ادعيت ) وقالوا قد جننت فقلت كلا . . . . . . . . . . . . . . . . . الأبيات الخمسة وبعدها : ( فأنصفني هداك الله منهم ** ولو كان الغلبة لاكتفيت ) وقال الخطيب التبريزي في شرحه : وهذا ماءٌ لبني أم الكهف من جرم طيء ولبني هرم بن العشراء من فزارة اختصم فيه الحيان وهم مختلطون مجاورون .
____________________

وقوله : ولو أني ظلمتهم انتهيت أي : قلت أنا ظالم ثم امتنعوا لكففت ولم ألج . وقوله : وقالوا : قد جننت معطوف على لجوا وجننت بالبناء للمفعول وبالخطاب في الأول وبالتكلم في الثاني . وكلا للزجر والردع . قال الإمام المرزوقي : كان الواجب أن يقول : قالوا جننت أو سكرت . فاكتفى بذكر أحدهما لأن النفي الذي يتعقب في الجواب ينظمهما . ومثله قول الآخر : ( فما أدري إذا يممت وجهاً ** أريد الخير أيهما يليني ) لأن المراد أريد الخير وأتجنب الشر فاكتفى بذكر أحدهما لأن ما بعده يبينهما وهو : ( الخير الذي أنا أبتغيه ** أم الشر الذي هو يبتغيني ) أراد : إني لما أظهرت إنكاري وتشددت في إبائي قالوا : إنه جن أو سكر . فزجرتهم وحلفت بالله نافياً ما نسبت إليه . والإنتشاء والنشوة : السكر . ثم أخذ يبين كيف استنكر ما دفع إليه حتى قيل فيه ما قيل كقوله : ولكني ظلمت فكدت إلخ وذكر البكاء ليري أنفته وامتعاضه وإنكاره لما أريد ظلمه فيه واغتياظه .
____________________

فأما العرب فإنما تنسب نفسها إلى القساوة وتعير من يبكي . قال مهلهل : ( يبكي علينا ولا نبكي على أحدٍ ** لنحن أغلظ أكباداً من الإبل ) يقول : لكن عرض علينا ضيمٌ لم آلفه واستنزلت عن حقٍّ لي طال ملازمتي له فشارفت البكاء أو بكيت كل ذلك لاستنكافي مما أرادوني عليه . وقوله : فإن الماء ماء إلخ صرح بما أريد غصبه عليه فقال هو ماءٌ موروث عن الأسلاف وحمًى معروف لي سلمه الناس لي على مر الأيام وبئر توليت استحداثها وحفرها وطيها . وطي البئر : بناؤها بالحجارة . وطويت البئر فهو طويٌّ . وقوله : وقبلك رب خصم إلخ الخصم لكونه في الأصل مصدراً يطلق على المفرد )
وغيره والذكر والأنثى بلفظ واحد . وفي لغة يطابق في التثنية والجمع فيجمع على خصوم وخصام . وخصم الرجل يخصم من باب تعب إذا أحكم الخصوم فهو خصم وخصيم .
وخاصمته فخصمته أخصمه من باب قتل إذا غلبته في الخصومة . وتمالوا أصله تمالؤوا بهمزة مضمومة بعد اللام المفتوحة يقال مالأه ممالأةً كفاعله مفاعلة بمعنى عاونه معاونة . وتمالؤوا على الأمر : تعاونوا . وقال ابن السكيت : اجتمعوا عليه . وهلع هلعاً من باب تعب بمعنى جزع فهو هلعٌ وهلوع مبالغة وقيل الهلع : أفحش الجزع . ودعوت بمعنى قلت : يا لفلان قال الإمام المرزوقي : نبه على حسن ثباته في وجه الخصوم وتمرنه بمجادلتهم قديماً وحديثاً وتحككه لهم على احتفالٍ منهم على مناوأته سالفاً وآنفاً فيقول : وقد
____________________

بليت قبلك بقوم لدٍّ تألبوا علي وتعاونوا فلم أجزع لما منيت بهم جزعاً فاحشاً ولا استنصرت عليهم غيري . فإن قيل : كيف قال هلعت وقد قال : كدت أبكي من الظلم إلخ وهل الهلع إلا البكاء والجزع قلت : إن الهلع هو الجزع الفاحش الذي يظهر فيه الخضوع والإنقياد فهذا هو الذي زعم أنه لا يظهر عليه .
والبكاء الذي ذكر أنه شارفه إنما كان على طريق الاستنكاف وإذا كان كذلك فإنه لم يكن عن تخشع وتذلل ولا انقيادٍ ولا استسلام . وسلم الكلام من التناقض . وقال ابن هشام في شرح الشواهد : وهذا ليس تناقضاً لأنه على اختلاف وقتين أي : إنه ذل جانبه بعد أن كان عزيزاً .
وهذا كلام الخطيب التبريزي . ونظيره أبيات فاطمة بنت الأجحم حين ضعف جانبها لموت من كان ينصرها وهي أبياتٌ حسنة تمثلت بها سيدتنا فاطمة رضي الله عنها حين قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي : ( قد كنت لي جبلاً ألوذ بظله ** فتركتني أمشي بأجرد ضاحي ) ( قد كنت ذات حميةٍ ما عشت لي ** أمشي البراز وكنت أنت جناحي ) ( فاليوم أخضع للذليل وأتقي ** منه وأدفع ظالمي بالراحي )
____________________

( وإذا دعت قمريةٌ شجناً لها ** ليلاً على فننٍ دعوت صباحي ) وقوله : ولكني نصبت لهم إلخ الألة بفتح الهمزة وتشديد اللام : الحربة والجمع إلال كحربة وحراب . يقول : ولكنني صبرت لهم وانتصبت في وجوههم وهيأت سلاحي لدفعهم وطردتهم عن وردهم كفعل الفارس الذاب المانع حتى خلصت عن غصبهم حقي وقريت الماء من دونهم في حوضي . يقال : قريت الماء في الحوض بالقاف أي : جمعته واسم ذلك الماء : قرى )
بكسر القاف مقصور . وسنان بن الفحل : شاعر إسلاميٌّ في الدولة المروانية . وهو بكسر السين بعدها نونان . والفحل بفتح الفاء وسكون الحاء المهملة . وأما عبد الرحمن بن الضحاك فقد ذكره الفاسي في تاريخ مكة المشرفة وقال : عبد الرحمن بن الضحاك بن قيس بن خالد بن وهب بن ثعلبة بن وائلة بن عمرو بن شيبان بن محارب بن فهر بن مالك الفهري . قال الزبير : ولاه يزيد بن عبد الملك المدينة والموسم . وذكر الطبري أن في سنة ثلاث ومائة ضمت إليه مكة مع المدينة وأنه عزل عن مكة والمدينة في النصف من ربيع الأول سنة أربع ومائة بعبد الواحد بن ربيع البصري . وسبب عزله أنه كان خطب فاطمة بنت الحسين رضي الله عنهما فامتنعت من قبوله فألح عليها وتوعدها فشكته إلى يزيد بن عبد الملك فبعث إلى عبد الواحد فولاه المدينة وأمره بالقبض على عبد الرحمن وأخذ ماله حتى تركه في جبة صوفٍ بالمدينة وكان قد باشر نيابة المدينة ثلاث سنين وأشهراً .
____________________

وكان الزهري قد أشار عليه برأي وهو أنه يسأل العلماء إذا أشكل عليه أمرٌ فلم يفعل فأبغضه الناس وذمه الشعراء . وهذا كان آخر أمره . انتهى . وإنما ذكرت عبد الرحمن هذا ليعلم منه عصر سنان بن الفحل الطائي فإني لم أظفر له بترجمة ولم أر ( قولا لهذا المرء ذو جاء ساعياً ** هلم فإن المشرفي الفرائض ) على أن ذو بمعنى الذي . والساعي : الوالي على صدقة الزكاة . وهلم : أقبل وتعال . والمشرفي : السيف المنسوب إلى المشارف وهي قرى للعرب كانت السيوف تطبع بها . والفرائض : الأسنان التي تصلح لأن تؤخذ في الزكاة . يقول : أبلغا هذا الرجل الذي جاء ساعياً أي : والياً للصدقات : هلم فإنك تعطى السيف بدلاً من فرائض الإبل . وهذا مثلٌ ضربه لهذا الساعي مستهزئاً به ومتوعداً إياه . يقول : إنك مللت العافية والسلامة فهلم إلى البلاء والشر من هذه الولاية . والبيت أول أبياتٍ لقوالٍ الطائي أوردها أبو تمام في الحماسة . وقد شرحناها مع ذكره سببها في الشاهد السابع والثلاثين بعد الثلثمائة من باب النعت .
____________________

وأنشد بعده
الشاهد الثامن والعشرون بعد الأربعمائة ( عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** أمنت وهذا تحملين طليق ) على أن هذا عند الكوفيين اسم موصول بمعنى الذي أي : الذي تحملينه طليق . قال الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون : العرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي فيقولون : ومن ذا يقول ذاك في معنى من الذي يقول وأنشدوا : عدس ما لعبادٍ عليك أمارة البيت كأنه قال : والذي تحملين طليق . انتهى . قال أبو على الفارسي في إيضاح الشعر : هذا البيت ينشده البغداديون ويستدلون به على أن ذا بمنزلة الذي وأنه يوصل كما يوصل الذي فيجعلون تحملين صلةً ل ذا كما يجعلونه صلة للذي . وعندنا يحتمل قوله تحملين وجهين : أحدهما : أن يكون صفة لموصوف محذوف تقديره : وهذا رجل تحملين
____________________

فتحذف الهاء من الصفة كما حذفت في قولك : الناس رجلان : رجلٌ أكرمت ورجلٌ أهنت . وكقوله : وما شيءٌ حميت بمستباح أي : حميته . والآخر : أن يكون صفةً لطليق فقدمت فصار في موضع نصب على الحال : فإذا احتمل غير ما تأولوه من الصلة لم يكن على الحكم بأن ذلك والأسماء المبهمة توصل كما يوصل الذي دليلٌ . وكذلك ما استشهدوا به من قوله تعالى : وما تلك بيمينك يا موسى وقالوه وتأولوه على أن المعنى : وما التي بيمينك ولا دلالة فيه لأنه يمكن أن يكون بيمينك في موضع الحال والعامل في الحال في الموضعين جميعاً ما في الاسم المبهم من معنى الفعل . انتهى .
والاحتمال الأول ضعيف لأنه تخريجٌ على ضرورة لأن حذف الموصوف إذا كانت صفته جملة بدون أن يكون بعضاً من مجرور ب من أو في خاصٌ بالضرورة أو الشذوذ . وأضعف من هذا تخريج ابن الأنباري في مسائل الخلاف أن جملة تحملين صلةٌ لموصول محذوف تقديره : وهذا الذي تحملين . وهذا لا يقول به بصريٌّ لأنه لا يرى أحدٌ منهم حذف الموصول الاسمي وبقاء صلته .
____________________


والتخريج على الحالية هو الجيد ولا حاجة إلى اعتبار كونه في الأصل صفة فلما قدم صار حالاً لأن ذاك انما يعتبر في الأحوال المفردة لا في الجمل نحو : لمية موحشاً طلل وادعاء أن العامل في هذه الحال ما في إسم الإشارة من معنى الفعل غير جيد فإن جملة تحملين )
حال من ضمير طليق فطليق هو العامل في الحال وصاحبها . فإن قلت : نزل كلامه على أن الجملة حالٌ من إسم الإشارة فيكون العامل معنى التنبيه . قلت : يأباه قوله : إن تحملين مقدم من تأخيره . فتأمل . والبيت أول أبياتٍ ليزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميري خاطب بها بغلة . وبعده : ( طليق الذي نجى من الحبس بعدما ** تلاحم في دربٍ عليك مضيق ) ( ذري وتناسي ما لقيت فإنه ** لكل أناسٍ خبطةٌ وحريق )
____________________

( قضى لك خمخامٌ بأرضك فالحقي ** بأهلك لايؤخذ عليك طريق ) ( فيا بغلةً شماء لو كنت مادحاً ** مدحتك إني للكرام صديق ) ( لعمري لقد أنجاك من هوة الردى ** إمامٌ وحبلٌ للأنام وثيق ) ( سأشكر ما أوليت من حسن نعمةٍ ** ومثلي بشكر المنعمين حقيق ) وقد تقدم سبب هذه الأبيات مع ترجمة يزيد هذا في الشاهد الثالث بعد الثلثمائة ولكن ينبغي إيراده هنا مختصراً لطول العهد . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : يزيد هذا حليفٌ لقريش ويقال : إنه كان عبداً للضحاك بن عبد عوف الهلالي فأنعم عليه ولما ولي سعيد بن عثمان ابن عفان خراسان استصحبه فلم يصحبه يزيد وصحب زياد بن أبي سفيان فلم
____________________

يحمده وأتى عباد بن زياد فكان معه . وكان عبادٌ طويل اللحية عريضها فركب ذات يومٍ وابن مفرغ معه في موكبه فهبت ريحٌ فنفشت لحيته فقال ابن مفرغ : ( ألا ليت اللحى كانت حشيشاً ** فترعاها خيول المسلمينا ) فبلغ ذلك عباداً فحقد عليه وجفاه فقال ابن مفرغ : ( إن تركي ندى سعيد بن عثما ** ن فتى الجود ناصري وعديدي ) ( واتباعي أخا الرضاعة واللؤ ** م لنقصٌ وفوت شأوٍ بعيد ) ( قلت والليل مطبقٌ بعراه ** ليتني مت قبل ترك سعيد ) فأخذه عبيد الله بن زياد وحبسه وعذبه وسقاه التربد في النبيذ وحمله على بعير وقرن به خنزيرةً وأمشاه بطنه مشياً شديداً فكان يسيل منه ما يخرج على الخنزيرة فتصيح وكلما صاحت قال ابن مفرغ : وسمية : أم زياد وجعلها خنزيرة . فطيف به في أزقة البصرة وجعل الناس يقولون : أين جيست أي : ما هذا وهو يقول : )
____________________


آب است نبيذ است عصارات زبيب است سمية روسبيد است وهذه كلمات بالفارسية أي : هذا الذي ترونه إنما هو نبيذٌ وعصارة زبيب وسمية البغي .
يعني بها الخنزيرة . فلما ألح عليه ما يخرج منه قيل لعبيد الله : إنه يموت فأمر به فأنزل واغتسل فلما خرج من الماء قال : ( يغسل الماء ما فعلت وقولي ** راسخٌ منك في العظام البوالي ) ثم دس عليه غرماءه يستعدون عليه فأمر ببيع ما وجد له في إعطاء غرمائه فكان فيما بيع له غلام يقال له برد وكان يعدل عنده ولده وجاريةٌ يقال لها الأراكة . ففيهما يقول : ( يا برد ما مسنا دهرٌ أضر بنا ** من قبل هذا ولا بعنا له ولدا ) ( أما الأراك فكانت من محارمنا ** عيشاً لذيذاً وكانت جنةً رغدا ) ( لولا الداعي ولولا ما تعرض لي ** من الحوادث ما فارقتها أبدا )
____________________

( وشريت برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنت هامه ) ( أو بومةً تدعو صدًى ** بين المشقر واليمامه ) ( الريح تبكي شجوه ** والبرق يلمع في الغمامه ) ثم إن عبيد الله أمر به فحمل إلى سجستان إلى أخيه عباد بن زياد وكان ابن مفرغ كتب في حيطان الطرق والمنازل والخانات هجاءهم فألزم محوه بأظافره حتى فسدت أنامله ومنع أن يصلي إلى الكعبة وألزمه أن يصلي إلى قبلة النصارى فلما وصل إلى عبادٍ حبس فكان يهجوهم في الحبس . ومما قاله فيه : ( إن زياداً ونافعاً وأبا بك ** رة عندي من أعجب العجب ) ( إن رجالاً ثلاثة خلقوا ** من رحم أنثى مخالفي النسب ) ( ذا قرشيٌّ كما يقول وذا ** مولًى وهذا بزعمه عربي ) والثلاثة أولاد سمية . أما نافع فهو من الحارث بن كلدة . وأما أبو بكر وزيادٌ فهما من عبيدٍ الرومي فإن الحارث بعد أن أولدها نافعاً زوجها لعبيد فزيادٌ ادعى أنه قرشي وأبو بكرة مولًى لكونه ابن عبيد .
____________________

وأما نافع فهو عربيٌّ لكونه ابن الحارث الثقفي . فلما طال حبسه دخل )
أهل اليمن إلى معاوية فشفعوا فيه ووجه رجلاً من بني أسد يقال له خمخام وقال ابن السيد : هو من بني راسب بريداً إلى عباد وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرغ منه قبل أن يعلم عبادٌ فيغتاله . ففعل ذلك فلما خرج من الحبس قربت بغلةٌ من بغال البريد فركبها وقال : عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ الأبيات وتمام القصة هناك . فقوله : عدس هو زجرٌ للبغل أي : إنه زجرٌ له ليسرع . قاله الجوهري وأنشد هذا البيت . وربما سموا البغل عدس بزجره . قال الشاعر : ( إذا حملت بزتي على عدس ** فما أبالي من غزا ومن جلس ) وقال الجاحظ : زعم أناسٌ أن عدس اسم لكل بغلة وذهبوا إلى قول الشاعر : ( إذا حملت بزتي على عدس ** على التي بين الحمار والفرس ) فما أبالي من غزا ومن جلس وروي عن الخليل أن عدس كان رجلاً عنيفاً بالبغال أيام سليمان عليه السلام فإذا قيل لها ذلك إنزجرت وأسرعت . وهذا لا يعرف في اللغة . وزعم ابن قتيبة أن الذي ركبه ابن مفرغ فرس . قال : فبعث على البريد من أطلقه فبدأ بالحبس فأخرجه فلما قرب إليه فرسه قال : عدس ما لعباد البيت .
____________________

وهذا وهمٌ ويدل لما قلنا قوله : فيما بغلةً شماء . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وأن عدس خاصٌّ بزجر البغال . وقال بعضهم : إن عدس إسم بغلته . وهذا غير صحيح أيضاً لأنها لم تكن له وإنما هي من بغال البريد . وقوله : ما لعبادٍ إلخ ما نافية واللام متعلق بمحذوف وعليك متعلق بالظرف وإمارة إما فاعل لقوله لعباد وإما مبتدأ وخبره لعباد . وجملة : أمنت مستأنفة بياناً للجملة المنفية . وجملة : وهذا تحملين طليق حالٌ من فاعل أمنت أي : أمنت في حال كون محمولك طليقاً . والطليق : الذي أطلق من الإسار أي : أمنت من حكم عباد . وإذا لم يكن له حكم على البغلة فلأن لا يكون عليه حكمٌ أولى . وقوله : وهذا تحملين يعني بالإشارة نفسه . ومن العجب قول العيني هنا : إن عدس منادى بحرف نداء محذوف وبني على السكون لأنه في الأصل حكاية صوت . إلى أن قال : وإمارة مبتدأ . وعباد هو أخو عبيد الله بن زياد الذي قاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما في كربلاء . وزيادٌ يقال له زياد بن سمية وهي أمه بضم السين المهملة وفتح الميم وتشديد الياء ويقال له زياد بن عبيد بالتصغير وهو أبوه . ويقال )
له أيضاً زياد بن أبيه أي : ابن أبي معاوية لأن معاوية بن أبي سفيان جعله أخاً لنفسه واستلحقه بأبيه . وبيان ذلك كما ذكره الملك إسماعيل الأيوبي صاحب حماة في كتابه أخبار البشر : أنه لما دخلت سنة أربع وأربعين من الهجرة استلحق معاوية زياد بن سمية وكانت سمية جاريةً للحارث بن كلدة الثقفي فزوجها بعبدٍ له رومي يقال له عبيد فولدت سمية زياداً على فراشه فهو ولد عبيدٍ شرعاً . وكان أبو سفيان قد سار في الجاهلية إلى الطائف فنزل على إنسانٍ يبيع الخمر يقال له أبو مريم أسلم بعد ذلك وكانت له صحبة فقال له أبو سفيان : قد اشتهيت النساء فقال له أبو مريم : هل لك في سمية فقال أبو سفيان : هاتها على
____________________

طول ثدييها ودفر إبطيها فأتاه بها فوقع عليها فيقال إنها علقت منه بزياد فوضعته في سنة الهجرة .
ونشأ زيادٌ فصيحاً ثم لما كان قضية شهادة الشهود على المغيرة بالزنى وجلدهم ومنهم أبو بكرة أخو زياد لأمه وامتناع زياد عن التصريح كما ذكرنا اتخذ المغيرة بذلك لزياداً يداً . ثم لما ولي علي بن أبي طالب رضي الله عنه الخلافة استعمل زياداً على فارس فقام بولايتها أحسن قيام . ولما سلم الحسن الأمر إلى معاوية امتنع زيادٌ بفارس ولم يدخل في طاعة معاوية وأهم معاوية أمره وخاف أن يدعو إلى أحدٍ من بني هاشم ويعيد الحرب وكان معاوية قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة فقدم المغيرة على معاوية في سنة اثنتين وأربعين فشكا إليه معاوية امتناع زياد بفارس . فقال المغيرة : أتأذن لي في المسير إليه فأذن له وكتب معاوية لزيادٍ أماناً فتوجه المغيرة إليه لما بينهما من المودة وما زال عليه حتى أحضره إلى معاوية وبايعه وكان المغيرة يكرم زياداً ويعظمه من حين كان منه في شهادة الزنى ما كان . فلما كانت هذه السنة سنة أربع وأربعين استلحق معاوية زياداً وأحضر الناس وحضر من يشهد لزيادٍ بالنسب وكان ممن حضر ذلك اليوم أبو مريم الخمار الذي أحضر سمية إلى أبي سفيان بالطائف فشهد بنسب زيادٍ من أبي سفيان وقال : إني رأيت إسكتي سمية يقطران من مني أبي سفيان . فقال زياد : رويدك طلبت شاهدا ولم تطلب شتاماً . فاستلحقه معاوية . وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة علانية لصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وأعظم الناس ذلك وأنكروه خصوصاً بني أمية لكون زياد بن عبيد الرومي صار من بني أمية بن عبد شمس .
وقال عبد الرحمن بن الحكم أخو مروان في ذلك :
____________________

( ألا أبلغ معاوية بن صخرٍ ** لقد ضاقت بما تأتي اليدان ) ) ( أتغضب أن يقال أبوك عفٌّ ** وترضى أن يقال أبوك زاني ) ( وأشهد أن رحمك من زيادٍ ** كرحم الفيل من ولد الأتان ) ثم ولى معاوية زياداً البصرة وأضاف إليه خراسان وسجستان ثم جمع له الهند والبحرين وعمان . ثم دخلت سنة خمس وأربعين فيها قدم زيادٌ إلى البصرة وسدد أمر السلطنة وأكد الملك لمعاوية وجرد السيف وأخذ بالظنة وعاقب على الشبهة فخافه الناس خوفاً شديداً .
وكان معاوية وعماله يدعون لعثمان في الخطبة يوم الجمعة ويسبون عليا . ولما كان المغيرة متولي الكوفة كان يفعل ذلك وكان حجرٌ يقوم ومعه جماعة يردون عليه وكان المغيرة يتجاوز عنهم فلما ولي زيادٌ ودعا لعثمان وسب عليا قام حجر وقال كما كان يقول من الثناء على علي فغضب زيادٌ وأمسكه وأوثقه بالحديد وثلاثة عشر نفراً معهم وأرسلهم إلى معاوية فشفع في ستةٍ منهم عشائرهم وبقي ثمانية منهم حجر فقتلهم معاوية . وكان حجرٌ صحابياً من أعظم الناس ديناً وصلاة . وروى ابن الجوزي بإسناده عن الحسن البصري أنه قال : أربع خصال كن في معاوية لو لم تكن فيه إلا واحدةٌ لكانت موبقة وهي : أخذه الخلافة بالسيف من غير مشاورةٍ وفي الناس بقايا الصحابة وذوو الفضيلة . واستخلافه ابنه يزيد وكان سكيراً خميراً يلبس الحرير ويضرب بالطنابير . وادعاؤه زياداً أخاً وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : الولد للفراش وللعاهرة الحجر . وقتله حجر بن عديٍّ وأصحابه فيا ويلاً له من حجر وأصحاب حجر . وروي عن الشافعي أنه أسر إلى الربيع أن لا يقبل شهادة أربعة وهم : معاوية عمرو بن العاصي والمغيرة وزياد .
____________________

وأما قضية المغيرة بن شعبة فقد كانت في سنة سبع عشرة وهي أن المغيرة كان عمر بن الخطاب قد ولاه البصرة وكان في قبالة العلية التي فيها المغيرة بن شعبة عليةٌ فيها أربعة وهم أبو بكرة مولى النبي صلى الله عليه وسلم وأخوه لأمه زياد ابن أبيه ونافع بن كلدة وشبل بن معبد فرفعت الريح الكوة عن العلية فنظروا إلى المغيرة وهو على أم جميل بنت الأرقم بن عامر بن صعصعة وكانت تغشى المغيرة فكتبوا بذلك فعزل المغيرة واستقدمه مع الشهود . فلما قدم إلى عمر شهد أبو بكرة ونافعٌ وشبلٍ على المغيرة بالزنى وأما زياد بن أبيه فلم يفصح بشهادة الزنى فقال : رأيته جالساً بين رجلي امرأة ورأيت رجلين مرتفعتين ونفساً يعلو واستاً تربو عن ذكر ولا أعلم ما وراء ذلك . فقال عمر : هل رأيت الميل في المكحلة فقال : لا . فقال : هل تعرف المرأة قال : ولكن أشبهها . فأمر عمر بالثلاثة الذين شهدوا بالزنحها أن )
يحدوا حد القذف فجلدوا . وكان زيادٌ أخا أبي بكرة لأمه فلم يكلمه أبو بكرة بعدها . انتهى ما نقلته عن أخبار البشر . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : كتاب مثالب العرب أصله لزياد بن أبيه فإنه لما ادعى أبا سفيان أباً علم أن العرب لا تقر له بذلك مع علمهم بنسبه فعمل كتاب المثالب والصق بالعرب كل عيبٍ وعار وباطل وإفك وبهت . ثم ثنى على ذلك الهيثم بن عديٍّ وكان دعياً فأراد أن يعر أهل الشرف تشفياً منهم . ثم جدد ذلك أبو عبيدة معمر بن المثنى وزاد فيه لأن أصله كان يهودياً أسلم جده على يدي بعض آل أبي بكر فانتمى إلى ولاء تيم . ثم نشأ غيلان الشعوبي الوراق وكان زنديقاً ثنوياً لا يشك فيه فعمل لطاهر ابن الحسين كتاباً خارجاً عن الإسلام بدأ فيه بمثالب بني هاشم وذكر مناكحهم وأمهاتهم ثم بطون قريش ثم سائر العرب ونسب إليهم كل كذب وزور ووضع عليهم كل إفك وبهتان . ووصله عليه طاهرٌ بثلاثين ألفاً .
____________________

وأما كتاب المثالب والمناقب الذي بأيدي الناس اليوم فإنما هو للنضر بن شميل الحميري وخالد بن سلمة المخزومي وكانا أنسب أهل زمانهما أمرهما هشام بن عبد الملك أن يبينا مثالب العرب ومناقبها وقال لهما ولمن ضم إليهما : دعوا قريشاً بما لها وما عليها . فليس لقرشيٍّ في ذلك الكتاب ذكر . انتهى . وقوله : طليق الذي نجى إلخ الذي نجاه من الحبس هو معاوية . والدرب بالفتح : باب السكة الواسع والباب الأكبر . ومضيق : فاعل تلاحم . وقوله : لكل أناسٍ خبطة إلخ الخبطة بفتح المعجمة وسكون الباء قال صاحب القاموس : الخبطة : الركمة تصيب من قبل الشتاء والمطر الواسع . وقال : الركمة بالضم : الطين المجموع . وقوله : قضى لك خمخام بفتح الخاءين المعجمتين . وروى ابن قتيبة بحاءين مهملتين .
ويؤخذ مجزوم بلا الناهية وأراد به الدعاء لها بأن لا تؤخذ في طريق وهو عليها . والشماء : العالية المرتفعة مؤنث الأشم . والهوة بالضم : الموضع الهاوي . والردى : الهلاك . وإمامٌ : فاعل أنجاك . والطرق والطروق : الإتيان بالليل وأراد به مطلق الإتيان . وقوله : ( وشريت برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنت هامه ) في القاموس : الهامه : طائرٌ من طير الليل وهو الصدى . وقال في صدى : والصدى : طائرٌ يطير بالليل يقفز قفزاً . والمشقر كمعظمٍ : حصن
____________________

قديم . واليمامة : بلاد الجو وأصل اليمامة اسم امرأةٍ وهي جاريةٌ زرقاء وكانت تبصر من مسيرة ثلاثة أيام وهي مشهورةٌ سمي الجو باسمها . وبها تنبأ مسيلمة الكذاب وهي عن مكة ست عشرة مرحلةً من البصرة وعن الكوفة نحوها . )
وقوله : شجوه مفعول لأجله أي : شجو برد . والشجو : الحزن أي : لشجوها عليه . والبرق معطوفٌ على الريح أي : والبرق يبكي أيضاً . وجملة يلمع إلخ حالٌ . قال السيد المرتضى قدس سره في أماليه الغرر والدرر : عطف البرق على الريح ثم أتبعه بقوله : يلمع في الغمامة كأنه قال : والبرق أيضاً يبكيه لامعاً في غمامه أي : في حال لمعانه . ولو لم يكن البرق معطوفاً على الريح في البكاء لم يكن للكلام معنى ولا فائدة . والبيت الأول استشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : الذين يشرون الحياة الدنيا بالآخرة على أن الشراء يأتي بمعنى البيع كما في البيت يقال : شريت الشيء أشريه شرًى وشراء إذا بعته وإذا أخذته أيضاً . فهو من الأضداد . وقد عن لي أن أسوق القصيدة هنا فإنها جيدةٌ في بابها . قال : ( أصرمت حبلك من أمامه ** من بعد أيامٍ برامه ) ( ورمقتها فوجدتها ** كالضلع ليس لها استقامه )
____________________

( لهفي على الرأي الذي ** كانت عواقبه ندامه ) ( تركي سعيداً ذا الندى ** والبيت ترفعه الدعامه ) ( ليثاً إذا شهد الوغى ** ترك الهوى ومضى أمامه ) ( كانوا صديقاً قبل ذا ** فألم دهرٌ ذو عرامه ) ( وتبعت عبد بني علا ** جٍ تلك أشراط القيامه ) ( جاءت به حبشيةٌ ** سكاء تحسبها نعامة ) ( من نسوةٍ سود الوج ** هـ ترى عليهن الندامه ) وشريت برداً ليتني . . . . . . . . . . . . البيتين وبعدهما : ( والعبد يقرع بالعصا ** والحر تكفيه الملامه ) ( والهول يركبه الفتى ** حذر المخازي والملامه )
____________________

وقوله : سكاء تحسبها نعامه قال في العباب السكك بفتحتين : صغر الأذن وأذنٌ سكاء أي : صغيرة . يقال : كل سكاء تبيض وكل شرفاء تلد . فالسكاء : التي لا أذن ظاهرة لها . والشرفاء : التي لها أذنٌ ظاهرة . انتهى . والنعام صغير الأذن خلقه . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والعشرون بعد الأربعمائة ( فقلت له : لا والذي حج حاتمٌ ** أخونك عهداً إنني غير خوان ) على أنه بتقدير : حج حاتمٌ إليه فحذف إليه . قال أبو علي في الإيضاح الشعري : قوله : لا والذي حج حاتم يحتمل الذي ضربين : إن عنى بالذي الكعبة فذكر على إرادة البيت كما يقولون : والكعبة والبيت والمسجد فالضمير في حج محذوف لأن هذا الفعل متعدٍّ يدل على ذلك قوله : فمن حج البيت أو اعتمر . فالمعنى الذي حجه حاتم . وإن عنى بالذي الله سبحانه فالتقدير لا والذي حج له حاتم فحذف من الصلة . وهذا النحو من الحذف من الصلات قد جاء في الشعر من ذلك قوله : ( ناديت باسم ربيعة بن مكدم ** إن المنوه باسمه الموثوق ) فقال : الموثوق وحذف به . انتهى . وقال ابن جني في إعراب الحماسة : سألني أبو علي مرةً عن قوله :
____________________

( فقلت له لا والذي حج حاتم ** البيت ) فقلت له : يجوز أن يكون أقسم بالله عز وجل أي : والله الذي حج حاتم بيته ثم حذف المضاف فصار حجة ثم حذف الضمير على العادة من الصلة . ويجوز أن يكون الذي مصدراً كقوله تعالى : الذي يبشر الله عباده . وهو شبيه بيتنا هذا . اه . أراد بالبيت المشبه به البيت الذي شرحه وهو : ( رويق إني وما حج الحجيج له ** وما أهل بجنبي نخلة الحرم ) قال : يحتمل ما هنا أوجهاً : أحدها أن تكون عبارة عن القديم سبحانه على ما حكاه أبو زيد عن العرب من قوله : سبحان ما سخركن لنا وسبحان ما سبح الرعد بحمده وأراد : في ما الثانية له غير أنه حذفها لطول الكلام وتقدم ذكرها مع ما في الأولى . ويجوز أيضاً أن يكون ما هنا مصدراً فتكون الهاء في له لله تعالى وإن لم يجر له ذكر لأنه قد جرى ذكر الحج فدلت الطاعة على المطاع سبحانه فكأنه قال : إني وحج الحجيج لله . ويؤكد ذاك أنه لم يعد مع ما الثانية له لأنه غير محتاج إليها من حيث كانت مصدراً وغير محتاجة إلى عائد وقد تقدم له الأولى . ويجوز أيضاً أن تكون ما عبارة عن البيت فيقسم بالبيت كقول زهير :
____________________

( فأقسمت بالبيت الذي طاف حوله ** رجالٌ بنوه من قريشٍ وجرهم ) )
فإذا كان الأمر كذلك احتملت الهاء في له أمرين : أحدهما : أن تكون للبيت على أن يكون له بمعنى إليه كقوله تعالى : بأن ربك أوحى لها أي : إليها . والآخر أن يكون لله تعالى أي : والبيت الذي حج الحجيج لطاعة الله . وسألني أبو علي مرة عن قوله . إلى آخر ما أوردناه أولاً .
فعلم أن كلام الشارح المحق هو أحد تخريجي أبي علي الفارسي على تقدير حمل الذي على الله . ولم يرتضه ابن جني على هذا التقدير بل جعله على تأويل : والله الذي حج بيته حاتم فحذف بيت أولاً ثم الضمير العائد تدريجاً . وهذا أقيس من كلام أبي علي . والبيت أحد ( مررت على دار امرئ السوء عنده ** ليوث كعيدانٍ بحائط بستان ) ( ومررت على دار امرئ الصدق حوله ** مرابط أفراسٍ وملعب فتيان ) ( فقال مجيباً والذي حج حاتمٌ ** أخونك عهداً إنني غير خوان ) والسوء : بفتح السين وضمها : مصدرٌ أراد به السيئ فأطلق عليه مبالغة . وكذلك الصدق مصدر أطلق على الصادق . ويكون السوء والصدق في القول والفعل . والليوث : جمع ليث وهو الأسد أراد به الشجعان . وقال الجرمي : هو جمع ليثة يقال : ناقة ليثة . انتهى .
____________________

وفي القاموس : الليثة من الإبل : الشديدة . والعيدان بفتح العين المهملة : النخل الطوال قال الجوهري : والعيدان بالفتح : الطوال من النخل الواحدة عيدانة . هذا إن كان فعلان فهو من هذا الباب فإن كان فيعالاً فهو من باب النون . وقوله : بحائط بستان الباء بمعنى في . والحائط البستان والبستان فعلانٌ : الجنة . قال الفراء : عربيٌّ . وقال بعضهم : رومي معرب . فإضافة حائط إلى بستان بيانية . وقوله : ومررت على دار إلخ قال الجرمي : الواو زائدة في البيت كأنه عطف بيتاً على بيت . وفتيان : جمع فتى . وقوله : أخونك عهداً الخون والخيانة : أن يؤتمن الإنسان فلا ينصح بتعدى بنفسه إلى مفعول واحدٍ تارة يقال : خان الرجل الأمانة وتارة إلى المفعول الثاني بنفسه وبحرف الجر يقال : خانه العهد وفي العهد . والعهد : الوصية والأمان والموثق والذمة . وقوله : فقال مجيباً فاعل قال ضمير امرئ الصدق ومجيباً حال منه . وقوله والذي الواو للقسم والذي مقسم به . وحج حاتم صلة الذي والعائد محذوف كما تقدم بيانه وجملة : أخونك جواب القسم بتقدير لا النافية كقوله تعالى : تالله تفتؤ تذكر يوسف والكاف مفعول أول وهي مفتوحة لا مكسورة وعهداً مفعول ثان وجملة : إنني غير خوان استئناف بياني . والأبيات لعريان بن سهلة الجرمي وهو شاعر من شعراء الجاهلية . كذا قال أبو زيد في نوادره . والعريان بضم العين )
وسكون الراء المهملتين بعدهما مثناة
____________________

تحتية وآخره نون . وسهلة بفتح السين المهملة وسكون الهاء بعدها لام وهاء تأنيث . والجرمي : نسبة إلى جرم بفتح الجيم وسكون الراء المهملة . وجرم : بطنٌ من قبيلة طيء وبطن من قبيلة قضاعة أيضاً . ولا أعلم إلى أي هذين البطنين . والله أعلم .
وأنشد بعده الشاهد الثلاثون بعد الأربعمائة فسلم على أيهم أفضل هذا عجز وصدره : إذا ما لقيت بني مالكٍ على أن العائد الواقع مبتدأ محذوف والتقدير : أيهم هو أفضل . وفيه روايتان : على أيهم بالبناء على الضم وبه أورده ابن هشام في بحث أي من المغني . وعلى أيهم بإعرابه بالجر وبه أورده أيضاً في بحث جملة الصلة من الباب الثاني قال : قرئ : أيهم أشد بالنصب وروي : فسلم على أيهم أفضل بالخفض . وكذلك رواه بالوجهين في شرح الشواهد . وإذا شرطية وما زائدة . وجملة : فسلم جواب الشرط . ومسألة أي خلافية وقد فصلها ابن الأنباري في مسائل الخلاف وكذلك الشارح المحقق بعد الإخبار بالذي .
____________________

والبيت لم يبلغني قائله . وقال ابن الأنباري : حكاه أبو عمرو الشيباني بضم أيهم عن غسان وهو أحد من تؤخذ عنه اللغة من العرب . انتهى . فغسان قائل البيت . وزعم ابن هشام أنه لرجلٍ من غسان .
والله أعلم . وأنشد بعده
الشاهد الحادي والثلاثون بعد الأربعمائة أنا الذي سمتن أمي حيدره على أن يجوز أن يقال : سمتني والأكثر سمته . وظاهر كلامه أنه غير قبيح . وكذلك كلام صاحب الكشاف وبه استشهد عند قوله تعالى : ولكنى رسولٌ من رب العالمين أبلغكم رسالات ربي على جواز كون أبلغكم صفة رسول الله لأن الرسول وقع خبراً عن ضمير المتكلم في لكني فجاز عود ضمير المتكلم عليه كما وقع الموصول في البيت خبراً عن ضمير المتكلم مع أن حق الضمير العائد إلى الموصول الغيبة فكان مقتضى الظاهر في الآية : يبلغكم وفي البيت : سمته . وكذلك ظاهر كلام ابن الشجري في أماليه فإنه تكلم على قول المتنبي :
____________________

قال : رجلٌ خبر موطئ والجملة بعده صفته والفائدة بها والخبر الموطئ كالزيادة في الكلام .
فلذلك عاد الضميران وهما الياء في مخاطبتي ولم ترني إلى الياء في أنني ولم يعودا على رجل لأن الجملة في الحقيقة خبرٌ عن أنني . ونظيره عود الياء إلى الذي في قول علي رضي الله عنه : أنا الذي سمتن أمي حيدره لما كان المعنى الذي هو أنا في المعنى وليس هذا مما يحمل على الضرورة لأنه وقع في القرآن نحو : بل أنتم قومٌ تجهلون . ومما جاء في الشعر لغير ضرورة قوله : ( أأكرم من ليلى علي فتبتغي ** به الجاه أم كنت امرأً لا أطيعها ) ولم يقل يطيعها وفاقاً لامرئٍ . فهذا دليل على دليل التنزيل فاعرف هذا وقس عليه نظائره .
انتهى . ولا يخفى أن مبنى كلامه على أن الضرورة ما ليس للشاعر عنه مندوحة . والصحيح أنها ما وقع في الشعر سواء كان عنه مندوحةٌ أم لا . وصريح كلام الإمام المرزوقي أنه قبيح مردود . قال : كان القياس أن يقول سمته حتى يكون في الصلة ما يعود إلى الموصول لكنه لما كان القصد في الإخبار عن نفسه وكان الآخر هو الأول لم يبال برد
____________________

الضمير على الأول وحمل الكلام على المعنى لأمنه من الإلباس وهو مع ذلك قبيح عند النحويين حتى إن المازني قال : لولا اشتهار مورده وكثرته لرددته . انتهى . والحيدرة : الأسد نقل الحسين الميبذي في شرح ديوان الإمام علي رضي الله عنه عن الحافظ إسماعيل قال : يروى أن أم مرحب كانت كاهنة قالت لابنها : يا بني إني خائفةٌ عليك رجلاٌ يسمي نفسه في الحرب حيدرة فإن سمعت ذلك فلا تبارزه . فلما سمع الرجز أراد الرجوع فمنعته الحمية الجاهلية فقتله عليٌ رضي الله عنه )
والسياق مشعرٌ بأن عليا كان سمع هذا فلهذا قال حيدرة . انتهى . وحمله الجمهور على غير هذا قال ابن قتيبة في غريب الحديث : سألت بعض آل أبي طالب عن قوله : سمتن أمي حيدره فذكر أن أم علي فاطمة بنت أسد ولدت علياً وأبو طالب غائب فسمته أسداً باسم أبيها فلما قدم أبو طالب كره هذا الاسم وسماه علياً فلما كان يوم خيبر ورجز عليٌّ ذكر الاسم الذي سمته به أمه فكأنه قال : أنا الأسد . اه . ومثله في صحاح الجوهري . وقال السهيلي في الروض الأنف . في قول علي : سمتن أمي حيدره ثلاثة أقوال ذكرها قاسم بن ثابت . أحدها : أن اسمه في الكتب المتقدمة أسد والأسد هو الحيدرة . الثاني : أن أمه فاطمة بنت أسد حين ولدته كان أبوه غائباً فسمته باسم أبيها
____________________

أسداً فقدم أبوه فسماه علياً . الثالث : أنه كان لقب بصغره بحيدرة لأن الحيدرة الممتلئ لحماً مع عظم بطن وكذلك كان رضي الله عنه ولذلك قال بعض اللصوص حين فر من سجنه الذي كان يسمى نافعاً وقيل فيه بالياء أيضاً : ( ولو أني مكثت لهم قليلاً ** لجروني إلى شيخٍ بطين ) انتهى . فعلى القولين الأولين يكون من التعبير بالمترادف . قال ابن السيد البطليوسي في شرح أدب الكتاب : أراد أنا الذي سمتني أمي أسداً فلم يمكنه ذكر الأسد من أجل القافية فذكر حيدرة لأنه اسمٌ من أسمائه . وإنما قلنا ذلك لأن أمه لم تسمه حيدرة وإنما سمته أسداً . انتهى . والبيت من رجزٍ لعلي رضي الله عنه قال يوم خيبر . روي أن مرحباً اليهودي خرج يوم خيبر وهو يخطر وعليه مغفرٌ يماني وحجرٌ قد ثقبه مثل البيضة على رأسه وهو يرتجز ويقول : ( قد علمت خيبر أني مرحب ** شاكي السلاح بطلٌ مجرب ) إذا الليوث أقبلت تلهب فبرز له عليٌ عليه السلام وعليه جبةٌ حمراء قد أخرج خملها وهو يقول : ( أنا الذي سمتن أمي حيدره ** ضرغام آجامٍ وليثٌ قسوره ) ( عبل الذراعين شديد القصره ** كليث غاباتٍ كريه المنظره ) ( أضرب بالسيف رقاب الكفره ** أكيلهم بالسيف كيل السندره ) وروى أيضاً :
____________________

أوفيهم بالصاع كيل السندره وزاد الحسين الميبذي في روايته : ( أضربكم ضرباً يبين الفقره ** وأترك القرن بقاعٍ جزره ) ( أشفي صدري من رؤوس الكفره ** أقتل منهم سبعةً أو عشره ) )
وقد روي أبيات مرحب على غير ما ذكرنا وهي : ( إنا أناسٌ ولدتنا عبهره ** لباسنا الوشي وريط حبره ) أبناء حربٍ ليس فينا غدره وقال : العبهرة : المرأة الحسناء . والوشي من الثياب معروف . والريطة : الملاءة . والحبرة : البرد اليمني . وغدرة : جمع غادر . والجزرة بفتحتين : اللحم الذي تأكله السباع والجمع جزر يقال : تركوهم جزراً أي : قتلوهم . اه . والسندرة : بفتح السين المهملة وسكون النون قال السهيلي : شجرةٌ يصنع منها مكاييل عظام . وقال ابن السيد البطليوسي : قال ابن قتيبة : في شرح الحديث : السندرة شجرةٌ تعمل منها القسي والنبل فيحتمل أن يكون مكيالاً يتخذ من هذه الشجرة يسمى باسمها كما تسمى القوس نبعةً باسم الشجرة التي أخذت منها . قال : ويحتمل أن يكون امرأةً كانت تكيل وافياً أو رجلاً . وذكر أبو عمر المطرز في كتاب الياقوت : أن السندرة امرأة .
انتهى . وفي العباب للصاغاني : السندرة : اسم امرأةٍ كانت تبيع القمح وتوفي الكيل . والسندري : مكيالٌ ضخم كالقنقل والجراف . وقال ثعلب في قول علي رضي الله عنه :
____________________

( أنا الذي سمتن أمي حيدره ** كليث غاباتٍ كريه المنظره ) ( أكيلكم بالسيف كيل السندره ** أطعن بالرمح نحور الكفره ) لم تختلف الرواة أن هذا الرجز له واختلفوا في السندرة فقال ابن الأعرابي : هي مكيال . أي : أقتلكم قتلاً واسعاً كثيراً . وقال غيره : هي امرأةٌ كانت توفي الكيل . أي : أقتلكم قتلاً وافياً .
انتهى . والضرغام والليث بمعنى الأسد . والآجام والغابات : جمع الأجمة والغابة وهما الشجر الكثيف الملتف أو القصب مثله يكونان مأوى الأسد إشارة إلى فرط قوته ومنعة جانبه حيث لم يكتف بأجمةٍ بل حمى آجاماً وغابات . وليث الأول مضاف إلى قسورة والقسورة هنا أول الليل ذكر هذا المعنى صاحب العباب . ويأتي بمعنى الأسد أيضاً وهو من القس لأنه يأخذ فريسته قهراً وغلبة ويجوز على هذا أن يقرأ بتنوين ليت فيكون قسورة وصفاً له .
والقصورة لغة في القسورة وفسره شارح الديوان برامي السهم وفي التنزيل : فرت من قسورةٍ .
قيل من أسد . وقال ابن عباس : القسورة : ركز الناس وحسهم . وقال غيره : هم الرماة الذين يتصيدونها . وقال : المعنى كأنهم حمر نفرها من يقسرها برمي أو صيد أو غير ذلك . والعبل بفتح العين المهملة مسكون الموحدة : الضخم . والقصرة بفتح القاف والصاد المهملة . أصل )
العنق . ورواه أبو عمرو الشيباني : كليث غابات غليظ القصره وأخطأ شارح الديوان بتفسيره إياه بأصل الأذن . والفقرة بكسر الفاء وفتح القاف : جمع فقرة بسكون القاف وهي خرزة الظهر . والفقارة بالفتح أيضاً هي خرزة الظهر . والقرن بكسر القاف وسكون الراء وهو المقاوم في قتال
____________________

أو علم أو غيرهما . وقول مرحب : شاكي السلاح قال صاحب المصباح : الشوكة : شدة البأس والقوة في السلاح . وشاك الرجل يشاك شوكاً من باب خاف : ظهرت شوكته وحدته . وهو شائك السلاح وشاكي السلاح على القلب . وفي سيرة ابن سيد الناس أن مرحباً لما رجز : قد علمت خيبر أني مرحب أجابه كعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم : ( قد علمت خيبر أني كعب ** مفرج الغما جريء صلب ) في أبيات . وهذا هو الصحيح فإن أجوبة الأرجاز في الحرب إنما هي على القافية فيكون رجز علي رضي الله عنه جوابا عن قول مرحب : إنا أناسٌ ولدتنا عبهرة كما رواه حسين الميبذي . ولم يذكر الشامي هذا في سيرته وذكر في قتل مرحب روايات مختلفة . وخيبر : اسم ولايةٍ مشتملةٍ على حصون ومزارع ونخل كثير على ثلاثة أيامٍ من المدينة على يسار الحاج الشامي سميت باسم أول من نزلها وهو خيبر أخو يثرب ابنا أخي عاد .
وكانت غزوة خيبر في آخر السنة السادسة من الهجرة قبل فتح مكة شرفها الله تعالى فإن فتحها كان في سنة ثمان من الهجرة .
____________________

واعلم أن العلماء قد اختلفوا في الشعر المنسوب إلى علي رضي الله عنه قال المازني : إنه لم يصح أنه عليه السلام تكلم بشيٍ من الشعر غير هذين البيتين . وصوبه الزمخشري وهما : ( تلكم قريش تمناني لتقتلني ** فلا وربك ما بروا ولا ظفروا ) ( فإن هلكت فرهنٌ ذمتي لهم ** بذات ودقين لا يعفو لها أثر ) كذا قال صاحب القاموس . وفسر ذات ودقين بالداهية قال : كأنها ذات وجهين . و ودقين بفتح الواو وسكون الدال وفتح القاف . ويرد على المازني والزمخشري ما نقلناه آنفاً عن ثعلب من كون )
الرواة لم يختلفوا في الرجز الذي منه البيت الشاهد أنه له عليه السلام ويؤيده أنه مذكورٌ في جميع كتب السير والمغازي . وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وكرم وجهه قال ابن حجر قي الإصابة : هو ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وأبو الحسن وأول الناس إسلاما في قول الكثير من أهل العلم ولد قبل البعثة بعشر سنين على الصحيح فربي في حجر النبي صلى الله عليه وسلم ولم يفارقه وشهد معه المشاهد إلا غزوة تبوك فقال له بسبب تأخيره له بالمدينة : ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى الحديث . وزوجه بنته فاطمة وكان اللواء بيده في أكثر المشاهد . ولما آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين أصحابه قال له : أنت أخي .
ومناقبه كثيرة حتى قال الإمام أحمد : لم ينقل لأحدٍ من الصحابة ما نقل لعلي . وقال غيره : وكان سبب ذلك تنقيص بني أمية له فكان كل من كان عنده علمٌ من مناقبه من الصحابة يبثه وكلما أرادوا إخماده وهددوا من حدث بمناقبه لا يزداد إلا انتشاراً .
____________________

ومن خصائص علي رضي الله عنه قوله صلى الله عليه وسلم يوم خيبر : لأدفعن الراية غداً إلى رجلٍ يحب الله ورسوله يفتح الله على يديه . فلما أصبح صلى الله عليه وسلم غدوا كلهم يرجو أن يعطاها فقال صلى الله عليه وسلم : أين علي بن أبي طالب فقالوا يشتكي عينيه . فأتى به فبصق في عينيه ودعا له وأعطاه الراية . أخرجاه في الصحيحين . وبعثه لقراءة براءة على قريش وقال : لا يذهب إلا رجلٌ مني وأنا منه . وقال لبني عمه : أيكم يواليني في الدنيا والآخرة فقال علي : أنا . فقال : إنه ولي في الدنيا والآخرة وأخذ رداءه فوضعه على علي وفاطمة وحسن وحسين وقال : إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت . ولبس ثيابه ونام مكانه . وكان المشركون قصدوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم فلما أصبحوا رأوه قالوا : أين صاحبك وقال له في غزوة تبوك : أنت مني بمنزلة هرون من موسى إلا أنك لست بنبي أي : لا ينبغي أن أذهب إلا وأنت خليفتي .
وقال له : أنت ولي كل مؤمنٍ بعدي . وسد الأبواب إلا باب عليٍّ فيدخل المسجد جنباً وهو طريقه ليس له طريقٌ غيره . وقال : من كنت مولاه فعليٌّ مولاه . وأخرج الترمذي بإسنادٍ قويٍّ عن عمران بن حصين في قصةٍ قال فيها : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما يريدون من علي إن علياً مني وأنا من علي وهو ولي كل مؤمن بعدي . واستشهد في ليلة التاسع عشر من شهر رمضان سنة أربعين من الهجرة . ومدة خلافته خمس سنين إلا ثلاثة اشهر ونصف شهر . انتهى كلام الإصابة مختصراً . ومناقبه العديدة وسيره الحميدة لا يحتملها هذا المختصر . وقد ألف )
العلماء فيها تآليف عديدة لا تعد ولا تحصى .
____________________

وأنشد بعده الشاهد الثاني والثلاثون بعد الأربعمائة القاتلي أنت أنا وهذا بعض بيتٍ وضعه بعض النحاة للتعليم كما في سفر السعادة وهو : ( كيف يخفى عنك ما حل بنا ** أنا أنت القاتلي أنت أنا ) وروي أيضاً : أنا أنت الضاربي أنت أنا واقتصر الشارح المحقق على هذا القدر لتعلق غرضه به ولم يورده بتمامه لشهرته وخطأ قائله فإنه كان يجب أن يقول : القاتله بالهاء لا بالياء ليكون التقدير : الذي قتلته أنا . لأن أل في القاتل اسم موصول بمعنى الذي وحق العائد أن يكون بضمير الغائب لا بضمير المتكلم لئلا يصير الإخبار لغواً إذ التقدير : الذي قتلني فيصير من قبيل الذي ضربت أنا . وقد ذكر أنه لا يجوز الحمل على المعنى . قال ابن السراج في الأصول : لا يجوز الذي ضربتك أنت ولا الذي ضربتني أنا . فإن قدمت نفسك قبل الذي قلت : أنا الذي ضربتك وأنا الذي ضربتني . قال أبو عثمان المازني : ولولا أن هذا حكي عن العرب الموثوق بعربيتهم رددناه لفساده . ومما جاء في الشعر في صلة الذي محمولاً على معناه لا لفظه قوله : ( وأنا الذي قتلت بكراً بالقنا ** وتركت تغلب غير ذات سنام )
____________________

ولو حمل على لفظه لقال قتل . وليس كل كلام يحتمل أن يحمل على المعنى . انتهى . وقد جوزه أبو ذرٍّ مصعب بن أبي بكر الخشني حكاه عنه أبو حيان في الارتشاف قال : يجيز عودة ضمير مطابقاً للخبر في الخطاب والتكلم بحمله على المعنى . قال : ورد عليه بأنه يلزم منه أن تكون فائدة الخبر حاصلةً في المبتدأ . وذلك خطأ . وقال ناظر الجيش في شرح التسهيل : المبتدأ يخبر عنه مظهراً كان أو مضمراً بمتكلم أو مخاطب أو غائب فيقال في الإخبار عن هو من قولك : هو قائم هو وفي الإخبار عنه إذا كان لمتكلم أو مخاطب خلافٌ والأصح الجواز . والضمير الذي يأتى به خلفاً يكون ضمير غيبة . وأجاز الكسائي : الذي أنا قائم أنا والذي أنت قائم أنت .
والكسائي نظر إلى المعنى . ولا شك أن هذه المسألة نقلت إلى مسالة أنت الذي قام وأنا الذي قام حيث يجوز فيها . أنت الذي قمت وأنا الذي قمت ولكن شرط مراعاة المعنى في هذه )
المسألة تقدم الضمير على الاسم الموصول فلو تقدم الموصول على الضمير لم يجز مراعاة المعنى إلا عند الكسائي ومن ثم أجاز : الذي أنا قائم أنا والذي أنت قائم أنت . انتهى . وإذا وقفت على هذا علمت أن ما رده الشارح المحقق وأبو حيان ليس بوجهٍ لأنه قولٌ لإمام الكوفيين وغيره فناظم البيت تابعٌ لهما . غايته أنه مخالفٌ لقول الجمهور . وقد أعرب هذا المصراع بوجهين أبو محمد عبد الرحمن الشهير بإبن بري كما نقله عنه صاحب سفر السعادة قال : أحد الوجهين أن تجعل الألف واللام ل أنا والفعل ل أنت . فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلي مبتدأ ثالث لأنه غير أنت إذا الألف واللام لأنا .
____________________

والعائد على الألف واللام الياء في القاتلي لأنها أنا في المعنى وأنت فاعل بالقاتلي أبرز لما جرى الوصف على غير من هو له إذ الألف واللام لأنا والفعل لأنت فأنا على هذا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلي خبر أنت ولا يبرز الضمير فيه لأنه جرى على من هو له ويكون الكلام قد تم عند قوله القاتلي ويكون أنت أنا على طريق المطابقة للأول ليكون آخر الكلام دالاً وجارياً على أوله . ألا تراه قال في أول الكلام : أنا أنت ولهذا قال في آخره : أنت أنا أي : كيف أشكو ما حل بي منك وأنا أنت وأنت أنا فإذا شكوتك فكأنما أشكو نفسي . قال : ولو جعلت الألف واللام والفعل في هذه المسألة لأنا لقلت : أنا أنت القاتلك أنا فأنا مبتدأ وأنت مبتدأ ثان والقاتلك مبتدأ ثالث لأنه غير أنت وفيه ضميرٌ يعود على الألف واللام التي هي أنا في المعنى . ولم يبرز الضمير الذي في القاتلك . والقاتلك وخبره خبر أنت وأنت وخبره خبر أنا . اه . وقد أورد أبو حيان هذا البيت في تذكرته واقتصر في إعرابه على الوجه الأول من وجهي قول ابن بري قال : أنا الأول مبتدأ وأنت الأول مبتدأ ثان والألف واللام لأنا وقاتلي لأنت . فقد جرى إسم الفاعل صلةً على الألف واللام التي هي أنا فأبرز ضميره وهو أنت . فأنت يرتفع بقاتلي وأنا خبر عن الألف واللام وهي وما بعدها خبر عن أنت الأول وهو وما بعده خبر عن أنا الأول والعائد إلى أنا الأول أنا الثاني والياء في القاتلي عائدةٌ على الألف واللام . انتهى . وقد أجاب بالوجه الأول نظماً أبو بكر بن عمر بن إبراهيم بن دعاس الفارسي فإنه سأله بعضهم عنه بقوله : ( أيها الفاضل فينا أفتنا ** وأزل عنا بفتواك العنا )
____________________

( كيف إعراب نحاة النحو في : ** أنا أنت الضاربي أنت أنا ) فأجابه بقوله : ) ( أنا أنت الضاربي مبتدأ ** فاعتبرها يا إماماً لسنا ) ( ثم إن الضاربي أنت أنا ** خبرٌ عن أنت ما فيه انثنا ) ( وأنا الجملة عنه خبرٌ ** وهي من أنت إلى أنت أنا ) وأبو بكر هذا كان فقيهاً حنفياً أديباً شاعراً نال من إمام اليمن المظفر حظوة حتى اختص به ثم طرده لإدلال تكرر منه من تعز إلى زبيد فمات بها في جمادى الآخرة سنة سبعٍ وستين وستمائة . وكان أهل زبيد ينسبونه إلى سرقة الشعر ويقولون : إذا حوسب الشعراء يوم القيامة يؤتى بابن دعاس فيقول : هذا البيت لفلانٍ وهذا المصراع لفلان وهذا المعنى لفلان . فيخرج بريئاً . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وأما أبو محمد ابن بري فهو عبد الرحمن بن بري بن عبد الجبار المقدسي المصري الشافعي النحوي اللغوي كان قيماً بهما وبالشواهد ثقة . قرأ عليه الجزولي . وصنف الرد على ابن الخشاب في رده على الحريري في مقاماته وكتاب الرد على درة الغواص للحريري وحواشي على صحاح الجوهري . قال الصفدي : لم يكملها بل وصل إلى وقش وهو ربع الكتاب فأكملها الشيخ عبد الرحمن بن محمد البسطي . مات في ليلة السبت السابعة والعشرين من شوال سنة ثنتين وثمانين وخمسمائة . وأقرأ كتاب سيبويه وتصدر بجامع عمرو .
____________________

وكان مع غزارة علمه ودقة فهمه ذا غفلةٍ وبلاهة تحكى عنه حكاياتٌ عجيبة . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وبري بفتح الموحدة وتشديد الراء والياء وهكذا ضبطه ابن حجر في مشتبه النسبة . وأما مصعب الخشني فهو محمد بن مسعود الخشني الأندلسي الجياني كان أحد الأئمة المتقنين وأحد المعتمدين في الفقه والأدب إماماً في العربية جال الأندلس في طلب العلم . وروى عن ابن قرقول وابن بشكوال وعبد الحق الإشبيلي وأجاز له السلفي وولي قضاء بلده . ولم يكن في وقته أتم وقاراً ولا أحسن سمتاً منه . واتفقوا على أنه لم يكن في وقته أضبط منه ولا أتقن في جميع علومه حفظاً وقلماً . وكان نقاداً للشعر مطلق العنان في معرفة أخبار العرب وأيامها وأشعارها ولغاتها متقدماً في كل ذلك . والخشني بضم الخاء وفتح الشين المعجمتين وبالنون : نسبةٌ إلى خشين كقريش : قرية بالأندلس وقبيلة من قضاعة وهو خشين بن النمر بن وبرة بن تغلب بن عمران بن حلوان بن الحاف بن قضاعة . كذا في معجم النحويين للسيوطي . وأما صاحب سفر السعادة فهو أبو الحسن علي بن محمد بن عبد الصمد الهمداني الملقب علم الدين السخاوي من سخى إحدى بلاد مصر من إقليم المحلة . كان فقيهاً شافعياً )
إماماً في القراءات والتفسير والنحو .
____________________

وصنف تصانيف كثيرة منها : شرح الشاطبية . وتفسير القرآن في أربعه مجلدات . وشرح المفصل شرحين . وسفر السعادة وسفير الإفادة . وشرح أحاجي الزمخشري النحوية وغير ذلك . وكان مولده سنة ثمانٍ أو تسعٍ وخمسين وخمسمائة ومات بدمشق ليلة الأحد ثاني عشر جمادى الآخرة سنة ثلاثٍ وأربعين وستمائة بمنزله بالتربة الصالحية الشاهد الثالث والثلاثون بعد الأربعمائة ( من النفر اللائي الذين إذا اعتزوا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) على أنه من باب التكرير اللفظي كأنه قال : من النفر اللائي اللائي . على أنه قد رواه الرواة : من النفر الشم الذين . قال ابن السراج في الأصول : العرب لا تجمع بين الذي والذي ولا ما كان في معنى الذي . وأما ذلك فشيء قاسه النحويون ليتدرب به المتعلمون . وكذا يقول البغداديون الذين على مذهب الكوفيين يقولون : إنه ليس من كلام العرب ويذكرون أنه إذا اختلف جاز .
____________________


وينشدون : ( من النفر اللائي الذين إذا هم ** يهاب اللئام حلقه الباب قعقعوا ) قالوا : فهذا جاء على إلغاء أحدهما . وهذا البيت قد رواه الرواة ولم يجمعوا بين اللائي واللذين . ويقولون على هذا : مررت بالذي ذو قال ذاك على الإلغاء . وهذا عندي أقبح لأن الذي يجعل ذو في معنى الذي : طيء فكيف يجمع بين اللغتين . ولا يجيزون الذي من قام زيد على اللغو ويحتجون بأن من تكون معرفة ونكرة ويجيزون بالذي القائم أبوه على أن يجعل الألف واللام للذي وما عاد من الأب على الألف واللام وبخفض القائم يتبع الذي . وهذا عندنا غير جائز لأن الذي لا بد لها من صلة توضحها فمتى حذفت الصلة في كلامهم فإنما ذاك لأنه قد علم . وإذا حذفت الصلة وهي التي توضحه ولا معنى له إلا بها كان حذف الصفة أولى فكيف تحذف الصلة وتترك الصفة . اه . وجميع ما أورده الشارح المحقق هنا من مسائل الإخبار عن الذي فهو من الأصول وهي بالنسبة إلى ما فيه قليل من كثير . وقد أورد البيت الفراء في سورة الذاريات من تفسيره عند قوله تعالى : إنه لحقٌّ مثل ما تنطقون . قال : قد يقول القائل : كيف اجتمعت ما وإن وقد يكتفي بإحداهما عن الأخرى فوجهه أن العرب تجمع بين الشيئين من الأسماء والأدوات إذا اختلف لفظهما . فمن الأسماء قول الشاعر : ( من النفر اللائي الذين إذا هم ** البيت ) )
فجمع بين اللائي والذين وأحدهما يجزئ من الآخر . انتهى كلامه .
____________________

وأورده أبو علي أيضاً في إيضاح الشعر في موضعين قال في الموضع الأول : أعلم أنه لا يجوز أن يكون الذين صلة اللائي كقولك : الذي الذي في داره زيدٌ عمرو لأنه ليس في ظاهر صلة الذين ما يرجع إلى اللائي . وقد جاء في التنزيل وصل الموصول بالموصول على ما يحمل النحويون عليه مسائل هذا الباب . زعموا أن بعض القراء قرأ : فاستغاثه الذي من شيعته . وقال في الموضع الثاني : فأما قوله من النفر اللائي الذين فإن اللائي وإن لم يعد عليه ذكرٌ من اللفظ فإنه يجوز أن يكون حذف الراجع من الصلة كأنه قال : اللائي هم الذين . ويجوز أن يكون حذف الصلة لأن صلة الموصول بعده تدل ( من اللواتي والتي واللاتي ** زعمن أني كبرت لداتي ) فلم يأت للموصولين الأولين بصلة . ويجوز فيه وجهٌ آخر وهو أن البغداديين قد أجازوا في هذه الموصولة من نحو الذين أن يوصف ولا يوصل كإجازة الجميع ذلك في من و ما . وقد أنشد أبو عثمان عن الأصمعي : ( حتى إذا كانا هما اللذين ** مثل الجديلين المحملجين ) واللاتي واللائي من الأسماء الموصولة وهما يقعان على المؤنث ولم نعلم اللاتي استعملت في المذكر .
____________________

فأما اللائي فقد استعمل في المذكر قال : ( ألما تعجبي وتري بطيطاً ** من اللائين في الحقب الخوالي ) ولو كان يختص بالمؤنث لم يجمع بالواو والنون . ويدل على تذكير اللائي أيضاً قوله : من النفر اللائي الذين ألا ترى أنه جعله وصفاً للنفر والنفر مذكر . وأما هم في البيت فإنه يرتفع بمضمر يفسره قعقعوا والشرط قعقعوا المتأخر والتقدير : إذا أظهرت المضمر الذي ارتفع عليه الضمير : إذا قعقعوا قعقعوا لأن الضمير يتصل بالفعل المضمر إذا أظهرته ولا يجوز أن يكون الشرط يهاب لأنه لا يجوز أن يفسر ما ارتفع عليه هم وإنما يفسره قوله قعقعوا . والتقدير : إذا قعقعوا حلقة الباب هاب اللئام دقها لأنهم ليسوا على ثقة من الإذن لهم كما يثق هؤلاء النفر الرؤساء بأنهم يؤذن لهم . فقعقعوا وإن كان مؤخراً في اللفظ فهو مقدم في التقدير بدلالة أنه لا يخلو من أن تجعل الشرط إذا يهاب أو إذا قعقعوا . فلا يجوز الأول لأنه لا يفسر ما ارتفع عليه كما يفسره قعقعوا . ألا ترى أنه مشتغل بظاهر وإذا كان كذلك لم يجز من جهة اللفظ إن لم يمتنع من جهة المعنى أن تقول : إذا هاب اللئام دق الحلقة دقها الكرام . فأما صلة الموصول بإذا مع أن الذين )
يعنى بهم أعيان ولا يجوز الذي يوم الجمعة زيد كما يجوز الذي يوم الجمعة القتال فإن الكلام محمول على المعنى كأنه قال : الذين إن قعقعوا يهاب اللئام فلذلك جاز . وهذا يدل على جواز ما أجازه سيبويه من قوله : زيد إذا أتاني أضرب وأنه لا يكون بمنزلة زيد يوم الجمعة ولا زيد غداً . وعلى هذا قول أوس :
____________________

( فقومي وأعدائي يظنون أنني ** متى أحدثوا أمثالهم أتكلم ) مع أنه لا يجوز علمت أن زيداً يوم الجمعة . فأما قوله : إذا يهاب فجاء بالمضارع بعد إذا وأكثر ما يجيء في الاستعمال الماضي فإن الأصل المضارع . ألا ترى أنه يراد به الآتي فإذا جاء به على الأصل كان حسناً كقوله : إذا يراح اقشعر الكشح والعضد انتهى كلام أبي علي . وقوله : إذا اعتزوا في رواية الشارح المحقق بمعنى إذا انتسبوا . وروى أيضاً : إذا انتموا من الانتماء بمعنى الانتساب . والشم بالضم : جمع أشم وهو الذي به شمم أي : كبر ونخوةٌ وأصله ارتفاع الأنف وهو من صفة العظماء . وأورد هذا البيت بمفرده أبو علي القالي في ذيل أماليه كذا : ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب اللئام . . . إلخ ) وقال : البيض : السادة الذين لا عيب فيهم يقدمون على أبواب الملوك بأحسابهم ومواضعهم وكبر أنفسهم ويهابها اللئام لخمولهم وقصور هممهم . انتهى . وجميع من روى هذا البيت رواه : من النفر البيض الذين أو من النفر الشم الذين . ولم أر من رواه : من النفر اللائي الذين إلا النحويين .
____________________

والنفر : اسم جمع يقع على جماعةٍ من الرجال خاصة ما بين الثلاثة إلى العشرة . ولا واحد له من لفظها . كذا في النهاية . وإنما أطلقه الشاعر هنا على الكرام إشارةً إلى أنهم ذوو عددٍ قليل . واللئام : جمع لئيم وهو الشحيح والدنيء النفس والمهين . واللؤم : ضد الكرم .
وروى بدله : الرجال . وحلقة الباب وحلقة القوم وهم الذين يجتمعون مستديرين كلتاهما بسكون اللام . وأما الحلقة بفتح اللام فهو جمع حالق . وقعقعوا بمعنى ضربوا الحلقة على الباب لتصوت . والقعقعة : حكاية صوت الحلقة على الباب ونحوها . وهذا البيت وقع في شعرين : أحدهما : ما رواه أبو سعيد السكري في كتاب اللصوص قال : أخبرني رفيع بن سلمة عن أبي عبيدة وقال : زعم النقري أن أبا الربيس الثعلبي من بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان سرق ناقةً كان )
عبد الرحمن بن جعفر بن أبي طالب صنعها وعلفها فسرقها أبو الربيس وقال : ( هل تبلغينها إذا ما طلبتها ** غداً وانجلى عني الغطاء المقنع ) ( قصيرة فضل النسعتين إذا رمى ** بها الرعلة الأولى الزميل المزعزع ) ( مطية بطالٍ لدن شب همه ** قمار الكعاب والطلاء المشعشع ) ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر السود اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أجادوا وأوسعوا )
____________________

قوله : قصيرة فضل النسعتين بكسر النون . يريد أنها تستوفي نسوعها أي سيورها لعظمها وسعة جوفها . والرعلة بالفتح : القطعة المتقدمة . والزميل : الردف . والمزعزع : الذي يزعزعه السير . قال : فلما قال أبو الربيس هذا الشعر ومدح به صاحب الناقة ادعت فتيان قريش كلهم الناقة وإنما كانت لعبد الله . قال : فعمد رجلٌ من الموالي إلى نجيبةٍ فصنعها وعلفها وجعلها في مواضع تلك الناقة رجاء أن يسرقها أبو الربيس فيمدحه فمر بها أبو الربيس فطردها وقال : قال أبو عبيدة : بل قال هذه الجون المحرزي : ( نجيبة عبدٍ دانها القت والنوى ** بيثرب حتى نيها متظاهر ) ( فمثلك أو خيراً تركت رذيةً ** تقلب عينها إذا طار طائر ) دانها أي : عودها من الدين بالكسر وهو العادة . والني بفتح النون وتشديد الياء : الشحم .
والقت بفتح القاف وتشديد المثناة الفوقية : الفصفصة إذا يبست . وقال الأزهري : حبٌّ بريٌّ لا ينبته الآدمي فإذا كان عام قحط وفقد أهل البادية ما يقتاتون به من لبن وتمرٍ ونحوه دقوه وطبخوه واجتزؤوا به على ما فيه من الخشونة . وقوله : سنامك مدمومٌ رواه أبو عبيد : سنامك ملمومٌ أي : مجتمع . وفطر نابه إذا طلع . يقول : تقلب عينيها خوفاً من الطائر يقع على دبرها فيأكلها لأنها دبرت . رذية : قد أرذاها وأدبرها .
____________________

وفي الصحاح : الرذية : الناقة المهزولة من السير .
وقال أبو زيد : هي المتروكة التي حسرها السفر لا تقدر أن تلحق بالركاب . والذكر رذيٌّ وقد أرذيت ناقتي إذا هزلتها وخلفتها وقوله : مطية بطال إلخ يمدح عبد الله بن جعفر . يقول : هي مطية شجاع همه اقتناء المعالي من يوم كبر وترعرع . والقمار : المقامرة . والكعاب بالكسر : جمع كعب . والطلاء بالكسر : الخمر . والمشعشع : الممزوج بالماء . وهذان مدحٌ عند العرب . وقوله : من النفر البيض من ابتدائية أو تبعيضية . يقول : ذلك البطال من النفر البيض . وأما الشعر الثاني )
فقد رواه جماعة منهم الجاحظ رواه في كتاب البيان والتبيين قال : كان أسيلم بن الأحنف الأسدي ذا بيان وأدب وعقل وجاهٍ . وهو الذي يقول فيه الشاعر : ( من النفر البيض الذين إذا انتموا ** وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا ) ( جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه ** وطيب الدهان رأسه فهو أنزع ) ( إذا النفر السود اليمانون حاولوا ** له حوك برديه أرقوا وأوسعوا ) وهذا الشعر من أشعار الحفظ والمذاكرة . اه . وقال المبرد في الكامل وتبعه صاحب كتاب فضائل الشعر : قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي : ما أحسن ما مدحت به فاستعفاه فأبى أن يعفيه وهو معه على سريرٍ فلما أبى إلا أن يخبره قال : هو القائل :
____________________

( ألا أيها الركب المخبون هل لكم ** بسيد أهل الشام تحبوا وترجعوا ) ( من النفر البيض الذين إذا اعتزوا ** وهاب الرجال حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر السود اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أجادوا وأوسعوا ) ( جلا المسك والحمام والبيض كالدمى ** وفرق المداري رأسه فهو أنزع ) فقال له عبد الملك : ما قال أخو الأوس أحسن مما قيل لك . اه . أراد بقول أخي الأوس وهو أبو قيس بن الأسلت قوله : ( قد حصت البيضة رأسي فما ** أطعم نوماً غير تهجاع ) ( أسعى على جل بني مالكٍ ** كل امرئٍ في شأنه ساعي ) واختلف في إسلام ابن الأسلت فقال العسكري : أدرك النبي صلى الله عليه وسلم ولم يسلم .
وقال المرزباني : كان قد غضب من عبد الرحمن بن أبي فحلف لا يسلم شهراً فمات قبل ذلك فزعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث إليه وهو يموت : قل لا إله إلا الله أشفع لك يوم القيامة فسمع يقولها . وهو من سادات الأنصار وشعرائهم وفرسانهم . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين .
____________________

والمخبون : المسرعون ونمنموا : زخرفوا يقال : نمنم الشيء نمنمةً إذا رقشه وزخرفه وثوب منمنم أي : موشى . والبيض : النساء الحسان . والدمى : جمع دمية وهي الصورة الحسنة . وفرق المداري بالرفع عطفاً على المسك . والمداري : الأمشاط .
والأنزع : الذي انحسر الشعر عن جانبي جبهته . والأصلع : الذي انحسر الشعر عن مقدم رأسه .
وقوله : قد حصت البيضة رأسي إلخ البيضة بالفتح : ما يلبس على الرأس من الحديد في )
الحرب . وحصت البيضة رأسه بمهملتين أي : قللت شعره . يقال : رجلٌ أحص بين الحصص أي : قليل شعر الرأس . وقال ابن عبد ربه في العقد الفريد : قال عبد الملك بن مروان لأسيلم بن الأحنف الأسدي : ما أحسن شيٍ ء مدحت به قال : قول الشاعر . وروى ما رواه الجاحظ من الأبيات . ثم قال : وقال عبد الملك : أحسن من هذا قول أبي قيس بن الأسلت . وأنشد البيتين .
وقال الزبير بن البكار في أنساب قريش وتبعه الدراقطني في كتاب المختلف والمؤتلف : إن أبا ( جميل المحيا واضح اللون لم يطأ ** بحزنٍ ولم تألم له النكب أصبع ) ( من النفر الشم الذين إذا انتدوا ** وهاب اللئام حلقة الباب قعقعوا ) ( إذا النفر الأدم اليمانون نمنموا ** له حوك برديه أرقوا وأوسعوا ) ( جلا الغسل والحمام والبيض كالدمى ** وطيب الدهان رأسه فهو أصلع )
____________________

والحزن بفتح المهملة وسكون المعجمة : ما غلظ من الأرض . والنكب منصوب بنزع الخافض أي : بنكبٍ وهو مصدر نكب كنانته نكباً إذا كبها . يريد أنه رئيسٌ لا يمشي ولا يحمل سلاحه بل يحمله خدمه . وانتدوا بمعنى حضروا الندي وهو المجلس . والأدم : جمع آدم بمعنى الأسمر من الأدمة وهي السمرة . والغسل بالكسر : ما يغسل به الرأس من خطمي وغيره . وأبو الربيس : شاعرٌ إسلامي . قال الأمير أبو نصر بن ماكولا : هو بضم الراء وفتح الباء الموحدة بعدها مثناة تحتية بعدها سين مهملة . وهو أبو الربيس الثعلبي واسمه عباد بن طهفة بكسر الطاء . ولم يذكر صاحب الجمهرة طهفة في نسبه وإنما قال : أبو الربيس الشاعر هو عباد بن عباس بن عوف بن عبد الله بن أسد بن ناشب بن سبد بضم ففتح ابن رزام بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان . وأنشد بعده : لا أرى الموت يسبق الموت شيءٌ نغص الموت ذا الغنى والفقيرا
____________________

على أن الظاهر الواقع موقع الضمير يفيد التفخيم والأصل : لا أرى الموت يسبقه شيء فلم يضمر للتفخيم . وقد تقدم أن الشارح المحقق أورده في الشاهد الستين من باب المبتدأ أن إعادة الموت هنا ظاهراً غير مفيد للتفخيم . وقد ذكرناه هناك مفصلاً فليرجع إليه . وأنشد بعده : أنا الذي سمتن أمي حيدره تقدم الكلام عليه قتله ببيتين . وأنشد بعده : )
القاتلي أنت أنا هو من بيتٍ وهو : ( كيف يخفى عنك ما حل بنا ** أنا أنت الضاربي أنت أنا ) وتقدم الكلام عليه قبله ببيت . وأنشد بعده : ( إلى الملك القرم وابن الهمام ** وليث الكتيبة والمزدحم )
____________________

تقدم شرحه في الشاهد الخامس والسبعين . وأنشد بعده الشاهد الرابع والثلاثون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : على أن ما الاستفهامية يدخلها معنى التحقير كما هنا وكذلك قوله ويب أبيك وفيه معنى التحقير والتصغير . وهذا عجزٌ وصدره : يا زبرقان أخا بني خلفٍ واستشهد بالبيت سيبويه على أنه عطف الفخر على أنت مع ما فيه من معنى مع وامتناع النصب إذ ليس قبله فعلٌ ينفذ إليه فينصبه . وأورده صاحب الكشاف في آخر المائدة من تفسيره عند قوله تعالى : ياعيسى بن مريم قال : إذا قلت يا زيد أخا تميم أو قلت : يا زيد ابن الرجل الصالح رفعت الأول ونصبت الثاني كما في البيت . ألا أنه روى المصراع الثاني : ما أنت ويل أبيك باللام .
ونقل بعضهم عنه أنه قال اصل ويل : وي زيد عليها لام الجر فأن كان بعدها مكنيٌّ فتحت لأمه كويلك وويله . وأن كان ظاهراً جاز فتح اللام وكسرها .
____________________

وذكر أنهم أنشدوا قوله : ما أنت ويل أبيك والفخر البيت بكسر اللام وفتحها فالكسر على الأصل والفتح لجعلها مخلوطة بوي كما قالوا : يا لتيم ثم كثرت في الكلام فأدخلوا لاماً فقالوا : ويلٌ لك . قال السيرافي : ولو كان كما قال قالوا ويلٌ لك بالتنوين والضم فأن قال : توهموا أنها أصلية فنونوها وزادوا بعدها لاماً فبعيدٌ جداً . وقال الصاغاني في العباب : ويب كلمةٌ مثل ويلٌ تقول : ويبك وويب زيد وويب أبيك . وزاد أبو عمرو : ويباً له وويبٌ له وويبه وويب غيره . وزاد الفراء : ويبك وويب بك بالكسر فيهما .
ومعنى هذه الكلمة ألزمه الله ويلاً . نصب نصب المصادر . فأن جئت باللام قلت : ويبٌ لزيد . )
فالرفع على الابتداء أجودٌ من النصب والنصب مع الإضافة أجود من الرفع . وقيل أنهم قالوا ذلك لقبح استعمال الويل عندهم . اه . وقوله : ويب أبيك معناه ألزمك الله هلاك أبيك أي : فقدته . وهو اعتراض بين المعطوف والمعطوف عليه . وقوله : يا زبرقان إلخ الزبرقان هو صحابيٌّ . وهو الزبرقان بن بدر واسمه حصين بالتصغير . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة . يقال : يا أخا العرب يراد : يا واحداً منهم جعله واحداً من قومه وقصده تحقيره وقيل للاحتراز عن الزبرقان الفزاري . وبنو خلف : رهط الزبرقان بن بدر وخلفٌ جده الأعلى لأنه الزبرقان بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . والبيت للمخبل السعدي وهو ابن عم الزبرقان هجا به ابن عمه وبعده : ( هل أنت إلا في بني خلفٍ ** كالإسكتين علاهما البظر )
____________________

والإسكتان بكسر الهمزة : ناحيتا فرج المرأة . والبظر بفتح الهمزة : هنةٌ بين شفري فرجها .
وامرأة بظراء : لم تختن . شبه قومه وهم حوله بالإسكتين حول البظر وشبه إذا اجتمعوا حوله بالبظر بين الإسكتين . والمخبل بفتح الباء المشددة في الأصل اسم مفعول من خبله تخبيلاً أي : أفسد عقله . ورجل مخبل كأنه قطعت أطرافه . واسمه ربيع بن ربيعة بن عوف بن قتال بن أنف الناقة : وقتال بكسر القاف بعدها مثناة فوقية بعدها لام . كذا في مختصر أنساب الكلبي . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : المخبل لقبٌ وهو ربيعة بن مالك بن ربيعة بن عوف أحد بني أنف الناقة واسمه جعفر بن قريع بن عوف بن سعد بن زيد مناة بن تميم . هذا قول ابن حبيب ويكنى أبا زيد . وهو شاعر مخضرم فحلٌ وهو المراد بقول الفرزدق : ( وهب القصائد لي النوابغ إذ مضوا ** وأبو يزيد وذو القروح وجرول ) انتهى . ف النوابغ ثمانية شعراء . وأبو يزيد : المخبل السعدي . وذو القروح : امرؤ القيس .
وجرول : هو الحطيئة . قال صاحب الأغاني : عمر المخبل في الجاهلية والإسلام عمراً طويلاً وأحسبه مات في خلافة عمر أو عثمان وهو شيخ كبير . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هاجر المخبل وابنه إلى البصرة وولده كثيرٌ بالأحساء وهم شعراء .
____________________

وكان المخبل هجا الزبرقان بن بدر وذكر أخته خليدة ثم مر بها بعد حينٍ وقد أصابه كسر وهو لا يعرفها فآوته وجبرت كسره فلما عرفها قال : ( لقد ضل حلمي في خليدة ضلةً ** سأعتب نفسي بعدها وأتوب ) )
انتهى . وفي الإصابة لابن حجر : قال ابن حبيب : خطب المخبل إلى الزبرقان أخته خليدة فرده وزوجها رجلاً من بني جشم بن عوف فهجاه المخبل السعدي وعبدة بن الطبيب وعمرو بن الأهتم وعلقمة ابن عبدة قبل أن يسلموا وقبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . وفي الشعراء من يقال له المخبل غير هذا ثلاثة وهم المخبل الزهري والمخبل الثمالي وكعبٌ المخبل . وقد أخطأ الآمدي هنا في المؤتلف والمختلف فزعم أن البيت الشاهد للمتنخل السعدي بضم الميم وفتح المثناة الفوقية بعدها نون وكسر الخاء المعجمة المشددة وقال : لم يقم إلي من شعره شيء .
واستشهد الكسائي والفراء بقوله : ( يا زبرقان أخا بني خلفٍ ** ما أنت ويب أبيك والفخر ) وهذا تصحيفٌ منه في اسم الشاعر . وهو تارةً ينسب إلى قريع وتارة إلى سعد . وهذا سبب التصحيف وما ذكرناه هو الذي قاله شراح شواهد سيبويه
____________________

والمفصل وغيرهما . وأنشد بعده الشاهد الخامس والثلاثون بعد الأربعمائة يا سيداً ما أنت من سيدٍ على أن ما الاستفهامية قد يدخلها معنى التعظيم كما في البيت فأنها استفهامية تعجبية والمقصود التعظيم . وأورده الفراء في سورة يس من تفسيره عند قوله تعالى : يا حسرةً على العباد قال : المعنى يا لها من حسرة على العباد . وقرأ بعضهم : يا حسرة العباد والمعنى في العربية واحد . والله أعلم . والعرب إذا دعت نكرة موصولة بشيء آثرت النصب يقولون : يا رجلاً كريماً أقبل ويا راكباً على البعير أقبل فإذا أفردوا رفعوا أكثر مما ينصبون . أنشدني بعضهم : ( يا سيداً ما أنت من سيدٍ ** موطأ البيت رحيب الذراع ) ولو رفعت النكرة الموصولة بالصفة كان صواباً وقد قالت العرب : يا دار غيرها البلى تغييرا اه .
____________________

والبيت من قصيدةً للسفاح بن بكير بن معدان اليربوعي رثا بها يحي بن شداد ابن ثعلبة بن بشر أحد بني ثعلبة بن يربوع . وقال أبو عبيدة : هي لرجلٍ من بني قريع رثا بها يحي بن ميسرة صاحب مصعب بن الزبير وكان وفى له حتى قتل معه . وهذه أبيات من أولها : ( صلى على يحي وأشياعه ** ربٌ غفورٌ وشفيعٌ مطاع ) ) ( لما عصى أصحابه مصعباً ** أدى إليه الكيل صاعاً بصاع ) ( يا سيداً ما أنت من سيدٍ ** موطأ البيت رحيب الذراع ) ( قوال معروفٍ وفعاله ** وهاب مثنى أمهات الرباع )
____________________

وهذه قصيدة اختلفت الرواة في عدة أبياتها فقد رواها الضبي ثلاثة عشر بيتاً ورواها أحمد بن عبيد اثني عشر بيتاً مع تغايرٍ في الأبيات . والروايتان مسطورتان في المفضليات وشرحها لابن الأنباري . وقوله : لما عصى أصحابه مصعباً إلخ تقدم شرحه في الشاهد الحادي والأربعين من أوائل الكتاب . ورواه أحمد بن عبيد : ( لما جلا الخلان عن مصعب ** أدى إليه القرض صاعاً بصاع ) قوله : يا سيداً ما أنت إلخ وروى صدره الضبي : يا فارساً ما أنت من فارس ومن سيدٍ ومن فارس : تمييز مجرور بمن . وموطأ البيت يعني أن بيته مذلل للأضياف .
والرحيب : الواسع . والمعنى أنه واسع البسيطة كثير العطاء سهلٌ لا حاجز دونه . ولما كان الذراع موضع شدة الإنسان قيل في الأمر الذي لا طاقة للإنسان به : ضاق بهذه الأمر ذراع فلان وذرع فلان أي : حيلته بذراعه . وتوسعوا في هذا حتى قلبوه فقالوا : فلانٌ رحب الذراع إذا وصفوه باتساع المقدرة . وقوله : قوال معروف وفعاله إلخ الأوصاف الثلاثة بالجر على الوصفية لسيدٍ أو لفارس . والمعنى أنه لا يقول إلا فعل ولا يعد إلا وفى ولا يخلف والرباع بالكسر : جمع ربع بضم ففتح وهو ما ينتج في أول نتاج الإبل .
____________________

وخص أمهات الرباع لأنها غزيرة . ومثنى عقار أمات الرباع الرتاع أي هي مترعة لسعة الرعي عليها . اه . وقوله : يجمع حلماً إلخ الأناة بالفتح : التأني . وثمت مخصوصةٌ بعطف الجمل . وينباع بمعنى يثب ويسطو . والشجاع : الحية . والسفاح بن بكير تقدم في الشاهد الحادي والأربعين . وأنشد بعده
الشاهد الحادي والأربعمائة ( على ما قام يشتمني لئيمٌ ** كخنزيرٍ تمرغ في رماد ) على أن ثبوت الألف في ما الاستفهامية المجرورة في غير الأغلب مفهومة أن إثباتها فيها غالب .
____________________


ويوافقه قول صاحب الكشاف في سورة يس عند قوله تعالى : بما غفر ليربي : طرح الألف أجود وإن كان إثباتها جائزاً . وهذا معارضٌ لقوله في سورة الأعراف عند قوله تعالى : قال فبما أغويتني : قيل ما للاستفهام وإثبات الألف قليلٌ شاذٌّ . قال الشارح المحقق في شرح الشافية : وبعض العرب لا يحذف الألف من ما الاستفهامية المجرورة كقوله : ( على ما قام يشتمني لئيمٌ ** البيت ) فهذا لا يقول على مه وقفاً بل يقف بالألف التي كانت في الوصل والأولى حذف ما الاستفهامية مجرورةً لما ذكرنا في الموصولات . اه . أراد أنه ذكره في شرح الموصولات من شرح الكافية . وإذا ثبت أن هذا لغة لبعض العرب لم يكن إثبات الألف نادراً ولا ضرورة كما قيل في قوله تعالى : عم يتساءلون فيمن قرأ عما بالألف . قال الفالي في شرح اللباب : الكثير الشائع حذف الألف وجاء إثباتها في عما يتساءلون وفي قوله : على ما قام يشتمني البيت . وقال السمين : يجوز إثبات الألف في ضرورةٍ أو في قليل من الكلام . وقال ابن جني في المحتسب : إثبات الألف أضعف اللغتين . قال ابن السمين في سورة يس : المشهور من مذهب البصريين وجوب حذف ألفها إلا في ضرورة .
____________________

وكذلك قال ابن هشام في المغني : يجب حذف ألف ما الاستفهامية إذا جرت وإبقاء الفتحة دليلاً عليها . وربما تبعت الفتحة الألف في الحذف وهو مخصوص بالشعر كقوله : ( يا أبا السود لما خلفتني ** لهمومٍ طارقاتٍ وذكر ) ثم قال : وأما قراءة عكرمة وعيسى : عما يتساءلون فنادر . وأما قول حسان : على ما قام يشتمني لئيم فضرورة . ومثله قول الآخر : ( إنا قتلنا بقتلانا سراتكم ** أهل اللواء ففيما يكثر القيل ) قال الدماميني في الحاشية الهندية : ادعى المصنف أن إثبات الألف في البيتين ضرورة ولقائل أن يمنع ذلك بناءً على تفسيرها بما لا مندوحة للشاعر عنهن إذ الوزن مع حذف الألف في كلٍّ )
منهما مستقيم . غاية الأمر يكون في بيت حسان العقل وفي الآخر الخبن وكل منهما زحافٌ مغتفر . اه . وقد عمم الشارح المحقق في الجار لما سواء كان حرف جر أو مضافاً . وهذا هو المشهور .
____________________

وقال اللبلي في شرح أدب الكتاب : إن كان الجار اسماً متمكناً لم يفعلوا ذلك أي : لم يحذفوا الألف . وقول العرب : مجيء م جئت ومثل م أنت شاذ وإنما جاء مع بعد وعند لأنهما غير متمكنين فألحقا بحروف الجر . اه . وهذا قولٌ غريب لم يقله غيره كقول ابن قتيبة في أدب الكتاب : إن ألف ما الموصولة لا تحذف إلا مع شئت قال : تقول : ادع بما شئت وسل عم شئت وخذه بما شئت وكن فيم شئت . إذا أردت معنى سل أي : عن أي شيء شئت نقصت الألف . وإن أردت سل عن الذي أحببت أتممت الألف إلا مع شئت خاصة فإن العرب تنقص الألف منها خاصة فتقول : ادع بم شئت في المعنيين جميعاً . اه . والمشهور أن ألفها يثبت مطلقاً سواء استعملت مع شئت أو غيرها . وعلى نقله يلغز فيقال : في أي موضع يجب حذف ألف ما الموصولة المجرورة بحرف جر وهذا البيت من أبيات دالية لحسان بن ثابت الصحابي . وقد حرف الرواة قافيته فبعضهم رواه : كخنزيرٍ تمرغ في دمان وهو ابن جني في المحتسب وتبعه جماعة منهم ابن هشام في المغني قال : الدمان كالرماد وزناً ومعنى ورواه صاحب اللباب وشارحه الفالي : في الدهان بالهاء بعد الدال . ورواه المرادي في شرح الألفية : في تراب ورواه بعضهم : في دمال باللام . وهذا كله خلاف الصواب : ورواية السكري في ديوان حسان : ففيم تقول يشتمني لئيم إلخ وعليه لا شاهد فيه .
____________________

وقوله : على ما قام إلخ على تعليلية أي : لأجل أي شيء . ونقل العيني عن ابن جني أن لفظة قام ها هنا زائدة والتقدير ما يشتمني . وقال ابن يسعون : وليس كذلك عندي لأنها مقتضى النهوض بالشتم والتشمير له والجد فيه . وقوله : كخنزير إلخ تعريضٌ بقبحه أو كفره فلذلك خص الخنزير لأنه مسخٌ قبيح المنظر سمج الخلق أكال العذرة . وقوله : تمرغ في رماد تتميمٌ لذمه لأنه يدلك نفسه بالشجر ثم يأتي للطين والحمأة فيتلطخ بهما وكلما تساقط منه شيء عاد فيهما فيكون في أقبح منظر . قال الجاحظ : والعين تكره الخنزير جملةً دون سائر المسوخ لأن القرد وإن كان مسيخاً فهو مستملح . والفيل عجيبٌ ظريفٌ نبيل بهي وإن كان سمجاٌ قبيحاً . والأبيات قالها حسان في هجو بني عابدٍ بموحدة بعدها دال غير معجمة ابن عبد الله بن عمر بن مخزوم . )
____________________


قال البلاذري : لم يكن لهم هجرة ولا سابقة . قال : وقال الأثرم عن أبي حبيرة : قال حسان هذا الشعر في رفيع بن صيفي بن عابد وقتل رفيع يوم بدرٍ كافراً . ورفيع بضم الراء وفتح الفاء : مصغر رفع بالعين المهملة . وصيفي بفتح الصاد المهملة وسمون المثناة التحتية وكسر الفاء وتشديد التحتية . والأبيات هذه : ( إن تصلح فإنك عابديٌّ ** وصلح العابدي إلى فساد ) ( وإن تفسد فما ألفيت إلا ** بعيداً ما علمت من السداد ) ( وتلقاه على ما كان فيه ** من الهفوات أو نوك الفؤاد ) ( مبين الغي لا يعيا عليه ** ويعيا بعد عن سبل الرشاد ) ( ففيم تقول يشتمني لئيمٌ ** كخنزيرٍ تمرغ في رماد ) ( فأشهد أن أمك م البغايا ** وأن أبك من شر العباد ) ( فلن أنفك أهجو عابدياً ** طوال الدهر ما نادى المنادي ) ( وقد سارت قوافٍ باقياتٌ ** تناشدها الرواة بكل واد ) ( فقبح عابدٌ وبني أبيه ** فإن معادهم شر المعاد ) وهذا آخر الأبيات . وقوله : إن تصلح إلخ فيه خرم وبعضهم يرويه : وإن تصلح فلا خرم .
والسداد بالفتح : الرشد والاستقامة . والهفوات : السقطات . والنوك بالضم : الحمق وهو نقصٌ في
____________________

العقل وأراد به البلادة وعدم الاهتداء للمقصود ولهذا أضافه إلى الفؤاد وهو معطوف على الهفوات . وقوله : مبين الغي بالنصب من حالٌ مفعول تلقاه . وقوله : ففيم تقول رواية السكري بالخطاب لمن يصلح الخطاب معه . وقوله : م البغايا أصله من البغايا وهو لغةٌ في من . والبغي : الامرأة الفاجرة . وقوله : طوال الدهر بفتح الطاء بمعنى طول الدهر . وقوله : فقبح عابدٌ وهو بالبناء للمفعول على الدعاء . والواو في قوله : وبني أبيه واو المعية وبني أبيه مفعول معه . وترجمة حسان تقدمت في الشاهد الحادي والثلاثين . البيت الذي أورده صاحب المغني وهو : قتلنا بقتلانا سراتكم أهل اللواء ففيما يكثر القيل لم يعرفه أحدٌ ممن كتب على المغني وما قبل حرف الروي فيه مثناة تحتية والقاف مكسورة .
وقد صحفه البدر الدماميني فضبطه بمثناة فوقية ثم استشكله قال : في كلامٌ من جهة العرض وذلك أن هذا من بحر البسيط من عروضه الأولى وضربها الثاني وهو المقطوع كان أصله فاعلٌ )
حذفت نونه وسكنت لامه فصار فعلن بإسكان العين فقد ذهب منه زنة متحرك وإذا ذهب منه ذلك وجب أن يكون مردفاً يؤتى قبل حرف الروي بحرف لين كما في شاهد العروضيين :
____________________

( قد أشهد الغارة الشعواء تحملني ** جرداء معروقة اللحيين سرحوب ) ولا يخفى أن ضرب البيت الذي نحن فيه وهو اللام الروي غير مردف ففيه مخالفة لما قرره العروضيون في أمثاله . هذا كلامه وهذا موضع المثل المشهور : زناه فحده . والبيت من قصيدةٍ لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم رواها الكلاعي في سيرته قال : أجاب بها ابن الزبعرى وعمرو بن العاصي عن كلمتين افتخرا بهما بيوم أحد وهي هذه : أبلغ قريشاً وخير القول أصدقه والصدق عند ذوي الألباب مقبول ( أن قد قتلنا بقتلانا سراتكم ** أهل اللواء ففيما يكثر القيل ) ( ويوم بدرٍ لقيناكم لنا مددٌ ** فيه مع النصر ميكالٌ وجبريل ) ( إن تقتلونا فدين الله فطرتنا ** والقتل في الحق عند الله تفضيل ) ( وإن تروا أمرنا في رأيكم سفهاً ** فرأي من خالف الإسلام تضليل ) ( إنا بنو الحرب نمريها وننتجها ** وعندنا لذوي الأضغان تنكيل ) ( إن ينج منا ابن حربٍ بعد ما بلغت ** منه التراقي وأمر الله مفعول ) ( فقد أفادت له حكماً وموعظةً ** لمن يكون له لبٌ ومعقول )
____________________

( ولو هبطتم ببطن السيل كافحكم ** ضربٌ بشاكلة البطحاء ترعيل ) ( تلقاكم عصبٌ حول النبي لهم ** مما يعدون في الهيجا سرابيل ) ( من جذم غسان مسترخٍ حمائلهم ** لا جبناء ولا ميلٌ معازيل ) وهي قصيدةٌ طويلة جيدة سردها بتمامها وبين مشكل لغاتها قال : سراة القوم : خيارهم .
والقيل والقول واحد . والتنكيل : الزجر المؤلم . وبطن السيل : الوادي . وكافحكم : واجهكم .
وشاكلة البطحاء : طرفها . والترعيل : الضرب السريع . والسرابيل : جمع سربال وهو الدرع .
وجذم بكسر الجيم : الأصل . وغسان : قبيلة من الأنصار . والحمائل : حمائل السيف . والجبناء : جمع جبان . والميل : جمع أميل وهو الذي لا ترس معه . والمعازيل : الذي لا رماح معهم . وأنشد بعده
الشاهد السابع والثلاثون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) على أن ما نكرةٌ موصوفة بجملة تكره النفوس . فحكم على كونها نكرة بدخول رب عليها وحكم بالجملة صفةً على قياس نكرة رب من أنها
____________________

موضوعة لتقليل نوعٍ من جنس فلا بد أن يكون الجنس موصوفاً حتى تحصل على النوعية . وقد أورده سيبويه في كتابه مرتين لذلك قال : رب لا يكون بعدها إلا نكرة . وأنشده . قال الأعلم : استشهد به على أن ما نكرةٌ بتأويل شيء ولذلك دخلت عليها رب لأنها لا تعمل إلا نكرة . ولا تكون ما هنا كافة لأن في تكره ضميراً عائداً عليها ولا يضمر إلا الاسم . وكذلك الضمير في له عائدٌ عليها . والمعنى : رب شيء تكرهه النفوس من الأمور الحادثة الشديدة وله فرجة تعقب الضيق والشدة كحل عقال المقيد .
والفرجة بالفتح في الأمر وبالضم في الحائط ونحوه . اه . ومثله في إيضاح الشعر لأبي علي قال فيه : ما اسمٌ منكور يدل على ذلك دخول رب عليه ولا يجوز أن تكون كافة كالتي في قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا لأن الذكر قد عاد إليها من قوله له فرجة فلا يجوز مع رجوع الذكر أن تكون حرفاً فالهاء في قوله تكره مرادة والتقدير : تكرهه النفوس . وفرجةٌ مرتفعة بالظرف وموضع الجملة جر . اه . وقوله : وموضع الجملة جرٌ أي : على الوصفية للأمر ولا اعتبار بلام التعريف لأنها كما قال شارح المحقق للجنس . وفي كون الجملة صفةً نظر إذ الوصف على كلامه إنما هو الجار والمجرور لا غير لأنه جعل فرجة فاعلهما . وإنما كان يتجه لو جعل فرجة مبتدأ والظرف قبله خبره كما هو ظاهر صنيع الشارح المحقق في قوله : له فرجة صفى الأمر . وبما سقاه من قول الأعلم وأبي علي
____________________

علم ضعف قول من ذهب إلى ما في البيت : كافةٌ مهيئة لدخول رب على الجمل كما في الآية . قال ابن الحاجب في شرح المفصل : وكونها اسماً أولى لأن الضمير العائد على الموصوف حذفه سائغ ومن الأمر تبيين له . وإذا جعلت ما مهيئة كان قوله من الأمر واقعاً موقع المفعول بتقديره تكره النفوس شيئاً من الأمر . وحذف الموصوف وإبقاء الصفة جاراً ومجروراً في موضعه قليل . انتهى . وقد ناقشه الشارح المحقق بعد نقل كلامه بالمعنى بأنه لا يلزم من كون ما مهيئة أن يكون من الأمر واقعاً موقع المفعول حتى يرد ما ذكر لجواز أحد أمرين : أحدهما : يجوز بقوله أن تكون من متعلقة بنكرة وهي للتبعيض كما في )
أخذت من الدراهم أي : أخذت من الدراهم شيئاً . فكذا معناه تكره من الأمر شيئاً .
ثانيهما : تضمين تكره معنى تشمئز وتنقبض بدليل رواية سيبويه وغيره : ربما تجزع النفوس من الأمر فإن تجزع لازمٌ لا يقتضي مفعولاً به . وبقي وجه ثالث وهو جواز كون من زائدة عند الأخفش والكوفيين . وتبع ابن الحاجب شارح اللباب الفالي قال : لا يتعين كون ما موصوفة إذ قيل إنها كافةٌ مهيئة لدخول رب على الجمل ولكن الأولى جعلها موصوفةً لوجهين : أحدهما : أنه حملٌ لرب على بابه الكثير وهو كونها غير مكفوفة . والثاني : أن تكره لا بد له من مفعول حينئذٍ وتقديره : شيئاً من الأمر ولكن حذف الموصوف وإقامة الصفة مقامه ضعيف . اه .
وقول الخوارزمي في التخمير : لا يجوز قول ما كافة لئلا تبقى من التبيينية لا معنى لها يمنع كونها حينئذٍ تبيينية . ويجاب بأحد الأوجه الثلاثة .
____________________

وقال ابن هشام في المغني : يجوز أن تكون ما كافة والمفعول المحذوف اسماً ظاهراً أي : قد تكره النفوس من الأمر شيئاً أي : وصفاً فيه . أو الأصل من الأمور أمراً وفي هذا إنابة المفرد عن الجمع . وفيه وفي الأول إنابة الصفة غير المفردة عن الموصوف إذ الجملة بعده صفة له . اه . وقد أورد البيت في التفسيرين عند قوله تعالى : ربما يود الذين كفروا على أن بعضهم قال : موصوفة بجملة يود كما وصف ما في البيت وكأنه جعل العائد ضميراً منصوباً أي : يوده الذين كفروا . وفيه أن مفعوله مضمون قوله تعالى : لو كانوا مسلمين أي : الإسلام أو هو المفعول بجعل لو مصدرية . وقوله : له فرجة قال صاحب المصباح : الفرجة بالفتح : مصدرٌ يكون في المعاني وهي الخلوص من شدة والضم فيها لغة . قال ابن السكيت : هو لك فرجة وفرجة أي : فرج . وزاد الأزهري فرجة بالكسر . وحكى الثلاثة صاحب القاموس أيضاً . وقوله : كحل العقال صفة فرجة أي : فرجة سهلة سريعة كحل عقال الدابة . والعقال بالكسر : هو الحبل الذي يشد به يد الدابة عند البروك أو الوقوف ليمنعها من الذهاب ويكون ربطه كأنشوطة وهي عقد التكة حلها سهلٌ . وقال أبو علي في إيضاح الشعر : موضع الكاف من قوله كحل العقال يجوز فيه ضربان : أحدهما أن يكون نصباً والآخر أن يكون جراً : كقولك : مررت برجلٍ معه صقرٌ صائدٌ به . اه .
____________________

وأراد النصب على الحالية من المجرور بمن بعد وصفه بقوله : له فرجة . وأراد الخفض على الوصفية للأمر بجعل اللام للجنس بدليل التنظير . وهذا بعيد والقريب أن تكون صفة لفرجة وهو أحد وجهي ما جوزه في الحجة قال موضع الكاف يحتمل وجهين : أحدهما أن تكون في موضع نصب على الحال من له )
والآخر : أن تكون في موضع رفع صفة لفرجة . اه . وأراد بقوله له ضمير الأمر المجرور باللام .
والبيت الشاهد قد وجد في أشعار جماعةٍ والمشهور أنه لأمية بن أبي الصلت من قصيدة طويلة عدتها تسعةٌ وسبعةٌ وسبعون بيتاً ذكر فيها شيئاً من قصص الأنبياء : داود وسليمان ونوح وموسى . وذكر قصة إبراهيم وإسحاق عليهما السلام وزعم أنه هو الذبيح وهو قولٌ مشهورٌ للعلماء . وهذه أبيات من القصيدة إلى البيت الشاهد قال : ( يا بني إني نذرتك لل ** هـ شحيطاً فاصبر فدًى لك خالي ) ( فأجاب الغلام أن قال فيه : ** كل شيء لله غير انتحال ) ( أبتي إنني جزيتك بالل ** هـ تقياً به على كل حال ) ( فاقض ما قد نذرت لله واكفف ** عن دمي أن يمسه سربالي ) ( واشدد الصفد أن أحيد من الس ** كين حيد الأسير ذي الأغلال ) ( إنني آلم المحز وإني ** لا أمس الأذقان ذات السبال ) ( وله مديةٌ تخيل في اللح ** م هذامٌ جليةٌ كالهلال ) ( بينما يخلع السرابيل عنه ** فكه ربه بكبش جلال )=

6.

مجلد 6.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب
عبد القادر بن عمر البغدادي
   

 =قال : خذه وأرسل ابنك إني للذي قد فعلتما غير قالي ( والدٌ يتقي وآخر مولو ** دٌ فطارا منه بسمع معال ) هكذا رواه جامع ديوانه محمد بن حبيب : من الشر بدلٌ من الأمر وقال : قوله : جزيتك بالله معناه أطعمتك بالله . وقوله : غير انتحال أي : غير كذبٍ وادعاءٍ بل هو حقٌّ . والسربال : القميص . والصفد : الحبل الذي يربط به . وقوله : أن أحيد أي : خشية أن أحيد مضارع حاد عنه أي : مال عنه وعدل . وقوله : لا أمس الأذقان إلخ قال محمد بن حبيب : يقول : لم أمسس ذقني إني لا أجزع ولا أمنعك . وذقن الإنسان : مجمع لحييه وأصله في الجمل يحمل الثقيل فلا يقدر على النهوض فيعتمد بذقنه على الأرض . والسبال : جمع سبة وهي عند العرب مقدم اللحية . وقوله : وله مديةٌ هي بضم الميم : السكين . قال محمد بن حبيب : تخيل في اللحم : تمضي فيه من الخيلاء . وهذام بضم الهاء بعدها ذال معجمة : القاطعة السريعة من الهذم وهو القطع والأكل في سرعة . قال أبو عبيد : سيفٌ هذام أي : قاطع . وجلية : مجلوة . وكبش جلال بضم الجيم بمعنى جليلٍ وعظيم . وسمع بالكسر : الذكر الجميل . يقال : ذهب سمعه في الناس . )
والمعال بضم الميم : المرتفع أي : صار لهما شرفاً يذكران به . وأمية هذا شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثلاثين من أوائل الكتاب . ووجد أيضاً في قصيدةٍ رواها الأصمعي لأبي قيس اليهودي وقيل : هي لابن صرمة الأنصاري ومطلعها :
____________________

( سبحوا للمليك كل صباحٍ ** طلعت شمسه وكل هلال ) وقال ابن المستوفي في شرح الشواهد للمفصل : وجدت قوله ربما تكره النفوس من الأمر البيت في أبياتٍ لأبي قيس صرمة بن أبي أنس من بني عدي بن النجار ووجد أيضاً في أبيات لحنيف بن عمير اليشكري قالها لما قتل محكم بن الطفيل يوم اليمامة وهي : ( يا سعاد الفؤاد بنت أثال ** طال ليلي بفتنة الرجال ) ( إنها يا سعاد من حدث الده ** ر عليكم كفتنة الرجال ) ( إن دين الرسول ديني وفي القو ** م رجالٌ على الهدى أمثالي ) ( أهلك القوم محكم بن طفيل ** ورجالٌ ليسوا لنا برجال ) ( ربما تجزع النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) وحنيف أدرك الجاهلية والإسلام ولا تعرف له صحبة . وقال ابن حجر في الإصابة : هو مخضرم ذكره المزرباني وروى له هذه الأبيات عمر بن شبة ووجد أيضاً في أبياتٍ لأعرابي .
وهي :
____________________

( يا قليل العزاء في الأهوال ** وكثير الهموم والأوجال ) ( اصبر النفس عند كل ملمٍّ ** إن في الصبر حيلة المحتال ) ( لا تضيقن بالأمور فقد يك ** شف غماؤها بغير احتيال ) ( قد يصاب الجبان في آخر الص ** ف وينجو مقارع الأبطال ) ورواها صاحب الحماسة البصرية لحنيف بن عمير المذكور وقيل أنها لنهار ابن أخت مسيلمة الكذاب لعنه الله . ونسبها العيني لأمية بن أبي الصلت . وهذا لا أصل له . وقوله : يا قليل العزاء هو بالفتح بمعنى الصبر والتجلد . وقوله : اصبر النفس أي : احبسها . والملم : الحادث من حوادث الدهر وهو اسم فاعل من ألم إذا نزل . وغماؤها : مبهمها ومشكلها وهو بالغين المعجمة يقال : أمر غمةٌ أي : مبهم ملتبس . ويقال : صمنا بالغمى بفتح الغين وضمها وصمنا للغماء على فعلاء بالفتح والمد إذا غم الهلال على الناس وستره عنه غيمٌ ونحوه . وصحفه )
العيني فقال : عماؤها بالعين المهملة وتشديد الميم للضرورة . والعماء في اللغة : السحاب الرقيق سمي بذلك لكونه يعمي الأبصار عن رؤية ما وراءه . وأراد بها ما يحول بين النفس ومرادها .
هذا كلامه . قال السيوطي في شرح شواهد المغني : أخرج ابن عساكر من طريق الأصمعي قال : قال أبو عمرو بن العلاء : هربت من الحجاج فسمعت أعرابياً ينشد : ( يا قليل العزاء في الأهوال ** وكثير الهموم والأوجال )
____________________

إلى آخر الأبيات . فقلت : ما وراءك يا أعرابي فقال : مات الحجاج فلم أدر بأيهما أفرح : أبموت الحجاج أم بقوله فرجة لأني كنت أطلب شاهداً لاختياري القراءة في سورة البقرة : إلا من اغترف غرفة بالفتح . انتهى . وقد رويت قصة أبي عمرو بن العلاء هذه على وجوهٍ مختلفة منها رواية الصاغاني في العباب قال : قال الأصمعي : سمعت أبا عمرو بن العلاء وكان قد هرب من الحجاج إلى اليمن يقول : كنت مختفياً لا أخرج بالنهار فطال علي ذلك فبينا أنا قاعدٌ وقت السحر مفكراً سمعت رجلاً ينشد وهو مارٌّ : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر له فرجةٌ كحل العقال ) ومر خلفه رجلٌ يقول : مات الحجاج قال أبو عمرو : فما أدري بأيهما كنت أفرح أبموت الحجاج أم بقوله : فرجة بفتح الفاء وكنا نقوله بضمها . اه . ومنها ما رواه الدماميني في الحاشية الهندية قال : يحكى عن أبي عمرو بن العلاء أنه كان له غلام ماهر في الشعر فوشي به إلى الحجاج فطلبه ليشتريه منه . قال : فلما دخلت عليه وكلمني فيه قلت : إنه مدبر . فلما خرجت قال الواشي : كذب . فهربت إلى اليمن خوفاً من شره فمكثت هناك وأنا إمامٌ يرجع إلي في المسائل عشر سنين فخرجت ذات يوم إلى ظاهر الصحراء فرأيت أعرابياً يقول لآخر : ألا أبشرك قال : بلا . قال : مات الحجاج فأنشده : ( ربما تكره النفوس من الأم ** ر فرجة كحل العقال ) وأنشده بفتح الفاء من فرجة . قال أبو عمرو : لا أدري بأي الشيئين أفرح أبموت الحجاج أم بقوله فرجة بفتح الفاء ونحن نقول فرجة بضمها وهو خطأ .
____________________

وتطلبت ذلك زماناً في استعمالاتهم .
قال أبو عمرو : وكنت بقوله : فرجة أشد مني فرحاً بقوله : مات الحجاج . اه . كذا ساق الحكاية .
وفي قوله في آخرها : وهو خطأ نظرٌ لا يخفى . والمشهور أن سبب هروب أبي عمرو إلى اليمن طلب الحجاج منه شاهداً من كلام العرب لقراءته : غرفة بالفتح فلما تعذر عليه هرب إلى )
اليمن . ولم تحضرني الآن هذه الرواية . روى السيد المرتضى رحمه الله : في أماليه الغرر والدرر عن الصولي أن منشداً أنشد إبراهيم بن العباس وهو في مجلسه في ديوان الضياع : ربما تكره النفوس من الأمر البيت قال : فنكت بقلمه ساعةً ثم قال : ( ولرب نازلةٍ يضيق بها الفتى ** ذرعاً وعند الله منها المخرج ) ( كملت فلما استحكمت حلقاتها ** فرجت وكان يظنها لا تفرج ) فعجب من جودة بديهته . اه . وأنشد بعده : لأمرٍ لا يسود من يسود
____________________

على أن ما هنا لإفادة التعظيم . ويسود بالبناء للمفعول أي : يجعل سيداً . وهذا عجزٌ وصدره : وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السبعين بعد المائة من باب المفعول فيه . وأنشد بعده الشاهد الثامن والثلاثون بعد الأربعمائة ( فكفى بنا فضلاً على من غيرنا ** حب النبي محمدٍ إيانا ) إلى أن من نكرة موصوفة بمفرد وهو قوله : غيرنا . قال سيبويه : قال الخليل رحمه الله : إن شئت جعلت من بمنزلة إنسان وجعلت نا بمنزلة شيء نكرتين . وزعم أن هذا البيت مثل ذلك : ( وكفا بنا فضلاً على من غيرنا ** حب النبي محمدٍ إيانا )
____________________

وكذا أورده الفراء في أول تفسيره من سورة البقرة . قال الأعلم : الشاهد فيه حمل غير على من نعتاً لأنها نكرةٌ مبهمة فوصفت بما بعدها وصفاً لازماً يكون لها كالصلة والتقدير : على قومٍ غيرنا . ورفع غيرٍ جائزٌ على أن تكون من موصولة ويحذف الراجع عليها من الصلة والتقدير : من هو غيرنا . والحب مرتفع بكفى والباء في بنا زائدة مؤكدة والمعنى كفانا . اه . وأورده ابن الشجري في ثلاثة مواضع من أماليه قال في الموضع الثاني : رفع غير رواية . وقال في الثالث : وإن رفعت غير فإنه خبر مبتدأ محذوف تريد من هو غيرنا فجعلت من موصولة كقراءة من قرأ : تماماً على الذي أحسن يريد : هو أحسن . وقال ابن هشام في المغني في بحث من : ويروى برفع غير فيحتمل أن من على حالها ويحتمل الموصولية . وعليهما فالتقدير : من هو غيرنا والجملة صفةٌ أو صلة . وقال الكسائي : من هنا زائدة وغيرنا مجرور بعلى . نقله العيني عنه . وأورده ابن )
هشام في المغني على أن الباء قد زيدت في مفعول كفى المتعدية لواحد ومنه الحديث : كفى بالمرء إثماً أن يحدث بكل ما سمع . وقيل : إنما هي في البيت زائدةٌ في الفاعل وحب : بدل اشتمال على المحل . اه . قال المرادي : صاحب هذا القيل ابن أبي العافية .
____________________

وعلى هذا حمل بعضهم قول المتنبي : ( كفى بجسمي نحولاً أنني رجلٌ ** لولا مخاطبتي إياك لم ترني ) ونقل ثعلب في أماليه عن المازني أن زيادة الباء في قوله : فكفى بنا شاذ وإنما تدخل الباء على الفاعل . وحب النبي : فاعل كفى ومحمدٍ عطف بيان للنبي وحب مصدر مضاف إلى فاعله وإيانا مفعوله . وفضلاً : تمييز محول عن الفاعل والأصل كفانا فضل حب النبي صلى الله عليه وسلم . وقال الدماميني : فضلاً حال وتنوينه للتفخيم أي : كفانا حب النبي حالة كونه فضلاً عظيماً . ولا يصح كونه مفعولاً ثانياً لكفى لفساد المعنى . انتهى . وروي بعده : شرفاً وعلى : متعلقة به وهما بمعنى المزية والفضيلة . وهذا البيت لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والستين . ونسب إلى حسان بن ثابت رضي الله عنه أيضا ولم يوجد في شعره . قال ابن هشام اللخمي في شرح شواهد الجمل : وقيل : هو لعبد الله بن رواحة الأنصاري وقيل : لبشير بن عبد الرحمن بن كعب بن مالك . وهو مع كثرة وجوده في كتب النحو لم يذكر أحدٌ ما قبله إلا السيوطي في شرح شواهد المغني وهو : ( نصروا نبيهم بنصر وليه ** فالله عز بنصره سمانا )
____________________

يعني أن الله عز وجل سماهم الأنصار لأنهم نصروا النبي صلى الله عليه وسلم ومن والاه .
والباء في نصر وليه . بمعنى مع . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والثلاثون بعد الأربعمائة ( رب من أنضجت غيظاً صدره ** قد تمنى لي موتاً لم يطع ) على أن جملة أنضجت في موضع جر على أنها صفة ل من لأنها نكرة بمعنى إنسان بدليل دخول رب عليها . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً على أن من فيها نكرةٌ موصوفة بالظرف لأنها وقعت بعد كل كوقوعها بعد رب في البيت . قال ابن هشام في المغني : زعم الكسائي أن من لا تكون نكرةً إلا في موضع يخص النكرات . ورد بقوله : فكفى بنا فضلاً على من غيرنا وبقول الفرزدق :
____________________

أي : كشخص ممطورٍ بواديه لأن مجرور على والكاف لا يجب أن يكون نكرة . وقد خرج من فيهما على الزيادة وذلك شيءٌ لم يثبت . وروي أيضاً : ( ربما أنضجت غيظاً قلب من ** قد تمنى . . . . . . . . . إلخ ) فلا شاهد فيه إن كانت من موصولة وما حينئذٍ كافة مهيئة لدخول رب على الجملة . ومجرور رب هنا في محل رفع على المبتدأ والخبر إما قد تمنى ولم يطع خبر بعد خبر وإما لم يطع وجملة قد تمنى صفة ثانية . وإنضاج اللحم : جعله بالطبخ أو الشي مستوياً يمكن أكله ويحسن وهو هنا كناية عن نهاية الكمد الحاصل للقلب أو استعارة . شبه تحسير القلب وإكماده بإنضاج اللحم الذي يؤكل . وغيظاً إما مفعول لأجله أي : أنضجت قلبه لأجل غيظي إياه وإما تمييز عن النسبة أي : أنضج غيظي إياه قلبه وهو مصدر غاظه إذا أغضبه . قال ابن السكيت : ولا يقال أغاظه . وأثبته صاحب القاموس قال : يقال : غاظه وغيظه وأغاظه . وروي : قلبه موضع صدره المراد به قلبه وروي أيضاً : كبده . وهذا البيت من قصيدةٍ طويلة عدتها مائة بيت وثمانية أبياتٍ لسويد بن أبي كاهل اليشكري مسطورةٍ في المفضليات مطلعها : ( بسطت رابعة الحبل لنا ** فوصلنا الحبل منها ما اتسع )
____________________

وهذه أبياتٌ منها بعد الشاهد المذكور . قال ابن قتيبة في ترجمة سويد من كتاب الشعراء : كان ( رب من أنضجت غيظاً قلبه ** قد تمنى لي موتاً لم يطع ) ( ويراني كالشجا في حلقه ** عسراً مخرجه ما ينتزع ) ) ( مزبدٌ يخطر ما لم يرني ** فإذا أسمعته صوتي انقمع ) ( قد كفاني الله ما في نفسه ** ومتى ما يكف شيئاً لم يضع ) ( لم يضرني غير أن يحسدني ** فهو يزقو مثل ما يزقو الضوع ) ( ويحييني إذا لاقيته ** وإذا يخلو له لحمي رتع ) ( كيف يرجونا سقاطي بمد ما ** جلل الرأس مشيبٌ وصلع ) قال ابن الأنباري في شرح القصيدة : روي أيضاً : ربما أنضجت غيظاً قلب من إلخ والشجى : الغصص ونحوه . ومزبد : من أزبد . وأصل الخطر في الناس : تحريك اليدين في المشي والاختيال بهما . وانقمع : دخل بعضه في بعض . والمعنى أنه يتعظم إذا لم يرني فإذا رآني تضاءل . والضوع بضم الضاد : ذكر البوم . ويزقو : يصيح . ورتع : أكل . والسقاط : الفترة . يقول على طريق التعجب : كيف يأملون فترتي وسقطي وقد بلغت هذه السن . وسويد هو ابن أبي كاهل واسمه غطيف بن حارثة بن حسل بن مالك ابن عبد سعد بن عدي بن جشم بن ذبيان
____________________

( أنا أبو سعدٍ إذا الليل دجا ** دخلت في سرباله ثم النجا ) ويقال اسم والده شبيب . وهو شاعرٌ مقدم مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام . عده ابن سلامٍ الجمحي في الطبقة السادسة وقرنه بعنترة العبسي . قال أبو نصر أحمد بن حاتم : قرأت شعر سويدٍ على الأصمعي فلما بلغت قصيدته التي أولها : ( بسطت رابعة الحبل لنا ** فوصلنا الحبل منها ما اتسع ) فضلها الأصمعي وقال : كانت العرب تفضلها وتقدمها وتعدها من حكمها وكانت في الجاهلية تسمى اليتيمة لما اشتملت عليه من الأمثال . وعاش سويدٌ في الجاهلية دهراً وعمر في الإسلام ستين سنة بعد الهجرة إلى زمن الحجاج . كذا في الإصابة . وهو من المعمرين ولم يذكره أبو حاتم في كتاب المعمرين . وكان زيادٌ الأعجم قد هجا بني يشكر بقوله : ( إذا يشكريٌّ مس ثوبك ثوبه ** فلا تذكرن الله حتى تطهرا ) ( فلو أن من لؤمٍ تموت قبيلةٌ ** إذا لأمات اللؤم لا شك يشكرا ) فأتت بنو يشكر سويداً ليهجو زياداً فأبا سويدٌ فقال زياد : )
____________________

( وأنبئتهم يستصرخون ابن كاهلٍ ** وللؤم فيهم كاهلٌ وسنام ) ( دعيٌّ إلى ذبيان طوراً وتارةً ** إلى يشكرٍ ما في الجميع كرام ) فقال لهم سويد : هذا ما طلبتم لي وكان سويدٌ مغلباً . وأما قول زياد الأعجم : دعيٌّ فإن أم سويد كانت امرأة من بني غبر وكانت قبل أبي كاهل عند رجلٍ من بني ذبيان بن قيس فمات عنها فتزوجها أبو كاهل وكانت فيما يقال حاملاً فلما ولدته استلحقه أبو كاهل وسماه سويداً وكان سويدٌ إذا غضب على بني يشكر انتمى إلى بني ذبيان وإذا رضي عنهم أقام على نسبه فيهم . وهاجى سويدٌ حاضر بني سلمة العنزي فطلبهما عبد الله بن عامر فهربا من البصرة .
ثم هاجى الأعرج أخا بني حماد بن يشكر فأخذهما صاحب الصدقة في أيام ولاية عامر بن مسعودٍ الجمحي الكوفة فحبسهما وأمر أن لا يخرجا من السجن حتى يؤديا مائةً من الإبل ففك بنو حماد صاحبهم وبقي سويد فخذله بنو سعد وهم قومه فلم يزل محبوساً حتى استوهبته عبسٌ وذبيان لمديحه لهم وانتمائه إليهم وأطلقوه بغير فداء . وحلف أن لا يعود . وهذه أبياتٌ من قصيدةٍ انتهى فيها إلى ذبيان ومدحهم : ( أنا الغطفاني ابن ذبيان فابعدوا ** وللزنج أدنى منكم ويحابر )
____________________

( أبت لي عبسٌ أن أسام دنيةً ** وسعدٌ وذبيان الهجان وعامر ) ( وحيٌّ كرامٌ سادةٌ من هوازنٍ ** لهم في الملماة الأنوف الفواخر )
الشاهد الموفى الأربعين بعد الأربعمائة ( آل الزبير سنام المجد قد علمت ** ذاك العشيرة والأثرون من عددا ) على أن من عند الكوفيين حرف زائد أي : والأثرون عددا . وهي عند البصريين موصوفة أي : والأثرون إنساناً معدودا . وهذا الجواب أورده الفالي في شرح اللباب قال : يجعل عدداً مصدراً بمعنى
____________________

المفعول أي : معدوداً فتكون صفةً مفردة . ف من اسمٌ موصوفٌ بمفرد كقوله : فكفى بنا فضلاً على من غيرنا ويجوز أن تكون موصوفة بجملة محذوفة وذلك أن عدداً : مفعول مطلق وعامله محذوف تقديره : يعد عدداً بالبناء للمفعول . والجملة صفة من أي : إنساناً يعد عدداً . وعلى هذا الجواب اقتصر صاحب اللباب وابن الشجري في أماليه قال : زاد الكسائي في معاني من قسماً آخر وهو أنها قد جاءت صلة يعني زائدة وأنشد : والأثرون من عددا وقال غيره : معناه والأثرون من يعد عددا فحذف الفعل واكتفى بالمصدر منه كما تقول : ما أنت إلا سيراً . ف من في هذا القول نكرةٌ موصوفة بالجملة المحذوفة فالتقدير : والأثرون إنساناً يعد . اه . وأجاب بهما ابن هشام في المغني فقال : عدداً إما صفةٌ لمن على أنه اسم وضع موضع المصدر وهو العد أي : والأثرون قوماً ذوي عددٍ أي : قوماً معدودين . وإما معمول ليعد محذوفاً صلة أو صفة لمن ومن بدل من الأثرون . اه . وإنما نصبوا تفسير من وهو قولهم : إنساناً أو قوماً لأن من تمييز . وعلى قول الكوفيين من زائدةٌ وعدداً هو التمييز . وفي تخريجهم نظرٌ لا تخفى سماجته مع أنه ليس فيه كبير مدح فإن مراد الشاعر أن آل الزبير سنام المجد والأكثر ون عدداً فإن أتباعهم أكثر من أتباع غيرهم عدداً إلا أنهم يعدون عدداً فإن من يعد قليل والقلة لا فخر فيها ولا مدح . وجعل ابن هشام من بدلا من الأثرون على تقدير الفعل لا وجه له إذ لا فرق في المعنى بين قولنا : قوماً معدودين وبين قوماً يعدون . فتأمل .
____________________

ونقله كونهما اسماً في حال الزيادة يخالفه صريح نقل الشارح المحقق وصريح كلام ابن الشجري . وتخريج الكوفيين خالٍ من التعسف مع صحة معناه ومتانة مغزاه . وقال الأندلسي في شرح المفصل : الرواية عند البصريين : والأثرون ما عددا وزيادة ما جائزة لا اختلاف فيها . وقوله : آل الزبير : مبتدأ وسنام المجد : خبره والأثرون معطوف على الخبر وجملة قد علمت ذاك العشيرة : اعتراضية لتقوية المعنى )
وتسديده وذاك مفعول علمت وهو إشارة إلى كونهم سنام المجد والأكثرين عددا . والعشيرة فاعل علمت وروى بدله القبائل أي : قبائل العرب . وعلم هنا متعدٍّ لمفعول واحد لأنه بمعنى عرف . وسنام المجد : أعلى المجد استعير من سنام الإبل . والأثرون : جمع أثرى وهو أفعل تفضيل من ثريت بك بكسر الراء أي : كثرت بك . قاله في الصحاح . وهذا البيت مع كثرة دورانه في كتب النحو لا يعرف له قائل ولا تتمة . والله أعلم به . وأنشد بعده الشاهد الحادي والأربعون بعد الأربعمائة
____________________

( يا شاة من قنصٍ لمن حلت به ** حرمت علي وليتها لم تحرم ) على أن من عند الكوفيين زائدة . قال ابن هشام في المغني : من هنا أيضاً نكرة موصوفة بمفرد أي : يا شاة إنسانٍ قنص على أنه من الوصف بالمصدر للمبالغة . يريد أن قنصاً مصدر بمعنى الصيد أريد به اسم الفاعل أي : يا شاة إنسان قانص . وأراد بالإنسان نفسه . وهذا تخريج جيد لا مطعن فيه والمشهور فيه كما قال الشارح المحقق : يا شاة ما قنصٍ بزيادة ما وهي رواية شراح المعلقات ولم يرو أحد منهم الرواية الأولى فإن البيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي .
والشاة هنا كناية عن المرأة والعرب تكني عنها بالنعجة أيضاً . وقد أورده صاحب الكشاف برواية ما عند قوله تعالى : إن هذا أخي له تسعٌ وتسعون نعجةً على أن النعجة استعيرت للمرأة كما استعار عنترة للشاة فقنص على هذه الرواية مصدرٌ بمعنى المفعول وهو مجرور بإضافة شاة إليه . وفي زيادة ما وتنكير قنص ما يدل على أنها صيدٌ عظيم يغتبط بها من يحوزها أي اغتباط فيكون في قوله : حرمت علي الدلالة على التحزن التام على فوات تلك الغنيمة . قال الخطيب التبريزي في شرح هذه المعلقة : قوله : لمن حلت أي : لمن قدر عليها .
وقوله : حرمت علي معناه هي من قوم أعداء . ويدل على هذا قوله في القصيدة :
____________________

علقتها عرضاً وأقتل قومها والمعنى : أنها لما كانت في أعدائي لم أصل إليها وامتنعت مني . وأصل الحرام : الممنوع .
والمعنى : أنها حرمت علي باشتباك الحرب بيني وبين قبيلتها . وقوله : وليتها لم تحرم هو تمنٍّ في بقاء الصلح . وقال الأخفش : معنى حرمت علي : أي هي جارتي وليتها لم تحرم : أي ليتها لم تكن جارةً حتى لا يكون لها حرمة . وقال الزوزني في شرحه : هي امرأة أبيه يقول : حرم علي تزوجها لتزوج أبي إياها وليتها لم يتزوجها حتى كانت تحل لي . اه . أقول : لا ينبغي أن يذكر )
هذا فإن التزوج بامرأة الأب كان جائزاً في الجاهلية ويشهد له القرآن . وشاة بالنصب لأنه منادى مضاف عند أبي جعفر النحوي ومفعولٌ لفعل محذوفٍ مع المنادى عند الزوزني قال : التقدير : يا هؤلاء اشهدوا شاة قنص لمن حلت له فتعجبوا من حسنها وجمالها فإنها قد حازت الجمال . والمعنى : هي حسناء جميلة . وترجمة عنترة قد تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب . وقد أورد البدر الدماميني هنا أبياتاً قد ضمن فيها البيت الشاهد قال : أنشدني شيخنا شمس الدين الغماري إجازةً قال : أنشدني أبو حيان قال : أنشدنا جعفر بن الزبير قال : أنشدني القاضي أبو حفص عمر بن عمر الفاسي لنفسه وقد أهديت إليه جارية فوجدها ابنة سريةٍ كان تسراها فردها وكتب إلى مهديها : ( يا مهدي الرشأ الذي ألحاظه ** تركت فؤادي نصب تلك الأسهم )
____________________

( ريحانةٌ كل المنى في شمها ** لولا المهيمن واجتناب المحرم ) ( ما عن قلًى صرفت إليك وإنما ** صيد الغزالة لم يبح للمحرم ) ( إن الغزالة قد علمنا سرها ** قبل المهاة وليتنا لم نعلم ) ( يا ويح عنترةٍ يقول وشفه ** ما شفني فشدا ولم يتكلم ) ( يا شاة ما قنصٍ لمن حلت له ** حرمت علي وليتها لم تحرم ) وأنشده بعده
الشاهد الثاني والأربعون بعد الأربعمائة أو تصبحي في الظاعن المولى على أن أل الموصولة المستعملة في الجمع إذا لم تصحب موصوفها يجوز مراعاة لفظها كما هنا إذ المراد : في الظاعنين المولين . ويجوز أن يكون الإفراد باعتبار أن موصوفها المقدر مفرد اللفظ أي : في الجمع الظاعن وإنما حمل أل في الوصفين على الجمع لأن المعنى دل على أن المراد : إن تصبحي راحلةً مع الظاعنين . وليس لإفرادهما معنى بدون ما ذكره الشارح المحقق . وذهب أبو علي الفارسي في المسائل البصرية إلى أن الجمعية مستفادةٌ من كون أل للجنس لا أنها تدل عليها وضعاً قال : أنشد المازني : أو تصبحي في الظاعن المولي وفسره بالظاعنين . وسألني أبو يعقوب المارودي : إذا حسن أن تكون اللام للجمع في الظاعنين دالةً على الجمع فيه على قول المازني وابن السراج فلم لا يحسن ذلك في الظاعن مع إفراد ظاعن كما جاز مثل الذي استوقد ناراً فلما أضاءت
____________________

ما حوله فقلت له : الفرق بينهما أن ذلك في الذي اتساع وأنه لم يخل ذلك من دليل يدل عليه ملفوظٍ به . ألا ترى أنه قال : فلما أضاءت ما حوله وقال : إن الذي حانت بفلج دماؤهم واللام محمولة على الذي اتساعا فلا تحتمل من الاتساع ما يحتمله الأصل . ألا ترى أن حملها على الذي اتساعٌ فيها حتى قال أبو عثمان : ليست بمعنى الذي ولكنها دالة على الذي . وتوالي الاتساع مرفوض وإذا لم يحسن أن يجعل بمنزلة الذي في هذا فأن لا تحسن تجعل بمنزلة الذي فيه مع تعريها من دليل يدل عليه أولى وإن الذي لا يسوغ ذلك فيها متعريةً من دليل . اه . وفيه نظر من وجهين : الأول : أن قوله اللام محمولة على الذي اتساعاً ممنوعٌ فإنها موضوعة لمعنى الذي وفرعيه بالاشتراك وليست محمولةً على الذي . الثاني : قوله وتوالي الاتساع مرفوضٌ ممنوع أيضاً فإن المجاز وهو من الاتساع في اللغة فلا يتجوز به إلى مجازين أو أكثر . وكذلك ذهب ابن الشجري في أماليه إلى أن الجمعية مستفادةٌ من لام الجنس قال : والشكور من قوله تعالى : وقليلٌ من عبادي الشكور اسم جنس والمعنى : وقليلون من عبادي الشكورون .
____________________

وكون اسم الجنس مشتقاً قليل وإنما يغلب على أسماء الأجناس الجمود كالدينار والدرهم والقفيز والإردب . إلى )
أن قال : ومما جاء من المشتق يراد به الجنس : المفسد والمصلح في قوله تعالى : والله يعلم المفسد من المصلح أي : المفسدين من المصلحين . ومنه قول الراجز : أو تصبحي في الظاعن المولي أراد : في الظاعنين المولين . وقول الأخيلية : ( كأن فتى الفتيان توبة لم ينخ ** بنجدٍ ولم يهبط مع المتغور ) أرادت : مع المتغورين . اه . والبيت من أرجوزةٍ أورد بعضها أبو زيد في نوادره وهذا مقدار ما أورده : ( إن تبخلي يا جمل أو تعتلي ** أو تصبحي في الظاعن المولي ) ( كأن مهواها على الكلكل ** وموقعاً من ثفنات زل ) موقع كفي راهبٍ يصلي وأورد ابن الأعرابي في نوادره أيضاً هذا المقدار وزاد عليه بعده وهو : في غبش الصبح وفي التجلي
____________________

وقال أبو زيد بعد إيراده الأبيات : المغتل : الذي اغتل جوفه من الشوق والحب والحزن كغلة العطش . والوجناء : الوثيرة القصيرة . والعيهل : الطويلة . والزل : الملس . اه . وقوله : إن تبخلي هو من البخل أي : إن تبخلي علينا بوصلك . وجمل بضم الجيم من أسماء نساء العرب . وتعتلي من الاعتلاء وهو التمارض والتمسك بحجة . والظاعن من ظعن من باب نفع إذا ارتحل .
والمولي من وليت عنه إذا أعرضت عنه وتركته . وتعتلي وتصبحي معطوفان على تبخلي ولهذا جزما بحذف النون . وقوله : نسل جواب الشرط مجزوم بحذف الياء وأوله نون المتكلم من التسلية وهو إذهاب الهم ونحوه بالسلو . قال أبو زيد : السلو : طيب نفس الإلف عن إلفه .
والوجد : الغم والحزن . والهائم أراد به الشاعر نفسه وهو من هام إذا خرج على وجهه لا يدري أين يتوجه إن سلك طريقاً مسلوكاً فإن سلك طريقاً غير مسلوك فهو راكب التعاسيف .
كذا في المصباح . والمغتل بالغين المعجمة من الغلة بالضم وهي حرارة العطش . وفسر المغتل صاحب الصحاح بشديد العطش . وقوله : بيازل متعلق بنسل والبيازل : الداخل في السنة التاسعة من الإبل ذكراً كان أو أنثى والمراد هنا الثاني لقوله وجناء . وفسرها أبو زيد بالوثيرة بالثاء المثلثة وهي الكثيرة اللحم والتي لا تتعب راكبها . والمشهورة تفسيرها بالناقة الشديدة . )
والعيهل : فسره أبو زيد بالطويلة وقال غيره : هي السريعة . قال صاحب العباب : العيهل والعيهلة : الناقة السريعة . قال أبو حاتم : ولا يقال جمل عيهلٌّ وتشديد اللام لضرورة الشعر . اه .
وبه يظهر فساد قول السخاوي في سفر السعادة : إن العيهل : النجيب من الإبل والأنثى عيهلة .
ويرد عليه أيضاً قوله وجناء .
____________________

وقوله : مهواها مصدر بمعنى الهوي والسقوط . والكلكل كجعفر : الصدر وتشديد اللام ضرورة أيضاً . وثفنات : جمع ثفنة بفتح المثلثة وكسر الفاء بعدها نون وهو ما يقع على الأرض من أعضاء الإبل إذا استناخ وغلظ كالركبتين وغيرهما . وزل بالضم جمع أزل وهو الخفيف . وفسره أبو زيد بملس . وهو غير مناسب إذ المراد تشبيه الأعضاء الخشنة الغليظة من الناقة بكثرة الاستناخة بكفي راهب قد شثنت وخشنت من كثرة اعتماده عليهما في السجود . وروى : رجلي راهب بدل كفي راهب . والغبش بفتحتين : بقية الليل .
وأراد بالتجلي النهار . وهذه أرجوزةٌ طويلة أورد منها شراح شواهد سيبويه جملةً وكذلك أبو علي في المسائل العسكرية . وقوله : أورده سيبويه في باب الوقف لرجلٍ من بني أسد على أن تضعيف الآخر في القافية ضرورة .
قال الأعلم : الشاهد فيه تشديد عيهل في الوصل ضرورة وإنما يشدد في الوقف ليعلم أنه متحرك في الوصل . قال أبو علي في المسائل العسكرية أما العيهل والكلكل فاستعمالهما بتحفيف فقدر الوقف عليه فضاعف إرادة للبيان . وهذا ينبغي أن يكون في الوقف دون الوصل لأن ما يتصل به في الوصل يبين الحرف وحركته . فمن ذلك من قال في الوقف : هذا خالد . فإذا وصل قال : هذا خالدٌ كما ترى . ويضطر الشاعر فيجري الوصل بهذه الإطلاقات في القوافي مجرى الوقف .
وقد جاء ذلك في النصب أيضاً .
____________________

قال : مثل الحريق وافق القصبا وهذا لا ينبغي أن يكون في السعة . اه . وهذه الأرجوزة نسبها السخاوي في سفر السعادة لمنظور بن مرثد الأسدي . قال : وقيل لغيره . ونسبه الصاغاني في العباب لمنظور بن حبة الأسدي وهما واحد فإنما مرثداً أبوه وحبة أمه فبعضهم ينسبه إلى أبيه وبعضهم إلى أمه . قال الصاغاني في العباب : منظور بن حبة راجزٌ من بني أسد . وحبة أمه واسم أبيه مرثد بن فروة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن جحوان بن طريف بن عمرو بن قعين . اه . وقعين : ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة . وأنشد بعده : )
على أن جملة هل رأيت إلى آخرها صفةٌ لمذق بتقدير القول .
____________________

وتقدم شرحه مستوفًى في الشاهد السادس والتسعين . وأنشد بعده الشاهد الثالث والأربعون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ولقد أبيت من الفتاة بمنزلٍ ** فأبيت لا حرجٌ ولا محروم ) على أن لا حرجٌ عند الخليل مرفوعٌ على أنه خبر مبتدأ محذوف والجملة محكية بقول محذوف أي : أبيت مقولاً في : هو لا حرجٌ ولا محروم . وهذا من حكاية الجمل بتقدير المبتدأ ولا يصح أن يكون من حكاية المفرد لأن حكاية إعرابه إنما تكون إذا أريد لفظه نحو : قال فلان : زيدٌ إذا تكلم بزيد مرفوعاً وفي غير هذا يجب نصبه إلا أن يكون بتقدير شيء فنجب حكاية إعرابه كما هنا . وهذا نص سيبويه في المسألة : وزعم الخليل أن أيهم إنما وقع في قولهم : اضرب أيهم أفضل على أنه حكاية كأنه قال : اضرب الذي يقال له : أيهم أفضل . وشبه بقول الأخطل : ولقد أبيت من الفتاة بمنزلٍ . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم : الشاهد في رفع حرجٌ ومحروم وكان وجه الكلام نصبهما على الحال . ووجه رفعهما عند الخليل الحمل على الحكاية والمعنى : فأبيت كالذي يقال له لا حرجٌ ولا محروم .
____________________

ولا يجوز : رفعه حملاً على مبتدأ مضمر كما لا يجوز : كان زيد لا قائم ولا قاعد على تقدير : لا هو قائم ولا هو قاعد لأنه ليس موضع تبعيض ولا قطع فلذلك حمله على الحكاية . اه . وقال النحاس : قال سيبويه : زعم الخليل أن هذا ليس على إضمار أنا ولو كان كذلك لجاز : كان عبد الله لا مسلم ولا صالح ولكنه فيما زعم الخليل : فأبيت كالذي يقال له : لا حرجٌ ولا محروم .
وإنما فر الخليل من إضمار أنا وإن كانت قد تضمر في هذا الموضع لأنه يلزم عليه أن يقول : كنت لا خارج ولا ذاهب . وهذا قبيحٌ جداً فجعله على الحكاية : فأبيت بمنزلة الذي يقال له : لا حرجٌ ولا محروم أي : إنها لم تحرمني فيقال لي محروم ولم أتحرج من حضوري نعها فيقال لي : حرج . وقال أبو إسحاق الزاج : هو بمعنى لا حرجٌ ولا محروم في مكاني . فإذا لم يكن في مكانه حرجاً ولا محروماً فهو لا حرج ولا محروم . وزعم الجرمي أنه على معنى فأبيت وأنا لا حرجٌ ولا محروم . قال سيبويه : وقد زعم بعضهم أنه على النفي كأنه قال : فأبيت لا حرج ولا محروم بالمكان الذي أنا فيه . وكلام أبي إسحاق شرحٌ لهذا . قال أبو الحسن : فيكون في المكان الذي أنا )
فيه خبراً عن حرج والجملة خبر أبيت . انتهى كلام النحاس . قال السيرافي : وهذا التفسير أسهل لأن المحذوف خبر حرج وهو ظرف وحذف الخبر في النفي كثير كقولنا : لا حول ولا قوة إلا بالله أي : لنا . وقوله : ولقد أبيت قال صاحب المصباح : بات له معنيان : أحدهما كما نقل الأزهري عن الفراء : بات الرجل إذا سهر الليل كله في طاعةٍ أو معصية . وثانيهما : بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواء كان في ليل أو نهار . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : فإنه لا يدري أين باتت يده أي : صارت ووصلت . اه .
____________________

والمناسب هنا المعنى الثاني . والرواية في ديوان الأخطل : ولقد أكون . والمستقبل هنا في موضع الماضي لأنه يريد أن يخبر عن حاله فيما مضى وأكثر ما يجيء هذا فيما علم منه ذلك الفعل خلقاً وطبعاً وقد تكرر ذلك الفعل منه ولا يكون كفعل فعله في الدهر مرة واحدة . والفتاة : الجارية الشابة يريد أنه كان في شبابه تحبه الفتيات ويبيت عندهن بمنزلٍ يعني بمنزلة جميلة . والحرج بفتح الحاء وكسر الراء : المضيق عليه . يقول : إن موضعه لم يكن مضيقاً به ولا هو محرومٌ من جهتها ما يريده .
وقبل هذا البيت : ( ولقد يكن إلي صوراً مرةً ** أيام لون غدائري يحموم ) والنون في يكن ضمير النساء الغواني في بيتٍ قبله . والصور : جمع صائرة بمعنى مائلة . والغدائر : الذوائب جمع غديرة . واليحموم : الأسود . والبيتان من قصيدةٍ ذكر فيها ما كان يفعله أيام الشباب ثم توعد جميعاً وهو رجلٌ من كلب بأنه إن لم يمسك لسانه عنه هجاه وهجا قبيلته .
والأخطل شاعرٌ نصرانيٌّ من شعراء الدولة الأموية . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن
الشاهد الرابع والأربعون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س :
____________________

( دعي ماذا علمت سأتقيه ** ولكن بالمغيب نبئيني ) على أن ذا هنا زائدة بعد ما الموصولة . وهذا مخالفٌ لكلام سيبويه فيهما فإن ما عنده في البيت استفهامية و ذا اسم مركب معها جعلا بمنزلة شيء واحد . وهذا نص كلامه : وأما إجراؤهم ذا مع ما بمنزلة اسم واحد فهو قولك : ماذا رأيت فتقول : خيراً كأنك قلت : ما رأيت فلو كانت ذا لغواً لما قالت العرب : عما ذا تسأل ولقالوا : عم ذا تسأل ولكنهم جعلوا ما و ذا اسماً واحداً كما جعلوا ما وإن حرفاً واحداً حين قالوا : إنما . ومثل ذلك : كأنما وحيثما في الجزاء ولو كان ذا بمنزلة الذي في ذا الموضع البتة لكان الوجه في ماذا رأيت إذا أراد الجواب أن يقول : خير وقال الشاعر : وسمعنا بعض العرب يقوله : ( دعي ماذا علمت سأتقيه ** ولكن بالمغيب نبئيني ) ف الذي لا يجوز في هذا الموضع وما لا يحسن أن تلغيها . انتهى كلامه . وقال أبو حيان في تذكرته : قال بعضهم : ذا مع ما شيءٌ واحد وموضع ماذا نصب ب علمت وهي الاستفهامية على ما حكى سيبويه . وحكى السيرافي أن ماذا في البيت بمعنى الذي وعلمت صلة وحذفت الهاء العائدة وماذا في موضع نصب بدعي والتقدير : دعي الذي علمت فإني سأتقيه .
____________________

وهو أصح معنًى مما حكى سيبويه لأنه جعلها استفهامية منصوبة بعلمت الواقع بعدها وهو فاسدٌ من طريق المعنى . ويمكن أن يكون منصوباً بإضمار فعل يدل عليه سأتقيه كأنه قال : دعي كل شيء سأتقي ماذا علمت سأتقيه . اه . وقد خفي على الأعلم ظهور كون ما في البيت استفهامية فزعم أنها موصولة قال : الشاهد فيه جعل ماذا اسماً واحداً بمنزلة الذي والمعنى دعي الذي علمته فإني سأتقيه لعلمي مثل الذي علمت ولكن نبئيني بما غاب عني وعنك مما يأتي به الدهر أي : لا تعذليني فيما أبادر به الزمان من إتلاف مالي في وجوه الفتوة ولا تخوفيني الفقر . اه . والمفهوم من تقريره أن التاء من علمت مكسورة . قال النحاس : وهي رواية أبي الحسن وأما رواية أبي إسحاق فهي بضم التاء . قال النحاس : ف إذا هنا لا تكون بمعنى الذي لأنه لا يجوز دعي ما الذي علمت . قال أبو إسحاق : لا يكون ذا هنا إلا بمنزلة اسم مع ما وذلك أنها لا تخلو من إحدى ثلاث جهات : إما أن تكون ما صلة وذا بمعنى الذي وهذا لا يجوز )
لأن ذا لا يكون بمعنى الذي إلا مع ما ومن الاستفهاميتين وكذا استعملت . وإما أن يكون ما بمعنى الذي وذا بمعنى الذي فتكون ما مفعولة وذا مبتدأ وعلمت صلة ويبقى المبتدأ بلا خبر . فإن قلت : أضمر هو فكأنك قلت : دعي الذي هو الذي علمت . فهذا قبيح . وهذا الذي قال سيبويه والذي لا يجوز في هذا الموضع لئلا يلزم أن تحذف هو منفصلة . الثالث : أن تكون ما مع ذا بمنزلة اسم واحد . اه . ولا يخفى أنه لم يعين معنى ماذا بعد هذا الترديد هل هي استفهام أو موصول . وذهب ابن عصفور إلى أن ما استفهامية و ذا موصولة وقال : لا يكون ماذا مفعولاً لدعي لأن الاستفهام له الصدر . ولا لعلمت لأنه لم يرد أن
____________________

يستفهم عن معلومها ما هو . ولا لمحذوف يفسره سأتقيه لأن علمت حينئذٍ لا محل له . بل ما استفهام مبتدأ وذا موصول خبر وعلمت صلة وعلق دعي عن العمل بالاستفهام . اه . ولا يخفى أن هذا مبنيٌّ على رواية كسر التاء من علمت وأما على رواية ضمها فلا استفهام إذ المعنى : دعي ما علمته أنا وخبريني ما جهلته . وأورد عليه ابن هشام في المغني بعد نقل كلامه أن قوله لم يرد أن يستفهمها عن معلومها لازمٌ له إذا جعل ماذا مبتدأ وخبراً . ودعواه تعليق دعي مردودةٌ لأنها ليست من أفعال القلوب فإن قال : إنما أردت أنه قدر الموقف على دعي فاستأنف ما بعده رده قول الشاعر : ولكن فإنها لا بد أن يخالف ما بعدها ما قبلها والمخالف هنا دعي فالمعنى دعي كذا ولكن افعلي كذا . وعلى هذا فلا يصح استئناف ما بعد دعي لأنه لا يقال من في الدار فإنني أكرمه ولكن أخبرني عن كذا . اه . وذهب أبو علي في المسائل المنثورة إلى أن ماذا بمعنى شيء نكرة . قال : ولا يجوز أن أجعل ذا في تأويل الذي لأنها لم تجىء في تأويل الذي إلا في الاستفهام . وها هنا ليس معنى استفهام ولكن معنى ما و ذا بمعنى شيء فيكون بمعنى اسم واحد فيكون تقديره : دعي شيئاً علمت ويكون علمت صفةً لماذا . والشاهد على هذا القول أن ما وذا إنما جاءت بمعنى شيء واحد في الاستفهام والاستفهام نكرة وهي ها هنا أيضاً مبهمة فحملتها على النكرة التي جاءت في الاستفهام . اه . وعلمت هنا بمعنى عرفت ولهذا تعدى إلى مفعول واحد . والنبأ : الخبر . والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها والله أعلم به . وزعم العيني وتبعه السيوطي في شرح شواهد المغني أنه من قصيدة للمثقب العبدي مطلعها :
____________________

( أفاطم قبل بينك متعيني ** ومنعك ما سألت كأن تبيني ) )
وهذا لا أصل له وإن كان الروي والوزن شيئاً واحداً فإن قصيدة المثقب العبدي قد رواها جماعةٌ منهم المفضل الضبي في المفضليات ومنهم أبو علي القالي في أماليه وفي ذيل أماليه ولم يوجد البيت فيها ولم يعزه إليه أحدٌ من خدمة كتاب سيبويه وهم أدرى بهذه الأمور . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الخامس والأربعون بعد الأربعمائة وهم من شواهد س : على أن ما مبتدأ و ذا زائدة وجملة يحاول خبر المبتدأ والرابط محذوف أي : يحاوله . وهذا مخالفٌ لسيبويه ومن تبعه فإن جعل ذا هنا موصولة وهذا نصه : أما إجراؤهم ذا بمنزلة الذي فهو قولهم : ماذا رأيت فيقول : متاعٌ حسن .
____________________

وقال لبيد : ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم وابن السيرافي : التقدير : ما الذي يحاول ف ما : مبتدأ و ذا خبره ويحاول : صلة ذا كأنه قال : أي شيء الذي يحاوله بدليل قوله : أنحبٌ . ولو كان ذا مع ما كشيء واحد لكان ماذا منصوباً بيحاول وكان مفسره الذي هو نحبٌ منصوباً لأنه استفهام مفسر للاستفهام الأول فهو على إعرابه ولوجب أن يقال : أنحباً فيقضى أم ضلالاً وباطلاً . اه . وكذلك قال أبو علي في إيضاح الشعر كأنه قال : ما الذي يحاوله أألذي يحاوله نحبٌ أم ضلال ولو كان ذا مع ما في البيت اسماً واحداً كما كان في قوله تعالى : ماذا أنزل ربكم قالوا خيراً لكان النحب نصباً .
اه . ونقل النحاس عن ابن كيسان أنه قال هنا : إن شئت جعلت ما و ذا شيئاً واحداً لأن ما تكون لكل الأشياء و ذا كذلك فوافقتها في الإبهام فقرتنا . والذي أختار إذا جعلا شيئاً واحداً أن يكون ذا صفة لما . انتهى . وكذلك قال الدماميني في الحاشية الهندية : كون ذا موصولاً لا يتعين لاحتمال أن يكون ماذا كله اسماً واحداً مرفوعاً على أنه مبتدأ ويحاول خبره والرابط محذوف أي : يحاوله . ومثله في الشعر جائز . ونحبٌ بدل من المبتدأ ويحتمل أن يكون ماذا كله في محل نصب على أنه مفعول يحاول و لا ضمير محذوفاً . فإن قلت : يبطله رفع البدل . قلت : لا يكون نحب حينئذٍ بدلاً بل يكون خبر مبتدأ مضمر . اه .
____________________

أقول أما النصب فقد جوزه الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو قال : تجعل ما في موضع نصب وتوقع عليها ينفقون ولا تنصبها بيسألونك . وإن شئت رفعتها من وجهين : أحدهما أن تجعل ذا اسما )
يرفع ما كأنك قلت : ما الذي ينفقون . والعرب قد تذهب بهذا وذا إلى معنى الذي . والرفع الآخر : أن تجعل كل استفهام أوقعت عليه فعلاً بعده رفعاً لا يجوز تقديمه قبل الاستفهام فجعلوه بمنزلة الذي إذ لم يعمل فيها الفعل الذي بعدها . فإذا نويت ذلك رفعت العفو كذلك كما قال الشاعر : ألا تسألان المرء ماذا يحاول . . . . . . . . . . . . . البيت رفع النحب لأنه نوى أن يجعل ما في موضع رفع ولو قال : أنحباً فيقضى أم ضلالاً وباطلاً كأن أبين في كلام العرب وأكثر . اه . وأما جعل نحبٌ خبر مبتدأ فقد نقله ابن هشام اللخمي في شواهد الجمل وقواه . قال : نحب بدل من ما وقيل : إن نحبا خبر مبتدأ مضمر والتقدير : أهو نحب والمبتدأ والخبر بدل من موضع ماذا . وهذا أقوى لأنه أبدل جملة من جملة لما كانت في معناها . اه . ومثله لابن السيد في شرح شواهد الجمل قال : من اعتقد في نحب البدل فموضع ما رفع على كل حال ومن اعتقد أن قوله أنحب مرتفع على خبر مبتدأ مضمر كأنه قال : أهو نحب جاز أن تكون ما مرفوعة المحل وجاز أن تكون منصوبة الموضع . اه . وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إذا كان ذا بمعنى الذي ففيه وجوه : أحدهما : أن يكون خبر ما وأن يكون بدلاً منها وأن يكون خبراً
____________________

لمبتدأ محذوف تقديره : ما هو الذي يحاول . اه . أقول : أما الثاني فباطل لأنه لو كان كذلك لوجب أن قترن مع البدل استفهام كما اقترن بقوله : نحب على تقدير كونه بدلاً من ما . وأما الثالث فلا يجوز لعدم القرينة على الحذف . وبقي عليه أن يقول : ما خبر مقدم و ذا مبتدأ مؤخر كما اختلفوا في قولهم : كم مالك . وقوله : ألا تسألان إلخ ألا : كلمة يستفتح بها الكلام ومعناه التنبيه . وتسألان خطابٌ لصاحبين له وقيل : إنما هو خطابٌ لواحد . وزعم بعضهم أن العرب تخاطب الواحد بخطاب الاثنين . وحكي عن بعض الفصحاء وهو الحجاج : يا حرسي اضربا عنقه وزعموا أن قوله تعالى : ألقيا في جهنم كل كفارٍ عنيد أنه خطاب للملك . وهذا شيءٌ ينكره حذاق البصريين لأنه إذا خاطب الواحد بخطاب الاثنين وقع اللبس . وذهب المبرد إلى أن التثنية على التوكيد تؤدي عن معنى ألق ألق .
وخالفه أبو إسحاق بأنه في كله خطابٌ لاثنين وهو الظاهر هنا والسؤال هنا بمعنى الاستفهام يقال : سألته عن كذا فهو يتعدى إلى المسؤول منه بنفسه وإلى المسؤول عنه بحرف عن فجملة ماذا يحاول في موضع المفعول الثاني المقيد ب عن المعلق عن العمل بالاستفهام . والمحاولة : )
استعمال الحيلة وهي الحذق في تدبير الأمور وهو تقليب الفكر حتى يهتدي إلى المقصود .
والحيلة أصلها حولة إن قلبت الواو ياءً لانكسار ما قبلها . ولام المرء للعهد الذهني نحو : إذ هما في الغار . أي : سلا الإنسان الساعي
____________________

في تحصيل الدنيا . وقيل اللام للجنس لا يعني امرأ معيناً . وقال ابن المستوفي : يعني بالمرء نفسه والناس فيه سواء . والنحب : بفتح النون وسكون المهملة هـ معان المراد هنا النذر وهو ما ينذره الإنسان على نفسه ويوجب عليها فعله على كل حال . يقول اسألوا هذا الحريص على الدنيا عن هذا الذي هو فيه أهو نذرٌ نذره على نفسه فرأى أنه لابد من فعله أم هو ضلال وباطل عن أمره . وقوله : فيقضى روي بالبناء للفاعل وبالبناء للمفعول وعليهما الجملة خبر لمبتدأ محذوف أي : هو يقضي . وهذا المبتدأ ضمير المرء على الرواية الأولى وضمير النحب على الرواية الثانية . والفاء هنا للاستئناف كقوله : يريد أن يعربه فيعجمه وقصره بعضهم على الرواية الثانية فقال : هو في موضع نصب على أنه جواب الاستفهام وليس بمعطوف على يحاول . وقد سها العيني هنا سهواً فاحشاً فزعم أن جملة يقضي في محل رفع صفة ل نحب . ويجوز أن تكون في محل نصب على تقدير انتصاب النحب .
اه . فإن الفاء مانعةٌ من الوصفية وكأنه قاسها على واو اللصوق .
____________________

والبيت أول قصيدة للبيد العامري الصحابي وتقدمت ترجمته مع شرح أبياتٍ منها في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة . وأنشد بعده
الشاهد السادس والأربعون بعد الأربعمائة ( وماذا عسى الواشون أن يتحدثوا ** سوى أن يقولوا : إنني لك عاشق ) على أن ذا قيل إنها زائدة لا موصولة . وذهب ابن جني في إعراب الحماسة عند قول المعلوط السعدي : ( غيضن من عبراتهن وقلن لي ** ماذا لقيت من الهوى ولقينا ) إلى أن ماذا فيه مركبة بمعنى المصدر مبتدأ أي : تحديث وجملة عسى خبره . ولم يلتفت إلى إنشائيته لوروده في الخبر إما لأنه بتقدير قول محذوف كما هو مذهب الجمهور وإما بدونه كما هو مذهب البعض . وهذه عبارته : لا سبيل إلى أن تنصب ماذا على أنهما اسم واحد بيتحدثوا لأنه في صلة أن
____________________

فيجرى هذا في امتناع ما بعد أن من الموصول إليه مجرى ذكرٌ من قولك : أذكرٌ أن تلد ناقتك أحب إليك أم أنثى وماذا هنا بمعنى المصدر فترفعه بالابتداء وتضمر له عائداً كقولك : أي قيام عسى زيد أن يقول وأنت تريد يقومه فتحذف الهاء وترفع الأول مضطراً إلى رفعه إذ لا سبيل إلى نصبه . ويضعف أن تكون ذا بمنزلة الذي وذلك لما تصير إليه ما وصل الذي بعسى . وفيه ذهابٌ عن البيان والإيضاح بالصلة . فإن قلت : فقد قال الفرزدق : ( وإني لرامٍ نظرةً قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها ) فإن أبا عليٍّ يتأول هذا ويتناوله على الحكاية حتى كأنه قال : قبل التي يقال فيها : لعلي . وباب الحكاية طريقٌ مهيع يتقبل فيه كل تأول وما أشبهه إلا بالمنام أو حديث البحر الذي انطوت النفوس على تقبل ما يعرض فيه وترك التناكر لشيء يرد عنه . اه مختصراً . والبيت أورده أبو تمام في الحماسة وبعده بيتٌ ثان ونسبهما لجميل العذري وهو : ( نعم صدق الواشون أنت كريمةٌ ** علينا وإن لم تصف منك الخلائق ) يقول : الواشون لا يقدرون في وشايتهم على أكثر مما أن يقولوا : إنني لك عاشق . ثم أوجب بقوله : نعم . فكأنه قال : قد صدقوا فيما ادعوه أنت تكرمين
____________________

علينا وإن لم نصادف من أخلاقك صفاء . والواشي : النمام الذي يحسن الكلام ويزوقه للإفساد بين اثنين من الوشي وهو التزيين .
وروى : وامق بدل عاشق وهو بمعناه . وروى : حبيبة إلي بدل كريمة علينا . وهو مناسب .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين . وقد روى صاحب الأغاني هذين البيتين من جملة أبياتٍ لمجنون بني عامر وهو قيس بن الملوح المشهور بمجنون ليلى . روى بسنده )
عن الهيثم بن عدي أن رهط المجنون اجتازوا في نجعةٍ لهم بحب ليلى فرأى أبيات أهلها ولم يقدر على الإلمام بهم وعدل أهله إلى وجهة أخرى فقال المجنون : ( لعمرك إن البيت بالقبل الذي ** مررت ولم ألمم عليهم لشائق ) ( كأني إذا لم ألق ليلى معلقٌ ** بسبين أهفو بين سهلٍ وحالق ) ( على أنني لو شئت هاجت صبابتي ** علي رسومٌ عي منها المناطق ) ( لعمرك إن الحب يا أم مالك ** بقلبي يراني الله منك للاصق ) وماذا عسى الواشون . . . . . . . . . إلى آخر البيتين وكذلك نسبهما ابن نباتة المصري في شرح رسالة ابن زيدون إلى المجنون إلا أنه أورد بعدهما بيتين آخرين وهما : ( كأن على أنيابها الخمر شجها ** بماء سحابٍ آخر الليل غابق )
____________________

( وما ذقته إلا بعيني تفرساً ** كما شيم في أعلى السحابة بارق ) وترجمة المجنون قد تقدمت في الشاهد التسعين بعد المائتين . وأنشد بعده : ( وإني لرامٍ نظرةً قبل التي ** لعلي وإن شطت نواها أزورها ) على أن جملة لعلي إلخ مقولة بقول محذوف وهو الصلة أي : قبل التي أقول لعلي إلخ . وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في أول الباب في الشاهد الخامس عشر بعد الأربعمائة . وأنشد بعده الشاهد السابع والأربعون بعد الأربعمائة ( من اللواتي والتي واللاتي ** زعمن أني كبرت لداتي ) على أن جملة زعمن إلخ صلة الموصول الأخير وصلة كلٍّ من الموصولين الأولين محذوفة للدلالة عليها بصلة الثالث والتقدير : من اللواتي زعمن ومن النساء التي زعمن .
____________________

ويجوز أن تكون صلةً للموصولات الثلاثة لاتحاد مدلولها ولا يجوز أن تكون صلةً للثاني فقط هذا تقرير كلام الشارح المحقق وأما غيره فقد جعل الصلة للموصول الأخير فقط وصلة كلٍّ مما قبله محذوفة منهم ابن الشجري في أماليه قال : أنشد المبرد في المقتضب : ( بعد اللتيا واللتيا والتي ** إذا علتها أنفسٌ تردت ) لم يأت للموصولين الأولين بصلة لأن صلة الموصول الثالث دلت على ما أراد . ومثله : من اللواتي والتي واللاتي . . . . . . . . . . . . . . . البيت )
وصل اللاتي وحذف صلة اللواتي والتي للدلالة عليها . ومما حذف منه صلة موصولين فلم يؤت فيه بصلة قول سلمي بن ربيعة السيدي : ( ولقد رأبت ثأى العشيرة بينها ** وكفيت جانبها اللتيا والتي ) أراد اللتيا والتي تأتي على النفوس لأن تأنيث اللتيا والتي ها هنا إنما هو لتأنيث الداهية . ألا ترى إلى قوله :
____________________

بعد اللتيا واللتيا والتي وتردت : تفعلت من الردى مصدر ردي يردى إذا هلك أو من التردي الذي هو السقوط من علوٍّ . حذف الصلة من هذا الضرب من الموصولات إنما هو لتعظيم الأمر وتفخيمه . وقد جاء التصغير في كلامهم للتعظيم كقوله : دويهيةٌ تصفر منها الأنامل أراد بالدويهية الموت ولا داهية أعظم منها فتحقير اللتيا ها هنا للتعظيم . والرأب : الإصلاح . والثأى بفتح المثلثة والهمزة وبعدها ألف تكتب ياء : الفساد . والظرف متعلق بالثأى أي : أصلحت ما فسد بينها . اه . وإنما نقلته هنا بتمامه لأنه كالشرح لما سيأتي قريباً . ومنهم أبو علي قال في إيضاح الشعر عند قول الشاعر وتقدم شرحه : من النفر اللاء الذين إذا هم . . . . . . . . . . البيت المتقدم يجوز أن يكون حذف صلة الأول لأن صلة الموصول الذي بعده تدل عليها كقول الآخر : من اللواتي والتي واللاتي . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________

فلم يأت للموصولين الأولين بصلة . اه . وقوله : من اللواتي حرف الجر متعلق بما قبل البيت .
واللواتي واللاتي كلاهما جمع التي . وكبرت من الكبر في السن وقد كبر الرجل بكسر الباء يكبر بفتحها كبراً بكسر الكاف وفتح الباء . وروى صاحب الصحاح : زعمنا أن قد كبرت لداتي ولداتي : جمع لدة ولدة الرجل : تربه الذي ولد معه قريباً والهاء عوض من الواو الذاهبة في أوله لأنه من الولادة ويجمع على لدون أيضاً . والزعم يطلق على القول والظن قال الأزهري : وأكثر ما يكون الزعم فيما يشك فيه ولا يتحقق . وقال بعضهم : هو كنايةٌ عن الكذب . وقال المرزوقي : أكثر ما يستعمل فيما كان باطلاً أو فيه ارتياب . والبيت لا أعرف ما قبله ولا قائله مع كثرة وجوده في كتب النحو . والله أعلم . وأنشد بعده
الشاهد الثامن والأربعون بعد الأربعمائة ( فإن أدع اللواتي من أناسٍ ** أضاعوهن لا أدع الذينا )
____________________

قال أبو علي الفارسي في إيضاح الشعر : أنشده أحمد بن يحيى ثعلب وقال : يقول : فإن أدع النساءاللاتي أولادهن من رجال قد أضاعوا هؤلاء النساء . أي : لا أهجو النساء ولكن أهجو الرجال الذين لم يمنعوهن . فعلى تفسيره ينبغي أن يكون المبتدأ مضمراً في الصلة كأنه قال : فإن أدع اللواتي أولادهن من أناس أضاعوهن فلن يحموهن كما تحمي البعولة أزواجها فلا أدع الذين .
والتقدير : إن أدع هجو هؤلاء النساء الضعاف لا أدع هجو الرجال المضيعين وذمهم على فعلهم . فالمضاف محذوف في الموضعين . وتقدير حذف المبتدأ غير ممتنعٍ هنا وقد حذف المبتدأ من الصلة نحو قول عدي : أي : ما هو عواقبها فحذف . وكذلك يمكن أن يكون قوله : ألا ليتما هذا الحمام لنا وقد يستقيم أن تكون الصلة من أناس فتكون مستقلة . وإن لم تقدر حذف المبتدأ فيكون التقدير على أحد أمرين : إما أن يكون اللواتي من نساء أناس فحذف المضاف أو يكون اللواتي من أناسٍ على ظاهره لا تقدر فيه حذفاً فيكون معنى قوله من النساء هن من أناس على معنى أنهم يقومون بهن وبالإنفاق عليهن . وأما صلة الذين فمحذوفٌ من اللفظ للدلالة عليها فيما جرى من ذكرها تقديره : الذين أضاعهن . اه . وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في أمثاله وقال : الذين ها هنا لا صلة لها . والمعنى : إن أدع ذكر النساء فلا أدع الذين يريد الرجال أي : إني إن تركت شتم النساء فلا أترك شتم الرجال . اه .
____________________

وأورده أبو بكر بن السراج أيضاً في أصوله قال : إن الكوفيين يقولون : إن العرب إذا جعلت الذي والتي لمجهولٍ مذكر أو مؤنث تركوه بلا صلة نحو قول الشاعر : فإن أدع اللواتي من أناسٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت ولا أدع جواب الشرط ولهذا جزم وكسرة العين لدفع التقاء الساكنين . وهذا البيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد هجا بها قحطان أعني قبائل اليمن تعصباً لمضر . وتقدم سبب هجوه لأهل اليمن بهذه القصيدة في الشاهد الرابع والعشرين . وتقدم أيضاً بعضٌ من هذه القصيدة مع
الشاهد التاسع والأربعون بعد الأربعمائة دويهية تصفر منها الأنامل على أن تصغير دويهية للتعظيم فإنه أراد بها الموت ولا داهية أعظم منها
____________________

والتصغير غير مناسب لذكر الموت . والدليل على أنه أراد بها الموت كقوله : تصفر منها الأنامل . والمراد من الأنامل الأظفار فإن صفرتها لا تكون إلا بالموت . وقال الطوسي في شرح ديوان لبيد : إذا مات الرجل أو قتل اصفرت أنامله واسودت أظافره . ولم يرتضه الشارح المحقق في شرح الشافية فإنه قال : قيل مجيء التصغير للتعظيم فيكون من باب الكناية يكنى بالصغر عن بلوغ الغاية في العظم لأن الشيء إذا جاوز حده جانس ضده . وقريبٌ منه قول الشاعر : ( وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ** دويهيةٌ تصفر منها الأنامل ) ورد بأن تصغيرها على حسب احتقار الناس لها وتهاونهم بها إذ المراد بها الموت أي : يجيئهم ما يحتقرونه مع أنه عظيم في نفسه تصفر منه الأنامل . واستدل أيضاً بقوله : ( فويق جبيلٍ سامق الرأس لم تكن ** لتبلغه حتى تكل متعملا ) ورد بتجويز كون المراد دقة الجبل وإن كان طويلاً وإذا كان كذا فهو أشد لصعوده . اه .
____________________


وكذلك الجاربردي لم يرتضه وأوله بوجهين : أحدهما : أن التصغير فيه لتقليل المدة . وثانيهما : بأن المراد أن أصغر الأشياء قد يفسد الأمور العظائم فحتف النفوس قد يكون بالأمر الصغير الذي لا يؤبد به . وقال الفالي في شرح اللباب : هذا على العكس كتسمية اللديغ سليماً ونظائره إطلاقاً لاسم الضد على الضد . وقد أورده المرادي في شرح الألفية بأن الكوفيين استدلوا به على مجيء التصغير للتعظيم . وأنشده ابن هشام في أربعة مواضع من المغني في أم وفي رب وفي كل وفي حذف الصلة من الباب الخامس . والداهية : مصيبة الدهر مشتقة من الدهي بفتح الدال وسكون الهاء وهو النكر فإن كل أحد ينكرها ولا يقبلها . ودهاه الأمر يدهاه إذا أصابه بمكروه . ورواه ابن دريد في الجمهرة : خويجية تصفر منها الأنامل وقال : الخويجية : الداهية وهي بخاءين معجمتين : مصغر الخوخة بالفتح وهي الباب الصغير . ورواها الطوسي أيضاً عن أبي عمرٍ و وقال : يقول : ينفتح عليهم بابٌ يدخل منه الشر . وسوف : هنا للتحقيق والتأكيد .
والبيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي وتقدمت ترجمته مع شرح أبيات منها في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائة .
____________________

وأنشد بعده )
الشاهد الموفى الخمسين بعد الأربعمائة قول المتنبي : بئس الليالي سهدت من طربي شوقاً إلى من يبيت يرقدها على أنه يخرج بحذف الموصول والتقدير : بئس الليالي التي سهدت قياساً على تخريج الكوفيين قوله تعالى : وما منا إلا له مقامٌ معلومٌ أي : إلا من له مقام فإن الموصول يجوز حذفه عندهم .
وقد ارتضاه المحقق . وأشار إليه الواحدي في شرحه بقوله : يريد الليالي التي لم ينم فيها لما أخذه من القلق وخفة الشوق إلى الحبيب الذي كان يرقد تلك الليالي . وخرجه ابن الشجري في أماليه على حذف الموصوف أي : ليالٍ سهدت . وهذا خاص بالشعر لأن الموصوف بالجملة أو الظرف إنما يجوز حذفه إذا كان بعضاً منه مجرور ب من أو في . قال ابن الشجري : ومما أهمل مفسرو شعر أبي الطيب المتنبي تعريبه قوله : بئس الليالي سهدت من طربي . . . . . . . . . . . . . البيت يتوجه فيه السؤال عن المقصود فيه بالذم وما موضع من طربي من الإعراب وما الذي نصب شوقاً وكم وجهاً في نصبه وبم يتعلق إلى وكم حذفاً في البيت
____________________

فأما المقصود بالذم فمحذوف وهو نكرةٌ موصوفة ب سهدت والعائد إليه من صفته محذوفٌ أيضاً فالتقدير : ليال سهدت فيها . ونظير هذا الحذف في قوله تعالى : ومن آياته يريكم البرق . التقدير : آيةٌ يريكم البرق فيها . وجاء في الشعر حذف النكرة المجرورة الموصوفة بالجملة في قوله : أراد : بكفي رجل فحذف رجلاً وهو ينويه . وقله : من طربي مفعول له ومن بمعنى اللام وشوقاً يحتمل أن يكون مفعولاً من أجله عمل فيه طربي فيكون الشوق علةً للطرب . والطرب علةً للسهاد . ولا يعمل سهدت في شوقاً لأنه قد يتعدى إلى علةٍ فلا يتعدى إلى أخرى إلا بعاطف كقولك : سهدت طرباً وشوقاً . ويحتمل أن ينتصب شوقاً انتصاب المصدر كأنه قال : شقت شوقاً أو شاقني التذكر شوقاً . وشقت بالبناء للمفعول كقول المملوك : قد بعت أي : باعني مالكي . فأما إلى فالوجه أن تعلقها بالشوق لأنه أقرب المذكورين إليها وإن شئت علقتها بالطرب وذلك إذا نصبت شوقاً بطربي . فإن نصبته على المصدر امتنع تعليق إلى بطربي لأنك حينئذٍ تفصل شوقاً وهو أجنبيٌّ بين الطرب وصلته . وكان الوجه في يرقدها يرقد فيها كما )
تقول : يوم السبت خرجت فيه ولا تقول خرجته إلا على التوسع في الظرف تجعله مفعولاً به .
ففي البيت أربعة حذوف : الأول : حذف المقصود بالذم وهو ليال . الثاني : حذف في من سهدت فيها فصار سهدتها . والثالث : حذف الضمير من سهدتها . والرابع : حذف في من يرقدها .
____________________

وقد روى سهدتها طرباً . وقد فرق بعض اللغويين بين السهاد والسهر فزعم أن السهاد للعاشق واللديغ والسهر في كل شيء . وأنشد قول النابغة : يسهد في ليل التمام سليمها وبت كما بات السليم مسهدا والطرب : خفةٌ تصيب الإنسان لشدة سرور أو حزن . اه . والبيت من قصيدة للمتنبي قالها في صباه مدحاً في محمد بن عبد الله العلوي . وهذه أربع أبيات من مطلعها : ( أهلاً بدارٍ سباك أغيدها ** أبعد ما بان عنك خردها ) ( ظلت بها تنطوي على كبدٍ ** نضيجةٍ فوق خلبها يدها ) ( يا حاديي عيسها وأحسبني ** أوجد ميتاً قبيل أفقدها ) ( قفا قليلاً بها علي فلا ** أقل من نظرةٍ أزودها )
____________________

نصب أهلا بمضمر تقديره : جعل الله تعالى بتلك الديار أهلاً . وإنما تكون مأهولةً إذا سقيت الغيث فينبت الكلأ فيعود إليها أهلها . وهو في الحقيقة دعاءٌ لها بالسقي . والأغيد : الناعم البدن وأراد جارية وذكر اللفظ لأنه عنى الشخص . والخرد : جمع خريدة وهي البكر التي لم تمسس وأبعد مبتدأ وخردها الخبر أي : أبعد شيء فارقك جواري هذه الدار . وقوله : ظلت بها تنطوي إلخ يريد ظللت فحذف إحدى اللامين تخفيفاً . يقول : ظللت بتلك الديار تنثني على كبدك واضعاً يدك فوق خلبها . والمحزون يفعل ذلك كثيراً لما يجد في كبده من حرارة الوجد يخاف على كبده تنشق كما قال الصمة القشيري : والانطواء كالانثناء . والنضج لليد ولكن جرى نعتاً للكبد لإضافة اليد إليها . وجعل اليد نضيجة لأنه أدام وضعها على الكبد فأنضجتها بما فيها من الحرارة ولهذا جاز إضافتها إلى الكبد . والعرب تسمي الشيء باسم غيره إذا طالت صحبته إياه كقولهم لفناء الدار : العذرة .
وإذا جازت هذه التسمية كانت الإضافة أهون فلطول وضع يده على كبده أضافها إليها كأنها لها لأنها لم تزل عليها . والخلب : غشاءٌ للكبد رقيق لازبٌ بها . وارتفع يدها بنضيجة وهو )
اسم فاعل يعمل عمل الفعل . ويجوز أن تكون نضيجة من صفة الكبد وتم الكلام ثم وضع اليد على الكبد . كذا في شرح الواحدي .
____________________

وأورد ابن هشام هذا البيت في الباب الثالث من المغني وقال : يحتمل قول المتنبي يذكر دار المحبوب : ظلت بها تنطوي البيت أن تكون اليد فيه فاعلة بنضيجة أو بالظرف أو بالابتداء . والأول أبلغ لأنه أشد للحرارة . والخلب : زيادة الكبد أو حجاب القلب أو ما بين الكبد والقلب . أضاف اليد إلى الكبد للملابسة بينهما لأنهما في الشخص . اه . وقوله : يا حاديي عيسها البيتين قال الواحدي : دع الحاديين ثم ترك ما دعاهما إليه حتى ذكره في البيت الذي بعده وأخذ في كلام آخر . وتسمي الرواة هذا الالتفات كأنه التفت إلى كلامٍ آخر . أقول : هذا اعتراضٌ وليس من الالتفات في شيء . وأراد قبيل أن أفقدها فلما حذف أن عاد الفعل إلى الرفع . وقال للحاديين الذين يحدوان عيرها : احتباسها علي زماناً قليلاً لأنظر إليها وأتزود منها نظرة فلا أقل منها . ومن رفع أقل جعله بمنزلة ليس . وضمير بها يجوز أن يعود إلى العيس وإلى المرأة . وقريبٌ من هذا في المعنى قول ذي الرمة : ( وإن لم يكن إلا تعلل ساعةٍ ** قليلٌ فإني نافعٌ لي قليلها ) وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن لا فيه نافيةٌ للجنس عاملةٌ عما إن . ويجوز رفع أقل على أن تكون عاملة عمل ليس . وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة . وأنشد بعده :
____________________

( لعمري لأنت البيت أكرم أهله ** وأقعد في أفيائه والأصائل ) على أن فيه حذف موصول عند الكوفيين والتقدير : لأنت البيت الذي أكرم أهله . وتقدم الكلام عليه في الشاهد الثامن عشر بعد الأربعمائة . ( باب الحكاية بمن و ما و أي )
____________________

أنشد فيه الشاهد الحادي والخمسون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( أتوا ناري فقلت : منون أنتم ** فقالوا الجن قلت : عموا ظلاما ) على أن يونس يجوز الحكاية ب من وصلاً كما في البيت . قال سيبويه : وأما يونس فإنه يقيس منه على أيةٍ فيقول : منةٌ ومنةً ومنةٍ إذ قال يا فتى . وهذا بعيد وإنما يجوز على قول شاعر قاله مرة في شعر ثم لا يسمع بعد : أتوا ناري فقلت : منون أنتم . . . . . . . . . . . . . البيت وزعم يونس أنه سمع عربياً يقول ضرب منٌ مناً . وهذا بعيد لا تتكلم به العرب ولا تستعمله ناس كثير وكان يونس يقول : لا يقبل هذا كل أحد فإنما يجوز منون يا فتى على هذا . انتهى .

____________________

قال النحاس : وهذا عند سيبويه رديء لأن هذه العلامة إنما تقع في الوقف ولا تقع في الوصل فلما اضطر أجراه في الوصل على حاله في الوقف . وأنشد أبو الحسن بن كيسان : وقال : إنما حكى كيف كان كلامه وجوابه . انتهى . وهذه الرواية هي رواية أبي زيد في نوادره كما يأتي . ففي الرواية الأولى شذوذان كما في المفصل : إلحاق العلامة في الدرج وتحريك النون .
وفيه أيضاً كما قال ابن الناظم في شرح الألفية أنه حكى مقداراً غير مذكور . وفي الثانية شذوذٌ واحد وهو تحريك النون . قال ابن جني في الخصائص : من رواه : منون قالوا فإنه أجرى الوصل مجرى الوقف . فإن قلت : فإنه في الوقف إنما يكون منون ساكن النون وأنت في البيت قد حركته . فهذا إذن ليس على نية الوقف ولا على نية الوصل . فالجواب : أنه إنما أجراه في الوصل على حده في الوقف فلما أثبت الواو والنون التقيا ساكنين فاضطر حينئذٍ إلى أن حرك النون لإقامة الوزن . فهذه الحركة إذن إنما هي حركةٌ مستحدثة لم تكن في الوقف وإنما اضطر إليها في الوصل . وأما من رواه منون أنتم فأمره مشكل . وذلك أنه شبه من ب أي فقال : منون أنتم على قوله : أيون أنتم . فكما حمل ها هنا أحدهما على الآخر كذلك جمع بينهما في أن جرد من الاستفهام كل منهما . ألا ترى إلى حكاية يونس عنهم : ضرب منٌ مناً كقولك : ضربٌ رجلٌ رجلاً . انتهى . وقوله : أتوا ناري فقلت إلى آخره الفاء عطفت جملة قلت على أتوا . وهي )
للترتيب الذكري وهو عطف مفصل على مجمل نحو : فأزلهما الشيطان عنها فأخرجهما مما كانا فيه . وجملة منون أنتم من المبتدأ والخبر محكية
____________________

بالقول . ومنون إما مبتدأ وأنتم خبره أو بالعكس . والفاء من فقالوا عطفت مدخولها على قلت . والجن خبر مبتدأ محذوف أي : نحن الجن . والجملة محكية بقالوا . وكذلك على الرواية الثانية : فقلت منون قالوا سراة الجن أي : نحن أشرافها . وهو بفتح السين جمع سري على ما قيل بمعنى الشريف . وكذلك منون على تقدير منون أنتم . قال الجوهري : عموا صباحاً : كلمة تحية . قال ابن السيرافي : وإنما قال لهم : عموا ظلاماً لأنهم جنٌّ وانتشارهم بالليل فناسب أن يذكر الظلام كما يقال لبني آدم إذا أصبحوا : عموا صباحاً . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : ومعنى عموا انعموا يقال : عم صباحاً بكسر العين وفتحها . ويقال : وعم يعم من باب وعد وومق . وذهب قومٌ إلى أن يعم محذوفة ينعم . وقالوا : إذا قيل عم بفتح العين فهو محذوف من انعم المفتوح وإذا قيل عم بكسر العين فهو محذوف من ينعم المكسور العين . وحكى يونس أن أبا عمرو بن العلاء سأل عن قول عنترة : وعمي صباحاً دار عبلة واسلمي فقال هو من نعم المطر إذا كثر ونعم البحر إذا كثر زبده كأنه يدعو لها بالسقية وكثرة الخير .
وقال الأصمعي والفراء في قولهم : عم صباحاً : إنما هو دعاءٌ بالنعيم والأهل وهذا هو المعروف وما حكاه يونس نادر غريب . وظلاماً : ظرف
____________________

أي : انعموا في ظلامكم أو تمييز والأصل لينعم ظلامكم فحول إلى التمييز . انتهى . وقال ابن الحاجب في أماليه : ظلاماً تمييز أي : نعم ظلامكم كما تقول : أحسن الله صباحك . ولا يحسن أن يكون ظرفاً إذ ليس المراد أنهم نعموا في ظلام ولا في صباح وإنما المراد أنه نعم صباحهم وإذا حسن صباحهم كان في المعنى حسنهم . والبيت من أبيات أربعةٍ رواه أبو زيد في نوادره ونسبها لشمير بن الحارث الضبي مصغر شمر بكسر المعجمة . قال أبو الحسن فيما كتبه على نوادر أبي زيد : سمير المذكور بالسين المهملة . وهي هذه : ( ونارٍ قد حضأت لها بليلٍ ** بدارٍ لا أريد بها مقاما ) ( سوى تحليل راحلةٍ وعينٍ ** أكالئها مخافة أن تناما ) ( أتوا ناري فقلت : منون قالوا ** سراة الجن قلت : عموا ظلاما ) ( فقلت : إلى الطعام فقال منهم ** زعيمٌ : نحسد الإنس الطعاما ) )
وزاد بعده غيره بيتاً آخر وهو : ( لقد فضلتم بالأكل فينا ** ولكن ذاك يعقبكم سقاما )
____________________

وزاد بعضهم بعده : ( أمط عنا الطعام فإن فيه ** لآكله النقاصة والسقامة ) قال السكري فيما كتبه هنا : حضأت أي : أشعلت وأوقدت يقال في تصريفها حضأت النار أحضؤها حضاً وهو بالحاء المهملة والضاد المعجمة والهمزة . واللام في لها زائدةٌ لأن حضأت متعد . وروى ابن السيد وغيره : ونارٍ قد حضأت بعيد وهنٍ وقال : الوهن والموهن : نحوٌ من نصف الليل . والذي ذكره الأصمعي أن الوهم هو حين يدبر الليل . وهذا يدل له الاشتقاق . فالمجرور بواو رب في محل نصب على المفعول بحضأت . وقوله : سوى تحليل راحلة قال السكري : أراد : سوى راحلةٍ أقمت فيها بقدر تحلة اليمين . وروى غيره : سوى ترحيل راحلة قال ابن السيد : ترحيل الراحلة : إزالة الرحل عن ظهرها . والرحل للإبل كالسرج للخيل . والراحلة : الناقة التي تتخذ للركوب والسفر سميت بذلك لأنها ترحل براكبها .
وأكالئها : أحرسها وأحفظها لئلا تنام . قال ابن السيد : وكان المفضل يروي : معير أكالئها بالراء بدل النون وقال : العير : إنسان العين . قال ابن هشام اللخمي بعد هذا : وهذه هي الرواية الصحيحة . وعير تؤنث على المعنى لأنها عين وتذكر . ومخافة مفعول لأجله . وقوله : فقلت إلى الطعام إلى متعلقة بفعل محذوف أي : هلموا إليه وأورده الزمخشري في أول الكشاف على أنه حذف متعلق الجار من بسم الله الرحمن الرحيم كما حذف متعلق إلى الطعام وهذا المحذوف في حكم الموجود
____________________

والمجموع محكي بالقول . وقول ابن السيد : هذا الفعل المحذوف في حكم الظاهر فلذلك لم يكن له موضع من الإعراب لا يظهر لتعليله وجهٌ . وقال ابن خروف : يجوز أن تكون إلى اسم فعل . وجزم اللخمي بأن إلى هنا إغراء . وفسروا الزعيم بالرئيس والسيد . وقال بعضهم : الزعيم بمعنى القائل كما تقول : زعم زاعمٌ أي : قال قائل ولا معنى للسيد هنا .
وزعيمٌ فاعل . قال : وروى بدل زعيم : فريق . ومنهم كان في الأصل وصفه فلما قدم عليه صار حالاً منه . وقوله : نحسد إلخ يروى بالنون فالجملة مقول القول . ويروى بالمثناة التحتية فالجملة صفةٌ لزعيم فيكون البيت الذي بعده مقول القول . و الأنس يروى بفتحتين وبكسرة فسكون )
ومعناهما البشر . قال ابن الحاجب في أماليه : الطعام : مفعول ثان إما على تقدير حرف خفض أي : نحسد الإنس على الطعام . وإما على أنه متعدٍّ بنفسه من أصله . كقوله : استغفرت الله الذنب ومن الذنب . وقال اللخمي : الطعام مفعول ثان على إسقاط حرف الجر أي : نحسد الإنس في الطعام . وقال الأندلسي : الأولى تقديره بعلى : لأنه يقال : حسدته على كذا . وقد قوله صلى الله عليه وسلم : لا حسد إلا في اثنتين يجوز أن يكون أقام بعض حروف الصفات مقام الآخر . ويؤيده قول الجوهري : حسدتك على الشيء وحسدتك الشيء بمعنى . وقوله : لقد فضلتم بالبناء للمفعول و فينا بمعنى علينا .
____________________

وقوله : أمط عنا إلخ أي : أزله عنا . والنقاصة بالفتح هو مصدر كالنقص بالنون والقاف والصاد المهملة . ذكر في أبياته أن الجن طرقته وقد أوقد ناراً لطعامه فدعاهم إلى الأكل منه فلم يجيبوه وزعموا أنهم يحسدون الإنس في الأكل وأنهم فضلوا عليهم بأكل الطعام ولكن ذلك يعقبهم السقام . وقوله : لقد فضلتم بالأكل فينا ظاهره أن الجن لا يأكلون ولا يشربون . وقال ابن السيرافي : قال زعيمهم : نحسد الإنس على أكل الطعام والالتذاذ وليس من شأننا أن نأكل ما يأكله الإنس . وقال ابن المستوفي : لم يرد أن الجن لا تأكل ولا تشرب وإنما أراد أن طعام الإنس أفضل من طعام الجن . وهذان القولان خلاف الظاهر . ويؤيد ما قلنا قول ابن خروف في شرح أبيات سيبويه : قوله : لقد فضلتم بالأكل فينا مخالفٌ للشرع لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الجن تأكل وتشرب . وفي آكام المرجان في أحكام الجان لبدر الدين محمد بن عبد الله الشبلي الحنفي الشامي وقد صنفه كما قال الصفدي في سنة سبع وخمسين وسبعمائة : وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : أحدها : أن جميع الجن لا يأكلون ولا يشربون . وهذا قول ساقط . ثانيها : أن صنفاً منهم يأكلون ويشربون وصنفاً لا يأكلون ولا يشربون .
____________________

ثالثها : أن جميع الجن يأكلون ويشربون . فقال بعضهم : أكلهم وشربهم تشممٌ واسترواح لا مضغ وبلع . وهذا لا دليل له . وقال آخرون : أكلهم وشربهم مضغ وبلع . ويدل لهذا حديث أمية بن مخشي من رواية أبي داود : ما زال الشيطان يأكل معه فلما ذكر الله تعالى استقاء ما في بطنه . وفي الصحيحين أن الجن سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم الزاد فقال : كل عظمٍ ذكر اسم الله عليه يقع في يد أحدهم أوفر ما يكون لحماً وكل بعر علفٌ لدوابهم . وفي حديث يزيد بن جابر قال : ما من أهل بيت من المسلمين إلا وفي سقف بيتهم من الجن من المسلمين إذا وضع غداؤهم نزلوا فتغدوا معهم وإذا وضع عشاؤهم نزلوا )
فتعشوا معهم يدفع الله بهم عنهم . والجن على مراتب قال ابن عبد البر : إذا ذكروا الجن خالصاً قالوا : جني . فإن أرادوا أنه ممن يسكن مع الناس قالوا : عامر والجمع عمار . فإن كان مما يعرض للصبيان قالوا : أرواح . فإن خبث ولؤم قالوا : شيطان . فإن زاد على ذلك فهو مارد .
فإن زاد على ذلك وقوي أمره قالوا : عفريت . وقال ابن عقيل : الشياطين : العصاة من الجن وهم ولد إبليس والمردة أعتاهم وأغواهم وهم أعوان إبليس . وقال الجوهري : كل عاتٍ متمرد من الجن والإنس والدواب شيطان . وقال ابن دريد : الجن : خلاف الإنس . ويقال : جنه الليل وأجنه وأجن عليه وغطاه في معنى واحد إذا ستره . وكل شيء استتر عنك فقد جن عنك . وبه سميت الجن . وكان أهل الجاهلية يسمون الملائكة جناً لاستتارهم عن العيون . قالوا : والحن بالحاء المهملة زعموا أنه ضربٌ من الجن
____________________

. وقال أبو عمر الزاهد : الجن : كلاب الجن وسفلتهم .
والجان : أبو الجن . قال السهيلي في كتاب النتائج : ومما قدم للفضل والشرف تقديم الجن على الإنس في أكثر المواضع لأن تشتمل على الملائكة وغيرهم مما اجتن عن الأبصار . قال تعال : ( وسخر من جن الملائك سبعةً ** قياماً لديه يعملون بلا أجر ) فأما قوله تعالى : لم يطمثهن إنسٌ قبلهم ولا جانٌّ وقوله تعالى : لا يسأل عن ذنبه إنسٌ ولا جانٌّ وقوله تعالى : وأنا ظننا أن لن تقول الإنس والجن على الله كذبا فإن لفظ الجن ها هنا لا يتناول الملائكة لنزاهتهم عن العيوب فلما لم يتناولهم عموم اللفظ لهذه القرينة بدأ بلفظ الإنس لفضلهم وكمالهم . وشمير بن الحارث الضبي ناظم هذه الأبيات تقدم ذكره في الشاهد السادس والستين بعد الثلثمائة . قد روي البيت الشاهد من قصيدة قافيتها حائية . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل للزجاجي : ذكر أبو القاسم مؤلف الجمل أن الناس يغلطون في هذا الشعر فيروونه : عموا صباحاً وجعل دليله الأبيات الميمية المنقولة عن أبي زيد . ولقد صدق فيما حكاه ولكنه أخطأ في تخطئة رواية من روى : عموا صباحاً لأن هذا الشعر الذي أنكره وقع في كتاب خبر سد مأرب ونسبه إلى
____________________

جذع بن سنان الغساني في حكايةٍ طويلةٍ زعم أنها جرت له مع الجن . وكلا الشعرين أكذوبة من أكاذيب العرب لم تقع قط . والشعر الذي على قافية الميم ينسب إلى شمير بن الحارث وينسب إلى تأبط شراً . وأما الشعر الذي على قافية الحاء فلا أعلم خلافاً في أنه لجذع بن سنان وهو : ( أتوا ناري فقلت : منون أنتم ** فقالوا : الجن قلت : عموا صباحا ) ) ( أتيتهم وللأقدار حتمٌ ** تلاقي المرء صبحاً أو رواحا ) ( أتيتهم غريباً مستضيفاً ** رأوا قتلي إذا فعلوا جناحا ) ( أتوني سافرين فقلت : أهلاً ** رأيت وجوههم وسماً صباحا ) ( نحرت لهم وقلت : ألا هلموا ** كلوا مما طهيت لكم سماحا ) ( أتاني قاشرٌ وبنو أبيه ** وقد جن الدجى والليل لاحا ) ( فنازعني الزجاجة بعد وهن ** مزجت لهم بها عسلاً وراحا ) ( وحذرني أموراً سوف تأتي ** أهز لها الصوارم والرماحا ) ( سأمضي للذي قالوا بعزمٍ ** ولا أبغي لذلكم قداحا ) ( أسأت الظن فيه ومن أساه ** بكل الناس قد لاقى نجاحا ) ( وقد تأتي إلى المرء المنايا ** بأبواب الأمان سدًى صراحا ) ( سيبقي حكم هذا الدهر قوماً ** ويهلك آخرون به ذباحا ) ( أثعلبة بن عمرٍ و ليس هذا ** أوان السير فاعتد السلاحا )
____________________

( ألم تعلم بأن الذل موتٌ ** يتيح لمن ألم به اجتياحا ) ( ولا يبقى نعيم الدهر إلا ** لقرمٍ ماجدٍ صدق الكفاحا ) قال ابن السيد : إن قيل كيف جاز أن يقول لهم : عموا صباحا وهم في الليل . وإنما يليق هذا الدعاء بمن يلقى في الصباح . فالجواب من وجهين : أحدهما : أن الرجل إذا قيل له : عم صباحاً فليس المراد أن ينعم في الصباح دون المساء كما أنه إذا قيل أرغم الله أنفه وحيا الله وجهه فليس المراد الأنف والوجه دون سائر الجسم . وكذلك إذا قيل له : أعلى الله كعبك . وإنما هي ألفاظٌ ظاهرها الخصوص ومعناها العموم . ومثله قول الأعشى : الواطئين على صدور نعالهم والوطء لا يكون على صدور النعال دون سائرها . والوجه الثاني : أن يكون معنى أنعم الله صباحك : أطلع الله عليك كل صباح بالنعيم لأن الصباح والظلام نوعان والنوع يسمى به كل جزء منه بما يسمى به جملته . والشعب بالكسر : الطريق إلى الجبل . و وسماً بالضم : جمع وسيم وهو الذي عليه سمة الجمال . وكذلك الصباح بالكسر : جمع صبيحٍ . شبه بالصبح في إشراقه . وطهيت : طبخت يقال : طهيت اللحم وطهوته فأنا طاهٍ .
____________________

وقوله : لا أبغي لذلكم )
قداحاً أي : لا أطلب ضرب القداح لأنهم كانوا إذا أرادوا فعل أمرٍ ضربوا بالقداح فإن خرج القدح المكتوب عليه : افعل فعل الأمر . وإن خرج القدح المكتوب عليه : لا تفعل لم يفعل الأمر .
وقوله : أسأت الظن فيه يقول : أسأت الظن بضرب القداح والتعويل على ما تأمر به وتنهى عنه وعلمت أن ما أمرتني به الجن أحرى أن يعول عليه . وقوله : سدًى صراحاً السدى : الإبل المهملة التي لا يردها أحد . والصراح : الظاهرة . والذباح بضم الذال المعجمة بعدها موحدة : نباتٌ يقتل من أكله ومن رواه بكسر الذال جعله جمع ذبيح . وقوله : يتيح أي : يقدر ويجلب يقال : أتاح الله كذا أي : قدره . وألم : نزل . والاجتياح بجيم بعدها مثناة فوقية : الاستئصال . والقرم بفتح القاف وسكون الراء : السيد وأصله الفحل من الإبل . والكفاح بالكسر : ملاقاة الأعداء .
انتهى . وجذع بن سنان الغساني بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة شاعرٌ جاهلي قديم .
وغسان : قبيلة من الأزد من قحطان . وجذعٌ خرج مع من خرج الأزد قبل سيل العرم وجاؤوا إلى الشام وكان ملكها إذ ذاك سليح وهم من غسان أيضاً وقيل من قضاعة . وكانوا يؤدون لسليح عن كل رجل دينارين فجاء عامل الملك إلى جذع بن سنانٍ يطلب الخراج الذي وجب عليه فدفع إليه سيفه رهناً فقال : أدخله في حر أمك فغضب جذعٌ وقنعه به فقيل : خذ من جذعٍ ما أعطاك وسارت مثلاً . تضرب في اغتنام ما يجود به البخيل . وقيل في سبب المثل غير هذا .
____________________

وامتنعت غسان من هذا الخراج بعد ذلك وولوا الشام كما تقدم شرحه في ملوك بني جفنة . وفي العباب للصاغاني أن جذعاً هو جذع بن عمرو وهو غلظ
____________________

.
أنشد فيه وهو
الشاهد الثاني والخمسون بعد الأربعمائة فداءٍ لك الأقوام هو قطعة من بيت وهو : ( مهلاً فداء لك الأقوام كلهم ** وما أثمر من مالٍ ومن ولد ) على أن فداء اسم فعل منقول من المصدر . قال صاحب الصحاح : الفدا إذا كسر أوله يمد ويقصر وإذا فتح فهو مقصور يقال : قم فدًى لك أبي . ومن العرب من يكسر فداء بالتنوين إذا جاور الجر خاصة فيقول : فداءٍ لك لأنه نكرة يريدون به معنى الدعاء . وأنشد هذا البيت للنابغة عن الأصمعي . وهذا التعليل فيه خفاء . والواضح قول أبي علي في المسائل المنثورة وقد أنشده فيها قال : بني على الكسر لأنه قد تضمن معنى الحرف وهو لام الأمر لأن التقدير : ليفدك الأقوام كلهم . فلما كان بمعناه بني . وبني على الكسر لأنه وقع للأمر . والأمر إذا حرك تحرك إلى الكسر . ونونوه لأنه نكرة . انتهى . قال الزمخشري في المفصل : ومنه فداءٍ لك بالكسر والتنوين أي : ليفدك . وأنشد البيت . قال ابن المستوفي : قوله : ومنه : يريد ما التزم فيه التنكير كإيهاً في الكف وويهاً في الإغراء وواهاً في التعجب . وعقبه بقوله : ومنه فداءٍ يستعمل مكسوراً منوناً وغير منون حملاً على إيهٍ وإيه .
____________________

ثم نقل عن الزمخشري في حواشيه أنه قال : فداءٌ بالرفع على أنه خبر الأقوام . وفداء بالكسر لما ذكرنا . وفداءً بالنصب على أنه مصدر لفعله وهو ليفدك الأقوام مع كسر فداءٍ بالفاعل أيضاً لأنه أمرٌ لهم بالفداء . يعني أن الأقوام فاعل فداء أيضاً في حالة النصب لأنه فاعل المصدر كما أنه فاعله في حالة الكسر والتنوين . وذكر القواس في شرح ألفية ابن معطي أن فيه لغات : فدًى بفتح الفاء وضمها على القصر وكسرها مع القصر والمد . وروى أبو زيد في نوادره قول الراجز : ويهاً فداءٍ لك يا فضاله بالكسر والتنوين . وهذا لا فاعل له في اللفظ وإنما الفاعل مفهومٌ من المقام أي : ليفدك الناس ونحوه . و ويهاً : كلمة إغراء . وقوله : مهلاً بمعنى أمهل وتأن . وقوله : وما أثمر معطوفة على الأقوام وهي موصولة والعائد محذوف أي : أثمره . وأثمر : أجمع وأصلح . يقال : ثمر فلانٌ ماله إذا أصلحه وجمعه . ومن للبيان . والبيت من قصيدةٍ للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر وتنصل عن ما قذفوه به حتى خافه وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام . وقد تقدم شرح )
أبياتٍ كثيرة منها في باب الحال وفي باب خبر كان وفي النعت وفي البدل وغير ذلك . وبعد هذا البيت بيتٌ يورده علماء التصريف في كتبهم وهو : وقوله :
____________________

لاتقذفني أي : لا تركبني بما لا أطيق ولا يقوم له أحد . والكفاء بالكسر : المثل .
وتأثفك الأعداء : اجتمعوا حولك واحتوشوك فصاروا منك موضع الأثافي من القدر . وقوله : بالرفد بكسر ففتح : جمع رفدة بكسر فسكون أي : يرفد بعضهم بعضاً يتعاونون بالنمائم علي ويسعون بي عندك . يقال : رفد فلانٌ فلاناً يرفده رفداً إذا أعانه . وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والخمسون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( كذب العتيق وماء شنٍ بارداً ** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي ) على أن كذب في الأصل فعل وقد صار اسم فعل أمرٍ بمعنى الزم . لم أر من قال من النحويين وغيرهم أن كذب اسم فعلٍ . وهذا شيىءٌ انفرد به الشارح المحقق . وإنما ذكروه في جملة الأفعال التي منعت التصرف منهم ابن مالك في التسهيل . وقول الشارح المحقق : إذا روي بنصب العتيق تحقيقٌ لكونه اسم الفعل فإن أكثر اسم الفعل يكون بمعنى الأمر كما قاله الشارح ففاعله مستترٌ فيه وجوباً
____________________

تقديره أنت والعتيق مفعوله وماء معطوف على العتيق وبارداً صفة ماء . ومفهومه أن العتيق إذا روي بالرفع لم يكن كذب اسم فعل . ولم يبين حكمه وكأنه ترك شرحه لشهرته بمعنى الإغراء . وفيه أن كذب سواءٌ نصب ما بعده أو رفع بمعنى الإغراء كما في الأمثلة المذكورة في الشرح فجعله مع المنصوب دون المرفوع اسم فعل تحكمٌ لا يظهر له وجه . على أن النصب قد أنكره جماعة وعينوا الرفع منهم أبو بكر بن الأنباري في رسالة شرح فيها معاني الكذب على خمسة أوجه قال : كذب معناه الإغراء ومطالبة المخاطب بلزوم الشيء المذكور كقول العرب : كذب عليك العسل ويريدون كل العسل . وتلخيصه : أخطأ تارك العسل فغلب المضاف إليه على المضاف . قال عمر بن الخطاب : كذب عليكم الحج كذب عليكم العمرة كذب عليكم الجهاد : ثلاثة أسفار كذبن عليكم معناه الزموا الحج والعمرة والجهاد . والمغرى به مرفوع بكذب لا يجوز نصبه على الصحة لأن كذب فعل لا بد له من فاعل وخبرٌ لا بد من محدث عنه والفعل والفاعل كلاهما تأويلهما الإغراء . ومن زعم أن الحج والعمرة والجهاد في حديث عمر حكمهن النصب لم يصب إذ قضى بالخلو عن الفاعل . وقد حكى أبو عبيدٍ عن )
أبي عبيدة عن أعرابي أنه نظر إلى ناقةٍ نضوٍ لرجل فقال : كذب البزر والنوى . قال أبو عبيد : لم يسمع النصب مع كذب في الإغراء إلا في هذا الحرف . قال أبو بكر : وهذا شاذٌ من القول خارجٌ في النحو عن منهاج القياس ملحقٌ بالشواذ التي لا يعول عليها ولا يؤخذ بها . قال الشاعر :
____________________

كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ معناه الزمي العتيق وهذا الماء ولا تطالبيني بغيرهما . والعتيق مرفوع لا غير . انتهى . ومن الغريب قول ابن الأثير في النهاية في حديث عمر برفع الحج والعمرة والجهاد معناه الإغراء أي : عليكم بهذه الأشياء الثلاثة . وكان وجهه النصب ولكنه جاء شاذاً مرفوعاً . انتهى . وقد نقل أبو حيان كلام ابن الأنباري في تذكرته وفي شرح التسهيل وزاد فيه بأن الذي يدل على رفع الأسماء بعد كذب أنه يتصل بها الضمير كما جاء في كلام عمر : ثلاثة أسفار كذبن عليكم .
وقال الشاعر : كذبت عليك ولا تزال تقوفني معناه عليك بي : فرفع التاء وهي مغرًى بها واتصلت بالفعل لأنه لو تأخر الفاعل لكان منفصلاً وليس هذا من مواضع انفصال الضمير . انتهى . والصحيح جواز النصب لنقل العلماء أنه لغة مضر والرفع لغة اليمن . ووجهه مع الرفع أنه من قبيل ما جاء لفظ الخبر فيه بمعنى الإغراء كما قال ابن الشجري في أماليه كتؤمنون بالله بمعنى أمنوا بالله . ورحمه الله بمعنى اللهم ارحمه وحسبك زيد بمعنى اكتف به .
____________________

ووجهه مع النصب من باب سراية المعنى إلى اللفظ فإن المغرى به لما كان مفعولاً في المعنى اتصلت به علامة النصب ليطابق اللفظ المعنى . وقال عبد الدائم بن مرزوق القيرواني في كتاب حلى العلى في الأدب : إنه يروى العتيق بالرفع والنصب ومعناه عليك العتيق وماء شن وأصله : كذب ذاك عليك العتيق ثم حذف عليك وناب كذب منابه فصارت العرب تغري به . وقال الأعلم في شرح مختار الشعراء الستة عند كلامه على هذا البيت : قولهّ : كذب العتيق أي : عليك بالتمر . والعتيق : التمر البالي . والعرب تقول : كذبك التمر واللبن أي : عليك بهما . وبعض العرب ينصب وهم مضر والرفع لليمن . وأصل الكذب الإمكان . وقول الرجل للرجل : كذبت أي : أمكنت من نفسك وضعفت فلهذا اتسع فيه وأغري به لأنه متى أغري بشيء فقد جعل المغرى به ممكناً مستطاعاً إن رامه المغرى . انتهى . قال أبو حيان في شرح التسهيل بعد نقله لهذا الكلام : وإذا نصبنا بقي كذب بلا فاعل على ظاهر اللفظ )
والتي تقتضيه القواعد أن هذا يكون من باب الإعمال فكذب يطلب الاسم على أنه فاعلٍ وعليك يطلبه على أنه مفعول فإذا رفعنا الاسم بكذب كان مفعول عليك محذوفا لفهم المعنى التقدير كذب عليكه الحج . وإنما التزم حذف المفعول لأنه مكان اختصار ومحرف عن أصل وضعه فجرى لذلك مجرى الأمثال في كونها يلتزم فيها حالةٌ واحدة يتصرف فيها وإذا نصبنا الاسم كان الفاعل مضمراً في كذب يفسره ما بعده على رأي سيبويه ومحذوفاً على رأي الكسائي . وقال ابن طريف في الأفعال : وكذب عليك كذا أي : عليك به معناه
____________________

الإغراء إلا أن الشيء الذي بعد عليك يأتي مرفوعاً . انتهى . وقد بسط الكلام على هذه الكلمة الزمخشري في الفائق فلا بأس بإيراده هنا وإن كان فيه طول . قال في حديث الحجامة : فمن احتجم في يوم الخميس والأحد كذباك أي : عليك بهما . ومنه حديث عمر رضي الله عنه : كذب عليكم الحج الحديث السابق . وعنه أن رجلاً أتاه يشكو إليه النقرس فقال : كذبتك الظهائر أي : عليك المشي في حر الهواجر وابتذال النفس . وعنه : أن عمرو بن معد يكرب شكا إليه المعص .
فقال : كذب عليك العسل يريد العسلان . فهذه كلمة مشكلة قد اضطربت فيها الأقاويل حتى قال بعض أهل اللغة : أظنها من الكلام الذي درج ودرج أهله ومن كان يعلمه . وأنا لا أذكر من ذلك إلا قول من هجيراه التحقيق . قال أبو علي : الكذب ضربٌ من القول وهو نطق كما أن القول نطق . فإذا جاز في القول الذي الكذب ضربٌ منه أن يتسع فيه فيجعل غير نطق على نحو قوله : قد قالت الأنساع للبطن الحقي جاز في الكذب أن يجعل غير نطق على نحو قوله : كذب
____________________

القراطف والقروف فيكون ذلك انتفاءً لها كما أنه إذا أخبر عن الشيء على خلاف ما هو به كان انتفاءً للصدق فيه . وكذلك قوله : كذبت عليكم أوعدوني معناه لست لكم وإذا لم أكن لكم ولم أعنكم كنت منابذاً لكم ومنتفيةً نصرتي عنكم . وفي ذلك إغراء منه لهم به .
وقوله : كذب العتيق أي : لا وجود للعتيق وهو التمر فاطلبيه وإذا لم تجدي التمر فكيف تجدين الغبوق . وقال بعضهم في قول الأعرابي وقد نظر إلى جملٍ نضوٍ : كذب عليك القت والنوى وروي : البزر والنوى ومعناه أن القت والنوى ذكرا أنك لا تسمن بهما فقد كذبا عليك فعليك بهما فإنك تسمن بهما . وقال أبو علي : فأما من نصب البزر فإن عليك فيه لا يتعلق بكذب ولكنه يكون اسم فعل وفيه ضمير المخاطب وأما كذب ففيه ضمير الفاعل كأنه قال : كذب السمن أي : انتفى من بعيرك فأوجده بالبزر والنوى . فهما مفعولاً عليك وأضمر السمن لدلالة )
الحال عليه في مشاهدة عدمه . وفي المسائل القصريات : قال أبو بكر في قول من نصب الحج فقال كذب عليك الحج : إنه كلامان كأنه قال : كذب يعني رجلاً ذم إليه الحج ثم هيج المخاطب على الحج فقال : عليك الحج . هذا وعندي قولٌ هو القول وهو أنها كلمة جرت مجرى المثل في كلامهم ولذلك لم تصرف ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس
____________________

إلا وهي في معنى الأمر كقولهم في الدعاء : رحمك الله والمراد بالكذب الترغيب والبعث من قول العرب كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت إليه من الآمال ما لا يكاد يكون وذلك ما يرغب الرجل في الأمور ويبعثه على التعرض لها . ويقولون في عكس ذلك : صدقته إذا ثبطته وخيلت إليه العجز والنكد في الطلب . ومن ثم قالوا للنفس : الكذوب . قال أبو عمرو بن العلاء : يقال للرجل يتهدد الرجل ويتوعده ثم يكذب ويكع : صدقته الكذوب وأنشد : ( فأقبل نحوي على قدرةٍ ** فلما دنا صدقته الكذوب ) وأنشد الفراء : أي : نفوسه جعل له نفوساً لتفرق الرأي وانتشاره . فمعنى قوله : كذبك الحج : ليكذبك أي : ينشطك ويبعثك على فعله . وأما كذب عليك الحج فله وجهان : أحدهما أن يضمن معنى فعلٍ يتعدى بحرف الاستعلاء أو يكون على كلامين كأنه قال : كذب الحج عليك الحج أي : ليرغبك الحج وهو واجبٌ عليك .
____________________

فأضمر في الأول لدلالة الثاني عليه . ومن نصب الحج فقد جعل عليك اسم فعل كما سبق وفي كذب ضمير الحج . انتهى . والبيت الشاهد هو من أبياتٍ سبعة لعنترة صاحب المعلقة . وروي أيضاً أنه لخزز ابن لوذان السدوسي . وكلاهما جاهليان . قال الصاغاني : وهو موجود في ديوان أشعارهما . وهذه أبيات عنترة خاطب بها امرأته وكانت لا تزال تذكر خيله وتلومه في فرسٍ كان يؤثره على سائر خيله ويسقيه اللبن : ( لا تذكري فرسي وما أطعمته ** فيكون جلدك مثل جلد الأجرب ) ( إن الغبوق له وأنت مسوءةٌ ** فتأوهي ما شئت ثم تحوبي ) ( كذب العتيق وماء شنٍّ باردٌ ** إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهبي ) ( إن الرجال لهم إليك وسيلةٌ ** إن يأخذوك تكحلي وتخضبي ) ( ويكون مركبك القعود وحدجه ** وابن النعامة عند ذلك مركبي ) ( وأنا امرؤٌ إن يأخذوني عنوةً ** أقرن إلى شر الركاب وأجنب ) )
وقوله : مثل جلد الأجرب أي : لا تلوميني في إيثار فرسي فأبغضك وأهجر مضجعك وأتحاماك كما يتحامى الأجرب من الإبل ويبعد عنها لئلا
____________________

يعديها . وقيل معناه : أضربك فيبقى أثر الضرب عليك كالجرب . فيكون تهددها بالضرب الأليم . وقوله : إن الغبوق له إلخ الغبوق : شرب اللبن بالعشي : ما بين الزوال إلى الغروب وقيل : من الزوال إلى الصباح . ومسوءة أي : آتٍ إليك ما يسوءك بإيثار فرسي عليك . والتأوه : التحزن وأن تقول : آه توجعاً . والتحوب : التوجع ويقال هو الدعاء على الشيء . وقوله : كذب العتيق إلخ العتيق هو التمر القديم . قال الدينوري في كتاب النبات : يقال عتق وعتق بالفتح والضم إذا تقادم . والعتيق : اسم للتمر علم .
وأنشد هذا البيت . والشن : القربة الخلق والماء يكون فيها أبرد منه في القربة الجديدة . يقول : عليك بالتمر فكليه والماء البارد فاشربيه ودعيني أوثر فرسي باللبن . وإن تعرضت لشرب اللبن فاذهبي . وإنما يتوعدها بالطلاق . وقد أورد سيبويه هذا البيت في باب وجوه القوافي في الإنشاد على أنه سمع من العرب من ينشده : إن كنت سائلتي غبوقاً فاذهب بسكون الباء لأنهم لم يريدوا الترنم . وقوله : إن الرجال إلخ ويروى : إن العدو والوسيلة : القربة وقيل : المنزلة القريبة . قال الأعلم في شرح مختار شعر عنترة : هذا منه وعيدٌ وتخويفٌ أن تسبى فيستمتع الرجال بها وكذلك قال : تكحلي وتخضبي . والمعنى : إن أخذوك تكحلت وتخضبت لهم ليستمتعوا بك . وقال ابن الشجري : أن يأخذوك موضعه نصب بتقدير حذف الخافض أي : في أن يأخذوك أي : لهم قربة إليك في أخذهم إياك . قذفها بإرادتها أن تؤخذ مسبية .
____________________

هذا كلامه وهذا تحريفٌ منه فإن إن شرطية لا مفتوحة مصدرية وقد جزمت الشرط والجزاء .
وقد غفل عنهما . وقوله : ويكون إلخ القعود بفتح القاف : ما اتخذ من الإبل للركوب خاصة .
والحدج بكسر المهمل وآخره جيم : مركبٌ من مراكب النساء . وروى بدله : رحله . وابن النعامة : اسم فرسه . وقيل : هو الطريق وقيل : هو صدر القوم . يقول : إن أخذوك حملت سبيةً على قعود ونجوت أنا على فرسي . والمعنى على الثاني والثالث أنه إن أسر يمشي راجلاً مهاناً . وقوله : وأنا امرؤ إلخ العنة بالفتح : القسر والقهر . والركاب : الإبل التي يحمل عليها الأثقال .
وأقرن أي : ألصق بها وأجعل مقروناً إليها . وأجنب : أقاد . يقول : إن أخذت عنوةً قرنت إلى شر الإبل وجنبت كما تجنب الدابة . وقوله : إني أحاذر إلخ الظعينة : الزوجة ما دامت في )
الهودج . والتلبب : التحزم أي : تحزم للمحاربة . وقيل : هو الدخول في السلاح . وقوله : هذا غبارٌ يعني غبار الخيل عند الغارة . والساطع : المستطير في السماء . وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر أول الكتاب . وترجمة ابن لوذان تقدمت أيضاً في الشاهد العشرين بعد المائة . أصل الكذب الإخبار على خلاف الواقع . قال ابن قتيبة : الكذب يكون في الماضي والخلف في المستقبل . قال ابن السيد : هذا الأكثر والأشهر . وقد جاء
____________________

الكذب مستعملاً في المستقبل . قال تعالى : ذلك وعدٌ غير مكذوب . ومن المجاز حديث : صدق الله وكذب بطن أخيك . قال صاحب النهاية : استعمل الكذب ها هنا مجازاً حيث هو ضد الصدق .
والكذب يختص بالأقوال فجعل بطن أخيه حيث لم ينجع فيه العسل كاذباً لأن الله تعالى قال : فيه شفاءٌ للناس . وقد ألف أبو بكر بن الأنباري رسالة في معاني الكذب قال : الكذب ينقسم على خمسة أقسام : إحداهن : تغيير الحاكي ما يسمع وقوله ما لا يعلم نقلاً ورواية . وهذا القسم هو الذي يؤثم ويهضم المروءة . الثاني : أن يقول قولاً يشبه الكذب . ولا يقصد به إلا الحق ومنه حديث كذب إبراهيم ثلاث كذبات في قوله : إني سقيم . وفي قوله : بل فعله كبيرهم هذا وفي قوله : سارة أختي أي : قال قولاً يشبه الكذب . وهو صادقٌ في الثلاث لأن معنى إني سقيم : الموت في عنقي ومن الموت في عنقه سقيمٌ أبداً . وقوله : بل فعله كبيرهم هذا تأويله فعله الكبير إن كانوا ينطقون فهو في الحقيقة لا يفعل كما ينطقون أبداً . وتأويل قوله : سارة أختي هي أختي في ديني لا في نسبي . الثالث : بمعنى الخطأ نحو : أقدر أن فلاناً في منزله الساعة فيقال لقائله : صدقت وكذبت . فتأويل صدقت أصبت ومعنى كذبت أخطأت . قال ابن الأثير في النهاية : ومنه حديث صلاة الوتر : كذب أبو محمد أي : أخطأ سماه كذباً لأنه شبيه في كونه ضد الصواب كما أن الكذب ضد الصدق وإن افترقا من حيث النية والقصد لأن الكاذب يعلم أن ما يقوله كذب والمخطئ لا يعلم .
____________________

وهذا الرجل ليس بمخبر وإنما قاله باجتهاد أداه إلى أن الوتر واجب . والاجتهاد لا يدخله الكذب وإنما يدخله الخطأ . وأبو محمد : صحابيٌّ اسمه مسعود بن زيد . وقد استعملت العرب الكذب في موضع الخطأ . قال الأخطل : ( كذبتك عينك أم رأيت بواسطٍ ** غلس الظلام من الرباب خيالا ) انتهى . الرابع : البطول كذب الرجل بمعنى بطل عليه أمله وما رجاه . قال أبو دوادٍ الإيادي : ( قلت لما ظهرا في قنةٍ ** كذب العير وإن كان برح ) )
معناه كذب العير أمله وبطل عليه ما قدر لأنه كان أمل السلامة مني لما برح . وتفسير برح أخذ من جهة شمالي ماضياً على يميني فلما قلبت عليه الرمح وطعنته بطل عليه ما كان أمل من التخلص والسلامة . وقد قيل في هذا البيت : ( كذبتم وبيت الله لا تأخذونها ** مغالبةً ما دام للسيف قائم ) إن معناه : كذبكم أملكم . ومثله أيضاً قوله :
____________________

( كذبتم وبيت الله لا تنكحونها ** بني شاب قرناها تصر وتحلب ) ( كذبتم وبيت الله نبزي محمداً ** ولما نطاعن دونه ونناضل ) معناه : بطل عليكم ما أملتم . وقال بعض أهل اللغة في قول الله تعالى : انظر كيف كذبوا على أنفسهم : انظر كيف بطل عليهم أملهم لأنهم لما قالوا : والله ربنا ما كنا مشركين رجوا أن يزول عنهم بهذا القول البلاء ولم يحلفوا على الذي أقسموا عليه إلا وهو في معتقدهم حق إذ كانوا في حالة ما أقسموا على ما قدروه في دار الدنيا من أن الشرك غير شرك وأن الكفر هدًى وإيمان . ومن كانت هذه سبيله فليس كذبه إلا من جهة بطول أمله . وقد خولف هذا اللغوي .
انتهى . ومنه قول سيبويه : وهو محالٌ كذب أي : باطل وفاسد قاله في الكلام المختل وهو الذي لا تحصل فائدته نحو : سوف أشرب ماء البحر أمس وقد شربت ماء البحر غداً . قال أبو حيان في تذكرته : وخالفه فيه أصحابه : الأخفش والمازني والمبرد فقالوا : هذا القسم محالٌ وليس كذب لأنه لا يحصل له معنى . والكذب سبيله أن يقع لما يخاطب بمعناه . قال أبو بكر : وقول سيبويه عندي صحيح لأن الكذب يقع على الفاسد من القول كما يقع الصدق على الصحيح منه . وجائزٌ عندي أن يقال محالٌ لكل ما لا يحصل معناه من الخطأ والكذب من حيث أن تأميل المحال في اللغة المغير عن
____________________

الصواب المزال عن طريق الصحة . فمن كذب وأخطأ في قول يفهم عنه فقد أحال . انتهى . قال ابن الأنباري : ومما يدل على أن كذب بمعنى أخطأ وهو مصحح لقول سيبويه ومبطل لمذهب مخالفيه : أن عروة بن الزبير ذكر عند عمر بن عبد العزيز ما كانت عائشة رضي الله عنها تخص به عبد الله بن الزبير من البر والأثرة والمحبة فقال له عمر : كذبت وبالحضرة عبيد الله بن عبد الله فقال : إني ما كذبت وإن أكذب الكاذبين لمن كذب الصادقين . قال أبو بكر : فلا يحمل هذا من قول عمر بن عبد العزيز إلا على أنه أراد أخطأت إذ المعنى الآخر يلزم عمر كذباً فيأثم . وجواب عروة وقع على غير المعنى الذي قصد له عمر لأنه )
حين غضب حمل كذب على معنى قلت غير الحق . ومثله قول معاوية للناس : كيف ابن زياد فيكم قالوا : ظريفٌ على أنه يلحن . قال : فذاك أظرف له . أراد القوم بقولهم يلحن : يخطئ وذهب معاوية إلى أنهم أرادوا يلحن بمعنى يفطن ويصيب من قول العرب : فلانٌ ألحن بحجته من فلان . وقد حكي عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه حكي له عن صحابي روايةٌ رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كذب يعني أخطأ . لا محتمل لهذا غير التأويل إذ هم معادن التقوى والورع وأرباب الصدق والفضل وصفهم الله بالصدق بقوله : وينصرون الله ورسوله أولئك هم الصادقون . ويقال : كذبت الرجل إذا كذبته فيما هو فيه كاذب . وكذبته إذا نسبته إلى الكذب فيما هو صادق . قال الله تعالى : فإنهم لا يكذبونك أراد لا يصححون عليك الكذب وإن نسبوك إليه . قال أبو بكر : وقد أجبت عنها بجوابٍ آخر فإنهم لا يكذبونك بقولهم عندما ينسبونك إلى الكذب بألسنتهم لأنه عليه الصلاة والسلام كان عندهم علماً في الصدق قبل النبوة وبعدها ولذلك كانوا يدعونه : الأمين .
____________________

وأنشدنا أحمد بن يحيى لابن الدمينة : ( حلفت لها أن قد وجدت من الهوى ** أخا الموت لا بدعاً ولا متأشبا ) ( وقد زعمت لي ما فعلت فكيف بي ** إذا كنت مردود المقال مكذبا ) أراد منسوباً إلى الكذب فيما أنا فيه محقٌّ صادق . والمعنى الخامس من المعاني كذب : الإغراء . وقد تقدم الكلام فيه في أول الشاهد . وأنشد بعده : ( وذبيانيةٍ أوصت بنيها ** بأن كذب القراطف والقروف ) على أن كذب فيه مستعملٌ في الإغراء والقراطف فاعله والمعنى على المفعولية أي : عليكم بالقراطف وبالقروف فاغنموهما . وتقدم ما يتعلق بكذب في البيت الذي قبله : ( تجهزهم بما استطاعت وقالت ** بني فكلكم بطلٌ مسيف ) ( فأخلفنا مودتها ففاظت ** ومأقي عينها حدرٌ نطوف ) والأبيات من قصيدةٍ لمعقر البارقي وكان حليفاً لبني نمير ومدحهم فيها وذكر ما فعلوا ببني ذبيان . وقد تقدمت ترجمته مع شرحها في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الثلثمائة .
____________________

وهذا شرحها باختصار . يقول : رب امرأة ذبيانية أمرت بنيها أن يكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا ببني نمير وذلك لحاجتهم وقلة مالهم . والقراطف : جمع قرطف كجعفر وهو كساء مخمل . )
والقروف : جمع قرف بفتح القاف وسكون الراء : وعاء من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر وهي قشور الرمان يجعل فيه الخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام وهو لحم يطبخ بالتوابل يوضع في القرف ويزود به في الأسفار . وبني : منادى . والمسيف : الذي قد هلك إبله ومواشيه . يقال : أساف الرجل أي : هلكت مواشيه بالسواف بفتح السين المهملة وضمها وهو مرض الدواب وطاعونها . يعني أن أولادها فقراء قد هلكت مواشيهم . تحرضهم على الغنيمة . وقوله : فأخلفنا مودتها إلخ أي : أخلفنا مأمولها . وفاظت : ماتت . والمأقي : لغة في الموق وهو طرف العين من ناحية الأنف . وحدر وصفٌ بمعنى منحدر . ونطوف : سائل يقال : نطف الماء إذا سال .
يعني ماتت وهي في هذه الحالة . وأنشد بعده الشاهد الرابع والخمسون بعد الأربعمائة
____________________

( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) على أن معمول اسم الفعل يجوز تقدمه عليه كما هنا فإن قوله : دلوي مفعول دونكا والمعنى : خذ دلوي ومنعه البصريون فجعلوا دلوي مبتدأ ودونك ظرفاً لا اسم فعل أي : دلوي قدامك فخذها فدونك ظرف خبر المبتدأ . وقد بين الفراء مذهب الكوفيين في تفسيره عند قوله تعالى : كتاب الله عليكم من سورة النساء قال : قوله : كتاب الله عليكم كقولك : كتاباً من الله عليكم . وقد قال بعض أهل النحو : معناه عليكم كتاب الله . والأول أشبه بالصواب . وقلما تقول العرب : زيداً عليك أو زيداً دونك وهو جائز كأنه منصوب بشيء مضمر قبله . وقال الشاعر : يا أيها المائح دلوي دونكا الدلو رفع كقولك : زيد فاضربوه : هذا زيدٌ فاضربوه . والعرب تقول : الليل فبادروا . وتنصب الدلو بمضمر في الخلفة كأنك قلت : دونك دلوي دونك . انتهى . وتعقبه الزجاج في تفسيره قال في كتاب الله : منصوب على التوكيد محمول على المعنى لأن المعنى : حرمت عليكم أمهاتكم كتب الله عليكم هذا
____________________

كتاباً . وقد يجوز أن يكون منصوباً على جهة الأمر ويكون عليكم مفسراً له فيكون المعنى : الزموا كتاب الله عليكم . ولا يجوز أن سكون منصوباً ب عليكم لأن قولك : عليك زيداً ليس له ناصب في اللفظ متصرف فيجوز تقديم منصوبه . وقول الشاعر : يا أيها المائح دلوي دونكا )
يجوز أن يكون دلوي في موضع نصب بإضمار : خذ دلوي ولا يجوز أن يكون على : دونك دلوي لما شرحنا . ويجوز أن يكون دلوي في موضع رفع المعنى : هذه دلوي دونك . انتهى .
وقد أورد هذه المسألة ابن الأنباري في مسائل الخلاف فقال : ذهب الكوفيون إلى أن عليك وعندك ودونك يجوز تقديم معمولاتها كما في الآية والبيت ولأنها قامت مقام الفعل فتعمل كعمله . ومنعه البصريون والفراء وقالوا : إن كتاب الله منصوب بكتب مقدراً وإن دلوي خبر مبتدأ مقدر أو منصوب بفعل محذوف كخذ يفسره دونك لا بدونك . وأجابوا عن الثاني بأن الفعل متصرف في نفسه فتصرف في عمله وهذه الألفاظ لا تستحق عملاٍ وإنما أعملت لقيامها مقام الفعل وهي غير متصرفة في نفسها فلا تتصرف في عملها فلا يقدم معمولها . انتهى .
وقوله : إن الفراء تبع البصريين مخالف لنص كلامه فإنه صرح بجواز عمله مؤخراً ومحذوفاً .
وردهما الزجاج وجعل دلوي منصوباً بفعل محذوف يفسرهدونك . فدونك على هذا اسم فعل قد حذف مفعوله أي : دونكه . ويكون في جعله دلوي خبر مبتدأ محذوف دونك ظرفاً في موضع الحال لا اسم فعل . وهذان الوجهان غير ما وجه به الشارح المحقق وإنما حكاه عن البصريين لأنه تخريجٌ موافق لقواعدهم . وقد وجه به أيضاً ابن هشام في : شرح القطر وفي المغني .
____________________

وقول الشيخ خالد في التصريح : وفيه نظرٌ لأن المعنى ليس على الخير المحض حتى يخبر عن الدلو بكونه دونه لا وجد له كما قال عبد الله الدنوشري : وما المانع من أن يكون خبراً محضاً قصد به التنبيه على أن الدلو أمامه ويكون الدال على الأمر بأخذ الدلو مقدراً .
والتقدير : فتناوله . وجوز ابن مالك أن يكون دلوي منصوبا بدونك مضمرة مدلولاً عليها بدونك المذكورة مستنداً لقول سيبويه في زيداً عليك : كأنك قلت : عليك زيداً . وقد رده الزجاج وغيره . قال ابن هشام في المغني : شرط الحذف ألا يؤدي إلى اختصار المختصر فلا يحذف اسم الفاعل دون معموله لأنه اختصار للفعل . وأما قول سيبوبه في : زيداً فاقتله وفي : شأنك والحج وقوله : يا أيها المائح دلوي دونكا إن التقدير : عليك زيداً وعليك الحج ودونك دلوي فقالوا : إنما أراد تفسير المعنى لا الإعراب وإنما التقدير : خذ دلوي والزم زيداً والزم الحج . ويجوز في دلوي أن يكون مبتدأ ودونك خبره .
انتهى . وظاهره أن البيت ذكره سيبويه في كتابه . وليس كذلك فإنه لم يورده في البتة . ولم يورد )
الدماميني هنا شيئاً سوى ما نقله عن الشارح المحقق من أنه لا يجوز تقدم معمول اسم الفعل عليه . والمائح : فاعل من الميح بالمثناة التحتية والحاء المهملة قال صاحب الصحاح : المائح الذي ينزل البئر فيملأ الدلو وذلك إذا قل ماؤها والجمع ماحةٌ وقد ماح يميح . وأنشد هذا البيت .
وأما الماتح بالمثناة الفوقية فهو الذي يستقي الماء يقال : متح الماء يمتحه متحاً
____________________

من باب فتح إذا نزعه بالدلو . وبئر متوح للتي يمد منها باليدين على البكرة . والبيتان لراجز جاهلي من بني أسيد بن عمرو بن تميم ولهما قصة أوردها أبو رياش وأبو عبد الله النمري وأبو محمد الأسود الأعرابي في شروحهم لحماسة أبي تمام . قال أبو محمد الأسود : أملى علينا أبو الندى قال : كان وائل بن صريم الغبري ذا منزلة من الملوك ومكان عندهم وكان مفتوق اللسان حلوه وكان جميلا فبعثه عمرو بن هند اللخمي ساعياً على بني تميم فاخذ الإتاوة منهم حتى استوفى ما عندهم غير بني أسيد بن عمرو بن تميم وكانوا على طويلع فأتاهم فنزل بهم وجمع النعم والشاء فأمر بإحصائه وفيما هو قاعدٌ على بئرٍ أتاه شيخٌ منهم فحدثه فغفل وائل فدفعه الشيخ فوقع في البئر فاجتمعوا فرموه بالحجارة حتى قتلوه وهم يرتجزون ويقولون : ( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) إنما هذا هزءٌ به فبلغ الخبر أخاه باعث بن صريم فعقد لواءً ونادى في غبر فساروا وآلى أن يقتلهم على دم وائل حتى يلقي الدلو فتمتلئ دماً فقتل باعث منهم ثمانين رجلاً وأسر عدة وقدم رجلاً منهم يقال له : قمامة فذبحه حتى ألقى دلوه فخرجت ملأى دماً . ولم يزل يغير عليهم زماناً وقتل منهم فأكثر حتى أن المرأة من بني أسيد كانت تعثر فتقول : تعست غبر ولا لقيت الظفر ولا سقيت المطر وعدمت النفر . وقال باعث في ذلك : ( إذ أرسلوني مائحاً لدلائهم ** فملأتها حتى العراقي بالدم )
____________________

انتهى . والغبري : نسبة إلى غبر بضم الغين المعجمة وفتح الموحدة قبيلة . وأسيد بضم الهمزة وفتح السين وتشديد الياء المكسورة . وقد أنشدتهما جاريةٌ من بني مازن وضمت إليهما بيتين آخرين . وقال الصغاني في العباب في مادة الميح ونقله العيني : ومنه حديث البراء بن عازب رضي الله عنه : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم على بئرٍ ذمةٍ فنزلناها ستةً ماحةً ونزل فيها ناجية بن جندب الأسلمي رضي الله عنه بأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فأدلت جاريةٌ من بني مازن دلوها وقالت : ) ( يا أيها المائح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) ( يثنون خيراً ويمجدونك ** خذها إليك اشغل بها يمينكا ) فأجابها ناجية : ( قد علمت جاريةً يمانيه ** أني أنا المائح واسمي ناجيه ) ( وطعنةٍ ذات رشاشٍ واهيه ** طعنتها تحت صدور العاديه ) انتهى . وبئر ذمة بالوصف أي : قليلة الماء أي : إنها تذم لقلة مائها . والذميم : الماء المكروه .
ومازن : اسم ثلاث قبائل في عدنان . وهذا يخالفه قول ناجية : فإن أهل اليمن كلهم من قحطان . وأثنى عليه خيراُ من الثناء وهو الوصف الجميل فعليك في الرجز مقدرة . ويمجدونك : يذكرونك بالمجد وهو العز والشرف والكرم . وشغل من باب نفع .
وطعنة أي : رب طعنة . ورشاش الطعنة بالفتح : الدم المتطاير منها . وأرشت الطعنة بالألف : نفذت فأنهرت الدم . كذا في المصباح . وزعم الشامي في السيرة أنه بالفتح جمع رش والمراد به المطر القليل . هذا كلامه .
____________________

وواهية : صفة طعنة أي : منشقة مسترخية . والعادية قال الشامي : هم الذين يعدون : يسرعون الجري . وأخذ العيني من ظاهر نقل الصاغاني أن البيتين الأولين لتلك الجارية وليس كذلك . وروى السيوطي في شواهد المغني عن البيهقي في الدلائل عن ابن إسحاق قال : زعمت أسلم أن جارية من الأنصار أقبلت بدلوها عام الحديبية وناجية بن جندب الأسلمي صاحب بدن رسول الله صلى الله عليه وسلم في القليب يميح على الناس فقالت . وأنشد الشعرين : خذها إليك اشغل بها يمينكا وقوله : جارية من الأنصار يوافقه قوله : جارية يمانية فإن أصل الأنصار من اليمن . وكذا روى الشامي في السيرة . وزعم ابن الشجري في أماليه أن البيتين لرؤبة وأنه لم يستسق ماءً في الحقيقة وإنما طلب عطاء . وكلاهما لا أصل له كما عرفت . والبيت الذي لرؤبة إنما هو هذا : أي : كأن الناقة في السرعة دلوٌ ملأى وصلت إلى فم البئر ثم انقطع حبلها فهوت فيها . والماتح هنا بالمثناة الفوقية هو الذي يستقي على رأس البئر . والكرب بفتحتين : الحبل الذي يشد على عرقوة الدلو . وروى الزجاجي في أماليه قال : حدثنا ابن دريد قال : أخبرنا أبو حاتم قال : أخبرنا أبو عبيدة قال : كتبت امرأةٌ من العرب إلى طلحة الطلحات : ) ( يا أيها الماتح دلوي دونكا ** إني رأيت الناس يحمدونكا ) يثنون خيراً ويمجدونكا
____________________

فلما قرأ طلحة الكتاب أحب أن لا يفطن الرسول فقال : ما أيسر ما سألت إنما سألت جنبة .
ثم أمر بجنبةٍ عظيمة فقورت وملئت دنانير وكتب إليها : ( إنا ملأناها تفيض فيضا ** فلن تخافي ما حييت غيضا ) خذي لك الجنب وعودي أيضاً وغيضاً من غاض الماء في الأرض إذا غار فيها وانمحق . وأنشد بعده : ( ألا أيها الطير المربة بالضحى ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) على أن تنوين لحمٍ للإبهام والتفخيم أي : لحم وأي لحم . تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والأربعين بعد الثلثمائة من باب النعت . وأنشد بعده :
____________________

( وقفنا فقلنا إيه عن أم سالم ** وما بال تكليم الديار البلاقع ) على أن ابن السكيت والجوهري قالا : إنما جاء ذو الرمة هنا ب إيه غير منون مع أنه موصولٌ بما بعده لأنه نوى الوقف . هذا الكلام نقله الجوهري عن ابن السكيت ثم نقل عن ابن السري الزجاج أنه قال : إذا قلت : إيه يا رجل فإنما تأمره بأن يزيدك من الحديث المعهود بينكما كأنك قلت : هات الحديث . فإن قلت : إيهٍ بالتنوين فكأنك قلت : هات حديثاً ما لأن التنوين تنكير .
وذو الرمة أراد التنوين فتركه للضرورة . انتهى . وإنما كان ترك التنوين ضرورةً لأنه أراد من الطلل أن يخبره عنها أي حديثٍ كان وليس فيه ما يقتضي أن يحدثه حديثاً معهوداً . كذا قيل وفيه أنه إنما طلب حديثاً مخصوصاً وهو الحديث عن أم سالم . وبه يسقط قول ثعلب في أماليه : تقول العرب : إيه بالتنوين بمعنى حدثنا . وأما قول ذي الرمة فإنه ترك التنوين وبنى على الوقف ومعناه إيه أي : حدثنا . قال ابن جني في سر الصناعة : تنوين التنكير لا يوجد في معرفة ولا إلا تابعاً لحركات البناء وذلك نحو : إيه فإذا نونت وقلت : إيهٍ فكأنك قلت : استزادةً . وإذا قلت : إيه فكأنك قلت : الاستزادة . فصار التنوين علم التنكير وتركه علم التعريف .
____________________

قال ذو الرمة : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ فكأنه قال : الاستزادة . وأما من أنكر هذا البيت على ذي الرمة فإنما خفي عليه هذا الموضع .
هذا كلامه . وفي شرح الصفار لسيبويه : وأما إيه فمعناه حدث أو زد لكن هو لازم لا يقال : )
إيه كذا . قال أبو حيان : قد استعمله بعض الشعراء المولدين متعدياً فقال : إيهٍ أحاديث نعمانٍ وساكنه وقال آخر : إيهٍ حديثك عن أخبارهم إيه والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة وهذا مطلعها : ( خليلي عوجا عوجةً ناقتيكما ** على طللٍ بين القلات وشارع )
____________________

( به ملعبٌ من معصفاتٍ نسجنه ** كنسج اليماني برده بالوشائع ) وقفنا فقلنا إيهٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : عوجا عوجة يقال : عجت البعير أعوجه عوجاً ومعاجاً إذا عطفت رأسه . والتاء في عوجةً للمرة . وناقتيكما : مفعول عوجا . والطلل : ما بقي في الدار من أثر الراحلين كالأثفية ونحوها . والقلات بكسر القاف وآخره مثناة وسارع بالمهملات : موضعان . وقوله : به ملعب إلخ المعصفة : الريح الشديدة يقال : عصفت الريح وأعصفت . ونسجنه أي : ذهبت عليه الريح وجاءت كالنسج . والوشائع : جمع وشيعة من وشعت المرأة الغزل على يدها : خالفته .
وتوشعت الغنم في الجبل أي : اختلفت . وقوله : وقفنا فقلنا إلخ أي : وقفنا عليه أي الطلل .
والعطف بالفاء لا بالواو كما في الشرح . قال الأصمعي : أساء في قوله : إيه بلا تنوين . والبال : الشأن والحال . وما : استفهامٌ إنكاريٌّ أي : ليس من شأنها الكلام . والديار البلاقع : التي ارتحل سكانها فهي خالية . طلب الحديث من الطلل أولاً ليخبره عن محبوبته أم سالم وهذا من فرط تحيره وتدلهه في استخباره مما لا يعقل ثم أفاق وأنكر من نفسه بأنه ليس من شأن الأماكن الإخبار عن السواكن . وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن في أول الكتاب .
____________________

وأنشده بعده
الشاهد السادس والخمسون بعد الأربعمائة ( تذر الجماجم ضاحياً هاماتها ** بله الأكف كأنها لم تخلق ) على أنه قد روي الأكف بالحركات الثلاث . أول البيت : فترى الجماجم وقبله : ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) وإنما ينشدونه : تذر الجماجم ليعرى من التعلق بما قبله . والقدم بضمتين : والقبل بضمتين أيضاً كذا في المصباح . وقال صاحب الصحاح : ومضى قدماً بضم الدال : لم يعرج ولم ينثن . ويجوز أن يكون بكسر القاف وسكون الدال اسمٌ من القدم أي : جلاف الحدوث وهو ظرف لقوله : نصل . قال الجاحظ في كتاب البيان : إن الفارس ربما زاد في طول رمحه ليخبر عن فضل قوته ويخبر عن قصر سيفه ليخبر عن فضل نجدته . وأنشد هذا البيت ونظائره . وقوله : فترى الجماجم إلخ الرؤية بصرية : والجماجم : مفعول الرؤية . وضاحياً : حال سببية من الجماجم وهاماتها : فاعل ضاحياً وهو من ضحا يضحو : إذا ظهر وبرز عن محله .
____________________

والجماجم : جمع جمجمة قال صاحب المصباح : هي عظم الرأس المشتمل على الدماغ وربما عبر عنها عن الإنسان فيقال : خذ من كل جمجمةٍ درهماً كما يقال : خذ من كل رأس بهذا المعنى . وقال أيضاً : الهامة من الشخص : رأسه . فالمناسب هنا أن الجمجمة بمعنى الإنسان . وقد فرق الزجاج في كتاب خلق الإنسان بين الجمجمة والهامة فقال : عظم الرأس الذي فيه الدماغ يقال له : الجمجمة والهامة : وسط الرأس ومعظمه . وزعم الدماميني في الشرح المزج على المغنى أنه يصح أن تكون الجماجم هنا القبائل التي تجمع البطون فينسب إليها دونهم . فمعنى : بله الأكف على رواية نصب الأكف : إنك ترى رؤوس الرجال أي : بعض الرؤوس بارزة عن محلها بضرب السيوف كأنها لم تخلق على الأبدان فدع ذكر الأكف فإن قطعها من الأيدي أهون بالنسبة إلى الرؤوس . فبله على هذا : اسم فعل . وعلى الجر : إنك ترى تطاير الرؤوس عن الأبدان فتركاً لذكر الأكف أي : فاترك ذكرها تاركاً فإنها بالنسبة إلى الرؤوس سهلة . فبله على هذا مصدرٌ مضاف . وعلى الرفع : إنك ترى الهامات ضاحية عن الأبدان فكيف الأكف لا تكون ضاحية عن الأيدي يعني : إذا جعلت السيوف الأبدان بلا رؤوس فلا عجب أن تترك الأيدي بلا أكف . فبله بمعنى كيف للاستفهام التعجبي . فبله الأكف على الأول والثالث جملة اسمية وفتحة بله بنائية . وعلى الثاني جملة فعلية حذف صدرها والفتحة إعرابية . وهي بالمعنى الأول )
والثاني مأخوذة من لفظ البله والتباله وهي من الغفلة
____________________

لأن من غفل عن شيء تركه ولم يسأل عنه . وكذلك هنا أي : لا تسأل عن الأكف إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعة . كذا في الروض الأنف للسهيلي . قال أبو علي في إيضاح الشعر : قال سيبويه : أما بله زيدٍ فبله هنا بمنزلة المصدر كما تقول : ضرب زيد . فمن قال بله زيدٍ جعله مصدراً . ولا يجوز أن تضيف ويكون مع الإضافة اسم الفعل لأن هذه الأسماء التي يسمى بها الأفعال لا تضاف . ألا ترى أنه قال : جعلوها بمنزلة النجاءك أي : لم يضيفوها إلى المفعول به كما أضافوا أسماء الفاعلين والمصدر إليه . فهي في قوله على ضربين : مرةً تجرى مجرى الأسماء التي تسمى بها الأفعال ومرة تكون مصدراً . قال أبو زيد : إن فلاناً لا يطيق أن يحمل الفهر من بلهٍ أن يأتي بالصخرة يقول : لا يطيق أن يحمل الفهر فمن بله أن يأتي بالصخرة فكيف يطيق أن يحمل الصخرة . قال : وبعض العرب يقول : من بهل أن يحمل الصخرة فقلب . وأنشد : فما حكاه أبو زيد من دخول من عليه والإضافة والقلب يدل على أنه مصدر وليس باسم فعل لأن أسماء الفعل لا تضاف ولا يدخل عليها عوامل الأسماء . ألا ترى أن أبا الحسن يقول : إن دونك ليس ينتصب على انتصابه قبل . ويقوي كونه مصدراً أن أبا عمرٍ و الشيباني حكى : ما بلهك لا تفعل كذا أي : ما لك . ومن الناس من ينشده : بله الأكف بالنصب . فهذا على هذا الإنشاد اسم فعل كأنه قال دع الأكف فجعلها اسماً لدع . والدلالة على جواز كونها اسماً للفعل كما أجاز سيبويه قول الشاعر :
____________________

( يمشي القطوف إذا غنى الحداة به ** مشي الجواد فبله الجلة النجبا ) فأما ما يتعلق به من فيما حكاه أبو زيد من قوله : فمن بله فهو ما ينتصب عليه بله في من جعله مصدراً وأضاف . وهذا خلاف ما قاله الشارح المحقق فإنه جعل بله فيما حكاه أبو زيد بمعنى كيف . ولم يتعرض أبو علي في هذا الكتاب بمجيء بله بمعنى كيف . ونقل الشارح عنه لعله من غير هذا الكتاب . ونقل عنه ابن هشام في المغني : نقيض ما نقله الشارح عنه فقال : وإنكار أبي عليٍّ أن يرتفع ما بعدها مردودٌ بحكاية أبي الحسن وقطرب له . انتهى . والقطوف من الدواب وغيره : البطيء . والجلة بكسر الجيم : جمع جليل كصبية جمع صبي وهو المسن من الإبل . والنجب بضمتين : جمع نجيب وهو الأصيل الكريم . والمعنى أن البطيء يمشي كمشي الجواد من الخيل مع الحداء فدع الإبل الكرام فإنها مع الحداء تسرع أكثر من غيرها . ورواه )
صاحب الصحاح : مشي النجيبة بله الجلة النجبا ونسبه إلى ابن هرمة . وقال أبو حيان في تذكرته : هذا الذي تأوله سيبويه في الخفض من نيابة بله عن المصدر المضاف إلى المخفوض عند الكوفيين على معنيين : إن كان المخفوض بتأويل مرفوع وتقدير ضرب : ليضرب زيدٌ فالكلام صحيح . وإن كان تقدير المخفوض النصب والتأويل اضرب زيداً فالكلام عندهم خطأ لأن المصدر الذي يتعدى فعله إلى المفعول إذا أفرد بواحدٍ أضيف إليه ولم يذكر معه غيره فلا بد من أن يكون ذلك الواحد مرفوعاً لأن الفعل لا يخلو من الفاعل وما
____________________

يجرى مجراه فيعجبني ركوب الفرس موضع الفرس عند الكوفيين رفع لا غير لأن معناه يعجبك أن يركب الفرس . وجواز البصريون أن يكون منصوباً بتأويل أن يركب الفرس أي : يركب راكبٌ الفرس . ورد الكوفيون هذا واحتجوا بأن المصدر لا يحتمل ضميراً من الفاعل فإذا أضيف إلى الفرس والفرس منصوب بقي الركوب بلا فاعل له مظهر ولا مضمر وفي هذا فساد التركيب . وقال البصريون : عملت على الاختصار ومعرفة المخاطب بأن للركوب فاعلاً وإن لم يكن مظهراً ولا مضمراً . وقال الكوفيون : ما وجدنا فاعلاً خلا الفعل من إظهاره معه أو إضماره فيه وما يصل إلى إظهار الفاعل ولا إضماره مع المصدر إذا انفرد واحد . والمصدر على الفعل مبنيٌّ فما لم يعرف صحته مع الفعل فهو سقيم مع المصدر . انتهى . والبيتان من قصيدة لكعب بن مالك شاعر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالها في وقعة الأحزاب وأوردها أصحاب السير والمغازي في كتبهم وهي : ( من سره ضربٌ يرعبل بعضه ** بعضاً كمعمعة الأباء المحرق ) ( فليأت مأسدةً تسن سيوفها ** بين المذاد وبين جزع الخندق ) ( دربوا بضرب المعلمين فأسلموا ** مهجات أنفسهم لرب المشرق ) ( في عصبةٍ نصر الإله نبيه ** بهم وكان بعبده ذا مرفق ) ( في كل سابغةٍ تخط فضولها ** كالنهي هبت ريحه المترقرق ) ( بيضاء محكمةٍ كأن قتيرها ** حدق الجنادب ذات شكٍّ موثق )
____________________

( جدلاء يحفزها نجاد مهندٍ ** صافي الحديدة صارمٍ ذي رونق ) ( تلكم مع التقوى تكون لباسنا ** يوم الهياج وكل ساعةٍ مصدق ) ) ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) ( فترى الجماجم ضاحياً هاماتها ** بله الأكف كأنها لم تخلق ) ( ونعد للأعداء كل مقلصٍ ** وردٍ ومحجول القوائم أبلق ) ( تردي بفرسان كأن كماتهم ** عند الهياج أسود طلٍّ ملثق ) ( صدقٍ يعاطون الكماة حتوفهم ** تحت العماءة بالوشيج المزهق ) ( أمر الإله بربطها لعدوه ** في الحرب إن الله خير موفق ) ( لتكون غيظاً للعدو وحيطا ** للدار إن دلفت خيول النزق ) ( ويعيننا الله العزيز بقوةٍ ** منه وصدق الصبر ساعة نلتقي ) ونطيع أمر نبينا ونجيبه وإذا دعا لكريهةٍ لم نسبق ( ومتى ينادي للشدائد نأتها ** ومتى نرى الجومات فيها نعنق ) ( من يتبع قول النبي فإنه ** فينا مطاع الأمر حق مصدق ) ( فبذاك ينصرنا ويظهر عزنا ** ويصيبنا من نيل ذاك بمرفق ) ( إن الذين يكذبون محمداً ** كفروا وضلوا عن سبيل المتقي )
____________________

قوله : من سره ضرب إلخ رعبله : قطعه . والمعمعة قال صاحب الصحاح : هو صوت الحريق في القصب ونحوه وصوت الأبطال في الحرب . وأنشد هذا البيت . والأباء : القصب واحدتها أباءة كسحابً وسحابة وقيل أجمة الحلفاء والقصب خاصة . كذا في الصحاح . وقال السهيلي في : الروض الأنف : والهمزة الأخيرة بدل من ياء قاله ابن جني لأنه عنده من الإباية كأن القصب يأبى على من أراده بمضغٍ أو نحوه . ويشهد لما قاله قول الشاعر : ( يراه الناس أخضر من بعيدٍ ** وتمنعه المرارة والإباء ) والمحرق : اسم مفعول . وقوله : فليأت مأسدة إلى آخره هذا جواب الشرط . قال السهيلي : المأسدة : الأرض الكثيرة الأسد وكذلك المسبعة : الأرض الكثيرة السباع . ويجوز أن يكون جمع أسد كما قالوا مشيخة ومعلجة . حكى سيبويه : مشيخة ومشيوخاء ومعلجة ومعلوجاء .
قوله : تسن سيوفها قال السهيلي : نصب الفاء هو الصحيح عند القاضي أبي الوليد ووقع في الأصل عند أبي بحر برفعها . ومعنى الرواية الأولى : تسن أي : تصقل . ومعنى الثانية أي : تسن للأبطال ولمن بعدها من الرجال سنة الجرأة والإقدام . والمذاد قال أبو عبيد البكري في معجم ما )
استعجم : هو بفتح الميم بعدها ذال معجمة والآخر دال مهملة الموضع الذي حفر فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم الخندق . وقال السيوطي في شواهد المغني : هو أطم بالمدينة .
____________________

وقال الشامي : هو لبني حرام غربي مساجد الفتح سميت به الناحية . والجزع بكسر الجيم : منعطف الوادي . قال الشامي : وهو هنا جانب الخندق . والخندق هنا هو خندق المدينة . وقوله : دربوا بضرب إلخ قال صاحب الصحاح : الدربة بالضم : عادة وجرأة على الحرب وكل أمر وقد درب بالشيء بكسر الراء إذا اعتاده وضري به . والمعلمون بضم الميم وفتح اللام : الذين يعلمون أنفسهم بعلامات في الحرب يعرفون بها وهم الشجعان هنا . وأسلموا : من أسلم أمره لله أي : سلمه له . والمهجة هنا : الروح . وأراد برب المشرق رب المشرق والمغرب . وقوله : بعبده ذا مرفقٍ : مصدر كالرفق ضد العنف . قال أبو زيد : رفق الله بك ورفق عليك رفقاً ومرفقاً بفتح الميم وكسر الفاء في الأول وبالعكس في الثاني . وزاد غيره مرفقاً بفتح الميم والفاء حكاه الصاغاني في العباب . وقوله : في كل سابغة إلخ السابغة : الدرع الواسعة وتخط بالبناء للفاعل .
وفضولها : جمع فضل وهو الزائد أي : ينسحب ذيل الدرع على الأرض لطولها . والنهي بفتح النون : الغدير وأهل نجد يكسرون النون . والمترقرق بالجر صفة للنهي ومن ترقرق : إذا تحرك جاء وذهب . والريح إذا هبت على الماء حصلت هذه الصفة . وزعم السيوطي أنه بمعنى اللامع . وقوله بيضاء محكمة إلخ البيضاء : المجلوة . والقتير بفتح القاف وكسر المثناة الفوقية قال صاحب الصحاح : رؤوس المسامير في الدروع
____________________

شبهها بعيون الجندب وهو نوعٌ من الجراد في البريق واللمعان . والشك : مصدر شككت الشيء إذا ضممته إلى غيره ومنه شك القوم بيوتهم إذا جعلوها مصطفة متقاربة . وهو معنى قول الشامي : الشك هنا : إحكام السرد وهو متابعة نسج حلق الدرع وموالاته شيئاً فشيئاً حتى يتناسق . والموثق : المحكم المثبت . وقوله : جدلاء يحفزها إلخ الجدلاء بفتح الجيم : الدرع المحكمة النسج . ويقال : درع مجدولة أيضاً من جدلت الحبل أجدله بالضم جدلاً أي : فتلته فتلاً محكماً . ويحفزها أي : يشمرها ويرفعها بالحاء المهملة والفاء والزاء المعجمة . والنجاد : سيور السيف . والمهند السيف المطبوع من حديد الهند . قال السهيلي : هذا كقول ابن الأسلت في وصف الدرع : ( أحفزها عني بذي رونقٍ ** أبيض مثل الملح قطاع ) وذلك أن الدرع إذا طالت فضولها حفزوها أي : شمروها فربطوها بنجاد السيف . وقال )
غيره : كانت العرب تعمل في أغماد السيوف أشباه الكلاليب فإذا ثقلت الدرع على لابسها رفع ذيلها فعلقه بالكلاب الذي في غمد السيف ليخف عليه . وصارم : قاطع . والرونق : جوهر السيف . وقوله : تلكم مع التقوى إلخ الإشارة للدرع الموصوفة . قال السهيلي : هذا من أجود الكلام انتزعه من قول الله تعالى : ولباس التقوى ذلك خيرٌ
____________________

. وموضع الإجادة أنه جعله لباس الدروع تبعاً للباس التقوى لأن حرف مع يفيد أن ما بعده هو المتبوع وليس بتابع . ويوم الهياج : يوم القتال . والمصدق كجعفر : الحملة الصادقة على العدو يقال للرجل الشجاع والفرس الجواد : إنه لذو مصدق أي : صادق الحملة وصادق الجري كأنه ذو صدق في وعد ذلك . وقوله : نصل السيوف إلخ قد نظم هذا المعنى كثيراً . قال الأخنس بن شهاب : وقال السموءل بن عادياء : ( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فتطول ) وقال رجل من بني نمير : ( وصلنا الرقاق المرهفات بخطونا ** على الهول حتى أمكنتنا المضارب ) وقال آخر : ( إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) وقال آخر : ( الطاعنون في النحور والكلى ** شزراً ووصالو السيوف بالخطى )
____________________

وقال آخر : ( إن لقيس عادةً تعتادها ** سل السيوف وخطًى تزدادها ) وهذا كله شعر جاهلي . وقال حميد بن ثور الهلالي الصحابي : ( ووصل الخطى بالسيف والسيف بالخطى ** إذا ظن أن السيف ذو السيف قاصر ) وله نظائر أخر ستأتي إن شاء الله تعالى في باب الظروف . وقوله : فترى الجماجم قد غيره النحويون إلى قولهم : تذر الجماجم وتقدم شرحه . قال السهيلي : خفض الأكف هو الوجه وقد روي بالنصب لأنه مفعول أي : دع الأكف وبله كلمة معناها دع وهي من المصادر المضافة إلى ما بعدها وهي من لفظ البله أي : الغفلة لأن من غفل ترك ولم يسأل عنه وكذلك هذا أي : لا تسأل عن الأكف إذا كانت الجماجم ضاحيةً مقطعةً . قال الدماميني في الشرح المزج على )
المغني : الجمجمة : عظم الرأس المشتمل على الدماغ والقبيلة تجمع البطون فينسب إليها دونهم .
والبيت محتملٌ لكل من المعنيين . والمعنى على رواية رفع الأكف أن تلك السيوف تترك قبائل العرب الكثيرة بارزة الرؤوس للأبصار كأنها لم تخلق في محالها من تلك الأجسام . أو تترك تلك العظام المستورة مكشوفة ظاهرة فكيف الأكف . أي : إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها فكيف حال الأيدي التي يتوصل إليها بسهولة . وعلى رواية النصب : أنها تترك الجماجم على تلك الحالة دع الأكف فأمرها أيسر وأسهل .
____________________

وعلى رواية الجر : أنها تترك الجماجم ترك الأكف منفصلةً عن محالها كأنها لم تخلق متصلة بها . وقال ابن الملا في شرحه على المعني : الجمجمة : القحف أو العظم فيه الدماغ والسيد والقبيلة التي تنسب إليها البطون . ومتى أريد بالجماجم القبائل جاز أن يراد بالهامات رؤساؤها وبالأكف من دونهم من الكفاة . ففي القاموس : الهامة : رأس كل شيء . ورئيس القوم . والمعنى على رواية الرفع أن تلك السيوف تترك تلك العظام المستورة ظاهرةً فكيف الأكف البادية أي : إذا كانت حالة الرؤوس هذه مع عزة الوصول إليها فكيف الأكف التي يتوصل إليها بسهولة فإنها تدعها كأنها لم تخلق في محالها .
ولا حاجة إلى دعوى المجاز في الأكف عن الأيدي كما يفهم من صنيع الشارح . أو تترك السادات من كل قبيلة أو القبائل من العرب بارزة الرؤوس للأبصار بإبانتها عن محالها كأنها لم تخلق فيها . أو تترك القبائل بارزاً رؤوسها للقتل أي : مقتولة . وأراد بالأكف من يتقوى به من فرسان القبائل . وعلى النصب : أنها تترك الجماجم على تلك الحالة دع الأكف فإن أمرها أيسر وأسهل . وعلى الجر : أنها تتركها ترك الأكف منفصلة عن محالها كأنها لم تخلق متصلة بها .
انتهى . وهذا كله تكلف وتوسيعٌ للدائرة . وقوله : نلقى العدو إلخ الفخمة : الجيش العظيم من الفخامة وهي العظم . وملمومة : مجموعة . وقوله : كقصد رأس المشرق قال السهيلي : الصحيح ما رواه ابن هشام عن أبي زيد : كرأس قدس المشرق لأن قدس جبلٌ معروف من ناحية المشرق . انتهى . وظاهره أنه بفتح الميم . وقول الشامي المشرق نعت ل قدس بمعنى جبل إشارة إلى ضمة الميم وهو اسم فاعل من الإشراق . والظاهر أن هذا هو الجيد .
____________________

قال البكري في معجم ما استعجم : القدس بضم القاف وسكون الدال : من جبال تهامة وهو جبل العرج . قال ابن الأنباري : قدس : مؤنثة لاتنصرف لأنها اسمٌ للجبل وما حوله . وقال ياقوت في معجم البلدان : قدس : جبلٌ عظيم بأرض نجد . قال ابن دريد : قدس أوارة : جبلٌ معروف . وأنشد الآمدي ) ( ونحن جلبنا يوم قدس أوارة ** قنابل خيلٍ تترك الجو أقتما ) وقال الأزهري : قدس أوارة : جبلان لمزينة وهما معروفان بحذاء سقيا مزينة . وقال عرام : بالحجاز جبلان يقال لهما القدسان : قدس الأبيض وقدس الأسود وهما عند ورقان . أما الأبيض فهو جبلٌ شامخ بين العرج والسقيا . والقدسان جميعاً لمزينة . انتهى . فظهر بهذا أنه ليس جبلٌ في المشرق اسمه قدس فالصواب ما قاله الشامي . وقوله : ونعد للأعداء نعد : نهيئ من الإعداد وهو التهيئة . والمقلص
____________________

قال صاحب الصحاح : فرس مقلص بكسر اللام أي : مشرف طويل القوائم . والورد : الفرس الذي تضرب حمرته إلى الصفرة . والمحجول : الفرس المحجل والتحجيل : بياضٌ في قوائم الفرس أو في ثلاثٍ منها أو في رجليه قل أو كثر بعد أن يجاوز الأرساغ ولا يجاوز الركبتين والعرقوبين لأنها مواضع الأحجال وهي الخلاخيل والقيود . ولا يكون التحجيل واقعاً بيد أو يدين ما لم يكن معها رجلٌ أو رجلان . كذا في العباب للصاغاني .
والأبلق : الفرس الذي فيه البلق بفتحتين وهو سواد وبياض . وقوله : تردي بفرسان إلخ قال صاحب الصحاح : ردى الفرس بالفتح يردي ردياً وردياناً : إذا رجم الأرض رجماً بين العدو والمشي الشديد . والكماة : جمع كمي وهو الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي : سترها بالدرع . والبيضة . والطل : المطر الضعيف . والملثق : اسم فاعل صفة لطل من اللثق بفتحتين قال السهيلي : واللثق : ما يكون عن الطل من زلقٍ وطين . والأسد أجوع ما يكون وأجرأ في ذلك الحين . وقال صاحب العباب : اللثق : الندى . قال كعب بن زهير : ( باتت له ليلةٌ جمٌّ أهاضبها ** وبات ينفض عنه الطل واللثقا ) وألثقه غيره . قال سلمة بن الخرشب : ( خداريةٌ فتخاء ألثق ريشها ** سحابة يومٍ ذي أهاضيب ماطر ) وقوله : صدقٌ يعاطون إلخ بالرفع صفة أسود وهو بضم الصاد جمع صدق بفتحها والدال ساكنة معها يقال رجلٌ صدق اللقاء وصدق النظر إذا مضى فيهما ولم يثنه شيء .
____________________

والصدق أيضاً : الكامل المحمود من كل شيء . والصدق أيضاً : الصلب من الرماح ويقال المستوي .
ويعاطون : يناولون . والكماة : الشجعان مفعول لأول وحتوفهم مفعول ثان وهو جمع حتف وهو الهلاك . والعماءة بالمد كالسحابة وزناً وومعنى . قال أبو زيد : العماء : السحاب وهو شبه الدخان يركب رؤوس الجبال وأراد به هنا الغبار الثائر في المعركة . ورواه الشامي : العماية )
بالياء وفسره بالسحاب وليس في الصحاح إلا ما ذكرنا . وإنما فيه : عماية : جبلٌ من جبال هذيل . والوشيج : الرماح وأصبه شجر الرماح . والمزهق : اسم فاعل المذهب للأرواح .
وقوله : لتكون غيظاً للعدو وحيطا قال الشامي : هو جمع حائط اسم فاعل من حاط يحوط أي : كلأه ورعاه . وأراد بالدار المدينة المنورة . ودلفت : قربت . والنزق : الأعداء وهو جمع نزق بفتحٍ فكسر من نزق نزقاً كفرح فرحاً . والنزق : الخفة والطيش وسوء الخلق . وهذا أصله .
وقوله : وإذا دعا لكريهةٍ إلخ الكريهة من أسماء الحرب ونسبق بالبناء للمفعول . والحومات : جمع حومة وهو موضع القتال . ونعنق : نسرع . قال في المصباح : العنق بفتحتين : ضربٌ من السير فسيح سريع وهو اسمٌ من أعنق إعناقاً . وقوله : حق مصدق بفتح الدال المشددة مصدر أي : تصديقاً حق تصديق . وترجمة كعب بن مالك الصحابي تقدمت في الشاهد السادس والستين .

____________________

وأنشد بعده الشاهد السابع والخمسون بعد الأربعمائة أعطيهم الجهد مني بله ما أسع على أن الأخفش أورده في باب الاستثناء قال : بله فيه حرف جر كعدا وخلا بمعنى سوى .
أورده أبو علي في إيضاح الشعر وعقد ل بله باباً قال : هذا باب ما يكون مرةً اسماً ومرة مصدراً ومرةً حرف جر . قال الشاعر : ( حمال أثقال أهل الود آونةً ** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع ) قال أبو الحسن الأخفش في باب من الاستثناء : إن بله حرف جر . قال أبو علي : ووجه كونه حرفاً أنه يمكن أن يقال أنك إن حملته على أنه اسم فعل لم يجز لأن الجمل التي تقع في الاستثناء مثل لا يكون زيداً وليس عمراً وعدا خالداً فيمن جعله فعلاً ليس شيءٌ منه أمراً وهذا يراد به الأمر وهو اسمٌ للفعل فإذا كان كذلك لم يجز لأنه لا نظير له . فإن قلت : فلم لا تجعله المصدر لأن المصدر قد وقع في الاستثناء في قولك : أتاني القوم ما عدا زيداً والتقدير : مجاوزتهم زيداً فهو مصدر . قلت : يمكن أن يقال إن ما زائدة وليست التي للمصدر وعدا إذا قدرت زيادةً ما كان جملةً فليس في ذلك دلالة لاحتماله غير ذلك . والحروف قد وقعت في الاستثناء نحو : خلا و حاشا ولا وجه لهذه الكلم إلا أن تكون حروف جر فإذا كان بله زيد هنا ليس يخلو من أن يكون اسم فعل أو مصدراً أو حرفاً وليس يجوز وقوع اسم فعل هنا لما )
قدمنا ولا المصدر لأنه لم يقع عليه دلالة من حيث جاز أن تكون ما زائدة في ما عدا كان حرف جرٍ لأن حروف الجر قد وقعت في موضع الاستثناء . انتهى كلامه . وحاصله أنه استدل ل بله بكونه حرف استثناء بأن اسم الفعل لم يقع في الاستثناء فكذلك لم يكن مصدراً لأنه لا يكون مصدرٌ إلا حيث يكون اسم فعل .
____________________

ثم اعترض نفسه بما عدا زيداً وبابه فقال : يمكن أن تكون ما زائدة . قال أبو حيان في تذكرته : قلت كزنها مصدريةً أولى وبه قال سيبويه والجماعة .
وقد حكى أبو عبيدة وأبو الحسن النصب بعدها في الاستثناء . انتهى . ويريد أبو علي أنها ليست في النصب حرفاً لأنها قد جرت وليس في الاستثناء ما ينصب ويخفض إلا وهو متردد بين الحرفية والفعلية ولا يكون نصبها كنصب إلا لهذا ولأنها لا يقع بعدها المرفوع . كذلك قال أبو حيان . يريد أنها لم تخرج عن بابها وإن دخلها معنى الاستثناء . فالخفض على أنها مصدر والنصب على أنها اسم فعل . وقال الدماميني في شرحه المزج على المغني : ذهب الكوفيون والبغداديون إلى أن بله ترد للاستثناء كغير . وجمهور البصريين على أنها لا يستثنى بها . واستدل ابن عصفور بأمرين : أحدهما أن ما بعد بله لا يكون من جنس ما قبلها . ألا ترى أن الأكف في البيت ليست من الجماجم . والثاني : أن الاستثناء عبارةٌ عن إخراج الثاني مما دخل في الأول والمعنى في بله ليس كذلك . ألا ترى أن الأكف مقطوعة بالسيوف كالجماجم . وفيه نظر . أما الأول فلأنا لا نسلم أن كل استثناء يكون ما بعد الأداة فيه من جنس ما قبلها بدليل المنقطع .
وأما الثاني فلتحقق الإخراج باعتبار الأولوية . انتهى . وقد بسط القول أبو حيان في شرح التسهيل على هذه المسألة فلا بأس بإيراده هنا . قال : مذهب جمهور البصريين : لا يجوز فيما بعدها إلا الخفض . وأجاز الكوفيون والبغداديون فيه النصب على الاستثناء نحو أكرمت العبيد بله الأحرار . وإنما جعلوها استثناء لأنهم رأوا ما بعدها خارجاً عما قبلها في الوصف من حيث كان
____________________

مرتباً عليه لأن المعنى فيه : إن إكرامك الأحرار يزيد على إكرامك العبيد . والصحيح أنها ليست من أدوات الاستثناء بدليل انتفاء وقوع إلا مكانها وأن ما بعدها لا يكون إلا من جنس ما قبلها . ويجوز دخول حرف العطف عليها ولم يتقدمها استثناء . قال شيخنا ابن الضائع : ومما يضعف إدخال بله ولا سيما في أدوات الاستثناء أنهم لم يأتوا بحتى في الاستثناء .
ألا ترى أن قولهم : قام القوم حتى زيد قد أخرج زيدٌ عن القوم لصفةٍ اختص بها في القيام لم تثبت لهم فلو كان هذا المعنى حقيقة في الاستثناء للزم . ولا تذكر حتى في أدوات الاستثناء . )
انتهى . وما ذهب إليه جمهور البصريين من أنه لا يجوز فيما بعدها النصب ليس بصحيح بل النصب بعدها محفوظٌ من العرب . قال الشاعر : مشي الجواد فبله الجلة النجبا وقال جرير : ( وهل كنت يا ابن القين في الدهر مالكاً ** لغير بعيرٍ بله مهريةً نجبا ) وقال آخر :
____________________

بله الأكف كأنها لم تخلق وقد روي الرفع أيضاً بعد بله على معنى كيف . ذكره قطرب وأنكره أبو علي . وفي مختصر العين : بله بمعنى كيف وبمعنى دع . فأما الجر بعدها وهو المجمع على سماعه فذهب بعض الكوفيين إلى أنها بمعنى غير فمعنى بله الأكف غير الأكف فيكون هذا استثناءً منقطعاً .
وذهب الفارسي إلى أنها مصدر لم ينطق له بفعل وهو مضاف وهي إضافةٌ من نصب .
وذهب الأخفش إلى أنها حرف جر . وأما النصب فيكون على أنه مفعول وبله مصدر موضوع موضع الفعل أو اسم الفعل ليس من لفظ الفعل . فإذا قلت : قام القوم بله زيداً فكأنك قلت : تركاً زيداً أو دع زيداً . وأما الرفع فعلى الابتداء وبله بمعنى كيف في موضع الخبر . وقال ابن عصفور : إذا قلت : قام القوم بله زيداً إنما معناه عندنا دع زيداً وليس المعنى إلا زيداً . ألا ترى أن معنى بله الأكف دع الأكف . فهذه صفتها ولم يرد استثناء الأكف من الجماجم . قال شيخنا : هذا مناقضٌ لقوله : كأنها لم تخلق فإنما يريد إذا كان فعلها في الجماجم كذا فالأكف أحرى بذلك فكأنها لم تكن قط فيقال أنها قطعتها . فلا بين معنى لاسيما وبله . انتهى . هذا ما أورده ابن حيان . وقول الشارح المحقق : ومنه بله ما أطلعتم أي : من الاستثناء بجعله بله بمعنى سوى . وهو قطعة من حديث أخرجه البخاري في صحيحه عن أبي هريرة في تفسير سورة السجدة وهو : يقول الله تعالى :
____________________

أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه . ثم قرأ : فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعينٍ جزاءً بما كانوا يعملون . وأطلعتم ضبطه القسطلاني بضم الهمزة وكسر اللام .
قال : ولأبي الوقت : أطلعتهم بفتح الهمزة واللام وزيادة هاء بعد التاء . وأخرجه مسلم أيضاً عن أبي هريرة في كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها من صحيحه ولفظه : قال رسول الله صلى الله )
عليه وسلم : يقول الله عز وجل : أعددت لعبادي الصالحين ما لا عينٌ رأت ولا أذنٌ سمعت ولا خطر على قلب بشر ذخراً بله ما أطلعتم عليه ثم قرأ : فلا تعلم نفسٌ ما أخفي لهم من قرة أعين انتهى . وفي رواية منه : بله ما أطلعتم الله عليه . فقول القسطلاني في شرح البخاري : إن هذا الحديث من أفراد البخاري سهو مع أن ابن حجر قال : في فتح الباري : أخرج مسلمٌ الحديث كله عن أبي بكر بن أبي شيبة . قال النووي في شرح مسلم : بله معناها : دع عنك ما أطلعتكم عليه فالذي لم أطلعكم عليه أعظم . فكأنه أضرب عنه استقلالاً له في جنب ما لم يطلع عليه . وقيل معناها غير وقيل معناها كيف . وقال ابن الأثير في النهاية : بله اسم فعل بمعنى دع وقد يوضع موضع المصدر ويضاف . وقوله : ما أطلعتم عليه يحتمل أن يكون منصوب المحل ومجروره . انتهى . ورواه أبو حيان في تذكرته : بله ما قد أطلعتكم عليه وقال : يريد فدع ما أطلعتكم عليه وكيف ما أطلعتكم . وتقول العرب : إني لا أركب الخيل فكيف الحمير يريد : فدع ذكر الحمير لا تذكره . ففي هذا القول دلالةٌ على موافقة كيف معنى دع في هذه الجهة .
انتهى . ووقع في أكثر نسخ البخاري من بله ما اطلعتم عليه بزيادة من
____________________

. قال القسطلاني هي رواية أبي ذر وأبي الوقت والأصيلي وابن عساكر . قال ابن حجر : قال الصاغاني : اتفقت نسخ الصحيح على من بله والصواب إسقاط كلمة من . وتعقب بأنه لا يتعين إسقاطها إلا إذا فسرت بمعنى دع وأما إذا فسرت بمعنى من أجل أو من غير أو سوى فلا . وقد بينت في عدة مصنفاتٍ خارج الصحيح بإثبات من . وأخرجه سعيد بن منصور من طريق ابن مردويه أبي معاوية عن الأعمش كذلك . وقد فسر الخطابي الجار والمجرور بقوله : كأنه يقول : دع ما اطلعتم عليه فإنه سهل في جنب ما ادخر لهم . وهذا إنما هو لائقٌ بشرح بله بغير تقدم من عليها . وأما إذا تقدمت من عليها فقد قيل : هي بمعنى كيف ويقال : أجل ويقال بمعنى غير أو سوى وقيل بمعنى فضل . انتهى . قال ابن هشام في المغني : ومن الغريب أن في رواية البخاري من بلهٍ قد استعملت معربةً مجرورة ب من وخارجةً عن المعاني الثلاثة . وفسرها بعضهم بغير وهو ظاهرٌ . وبهذا يتقوى من يعدها في ألفاظ الاستثناء . انتهى . وكذلك قال القسطلاني : قد ثبت جر بله بمن في الفرع المعتمد المقابل على أصل اليونيني المحرر بحضرة إمام العربية أبي عبد الله بن مالك . قال الدماميني في شرح البخاري : وفي شروح المغني : نص ابن التين على أن بله ضبط بالفتح والجر وكلاهما مع وجود من . فأما الجر فقد وجهه ابن هشام . وأما توجيه الفتح مع )
وجود من فقد قال الرضي : إذا كان بله بمعنى كيف جاز أن تدخله من وعليه تتخرج هذه الرواية فتكون بمعنى كيف التي يقصد بها الاستبعاد .
____________________

و ما مصدرية وهي مع صلتها في محل رفع على الابتداء والخبر من بله والضمير من عليه عائد على الذخر أي : كيف ومن أين اطلاعكم على الذخر الذي أعددته فإنه أمرٌ قلما تتسع العقول لإدراكه والإحاطة به . انتهى .
ومثله لابن حجر قال : ووقع في المغني لابن هشام أن بله استعملت معربة مجرورة ب من وأنها بمعنى غير ولم يذكر سواه . وفيه نظر لأن ابن التين حكى رواية من بله بفتح الهاء مع وجود من فعلى هذا فهي مبنية و ما مصدرية وهي وصلتها في موضع رفع على الإبتداء والخبر هو الجار والمجرور المتقدم ويكون المراد ب بله كيف التي يقصد بها الاستبعاد . والمعنى : من أين اطلاعكم على هذا القدر الذي تقصر عقول البشر عن الإحاطة به . ودخول من على بله إذا كانت بهذا المعنى جائز كما أشار إليه الشريف في شرح الحاجبية . وأوضح التوجيهات لخصوص سياق حديث الباب أنها بمعنى غير . وذلك بين لما تأمله . انتهى . وهذا الاتفاق من الدماميني وابن حجر غريبٌ يقل وقوع مثله فإنهما وإن كانا متصاحبين لم ير كلٌّ منهما شرح الآخر على البخاري . أقول : كسرة بله يحتمل أن تكون كسرة بناء ويؤيده ما قاله أبو حيان في الارتشاف بأنه سمع في بله فتح الهاء وكسرها . والبيت الشاهد من قصيدةٍ لأبي زبيد الطائي النصراني . وقبله وهو مطلع القصيدة : ( حمال أثقال أهل الود آونةً ** أعطيهم الجهد مني بله ما أسع ) من استفهامية ومبلغٌ متعدٍّ إلى مفعولين يقال : أبلغته السلام فقومنا مفعوله الأول والنائين : جمع ناء اسم فاعل من النأي وهو البعد . وإذ ظرفٌ معناه التعليل متعلق بمبلغ .
____________________

وشحطوا بفتح الحاء يقال : شحط يشحط شحطاً من باب منع وشحوطاً وهو البعد . وشيق : مشتاق وأصله شيوق بوزن فيعل . و ولع بكسر اللام : وصفٌ من ولع بفتح اللام وكسرها يلع بفتحها مع سقوط الواو ولعاً بسكون اللام وفتحها بمعنى علق به من علاقة الحب . كذا في المصباح .
وحمال : مبالغة حامل خبر لمحذوف أي : هو حمال . وأثقال : جمع ثقل بفتحتين وهو متاع المسافر . وآونة : جمع أوان بمعنى الحين كأزمنة وزمان وهو ظرف لحمال أي : حملته في أزمانٍ كثيرة . وضمير أعطيهم لأهل الود وجمعه باعتبار معناه . والجهد بالفتح : النهاية والغاية وهو مصدر جهد في الأمر جهداً من باب نفع إذا طلب حتى بلغ غايته في الطلب . ومنه اجتهد في )
الأمر أي : بذل وسعه وطاقته في طلبه ليبلغ مجهوده ويصل إلى نهايته . والجهد أيضاً : الوسع والطاقة يفتح في لغة الحجاز ويضم في غيره . وأسع : مضارع وسع يتعدى ولا يتعدى . يقال : وسع المكان القوم ووسع المكان أي : اتسع . قال النابغة : ( تسع البلاد إذا أتيتك زائراً ** وإذا هجرتك ضاق عني مقعدي ) والسعة والوسع : الطاقة والجدة أيضا . والفعل وسع بكسر السين يسع بفتحها وأصل الفتحة الكسرة ولهذا أسقطت الواو لوقوعها بين ياء مفتوحة وكسرة ثم فتحت بعد الحذف لمكان حرف الحلق . فأسع إن كان متعدياً فما موصولة أو موصوفة والعائد محذوف أي : أسعه . وإن كان لازماً بمعنى اتسع فما مصدرية . فالجهد إن كان بالمعنى الأول فالوسع بالمعنى الثاني وبالعكس لئلا يتكرر . وظهر من هذا التقدير أن الاستثناء لا مساس له هنا وإنما المعنى على أحد الأوجه الثلاثة في البيت السابق . فالأول أني أعطيهم فوق
____________________

الوسع فتركاً للوسع أو فدع الوسع أي : ذكره أو فكيف الوسع لا أعطيه فتأمل . وأنشد بعده : وقفنا فقلنا إيه عن أم سالمٍ تقدم شرحه قبل بيتين منه . وأنشد بعده : ( مهلاً فداءٍ لك الأقوام كلهم ** وما أثمر من مالٍ ومن ولد ) وهذا أيضاً تقدم شرحه في أول الباب . وأنشد بعده
الشاهد الثامن والخمسون بعد الأربعمائة ( ألا حييا ليلى وقولا لها هلا ** فقد ركبت أمراً أغر محجلا ) على أن هلا فيه اسم فعل بمعنى أسرعي .
____________________

المعروف أنها زجرٌ للدابة لتذهب فتكون من أسماء الصوت كما فسره هو بهذا في باب الصوت . قال صاحب الصحاح : هلا : زجرٌ للخيل أي : توسعي وتنحي . قال : وأي جوادٍ لا يقال له هلا وللناقة أيضاً وقال : حتى حدوناها بهيدٍ وهلا وهما زجران للناقة وقد تسكن بها الإناث عند دنو الفحل منها . قال : ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى . فقد عكس الشارح كما ترى ففسرها بأسرعي دون اسكني . وقال ابن الأثير في النهاية في شرح حيهلا من حديث ابن مسعود : إذا ذكر الصالحون فحيهلا بعمر قال : أي : أقبل به وأسرع وهي كلمتان جعلتا كلمة واحدة فحي بمعنى أقبل وهلا : بمعنى اسكن عند ذكره حتى تنقصي فضائله . انتهى .
____________________

فهلا من حيهلا إما بمعنى أسرع وإما بمعنى اسكن لأنها تأتي للمعنيين كما قال الشارح . وكأنه رحمه الله أخذ كلامه من هنا لكنه لم ينعم النظر . وأورده الزمخشري في مفصله قال : ويستعمل حي وحده بمعنى أقبل وهلا وحده . وأنشد البيت .
والبيت أول أبياتٍ للنابغة الجعدي الصحابي هجا بها ليلى الأخيلية . وبعده : ( بريذينةٌ بل البراذين ثفرها ** وقد شربت في أول الصيف أيلا ) ( وقد أكلت بقلاً وخيماً نباته ** وقد نكحت شر الأخايل أخيلا ) ( وكيف أهاجي شاعراً رمحه استه ** خضيب البنان لا يزال مكحلا ) وقوله : ألا حييا أي : ابلغاها تحيتي على طريق الهزء والسخرية . وروي : ألا أبلغا أمر مخاطبين بالتبليغ أو واحداً إما بتقدير الألف مبدلة من نون التوكيد الخفيفة . وإما من قبيل خطاب الرجل صاحبه بخطاب الاثنين على عادتهم . وهلا هو المحكي بالقول . وقوله : فقد ركبت إلخ أراد أنها ركبت بسبب التعرض لي أمراً واضحاً ظاهراً لا يخفى . وهذا يقال في كل شيء ظاهرٍ عرف كما يعرف الفرس الأغر المحجل . ومنه قول الشاعر : )
____________________

( وأيامنا معروفةٌ في عدونا ** لها غررٌ معروفةٌ وحجول ) وروي : لقد ركبت أيراً بالمثناة التحتية بدل الميم وهو تحريف من الكتاب . وقوله : ذري عنك إلخ ذري : اتركي . وتهجاء بالفتح : مصدر لمبالغة الهجاء . وأذلقي أي : أير أذلقي . والأذلق : السنان المسنون المحدد . قال صاحب العباب : ذلق السنان بالكسر يذلق ذلقاً أي : صار حديداً فهو ذلق وأسنةٌ ذلق . وقال العيني : أذلقي أي : رجلٌ فصيح متقن . وهذا لا مناسبة له هنا . ومثله لبعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح قالا : أذلقيٌّ أي : فصيح يقال : فلانٌ ذلق اللسان أي : طليقه . والأذلقي مبالغة . انتهى .
وروي : أذلغي بدل أذلقي بذال وغين معجمتين بينهما لام . قال صاحب العباب : وقال للذكر أذلغ وأذلغيٌّ ومذلغ بكسر الميم . والأذلغي : منسوب إلى بني أذلغ : قومٌ من بني عامر يوصفون بالنكاح . قال ابن الكلبي : الأذلغ هو عوف بن ربيعة بن عبادة وأمه من ثمالة . وقال الأزهري : الذكر يسمى أذلغ إذا اتمهل فصارت تومته مثل الشفة المنقلبة . ويقال : رجل أذلغ إذا كان غليظ الشفتين . وذلغ جاريته إذا جامعها . انتهى . والفيشل بفتح الفاء : رأس الذكر ومثله الفيشلة .
كذا في العباب . وقال العيني : الفيشل : الذكر العظيم الكمرة . ولم أره بهذا المعنى . وقوله : برذينة حك البراذين إلخ مصغر البروذنة . قال المطرزي : البرذون : التركي من الخيل وهو خلاف العراب . وقال ابن الأنباري : البرذون يقع على
____________________

الذكر والأنثى وربما قالوا في الأنثى بروذنة كذا في المصباح . والثفر بفتح المثلثة وسكون الفاء . قال صاحب المصباح : الثفر مثل فلسٍ للسباع وكل ذي مخلب منزلة الفرج والحيا للناقة . وربما استعير لغيرها . وقوله : وقد شربت من آخر إلخ الأيل بضم الهمزة وتشديد الياء المفتوحة : جمع آيل كقارح وقرح والآيل : اللبن الخاثر . وقيل اسم جمع له يقال : آل اللبن يؤول أولاً إذا خثر . وأراد ألبانا أيلاً فحذف الموصوف . وقيل : هو أيل بفتح الهمزة كسرها وتشديد الياء المكسورة وهو الذكر من الأوعال . والأنثى أيلة وأروية .
والأيل هو ذو القرن الأشعب مثل الثور الأهلي وإنما سمي أيلاً لأنه يؤول إلى الجبال يتحصن فيها .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : أراد لبن أيل فحذف المضاف وخصه دون غيره لأنه يهيج الغلمة . وقال صاحب العباب : قال شمر : هو لبن الأيايل . قال أبو الهيثم : هذا محالٌ ومن أين يوجد ألبان الأيايل . وقال أبو نصر : هو البول الخاثر من أبوال الأروى إذا شربته المرأة اغتلمت . وهو يغلم أي : يقوي على النكاح . وقوله : إذا أكلت بقلاً وخيماً إلخ الوخيم : الثقيل . )
ونكحت : تزوجت من باب ضرب . والأخايل : جمع أخيل قال صاحب العباب : بنو الأخيل : حيٌّ من بني عقيل رهط ليلى الأخيلية . وقولها : ( نحن الأخايل ما يزال غلامنا ** حتى يدب على العصا مذكورا ) وإنما جمعت القبيلة باسم الأخيل بن معاوية العقيلي . انتهى
____________________

. أراد أنها تزوجت بأشر بني أخيل . وأخيل : صفة لشر لتأويله بمشؤوم فإن الأخيل هو الشقراق والعرب تتشاءم به . وقوله : وكيف أهاجي شاعراً إلخ أي : كيف أهاجي امرأةً بهذه الصفات . والاستفهام إنكاريٌَ . أي : لا أهجو استنكافاً ممن بهذه الصفة . وسبب هجو النابغة لليلى أنه كان يهاجي زوجها سوار بن أوفى القشيري فاعترضت ليلى بينهما فهجت النابغة بشعر فهجاها بهذا الشعر فهجته بقصيدةٍ منها هذه الأبيات : ( أنابغ إن تنبغ بلؤمك لا تجد ** للؤمك إلا وسط جعدة مجعلا ) ( أعيرتني داءً بأمك مثله ** وأي حصان لا يقال لها : هلا ) ( تساور سواراً إلى المجد والعلا ** وفي ذمتي لئن فعلت ليفعلا ) فغلبته ولهذا صار النابغة معدوداً من المغلبين . هذه هو الصحيح في الرواية كما في الأغاني وفي شرح شواهد إصلاح المنطق لا العكس كما قاله ابن هشام في شرح الشواهد وتبعه العيني وغيره . ثم إنها وفدت إلى الحجاج بن يوسف فأعطاها ما سألت ثم قال لها : ألك حاجة بعد هذا قالت : نعم تدفع إلي النابغة الجعدي . قال : قد فعلت . فلما بلغ النابغة فعل الحجاج به خرج هارباً إلى عبد الملك بن مروان عائذاً به فاتبعته إلى الشام فهرب إلى قتيبة بن مسلم بخراسان فاتبعته بكتاب الحجاج إليه فماتت
____________________

بقومس . وقال ابن قتيبة : بساوة وقبرت هناك .
وقولها : أنابغ إلخ الهمزة للنداء . ونابغ : مرخم نابغة وهو لقبٌ والهاء للمبالغة . يقال : نبغ الرجل إذا لم يكن في إرث الشعر ثم قال وأجاد ومنه سمي الشعراء من النوابغ وهم ثمانية . واسم الجعدي قيس بن عبد الله . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة . ونبغ ينبغ بفتح الباء في الماضي وبتثليثها في المضارع إذا ظهر وعلا . وقولها : ولم تك أولا أي : لم تكن أول من قال شعراً وليس لك قدمٌ فيه . والصني : مصغر صنو بكسر الصاد المهملة وسكون النون وهو حسيٌ صغير لا يرده أحد ولا يؤبه له يقال : هو شقٌ في الجبل . كذا في الصحاح .
وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب : الصني : شعب ضيق بين الجبال وقيل : هو الرماد )
وقيل : هو الشيء الحقير الذي لا يلتفت إليه . والحسي بكسر الحاء وسكون السين المهملتين وهو الماء المتواري في الرمل . قال ابن السيرافي في شرح أبيات إصلاح المنطق : لم تنبغ : لم تعل ولم تذكر . والصني : الحسي الصغير تريد أنه بمنزلة الحسي كهذا الماء الذي بين جبلين لا يريده أحد . وجهلاً نعت لصني . والصد بضم الصاد وفتحها ويقال : سد بالسين كذلك هو الجبل .
والمجعل : مصدرٌ ميمي . بمعنى الجعل أي : لم تجد من يجعلك شريفاً إلا قومك . وقولها : أعيرتني داءً أي : أنسبتني إلى العار وهو كل شيء يلزم منه عيبٌ أو سبة يتعدى إلى المفعول الثاني بنفسه كما هنا . وبالباء أيضاً . قال المرزوقي في شرح الحماسة : المختار أن يتعدى بنفسه .
والحصان بالفتح : المرأة العفيفة . وروي بدله : وأي جواد وهو الفرس الجيدة . وقولها : تساور سواراً إلخ تساور : تواثب وتغالب .
____________________

وسوار قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو سوار بن أوفى القشيري . وكان زوجها . وصحفه بعضهم ورواه : تسور سوار والصواب ما رويناه .
وهذا البيت أورده سيبويه في كتابه على الألف في ليفعلا أصلها نون التوكيد الخفيفة قلبت ألفاً .
واللام في لئن موطئة القسم واللام الثانية في جواب القسم المقدر وجملة : يفعلا جواب القسم وجواب الشرط محذوف وجوباً وفي ذمتي خبر مبتدأ محذوف أي : في ذمتي القيام بما أدعيه لسوار من أن يغلبك والله لئن فعلت ليفعلن أي : لئن واثبته ليواثبنك ويغلبنك . وقال أبو علي في إيضاح الشعر قوله : وفي ذمتي قسم وجوابه ليفعلن . فإن قلت : إن في قوله : وفي ذمتي ليس بكلام مستقل والقسم إنما هو جملة . قلت : أنه أضمر في الظرف اليمين أو القسم لدلالة الحال عليه كما أضمر قي قوله سبحانه : ثم بدا لهم الفاعل وصار ليسجننه كالجواب لأن بدا بمنزلة علم وذاك أنه علمٌ . ومن لم يرفع بالظرف فينبغي أن يكون المبتدأ عنده محذوفاً . ويبين ذلك قولهم : علي عهد الله لأفعلن . انتهى . المبتدأ وجوباً إذا كان خبره صريحاً في القسم كقولهم : في ذمتي لأفعلن أي : في ذمتي يمين . وأنشد هذا البيت . وإنما عده صريحاً لأنه اشتهر استعماله في القسم وبه يسقط قول من قال كما نقله العيني : يحتمل أن يكون : في ذمتي دينٌ أو عهدٌ فلا يفهم القسم إلا بذكر المقسم به
____________________

. وأنشد بعده : قدني من نصر الخبيبين قدي وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثالث بعد الأربعمائة . وأنشد بعده
الشاهد التاسع والخمسون بعد الأربعمائة ( ومتى أهلك فلا أحفله ** بجلي الآن من العيش بجل ) على أن بجل كان في الأصل مصدراً بمعنى الاكتفاء ثم صار اسم فعل بمعنى الأمر فإن اتصل به الكاف كان معناه اكتف أمر مخاطب حاضر . وإن اتصل به الياء كان معناه لأكتف أمر متكلم نفسه كما أن قد و قط كذلك . ففيه ضمير مستتر وجوباً تقديره في الأول : أنت وفي الثاني أنا . ومثله في المفصل للزمخشري : أن قدك و قطك بمعنى اكتف وانته . ولم يذكر معهما بجل . وكونها موضوعةً لهذا المعنى هو المتبادر الظاهر من موارد استعمالها والمطرد في كل موضع أتت فيه .
____________________

وذهب ابن مالك في التسهيل إلى أن الثلاثة موضوعةٌ لأكتفي فعلاً مضارعاً للمتكلم . وهو قريبٌ مما قالاه . وقال أبو حيان في الارتشاف : وأما بجل فقد ذكروا أنها اسم فعل والياء في موضع نصب بمعنى كفاني أو يكفيني . وإذا لم تلحق فهي بمعنى حسب . واقتصر المرادي في الجنى الداني وابن هشام في المغني وغيرهما على أنها موضوع ليكفي فعلاً مضارعاَ غائباً . وهذا يحتاج إلى فاعل ظاهر . ولا يتيسر فيه بجلي الآن ولا في قول طرفة بن العبد . وقد أورده ابن هشام في المغني : ألا بجلي من الشراب ألا بجل لعدم وجوده . ولما رأوا أن لا فاعل اضطروا إلى جعل بجل في البيتين بمعنى حسب وأثبتوا معنًى ثانياً لها . ولا ضرورة تدعو إليه ولهذا لم يذكر الشارح المحقق معنى حسب أصلاً حسماً للانتشار من غير فائدة . فإن قلت : إن علماء اللغة المتقدمين كالأزهري وابن دريد والجوهري وغيرهم إنما قالوا : بجل بمعنى حسب ولم يتعرضوا لمجيئها اسم فعل فما وجهه قلت : هو راجعٌ إليه وإنما عبروا بحسب لقرب المعنى تيسيراً للفهم . وهم يتساهلون في تفسير بعض الألفاظ . ولما كان غرض النحويين متعلقاً بأحكام الألفاظ دققوا النظر فبينوا حقيقتها وفسروها بالفعل وسموها اسم فعل . ولا يصح أن تكون موضوعةً بمعنى حسب لأن كلاًّ منهما لا يستعمل استعمال الآخر .
____________________

أما حسب فإنها اسمٌ معرب متصرف يقع مبتدأ وخبراً وحالاً ومجروراً ويدخل عليها العوامل اللفظية . وبجل إلى خلاف هذا وإثبات هذه الأمور لها دونه خرط القتاد . وأما بجل فإن نون الوقاية تلحقها وحسب لا تلحقها ولا في الندرة . وقد أخذ ابن مالك بظاهر كلام أهل اللغة فأثبت مجيء بجل بمعنى حسب . وحسب ليست اسم فعل )
لدخول العوامل عليها ولم يصب من عدها من أسماء الأفعال كالقواس في شرح ألفية ابن معطي ولا يجب لحاق نون الوقاية لبجل مع الياء بل يجوز بمرجوحية . قال الشارح المحقق هنا : وتجب نون الوقاية في قد و قط دون بجل في الأعراف لكونهما على حرفين دونه . وقال في باب المضمر : وكذا الحذف في بجل أولى من الإثبات وإن كان ساكن الآخر مثل قد و قط لكراهة لام ساكنة قبل النون وتعسر النطق بها . ومثله لابن هشام في المغني : أن لحاق النون لبجل إذا كان اسم فعل نادر . وكذا حال جميع أسماء الأفعال يجوز إلحاق نون الوقاية وتركها . قال الشارح المحقق في باب المضمر : يجوز إلحاق نون الوقاية في أسماء الأفعال لأدائها معنى الفعل ويجوز تركها أيضاً لأنها ليست أفعالاً في الأصل . حكى يونس : عليكني وحكى الفراء : مكانكني . انتهى .
وكذا قال الشاطبي في شرح الألفية : حكى سيبويه في أسماء الأفعال عليكني وعليكي . بل ينبغي أن يكون إلحاق النون لاسم الفعل كالفعل من كل وجه فكما تقول تراكها : تقول تراكني وفي رويد : رويدني وفي هلم الحجازية : هلمني . وكذلك سائر أسماء الأفعال المتعدية . وقد نص ابن مالك في شرح التسهيل على جواز إلحاق النون في اسم الفعل مطلقاً . انتهى .
____________________

وزعم ابن هشام في شرح الألفية وفي الجامع الصغير وغيرهما أن لحاقها لاسم الفعل واجب . وحينئذٍ يرد عليه ما استشكله الدماميني في شرح المغني قال : هذا مشكل لأنها حيث تكون اسم فعل بمعنى يكفي فالنون واجبة لا نادرة . نعم إذا كانت بمعنى حسب جاز الأمران إلا أن ترك النون أعرف من إثباتها فندور : بجلني بالنون إنما هو إذا كانت بمعنى حسب لا بمعنى يكفي . هذا كلامه .
وتابعه عليه الشمني وناقشه بشيء لا طائل تحته . وقد لفق بين كلاميهما ابن الملا على عادته ولم يأت بشيء . وقول الشارح المحقق : إلا أن الضمير قد يحذف من بجل بخلاف قد و قط يعني قد تستعمل مجردة من إلحاق ضمير المتكلم أو المخاطب كما في البيت فإن بجل الثانية تأكيد للأولى ألا بجلي من الشراب ألا بجل وكذلك قول بعض أهل البصرة في يوم الجمل : ردوا علينا شيخنا ثم بجل يريد : ثم بجلكم أي : كفوا وانتهوا . وزعم العيني أن بجل الثانية حرفُ بمعنى نعم ومع هذا فهي تأكيد لبجل الأولى . وفيه أن الحرف لا يؤكد الاسم لتغايرهما بالنوعية . وقول الشاعر : ومتى أهلك إلخ متى : جازمة . وأهلك شرط ولهذا جزم . وجملة : لا أحفله في محل جزم جواب )
الشرط . وهلك الشيء من باب ضرب وكذلك حفل من باب ضرب .
____________________

قال صاحب العباب : وحفلت كذا أي : باليت به . ويتعدى بالباء أيضاً وهو الكثير . يقال : حفلت بفلان إذا قمت بأمره ولا تحفل بأمره أي : لا تبال به ولا تهتم به . واحتفلت به : اهتممت به . وضمير أحفله راجعٌ إلى الهلاك المفهوم من أهلك . وهذا البيت من قصيدةٍ للبيد بن ربيعة الصحابي ذكر فيها أيامه ومشاهده وما جرى له عند النعمان بن المنذر ملك الحيرة والتأسف على موته . إلى أن قال : فمتى أهلك فلا أحفله البيت وبعده : ثم رثى أخاه لأمه أربد لموته بصاعقةٍ نزلت به بدعاء النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان جاء مع عامر بن الطفيل قاتلهما الله للغدر بالنبي صلى الله تعالى عليه وسلم . وهذه القصيدة قالها قبل إسلامه . وتقدم شرح أبياتٍ منها في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين . وترجمته تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة . وقوله : من حياة بدل من قوله : من العيش في البيت السابق .
____________________

وأنشد بعده
الشاهد الستون بعد الأربعمائة ( أنشأت أسأله ما بال رفقته ** حي الحمول فإن الركب قد ذهبا ) على أن حي جاء متعدياً بمعنى : ائت الحمول جمع حمل بالكسر . وهذه رواية الجوهري في الصحاح وكذا رواه خطاب بن يوسف في كتاب الترشيح وقال : أخذ يسأل غلامه : ما بال الرفقة وأين أخذت ثم قال له : حي الحمول يا غلام أي : ائتها وحثها . انتهى . نقله عنه أبو حيان في التذكرة . وقد روى البيت أبو علي في كتاب إيضاح الشعر والسهيلي في الروض الأنف هكذا : ( أنشأت أسأله عن حال رفقته ** فقال : حي فإن الركب قد ذهبا ) وعليه فليس بمتعد . ورواه الأخفش أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي في كتاب المعاياة : وقال : أراد بقوله : حيهل فنقصه . والرفقة بضم أولها وتكسر . وجعل الركب بمنزلة الواحد .
اه . أي : بالنظر إلى قوله ذهب الإفراد ولو كان راعى معناه لقال : ذهبوا . وقال ابن أبي الربيع : حي تستعمل مركبة وغير مركبة . فإن كانت غير مركبة كانت بمنزلة أقبل فتتعدى بعلى وإذا كانت مركبة كانت متعدية بمنزلة ائت . انتهى .
____________________

وقوله : أنشأت أي : شرعت أسأل غلامي كيف أخذ الركب . والبال : الحال والشأن . والرفقة قال صاحب المصباح : هي الجماعة ترافقهم في سفرك فإذا تفرقتم زال اسم الرفقة . وهي بضم الراء في لغة تميم والجمع رفاق مثل برمة وبرام وبكسرها في لغة قيس والجمع رفقة مثل سدرة وسدر . وقوله : حي الحمول مقول لقول محذوف أي : فقال : حي الحمول وهو مصرح به في رواية غير الجوهري . قال صاحب المصباح : وراكب الدابة جمعه ركب مثل صاحب وصحب وركبان . انتهى . وقال ابن قتيبة في أدب الكاتب : الركب : أصحاب الإبل وهم العشرة ونحو ذلك . قال ابن السيد في الاقتضاب : هذا الذي قاله ابن قتيبة قاله غير واحد . وحكى يعقوب عن عمارة بن عقيل قال : لا أقول راكب إلا لراكب البعير خاصة وأقول لغيره قارسٌ وبغال وحمار . ويقوي هذا الذي قاله قول قريط العنبري : ( فليت لي بهم قوماً إذا ركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا ) والقياس يوجب أن هذا غلط والسماع يعضد ذلك . ولو قالوا إن هذا هو الأكثر في الاستعمال لكان لقولهم وجه . وأما القطع على أنه لا يقال راكب ولا ركب إلا لأصحاب الإبل خاصة فغير )
صحيح لأنه لا خلاف بين اللغويين في أنه قال : ركبت الفرس وركبت البغل
____________________

وركبت الحمار .
واسم الفاعل من ذلك راكب وإذا كثرت الفعل قلت : ركاب وركوب . وقد قال الله تعالى : والخيل والبغال والحمير لتركبوها فأوقع الركوب على الجميع . وقال امرئ القيس : ( إذا ركبوا الخيل واستلأموا ** تحرقت الأرض واليوم قر ) وقال زيد الخيل الطائي : ( وتركب يوم الروع فيها فوارسٌ ** بصيرون في طعن الأباهر والكلى ) وهذا كثير في الشعر وغيره . وقد قال الله تعالى : فرجالاً أو ركباناً . وهذا اللفظ لا يدل على تخصيص شيء بشيء بل اقترانه بقوله فرجالاً يدل على أنه يقع على كل ما يقل على الأرض .
ونحوه قول الراجز : ( بنيته بعصبةٍ من ماليا ** أخشى ركيباً أو رجيلاً عاديا ) فجعل الركب ضد الرجل وضد الرجل يدخل فيه راكب الفرس وراكب الحمار وغيرهما .
____________________


وقول ابن قتيبة أيضاً : إن الركب العشرة ونحو ذلك غلطٌ آخر لأن الله تعالى قال : والركب أسفل منكم يعني مشركي قريش يوم بدر وكانوا تسعمائة وبضعة وخمسين . والذي قاله يعقوب في الركب هم العشرة فما فوقها . وهذا صحيحٌ وأظن أن ابن قتيبة أراد ذلك فغلط في النقل .
انتهى . وقبل البيت الشاهد : ( تعدو بنا شطر جمعٍ وهي عاقدةٌ ** قد قارب العقد من إيفادها الحقبا ) وتعدو أي : الناقة من العدو وهو ما قارب الهرولة وهو دون الجري . وبنا أي : بي وبغلامي فإنه كان زميلي على الناقة . والشطر هنا بمعنى الجهة . وجمع : اسم المزدلفة . وسميت به إما لأن الناس يجتمعون بها وإما لأن آدم اجتمع هناك بحواء . والعاقدة : الناقة التي قد أقرت باللقاح لأنها تعقد بذنبها فيعلم أنها حملت . وقيل : العاقدة : التي تضع عنقها على عجزها .
والإيفاد : الإسراع مصدر أوفد بالفاء أي : أسرع . والحقب بفتح المهملة والقاف : حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله أي : ذكره كي لا يجتذبه التصدير . تقول منه : أحقبت البعير .
وروي أيضاً : ( تعدو بنا شطر جمعٍ وهي موفدةٌ ** قد قارب الغرض من إيفادها الحقبا ) وموفدة : اسم فاعل بمعنى مسرعة من الإيفاد المذكور . والغرض بفتح الغين المعجمة وسكون )
الراء المهملة بعدها ضاد معجمة ويقال له : غرضة بالضم وهو التصدير وهو للرجل بمنزلة الحزام للسرج والبطان للقتب . يقول : قد لوت عنقها وعسرت بذنبها وتخامصت ببطنها فقري كل واحد من
____________________

الغرض والحقب من صاحبه وذلك من شدة السير . والبيتان من قصيدة لابن أحمر . كذا أورد البيتين السهيلي في الروض الأنف : قال الحافظ مغلطاي في حاشيته عليه : وفيه نظر من حيث أن الذي في ديوان ابن أحمر أن ذلك البيت بعد قوله : ( قالوا : عيينا فابدري وقد زعموا ** أن قد مضى منهم ركبٌ فقد نصبا ) ( إما الجبال وإما ذو المجاز وإ ** ما في منًى سوف تلقى منهم سببا ) ( وافيت لمل أتاني أنها نزلت ** إن المنازل مما يجمع العجبا ) ( ثم ارتمينا بقولٍ بيننا دولٍ ** بين الهباءين لا جداً ولا لعباً ) ( في طمية الناس لم يشعر بنا أحدٌ ** لما اغتنمنا جبال الليل والصخبا ) ( حتى أتيت غلامي وهو ممسكها ** يدعو يساراً وقد جرعته غضبا ) أنشأت أسأله ما بال رفقته . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى . وهو شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة الأموية . وهجا يزيد بن معاوية فأراد يزيد أن يأخذه ففر منه ولم يقدر عليه . قال الجواليقي في شرح أدب الكتاب : هو عمرو بن أحمر من باهلة وهو أحد عوران قيس وهو خمسة شعراء : تميم بن أبي بن مقبل والراعي والشماخ وابن أحمر وحميد بن ثور .
____________________

وقال ابن الشجري في أماليه : هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن معن بن مالك بن أعصر بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر . وكان من شعراء الجاهلية وأدرك الإسلام . وأورد الآمدي في المؤتلف والمختلف من يقال له ابن أحمر أربعة وقال : منهم عمرو بن أحمر الباهلي . قال ابن حبيب : هو عمرو بن أحمر بن العمرد بن عامر بن عبد شمس بن عبد بن قدام بن فراص بن معن الشاعر الفصيح كان يتقدم شعراء أهل زمانه .
وقد ذكرت حاله وأشعاره مع الشعراء المشهورين . انتهى . وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة وقال : قال المرزباني : هو مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام فأسلم وغزا مغازي في الروم وأصيب بإحدى عينيه هناك ونزل الشام وتوفي على عهد عثمان بعد أن بلغ سناً عالية . وقال أبو الفرج : كان من شعراء الجاهلية المعدودين ثم أسلم وقال في الجاهلية والإسلام شعراً كثيراً ومدح الخلفاء الذين أدركهم ولم يلق أبا بكر ومدح عمر فمن دونه إلى )
عبد الملك بن مروان . وهذا يخالف قول المرزباني : إنه في عهد عثمان . وأنشد بعده الشاهد الحادي والستون بعد الأربعمائة
____________________

( يتمارى في الذي قلت له ** ولقد يسمع قولي حيهل ) على أن لبيداً سكن اللام للقافية فلا يجوز تسكين اللام في غير الوقف . تبع الشارح المحقق في هذا صاحب الصحاح فإنه قال : وأما حي هلا بلا تنوين فإما تجوز في الوقف وأما في الإدراج فإنها لغة رديئة . وأما قول لبيد يذكر صاحباً له في السفر كان أمره بالرحيل : يتمارى في الذي قلت له . . . . . . . . . . . . . . البيت فإنما سكنه للقافية . وأصله من كتاب الأصول لابن السراج قال : وأما حيهل فإذا وقفت فإن شئت قلت : حيهل بالسكون وإن شئت قلت : حيهلا تقف على الألف كما وقفت في أنا .
انتهى . وتبعه أبو علي في إيضاح الشعر وسيأتي كلامه . والصحيح أن تسكين اللام لغةٌ سواء كان في الوقف أم في الدرج . قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : حيهل وحيهلا وحي على يقال في الاستسراع والاستحثاث . وقال زكريا الأحمر : في حيهل ثلاث لغات : يقال : حيهل بفلان بجزم اللام وحيهل بفلان بحركة اللام وحيهلاً بفلان بالتنوين . وقد يقولون من غير هل من ذلك : حي على الصلاة . انتهى . فهل تكون لغةً في هلا كما قال ابن جني في الخصائص عند الكلام على هلم . وهو : قال الفراء : أصل هلم هل زجر وحثٌ دخلت على أم كأنها كانت : هل أم أي : اعجل واقصد . وأنكر أبو علي عليه ذلك وقال : لا مدخل هنا للاستفهام . وهذا عندي لا يلزم
____________________

الفراء لأنه لم يدع أن هل هنا حرف استفهام وإنما هي عنده زجر وهي التي في قوله : ولقد يسمع قولي حيهل قال الفراء : فألزمت الهمزة في أم التخفيف فقيل : هلم . انتهى . وقال ابن عصفور : أن حيهلا مركبة من حي و هلا إلا أن ألف هلا تحذف في بعض اللغات تخفيفاً . وهذا البيت من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي وقد شرحناه مع أبيات قبله في الشاهد الثامن والعشرين بعد المائتين . والتماري : المجادلة ومثله الامتراء وهما من المرية بالكسر وهي الشك وحيهل : بمعنى أسرع . وقول الشارح المحقق : وفي الكتاب الشعري لأبي علي : حيهل بكسر اللام وتنوينه أراد به كتاب إيضاح الشعر فإنه يعبر عنه تارة بالأول وتارة بالثاني وتارة بكتاب الشعر . وهذا نصه فيه . وقد وصلوها بهل فقالوا : حيهل . وزعم أبو الخطاب أن بعضهم يقول حي هل الصلاة . )
وقال أبو زيد : حي هل وحي هل وحي هلاً . والقول في حي هلٍ أن التنوين دخله للتنكير كما دخل في صهٍ ونحوها . وكأنه قدر فيه الإسكان كأنه قال : حي هل على الوقف كما قال لبيد : ولقد يسمع قولي حيهل فكسر اللام كما كسر الذال في يومئذ . ولا يجوز أن تكون حركة اللام للإضافة لأن هذه الأسماء التي سميت بها الأفعال لا تضاف ألا ترى أنه قال : جعلوها بمنزلة النجاك أي : لم يضيفوها إلى المفعول كما أضافوا المصادر وأسماء الفاعلين إليه .
____________________

ويجوز أن يكون لما نكر حرك بالكسر ليكون على لفظ غيره من أمثاله من النكرات نحو صهٍ وإيهٍ ولما جرى في كلامهم غير مضاف لإجرائهم إياه مجرى الفعل لنصبهم الأسماء المخصوصة بعده لم يستجيزوا إضافتها إلى المفعول به فيكون ما لم يجعل بمنزلة الفعل على حد ما جعل من هذه الأسماء بمنزلته . ألا ترى أن الأسماء لم تجعل بمنزلة الفعل مفردة حتى ينضم إليها جزء آخر وإن كان فيها ضمير لأن الضمير الذي في اسم الفاعل لما لم يظهر في أكثر أحواله صار لا حكم له فإذا لم يضيفوا هذا الباب لأن إضافته يخرج بها عن الحد الذي استعملت عليه علمت أن الكاف في حيهلك للخطاب لا لضمير الاسم . وإذا كان كذلك علمت أن الكاف فيه مثل الهاء في : ههناه وهؤلاء في أنها لحقت الألف لتبينها لما لم يلتبس بالإضافة . فكذلك الكاف في حيهلك لحقت للخطاب حيث لم يجز لحاق التي تكون اسماً في هذا الموضع كما لم تلحق الهاء التي لحقت في ههناه أفعاه ونحوها .
والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين ولا يكون في كل واحد منهما ضميرٌ كما كان في حي على الصلاة ضمير لأن الاسمين جعلا بمنزلة اسم واحد كما أن خمسة عشر بمنزلة مائة . فكما أن خمسة عشر حكمه حكم المفرد كذلك حي هل حكمه حكم المفرد .
وإذا كان كذلك كان متضمناً ضميراً واحداً . ويدلك على ضم الكلمة الثانية إلى الأولى قول ابن أحمر : انتهى . وعلم من قوله : والضمير الذي في حيهل ينبغي أن يكون في مجموع الاسمين أن ما نقله الشارح المحقق عنه وعن أبي علي حالهما مع التركيب في احتمال الضمير كحال حلو حامض إلى آخر ما نقله مخالفٌ لما هنا ولعله نقله عنه من كتابٍ آخر له . والله أعلم .
____________________

ونقل أبو حيان في الارتشاف عن النهاية لابن الخباز قيل : في حي و هلا : ضميران لأنهما في الأصل اسما فعل )
أمر فكل واحدٍ منهما يستحق الضمير وقيل : فيهما ضميرٌ واحد لأنهما بالتركيب صارا كالكلمة الواحدة . ويدل على ذلك أن حي و هل لا يتعديان فلما ركبا تعديا فدل على أن حكم الإفراد قد زال . وقوله : يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله أضافه إلى الضمير وأعربه . انتهى . وحاصل ما ذكر الشارح من لغات حيهل ثمانية : أولها : حيهل بحذف الألف وإبقاء فتح اللام . قال ابن عصفور في شرح إيضاح أبي علي : إذا وقفت عليها في هذا الوجه جاز أن تقف بالسكون وأن تقف بالألف لتبين حركة المبني في الوقف .
ثانيها : حيهل بسكون الهاء وفتح اللام بلا تنوين . ثالثها : حيهلاً بفتح الهاء والتنوين . رابعها : حيهلاً بسكون الهاء والتنوين . ولا ينبغي أن يعد المنون من اللغات إذ التنوين في اسم الفعل للتنكير . وإذا كان غير منون فهو معرفة فإن المجرد من التنوين غير المنون . قال أبو حيان في الارتشاف : ولا يكون المنون إلا بمعنى ائت . ويرد عليه : فحيهلاً بعمر فإنه بمعنى أسرع بذكره .
____________________


خامسها : حيهلا في الوقف بفتح الهاء وسمون الألف وحذف التنوين فيهما . وقال ابن عصفور : هذه اللغة تكون في الوقف والوصل . ولم يقيد كونها رديئة في الوصل كما قيد الشارح المحقق تبعاً لصاحب الصحاح . وقال ابن أبي الربيع : منهم من يقول : حيهلا في الوصل والوقف لأن هلا صوت أو لأنه من إجراء الوصل مجرى الوقف أو لأن منهم من يقول حيهل بالسكون في الوصل فإذا وقف وقف بالألف فتكون الألف عوضاً من هاء السكت كألف أنا . وكذلك قال أبو حيان في الارتشاف : إن حيهلا بإثبات الألف تكون وصلاً ووقفاً كما قال الشاعر : بحيهلا يزجون كل مطيةٍ سادسها : حيهل بسكون اللام في الوقف . وأطلق أبو حيان تبعاً لابن عصفور سواء كان في الوقف أم الوصل . وقال الراعي في شرح الألفية ذكر سيبويه في حيهل ثلاث لغات : فتح اللام بلا تنوين وفتحها مع التنوين وفتحها مع الإشباع . وزاد ابن سيده تسكين اللام . قيل : وما سمع منه لا حجة فيه لاحتمال أن يكون للوقف . انتهى . وفيه ما تقدم عن كتاب النبات . وهذا نص سيبويه : من العرب من يقول حيهل إذا وصل وإذا وقف أثبت الألف . ومنهم من لا يثبت الألف في الوقف والوصل . انتهى . سابعها : حيهلٍ بكسر اللام والتنوين . وظاهره أن الهاء في هذه اللغة يجوز سكونها أيضاً .
____________________

ثامنها : حيهلك بفتح اللام وإلحاق الكاف التي هي حرف خطاب . ولم )
أعرف هل يجري مع الكاف سكون الهاء أيضاً أم لا قال ابن عصفور : وتستعمل في جميع ذلك متعدية بنفسها وبإلى وبعلى وبالباء . فإذا تعدت بنفسها كانت بمعنى ائت وإذا تعدت بإلى أو بعلى كانت بمعنى أقبل وإذا تعدت بالباء كانت بمعنى جئ . انتهى . وقول الشارح المحقق : إن الباء للتعدية كذهبت به فيه أنهم ذكروا أن باء التعدية في ذهبت به غير التعدية المشهورة وذلك أن مدخولها يكون فاعلاً في المعنى كقوله تعالى : ذهب الله بنورهم أي : جعله ذاهباً فهي تساوي همزة التعدية . وهذا المعنى لا يجري هنا . وقول الشارح المحقق : وقد تركب حي مع هلا إلخ قال ابن عصفور : إذا ركبت حي مع هلا فالأكثر أن تستعمل لاستحثاث العاقل تغليباً لحي . ومنهم من يغلب هلا فيستعملها لاستحثاث غير العاقل وذلك قليل . وقد يستعمل كل واحدة منهما على انفرادها فإذا استعملت حي وحدها كانت بمعنى أقبل وإذا استعملت هلاً على انفرادها كانت بمعنى تقدم . وحي خاصةٌ باستحثاث العاقل وهلا باستحثاث غير العاقل إلا أن ذلك قليل . ومن ذلك قوله : ألا حييا ليلى وقولا لها هلا انتهى .
____________________

وقال أبو حيان في الارتشاف : وحيهل : مركبة من حي ومعناها أقبل ومن هل و هلا .
قال ابن هشام : بمعنى عجل وقيل بمعنى قر وتقدم وقيل إنها صوت الإبل . انتهى . وزعم الراعي في شرح الألفية أن حيهل كلمة واحدة عند الجمهور وقيل مركبة . انتهى . وهذا خلاف المنقول . قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : الحيهل : نبت من دق الحمض الواحدة حيهلة سميت بذلك لسرعة نباتها . قال حميد بن ثور : دميث به الرمث والحيهل والرمث أيضاً من الحمض . فأما أبو زياد فقال : الحيهل فخفف الياء وسكنها فيما بلغني عنه وقال : الحيهل ينبت في السباخ وإذا أخصب الناس ومطروا هلك فلا يكاد يرى منه نبت فإذا أسنتوا وذهبت المطار نبت في مواضعه وهو دقاق قصفٌ ليس لها خشب ولا حطب وإنما يأكله من الإبل الإبل التي عودوها إياه . يحبسونها فيه حين لا تجد شيئاً تأكله وربما قتل الإبل في أول أمرها وذلك إذا أكلته ثم كظم عليها لا تسلح فإذا سلحت نجت وطابت بطونها . انتهى باختصار .
____________________

وأنشد بعده
الشاهد الثاني والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( فهيج الحي من كلبٍ فظل لهم ** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله ) على أن ضمة اللام حركة إعراب وهو مفرد بلا ضمير . قال سييبويه : وأما حيهل التي للأمر فمن شيئين يدلك على ذلك : حي على الصلاة . وزعم أبو الخطاب أنه سمع من يقول : حي هل الصلاة . والدليل على أنهما جعلا اسماً واحداً قول الشاعر : ( وهيج الحي من دارٍ فظل لهم ** يومٌ كثيرٌ تناديه وحيهله ) والقوافي مرفوعة . وأنشدناه هكذا أعرابيٌّ من أفصح الناس وزعم أنه شعر أبيه . انتهى . قال الأعلم : الشاهد في قوله : حيهله وإعرابه بالرفع لأنه جعله وإن كان مركباً من شيئين اسماً للصوت بمنزلة معديكرب في وقوعه اسماً للشخص وكأنه قال : كثيرٌ تناديه وحثه ومبادرته لأن معنى قولهم : حيهل : عجل وبادر وصف جيشاً سمع به وخيف منه فانتقل عن المحل من أجله وبودر بالانتقال قبل لحاقه . انتهى . وفي شرح أبيات المفصل لابن المستوفي : وقال السيرافي : زعم سيبويه أن الشعر لرجلٍ من بني أبي بكر بن كلاب واحتج به ليري أنه من شيئين إذ ليس في الأفعال والأسماء المفردة مثل هذا البناء . قال ابن السراج في حيهله : جعله اسماً واحداً كحضرموت ولم يأمر أحداً بشيء .
____________________

قال سيبويه : والقوافي مرفوعة أي : أنه جعله بمنزلة اسم واحد ولو لم يكن كذلك لقال وحيهله بالفتح . وجميع ما يجري هذا المجرى إذا جعل علماً أعرب . وقالوا : إذا قال حيهلا تركه على البناء مع التسمية وإذا قال حيهله أعربه كما يعرب وبار إذا سمي به . ووجدته يروى لرجلٍ من بجيلة . انتهى . وهيج بمعنى فرق وفاعله ضمير الجيش على ما قاله الأعلم . والحي : القبيلة مفعوله . وقوله : من كلب هي قبيلة . ولم أره كذا إلا هنا وأما في كتاب سيبويه وفي المفصل وشروحهما فقد رأيت بدله من دار . قال أبو عبيد في معجم ما استعجم : دار معرفة لا تدخله الألف واللام قال ابن دريد : هو وادٍ قريبٌ من هجر معروف . انتهى . وظل : بمعنى استمر . ويومٌ : فاعل ظل وتناديه : فاعل كثير . والتنادي : تفاعل مصدرٌ من نادى القوم بعضهم بعضاً . وحيهله : معطوف عليه . وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قيل فاعل هيج غراب البين وقد ذكر قبل . ويجوز أن يكون هيج وظل متوجهين إلى يومٌ على التنازع . وظل لهم يوم من باب قولهم : نهاره صائم لأن الظلول في الحقيقة )
للقوم لا لليوم . وروى : فظللهم موصولاً . ومعناه دنا منهم يومٌ وحقيقته : ألقى عليهم ظله . انتهى . والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف قائلها . والله أعلم . وأنشد بعده الشاهد الثالث والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س :
____________________

( بحيهلا يزجون كل مطيةٍ ** أمام المطايا سيرها المتقاذف ) على أن حيهلا بلا تنوين محكيٌّ أريد به لفظه . قال النحاس : جعله بمنزلة خمسة عشر فلذلك لم ينونه . وقال الأعلم : الشاهد في قوله : بحيهلا فتركه على لفظه محكياً . يقول : لجعلتهم يسوقون المطايا بقولهم : حيهلا . ومعناه الأمر على أنها متقدمة في السير متقاذفة عليه أي : مترامية .
وجعل التقاذف للسير اتساعاً ومجازاً . انتهى . قال ابن السيرافي : المتقاذف : الذي يتبع بعضه بعضاً كأن كل سيرٍ تسيره هذه المطية يقذف بها إلى سيرٍ آخر . ومثله قول عمر بن أبي ربيعة : ( أخو سفرٍ جواب أرضٍ تقاذفت ** به فلواتٌ فهو أشعث أغبر ) أي : رمته فلاةٌ إلى أخرى . وقال غيره : إن القذاف سرعة السير . وفرس متقاذف : سريع العدو .
ويجوز أن يكون المتقاذف الذي يرمي بعضه بعضاً لسرعته . والإزجاء بالزاي المعجمة والجيم : السوق . والمطية : الدابة يقال لها لأنها تمطو في السير أي : تمتد . وأمام بالفتح قال ابن الحاجب في أماليه : يريد أنهم مسرعون في السير فهم يسوقون بهذا الصوت لتسرع في سيرها . وقال : أمام المطايا لأنه إذا سبقت الأولى تبعها ما بعدها بخلاف سوق الأواخر . وقال : سيرها المتقاذف يعني أنهم يسوقونها مع كون سيرها متقاذفاً والتقاذف : الترامي في السير وإذا سبق المتقاذف كان سيره أبلغ مما كان عليه .
____________________

وأمام المطايا في موضع وصف المطية وسيرها المتقاذف جملة ابتدائية صفةٌ لمطية والجار والمجرور متعلق بيزجون . انتهى . وأجود من هذا أن يكون سيرها فاعل الظرف لاعتماده على الموصوف والمتقاذف صفة لسيرها . ويجوز أن يكون سيرها المتقاذف مبتدأ موصوفاً والظرف قبله خبره والجملة صفة مطية . والبيت أنشده سيبويه للنابغة الجعدي الصحابي وتبعه عليه خدمة كتابه . وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة . ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن السيرافي أنه من قصيدةٍ لمزاحم ابن الحارث العقيلي . وأورد هذه الأبيات منها : ( ووجدي بها وجد المضل بعيره ** بمكة لم تعطف عليه العواصف ) ) ( رأى من رفيقيه الجفاء وفاته ** بنشدانها المستعجلات الخوانف ) ( وقالوا : تعرفها المنازل من منًى ** وما كل من وافى منًى أنا عارف ) الوجد : ما يجده الإنسان من العشق . والمضل : اسم فاعل من أضله وجملة لم تعطف إلخ حال من المضل . وهذا غايةٌ في الحيرة . ولم تعطف عليه
____________________

العواطف : جمع عاطفة أي : لم يرق عليه أحد ولم يحمله على بعير من إبله وهو جمع عاطفة . ويراد بها في الصداقة والرحم والمودة والصحبة وما أشبه ذلك . وروي : نخلة بدل مكة وهي موضعٌ بقرب مكة وعليها يؤخذ الحاج بعد انقضاء حجهم ولذلك قال : لم تعطف إلخ . لأنهم آخذون في الانصراف . أي : إنه وجد بمفارقته لها كما وجد الذي ضل بعيره في هذا الموضع . والبيت من أبيات سيبويه ومحل الشاهد فيه أنه جعل وجدي : مبتدأ ووجد المضل : خبره لا يستغني عنه فلم يجز نصبه على المصدرية .
وأصله وجدي بها وجدٌ مثل وجد المضل بعيره . والخوانف : جمع خانفة وهي الناقة التي تخنف برأسها أي : تميلها إذا عدت . وهي بالخاء المعجمة والنون والفاء . وقوله : وقالوا تعرفها المنازل إلخ قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : كانوا يسمون منًى المنازل وأنشد هذا البيت .
ثم قال : ويقال للرجل إذا أتاها : نازل . قال عامر بن الطفيل : ( أنازلةٌ أسماء أم غير نازلة ** أبيني لنا يا أسم ما أنت فاعله ) وقال غيره : المنازل من منًى : حيث ينزلون أيام رمي الجمار .
____________________

والبيت أورده سيبويه في موضعين من كتابه برفع كل على لغة الحجاز . قال سيبويه : وإن شئت حملته على ليس يعني إن شئت جعلت كل مرفوعاً بما وجعلت أنا عارف في موضع الخبر وأضمرت في عارفٍ هاء تعود إلى كل كأنك قلت : عارفه . ثم قال : وإن شئت حملته على كله لم أصنع . وهذا أبعد الوجهين يعني : وإن شئت رفعت كل بالابتداء وجعلت الجملة في موضع الخبر كذلك على لغة تميم كما قلت : كله لم أصنع فرفعت كل بالابتداء وأضمرت هاءً في أصنع . ومعنى قوله : وهذا أبعد الوجهين يعني رفع كل بالابتداء وذلك لأن من يرفعه بالابتداء لا يعمل ما فإذا لم يعملها أمكنه أن يعمل عارف في كل فإذا لم يعمل فقد قبح إذ قد وجد السبيل إلى المختار ولا ضرورة تدعو إلى غيره . ومن رفع كل ب ما فهو لا يجد السبيل إلى إعمال عارف في كل إلا بحذف ما وحذفها يغير المعنى . وقال النحاس : ويجوز أن ينصب كلاًّ بعارف على أنها تميمية . وقال ابن خلف : هذا البيت روي برفع كل ونصبه على جعل ما تميمية وإبطال عملها . ونصب كل )
بعارف . وأنشده الفراء أيضاً في تفسيره مرتين : الأولى عند قوله تعالى : يسألونك ماذا ينفقون .
قال : أنشدني أبو ثروان : ( وقالوا تعرفها المنازل من منًى ** البيت )
____________________

رفعاً . قال : ولم أسمع نصب كل . والثانية عند قوله تعالى : وكل إنسان ألزمناه طائره قال : العرب في كل تختار الرفع وقع الفعل على راجع الذكر أو لم يقع . وأنشدوني فيما لم يقع الفعل على راجعٍ ذكره : فقالوا تعرفها المنازل . . . . . . . . . . . . . . البيت فلم يقع عارفٌ على كل وذلك أن في كل تأويل : وما من أحدٍ وافى منًى أنا عارف . ولو نصبت لكان صواباً وما سمعته إلا رفعاً . وقال الآخر : ( قد علقت أم الخيار تدعي ** علي ذنباً كله لم أصنع ) رفعاً . وأنشدنيه بعض بني أسد نصباً . انتهى . وأنشده ابنالناظم في شرح الألفية وابن هشام في شرحها وفي المغني أيضاً بنصب كل على إبطال ما لإيلائها معمول الخبر وليس ظرفاً لأن كلا معمول لعارف . وقال ابن هشام في شرح شواهده : ويروى كل بالرفع على أنه اسم ما والجملة من قوله : أنا عارف خبرها والعائد محذوف أي : عارفه . وذلك متسهلٌ إذا كان المخبر عنه كلاًّ كقراءة ابن عامر : وكلٌّ وعد الله الحسنى وكقوله :
____________________

ثلاثٌ كلهن قتلت عمداً وقول أبي النجم : كله لم أصنع وانتصاب المنزل على إسقاط في توسعاً لا على الظرف لأنه مختص . انتهى . وهذا ردٌّ على ابن خلف في زعمه أنه منصوب على الظرف . وتعرفها أي : أعرف منزلها بالسؤال عنها . قال النحاس : سألنا أبو إسحاق الزجاج عن معنى هذا البيت فقال : الإنسان يسأل عن الشيء من يعرفه ومن لا يعرفه فما معنى هذا البيت وأجاب فقال : هذا يذكر امرأة يتعشقها فليس يسأل عن خبرها إلا من يعرفه ويعرفها . ومزاحم بن الحارث شاعرٌ إسلاميٌّ من بني عقيل بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . قال صاحب الأغاني : وقيل هو مزاحم بن عمرو بن مروة بن الحارث . وهذا القول أقرب عندي إلى الصواب . انتهى . فيكون الحارث على هذا جد أبيه . )
ثم قال : وهو شاعر بدويٌّ فصيح إسلامي كان في زمن جرير والفرزدق وكان جريرٌ يصفه ويقرظه ويقدمه ويقول : ما من بيتين كنت أحب أن أكون سبقت إليهما غير بيتين من قول مزاحم العقيلي وهما : ( وددت على ما كان من سرف الهوى ** وغي الأماني أن ما شئت يفعل ) ( فترجع أيامٌ تقضت ولذةٌ ** تولت وهل يثنى من الدهر أول )
____________________

وسرف الهوى : خطؤه . ومثله قول جرير : ما في عطائهم منٌّ ولا سرف أراد أنهم يحفظون مواضع الصنائع لا أنه وصفهم بالاقتصاد والتوسط في الجود . وروي أن الفرزدق دخل على عبد الملك بن مروان أو بعض بنيه فقال له : يا فرزدق أتعرف أحداً أشعر منك قال : لا إلا أن غلاماً من بني عقيل يركب أعجاز الإبل وينعت الفلوات فيجيد ثم جاءه جرير فسأله عن مثل ما سأل عنه الفرزدق فأجابه بجوابه فلم يلبث أن جاءه ذو الرمة فقال له : لا ولكن غلامٌ من بني عقيل يقال له مزاحم يسكن الروضات يقول وحشياً من الشعر لا يقدر على قول مثله . فقال : أنشدني بعض ما تحفظ من ذلك . فأنشده : ( خليلي عوجا بي على الدار نسأل ** متى عهدها بالظاعن المحتمل ) ( فعجت وعاجوا بين بيداء مورت ** بها الريح جولان التراب المنخل )
____________________

إن لواً وإن ليتاً عناء هذا عجز وصدره : ليت شعري وأين مني ليت ويأتي شرحه إن شاء الله في باب العلم . وأنشد بعده
الشاهد الرابع والستون بعد الأربعمائة ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم ) على أنه قد يقال في غير الأكثر الأفصح : شتان ما بين زيدٍ وعمرو كما في البيت . قال أبو علي في المسائل العسكرية : وأما شتان فموضوع موضع قولك : افترق متباين وهو من قوله عز وجل : إن سعيكم لشتًى
____________________

وأشتاتاً . وهذا الباب إذا كان كذلك اقتضى فاعلين فصاعداً فمن ثم يقال : شتان زيدٌ وعمرو . وعلى هذا قول الأعشى : ( شتان ما يومي على كورها ** ويوم حيان أخي جابر ) فأسنده إلى فاعلين معطوفٍ أحدهما على الآخر . فأما قولك : شتان ما بينهما فالقياس لا يمنعه إذا جعلت ما بمنزلة الذي وجعلت بين صلة ل ما لإبهامها قد تقع على الكثرة ألا ترى قوله : يعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم . ثم قال : ويقولون فعلمت أن المراد به جمع . وكذلك : ما لا يملك لهم رزقاً ثم قال : ولا يستطيعون فإذا كان كذلك لم يمتنع في القياس . وقد جاء في الشعر : لشتان ما بين اليزيدين إلا أن الأصمعي طعن في فصاحة هذا الشاعر وذهب إلى أنه غير محتجٍّ بقوله . ورأيت أبا عمرو قد أنشد هذا البيت على وجه القبول له والاستشهاد به . وقد طعن الأصمعي على غير شاعر قد احتج بهم غيره كذي الرمة والكميت فيكون هذا أيضاً مثلهم . انتهى . ومثله للإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب قال : شتان موضوعٌ موضع تشتت وإذا قلت : شتان ما هما ف ما صلة أكد بها الكلام وهما في موضع الفاعل ولا يستغنى بواحد لأنه وضع لاثنين فصاعداً كما أن تشتت كذلك .
____________________

والعامة تقول : شتان ما بين فلان وفلان وكثيرٌ من الناس يدفعونه حتى خطأ جماعةٌ من النحويين ربيعة الرقي . وله وجه صحيح وهو أن يكون ما لأحوال اليزيدين وأوصافهما وجعلت ما بعده صلة له فعرفته أو صفة له فنكرته لأنه حينئذ يصح دخول شتان وتشتت عليه . ولا يكون لواحدٍ .
انتهى . وهذا مخالفٌ لصنيع الشارح المحقق فإنه منع ما أن تكون موصولة مع تفسير شتان بما يطلب فاعلين لأن بين مع الأمور المعنوية تقتضي المشاركة في شيئين والمشاركة هنا لا تصح .
فإن مشاركة اليزيدين في كلٍّ من خصلتي الجود والبخل ضد مقصود الشاعر وإنما مراده انفراد أحدهما بالجود والآخر بالبخل . ويدل عليه قوله بعد : وهذا مبنيٌّ على أن في البيت حذف معطوف والتقدير : لشتان ما بين اليزيدين في الندى )
والبخل فيكون من قبيل قوله تعالى : سرابيل تقيكم الحر أي : والبرد . فإن قلت : يجوز أن يشتركا في الندى ويكون أحدهما في الطرف الأعلى منه والآخر في الطرف الأسفل فلا يكون فيه حذف معطوف . قلت : هذا أيضاً خلاف مقصوده . فإنه يريد أن يثبت صفة الجود لأحدهما ويثبت خلافها للآخر فلا اشتراك لهما في أصل الجود . ويدل عليه قوله أيضاً : ( يزيد سليمٍ سالم المال والفتى ** أخو الأزد للأموال غير مسالم ) فلما رأى الشارح المحقق ما ذكر من منع تفسير شتان ب افترق حمل شتان على معنى بعد الطالب لفاعلٍ واحد وهو :
____________________

إما ما وتكون عبارةً إما عن البون والمسافة . والبون : الفضل والمزية وهو مصدر بانه يبونه بوناً إذا فضله . وبينهما بون أي : بين درجتيهما وبين اعتبارهما في الشرف . وأما إذا كانا متباعدين بالجسم . فيقال : بينهما بين بالياء . والمسافة : قطع الطريق مفعلة من السوف وهو الشم لأن الدليل يسوف تراب الموضع الذي يسير فيه فإن استافا رائحة أبوال الإبل وأبعارها علم أنه على جادةٍ وإلا فلا يقال : بينهم مسافة بعيدة . وما في الحقيقة على هذين الوجهين موصولة أي : البون الذي بينهما أو المسافة التي بينهما . وإما بين هو الفاعل وتكون ما زائدة كما قرره الشارح المحقق . ويؤيده ورود بين بالنصب فاعلاً لشتان بدون ما . ( وشتان بينكما في الندى ** وفي البأس والخير والمنظر ) وقال آخر : ( أخاطب جهراً إذ لهن تخافتٌ ** وشتان بين الجهر والمنطق الخفت ) وقال جميل : ( أريد صلاحها وتريد قتلي ** وشتى بين قتلي والصلاح ) أصله شتان وحذفت النون ضرورة . وعلى هذا لا يعتبر حذف معطوف كما اعتبر على غير توجيه الشارح المحقق . ويجوز رفع بين إذا لم يسبقها ما وقدمه صاحب القاموس على النصب فقال : وشتان بينهما وينصب .
____________________

وروى أبو زيد في نوادره قول الشاعر : ( شتان بينهما في كل منزلةٍ ** هذا يخاف وهذا يرتجى أبدا ) برفع بين . ثم قال : ومن العرب من ينصب بينهما كقوله تعالى : لقد تقطع بينكم . وبين : لفظ مشترك بين المصدر والظرف وهي من الأضداد تكون للوصل وللفرقة . قال في القاموس : البين يكون فرقةً ووصلاً واسماً وظرفاً متمكناً . وقول الشارح المحقق كما هو مذهب الأخفش في )
قوله تعالى : يفصل بينكم بالبناء للمفعول إما بتشديد الصاد وهي قراءة ابن عامر وإما بتخفيفها وهي قراءة غيره وغير الأخوين وعاصم . وأما قراءة الأخوين فهي بالبناء للمعلوم مع تشديد الصاد . وأما قراءة عاصم فهي كذلك مع تخفيفها . قال السمين في الدر المصون : من بناه للمفعول فالنائب إما ضمير المصدر أو الظرف وبني على الفتح لإضافته إلى غير متمكن . أو الظرف وهو باقٍ على نصبه . انتهى . وهذا الأخير هو قول الأخفش . واعلم أن الشارح المحقق مسبوقٌ بتوجيهه . أما الأول فقد قال ابن عصفور في شرح الإيضاح لأبي علي : والذي يجيز شتان ما بينهما يجعل شتان بمنزلة بعد فكما يجوز بعد ما بين زيد وعمرو كذلك يجوز : شتان ما بين زيد وعمرو .
____________________

ومثله لابن السيد في شرح أدب الكتاب . قال : كان ربيعة عند الأصمعي ممن لا يحتج بشعره . وهذا غلط لأن شتان اسمٌ للفعل يجري مجراه في العمل فلا فرق بيت ارتفاع ما به في بيت ربيعة وارتفاع اليوم في بيت الأعشى كما أنك لو قلت : بعد ما بين زيد وعمروٍ لجاز بالاتفاق . وكذلك قال اللبلي في شرح فصيح ثعلب : شتان بمعنى بعد وتفرق وما بمعنى الذي فاعل شتان وبين صلة ل ما . وأما الثاني فقد قال أبو البقاء : إن جعلت ما : زائدة وبين فاعلاً وهي ظرفٌ لا تكاد العرب تستعملها كذلك . وإن جعلتها بمعنى الذي ضعف أيضاَ لأن المعنى يصير افترق الذي بين زيد وعمرو . وليس المراد ذلك بل المراد افترق زيد وعمرو . ومن أجازه قال : إن مفارقة زيدٍ لعمرو ليس من جهة الأشخاص بل المراد افتراقهما في الأخلاق والأحوال وهو المعني بالذي . انتهى . وقوله : لا تكاد العرب تستعملها كذلك غير مسلم فإنه قد قرأ به في القرآن في عدة مواضع . وكلامه وإن كان على اعتبار شتان بمعنى ما يقتضي فاعلين إلا أن المنزعين فيه . وأما إنكار الأصمعي شتان ما بينهما فقد قال ابن بري في حاشية الصحاح : ليس بشيء لأن ذلك قد جاء في أشعار العرب وقال أبو الأسود الدئلي : ( وشتان ما بيني وبينك أنني ** على كل حالٍ أستقيم وتظلع ) ومثله قول البعيث : ( وشتان ما بيني وبين ابن خالدٍ ** أمية في الرزق الذي يتقسم )
____________________

وقال آخر : ( وشتان ما بيني وبين رعاتها ** إذا صرصر العصفور في الرطب الثعد ) والثعد : بفتح المثلثة : ما لان من البسر . ويقال : شتان بينهما أيضاً بدون ما . وتقدمت أبياته . )
وقد تبع الأصمعي في إنكاره جماعةٌ منهم ابن قتيبة في أدب الكاتب قال : يقال : شتان ما هما بنصب النون ولا يقال : شتان ما بينهما وليس قوله : لشتان ما بين اليزيدين في الندى بحجة . ومنهم الأزهري في التهذيب قال : قول ربيعة ليس بحجة إنما هو مولد . وأبى الأصمعي شتان ما بينهما . قال أبو حاتم : فأنشدته قول ربيعة فقال : ليس بفصيح يلتفت إليه . وقول الشارح المحقق : وموهمه شيئان : أحدهما لغة في شتان وهي كسر النون قال الإمام المرزوقي في شرح فصيح ثعلب : أصحابنا البصريون لا يجيزونفيه إلا الفتح ولو كان مثنى لجاز تأخيره فقيل : زيد وعمرٌ و شتان بل كان هو الوجه والترتيب ولجاز أن يقلب ألفه في النصب والجر ياء وذلك لا يعرف . ألا ترى أن قولهم سيان زيدٌ وعمرو لما كان مثنى سيٍّ وهو المثل جاز جميع ذلك فيه . انتهى .
____________________

وزعم ثعلب في فصيحه أن كسر النون هو قول الفراء . ونقل شارحه اللبلي عن ابن درستويه أن الفراء إنما ذهب إلى الكسر لأن المعنى لما كان للاثنين ظن أن شتان مثنى فكسره والعرب كلها تفتحه والكسر لا يجيزه عربي . انتهى . أقول : أن الفراء لم يذهب إلى أن النون مكسورة لا غير وشتان مثنى شتٍّ وإنما حكى أن كسر النون لغةٌ في فتحها . قال في تفسيره عند قوله تعالى : ما هذا بشراً : أنشدني بعضهم : ( لشتان ما أنوي وينوي بنو أبي ** جميعاً فما هذان مستويان ) ( تمنوا لي الموت الذي يشعب الفتى ** وكل فتًى والموت يلتقيان ) قال الفراء : يقال شتان ما أنوى بنصب النون وخفضها هذا كلامه . وكذا نقل الصاغاني في العباب عنه أن كسر النون لغة في فتحها وليس فيما زعمه ابن درستويه . وبه يسقط ترديد أبي سهل الهروي في شرح الفصيح حيث قال : وأما على قول الفراء فإنه يجوز أن يكون كسر النون على أصل التقاء الساكنين ويجوز أن أراد تثنية شت وهو المتفرق . انتهى . وزعم ابن الأنباري في الزاهر أنه يجوز كسر النون في شتان ما بين أخيك وأبيك قال : لأنها رفعت اسماً واحداً . ويجوز كسرها في غيره وهو شتان أخوك وأبوك وشتان ما أخوك وأبوك . قال : يجوز في هذا كسر النون على أنه ثنية شت . هذا كلامه وفيه ما لا يخفى .
____________________

قال الشارح المحقق : الثاني : إن المرفوع بعده لا يكون إلا مثنى أو ما هو بمعنى المثنى إلخ أقول : قد ورد المرفوع بعد شتان أربعةً قال لقيط بن زرارة : ) ( شتان هذا والعناق والنوم ** والمشرب البارد في ظل الدوم ) وهذا مما يرد على الأصمعي ويؤيد قول غيره أن شتان لا يكتفي بواحد لأنه وضع لاثنين فصاعداً . وقد أجاز ثعلبٌ ما منعه الأصمعي قال في فصيحه : وتقول : شتان زيدٌ وعمرو وشتان ما هما نون شتان مفتوحة . إن شئت قلت شتان ما بينهما . والفراء يخفض نون شتان . انتهى . ومحصل الكلام فيها أن شتان يكون مرفوعها شيئين اتفاقا وأكثر عند غير الأصمعي ويكون معهما ما الزائدة وبدونها . والصحيح جواز شتان ما بينهما خلافاً للأصمعي . ولم يتعرض ابن السراج في الأصول لهذا . قال : قولك شتان زيد وعمرٌ و معناه بعد ما بين زيدٍ وعمرٍ و جداً . وهو مأخوذ من شت . والتشتيت : التبعيد ما بين الشيئين أو الأشياء فتقديره تباعد زيد وعمرو . انتهى . وهي عند الشارح قسمان : أحدهما : ما ذكر من أنه لا بد لها من مرفوعين فصاعداً . والثاني : جواز الاكتفاء بمرفوع واحد . وهو في شتان ما بينهما لكونهما بمعنى واحد . وبقي استعمالها مع ما الموصولة بفعلٍ ولم يذكروه . وهو ما أورده الفراء في الشعر المذكور وهو لشتان ما أنوي . وينبغي أن تقدر ما الموصولة في الفعل الثاني ليكون مرفوعها شيئين . وهي اسم فعلٍ على الصحيح .
____________________

قال ابن عصفور في شرح الإيضاح : وهو ساكن في الأصل إلا أنه حرك لالتقاء الساكنين وكانت الحركة فتحةً إتباعاً لما قبلها وطلباً للخفة ولأنه واقعٌ موضوع الماضي مبنيٌّ على الفتح فجعلت حركته كحركته . وزعم المرزوقي والهروي في شرح الفصيح أنها مصدر . قال الأول : شتان مصدر لم يستعمل فعله . وهو مبنيٌّ على الفتح لأنه موضع فعل ماض وزيدٌ : فاعل له . وقال الثاني : معنى شتان البعد المفرط بين الشيئين وهو اسمٌ وضع موضع الفعل الماضي تقديره : شت زيد وعمرٌ و أي : تشتتاً وتفرقاً جداً . وسبقهما الزجاج كما نقل الشارح المحقق . قال ابن عصفور : وزعم الزجاج أنه مصدرٌ واقعٌ موقع الفعل جاء على فعلان فخالف أخواته فبني لذلك فإن قيل : لنا فعلانٌ في المصادر قالوا : لوى يلوي لياناً وشنئته شنآناً . وأن لو وضعت لياناً وشنآناً موضع الفعل لبقيا على إعرابهما ولم يبنيا .
فالجواب : أنهما مصدران قد استعملا بعد فعلهما وتمكنا فإذا وقعا موقع فعلهما بقيا على إعرابهما وليس كذلك شتان لأنك لا تقول شت يشت شتاتاً وإنما استعمل في أول أحواله موضوعاً موضع الفعل المبني فبني لذلك . انتهى . قال ناظر الجيش في شرح التسهيل : مقتضى هذا الجواب أن تبنى المصادر الملتزم إضمار ناصبها كسبحان الله ومعاذ الله . انتهى . وجوز )
المازني تنوين شتان قال أبو علي في التذكرة القصرية : قال أبو عثمان : سبحان وشتان يجوز تنوينهما اسمين كانا أو في موضعهما . قال أبو علي : شتان إذا كان في موضعه فهو اسمٌ للفعل وهو شت بمنزلة صه فإن نونته فهو نكرة وإن لم تنونه فهو معرفة .
____________________

فإن قيل : كيف يجوز أن يكون معرفةً وهو بمنزلة شت وكذلك صه بمنزلة اسكت واسكت وصه لا يجوز أن يكونا معرفة . قيل : لأنهما اسمان للفعل وليسا بفعل . فإن نقلت شتان عن أن يكون اسماً للفعل فجعلته اسماً للتشتيت معرفة وصار بمنزلة : سبحان من علقمة الفاخر في أنه اسمٌ للتنزيه معرفة جاز . فإن نونته ونونت سبحان هذا تنكر لأجل التنوين وصار بمنزلة زيدٍ من الزيدين إذا نكرت زيداً المعرفة . ويضعف جعل هذه المعرفة نكرة لأن المعنى الملقب بسبحان وشتان شيءٌ واحد لا يصح له أن يكون أمثالٌ من جنسه هي تنزيه وتشتيت وليس كذلك الملقب بزيد لأنه يصح أن يكون له أمثالٌ من جنسه فيقدر زيداً من الزيدين يصح في المعنى وتقدير سبحان من أمثاله لا يصح في المعنى . فالجواب أن هذا وإن لم يصح في المعنى فإن تقديرهم له تقدير ما يصح له في هذا المعنى جائزٌ يدل على ذلك أن من قال : هذا ابن عرس مقبلاً نزل الجنس منزلة شيء واحدٍ وإن كان في الحقيقة أشياء ثم قال : هذا ابن عرس مقبلٌ نزل ما قد نزله منزلة شيء واحد منزلة أشياء كثيرة . فهذا ابن عرس مقبلٌ بمنزلة زيد من الزيدين منكراً من هذا ابن عرس مقبلاً . ونظير تلقيب المعنى بسبحان وشتان فيمن جعله لقباً للمعنى جعل النحويين أفعل معرفة في قولهم : أفعل إذا كان وصفاً لا ينصرف فيجعلون أفعل معرفةً لقباً للمعنى وهو هذا الوزن . فلم يخرج النحويون بتلقيبهم المعاني عن كلام العرب لأنها
____________________

قد لقبت المعاني كما لقبت الأشخاص . ونظير ذلك قولهم : فحملت برة فجار وبرة تلقيب المعنى فلهذا لم يصرفها . انتهى كلام أبي علي ولنفاسته سقناه برمته . والبيت الشاهد من قصيدةٍ لربيعة الرقي مدح فيها يزيد بن حاتم المهلبي . وهذه أبياتٌ من أولها : ( لفت يميناً غير ذي مثنويةٍ ** يمين امرئٍ آلى بها غير آثم ) ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) ( يزيد سالمٍ سالم المال والفتى ** أخو الأزد للأموال غير مسالم ) ) ( فلا يحسب التمتام أني هجوته ** ولكني فضلت أهل المكارم ) ( فيا أيها الساعي الذي ليس مدركاً ** بمسعاته سعي البحور الخضارم )
____________________

( سعيت ولم تدرك نوال ابن حاتمٍ ** لفك أسيرٍ واحتمال العظائم ) ( كفاك بناء المكرمات ابن حاتمٍ ** ونمت وما الأزدي عنها بنائم ) ( فيا ابن أسيد لا تسام ابن حاتم ** فتقرع إن ساميته سن نادم ) ( هو البحر إن كلفت نفسك خوضه ** تهالكت في أمواجه المتلاطم ) ( تمنيت مجداً في سليمٍ سفاهةً ** أماني حالٍ أو أماني حالم ) ( ألا إنما آل المهلب غرةٌ ** وفي الحرب قاداتٌ لكم بالخزائم ) ( هم الأنف والخرطوم والناس بعدهم ** مناسم والخرطوم فوق المناسم ) ( قضيت لكم آل المهلب بالعلا ** وتفضيلكم حقاً على كل حاكم ) ( لكم شيمٌ ليست لخلقٍ سواكم ** مناعيش دفاعون عن كل جارم ) وقوله : حلفت يميناٍ إلخ مثنوية : مصدر بمعنى الاستثناء في اليمين أي : حلفت غير مستثن في يميني . وقوله : غير ذي مثنوية أي : غير يمين ذي مثنوية . وهذا المصراع من شعرٍ للنابغة الذبياني وتمامه :
____________________

وهو من شواهد سيبويه وقد شرحناه مع قصيدته في الشاهد الثالث والعشرين بعد المائتين .
وقوله : يمين امرئ إلخ مفعول مطلق تشبيهي أي : كيمين . واليمين : القسم سمي بها لأنهم إذا تحالفوا ضرب كل امرئٍ منهم على يمين صاحبه . قال صاحب المصباح : ويمين الحلف أنثى . قال ابن الأنباري : ولهذا أعاد الضمير عليها من بها مؤنثاً . و آلى بمعنى أقسم . وقوله : لشتان ما بين اليزيدين إلخ اللام في جواب القسم وما بعدها جوابه . قيل : شتان ما بين اليزيدين صار مثلاً في ظهور الفرق . و الندى : السخاء والجود والألف أصلها واو لأنه يقال ندوت . ويقال : سن للناس الندى فندوا بفتح الدال . والأغر من الغرة وهو بياضٌ فوق الدرهم في جبهة الفرس .
يقال : فرسٌ أغر ومهرة غراء وقد استعيرت للوضوح والشهرة . وقال في المصباح : ورجلٌ أغر : صبيحٌ أو سيد قومه . أما يزيد سليم فهو يزيد بن أسيد بضم الهمزة وفتح السين المهملة وينتهي نسبه إلى بهثة بضم الموحدة وسكون الهاء بعدها ثاء مثلثة ابن سليم بضم السين ابن منصور بن عكرمة بن خصفة بفتح الخاء المعجمة والصاد المهملة ابن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار )
بن معد بن عدنان . وأما يزيد بن حاتم فهو يزيد بن حاتم بن قبيصة بن المهلب بن أبي صفرة وينتهي نسبه إلى الأزد وهي قبيلة عظيمة باليمن . وهو جد الوزير المهلبي . فإنه أبو محمد الحسن بن محمد بن هارون بن إبراهيم بن عبد الله بن يزيد بن حاتم . ومات في سنة اثنتين وخمسين وثلثمائة .
____________________

وكان السبب في هذه القصيدة أن ربيعة قصد يزيد بن أسيد وهو يومئذٍ والٍ على أرمينية وكان قد وليها زماناً طويلاً لأبي جعفر المنصور ثم من بعده لولده المهدي . وكان يزيد هذا من أشراف قيس وشجعانهم ومن ذوي الآراء الصائبة . ومدحه ربيعة بشعرٍ أجاد فيه فقصر يزيد في حقه . ومدح يزيد بن حاتم فبالغ في الإحسان إليه فقال ربيعة هذه القصيدة يفضل يزيد بن حاتم على يزيد بن أسيد . وكان في لسان يزيد بن أسيد تمتمة فعرض بذكرها : فلا يحسب التمتام أني هجوته . كذا في تاريخ ابن خلكان . قال صاحب المصباح : وتمتم الرجل تمتمةً إذا تردد في التاء فهو تمتام بالفتح . وقال أبو زيد : هو الذي يجعل في الكلام ولا يفهمك .
وقال ابن عبد ربه في ثلاثة مواضع من العقد الفريد : مدح ربيعة الرقي يزيد بن أسيد السلمي فلم يعطه شيئاً ثم عطف على يزيد بن حاتم وهو والي مصر ومدحه فتشاغل عنه في بعض الأمور واستبطأه ربيعةً فشخصمن مصر وقال : ( أراني ولا كفران لله راجعاً ** بخفي حنينٍ من نوال ابن حاتم ) فبلغ قوله يزيد بن حاتم فأرسل في طلبه فلما دخل عليه قال له : أنت القائل : أراني ولا كفران لله راجعاً . . . . . . . . . . . . . البيت قال : نعم قال : هل قلت غير هذا قال : لا . قال : والله لترجعن بخفي حنين مملوءة ذهباً . فأمر بخلع خفيه وأن تملئا دنانير . ثم قال له : أصلح ما
____________________

أفسدت من قولك . فقال فيه لما عزل من مصر وولي مكانه يزيد بن أسيد السلمي : ( بكى أهل مصر بالدموع السواجم ** غداة غدا منها الأغر ابن حاتم ) وفيها يقول : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) مع أبيات ثلاثة بعده . وكان يزيد بن حاتم جواداً سرياً مقصوداً ممدوحاً . قصده جماعة من الشعراء فأحسن جوائزهم . قال ابن عبد ربه : كتب إليه رجلٌ من العلماء يستوصله فبعث إليه ثلاثين ألف درهم وكتب إليه : أما بعد فقد بعثت إليك ثلاثين ألفاً لا أكثرها امتناناً ولا أقلها )
تحقيراً ولا أستثنيك عليها ثناء ولا أقطع لك بها رجاءً . والسلام . وقال ابن خلكان : ذكر ابن جرير الطبري في تاريخه أن الخليفة أبا جعفر المنصور عزل حميد بن قحطبة عن ولاية مصر فولاها نوفل بن الفرات ثم عزله وولى يزيد بن حاتم وذلك في سنة ثلاث وأربعين ومائة . ثم إن المنصور عزله عن مصر في سنة اثنتين وخمسين ومائة وجعل مكانه محمد بن سعيد . انتهى .
وهذا لا يوافق ما قاله ابن عبد ربه . وقيل : تولى بعده عبد الله بن عبد الرحمن من قبل المنصور . ولم أر ما قاله ابن عبد ربه .
____________________

ثم قال ابن خلكان : وقال ابن يونس في تاريخه : ولي يزيدٌ بن حاتم مصر في سنة أربع وأربعين ومائة . وزاد غيره : في منتصف ذي القعدة . ثم إن المنصور خرج إلى الشام وإلى زيارة بيت المقدس في سنة أربع وخمسين ومائة ومن هناك سير يزيد بن حاتم إلى إفريقية لحرب الخوارج الذين قتلوا عامله عمر بن حفص وجهز معه خمسين ألف مقاتل واستقر والياً وكان وصوله إليها واستظهاره على الخوارج في سنة خمس وخمسين . ولما عقد المنصور ليزيد المهلبي على بلاد إفريقية وليزيد السلمي المذكور على ديار مصر خرجا معاً وكان يزيد المهلبي يقوم بكفاية الجيشين فقال ربيعة الرقي : ( يزيد الخير أن يزيد قومي ** سميك لا يجود كما تجود ) ( تقود كتيبةٌ ويقود أخرى ** فترزق من تقود ومن يقود ) وقدم أشعب المشهور في الطمع على يزيد وهو بمصر فجلس بمجلسه ودعا بغلامه فساره فقام أشعب فقبل يده فقال له يزيد : لم فعلت هذا فقال : إني رأيتك تسارر غلامك فظننت أنك قد أمرت لي بشيء فضحك منه وقال : ما فعلت ولكني أفعل . ووصله وأحسن إليه .
وقدم عليه بمصر أبو عبيد الله محمد بن مسلم الشهير بابن المولى وأنشده : ( يا واحد العرب الذي ** أضحى وليس له نظير ) ( لو كان مثلك آخرٌ ** ما كان في الدنيا فقير ) فدعا يزيد بخازنه . وقال : كم في بيت مالي قال : فيه من العين والورق ما مبلغه عشرون ألف دينار . فقال : ادفعها إليه . ثم قال : يا أخي المعذرة إلى الله تعالى وإليك والله لو أن في ملكي غيرها ما ادخرته عنك .
____________________

قال الطرطوشي في كتاب سراج الملوك : قال سحنون : كان يزيد بن حاتم يقول : والله ما هبت شئياً قط هيبتي لرجلٍ ظلمته وأنا لا أعلم وليس له ناصر إلا الله تعالى فيقول : حسبك الله الله بيني وبينك وذكر أبو سعيد السمعاني في كتاب الأنساب أن )
المسهر التميمي الشاعر وفد على يزيد بن حاتم بإفريقية فأنشده : ( إليك قصرنا النصف من صلواتنا ** مسيرة شهرٍ ثم شهرٍ نواصله ) ( فلا نحن نخشى أن يخيب رجاؤنا ** لديك ولكن أهنأ البر عاجله ) فأمر يزيد بوضع العطاء في جنده وكان معه خمسون ألف مرتزق فقال : من أحب أن يسرني فليضع لزائري هذا من عطائه درهمين . فاجتمع له مائة ألف درهم وضم يزيد إلى ذلك مائة ألف درهم أخرى ودفعها إليه . ولما كان يزيد والياً بإفريقية كان أخوه روح بن حاتم والياً في السند وولي لخمسةٍ من الخلفاء : أبي العباس السفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد فقال أهل إفريقية : ما أبعد ما بين هذين الأخوين فإن يزيد هنا وأخاه روحاً في السند . فلما توفي يزيد بإفريقية يوم الثلاثاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شهر رمضان سنة سبعين ومائة وكان والياً فيها خمس عشرة سنة وثلاثة أشهر فاتفق أن الرشيد عزل روحاً السند وسيره إلى موضع أخيه يزيد فدخل إلى إفريقية في أول رجب سنة إحدى وسبعين ومائة ولم يزل والياً عليها إلى أن توفي بها لإحدى عشرة ليلةً بقيت من شهر رمضان سنة أربع وسبعين ومائة ودفن في قبر أخيه يزيد . فعجب الناس من هذا الاتفاق بعد ذلك التباعد .
____________________

قال الصولي في كتاب الأنواع : حدثنا أبو العباس محمد الجبائي قال : أنشدنا بكر المازني لربيعة بن ثابت الرقي يمدح يزيد بن حاتم المهلبي ويهجو يزيد ابن أسيد السلمي : لشتان ما بين اليزيدين في الندى . . . . . . . . . . . . . . البيت وبعده الأبيات الثلاثة . قال : بلغ هذا الشعر أبا الشمقمق واسمه مروان فقال يفضل يزيد بن مزيد الشيباني على يزيد المهلبي : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** إذا عد في الناس المكارم والحمد ) ( يزيد بني شيبان أكرم منهما ** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد ) انتهى . ويزيد هذا هو ابن مزيد بن زائدة وهو ابن أخي معن بن زائدة الشيباني . وكان يزيد هذا من الأمراء المشهورين والشجعان المعروفين وكان والياً بأرمينية فعزله عنها الرشيد سنة اثنتين وسبعين ومائة ثم ولاه إياها وضم إليها أذربيجان في سنة ثلاث وثمانين . وهو من الأجواد وقد قصده الشعراء من سائر النواحي وأجاد صلاتهم . وقد أطال ترجمته ابن خلكان . وتوفي سنة خمس وثمانين ومائة ورثاه أبو الشمقمق ومسلم بن الوليد وأبو محمد عبد الله بن أيوب )
التيمي المشهور وغيرهم . ورأيت في رسائل الصاحب بن عباد رسالة مداعبة جمع فيها نظائر هذا الشعر وهي رسالة جيدة أحببت أن أوردها هنا وهي : أبو الفرج عباد بن المطهر أعزه الله يزعم أن الشيخ الأمين رضي الله عنه سماه عبادا .
____________________

والناس يروون : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر بن حاتم ) وفيهم من لا يعلم أنه لربيعة الرقي ولا أن اليزيدين : يزيد بن حاتم المهلبي وهو الممدوح ويزيد بن أسيد وهو المذموم . وكما لا يدري أن الشعر بلغ أبا الشمقمق فقال : وفضل عليهما يزيد بن مزيد الشيباني : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** إذا عد في الناس المكارم والحمد ) ( يزيد بني شيبان أكرم منهما ** وإن غضبت قيس بن عيلان والأزد ) وقد قال الآخر : ( يزيد الخير إن يزيد قومي ** سميك لا يزيد كما تزيد ) ويذكرني مولاي أنه أنشد كثيراً لأبي الهول الحميري وفي الفضل بن العباس والبرمكي : كما سمعني أنشد لبشار : ( رأيت السهيلين استوى الجود فيهما ** على بعد ذا من ذاك في حكم حاكم ) ( سهيل بن عثمان يجود بماله ** كما جاد بالفعلى سهيل بن سالم ) ومن المبتذل في هذا : ( شتان بين محمدٍ ومحمدٍ ** حيٌّ أمات وميتٌ أحياني )
____________________

والمحمدان : محمد بن منصور بن زياد ومحمد بن يحيى بن خالد . ولا أحسب عباداً هذا يعد ما قلته تفضيلاً لعباد بن العباس عليه وإضافة له إليه ولا أن يقول كما قال يونس بن حبيب : أشد الهجاء الهجاء بالتفضيل . وذلك كما قال صديق مولاي القريب وابن عمته النسيب الفرزدق بن غالب وقد قيل له : انزل على أبي قطن قبيصة فحسبه ابن مخازق الهلالي فإذا هو آخر لا يحضرني نسبه وذم قراه وجواره فقال : ( سرت ما سرت من ليلها ثم وافقت ** أبا قطنٍ ليس الذي لمخارق ) ( وقد تلتقي الأسماء في الناس والكنى ** كثيراً ولكن لا تلاقى الخلائق ) فأما التفضيل الذي أومأت إليه فقد أعجبني منه أن الحطيئة قال : ) ( فلما أن مدحت القوم قلتم ** هجوت وهل يحل لي الهجاء ) حتى زعم بعضهم عن الزبرقان أن هذا أوجع له من قوله : ( دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت الطاعم الكاسي )
____________________

وعلى ذكر هذا البيت فلا أدري لم ترك ما قيل قبله . فقد سبق الأعشى بقوله : ( فدعنا وقوماً إن هم عمدوا لنا ** أبا ثابتٍ واجلس فإنك طاعم ) لست أدري أيد الله مولاي ما هذا الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس . وإنما حضر هذا الفتى وله حق الغربة وأعظم به حقا ثم حق الأدب وأكرم به فخراً وقد خدمني طفلاً والآن كهلاً وهاجر إلي فتظاهرت حرماته لدي . وهذه التسمية أيضاً لها ذمامٌ يرعى وذمار لا ينسى وسألني أن أخاطب مولاي في بابه وأسيمه في مرعى جنابه وتصور لي الأنس بمطاولة مولاي وحسبتني أناجيه عن قرب كما أنا مكاتبه عن بعد فلج الطبع والقلم وحضرت هذه الأبيات والعبر ومولاي ولي ما يوليه ويختصه بالجميل فيه فقد كان أبو عيسى النوشجاني عبد المسيح أنشد والدي : ( وإن ائتلاف النفس أدنى قرابةً ** لمن يدعي القربى إذا كان ظالما ) انتهى . وقوله : وقد قال الآخر : يزيد الخير أن يزيد قومي . . . . . . . . . . . . . . البيت هذا سهوٌ منه في زعمه أنه لغير ربيعة والصواب أنه له كما نقلناه . وقوله : بمسعاته سعي البحور الخضارم المسعاة : مصدر ميمي وهو السعي . والخضارم بالفتح : جمع خضرم بكسر الخاء وسكون الضاد المعجمتين وكسر الراء : الواسع الكثير .
____________________

وقوله : بالحزائم جمع حزام مستعار من حزم الدابة . أراد أنهم متشمرون للحرب . وقوله : هم الأنف والخرطوم هو بالضم : الأنف .
وخرطوم القوم : سيدهم . والمناسم : جمع منسم بفتح الميم وكسر السين وهو خف البعير .
والملاحم : جمع ملحمة بفتح الميم والحاء وهي الوقعة العظيمة في الفتنة . والمناعيش : جمع منعاش مبالغة ناعش كمنحار مبالغة ناحر من نعشه ينعشه بفتح العين فيهما نعشاً بسكونها إذا رفعه من سقطته . والجارم : الكاسب الفقير من جرم يجرم كضرب يضرب . وربيعة الرقي هو أبو أسامة ربيعة بن ثابت من موالي سليم . ويدل عليه قوله : يزيد الخير إن يزيد قومي )
وقال محمد بن معاوية الأسدي : هو من بني جذيمة بن مالك بن نصر بن قعين . وهو شاعر مطبوع . قال دعبل بن علي الخزاعي : قلت لمروان بن أبي حفصة : يا أبا السمط من أشعركم جماعة المحدثين قال : أشعرنا أسيرنا بيتاً . قلت : من هو قال : الذي يقول : ( لشتان ما بين اليزيدين في الندى ** يزيد سليمٍ والأغر ابن حاتم ) والرقي : منسوب إلى رقة بفتح الراء وتشديد القاف وهي مدينة ومعناهافي اللغة كل أرض إلى جانب وادٍ ينبسط عليها الماء أيام المد ثم ينحسر
____________________

عنها فتكون جيدة النبات والجمع رقاق . قال ياقوت في معجم البلدان : الرقة : مدينة مشهورة على الفرات بينها وبين حران ثلاثة أيام معدودةٌ في بلاد الجزيرة لأنها من جانب الفرات الشرقي . ويقال لها الرقة البيضا وهي من الإقليم الرابع . ووصفها ربيعة الرقي بقوله : ( حبذا الرقة داراً وبلد ** بلدٌ ساكنه ممن تود ) ( ما رأينا بلدةً تعدلها ** لا ولا أخبرنا عنها أحد ) ( إنها بريةٌ بحريةٌ ** سورها بحرٌ وسورٌ في الجدد ) ( يسمع الصلصل في أشجارها ** هدهد البر ومكاءٌ غرد ) ( لم تضمن بلدةٌ ما ضمنت ** من جمالٍ في قريشٍ وأسد ) وكان بالجانب الغربي مدينة أخرى تعرف برقة واسط كان بها قصران لهشام ابن عبد الملك كانا على طريق رصافة هشام . وأسفل من الرقة بفرسخ الرقة السوداء : وهي قرية كبيرة ذات بساتين كثيرة . والرقة أيضاً : البستان المقابل للتاج من دار الخلافة ببغداد وهي بالجانب الغربي وهو عظيمٌ جداً جليل القدر . وأطنب ياقوت في وصفها . قد تقدم بيتان هما من شواهد
____________________

( شتان ما يومي على كورها ** ويوم حيان أخي جابر ) وهو من قصيدةٍ للأعشى ميمون قد شرحنا بعض أبياتها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين . قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكتاب : حيان وجابر ابنا عميرة من بني حنيفة وكان حيان نديماً للأعشى . يقول : يومي على كور هذه الناقة بالضم وهو الرحل ويومي مع حيان أخي جابر مختلفان لا يستويان لأن أحدهما يوم سفر وتعب والثاني يوم لهو وطرب .
روي أن حيان كان سيداً أفضل من أخيه جابر فلما أضافه إلى جابر غضب وقال : عرفتني بأخي وجعلته أشهر مني والله لا نادمتك أبداً فقال له الأعشى : اضطرتني القافية فلم يعذره . )
انتهى . وقد غلط الأندلسي في شرح المفصل فقال : الأخ يقال له جابر يقول : كنا نشرب مع جابر . وهذا غلطٌ ظاهر يلزم منه أن يكون حيان وجابر مبينين للأخ . وهذا محال . وقال الخوارزمي : يقول : كنا نشرب ونتنعم مع جابر وكان فيما يقال ملكاً يختص بحيان لأنه نديمه .
هذا كلامه . ونقله بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل . وهذا غير صحيح أيضاً لأنه يصف حيان ويذكر عيشه معه ولم يكن يشرب مع جابر وإنما كان نديمه حيان .
____________________

وقد وقع في شعر حسان نظير ما وقع للأعشى من تعريف المشهور بالخامل قال في رثاء جعفر أخي علي بن أبي طالب رضي الله عنهما : ( بهاليل منهم جعفرٌ وابن أمه ** عليٌّ ومنهم أحمد المتخير ) البهاليل : جمع بهلول بالضم وهو السيد الوضيء الوجه الطويل القامة . والمتخير : المنتخب .
وقوله : منهم أحمد المتخير قد عابه بعض الناس لما أضاف أحمد المتخير إليهم وليس هذا بعيب لأنها ليست بإضافة تعريف وإنما هذا تعريفٌ لهم حيث كان منهم . وإنما ظهر العيب في قول أبي نواس من قصيدة مدح بها العباس بن عبيد الله بن أبي جعفر المنصور : ( كيف لا يدينك من أملٍ ** من رسول الله من نفره ) لأنه ذكر واحداً وأضاف إليه فصار بمنزلة ما عيب على الأعشى . قال السهيلي في الروض الأنف : وجدت في رسالةٍ لمهلهل بن يموت بن المزرع قال : قال علي بن الأصغر وكان من رواة أبي نواس قال : لما عمل أبو نواس : ( أيها المنتاب عن عفره ** لست من ليلى ولا من سمره ) أنشدنيها فلما بلغ قوله : من رسول الله من نفره وقع لي أنه كلامٌ مستهجن في غير موضعه إذا كان حق رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يضاف إليه ولا يضاف إلى أحد . فقلت له : أعرفت عيب هذا البيت فقال : ما يعيبه إلا جاهلٌ بكلام العرب إنما أردت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من القبيل الذي هذا الممدوح منه أما سمعت قول حسان بن ثابت شاعر الإسلام : ومنهم أحمد المتخير وأنشد البيتين .
____________________

ورأيت هذه الحكاية في آخر ديوان أبي نواس في الباب الخامس عشر أوردها حمزة بن الحسن الأصفهاني فيما دونه من شعر أبي نواس . وأما الثاني فهو : ( شتان هذا والعناق والنوم ** والمشرب البارد في ظل الدوم ) )
وهو للقيط بن زرارة بن عدس بن تميم ويكنى أبا دختنوس وهي بنته وأبا نهشلٍ أيضاً وأخوه حاجب بن زرارة صاحب القوس التي يقال لها : قوس حاجب . أنشده المبرد في المقتضب وأنشده : والمشرب الدائم في الظل الدوم جعل المبرد المصدر في هذا الموضع موضع الوصف أي : الدائم . وأنشد غيره : في ظل الدوم على الإضافة . والدوم : شجر المقل . وهذه رواية أبي عبيدة . قال الأصمعي : قد أحال ابن الحائك لأنه ليس بنجدٍ دومٌ وإنما الرواية : في الظل الدوم أي : الدائم . قال الخوارزمي : من أنكر على من روى ظل الدوم قال : أي الظل يكون للدوم وهو شجر المقل . ولا يخفى أن المنكر هو الأصمعي وإنما أنكره لأن الدوم ليس مما ينبت في بلاد الشاعر لا لما ذكره وأما شجر المقل فله ظلٌّ قطعاً . وقوله : شتان هذا اسم الإشارة راجعٌ إلى الأمر الذي استصعبه الشاعر من الحال . والعناق : المعانقة . والمعنى افترق هذا أي : ما أنا فيه من التعب والمعانقة والنوم والراحة والماء العذب في ظل هذا الشجر أو في الظل الدائم .
____________________

وقبله : ( يا قوم قد حرقتموني باللوم ** ولم أقاتل عامراً قبل اليوم ) وقد أرخينا هنا عنان القلم فجرى في ميدان الطروس فأتى بما يبهج النفوس . وقد بقيت أشياء تركناها خشية السآمة واتقاء الملامة كالكلام على تثنية العلم في اليزيدين فإن ابن جني قد حقق ما يتعلق به في سر الصناعة . وإن ظهر لنا موضعٌ يناسبه أوردناه فيه إن شاء الله تعالى . وأنشد بعده
الشاهد الخامس والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد سيبويه : قالت له ريح الصبا : قرقار على أن الأكثرين قالوا : لم يأت اسم فعل من الرباعي إلا كلمتان إحداهما قرقار . قال سيبويه : وأما ما جاء معدولاً عن حده من بنات الأربعة فقوله : قالت له ريح الصبا : قرقار فإنما يريد بذلك قالت له : قرقر بالرعد يا سحاب . وكذلك عرعار وهي بمنزلة قرقار وهي لعبة وإنما هي من عرعرت . ونظيرها من الثلاثة . خراج أي : اخرجوا وهي لعبة أيضا .
انتهى . قال الأعلم : قرقار : اسم لقولك قرقر كما أن نزال اسم لقولك انزل .
____________________

وحق هذا المعدول أن يكون في باب الثلاثي خاصة فهو على طريق الشذوذ والخروج عن النظائر . وصف سحاباً هبت له ريح الصبا فألقحته وهيجت رعده فكأنه قالت له : قرقر بالرعد أي : صوت .
والقرقرة : صوت الفحل من الإبل . وقد خولف سيبويه في حمل قرقار وعرعار على العدل لخروجهما عن الثلاثي الذي هو الباب المطرد وجعلا حكايةً للصوت المردد دون أن يكونا معدولين عن شيء . انتهى . أقول : المخالف هو المبرد قال : غلط سيبويه ولم يأت في الأربعة معدول إنما أتى في الثلاثي وحده . وقرقار وعرعار حكاية صوت نحو : غاق غاق . قال السيرافي : والقول ما ذهب إليه سيبويه لأن حكاية الصوت لا يخالف فيها أولٌ ثانياً نحو : غاق غاق . وقد يصرفون الفعل من صوت المكرر نحو : قرقرت من قار قار وعرعرت من عار عار يصيرون به إلى وزن الفعل . فلما خالف اللفظ الأول الثاني علمنا أنه محمول على قرقر وعرعر لا على حكاية قار قار وعار عار . انتهى . وقال أبو حيان في شرح التسهيل بعد ما ذكر أن المبرد غلطه : ومما يقوي ما ذهب إليه سيبويه وجود مثل قرقار اسم فعل في غير الأمر وحكى ابن كيسان أنه يقال : همهام محمحام وهجهاج وبحباح أي : لم يبق شيء . وأنشد : انتهى . ولم يذكر صاحب الصحاح إلا همهام عن اللحياني قال : سمعت أعرابياً من بني عامر يقول : إذا قيل لنا : أبقي عندكم شيء نقول : همهام أي : لم يبق شيء . وانشد هذا الشعر .
وزاد الصاغاني في العباب على هذه الألفاظ : دعداع وقال : قرقار بني على الكسر وهو معدول والعدل في الرباعي عزيز كعرعار وهمهام وهجهاج وبحباح ودعداع .
____________________

قال أبو النجم )
يصف سحاباً : ( حتى إذا كان على مطار ** يمناه واليسرى على الثرثار ) ( قالت له ريح الصبا : قرقار ** تمري خلايا هزمٍ نثار ) ( بين مشاييع له درار ** فشق أنهاراً إلى أنهار ) ومطار بنجد والثرثار ببلاد الجزيرة . وقوله : قرقار أي : قرقر بالرعد وصب ماءك وهات ما عندك . ومعناه ضربته ريح الصبا فدر لها فكأنها قالت له : صب ماءك . انتهى . ولم يورد هو من هذه الألفاظ في كتابه إلا بحباح بموحدتين ومهملتين قال : قيل لبعض بني عامر أبقي عندكم شيء فقال : بحباح مبنياً على الكسر أي : لم يبق شيء . هذا كلامه . فكان ينبغي له أن لا يذكر هذه الألفاظ مع قرقار لئلا يتوهم أنها اسم فعل أمرٍ معدول . ولم يورد الجوهري ما أورده مع أنه أصله وإنما قال : وقولهم قرقار بني على الكسر وهو معدول ولم يسمع العدل من الرباعي إلا في عرعار وقرقار . فلله دره ما أحسن صنيعه وقال الأصمعي في كتاب الإبل : قالوا قراقار وقرقار بفتح القاف كسرها وقرقر . وأنشد البيت . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : ألست بربكم قالوا بلى على أنه من باب التمثيل والتخييل كما في البيت .
وقوله : حتى إذا كان على مطار قال أبو عبييد البكري في معجم ما استعجم : مطار بضم الميم : وادٍ قرب الطائف . وأنشد هذه الأبيات . وقال :
____________________

والثرثار بالجزيرة : ماءٌ معروف وقيل هو قريب من تكريت . ولم تختلف الرواة في هذا الوادي أنه مطار بضم الميم . فأما مطار بفتحها فموضع في ديار بني تميم مؤنثٌ لا ينصرف . وقال في الثناء المثلثة : الثرثار : ماء معروف قبل تكريت . وقال الهمداني : هو نهرٌ يصب من الهرماس إلى دجلة . وقال أبو حنيفة : هو بالجزيرة .
واسم كان يمناه والضمير للسحاب . و على مطار يريد أنه سحاب عظيم طرفه الأيمن على مطار وطرفه الأيسر على الثرثار . وجملة قالت له إلخ جواب إذا . وتمري : مضارع مريت الناقة مرياً إذا مسحت ضرعها لتدر . وفاعله ضمير الريح . والخلايا : جمع خلية بالخاء المعجمة : الناقة تعطف مع أخرى على ولدٍ واحدٍ فتدران عليه ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ يحلبونها . وهزم بفتح الهاء وكسر الزاي المعجمة يقال : غيثٌ هزم أي : متبعق لا يستمسك .
ونثار : مبالغة ناثر . وبين ظرفٌ للنثار . والمشاييع : جمع مشياع وهو الذي يشيع السر استعير للسحاب الساكب . ودرار صفة لمشاييع وهو بضم الدال جمع دار . يقال : ناقة دارٌّ بدون هاء )
ونوق درار مثل كافر وكفار أي : كثيرة الدر وهو اللبن . وقوله : فشق أنهاراً إلخ أي : فشق ماء ذلك السحاب الأرض فصير فيها أنهاراً جارية إلى أنهار . وأنشد الجوهري البيت الشاهد من هذا الرجز مع بيتٍ آخر منه وهو : واختلط المعروف بالإنكار وهذا هو المشهور في كتب النحو . يريد : قالت الريح للسحاب : قرقر بالرعد . ولما كان إنشاء السحاب بسبب الريح صار كأن الريح قالت له : قرقر بالرعد .
____________________

والقرقرة : صوت فحل الإبل .
والقرقرة : الهدير . وبعيرٌ قرقار الهدير إذا كان صافي الصوت في هديره . وقوله : واختلط المعروف أي : من صوت الرعد بالمنكر منه . وقيل : أراد أن السحاب أصاب كل مكان مما يعرف وينكر أي : عم الأراضي كلها أو مما كان معروفاً بأن يمطر وما كان منكراً إمطاره . قال ابن الأعرابي في نوادره : مطرت مطراً شديداً فأنكرت ما تعرف من آثار الديار ومعالمها . وقيل المعروف : المطر والإنكار : البرق والسيل والصاعقة . شبه الريح بالآمر والسحاب بالمأمور وقرقار بالمأمور به لأن الريح هي التي تنشأ السحاب وتسوقه ولهذا جعلت الريح كأنها قائلة له . كل ذلك على سبيل التمثيل . وترجمة أبي النجم العجلي وهو راجز إسلامي قد تقدمت
الشاهد السادس والستون بعد الأربعمائة يدعو وليدهم بها عرعار لما تقدم قبله . وهذا عجزٌ وصدره :
____________________

متكنفي جنبي عكاظ كليهما يعني : يقيمون في كنفي جنبي عكاظ . والكنف : الناحية . وهو جمع مذكر سالم حذفت نونه للإضافة والإضافة لفظية . وعكاظ : سوقٌ قريبة من مكة كانت في الجاهلية تقام وقد شرحناها فيما مضى وهي غير مصروفة للعلمية والتأنيث . وكليهما تأكيد لقوله جنبي .
والوليد : الصبي . وضمير بها لعكاظ . عرعار : لعبة للصبيان إذا خرج الصبي من بيته ولم يجد أحداً يلاعبه رفع صوته فقال : عرعار أي : هلموا إلى العرعرة فإذا سمعوا صوته خرجوا ولعبوا معه تلك اللعبة . قال ابن دريد في الجمهرة : سمعت عرعار الصبيان إذا سمعت اختلاط أصواتهم . وقال في الصحاح : العرعرة : لعبة للصبيان . وعرعار بني على الكسر وهو معدول عن عرعرة . والصحيح كما قال الأعلم عرعار معدولة عن قولهم عرعر أي : اجتمعوا للعب كما أن خراج اسم لعبةٍ لهم : معدول عن قولهم : اخرج . ومعنى البيت أنهم آمنون في إقامتهم هناك لعزهم وكثرتهم وصبيانهم يلعبون بهذه اللعبة لبطرهم ورفاهيتهم . ونحوه قول حسان : أي : لا يرحلون عنه لعزهم وغناهم بخلاف غيرهم لابد له من الرحلة للانتجاع .
____________________

والبيت آخر أبياتٍ تسعة للنابغة الذبياني حذر بها عمرو بن المنذر بن ماء السماء ملك الحيرة من أعدائه وهم قوم النابغة . أخبره بأنهم نزلوا بعكاظ وهم كثيرون ينتظرون وقوع الربيع فيرعونه ويحاربونه . وأولها : ( من مبلغٌ عمرو بن هند آيةً ** ومن النصيحة كثرة الإنذار ) ( لا أعرفنك عارضاً لرماحنا ** في جف تغلب وارد الأمرار ) الجف بضم الجيم : العدد الكثير والجماعة من الناس ومنه قيل لبكر وتميم : الجفان لكثرتهما .
وتغلب : أبو قبيلة عظيمة وهو تغلب بن وائل . والأمرار بفتح الهمزة قال صاحب الصحاح : هي مياهٌ في البادية مرة . وأنشد هذا البيت . ( ومعلقون على الجياد حليها ** حتى تصوب سماؤهم بقطار ) الحلي بفتح المهملة وكسر اللام : ما تعتلفه الخيل إذا يبس وإذا كان رطباً أخضر فهو نصي . )
وقطار بالكسر : جمع قطر . إلى أن قال : ( فيهم بنات العسجدي ولاحقٍ ** ورقٌ مراكلها من المضمار ) عسجد ولاحق : فحلان من خيل غني بن أعصر . والمركل كجعفر : موضع عقب الفارس .
يقول : تضمر خيلهم بالركوب فتقرع أعقابهم مواضع المراكل فيتحات شعرها ثم ينبت بعد ذلك شعر أسود . ولهذا قال : ورق لأنه إذا نبت خرج يضرب إلى الغبرة وهي الورقة .
____________________

( تشلى توابعها إلى ألافها ** خبب السباع الوله الأبكار ) متكنفي جنبي عكاظ كليهما . . . . . . . . . . . . . البيت الإشلاء : الدعاء أشليته : دعوته . يعني يدعي توابع من أولادها ومن خيل أخرى إلى ما ألفته .
والوله : التي قد ولهت إلى أولادها . والأبكار : التي وضعت بطناً وتكون التي لم تلد قط . وقوله : متكنفي حال من أصحاب هذه الخيل . والإضافة لفظية ولهذا صحت الحال . ولما بلغت هذه الأبيات عمرو بن هند قال : ( أبلغ زياداً أن قومك حاربوا ** فانهض إلينا إن قدرت بجار ) ( نجزيك إنذاراً بما أنذرتنا ** وذكرت عطف الود والإصهار ) وزيادٌ : اسم النابغة . وله قصيدةٌ على هذا الوزن والروي مطلعها : ( نبئت زرعة والسفاهة كاسمها ** يهدي إلي غرائب الأشعار ) وزرعة هو ابن عمرو بن خويلد أخي يزيد بن عمرو بن الصعق الكلابي كان هجاء للنابغة فلما بلغ هجاؤه النابغة قال هذه القصيدة يتوعده بالهجاء ومحاربته إياه مع قومه ثم وصف
____________________

( جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً ** يذر الإكام كأنهن صحاري ) معضل اسم فاعل يعني غاصاً ضيقاً . يقال : قد عضلت المرأة بولدها تعضيلاً إذا تعسر عليها فنشب ولم يخرج . وليس في هذه القصيدة البيت الشاهد . وزعم ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل وتبعه جماعة أنه منها . وأورد معه قوله : جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً البيت مع أبيات أخر وقال : مدح بهذه القصيدة بني غاضرة من بني أسد . وليس الأمر كذلك كما بينا . وسيأتي شرح بعض هذه القصيدة بعد شاهدٍ واحد إن شاء الله تعالى . وترجمة النابغة الذبياني قد تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة . وأنشد بعده )
الشاهد السابع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( ولأنت أشجع من أسامة إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر )
____________________

على أن عبد القادر استدل على تأنيث فعال الأمري بما هنا فإن نزال : نائب فاعل دعيت ولولا أنها مؤنثة ما ألحق علامة التأنيث للفعل المسند إليها . وفيه ما أورده الشارح المحقق . وعبد القاهر مسبوق بما قاله . قال سيبويه في باب ما جاء معدولاً عن حده من المؤنث : ويقال : نزال أي : أنزل . وأنشد البيت ثم قال : فالحد في جميع هذا : افعل ولكنه معدول عن حده وحرك آخره لأنه لا يكون بعد الألف حرف ساكن وحرك بالكسر لأن الكسر مما يؤنث به . وإنما الكسرة من الياء . انتهى . وقال ابن السراج في الأصول : اعلم أنه لا يبنى على مثال فعال من هذا الباب على الكسر إلا وهو مؤنث معرفة معدول عن جهته وإنما بني على الكسر لأن الكسر مما يؤنث به تقول للمرأة : أنت فعلت وإنك فاعلة . وكان أصل هذا إذا أردت به الأمر السكون فحركته لالتقاء الساكنين فجعلت الحركة الكسرة للتأنيث وذلك قولك : نزالٍ وتراكٍ ومعناه انزل واترك فهما معدولان عن المتاركة والمنازلة . قال الشاعر تصديقاً لذلك : ( . . . . . . . . . . . . . . . . إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر ) فقال : دعيت لما ذكرت لك من التأنيث . انتهى . وهكذا قال خدمة كتاب سيبويه . وشراح شواهد الجمل وغيرهم . قال الأعلم : الشاهد في قوله : نزال وهو اسم لقوله انزل ودل على أنه اسمٌ مؤنث دخول التاء في فعله وهو دعيت . وإنما أخبر عنها على طريق الحكاية وإلا فالفعل وما كان اسماً له لا ينبغي أن يخبر عنه . انتهى . ومثله في كون نزال أريد به لفظه فجعل نائب فاعل قول زيد الخيل الصحابي :
____________________

( وقد علمت سلامة أن سيفي ** كريهٌ كلما دعيت نزال ) ( فدعوا نزال فكنت أول نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) ومعنى دعاء الأبطال بعضهم بعضاً بهذه الكلمة : أن الحرب إذا اشتدت بهم وتزاحموا فلم يمكنهم التطاعن بالرماح تداعوا بالنزول عن الخيل والتضارب بالسيوف . ومعنى لج في الذعر : تتابع الناس في الفزع وهو من اللجاج في الشيء وهو التمادي فيه . وقد تقدم شرح النزال مفصلاً في الشاهد الحادي والأربعين بعد الثلثمائة . والشارح المحقق قد تبع صاحب الصحاح في )
روايته البيت كذا في مادة أسم وهو مركب من بيتين فإن البيت الذي فيه دعيت نزال وهو لزهير بن أبي سلمى صدره كذا : ( ولنعم حشو الدرع أنت إذا ** دعيت نزال ولج في الذعر ) وقوله :
____________________

ولأنت أشجع من أسامة إذ إنما هو صدرٌ من بيت للمسيب بن علس وعجزه : نقع الصراخ ولج في الذعر وهذا ليس فيه دعيت نزال . والبيت الشاهد كما ذكرناه هو رواية سيبويه وسائر النحويين .
وبيت المسيب ابن علس على ما رتبناه هو رواية الجاحظ في كتاب البيان والتبيين . وقد رأيت البيتين في ديوانيهما كذلك . أما بيت زهير فهو من قصيدةٍ مدح بها هرم بن سنانٍ المري . وهذه أبياتٌ بعد ثلاثة أبيات من أولها : ( دع ذا وعد القول في هرمٍ ** خير البداة وسيد الحضر ) ( تالله قد علمت سراة بني ** ذبيان عام الحبس والأصر ) ( إن نعم معترك الجياع إذا ** خب السفير وسابئ الخمر ) ( ولنعم حشو الدرع أنت إذا ** دعيت نزال ولج في الذعر ) ( ولنعم مأوى القوم قد علموا ** إن عضهم جلٌّ من الأمر ) ( ولنعم كافي من كفيت ومن ** تحمل له تحمل على ظهر ) ( حامي الذمار على محافظة ال ** جلى أمين مغيب الصدر ) ( حدبٌ على المولى الضريك إذا ** نابت عليه نوائب الدهر )
____________________

( عظمت دسيعته وفضله ** جز النواصي من بني بدر ) ( أيام ذبيانٌ مراغمةٌ ** في حربها ودماؤها تجري ) ( ومرهق النيران يطعم في ال ** لأواء غير ملعن القدر ) ( ويقيك ما وقي الأكارم من ** حوبٍ تسب به ومن غدر ) ( متصرفٍ للمجد معترفٍ ** للنائبات يراح للذكر ) ( جلدٍ يحث على الجميع إذا ** كره الظنون جوامع الأمر ) ) ( ولأنت تفري ما خلقت وبع ** ض القوم يخلق ثم لا يفري ) ( ولأنت أشجع حين تتجه ال ** أبطال من ليثٍ أبي أجر ) ( يصطاد أحدان الرجال فما ** تنفك أجريه على ذخر ) ( والستر دون الفاحشات وما ** يلقاك دون الخير من ستر ) ( أثني عليك بما علمت وما ** أسلفت في النجدات والذكر ) قوله : وعد القول في هرم وهو بفتح الهاء وكسر الراء أحد الأجواد في الجاهلية من بني مرة .
أي : دع ما أنت فيه من وصف الديار وعد القول أي :
____________________

اصرفه إلى مدح هرم . والبداة : جمع باد . والحضر : جمع حاضر كصحب جمع صاحب . وقوله : تالله قد علمت إلخ السراة : جمع سريٍّ وهو الكريم . والحبس والأصر والأزل بفتح الهمزة واحد وهو أن يحدق العدو بالقوم فيحبسوا أموالهم ولا يخرجوها إلى الرعي خشية أن يغار عليها . والأصر : الضيق أيضاً وسوء الحال . وقوله : أن نعم معترك إلخ أن بفتح الهمزة مخففة من الثقيلة مؤولة مع مدخولها بمصدر سادة مسد مفعولي علمت . ومترك : فاعل نعم والمخصوص محذوف وهو اسم مكان أي : نعم موضع ازدحام الفقراء أنت . وأصله في الحرب فاستعاره هنا . وخب السفير أي : أسرع وطار مع الريح . والسفير : ما جف من الورق وسقط وذلك في شدة البرد وقحط الزمان .
وسابئ : معطوفٌ على مترك وهو مهموز الآخر اسم فاعل من سبأ الخمر إذا اشتراها وإنما وصفه بسباء الخمر في شدة الزمان ليدل على كرمه وتناهي جوده فلا تمنعه شدة الزمان من إنفاق ماله . وقوله : ولنعم حشو الدرع إلخ جعل لابس الدرع حشواً لها لاشتمالها عليه كما يشتمل الإناء على ما فيه . وهو العامل في إذا لأنه بمعنى لابس وقيل : متعلق بنعم لما فيه من معنى الثناء كما فيما قبله . والجل بالضم : الحادث العظيم كالجلى . وقوله : على ظهر أي : ظهر حمولٍ قوي . والذمار : ما يجب عليه أن يحميه من حرمه . والجلى : النائبة الجليلة وجمعها جلل وقيل هنا بمعنى : جماعة العشيرة . وقوله : أمين مغيب الصدر أي : لا يضمر إلا الجميل ولا ينطوي إلا على الوفاء والخير وحفظ السر فهو مأمونٌ على ما غاب في صدره .
____________________

والحدب : المتعطف المشفق . والمولى : ابن العم . والضريك : الفقير والمحتاج . والدسيعة : العطية الجزيلة .
وجز الناصية تكون في الأسير إذا أنعم عليه وأطلق جزت ناصيته وأخذت للافتخار .
وراغمهم : نابذهم وهجرهم وعاداهم . وقوله : ومرهق النيران أي : تغشى ناره يقال : رهقت )
الرجل إذا غشيته وأحطت به والمشدد للتكثير . يصف أنه يوقد النار بالليل للطبخ وإطعام الناس وليعشو إليها الضيف والغريب . وكثرة النيران للإخبار عن سعة معروفة . والأواء : شدة الزمان والقحط . وقوله : غير ملعن القدر أي : لا يؤكل ما فيها دون الضيف والجار واليتيم والمسكين فهو محمود القدر لا مذمومها . وأوقع اللعن على القدر مجازاً وهو يريد صاحبها .
وقوله : ويقيك ما وقي الأكارم إلخ وقي بالبناء للمفعول . والحوب : الإثم أي : إن الأكارم وقوا أن يسبوا فيقيك ذلك أنت أيضاً أي : إنه لا يغدر ولا يسب فبأتي بإثم . وروي : ما وقى الأكارم بالبناء للفاعل ونصب الأكارم . وقوله : وإذا برزت به أي : برزت إليه يعني : إذا صرت إليه صرت إلى رجل واسع الخلق طيب الخبر . وقوله : متصرف للمجد إلخ أي : يتصرف في كل باب من الخير لاكتساب المجد . والمعترف : الصابر أي : يصبر لما نابه من الأمر ويحتمله . وقوله : يراح أي : يخش ويخف ويطرب لأن يفعل فعلاً كريماً يذكر به ويمدح من أجله .
____________________

وقوله : جلد يحث إلخ أي : قوي العزم مجتهد فيما ينفع العشيرة من التآلف والاجتماع فهو يحث على ذلك ويدعو إليه إذا كره الظنون الاجتماع والتآلف لما يلزمه عند ذلك من المشاركة والمواساة بماله ونفسه .
والظنون : الذي لا يوثق بما عنده لما علم من قلة خيره . وجوامع الأمر : ما يجمع الناس في شأنهم . وقوله : ولأنت تفري إلخ هذا مثلٌ ضربه . والخالق : الذي يقدر الأديم ويهيئه لأن يقطعه ويخرزه . والفري : القطع . والمعنى : إنك إذا تهيأت لأمرٍ مضيت له وأنفذته ولم تعجز عنه وبعض القوم يقدر الأمر ويتهيأ له ثم لا يعزم عليه ولا يمضيه عجزاً وضعف همة . قال ابن قتيبة في أدب الكتاب : فرى الأديم : قطعه على جهة الإصلاح وأفراه : قطعه على جهة الإفساد .
وقال ابن السيد : هذا قول جمهور اللغويين وقد وجدنا فرى مستعملاً في القطع على جهة الإفساد قال الشاعر : ( فرى نائبات الدهر بيني وبينها ** وصرف الليالي مثل ما فري البرد ) وحكى أبو عبيد في الغريب المصنف عن الأصمعي : أفريت : شققت وفريت بمعنًى وفريت إذا كنت تقطع للإصلاح . انتهى . وقوله : ولأنت أشجع إلخ تتجه : يواجه بعضهم بعضاً في الحرب . والأجر ي جمع جرو مثل الجيم وهو ولد الأسد وغيره . وإنما جعل الليث ذا أولاد لأن ذلك أجراً له وأعدى على ما يريده لاحتياج أولاده إلى ما تتغذى به . وقوله : يصطاد أحدان إلخ جمع واحد والهمزة بدل من واو أي : يصطاد الرجال واحداً بعد الآخر فلا يزال عنده ما )
يدخره لما بعد اليوم . ومثله في وصف جروي أسدٍ :
____________________

( ما مر يومٌ إلا وعندهما ** لحم رجالٍ أو يولغان دما ) وقوله : والستر دون الفاحشات إلخ أي : بينه وبين الفاحشات سترٌ من الحياء وتقى الله ولا ستر بينه وبين الخير يحجبه عنه . وحكي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه لما سمعه قال : ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله : أثني عليك إلخ أي : بما علمت من أمرك وشاهدت من جودك . وما أسلفت أي : ما قدمت في الشدائد . والنجدة : الشدة والبأس .
والذكر : ما يذكر به من الفضل . وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة . وأما بيت المسيب بن علس فهو من قصيدةٍ أيضاً مدح بها قيس بن معديكرب الكندي تقدم شرح بعضها في الشاهد الثاني بعد المائتين ورويت لابن أخته الأعشى ميمون وهي ثابتة في ديوانه أيضاً فيكون المسيب بن علس خال الأعشى . وهذه أبياتٌ منها : ( وإليك أعملت المطية من ** سهل العراق وأنت بالقفر ) ( أنت الرئيس إذا هم نزلوا ** وتوجهوا كالأسد والنمر ) ( أو فارس اليحموم يتبعهم ** كالطلق يتبع ليلة البهر )
____________________

( ولأنت أشجع من أسامة إذ ** نقع الصراخ ولج في الذعر ) ( وأنت أجود بالعطاء من ال ** ريان لما ضن بالقطر ) ( ولأنت أحيا من مخباة ** عذراء تقطن جانب الكسر ) ( ولأنت أبين حين تنطق من ** لقمان لما عي بالأمر ) ( لو كنت من شيءٍ سوى بشرٍ ** كنت المنور ليلة القدر ) وفارس اليحموم هو النعمان بن المنذر ملك الحيرة . واليحموم : اسم فرسه . والطلق : الليلة التي لا حر فيها ولا برد . وليلة البهر : ليلة البدر حين بهر النجوم . وفي القاموس : أسامة بالضم معرفة : علم الأسد . والأسامة لغة فيه . والصراخ بالضم : الصوت الشديد يكون للاستغاثة وغيرها .
والريان قال ياقوت في معجم البلدان : جبل ببلاد طيء لا يزال يسيل منه الماء وضم بالبناء للمفعول أي : بخل . وتقطن بالقاف أي : تسكن . والكسر بكسر الكاف : الشقة السفلى من الخباء . ولقمان هو كما قال الجاحظ في كتاب البيان والتبيين : هو لقمان ابن عاد الأكبر وكانت العرب تعظم شأنه في النباهة والقدر وفي العلم وفي الحكم وفي اللسان وفي الحلم . وهو غير )
لقمان المذكور في القرآن . وترجمة المسيب بن علس تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة
____________________

. وأنشد بعده الشاهد الثامن والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( أنا اقتسمنا خطتينا بيننا ** فحملت برة واحتملت فجار ) على أن فجار مصدر معرفة مؤنث . قال سيبويه : وأما ما جاء اسماً للمصدر كقول النابغة : فحملت برة واحتملت فجار ( فقال : امكثي حتى يسار لعلنا ** نحج معاً قالت : أعاماً وقابله ) فهي معدولة عن الميسرة فأجرى هذا الباب مجرى الذي قبله لأنه عدل كما عدل ولأنه مؤنث بمنزلته . اه . قال الأعلم : الشاهد في فجار وهو اسم للفجرة معدول عن مؤنث كأنه عدل عن الفجرة بعد أن سمي بها الفجور كما سمي البر : برة ولو عدلها لقال : برار كما قال فجار . اه .
قال الشارح المحقق : لم يقم لي إلى الآن دليلٌ قاطع على تعريفه ولا تأنيثه إلى آخر ما حققه وأجاد فيه البحث ودققه .
____________________

ومثله لناظر الجيش في شرح التسهيل قال : وما ذكره المصنف من أن ما كان من أسماء الأفعال على فعال محكوم بتأنيثه كأنه أمر مجمع عليه من النحاة . وهو أمر يؤخذ تقليداً . وقال في باب منع الصرف أيضاً : وأما قوله وكلها معدول عن مؤنث فهو أمر كالمجمع عليه عند النحاة ولكن يتعين التعرض لبيان المعدول عنه في كل من الأربعة المذكورة . أما الصفة المختصة بالنداء فالظاهر أن فساق معدولٌ عن فاسقه لقصد المبالغة في الذم . وأما الصفة الجارية مجرى الأعلام فذكروا أنها معدولة عن صفات غلبت فاستعملت أسماء كنابغة في قوله : ونابغة الجعدي في الرمل بيته فنابغة : نعتٌ في الأصل إلا أنه غلب حتى صار اسماً . قالوا : وكذلك لا يجوز أن تتبع موصوفاً . ولا يخفى أن الغلبة لا تكون عدلاً لأن العدل عبارة عن تبديل لفظ بلفظ للدلالة على المبالغة في ذلك المعنى الذي أفاده اللفظ المعدول عنه . ولم يتحقق لي وجه العدل في هذه المسألة . وأما المصدر فقالوا : هو معدول عن مصدر مؤنث معرفة وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك المصدر للمعرفة المؤنثة الذي عدل عنه . ويفهم من هذا أنه عدلٌ تقديريٌّ لا تحقيقي . وأما الحال فقال : إنه عدلٌ عن مصدر مؤنث معرفة . وقد فسر سيبويه بداد بقوله : )
بداداً . وليس هذا بعدلٍ لأنه نكرة وإنما هي معدولة عن البدة أو المبادة وهذا أيضا عدل تقديري .
____________________

وأما اسم الفعل فلم يذكروا ماذا عدل منه ولم يتحقق لي وجه العدل فيه . والعجب أنهم يجعلون اسم الفعل أصلاً في العدل والتأنيث . وما برحت أتطلب بيان ما عدل عنه نزال وبيان كونه مؤنثاً ولم أقف من كلامهم على ما يوضح لي ذلك . والذي يظهر أن القول بالعدل والتأنيث في نزال ليس على وجه التحقيق بل على وجه التقدير . وقال صاحب الإفصاح : نزال عند سيبويه علمٌ على المعنى كسبحان ومثله حلاق وجماد في اسم المنية والسنة المجدبة .
وقد يكون هذا العدل علماً على الشخص كحذام . ويرى سيبويه أن هذه الأشياء بنيت حملاً على نزال ونزال بني حملاً على الفعل . اه . ويظهر من كلامه أن العدل في هذه الأمور إنما هو تقديريٌّ . وأما قوله إن نزال عند سيبويه علم فلم يتضح لي كونه علماً . انتهى ما أورده ناظر الجيش باختصار . واستدل ابن السيد في شرح أبيات الجمل للتأنيث بشيئين ضعيفين قال : أراد بفجار الغدرة . وتسمى الغدرة فجار كما تسمى المرأة حذام . فإن قلت : لما لم جعلته للغدرة المؤنثة دون أن تجعله اسماً للغدر وما دليلك على هذه الدعوى قلنا : على ذلك دليلان : أحدهما : أن فعال المعدول لا يعدل إلا عن مؤنث ألا تراه قد قال دعيت نزال وليس هذا في بيت زهير وحده بل هو مطرد في فعال حيثما وقعت . والثاني : أن النابغة سمى الوفاء برة وهو يريد البر وكذلك سمى الغدر فجار وهو يريد الفجور . انتهى . وقال اللخمي : فجار اسمٌ للفجور وهو معدول عن مؤنث كأنه عدل عن الفجرة وهو مصدر بعد أن سمى بها الفجور كما سمى البر : برة . هذا مذهب سيبويه وحكى غيره أنه معدول عن صفة غالبة ودليل ذلك أنه قال : فحملت برة واحتملت فجار
____________________

فجعلها نقيض برة وبرة صفة كأنه قال : حملت الخصلة البرة وحملت الخصلة الفاجرة كما تقول : الخصلة القبيحة والحسنة فهما صفتان . اه . وهذا الذي حكاه هو مذهب السيرافي كما نقله الشارح عنه . وزاد ابن جني في الطنبور نغمة فزعم أن فجار معدولةٌ عن فجرة علماً بدون أل قال في باب التفسير على المعنى دون اللفظ من كتاب الخصائص : اعلم أن هذا موضعٌ قد أتعب كثيراً من الناس واستهواهم ودعاهم من سوء الرأي وفساد الاعتقاد إلى ما مذلوا به وتتايعوا فيه حتى إن أكثر ما ترى من هذه الآراء المختلفة والأقوال المستشنعة إنما دعا إليها )
القائلين بها تعلقهم بظواهر هذه الأماكن دون أن يبحثوا عن سر معانيها ومعاقد أغراضها . فمن ذلك قول سيبويه في بيت النابغة : إن فجار معدولةٌ عن الفجرة وإنما غرضه إنها معدولة عن فجرة علماً معرفة على ذا يدل هذا الموضع . ويقويه ورود برة معه في البيت وهي كما ترى علم لكنه فسر على المعنى دون اللفظ . وسوغه أنه لما أراد تعريف الكلمة المعدولة عنها مثل ذلك بما يعرف باللام لأنه لفظ معتاد وترك لفظ فجرة لأنه لا يعتاد ذلك علماً وإنما يعتاد نكرة من جنسها نحو : فجرت فجرةً كقولك : تجرت تجرةً . ولو عدلت برة على هذا الحد لوجب أن يقال : برار كفجار . اه . وقد أخذ الشاطبي هذا الكلام فزاده تنويراً في شرح الألفية عند قول ناظمها : ( ومثله برة للمبره ** كذا فجار علم للفجره )
____________________

قال : ومن علم الجنس للمعنى : فجار وهو علم الفجور ومعدول عن فجرة علماً لا عن الفجرة فإنه من باب حذام المعدول عن علم مثله . فقول سيبويه : إن فجار معدولٌ عن الفجرة تجوز . كذا قال ابن جني والمحققون . وأل في الفجرة في كلام الناظم لا إشكال فيها إذ لم يرد العلم كما أراد سيبويه وإنما مراده الجنس الذي هو مطلق الفجور . ومثل هذين المثالين فينة في قولهم : ما ألقاه إلا فينةً أي : في الندرة . قال ابن جني : هو علم لهذا المعنى . ومنه حماد للمحمدة ويسار للميسرة . وأشار الناظم بمثالي برة وفجار إلى بيت النابغة . وفي عبارته شيءٌ وهو أن الفجرة هي المرة الواحدة من الفجور ومعلوم أن فجار ليس علماً لجنس المرة الواحدة فإن أهل اللغة لم ينقلوا إلا أنه علم للفجور المطلق ولا يصح أن يريد أن فجار اسم جنس للفجرة المعدول هو عنه إذ لم يقولوا ذلك ولا يصح في نفسه . فثبت أن قوله : فجار علم للفجرة مشكل .
والجواب أن إتيانه بالفجرة مقصودٌ له وذلك أن القاعدة في فعال أنه مؤنث ومعدولٌ عن مؤنث .
وقد بين ذلك سيبويه في أبواب ما لا ينصرف غاية البيان حتى إنه قدر ما لم يستعمل مؤنثاً كأنه استعمل كذلك ثم جعل فعال معدولاً عنه . وإذا كان كذلك فالاسم المعدول عنه وهو العلم المقدر اسم لجنسٍ مؤنث إذ لا بد من مطابقته له في التأنيث ولذلك قال : ومثله برة للمبرة ولم يقل للبر ونحوه . والحاصل أن الناظم نبه بمثال الفجرة على أن فعال علم لاسم الجنس المؤنث فإن كان مستعملاً فذاك وإلا قدر له اسم مؤنث . وهذه قاعدةٌ محل بيانها باب ما لا ينصرف .
انتهى كلامه باختصار يسير . وهذا كله لا يدفع ما أورده الشارح المحقق . والبيت من قصيدةٍ )
للنابغة الذبياني هدد بها زرعة بن عمرو الكلابي وكان زرارة لقي النابغة بعكاظ وأشار عليه أن يشير على قومه أن يغدروا بني أسد
____________________

وينقضوا حلفهم فأبى عليه النابغة وجعل خطته الذي التزمها من الوفاء برة وخطة زرعة لما دعاه إليه من الغدر ونقض الحلف فاجرة . وبلغ النابغة أن زرعة هجاه وتوعده فقال النابغة وهذا أول القصيدة عند أبي عمرو الشيباني والأصمعي : ( نبأت زرعة والسفاهة كاسمها ** يهدي إلي غرائب الأشعار ) ( فحلفت يا زرعة بن عمرٍ و إنني ** مما يشق على العدو ضراري ) ( أعلمت يوم عكاظ حين لقيتني ** تحت الغبار فما خططت غباري ) ( أنا اقتسمنا خطتينا بيننا ** فحملت برة واحتملت فجار ) ( فلتأتينك قصائدٌ وليدفعن ** ألفٌ إليك قوادم الأكوار ) ( رهط ابن كوزٍ محقبو أدراعهم ** فيهم ورهط ربيعة بن حذار ) ( ولرهط حرابٍ وقدٍّ سورةٌ ** في المجد ليس غرابها بمطار )
____________________

( وبنو قعينٍ لا محالة أنهم ** آتوك غير مقلمي الأظافر ) ( سهكين من صدأ الحديد كأنهم ** تحت السنور جنة البقار ) ( وبنو سواءة زائروك بوفدهم ** جيشٌ يقودهم أبو المظفار ) ( وبنو جذيمة حي صدقٍ سادةٌ ** غلبوا على خبتٍ إلى تعشار ) ( جمعٌ يظل به الفضاء معضلاً ** يذر الإكام كأنهن صحار ) وقال في آخرها : ( حولي بنو دودان لا يعصونني ** وبنو بغيضٍ كلهم أنصاري ) وقوله : نبئت زرعة إلخ بالبناء للمفعول والتاء نائب فاعل وزرعة مفعول ثان وجملة : يهدي إلخ في موضع المفعول الثالث . وقوله : والسفاهة كاسمها اعتراض أي : فعل السفاهة قبيح وإنما قال هذا لأن السفاهة كما تنكرها القلوب والعقول تمج الآذان اسمها . فإن قلت : ما اسم السفاهة حتى قال : كاسمها قلت : أراد ما سمي سفاهة . أي : المسمى بهذا الاسم قبيحٌ كما أن الاسم الذي هو السفه قبيح إلا أنه لما لم يجد إلى العبارة عن الذات طريقاً إلا باسمه قال : والسفاهة كاسمها . كذا قال الإمام المرزوقي . وقوله : يهدي إلي غرائب الأشعار إلخ يعني أنه )
غير مشهور فالشعر من قبله غريب إذ ليس من أربابه . قوله : فحلفت يا زرع إلخ جملة : إنني إلخ جواب القسم والضرار
____________________

بالكسر : الدنو من الشيء واللصوق به يقول : أنا قويٌّ عزيز فالعدو يكره مجاورتي له . وقوله : أعلمت إلخ الاستفهام تقريريٌّ . وروى : أنسيت يوم وخططت بالخاء المعجمة : شققت يقال : ما خط غباره أي : لم يدن منه ولم يتعلق به . وقوله : أنا اقتسمنا إلخ بفتح همزة أنا لأنها مع معموليها في تأويل مصدر سادٍّ مسد مفعولي علمت هذه وراية أبي عمرو . وروى الأصمعي : يوم اختلفنا خطتينا وابن الأعرابي : يوم احتملنا . يقول : بررت أنا وفجرت أنت . قال شارح الديوان : قوله فجار يعني خطة فاجرة خرج مخرج حذام ورقاش .
والخطة بالضم : الحالة والخصلة . قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وقال في البر حملت وفي الفجور احتملت لأن العرب إذا استعملت فعل وافتعل بزيادة التاء كان الذي لا زيادة فيه يصلح للقليل والكثير والذي فيه الزيادة للكثير خاصة نحو : قدر واقتدر وكسب واكتسب . فأراد أن يهجو بكثرة غدره وإيثاره للفجور فذكر اللفظة التي يراد بها الكثير ليكون أبلغ في الهجو . ولو قال : حملت فجار لأمكن أن لا يكون غدر إلا مرة واحدة . وأما الأفعال التي لا تستعمل إلا بالتاء فخارجة عن هذا الحكم لأنها تصلح لما قل ولما كثر كقولك : استويت على الشيء واجتويت البلد إذا كرهته واكتريت الدار . فهذا لا يقال فيه إنه للتكثير خاصة لأنه لم يستعمل غير مزيد .
____________________

وقوله : فلتأتينك قصائد إلخ هذا شروعٌ في تهديد زرعة . يقول : والله لأغيرن عليكم بقصائد الهجو ورجال الحرب . وروي بنصب ألف ورفع قوادم . يقول : لتركبن إليك نجائب تدفع إليك جيشاً . والكور بالضم : الرحل وقادمته : العودان اللذان يجلس بينهما الراكب .
وقوله : رهط ابن كوز إلخ أي : هم رهط إلخ . وابن كوز وربيعة بن حذار بضم الحاء المهملة وكسرها هما من بني أسد . وقوله : محقبو أدراعهم أي : يجعلونها خلفهم في موضع الحقائب .
والحقيبة : خرج صغيرٌ يربطه الراكب خلفه . وقوله : ولرهط حرابٍ وقد إلخ الأول بفتح الحاء وتشديد الراء المهملتين والثاني بفتح القاف وتشديد الدال . قال ابن الكلبي وابن الأعرابي : هما من بني والبة ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد . والسورة بالضم : الفضيلة . وهذا البيت استشهد به الزمخشري والبيضاوي عند قوله تعالى : فأتوا بسورةٍ من مثله على أن السورة : الرتبة . وقوله : ليس غرابها بمطار كناية عن كثرة الرهط ودوام العز لهما . وإذا وصف المكان بالخصب وكثرة الشجر قيل : لا يطار غرابه . يريد أن يقع في المكان فيجد ما يشبع ولا يحتاج )
أن يتحول عنه . فجعله مثلاً للمجد أي : مجدهم ليس بمنقلع . وقال أبو عبيدة : هو في مكان مرتفع لا يؤذى من العز . أراد أنهم أعزاء منعاء لا يوصل إليهم . وتخصيص الغراب لأنه المثل في الحذر فإنه يطير بأدنى ريبةٍ . وقوله : وبنو قعين إلخ هم من بني أسد . وقوله : غير مقلمي إلخ يريد إنهم آتوك غير مسالمين لك وعداوتهم ظاهرة وإنما يأتونك للمحاربة . وآتوك : جمع آتٍ .
____________________


وقوله : سهكين من صدأ إلخ متلبسين برائحة الحديد المصدئ . يعني أن السلاح يصدأ عليهم لطول لبسهم إياه . والسهكة : رائحة الحديد المصدئ . والسنور : الدروع وقيل : السلاح كله .
والبقار بالموحدة والقاف المشددة : موضعٌ برمل عالج قريبٌ من جبلي طيئ تسكنه الجن .
يقول : كأنهم جنٌّ في شجاعتهم . وقوله : وبنو سواءة بضم السين والمد هم من بني أسد أيضاً .
وأبو المظفار هو مالك بن عوف من بني أسد . وقوله : وبنو جذيمة إلخ بفتح الجيم وكسر الذال المعجمة هو من بني أسد أيضاً . وجذيمة هو ابن مالك بن نصر بن قعين . وخبت بفتح المعجمة وسكون الموحدة : اسم ماء في ديار كندة . وتعشار بكسر المثناة الفوقية وبعد المهملة شين معجمة : موضعٌ في بلاد بني تميم وقيل : جبلٌ في بني ضبة وقال الخليل : ماءٌ لبني ضبة في نجد .
كذا في معجم ما استعجم . وقوله : والقوم غاضرة إلخ غاضرة بإعجام الأولين : قومٌ من بني أسد أيضا . يقول : لم يتحملوا ليهربوا إنما أرادوا الإقامة والثبات في منازلهم . وقوله : جمع يظل به إلخ معضلاً بفتح الضاد المشددة . غاصاً ضيقاً . وقوله : حولي بنو دودان هم من بني أسد وبنو بغيض هم رهط النابغة . وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
____________________

وأما البيت الذي أورده سيبويه بعد البيت الشاهد فقد أورده غفلاً غير منسوب ولم يعزه شراح أبياته وقال ابن السيد لا أعرف قائله . وعينه ابن هشام اللخمي فقال : هو لحميدٍ الأرقط يقول لزوجه وكانت قد سألته الحج وكان مقلاًّ فقال لها : امكثي حتى يرزقنا الله مالاً نحج به . فقالت : منكرة لقوله : أأمكث عاماً وقابله أي : قابل ذلك العام . والقابل بمعنى المقبل . وهو جارٍ على قبل .
يقال : أقبل وقبل وأدبر ودبر . وهو ظرفٌ ومثله : معاً وعاملهما محذوف دل عليه المعنى كما قدرنا . والهمزة للإنكار . وهو من أبياتٍ ثلاثة هي : فقلت امكثي حتى يسار . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( لعل ملمات الزمان ستنجلي ** وعل إله الناس يوليك نائله ) ويسار : اسم لليسر معدول عن الميسرة وهي الغني . وترجمة حميد الأرقط تقدمت في )
الشاهد الثالث بعد الأربعمائة . وأنشد بعده الشاهد التاسع والستون بعد الأربعمائة وهو من شواهد س : ( جماد لها جماد ولا تقولي ** طوال الدهر ما ذكرت : حماد )
____________________

على أنهم قالوا : معناه قولي لها : جموداً ولا تقولي : حمداً بالتنكير والتذكير . وهذا واردٌ على قولهم إن فعال معدولٌ عن معرف مؤنث . وممن قال كذا ابن السراج في الأصول فإنه قال بعد ما أنشد البيت : قال سيبويه : يريد قولي لها : جموداً ولا تقولي لها : حمداً . ومنهم ابن الشجري قال في أماليه : جماد : اسمٌ للجمود وحماد : اسمٌ للحمد في هذا البيت . أراد قولوا لها : جموداً ولا تقولوا لها : حمداً . وهذا لا يرد عليهم فإنهم قالوا : لا بد من التعريف والتأنيث في فعال بالمعاني الأربعة . وقولهم : معناه جموداً وحمداً وما أشبهه فإنما هو تساهلٌ في التعبير عنه . وكذلك فعل سيبويه إلا أنه اعتبر التأنيث في المعدول عنه إما تحقيقاً أو تقديراً قال : وأما ما جاء اسماً والخيل تعدو بالصعيد بداد فهذا بمنزلة قوله : تعدو بدداً إلا أن هذا المعدول عن حده مؤنثاً . وكذلك لا مساس والعرب تقول : أنت لا مساس ومعناه لا تمسني ولا أمسك . ودعني كفاف فهذا معدولٌ عن مؤنث وإن كانوا لم يستعملوا في كلامهم ذلك للمؤنث الذي عدل عنه بداد وأخواتها . ونحو ذا في كلامهم .
____________________

ألا ترى أنهم قالوا : ملامح ومشابه وليالٍ فجاء جمعه على حد ما لم يستعمل في الكلام لا يقولون : ملمحة ولا ليلاة . ونحو ذلك كثير قال الشاعر : جماد لها جماد ولا تقولي . . . . . . . . . . . . . . . البيت فهذا بمنزلة جموداً . ولا نقول عدل عن قوله جمداً لها ولكنهما عدلا عن مؤنث كبداد . انتهى نص سيبويه . فعنده يجب فيما لو كان من أسماء الأجناس غير مؤنث فجعل له اسم فعال أن يقدر له التأنيث . وقد قدر سيبويه في حضار وسفار أنه اسم الكوكبة والماءة وهما من علم الشخص . وقال السيرافي في بداد : إنه معدول عن البدة أو المبادة أو غير ذلك يعني مما يقدر مؤنثاً يعطى معنى ذلك المذكر . والبيت من قصيدة للمتلمس أورد بعضها الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في حماسته وهي : ( صبا من بعد سلوته فؤادي ** وسمح للقرينة بانقياد ) ) ( عقاراً عتقت في الدن حتى ** كأن حبابها حدق الجراد ) ( جماد لها جماد ولا تقولن ** لها يوماً إذا ذكرت حماد ) هذا ما أورده الشريف . وقوله : صبا من بعد سلوته إلخ ماضي يصبو صبوةً أي : مال إلى الجهل والفتوة . وسمح بمهملتين : بمعنى ذل وفاعله ضمير الفؤاد . ويقال : أسمح بالألف أيضاً .
والقرينة : النفس ومثله القرونة بالواو أيضاً . يقال : أسمحت قرينته وقرونته وكذلك قرينه وقرونه بدون هاء أي : ذلت نفسه وتابعته على الأمر .
____________________

وقوله : كأني شاربٌ يوم استبدوا إلخ أي : مضوا برأيهم كذا قال الشريف صاحب الحماسة . وهو من استبد فلانٌ بكذا أي : انفرد به . والواو ضمير تعود على قوم حبيبته . وقوله : وحث بهم إلخ أي : أسرع بهم . وحادي فاعل حث وهو سائق الإبل بالحداء يقال : حدا بالإبل يحدو حدواً أي : حثها على السير بالحداء كغراب وهو الغناء لها . وقوله : وراء البيد قال الشريف : أي : حال دونهم البيد وهو جمع بيداء وهي القفر والمفازة . وقوله : عقاراً عتقت إلخ بضم العين مفعول شارب بمعنى الخمر .
وهذا البيت يشهد للأصمعي فإنه قال : إن الخمر إنما سميت عقاراً لطول مكثها في الدن .
واحتج بقولهم : عاقر فلان الشراب إذا لزمه وأدمنه . والحباب بالفتح : ما ينتفخ من الماء ونحوه ويعلوه . قال الدينوري في كتاب النبات : يقال لما ينزو من الخمر إذا مزجت : الحباب والفواقع .
والجنادع : جنادب تكون في العشر . فشبه ما ينزو منها بالجنادب إذا قمصت . وأنشد هذا البيت مع البيت الأخير . وقد شبه حباب الخمر بعيون الجراد . وقوله : جماد لها جماد إلخ بالجيم : الجمود والكلمة الأخيرة حماد بالمهملة : الحمد . قال الأعلم : هما اسمان للجمود والحمد معدولين عن اسمين مؤنثين سميا بهما كالمجمدة والمحمدة . وقال صاحب الصحاح : يقال للبخيل جماد له . وإنما بني على الكسر لأنه معدول عن المصدر أي : الجمود كقولهم : فجار أي : الفجرة . وهو نقيض قولهم : حماد بالمهملة في المدح .
____________________

وأنشد الأبيات الثلاثة الأخرة للمتلمس ثم قال : أي قولي لها جموداً ولا تقولي لها حمداً وشكراً . اه . وكونه معدولاً عن المصدر لا يكون سبباً لبنائه . قال الشريف صاحب الحماسة : الضمير في لها يعود على القرينة . قال جامع شعره أبو الحسن الأثرم : أي : أجمد الله خيرها يقول : قلله . يعني الخمر . اه . ومنه تعلم أن الأعلم لم يصب في قوله : وصف امرأةً بالجمود والبخل وجعلها مستحقة للذم غير مستوجبة للحمد . هذا )
كلامه . وسببه لم يطلع على البيت الأول . وكذلك لم يصب ابن السيد في قوله : فيما كتبه على كامل المبرد : دعا على عاذلته بأن يقل خيرها . وهو مأخوذٌ من الأرض الجماد وهي التي لا تنبت شيئاً . وقيل إنه دعا على بلاد هذه المرأة بالجمود وأن لا تنبت شيئاً . انتهى . وقوله : ولا تقولي بياء المخاطبة . وهذا هو المشهور وهو محرف من نون التوكيد الخفيفة كما رويناها عن الشريف وهي الصواب فإنه خطابٌ لمذكر ولم يتقدم ذكر أنثى . ويؤيده ما رواه ابن الشجري في أماليه : ولا تقولوا بالواو . وقوله : طوال الدهر بفتح الطاء ظرف للقول يقال : لا أكلمه طوال الدهر وطول الدهر بمعنًى . وما : مصدرية ظرفية ونائب فاعل ذكرت ضمير القرينة وحماد في موضع نصب لأنه مقول القول . وهذه الأبيات الأربعة أول قصيدةٍ وما أحسن هذه الأبيات منها : ( وأعلم علم حقٍّ غير ظنٍّ ** وتقوى الله من خير العتاد ) ( لحفظ المال خيرٌ من ضياعٍ ** وضربٍ في البلاد بغير زاد ) ( وإصلاح القليل يزيد فيه ** ولا يبقى الكثير مع الفساد )
____________________

وقد ضمن البيت الأخير بعضهم في الهجاء فقال : ( يحصن زاده عن كل ضرسٍ ** ويعمل ضرسه في كل زاد ) ( ولا يروي من الأشعار شيئاً ** سوى بيتٍ لأبرهة الإيادي ) ( قليل الماء تصلحه فيبقى ** ولا يبقى الكثير مع الفساد ) وقد أخطأ هذا القائل في نسبة البيت إلى أبرهة من وجهين . ومثله لابن وكيع التنيسي : ( خيرٌ له من قصده ** إخوانه مسترفدا ) وروي أن حاتماً الطائي لما سمع قول المتلمس قال : ما له قطع الله لسانه يحمل الناس على البخل هلا قال : ( وما الجود يفني المال قبل فنائه ** ولا البخل في مال البخيل يزيد ) ( فلا تلتمس فقراً بعيشٍ فإنه ** لكل غدٍ رزقٌ يعود جديد ) ( ألم ترى أن المال غادٍ ورائحٌ ** وأن الذي يعطيك ليس يبيد ) والمتلمس شاعرٌ جاهلي مفلقٌ مقل ذكره الجمحي في الطبقة السابعة من شعراء الجاهلية . قال أبو عبيدة : اتفقوا على أن أشعر المقلين في الجاهلية ثلاثة : المسيب بن علس والحصين بن حمام )
والمتلمس . واتفقوا على أن المتلمس أشعرهم . والمتلمس اسمه جرير وكنيته أبو عبد الله بن عبد المسيح بن عبد الله بن
____________________

زيد بن دوفن بن حرب بن وهب بن جلى بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان . وقيل : إنه جرير بن عبد العزى وقيل : غير هذا . ودوفن بفتح الدال وسكون الواو وفتح الفاء بعدها نون . وجلى بضم الجيم وتشديد اللام بعدها ألف مقصورة .
وأحمس : أفعل من الحماسة . وضبيعة بالتصغير . وسيأتي إن شاء الله وجه تسميته بالمتلمس في باب العلم . وكان المتلمس مع ابن أخته طرفة بن العبد ينادم عمرو بن هند ملك الحيرة ثم إنهما هجواه فلما أشعر بهجوهما كره قتلهما عنده فكتب لهما كتابين إلى عامل البحرين يأمر بقتلهما وقال لهما : إني كتبت لكما بصلة فاذهبا لتقبضاها فخرجا حتى إذا كانا ببعض الطريق إذ هما بشيخٍ على يسار الطريق وهو يحدث ويأكل ويقتل القمل فقال المتلمس : ما رأيت كاليوم شيخاً أحمق فقال له الشيخ : ما رأيت من حمقي أخرج الداء وآكل الدواء وأقتل الأعداء أحمق مني والله من يحمل حتفه بيده فاستراب الملتمس بقوله وطلع عليهما غلامٌ من الحيرة فقال له الملتمس : تقرأ يا غلام قال : نعم . ففك الصحيفة ودفعها إليه فإذا فيها : أما بعد فإذا أتاك الملتمس فاقطع يديه ورجليه وادفنه حيا فقال لطرفة : ادفع إليه بصحيفتك فإن فيها مثل الذي في صحيفتي فقال طرفة : كلا لم يكن ليجترئ علي فإن بني ثعلبة ليسوا كبني ضبيعة .
فقذف الملتمس صحيفته في نهر الحيرة وهرب إلى بني جفنة ملوك الشام وذهب طرفة إلى عامل البحرين فقتل هناك كما شرحناه مفصلاً في ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
____________________


وقال المتلمس في ذلك يخاطب طرفة : ( من مبلغ الشعراء عن أخويهما ** خبراً فتصدقهم بذاك الأنفس ) ( أودى الذي علق الصحيفة منهما ** ونجا حذار حبائه الملتمس ) ( ألق الصحيفة لا أبا لك إنه ** يخشى عليك من الحباء النقرس ) والنقرس : داء في الرجل معروف . وصارت صحيفة الملتمس مثلاً يضرب لمن يحصل له الضرر من جهة النفع . قال الفرزدق : ( يا مرو إن مطيتي محبوسةٌ ** ترجو الحباء وربها لم ييأس ) ( وحبوتني بصحيفةٍ مختومةٍ ** يخشى علي بها حباء النفوس ) ( ألق الصحيفة يا فرزدق لا تكن ** نكداء مثل صحيفة الملتمس ) )
والبيت الأول من شواهد سيبويه واستشهد به على ترخيم مروان بحذف الألف والنون لزيادتهما وكون الاسم ثلاثياً بعد حذفهما . وأراد مروان بن الحكم .
____________________

وسبب هذا الشعر أن الفرزدق قدم المدينة مستجيراً بسعيد بن العاصي من زياد ابن سمية فامتدح سعيداً ومروان عنده قاعد فقال : ( ترى الغر الجحاجح من قريشٍ ** إذا ما الأمر بالمكروه عالا ) ( قياماً ينظرون إلى سعيدٍ ** كأنهم يرون به هلالا ) فقال له مروان : قعوداً يا غلام . فقال : لا والله يا أبا عبد الملك إلا قياماً . فأغضب مروان : وكان معاوية يعادل بين مروان وبين سعيد فلما ولي مروان كتب للفرزدق كتاباً إلى واليه بضريه أن يعاقبه إذا جاء وقال للفرزدق : إني قد كتبت لك بمائة دينار فلما أخذ الكتاب وانصرف ( قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ** إن كنت تارك ما أمرتك فاجلس ) ( ودع المدينة إنها مرهوبةٌ ** واعمد لمكة أو لبيت المقدس ) ففطن الفرزدق وأجابه بهذه الأبيات فكان الفرزدق لا يقرب مروان في خلافته ولا عبد الملك ولا الوليد . وروي من طريقٍ أخرى : أن مروان تقدم إلى الفرزدق أن لا يهجو أحداً وكتب إليه البيتين فأجابه الفرزدق بالأبيات . وقوله : فاجلس أي : اذهب إلى الجلس بفتح الجيم وسكون اللام وهو نجد . يقال : جلس الرجل إذا أتى نجداً . والحباء : العطاء . وجعل الرجاء للناقة وهو يريد نفسه .
____________________

وروى ابن السيد في شرح أبيات الجمل هذا الخبر على غير هذا الوجه فقال : إن الفرزدق كان مقيماً بالمدينة وكان أزنى الناس فقال شعراً يقول فيه : ( هما دلتان من ثمانين قامةً ** كما انقض بازٍ أقتم الريش كاسره ) ( فلما استوت رجلاي في الأرض قالتا ** أحيٌّ يرجى أم قتيلٌ نحاذره ) ( فقلت : ارفع الأسباب لا يشعروا بنا ** وأقبلت في أعجاز ليلٍ أبادره ) ( أحاذر بوابين قد وكلا بنا ** وأسمر من ساجٍ تصل مسامره ) فعيره جرير بذلك في شعر طويل منه : ( لقد ولدت أم الفرزدق فاجراً ** فجاءت بوزوازٍ قصير القوائم ) ( تدليت تزني من ثمانين قامةً ** وقصرت عن باع العلا والمكارم ) ( هو الرجس يا أهل المدينة فاحذروا ** مداخل رجسٍ بالخبائث عالم ) ) ( لقد إخراج الفرزدق عنهم ** طهوراً لما بين المصلى وواقم ) فاجتمع أشراف المدينة إلى مروان بن الحكم وكان والياً بها فقالوا : ما يصلح أن يقال مثل هذا الشعر بين أزواج النبي صلى الله عليه وسلم وقد أوجب عليه الحد فقال مروان : لست أحده ولكن أكتب إلى من يحده . فأمره مروان بالخروج من المدينة وأجله ثلاثة أيام ففي ذلك قال : ( توعدني وأجلني ثلاثاً ** كما وعدت لمهلكها ثمود ) ثم كتب له كتاباً إلى عامله يأمره فيه بأن يحده ويسجنه وأوهمه أن كتب له بجائزة .
____________________

ثم ندم على ما فعل فوجه عنه رجلاً وقال له : أنشده هذين البيتين : قل للفرزدق والسفاهة كاسمها ففطن الفرزدق لما أراد فرمى الصحيفة وقال الأبيات الثلاثة وخرج هارباً حتى أتي سعيد بن العاصي وعنده الحسن والحسين وعبد الله بن جعفر رضي الله عنهم فأخبرهم الخبر فأمر له كل واحدٍ منهم بمائة دينار وراحلة وتوجه إلى البصرة . وقيل لمروان : أخطأت فيما فعلت كأنك عرضت عرضك لشاعر مضر فوجه وراءه رسوله ومعه مائة دينار وراحلةٌ خوفاً من هجائه . ولما هرب المتلمس إلى ملوك الشام هجى عمرو بن هند بقصيدةٍ وحرض قوم طرفة على الطلب بدمه أولها : ( إن العراق وأهله كانوا الهوى ** فإذا نأى بي ودهم فليبعد ) إلى أن قال : ( إن الخيانة والمغالة والخنى ** والغدر تتركه ببلدة مفسد ) ( ملكٌ يلاعب أمه وقطينها ** رخو المفاصل أيره كالمرود ) ( بالباب يرصد كل طالب حاجةٍ ** فإذا خلا فالمرء غير مسدد ) فبلغ هذا الشعر عمراً فحلف إن وجده بالعراق ليقتله وأن لا يطعمه حب العراق فقال المتلمس من قصيدة : ( آليت حب العراق الدهر أطعمه ** والحب يأكله في القرية السوس )
____________________

( لم تدر بصرى بما آليت من قسمٍ ** ولا دمشق إذا ديس الكراديس ) والبيت من شواهد سيبويه على أن نصب حب على نزع الخافض أي : على حب العراق .
وآليت بالخطاب لعمرو بن هند يقال له : حلفت لا تتركني بالعراق ولا تطعمني من حبه والحال )
أن الحب لا يبقى إن أبقيته بل يسرع إليه الفساد ويأكله السوس فالبخل به قبيح . وهذا على طريق الاستهزاء به والسخرية . وبصرى : مدينة بالشام . يقول : لا تدري كثرة الطعام الذي ببصرى وبدمشق . والكراديس : أكداس الطعام . ومن شعر المتلمس وهو من شواهد البديع : ( ولا يقيم على ضيمٍ يراد به ** إلا الأذلان : عير الحي والوتد ) ( هذا على الخسف مربوطٌ برمته ** وذا يشج فلا يرثي له أحد ) وأنشد بعده الشاهد السبعون بعد الأربعمائة وهو من أبيات المفصل :
____________________

( أطلت فراطهم حتى إذا ما ** قتلت سراتهم كانت قطاط ) على أن قطاط فيه وصف مؤنث بمعنى قاطةٍ أي : كافية . قال الزمخشري في المفصل : أي : كانت تلك الفعلة كافيةً لي وقاطة لثأري أي : قاطعة له . أشار إلى أن اسم كان ضمير الفعلة المفهومة من قتلت سراتهم . وقطاط مبنية على الكسر في محل نصب خبر كان . قال ابن يعيش في شرحه : وقطاط معدولٌ عن قاطة أي : كافية يقال : قطاط بمعنى حسبي من قولهم : قطك درهم أي : حسبك مأخوذ من القط وهو القطع كأن الكفاية قطعت عن الاستمرار . انتهى .
وفراطهم بكسر الفاء أي : إمهالي إياهم فهو مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف . قال صدر الأفاضل : أي : أطلت إمهالهم والتأني بهم . والصواب : فراطكم وسراتكم بالخطاب كما سيأتي . قال ابن السيرافي في شرح أبيات الغريب المصنف : الفراط هو التقدم . يقول : سبقت إليكم بالتهدد والوعيد لتخرجوا من حقي . والسراة بالفتح قال أهل اللغة قاطبة : هو جمع سري بمعنى الشريف . ويرد عليهم أن فعيلاً لا يجمع على فعلة بالتحريك لهذا قال الشارح المحقق في شرح الشافية : الظاهر أنه اسم جمع لا جمع . وذهب السهيلي في الروض الأنف إلى أنه مفرد لا جمع ولا اسم جمع قال : لا ينبغي أن يقال في سراة القوم إنه جمع سري لا على القياس ولا على غير القياس إنما هو مثل كاهل القوم وسنامهم . والعجب كيف خفي هذا على النحويين حتى قلد الخالف منهم السالف فقالوا : سراة جمع سري . ويا سبحان الله كيف يكون جمعاً له وهم يقولون : جمع سراة سروات مثل قطاة وقطوات . يقال : هؤلاء من سروات الناس كما تقول : من رؤوسهم . ولو كان السراة جمعاً ما جمع لأنه على وزن الفعلة ومثل هذا البناء )
في المجموع لا يجمع وإنما سري فعيل من السرو وهو الشرف فإن جمع على لفظه
____________________

قيل : سريٌّ وأسرياء كغني وأغنياء ولكنه قليلٌ وجوده وقلة وجوده لا تدفع القياس فيه . وقد حكاه سيبويه . انتهى . والبين من أبياتٍ لعمرو بن معديكرب الصحابي قالها قبل إسلامه لبني مازن من الأزد فإنهم كانوا قتلوا أخاه عبد الله فأخذ الدية منهم فعيرته أخته كبشة بذاك فغزاهم ( تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي ** فذاقت مازنٌ طعم الخلاط ) ( أطلت فراطكم عاماً فعاماً ** ودين المذحجي إلى فراط ) ( أطلت فراطكم حتى إذا ما ** قتلت سراتكم كانت قطاط ) ( غدرتم غدرةً وغدرت أخرى ** فما إن بيننا أبداً يعاط ) ( بطعنٍ كالحريق إذا التقينا ** وضرب المشرفية في الغطاط ) الخلاط : مصدر خالطه مخالطةً وخلاطاً . ومازن : هو مازن بن زبيد وأراد به القبيلة . و دين بالفتح . ومذحج بفتح الميم وسكون الذال المعجمة وكسر الحاء المهملة بعدها جيم : قبيلة كبيرة من قبائل اليمن تفرعت منها قبائل كثيرة . قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب : بنو الحارث بن كعب من مذحج . والنخع من مذحج وجنبٌ من مذحج وصداء من مذحج ورهاء من مذحج وسعد العشيرة من مذحج والبطون المذكورة منها إلى زبيد . ومراد من مذحج وعنس من مذحج وطيئ من مذحج . ومذحج : اسم امرأةٍ وهي بنت ذي منجشان كانت أمها ولدتها على أكمةٍ يقال لها : مذحج فلقبت بها .
____________________

ويعاط بفتح المثناة التحتية بعدها عين مهملة : كلمة إغراء على الحرب أي : احملوا . والغطاط بضم الغين المعجمة : أول الصبح . كذا روى أبو علي القالي هذه الأبيات الخمسة في نوادره . وقد اختلف في رواية هذا الخبر . قال أبو علي القالي في ذيل الأمالي : قال : أبو محلم : حدثني السكري قال : حدثنا ابن حبيب قال : قال هشام بن الكلبي : مر عبد الله بن معديكرب براعٍ للمحزم بن سلمة من بني مالك بن مازن بن زبيد فاستسقاه لبناً فأبى واعتل عليه فشتمه فقتله عبد الله فثارت بنو مازن بعبد الله فقتلوه فتوانى عمرو في الطلب بدمه فأنشأت أخته تقول أبياتاً فاحتمى عمرو عند ذلك فثار في قومه بني عصم فأباد بني مازن وقال في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي إلى آخر الأبيات الثلاثة الأول . ولم ينشد البيتين الأخيرين . وروى أيضاً في نوادره أن الأصمعي )
قال : كان بين عمرو بن معديكرب وبين رجل من مراد يقال له : أبيٌّ كلامٌ فتنازعا في القسم فعجل عمرو وكانت فيه عجلة وكان عبد الله أخو عمرو رئيس قومه فجلس مع بني مازن رهطٍ من سعد العشيرة وكانوا فيهم فقعد عبد الله يشرب ويسقيهم رجلٌ يقال له : المحزم من بني زبيد له مال وشرف . وكان عبدٌ من عبيد المحزم
____________________

قائماً يسقي القوم فسبه عبد الله فضربه فقام رجلٌ نشوان من بني مازن فقتل عبد الله . فرأس عمرو بعد أخيه وكان غزا غزوةً فأصاب فيها ومعه أبيٌّ المرادي فادعى أنه مساند عمرو فأبى عمرو أن يعطيه فلما رجع عمرٌ و من غزاته جاءت بنو مازن فقالوا : قتله رجلٌ منا سيفه ونحن يدك عليه وعضدك وإنما قتله وهو سكران فنسألك بالرحم أن تأخذ الدية بعد ذلك ما أحببت فأخذ عمرٌ و الدية وزاده بعد ذلك أشياء كثيرة فغضبت أختٌ له تسمى كبشة وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فقالت : ( أرسل عبد الله إذ حان يومه ** إلى قومه أن لا تخلوا لهم دمي ) ( ولا تأخذوا منهم إفالاً وأبكرا ** وأترك في بيتٍ بصعدة مظلم ) ( ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ ** وهل بطن عمرٍ و غير شبر لمطعم ) ( فإن أنتم لم تقتلوا واتديتمو ** فمشوا بآذان النعام المصلم ) ( ولا تشربوا إلا فضول نسائكم ** إذا أنهلت أعقابهن من الدم ) ( جدعتم بعبد الله سيد قومه ** بني مازن أن سب ساقي المحزم ) فلما حضت كبشة أخاها عمراً أكب بالغارة عليهم وهم غارون فأوجع فيهم . ثم إن بني مازن احتملوا فنزلوا في مازن بن مالك بن عمرو بن تميم فقال عمرو في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي
____________________

الأبيات الستة . والمحزم بتشديد الزاء المفتوحة والحاء قبلها مهملة . والمساندة : المعاضدة .
وخرج القوم متساندين أي : على رايات شتى أي : ولم يكونوا تحت راية أمير واحد . وقولها : أرسل عبد الله أورد أبو تمام هذه الأبيات إلا البيت الأخير في الحماسة : قال التبريزي : إنما تكلمت به على أنه إخبار عما فعله عبد الله وغرضها تحضيضهم على إدراك الثأر . وقولها : أن لا تخلوا من التخلية . وهذه رواية القالي . ورواية الحماسة : لا تعقلوا لهم دمي . يقال : علقت فلاناً إذا أعطيت ديته . والمراد : لا تأخذوا بدل دمي عقلاً . ورواه ابن الأعرابي : أن لا يغلوا لهم )
دمي بالمثناة التحتية والغين المعجمة وقال : الإغلال عند العرب : ترك القصاب بعض اللحم في الإهاب . والغلول : الخيانة في المغنم . والإفال : جمع أفيل وهو الصغير من الإبل وكذا الأبكر وهو جمع بكر . قال التبريزي : فإن قيل : لما ذكر الإفال والأبكر وما يؤدي إلى الديات لا يكون منهما قلت : أراد تحقير الديات كما يقال في الرجل إذا أراد تحقير أمر خلعة فاز بها إنسان إنما أعطي فلانٌ خرقاً وإن كانت فاخرة . وقولها : وأترك في بيت إلخ صعدة مخلافٌ من مخاليف اليمن أي : ناحيةٌ منها . وإنما جعلت قبره مظلماً لأنهم كانوا يزعمون أن المقتول إذا ثأروا به أضاء قبره فإن أهدر دمه أو قبلت ديته يبقى قبره مظلماً . وقولها : وهل بطن عمرو إلخ تزهيد في الدية كما روي في الخبر : هل بطن ابن آدم إلا شبر في شبر لما أريد تزهيده في الدنيا . وقولها : أتديتمو أي : قبلتمو الدية وهو افتعلتم يقال : وديته فاتدى . وقولها : فمشوا إلخ أي : امشوا .
وضعف الفعل للتكثير . ومن روى بضم الميم فمعناه امسحوا بالمشوش بفتح الميم وهو منديل يمسح به الدسم .
____________________

والمعنى : إن لم تقتلوا قاتلي وقبلتم ديتي فامشوا أذلاء بآذان مجعدة كآذان النعام . ووصف النعام بالمصلم تصغيراً لها وإن كانت خلقة . يقول : كأنكم مما تعيرون ليست لكم آذان تسمعون بها فامشوا بغير آذان . واختلف في النعام فقيل : إنها كلها صلم وقيل غير ذلك . وقولها : ولا تشربوا إلا فضول إلخ رواه أبو تمام : ولا تردوا وإذا ارتملت . قال التبريزي : يقال ترمل وارتمل إذا تلطخ بالدم فكان من عادتهم إذا وردوا المياه أن يتقدم الرجال ثم العضاريط والرعاة ثم النساء فكن يغسلن أنفسهن وثيابهن ويتطهرن آمنات مما يزعجهن فمن تأخر عن الماء حتى تصدر النساء فهو الغاية في الذل . وجعلت النساء مرتملات بدم الحيض تفظيعاً للشأن . وقال النمري : قال أبو رياش : تقول : إذا قبلتم الدية فلا تأنفوا بعدها من شيء كما تأنف العرب واغشوا نساءكم وهن حيض . والفضول ها هنا : بقايا الحيض وسمى الغشيان ورداً مجازاً . وقال أبو محمد الأعرابي : معناه لا تردوا المواسم بعد أخذ الدية إلا وأعراضكم دنسة من العار كأنكم نساءٌ حيض . وهذا كما قال جرير : ( لا تذكروا حلل الملوك فإنكم ** بعد الزبير كحائضٍ لم تغسل ) وقال ابن الأعرابي بعد إيراده هذه الأبيات : إن المحزم بن سلمة أحد بني مازن بن زبيد قتل عبد الله بن معديكرب أخا عمرو وكان عبد الله لطم عبداً للمحزم على شرابٍ فجاءت بنو مازن إلى عبد الله فقتلوه ورأسوا عليهم عمرو بن معديكرب فلما حضت عمراً أكب على )
بني مازن بقتلهم وهم غارون فيقال :
____________________

إنهم احتملوا فنزلوا في بني مازن بن عمرو فهم فيهم . وأنفذ عمرٌ و ابن أخ له وأعطاه الصمصامة وقال : اقتل بها المحزم . فمضى فقتل المحزم وابن أخ له ثم انصرف إلى عمرو فقال له : ما صنعت قال : قتلت المحزم وابن أخيه فقال عمرو : كيف أصنع ببني مازن وقد قتلت سيدها فقال الغلام : أعطيتني الصمصامة وسميتني المقدام ثم أقتل واحداً فما خبري إذن قال : فرحل عمرو في أربعين من بني زبيد فصار في جرمٍ حتى جاء الإسلام وهاجر . اه . وروى هذا الخبر مفصلاً الأصفهاني في الأغاني : قال : كان عبد الله بن معديكرب أخو عمرو رئيس زبيد فجلس مع بني مازن فشرب فتغنى عنده حبشيٌّ وهو عبدٌ للمحزم أحد بني مازن فشبب بامرأةٍ من بني زبيد فلطمه عبد الله وقال له : أما كفاك أن تشرب معنا حتى تشبب بالنساء فنادى الحبشي : يا لمازن فقاموا إلى عبد الله فقتلوه وكان الحبشي عبداً للمحزم فرئس عمرٌ و مكان أخيه . وكان عمرٌ و غزا هو وأبيٌّ المرادي فأصابوا غنائم فادعى أبي أنه كان مسانداً فأبى عمرٌ و أن يعطيه شيئاً فكره أبيٌّ أن يكون بينهم شرٌّ لحداثة قتل أخيه فأمسك عنه . وبلغ عمراً أنه توعده فقال في ذلك قصيدةٍ منها : ( تمناني ليقتلني أبيٌّ ** وددت وأينما مني ودادي ) ( إذاً للقيت عمك غير نكسٍ ** ولا متعلم قتل الوحاد )
____________________

( أريد حباءه ويريد قتلي ** عذيرك من خليلك من مراد ) وكان علي بن أبي طالب إذا نظر إلى ابن ملجم أنشد : أريد حباءه ويريد قتلي . . . . . . . . . . . . . . البيت وجاءت بنو مازن إلى عمرو فقالوا : إن أخاك قتله رجل منا سيفه وهو سكران ونحن يدك وعضدك فنسألك بالرحم إلا أخذت منا الدية ما أحببت فهم عمرو بذلك وقال : إحدى يدي أصابتني ولم ترد فبلغ ذلك أختاً لعمرو يقال لها كبشة وكانت ناكحاً في بني الحارث بن كعب فغبت فلما وافى الناس من الموسم قالت شعراً . وأنشد الأبيات الستة . فقال عمرو قصيدةً منها : ( أرقت وأمسيت لا أرقد ** وساورني الموجع الأسود ) ( وبت لذكرى بني مازنٍ ** كأني مرتفقٌ أربد ) ثم أكب عمرٌ و على بني مازن وهم غارون بقتلهم وقال في ذلك : )
____________________

( خذوا حققاً مخطمةً صفايا ** وكيدي يا محزم ما أكيد ) ( قتلتم سادتي وتركتموني ** على أكتافكم عبءٌ جديد ) فأرادت بنو مازن أن يردوا عليهم الدية لما آذنهم بحرب فأبى عمرو . وكانت بنو مازن من أعداء مذحج وكان عبد الله أخا كبشة لأبيها وأمها دون عمرو وكان عمرٌ و قد هم بالكف عنهم حين قتل من قتل منهم فركبت كبشة في نساءٍ من قومها وتركت عمراً أخاها وعيرته فأفحمته فأكب عليهم أيضاً بالقتل فلما أكثر فيهم القتل تفرقوا فلحقت بنو مازن بصاحبهم مازن بن تميم ولحقت ناشرة ببني أسد وهم رهط الصقعب بن الصحصح ولحقت فالج بسليم ابن منصور . وفالج وناشرة : ابنا أنمار بن مازن بن ربيعة بن منبه بن صعب بن سعد العشيرة .
وأمهما هند بنت عدس بن يزيد بن عبد الله بن دارم فقال كابية بن حرقوص بن مازن : ( يا ليتني يا ليتني بالبلدة ** ردت علي نجومها فارتدت ) ( من كان أسرع في تفرق فالجٍ ** فلبونه جربت معاً وأغدت ) ( هلا كناشرة الذي ضيعتم ** كالغصن في غلوائه المتنبت ) وقال عمرو في ذلك : تمنت مازنٌ جهلاً خلاطي
____________________

الأبيات السابقة إلا البيت الأخير . وتقدمت ترجمة عمرو بن معديكرب في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة . وأنشد بعده وهو من شواهد س : والخيل تعدو في الصعيد بداد على أن بداد وصفٌ مؤنث معدول عن متبددة أي : متفرقة فهو حال . وهذا مخالفٌ لقول سيبويه فإنه أنشده على أن بداد فيه معدولٌ عن مصدر مؤنث لا عن وصف . قال : هذا بمنزلة قوله تعدوا بدداً . فيكون المصدر مؤولاً بالحال . قال الأعلم : الشاهد فيه قوله بداد وهو اسمٌ للتبدد معدول عن مؤنثٍ كأنه سمى التبدد بدةً ثم عدلها إلى بداد كما سمي البر : برة .
انتهى . وصنيع الشارح أحسن فإن الحال نادرٌ وقوعها معرفة . ويأتي : بداد اسم فعل أمر أيضاً . وأورده الزمخشري في فعال الأمري قال : وبداد أي : ليأخذ كلٌّ منكم قرنه . ويقال أيضاً : جاءت الخيل بداد أي : متبددة . فهي مشتركة بين الأمر والمصدر .
____________________

قال في الصحاح : قولهم في )
الحرب : يا قوم بداد بداد أي : ليأخذ كل رجلٍ قرنه . يقال منه تباد القوم يتبادون إذا أخذوا أقرانهم . وبني لأنه واقعٌ موقع الأمر . ويقال أيضاً : لقوا بدادهم أي : أعدادهم لكل رجلٍ رجلٌ .
والبداد بالفتح : البراز . يقال : لو كان البداد ما أطاقونا أي : لو بارزناهم رجلٌ ورجل .
وقولهم : جاءت الخيل بداد أي : متبددة . وبني أيضاً على الكسر لأنه معدول عن المصدر وهو البدد . قال : وتفرق القوم بداد أي : متبددة . قال حسان : ( كنا ثمانيةً وكانوا جحفلاً ** لجباً فشلوا بالرماح بداد ) وإنما بني للعدل والتأنيث والصفة . انتهى . ف بداد على هذا ثلاثة أقسام . وهو تابع في صنيعه . وكذلك تبعه ابن الشجري في أماليه فإنه أورد البيت في قسم المصدر وقال : أراد بدداً . والبيت من أبياتٍ لعوف بن الخرع التيمي يرد على لقيط بن زرارة فإنه كان هجا عدياً وتيماً وعيره عوفٌ بفراره عن أخيه معبدٍ لما أسر . وقبله : ( هلا كررت على ابن أمك معبدٍ ** والعامري يقوده بصفاد )
____________________

( وذكرت من لبن المحلق شربةً ** والخيل تعدو بالصعيد بداد ) في الأغاني بسنده أن الحارث بن ظالم المري لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب غدراً عند النعمان بن المنذر بالحيرة هرب فأتى زرارة بن عدس فكان عنده فلم يزل في بني تميم عند زرارة حتى لحق بقريش . فخرجت بنو عامر إلى الحارث بن ظالم حيث لجأ إلى زرارة فسارت بنو عامر نحوهم والتقوا برحرحان فاقتتلوا قتالاً شديداً وأسر يومئذ معبد بن زرارة أسره عامر بن مالك واشترك في أسره طفيل بن مالك ورجل من غنيٍّ يقال له : أبو عميلة وهو عصمة بن وهب وكان أخا ابن مالك من الرضاع . وكان معبد بن زرارة كثير المال فوفد لقيط بن زرارة على عامر بن مالك في الشهر الحرام وهو رجب فسأل عامراً أن يطلق أخاه فقال عامر : أما حصتي فقد وهبتها لك ولكن ارض أخي وحليفي الذين اشتركا فيه . فجعل لقيطٌ لكل واحدٍ مائةُ من الإبل فرضيا وأتيا عامراً فأخبراه فقال عامرٌ للقيط : دونك أخاك فأطلق عنه . فلما أطلقه فكر في نفسه لقيط وقال : أعطيهم مائتين من الإبل وتكون النعمة لهم لا والله لا أفعل ذلك ورجع إلى عامر فقال : إن أبي زرارة نهانا أن نزيد على دية مضر وهي مائة إن أنتم رضيتم أعطيتكم مائة من الإبل . فقالوا : لا حاجة لنا في ذلك . )
فانصرف لقيط فقال له معبد : مالي يخرجني من أيديهم فأبى ذلك عليه لقيط وقال معبد لعامر : يا عامر أنشدك الله لما خليت سبيلي فإنما يريد ابن الحمراء أن يأكل مالي ولم تكن أمه أم لقيط . فقال عامر : أبعدك الله إن لم يشفق عليك أخوك فأنا أحق أن لا أشفق عليك .
فعمدوا إلى معبد فذبحوا شاة فألبسوه جلدها حاراً وشدوا عليه القد وبعثوا به
____________________

إلى الطائف فلم يزل بها حتى مات . فقال في ذلك عوف بن عطية بن الخرع : ( هلا كررت على ابن أمك ** البيتين ) والكر هنا : الرجوع في حومة الحرب لاستخلاص أخيه من الحرب . واتفقت جميع الروايات على قوله ابن أمك مع أنهما من أمين . قال ابن حبيب في شرح النقائض : ليست أمهما واحدةً ولكن أمهما أمهات فجمعهما . ورواه ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : على أخيك معبدٍ . وقال أبو محمد الأعرابي الأسود في ضالة الأديب : قد غلط ابن الأعرابي من وجهين : أحدهما : أن الشعر لعوف بن الخرع وهو قد نسبه إلى ابن كراع . والثاني : أنه قال : على ابن أمك وإنما الرواية على أخيك بالتصغير لأن معبداً لم يكن لأم لقيط . وقوله : والعامري يقوده إلخ جملةٌ حال من التاء في كررت . والصفاد بالكسر : جمع صفد بفتحتين وهو القيد . وقوله : وذكرت من لبن إلخ الجملة معطوفة على هلا كررت . والمحلق بتشديد اللام المفتوحة قال صاحب النقائض : المحلق سمة ابل بني زرارة . وقالابن السيد فيما كتبه على الكامل : المحلق : إبلٌ موسومة بالحلق على وجهها . وقال ابن الشجري في أماليه : أي : من لبن النعم الذي عليه وسومٌ كأمثال الحلق . وقوله : والخيل تعدوا الجملة حال من تاء المخاطب في ذكرت . والصعيد : وجه الأرض .
____________________

وروى بدله : بالصفاح بالكسر . قال ابن السيد : وهو موضع . قال الأعلم : يقول هذا للقيط بن زرارة التميمي وكان قد انهزم في حربٍ أسر فيها أخوه معبد بن زرارة فعيره ونسب إليه الحرص على الطعام والشراب وأن ذلك حمله على الانهزام وأراد بالمحلق قطيع إبلٍ وسم بمثل الحلق من وسم النار . انتهى . قال ابن قتيبة في أبيات المعاني : قال مقاس العائذي : ( تذكرت الخيل الشعير عشية ** وكنا أناساً يعلفون الأياصرا ) أي : ذكرتم الحب والقرى فانهزمتم ورجعتم إليها ونحن نعلف الحشيش فنحن نسير لا ننهزم ولا نبالي أين كنا . ونحوٌ منه قول عوف بن عطية بن الخرع للقيط بن زرارة : هلا كررت على ابن أمك . . . . . . . . . . . . . . . . . البيتين )
والمحلق : إبلٌ سماتها الحلق . وبداد : متفرقة . انتهى . والأياصر : جمع أيصر وهو الحشيش .
وهذه الوقعة يقال لها : يوم رحرحان براءين وحاءين مهملات وهو جبل قرب عكاظ . وقد شرح خبر هذا اليوم شارح المناقضات شرحاً مفصلاً قال : قال أبو عبيدة : حدثني أبو الوثيق أحد بني سلمى بن مالك بن جعفر بن كلاب قال : لما التحف بنو دارم على الحارث بن ظالم لما قتل خالد بن جعفر بن كلاب وأبى بنو دارم أن يسلموه أو يخرجوه من عندهم غزاهم ربيعة بن الأحوص بن جعفر بن كلاب بأفناء عامر طالباً بدم أخيه خالد بن جعفر عند الحارث بن ظالم فقاتل في القوم فهزمت بنو دارم وهرب معبد بن زرارة .
____________________

فقال رجلٌ من غني لعامر والطفيل ابني مالك بن جعفر بن كلاب : هذا رجل معلم بعمامة حمراء في رأسه جرح رأيته يسند في الهضبة أي : يصعد وكان معبد قد طعن فصرع فلما أجلت عنه الخيل سند في هضبةٍ من رحرحار وهو جبل فقال عامر وأخوه الطفيل للغنوي : اسند واحدره . فسند الغنوي فحدره عليهما فإذا هو معبد بن زرارة . فأعطيا الغنوي عشرين بكرة وصار أسيرهما . وأما درواس بن هنيٍّ أحد بني زرارة فزعم أن معبداً كان برحرحان متنحياً عن قومه في عشراوات له فأخبر الأحوص بمكانه فاغتره فوفد لقيط بن زرارة عليهم في فداء أخيه فقال : لكم عندي مائتا بعير . فقالوا : إنك يا أبا نهشل سيد الناس وأخوك معبد سيد مضر فلا نقبل فداءه منك إلا دية مالك . فأبى أن يزيدهم وقال : إن أبانا أوصانا أن لا نزيد بأسيرٍ منا على مائتي بعير فيحب الناس أخذنا . فقال معبد : والله لقد كنت أبغض إخوتي إلي وفادةً علي لا تدعني ويلك يا لقيط فوالله إن عدة نعمي لأكثر من ألف بعير فافدني بألف بعير من مالي فأبى لقيط وقال : تصير سنةً علينا . فقال معبد : ويلك يا لقيط لا تدعني فلا تراني بعد اليوم أبداً فأبى لقيط ومناه أن يغزوهم ويستنقذه ورحل عن القوم فما سقوا معبداً الماء حتى هلك هزلاً . وقال أبو الوثيق : لما أبى لقيط أن يتفادى معبداً بألف بعير ظنوا أنه سيغزوهم فقالوا : ضعوا معبداً في حصن هوازن . فحملوه حتى وضعوه بالطائف فجعلوا إذا سقوه قراه لم يشرب وضم بين فقميه وقال : لا أقبل قراكم وأنا في القد أسيركم فلما رأوا ذلك عمدوا إلى عودٍ فأولجوه في فيه وفتحوا فاه ثم أوجروه اللبن رغبةً في فدائه وكراهية أن يهلك . فلم يزل كذلك حتى هلك في القد . فلما هجا لقيطٌ عدياً وتيماً قال عطية بن عوف التيمي يعيره أسر بني عامر معبداً وفراره عنه : )
____________________


فلما انقضت وقعة يوم رحرحان جمع لقيط بن زرارة لبني عامر وألب عليهم . وبين يوم رحرحان ويوم جبلة سنة وكان يوم جبلة قبل الإسلام بخمس وأربعين سنة في قول المكثر وذلك عام ولد النبي صلى الله عليه وسلم . وفي قول المقلل : أربعين سنة . انتهى باختصار .
وعوف بن خرع التيمي شاعر جاهلي وهو عوف بن عطية بن الخرع واسم الخرع عمرو بن عيش بن وريقة بن عبد الله بن لؤي بن عمرو بن الحارث ابن تيم بن عبد مناة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد بن عدنان . كذا في جمهرة الأنساب . فالخرع لقب جده وهو بفتح الخاء المعجمة وكسر الراء بعدها عين . وله ديوان صغير وهو عندي . وأنشد بعده الشاهد الثاني والسبعون بعد الأربعمائة ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيه الحمر ) على أن فعال في الأعلام الشخصية جميع ألفاظها مؤنثة . وأما لصاف هنا فإنما ذكره بإرجاع الضمير عليه من فيه لتأويله بالموضع وهو منزلٌ من منازل بني تميم . وروي أيضاً فيها بتأنيث الضمير فلا إشكال حينئذ . أقول : الذي رواه : فيه بضمير المذكر هو صاحب الصحاح والعباب . والذي رواه : فيها بضمير المؤنث جماعة كثيرة منهم ابن السكيت في إصلاح
____________________

المنطق والقالي في أماليه وأبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وأبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري وأبو عبيدٍ البكري في معجم ما استعجم . قال ابن دريد في الجمهرة بعد إنشاده البيت : يخرج لصاف مخرج المؤنث فتقول : هذه لصاف ورأيت لصاف ومررت بلصاف فهو لا ينصرف . وكان أبو عبيدة يقول : هذا لصاف مبنيٌّ على الكسر أخرجه مخرج حذام وقطام .
وإن رفعت فجيد وإن نصبت فجائز . انتهى . قال الصاغاني في كتاب فعال : وبعضهم يجريه مجرى ما ينصرف . وقد صرفه الشاعر في قوله : ( إن لصافاً لا لصاف فاصبري ** البيت ) ولصاف باللام والصاد المهملة : اسم ماءٍ في موضعٍ بين مكة والبصرى لبني يربوع من قبيلة تميم .
قال أبو عبيدٍ في المعجم : قال الأثرم : لصاف : ماء لبني يربوع وكانت لصاف هي وما يليها من المياه والمواضع أولاً لإياد وفيها يقول عبد ناجر الإيادي : ( إن لصافاً لا لصاف فاصبري ** إذ حقق الركبان موت المنذر ) ثم نزلتها بنو تميم فصارت لهم . ولصاف موضع رفعٍ على الابتداء وجملة تبيض إلخ خبره . )
والحمر بضم الحاء المهملة وتشديد الميم المفتوحة : ضربٌ من الطير كالعصفور الواحدة حمرة وقد تخفف الميم فيقال : حمر وحمرة .
____________________

أنشد ابن السكيت لابن أحمر : ( إن لا تداركهم تصبح منازلهم ** قفراً تبيض على أرجائها الحمر ) كذا في الصحاح وأنشد البيت . وقال أبو حاتم في كتاب الطير : الحمر بعظم العصفور وتكون كدراء ورقشاء . قال أبو العلاء المعري في شرح ديوان البحتري : يجوز أن يكون كلٌ من المشدد والمخفف لغة ويجوز أن يكون المخفف ضرورة لأن إحدى الميمين زائدة . وقد ذكر ابن السكيت المخفف في باب فعلة فأوجب عليه ذلك أن يكون يرى التخفيف أفصح . ومذهب سيبويه والخليل أن الميم الأولى هي الزائدة ومذهب غيرهما أن الثانية هي المزيدة . وكلا القولين له مساغ . قال صاحب العباب : وابن لسان الحمرة كوفيُّ نسابة واسمه عبد الله بن حصين ابن ربيعة بن صعير بن كلاب . وحصين هو لسان الحمرة . وقرأت في كتاب الفهرست لمحمد بن إسحاق بن النديم بخطه : أن اسم ابن لسان الحمرة ورقاء بن الأسعر . انتهى . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء بعدها مثناة تحتية مشددة قال الخليل : هي اسم غيضة ملتفة تتخذها الأسد عريناً . كذا في المعجم لأبي عبيد . يقول : كنت أحسبكم شجعاناً كأسود خفية فإذا أنتم جبناء ضعفاء فكأن أرضكم لصاف يتولد فيها هذا الطير لا الرجال . والبيت أول أبياتٍ لأبي المهوش الأسدي هجا بها نهشل بن حري أوردها أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب وهي : ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر )
____________________

( عضت تميمٌ جلد أير أبيهم ** يوم الوقيط وعاونتها حضجر ) ( وكفاهم من أمهم ذو بنةٍ ** عبل المشافر ذو قليلٍ أسعر ) ( ذهبت فشيشة بالأباعر حولنا ** سرقاً فصب على فشيشة أفجر ) ( منعت حنيفة واللهازم منكم ** قشر العراق وما يلذ الحنجر ) ( وإذا تسرك من تميمٍ خلةٌ ** فلما يسوؤك من تميمٍ أكثر ) ( يا نهشل بن أبي ضميرٍ إنما ** من مثل سلح أبيك ما تستقطر ) ( إذ كان حريٌّ سقيط وليدةٍ ** بظراء يركض كاذتيها العهر ) قوله : فترفعوا هدج إلخ استهزاءٌ بهم . وهدج الرئال منصوب بنزع الخافض أي : عن هدجه )
وهو مصدر وفعله من باب فرح يقال : هدج الظليم إذا مشى في ارتعاش . والرئال : جمع رأل بفتح الراء وسكون الهمزة وهو فرخ النعام . والهجيم بالتصغير والعنبر أخوان وهما ابنا عمرو بن تميم . وأراد أولادهما فإن كلاً منهما أبو قبيلة . وقوله : عضت تميم إلخ روى بدل تميم أسيد مصغر أسود لا ينصرف وهو أخو الهجيم والعنبر . وروى أيضاً بدل جلد جذل بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة وهو أصل الحطب العظيم . شبه أير أبيهم به . وهذا الكلام سبٌّ وتذليل عند العرب . وأراد بتميم ما تفرع منه من القبائل والبطون . ويوم القيظ كان في فتنة عثمان بن عفان وهو للهازم رئيسهم أبجر بن بجير على بني مالك بن حنظلة . فأما بنو عمرو بن تميم فأنذرهم ناشب بن بشامة العنبري فدخلوا الدهناء فنجوا . وفي هذا اليوم أسر ضرار بن معبد بن زرارة .
____________________

وحضجر بفتح المهملة وسكون المعجمة بعدها جيم وهو لقب العنبر .
قاله أبو محمد الأعرابي . والمعاونة كانت بالإنذار كما ذكرنا . وقوله : وكفاهم من أمهم ضمير هم راجعٌ لأسيد والهجيم والعنبر وأمهم هي أم خارجة المشهورة بالنكاح يقال فيها : أسرع من نكاح أم خارجة . كانت ذواقة إذا ذاقت الرجل طلقته وتزوجت غيره . فتزوجت نيفاً وأربعين زوجاً ولدت في عامة قبائل العرب . وكان الخاطب يأتيها فيقول : خطب فتقول : نكح وكان أمرها إليها إذا تزوجت إن شاءت أقامت وإن شاءت ذهبت فيكون علامة ارتضائها للزوج أن تصنع له طعاماً كلما تصبح . وكان آخر أزواجها عمرو بن تميم وهو المراد بقوله ذو بنة بفتح الموحدة وتشديد النون وهي رائحة بعر الظباء والرائحة أيضاً . والعبل : الضخم . والمشفر بالكسر في الأصل : شفة البعير . والقليل بالقاف : دقة الجثة . والأسعر بالسين والعين المهملتين : القليل اللحم الظاهر العصب . وصفه بحقارة الجثة . وقوله : ذهبت فشيشة بالفاء والشين المعجم : لقبٌ لبعض بني تميم . وأبجر : رئيس اللهازم .
____________________

وقوله : منعت حنيفة واللهازم حنيفة : أبو قبيلة وهو حنيفة بن لجيم بن صعب بن علي بن بكر بن وائل . واللهازم : هي تيم الله بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي المذكور . واللهازم حلفاء بني عجل وعجل أخو حنيفة المذكور .
والقشر بفتح القاف وكسر الشين وهو التمر الكثير القشور . والحنجر : الحلقوم . وقوله : وإذا تسرك إلخ الخلة بفتح الخاء المعجمة هي الخصلة . وقوله : يا نهشل إلخ هو نهشل بن حري بن ضمرة وهو شقة ابن ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم . وضمير هو مصغر ضمرة . والسلح : التغوط وهو مصدر سلح . )
والسلاح بالضم : اسم النجو والعذرة . وتستقطر : تتبخر بالقطر بالضم وهو العود الذي يبخر به . وقوله : إذ كان حري بفتح المهملة وتشديد الراء والياء وهو أبو نهشل المهجو . وسقيط بمعنى السقط . والوليدة : الخادمة . والبظراء : التي لم تختن . ويركض : يحرك . والكاذتان : ما نتأ من اللحم في أعالي الفخذ . والعهر : جمع عاهر وهو الزاني . رمى أمه بالفجور . ذكر المدائني وغيره قال : مر الفرزدق بمضرس بن ربعي الأسدي وهو ينشد بالمربد وقد اجتمع الناس حوله فقال : يا أخا بني فقعس كيف تركت القنان قال : تبيض فيه الحمر . قال : أراد الفرزدق قول نهشل بن حري : ( ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها ** إن القنان بفقعسٍ لمعمر ) وأراد مضرس قول أبي المهوش الأسدي : ( قد كنت أحسبكم أسود خفيةٍ ** فإذا لصاف تبيض فيها الحمر )
____________________

( عضت أسيد جذل أير أبيهم ** يوم النسار وخصيتيه العنبر ) نسبهم إلى الجبن بقوله : فإذا لصاف تبيض إلخ ثم أعضهم أير أبيهم لفرارهم يوم النسار . وقال القالي في أماليه : حدثنا أبو بكر قال : قيل للفرزدق : إن ها هنا أعرابياً قريباً منك ينشد شعراً رقيقاً . فقال : إن هذا لقائف أو لحائن فأتاه فقال : ممن الرجل قال : من بني فقعس . قال : كيف تركت القنان قال : تركته يساير لصاف . فقلت : ما أراد قال : أراد الفرزدق قول الشاعر : ضمن القنان لفقعسٍ سوءاتها . . . . . . . . . . . . . . البيت وأراد الفقعسي قول الآخر : وإذا تسرك من تميمٍ خصلةٌ . . . . . . . . . . . . . . البيت قد كنت أحسبهم أسود خفيةٍ . . . . . . . . . . . . . . البيت ( أكلت أسيد والهجيم ودارم ** أير الحمار وخصيتيه العنبر ) انتهى . قال أبو عبيد البكري فيما كتبه على أمالي القالي : البيت الأخير محول عن وجهه والمحفوظ فيه : انتهى .
____________________

وبنو تميم لا تعير بأكل أير الحمار وإنما تعير به بنو فزارة . وقوله : يساير لصاف من المحال الذي لا يجوز إلا إذا سيرت الجبال فكانت سراباً والتعريض الحسن هو ما نقلنا . انتهى . )
قلت : وقد روى البيت المذكور أبو محمد الأعرابي كما رواه القالي وهو خطأ كما بينا . وقنان بفتح القاف ونونين : جبل في ديار بني فقعس . وأبو مهوش الأسدي قال ابن الكلبي في جمهرة الأنساب : هو ربيعة ابن رئاب بن الأشتر بن حجوان بن فقعس بن طريف بن عمرو بن قعين بن الحارث بن ثعلبة بن دودان بن أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . ومهوش بكسر الواو المشددة بعدها شين معجمة . وحوط بواو ساكنة بين مهملتين . ورئاب براء مهملة مكسورة بعدها همزة ممدودة . وحجوان بفتح المهملة وسكون الجيم . وقعين بضم القاف وفتح العين . ودودان بضم الدال المهملة الأولى . وقال أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب : اسمه حوط بن رئاب . وبه ترجمة ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا النبي صلى الله عليه وسلم ولم يروه . قال : حوط بن رئاب الأسدي الشاعر ذكر أبو عبيد البكري في شرح الأمالي أنه مخضرم . وهو القائل : ( دنوت للمجد والساعون قد بلغوا ** جهد النفوس وألقوا دونه الأزرا ) فظهر من هذا أنه إسلامي . ولم أر له في كتب تراجم الشعراء ذكراً . والله أعلم . ( الأصوات )
____________________

أنشد فيه : باسم الماء وهو قطعة من بيت وهو : ( لا ينعش الطرف إلا ما تخونه ** داعٍ يناديه باسم الماء مبغوم ) وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السابع بعد الثلثمائة . وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الأربعمائة ) كما رعت بالجوت وهو قطعة من بيت : ( دعاهن ردفي فارعوين لصوته ** كما رعت بالجوت الظماء الصواديا )
____________________

على أن بعض الأصوات قد يدخله أداة التعريف . قال الزمخشري في المفصل بعد ما أنشده : هو بالفتح محكياً مع الألف واللام . وقال ثعلب في أماليه : يقال للبعير جوت جوت إذا دعوته إلى الماء وإذا أدخلوا الألف واللام تركوها على حالها . وكان أبا عمرٍ و يكسر التاء ويقول : إذا أدخلت عليه الألف واللام ذهبت منه الحكاية . وجوز ابن الناظم في شرح الألفية الوجهين : الجر على الإعراب والفتح على الحكاية . قال الصغاني في العباب : يقال إلى الإبل : جوت بفتح الجيم والتاء المثناة إذا دعيت إلى الماء . وحكى الفراء : جوت بفتح الأول وكسر الآخر وضمه أيضاً .
فالجيم مفتوحة لا غير . والتاء ورد فيها الحركات الثلاث . قال صاحب القاموس : جوت جوت مثلثة الآخر مبنية : دعاءٌ للإبل إلى الماء . وقد جأوتها وجأيتها . أو زجرٌ لها . والاسم الجوات .
وأما حوب بفتح الهاء المهملة وآخره باء موحدة فهو زجرٌ للإبل وليس بمرادٍ هنا وباؤه مثلثة الحركات وقد أخذ منه فعلٌ فقيل : حوب فلان بالإبل إذا قال في زجرها : حوب . والبيت وقع في شعري شاعرين : أحدهما : في شعر عويف القوافي وهو المشهور . واختلف في معناه فقيل : أراد بالردف تابعه من الجن فإن القوافي إذا تزاحمت في خاطره ووسوسته يقولون : إن له شيطاناً يوسوسه . فضمير دعاهن للقوافي أي : دعا شيطاني القوافي فأجبنه وانثلن عليه . يعني أن الشعر أطاعه . والردف بالكسر في الأصل : المرتدف وهو الذي يركب خلف الراكب .
والارعواء : النزوع عن الجهل وحسن الرجوع عنه . ورعت بالخطاب هو من قولهم : هذه شربةٌ راع بها فؤادي أي : برد بها غلة روعي بالضم وهو القلب أو موضع الفزع منه أو سواده .
وقيل : هو من راعه بمعنى أعجبه .
____________________

والظماء : جمع ظمآن وظمآنةٍ من ظمئ كفرح أي : عطش أو اشتد عطشه . والصوادي : جمع صادية من الصدى وهو العطش وفعله من باب رضي .
وقيل : معناه وهذا هو المشهور : أن رديفه لما دعا النساء اجتمعن ورجعن عما كن عليه من الشغل كما لو دعوت إلى الشرب الإبل فالتففن وتضاممن للشرب . فضمير دعاهن راجع للنساء .
ولم أقف على ما قبل البيت حتى أتحققه . والثاني : وقع في شعر سحيم عبد بني الحسحاس )
هكذا : وأوده ردفي فارعوين لصوته إلخ وأوده فعل ماض قال صاحب القاموس : أوده بالإبل أي : صاح بها . ويوجد في بعض نسخ مجمع الأمثال للميداني عند قوله : إلا دهٍ فلا دهٍ قال أبو السمح : أظنه من الإيداء وهو الإهابة بالإبل . وأنشد هذا البيت . وقد وقع المصراع الأول صدر بيت من قصيدة لمضرس بن ربعي وهي قصيدة مختلفة المعاني وصف فيها الإبل ثم قال : ( دعاهن ردفي فارعوين لصوته ** وقلن لحاديهن هل أنت ناظره ) قال الأصمعي : دعاؤه : أن يغني ليعرفن صوته وإنشاده فيحبسن عليه . ومثله : ( نادوا الذين تحملوا كي يربعوا ** كيما يودع عاشقٌ ويودعوا )
____________________

وأضيف عويف إلى القوافي لقوله : ويشبه أن يكون هذا البيت من قصيدة البيت الشاهد . وعويف هو عويف بن معاوية بن عقبة بن ثعلبة بن حصن وقيل : بن عقبة بن عيينة بن حصن بن حذيفة بن بدر بن عمرو بن جؤية بن لوذان بن ثعلبة ابن عدي فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار . وعويف القوافي شاعر مقلٌّ من شعراء الدولة الأموية من ساكني الكوفة وبيته أحد البيوتات المتقدمة الفاخرة في العرب . قال أبو عبيدة حدثني أبو عمرو بن العلاء أن العرب كانت تعد البيوتات المشهورة بالكبر والشرف من القبائل بعد بيت هاشم بم عبد مناف في قريش ثلاثة بيوتات . ومنهم من يقول أربعة . أولها بيت آل حذيفة بن بدر الفزاري : بيت قيسٍ . وبيت آل زرارة بن عدس الدارميين : بيت تميم . وبيت آل الجدين بن عبد الله بن همام : بيت شيبان . وبيت بني الديان من بني الحارث بن كعب . بيت اليمن . وأما كندة فلا يعدون من أهل البيوتات إنما كانوا ملوكاً . وروى صاحب الأغاني بسنده أن عويف القوافي وقف على جرير بن عبد الله البجلي وهو في مسجده فقال : ( أصب على بجيلة من شقاها ** هجائي حين أدركني المشيب )
____________________

فقال له جرير : ألا أشتري منك أعراض بجيلة قال : بلى . قال : قل . قال : بألف درهم وبرذون .
فأمر له بما طلب فقال : فقال جرير : ما أراهم نجوا منك بعد وروى بسنده أيضاً إلى أبي بردة الأشعري قال : حضرت )
مع عمر بن عبد العزيز جنازة فلما انصرف انصرفت معه وعليه عمامةٌ قد سدلها من خلفه فما علمت به حتى اعترضه رجل على بعير فصاح به : ( أجبني أبا حفصٍ لقيت محمدا ** على حوضه مستبشراً ورآكا ) فقال عمر بن عبد العزيز : لبيك ووقف ووقف الناس معه ثم قال له : فمه فقال : ( فأنت امرؤٌ كلتا يديك مفيدةٌ ** شمالك خيرٌ من يمين سواكا ) قال : ثم مه فقال : ( بلغت مدى المجرين قبلك إذا جروا ** ولم يبلغ المجرون بعد مداكا ) ( فجداك لا جدين أكرم منهما ** هناك تناهى المجد ثم هناكا ) فقال له عمر : أراك شاعراً ما لك عندي من حق . قال : ولكني سائلٌ وابن سبيل وذو سهمة .
فالتفت عمر إلى قهرمانه فقال : أعطه فضل نفقتي . فقال : وإذا هو عويف القوافي الفزاري .
____________________


وكانت أخت عويف القوافي تحت عيينة بن أسماء بن خارجة الفزاري فطلقها عيينة فكان عويفٌ مراغماً لعيينة وقال : الحرة لا تطلق لغير ما بأس . فلما حبس الحجاج عيينة وقيده قال عويف : ( خبرٌ أتاني من عيينة موجعٌ ** ولمثله تتصدع الأكباد ) ( بلغ النفوس بلاؤها فكأننا ** موتى وفينا الروح والأجساد ) ( ساء الأقارب يوم ذاك وأصبحوا ** بهجين قد سرت به الحساد ) ( يرجون عثرة جدنا ولو أنهم ** لا يدفعون بنا المكاره بادوا ) ( لما أتاني عن عيينة أنه ** عانٍ تظاهر فوقه الأقياد ) ( نخلت له نفسي النصيحة إنه ** عند الحفائظ تذهب الأحقاد ) ( وذكرت أي فتًى يسد مكانه ** بالرفد حين تقاصر الأرفاد ) ( أو من يهين لنا كرائم ماله ** ولنا إذا عدنا إليه معاد )
____________________

وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الأربعمائة ) ( ترد بحيهلٍ وعاجٍ وإنما ** من العاج والحيهل جن جنونها ) على أن اسم الصوت إذا قصد به لفظه أعرب كما في البيت فإن عاج وهو زجرٌ للإبل لتسرع لما قصد لفظه أعرب بالجر والتنوين أولاً وبالجر والتعريف ثانياً . أي : أنها ترد بمجرد ذكر هذه الكلمة وهي اسم فعل كما تقدم . وأنشد ثعلب في أماليه بيتاً فيه حيهل معرفاً باللام ونقله ابن بري في حاشية الصحاح قال : قد عرفت العرب حيهل كقوله : ( وقد غدوت قبل رفع الحيهل ** أسوق نابين وناباً مِ الإبل ) قال : والنابان : العجوزان . و مِ الإبل أصله : من الإبل فحذفت منه النون . والبيت الشاهد نسبع الشارح المحقق لجهم بن العباس ولم أره إلا في شرحه ولا أعرف جهماً من هو . والله أعلم . وأنشد بعده : تداعين باسم الشيب في متثلم
____________________

ٍ تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد الثامن أول الكتاب . وأنشد بعده : كما رعت بالجوت الظماء الصواديا تقدم شرحه قريباً قبل هذا بشاهد واحد . وأنشد بعده : إن لواً وإن ليتاً عناء على أن الكلمة المبنية إذا قصد لفظها أعربت كما أعربت لو و ليت . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله في باب العلم . وأنشد بعده : ( عدس ما لعبادٍ عليك إمارةٌ ** نجوت وهذا تحملين طليق ) على أن عدس فيه زجرٌ للبغل .
____________________

وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والعشرين بعد الأربعمائة . وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والسبعون بعد الأربعمائة ) ( حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ ** فما يقال له هيدٌ ولا هاد ) على أن الشاعر لما أراد لفظ هيد وهاد أعربهما بالرفع على جعل الأول نائب فاعل يقال والثاني معطوفاً عليه . وهذا مأخوذ من صحاح الجوهري قال فيه : وهيد بفتح الهاء وكسرها وهاد : زجر للإبل . وأنشد أبو عمرو : ( وقد حدوناها بهيدٍ وهلا ** حتى يرى أسفلها صار علا ) وقولهم : ما له هيد ولا هاد أي : ما يقال له هيدٌ ولا هاد . وأنشد الأحمر : حتى استقامت له الآفاق طائعةٌ البيت أي : لا يحرك ولا يمنع من شيء ولا يزجر عنه . اه .
____________________

وخطأه ابن بري في رواية الرفع قال في أماليه على الصحاح : البيت لابن هرمة وصواب إنشاده بالكسر في هيد وهاد لأنهما مبنيان .
وأول القصيدة : والبيت في شعره بخلاف ما أنشده الجوهري وهو : ( إني إذا الجار لم تحفظ محارمه ** ولم يقل دونه هيدٍ ولا هاد ) ( لا أخذل الجار بل أحمي مباءته ** وليس جاري كعشٍ بين أعواد ) انتهى . وتبعه الصلاح الصفدي في كتابه نفوذ السهم فيما وقع للجوهري من الوهم ونقل كلامه برمته وقال : فالبيت الذي أورده الجوهري تغير أكثر ألفاظه مع تغيير القافية لأن هيد وهاد مبنيان على الكسر وهما بمعنى الزجر عن الشيء وفعله . اه . وأنا أستبعد أن يكون بيت الجوهري من قصيدة ابن هرمة لاحتمال أن يكون من شعر آخر . والله أعلم . وقوله : إربع بكسر الهمزة وفتح الموحدة أي : قف وتحبس . والثواء : الإقامة . وقوله : إني إذا الجار خبر إني أول البيت الثاني وهو لا أخذل . والمباءة بالفتح والمد : منزل القوم في كل موضع . وأما البيت الأول وهو : وقد حدوناها بهيدٍ وهلا فلم يكتب ابن بري عليه شيئاً وقد نسب إلى القتال الكلابي ولم يوجد في ديوانه .
____________________

ونسبه أبو محمد الأعرابي لغيلان بن حريثٍ الربعي كذا : ليس بثانيها بهيدٍ أو حلا )
وقال الصفدي : هلا في هذا الرجز غلط لأن هيد : زجر للإبل وهلا : زجرٌ للخيل والذي يقرن به هيد إنما هو حلا وكذا هو في الرجز . وهو لغيلان . على أن البيت مغير . والصواب .
ليس بثانيها بهيدٍ أو حلا وترجمة ابن هرمة تقدمت في الشاهد الثامن والستين . وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الأربعمائة ) إلا ده فلا ده هو مثلٌ وقع في قطعة من رجز لرؤبة بن العجاج يورد النحويون منه أربعة أبيات وهي : ( فاليوم قد نهنهني تنهنهي ** وأول حلم ليس بالمسفه )
____________________

( وقولٌ إلا دهٍ فلا ده ** وحقةٌ ليست بقول التره ) وصف قبل هذه الأبيات شبابه وما كان فيه من مغازلة الغواني ومواصلة الأماني إلى أن قال : فاليوم قد زجرني عما كنت فيه أربعة أشياء : الأول : التنهنه وهو مطاوع نهنهته عن كذا فتنهنه أي : كففته وزجرته عنه فكف أي : زجرني زواجر العقل . الثاني : أول حلم أي : رجوع العقل لا ينسب إلى السفه . الثالث : عذل القائلين : إن لم تتب الآن مع الدواعي إلى التوبة فلا تتوب أبداً . فقوله : وقولٌ هو على حذف مضاف . والرابع : حقةٌ أي : خطة حقة .
فالموصوف محذوف وأراد بها الموت وقربه . يقال : حقٌ وحقة كما يقال : أهل وأهلة . والتره : اسم مفرد بمعنى الباطل يقال : ترهٌ وترهة وجمع الأول تراريه وجمع الثاني ترهات . وقول الشارح المحقق : ده بفتح الدال وسكون الهاء إلى آخر ما ذكره هذا كلام شارح اللباب إسماعيل الفالي من غير زيادة ولا نقص . ولا يخفى أنه إذا كان ده بمعنى اضرب فهو اسم فعل لا صوت والحق أنها في لغة الفرس زجرٌ لذي الحافر ليسرع أو ليذهب وليست بمعنى اضرب . وهذا أمر ظاهر من استعمالهم إلى الآن ولكنهم أجمعوا على أنها بمعنى الضرب . وحينئذ فيرد عليهم أنها تكون اسم فعل لا صوتاً . قال صاحب اللباب فيما علقه على متنه : ذكر جار الله أن ده زجر للإبل مثل هيد وهاد . وذكر في أمثاله أن ده بفتح الدال وكسرها فارسية معناها الضرب قد استعملها العرب في كلامهم وأصله أن الموتور يلقي واتره فلا يتعرض له فيقال له : إلا دهٍ فلا ده أي : إنك إن لم تضربه الآن فإنك لا تضربه أبداً .
____________________

وتقديره : إن لم يكن ده فلا يكون ده أي : إن لم يوجد ضربٌ الساعة فلا يوجد ضربٌ أبداً . ثم اتسعوا فيه فضربوه مثلاً في كل )
شيء لا يقدم عليه الرجل وقد حان حينه من قضاء دين قد حل أو حاجةٍ طلبت أو ما أشبه ذلك من الأحوال التي لا يسوغ تأخيرها . وأنشد أبو عبيد لرؤبة : وذكر هشام بن محمد الكلابي في حكاية طويلة أن هذا من قول الكاهن الذي سافر إليه عبد المطلب وحرب بن أمية وقد خبؤوا له رأس جرادة في خرز مزادة وجعلوه في قلادة كلبٍ يقال له سوار فقال : خبأتم لي شيئاً طار فسطع فتصوب فوقع في الأرض منه بقع : جمع باقعة وهي الداهية . فقالوا : لا دهٍ أي بينة . قال : هو شيءٌ طار فاستطار أي : تفرق وفشا ذو ذنب جرار وساق كالمنشار ورأس كالمسمار فقالوا : لا دهٍ . فقال : إلا دهٍ فلا ده . هو راس جرادة في خزر مزادة في عنق سوارٍ ذي القلادة . قالوا : صدقت . وفي أمثال الميداني : إلا ده فلا ده رواه ابن الأعرابي ساكن الهاء . قال أبو عبيد : يضربه الرجل يقول : أريد كذا وكذا .
فإن قيل له : ليس يمكن ذا . قال فكذا وكذا . وقال الأصمعي : معناه إن لم يكن هذا الآن فلا يكون بعد الآن . وقال : لا أدري ما أصله .
____________________

ويروى أيضاً : إلا دو فلا ده أي : إن لم تعط الاثنين فلا تعط العشرة . انتهى . وهذه رواية غريبة شاذة وبها يخرج ده مما نحن فيه فإن لفظ دو بالفارسية الاثنان من العدد بدال مضمومة بعدها واو ساكنة ولفظ ده بمعنى العشرة في لغتهم بدال مفتوحة وهاء ساكنة . ثم قال الميداني : وقال المنذر : قالوا معناه : إلا هذه فلا هذه يعني أن الأصل إلا ذه فلا ذه بالذال المعجمة فعربت بالدال غير المعجمة كما في يهودا مبدلة من يهوذا . انتهى . أقول : هذا يقتضي أن تكون الكلمة عربية أبدلت ذالها المعجمة دالاً مهملة لا أنها كانت أعجمية فعربت بما ذكر . فتأمل . والحاصل أن قولهم : إلا ده فلا ده قد اختلف في ضبط لفظه وشرح معناه وجميع الأقوال على أنها كلمة فارسية معربة . وقد أبى أبو محمد عبد الله الشهير بابن بر المقدسي أن تكون هذه الكلمة في هذا المثل غير عربية وذهب إلى أنها صفة مشبهة من الدهاء وهو الفطنة ورد على ملك النحاة في زعمه أنها أعجمية في الأصل بمعنى اسم الفعل . ولقد أجاد فيما أفاد وحقق مدعاه فوق المراد فلا بأس بنقل كلاميهما . قال أبو نزار الملقب بملك النحاة في مسائله التي سماها المسائل العشر المنبوذة بإتعاب الفكر إلى الحشر وتحدى بها في قصة يطول ذكرها : المسألة السابعة وهي مسألة سئلت عنها بغزنة لما دخلتها فبينت مشكلها للجماعة وأوضحتها .
____________________

وذلك أني سئلت عن قول الراجز : وقولٌ إلا دهٍ فلا ده )
فذكرت أن هذه من باب كلماتٍ نابت عن الفعل فعملت عمله . وده في كلام العرب بمعنى صح أو يصح . ألا ترى أن قوماً جاؤوا إلى سطيحٍ الكاهن وخبؤوا له خبيئة وسألوه فلم يصرح فقالوا : لا ده . أي : لا يصح ما قلت . فقال لهم : إلا ده فلا ده حبة برٍّ في إحليل مهر فأصاب .
فكأنه قال : إلا يصح فلا يصح أبداً لكني أقول في المستقبل ما تشهد له الصحة . فكان كما قال . إلا أن التنوين في هذه الكلمة ليس كتنوين رجل وفرس ولكنه تنوين تنكير . هذا كلامه .
وحذفت منه ما لا حاجة لنا إليه . وأجاب ابن بري : إن قولك ده اسمٌ من أسماء الفعل ليس بصحيح على مذهب الجماعة ومن له حذق في هذه الصناعة . والصحيح أنها اسم الفاعل من دهي فهو داه ودهٍ والمصدر منه الدهي والدهاء . فيكون المراد بدهٍ فطن لأن الدهاء الفطنة وجودة الذهن فكأنه قال : إلا أكن دهياً أي : فطناً فلا أدهى أبداً أي : فلا أفطن . فهذا أصله ثم أجريت هذه اللفظة مثلاً إلى أن صارت يعبر بها عن كل فعل تغتنم الفرصة في فعله . مثل ذلك أن يقول الإنسان لصاحبه وقد أمكنته الفرصة في طلب ثأر : إلا ده فلا ده أي : إلا تطلب الآن ثأراً فلا تطلبه أبداً وهذا الرجز لرؤبة . وقبله : ( فاليوم قد نهنهني تنهنهي ** وأول حلمٍ ليس بالمسفه ) وقولٌ : إلا دهٍ فلا ده
____________________

ومعناه : إن لا تفلح اليوم فلا تفلح أبداً أي : إن لا تنته اليوم فلا تنته أبداً هذا معنى ده في هذا المثل . وأما إعرابه فإنه في موضع نصب على خبر كان المحذوفة تقديره : إلا أكن دهياً فلا أدهى . وإنما أسكن الياء وكان حقها أن تكون منصوبة من قبل أن الأمثال تنزل منزلة المنظوم .
وهذه الياء قد حسن إسكانها في الشعر وهو عندهم من الضرورات المستحسنة كقول الشاعر : وكقول الآخر : كفى بالنأي من أسماء كافي فقد ثبت بهذا أن ده اسم فاعل لا اسمٌ للفعل . وهي معربة لا مبنية وتنوينها تنوين الصرف لا تنوين التنكير . ويدل على أنها ليست من أسماء الأفعال أنها لا تقع بعد حرف الشرط . ألا ترى أنه لا يحسن : إلا صهٍ فلا صهٍ ولا : إلا مهٍ فلا مه ولا هيهات . اه . وقد نقل السخاوي في سفر السعادة هذا عن ملك النحاة وهذا الجواب أيضاً لكنه لم يعزه إلى ابن بري .
____________________

وترجمة رؤبة )
تقدمت في الشاهد الخامس . وفي هذه الأرجوزة بيتان من أولها وهما : ( له در الغانيات المدة ** سبحن واسترجعن من تألهي ) أورد هذا بعض المفسرين في بيان اشتقاق لفظ الجلالة فقال : هو من أله يأله إلاهةً كعبد يعبد عبادة وزناً ومعنى . والتأله : التعبد كما هنا . قال : فمعنى الإله المعبود . وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الأربعمائة ) ( رمى الله في عيني بثينة بالقذى ** وفي الغر من أنيابها بالقوادح ) على أن الشيء إذا بلغ غايته يدعى عليه صوناً عن عين الكمال كما هنا . قال ابن الأنباري في الزاهر : معنى قوله : رمى الله في عيني بثينة إلخ سبحان الله ما أحسن عينيها . من ذلك قولهم : قاتل الله فلاناً ما أشجعه وأنياب القوم : ساداتهم أي : رمى الله الفساد والهلاك في سادات قومها لأنهم حالوا بينها وبين زيارتي . انتهى .
____________________

وقال المرزوقي في شرح الفصيح : قيل أنه لم يدع عليها بذلك وإنما هو كما يقال : قاتله الله ما أفرسه على وجه التعجب . وحكى بعض أهل اللغة أن مما يشهد لطريق التعجب في مثل هذا أن بعضهم عدل عن لفظ قاتل إلى قاتع فقال : قاتعه الله ما أشجعه ليزول المكروه من اللفظ كما لم يكن في المعنى . وأحسن مما ذكرناه أن يقال : أراد بالعينين رقيبيها وبالغر من أنيابها كرام ذويها وعشيرتها . والمعنى : أفناهم الله وأراهم المنكرات . فهو في الظاهر يشتمها وفي النية يشتم من يتأذى به فيها . ويقال : هم أنياب الخلافة للمدافعين عنها . وقيل أراد : بلغها الله أقصى غايات العمر حتى تبطل عواملها وحواسها .
فالدعاء على هذا لها لا عليها . انتهى . وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : قد تأوله قوم على أنه أراد بالعينين الرقيبين وبالأنياب سادة قومها الذين يحجبونها عنه ويمنعونه منها .
انتهى . وبثينة بالتصغير : محبوبة جميل العذري . والباء في بالقذى زائدة . قاله أبو حيان في تذكرته . والقذى : كل ما وقع في العينين من شيء يؤذيها كالتراب والعود ونحوهما . قال ثعلب في الفصيح : تقول : قذت عينه تقذي قذياً إذا ألقت القذى وقذيت تقذى قذًى إذا صار فيها القذى . وأقذيتها إقذاء إذا ألقيت فيها القذى . وقذيتها تقذيةً إذا أخرجت منها القذى .
انتهى . وقوله : وفي الغر إلخ معطوف على قوله : في عيني وهو جمع أغر وغراء أراد : ورمى الله في أنيابها الحسان النقية البياض القوادح . فالباء زائدة أيضاً . وأنياب : جمع ناب وهو السن .
وللإنسان أربعٌ وثلاثون سناً : أربع ثنايا وهي مقدم الأسنان اثنتان من فوق واثنتان من تحت . )
وأربع رباعيات . وأربعة نواجذ
____________________

تكون بينها الأنياب . وأربع ضواحك تكون بينها النواجذ . واثنتا عشرة رحًى تكون بينها الضواحك . والقوادح : جمع قادح قال صاحب الصحاح : القادح : السواد الذي يظهر في الأسنان . وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : يقال : قدح في سنه أي : بالبناء لمفعول إذا وقع فيها الأكل ووقع في أسنانه القادح وإذا عرض شيء من جميع ما ذكرنا من آفات العود قيل : قدح العود يقدح قدحاً فهو مقدوح وهي القوادح . وبعضهم يقول : قدح في العود إذا عرض له القادح فأتكل يأتكل ائتكالاً . وقال الباهلي : يقال : عود قد قدح فيه ولا يقال : مقدوح . وكذلك قدح في سنه إذا وقع الأكل ووقع في أسنانه القادح . وأنشد البيت .
وهذه التأويلات يدفع في صدرها ما رواه الأصفهاني في الأغاني : قال : حدثني علي بن صالح قال : حدثني عمر بن شبة عن إسحاق قال : لقي جميلٌ بثينة بعد تهاجرٍ بينهما طالت مدته فتعاتبا طويلاً فقالت له : ويحك يا جميل أتزعم أنك تهواني وأنت الذي تقول : فأطرق جميلٌ طويلاً يبكي ثم قال : بل أنا القائل : ( ألا ليتني أعمى أصم تقودني ** بثينة لا يخفى علي كلامها ) فقالت له : ويحك وما حملك على هذا المنى أو ليس في سعة العافية ما كفانا جميعاً وروى بسنده أيضاً أن جميلاً لما ودع بثينة وذهب إلى الشام لكثرة اللغط فيهما
____________________

واصلت بعده حجبة الهلالي . ولما رجع من الشام بعد حين قال حجبة لبثينة وكان ابن سرية : لا أرضى إلا أن تعلمي جميلاً أنك استبدلت به فقالت لجميل : ( ألم ترى أن الماء غير بعدكم ** وأن شعاب القلب بعدك حلت ) فقال جميل : ( فإن تك حلت فالشعاب كثيرةٌ ** وقد نهلت منها قلوصي وعلت ) فقالت لحجبة : عرضتني لجميل يجعلني حديثاً . وقالت لجميل : إنه استزلني وقد ناشدتك الله أن تسترني فإنها كانت هفوة . فقال جميلٌ من أبيات : ( فيا بثن إن واصلت حجبة فاصرمي ** حبالي وإن صارمته فصليني ) ( ولا تجعليني أسوة العبد واجعلي ** مع العبد عبداً مثله وذريني ) وانصرف عنها . وهجرها وقال : وقال في ذلك أيضاً : )
____________________

( وإني لأستحي من الناس أن أرى ** رديفاً لوصلٍ أو علي رديف ) ( وإني للماء المخالط للقذى ** إذا كثرت وراده لعيوف ) وقال أيضاً : ( بينا حبالي ذات عقدٍ لبثنةٍ ** أتيح لها بعض الغواة فحلها ) ( فعدنا كأنا لم يكن بيننا هوًى ** وصار الذي حل الحبال هوًى لها ) وروى أيضاً بسنده عن كثير ونقله القالي في أماليه والمرزباني في الموشح أيضاً : أن كثيراً حدث وقال : وقفت على جماعةٍ يفيضون في وفي جميلٍ : أينا أصدق عشقاً ولم يكونوا يعرفونني ففضلوا جميلاً فقلن لهم : ظلمتم كثيراً كيف يكون جميلٌ أصدق منه وحين أتاه من بثينة ما يكره قال : رمى الله في عيني بثينة بالقذى البيت وكثير حين أتاه من عزة ما يكره قال : ( هنيئاً مريئاً غير داءٍ مخامرٍ ** لعزة من أعراضنا ما استحلت ) فما انصرفوا إلا على تفضيلي . اه . وهذا كله يدل على أن جميلاً دعا عليها حقيقة ويدل أيضا على أن البيت لجميل لا لغيره . ومن الغرائب أن الصاغاني قال في مادة ترب من العباب : إن هذا البيت لأخي شمجى يخاطب أذينة بنت عم صعب بن كلثوم والرواية كذا : رمى الله في عيني أذينة بالقذى البيت
____________________

وليس البيت لجميل ولا الرواية في عيني بثينة كما وقع في بعض كتب اللغة منسوباً إليه . اه .
أقول : جميع من تكلم على هذا البيت وروى فيه خبراً أثبته لجميل في بثينة . ومع كثرة ورود هذه الأخبار في أكثر كتب الأدب كيف يقال أنه وقع في بعض كتب اللغة . والله أعلم . وجميلٌ شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين . وشمجى بالشين والميم والجيم وألف مقصورة قال في القاموس : وبنو شمجى بن جرم من قضاعة وهو بفتحات ثلاثة . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ) على أن وي كأن عند الخليل وسيبويه مركبة من وي التعجبية وكأن المخففة من المثقلة إلى آخر ما ذكره . وهذا نص سيبويه ونقله ابن السراج في الأصول بحروفه : سألت الخليل عن قوله تعالى : ويكأنه لا يفلح الكافرون وعن قوله تعالى : ويكأن
____________________

الله فزعم أنها وي مفصولة من كأن والمعنى وقع على أن القوم انتبهوا فتكلموا على قدر علمهم أو نبهوا فقيل لهم : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا والله أعلم . وأما المفسرون فقالوا : ألم تر أن الله . وقال زيد بن عمرو بن نفيل : وي كأن من يكن له نشبٌ البيت انتهى . وقال النحاس : يريد أن معنى وي تنبيهٌ يقولها الإنسان حين يستنكر أمراً أو يستعظمه فيقول : وي فتكون ويكأن مركبة من وي للتنبيه ومن كأن للتشبيه . وكذلك قال الأعلم : فقول الشارح المحقق إن وي عند سيبويه بمعنى التعجب خلاف المنقول . وهذا نص الفراء في تفسيره قال في آخر سورة القصص : ويكأن في كلام العرب تقريرٌ كقول الرجل : أما ترى إلى صنع الله .
وقال الشاعر : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب . . . . . . . . . . البيت ) وأخبرني شيخٌ من أهل البصرة قال : سمعت أعرابيةً تقول لزوجها : أين ابنك ويلك فقال : ويكأنه وراء البيت . معناه أما ترينه وراء البيت . وقد يذهب بعض النحويين إلى أنهما كلمتان يريد : ويك أنه أراد : ويلك فحذف اللام وجعل أن مفتوحة بفعل مضمر كأنه قال : ويلك أعلم أنه وراء البيت فأضمر أعلم . ولم نجد العرب تعمل الظن والعلم بإضمار مضمر في أن وذلك أنه يبطل إذا كان بين الكلمتين أو في آخر الكلمة فلما أضمره جرى مجرى الترك .
____________________

ألا ترى أنه لا يجوز في الإبتداء أن تقول : يا هذا أنك قائم ولا يا هذا أن قمت تريد علمت أو أعلم أو ظننت أو أظن . وأما حذف اللام من ويلك حتى تصير ويك فقد تقوله العرب لكثرتها في الكلام . قال عنترة : ( ولقد شفى نفسي وأبرا سقمها ** قول الفوارس ويك عنتر أقدم ) )
وقد قال آخرون : إن معنى وي كأن أن وي منفصلة من كأن كقولك لرجل : وي أما ترى ما بين يديك فقال : وي ثم استأنف كأن يعني : كأن الله يبسط الرزق لمن يشاء . وهي تعجب وكأن في مذهب الظن والعلم . فهذا وجه مستقيم . ولم تكتبها العرب منفصلة ولو كانت على هذا لكتبوها منفصلة . وقد يجوز أن تكون كثر بها الكلام فوصلت بما ليس منه كما اجتمعت العرب على كتاب يا ابن أم : يبنؤم . قال : وكذا رأيتها في مصحف عبد الله وهي في مصاحفنا أيضاً . اه . فعلم من كلامه أن ويكأن كلمة بسيطة بمعنى ألم تر والاستفهام للتقرير لا أنها مركبة من كلمتين إما من ويك ومن أن كما نقله عن بعض النحويين وإما من وي ومن كأن كما نقله عن بعضٍ آخر . فما نقله الشارح المحقق عن الفراء نقلٌ من مركب من قوله الذي صدره ومن القول الأول لبعض النحاة . قال النحاس بعد نقل ما نقله الفراء : وما أكثر خطأ هذا القول وذلك لأن المعنى لا يصح عليه لأن القوم لم يخاطبوا أحداً فيقولوا له : ويلك وكان يجب على
____________________

قوله أن يكون إنه بالكسر . وأجمع المسلمون على الفتح . وأيضاً فليس في القرآن لام فكيف تحذف اللام لغير علة . وزعم ابن جني في المحتسب أن وي عند سيبويه والخليل بمعنى أعجب كما قال الشارح المحقق وأن كأن ليست للتشبيه عندهما خلافاً للشارح . قال : ومن ذلك قراءة يعقوب : ويك يقف عليها ثم يبتدئ فيقول : إنه . وكذلك الحرف الآخر مثله . قال أبو الفتح في ويكأنه ثلاثة أقوال : منهم من جعلها كلمةً واحدة فلم يقف على وي ومنهم من يقف على وي ويعقوب يقف على ويك وهو مذهب أبي الحسن . والوجه فيه عندنا قول الخليل وسيبويه وهو أن وي على قياس مذهبهما اسمٌ سمي به الفعل فكأنه اسم أعجب ثم ابتدأ فقال : كأنه لا يفلح الكافرون ووي كأن الله يبسط الرزق ووي منفصلة من كأن . وعليه بيت الكتاب : ( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب . . . . . . . . . . البيت مكنته ) ومما جاءت فيه كأن عاريةً من معنى التشبيه قوله : ( كأنني حين أمسي لا تكلمني ** متيمٌ أشتهي ما ليس موجودا ) أي : أنا حين أمسي متيمٌ من حالي كذا وكذا . اه . أقول : أما قوله إن وي عندهما اسم أعجب فقد تقدم عن النحاس والأعلم ما يرده . وأما قوله : إن كأن عارية عن التشبيه فقول سيبويه : أما يشبه أن يكون هذا عندكم هكذا يكذبه .
____________________

وأما تنظيره لخلو التشبيه بقوله : كأنني حين أمسي البيت فهو مذهب الزجاج فيما إذا كان خبر كأن مشتقاً لا تكون للتشبيه لئلا )
يتحد المشبه والمشبه به . وأجيب بأن الخبر في مثله محذوف أي : كأنني رجل متيم فهي على الأصل للتشبيه . ثم قال ابن جني : ومن قال إنها ويك فكأنه قال : أعجب لأنه لا يفلح الكافرون وهو قول أبي الحسن . وينبغي أن تكون الكاف هنا حرف خطاب كما في ذلك لأن وي ليست مما يضاف . ومن وقف على ويك ثم استأنف فينبغي أن يكون أراد أن يعلم أن الكاف من جملة وي وليست بالتي في صدر كأن فوقف شيئاً لبيان هذا المعنى . ويشهد لهذا المذهب قول عنترة : قيل الفوارس ويك عنتر أقدم وقال الكسائي : فيما أظن أراد ويلك ثم حذف اللام . وهذا يحتاج إلى خبر نبيٍّ ليقبل منه .
وقول من قال إن ويكأنه كلمة واحدة إنما يريد به أنه لا يفصل بعضه من بعض . اه . إحداهما : جعل ابن هشام في المغني وي وواهاً لغتين في وا بمعنى أعجب . وهذا باطل فإن كل واحدة من هذه الثلاثة كلمة مستقلة في نفسها أصلاً ومادة وليست ياء وي مبدلة من ألف وا كما يزعمه ابن قاسم في حواشيه عليه . هب أنه كذلك فما يقول في واها . ولم يتنبه أحدٌ من شراحه لما ذكرناه .
____________________

واعترض الدماميني في شرح التسهيل على قول ابن مالك إن وي اسم فعل بمعنى أعجب . في كلام ابن الحاجب ما يشعر بأن القائل إنها اسم فعل يقول : إنها اسمٌ لا عجب أمراً لا مضارعاً لأنه قال : وي تعجب . ويجوز أن يقال : إنها اسم صوت لا اسم فعل لأن المتعجب يقوله عند التعجب لا لقصد الإخبار بالتعجب بل كما يقول المتألم . اه . وكذلك يقول المتعجب منفرداً ولو كان اسم فعل لم يقله إلا مخاطباً لغيره . انتهى . أقول : لا إشعار فيه بما زعمه فإن آه اسم صوت وهم قالوا : إنه بمعنى أتوجع وليس فيه قصد الإخبار به . فتأمل . الثانية : نقل المرادي في الجنى الداني عن صاحب رصف المباني أنه قال : وي حرف تنبيه معناه التنبه على الزجر كما أن ها معناها التنبيه على الحض وهي تقال للرجوع عن المكروه والمحذور وذلك إذا وخد رجل يسب أحداً أو يوقعه في مكروه أو يتلفه أو يأخذ ماله أو يعرض بشيء من ذلك فيقال لذلك الرجل : وي معناه تنبه وازدجر عن فعلك . ويجوز أن يوصل به كاف الخطاب .
انتهى . والبيت الشاهد من أبياتٍ لزيد بن عمرو بن نفيل وهي : ( تلك عرساي تنطقان على عم ** دٍ إلى اليوم قول زورٍ وهتر ) ( سالتاني الطلاق أن رأتا ما ** لي قليلاً قد جئتماني بنكر ) ) ( وترى أعبدٌ لنا وأواقٍ ** ومناصيف من خوادم عشر ) ( ونجر الأذيال في نعمةٍ زو ** لٍ تقولان : ضع عصاك لدهر )
____________________

( وي كأن من يكن له نشبٌ يح ** بب ومن يفتقر يعش عيش ضر ) ( ويجنب سر النجي ولك ** ن أخا المال محضرٌ كل سر ) قوله : تلك عرساي مثنى عرس مضاف إلى الياء . والعرس بالكسر : الزوجة أي : هما عرساي . ويجوز أن يخالف اسم الإشارة المشار إليه كقوله تعالى : عوانٌ بين ذلك أي : بين ذينك والعمد : القصد . والهتر بفتح الهاء وسكون المثناة الفوقية : مصدر هتره يهتره من باب نصر إذا مزق عرضه . والهتر بالكسر : الكذب والداهية والأمر العجب والسقط من الكلام والخطأ فيه . وبالضم : ذهاب العقل من كبر أو مرض أو حزن . وروى أيضاً : ( تلك عرساي تنطقان بهجر ** وتقولان قول أثرٍ وعتر ) والهجر بالضم : اسم : من الإهجار وهو الإفحاش في المنطق والخنى . والأثر بالفتح : مصدر أثرت الحديث إذا ذكرته عن غيره . ومنه الحديث المأثور أي : ينقله خلف عن سلف . والأثر بالضم : أثر الجراح يبقى بعد البرء . والعتر بمثناة فوقية بعد المهملة : مصدر عتر الرمح إذا اضطرب واهتز من باب صرب . والعثر بالمثلثة : الاطلاع على الشيء مصدر عثر عليه .
وقوله : سالتاني الطلاق إلخ استشهد به سيبويه على أن الشاعر يبدل الهمزة ألفاً في الضرورة .
قال : وليس هذا من لغة من يقول : سلت يسال كخفت يخاف . وبلغنا أنه لغة . قال الأعلم : هي لغةٌ معروفة وعليها قراءة من قرأ : سال سائلٌ بعذابٍ واقع . وروى : تسألان الطلاق وحينئذٍ لا شاهد فيه .
____________________

وقوله : قد جئتماني بنكر التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب . والنكر بالضم : الأمر القبيح المنكر . وروى الزجاجي في أماليه بدل نكر مر من المرارة : ضد الحلاوة . وروى أيضاً : ( سالتاني الطلاق أن رأتاني ** قل مالي قد . . . . . . . . إلخ ) فجملة قل مالي في محل نصب مفعول ثان للرؤية كالرواية السابقة ويجوز أن تكون الرؤية بصرية .
وجملة قل مالي : حال من الياء . وقليلاً : حال من مالي . وقوله : ويعرى من المغارم جمع مغرم بالفتح وهو ما ينوب الإنسان في ماله من ضررٍ لغير جناية كتحمل الديات والإطعام في النائبات . وقوله : وترى أعبدٌ إلخ بالبناء للمفعول . وأعبد : جمع عبد . وأواق أي : من الذهب والفضة وهو جمع أوقية وهي سبعة مثاقيل وأربعون درهماً . وروى بدله : وجياد جمع )
جواد وهو الكريم من الخيل . ومناصيف : جمع منصف وهو الخادم . قاله الجاحظ . فالياء زائدة لضرورة الشعر . ومنصفٌ بفتح الميم وكسرها والأنثى بالهاء . وفعله نصفه ينصفه من باب نصر وضرب نصفاً ونصافاً ونصافة بكسرهما وفتحهما أي : خدمة ويقال أيضاً : أنصفه بالألف . وخوادم : جمع خادم وهي الجارية ويقال أيضاً : خادمة . والخادم يطلق على المذكر . وروى بدله : من ولائد عشر جمع وليدة بمعنى الخادمة . وقوله : في نعمةٍ زول بفتح الزاي المعجمة وسكون الواو صفة نعمة أي : حسنة وجيدة . قاله الجاحظ .
____________________

وقوله : ضع عصاك إلخ وضع العصا كناية عن الإقامة لأن المقيم يضعها عن يده والمسافر يحملها . قال الشاعر : ( فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عيناً بالإياب المسافر ) وما أحسن قول الباخرزي : ( حمل العصا للمبتلى ** بالشيب أنواع البلا ) ( وصف المسافر أنه ** ألقى العصا كي ينزلا ) ( فعلى القياس سبيل من ** أخذ العصا أن يرحلا ) واللام في لدهر بمعنى إلى أي : إلى انقضاء دهر وهو الزمان الطويل . وقوله : وي كأن من يكن إلخ من : شرطية ونشب : اسم كان وله : خبرها ويحبب : بالبناء للمفعول من المحبة جزاء الشرط . وكذلك من يفتقر يعش . وعيش : مفعول مطلق . والضر بالضم والفتح : سوء الحال من قلة مال وجاه والنشب بفتح النون والشين : المال الأصيل من الناطق والصامت . وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : ويكأنه لا يفلح الكافرون على أن وي مفصولة من كأن . وقوله : ويجنب سر النجي معطوف على يعش وهو بالبناء للمفعول من جنبه إياه تجنيباً أي : باعده عنه . فهو متعد لمفعولين أولهما نائب الفاعل وهو ضمير من يفتقر وثانيهما سر النجي . والسر : هو الحديث المكتم في النفس .
____________________

والنجي : فعيل هو من يفشى له السر . يعني أن الفقير يستحقره صاحبه فلا يفشي له سره . وقوله : محضر : اسم مفعول من أحضره إياه أي : جعله حاضراً غير غائب فهو متعدٍّ إلى مفعولين أولهما نائب الفاعل وهو ضمير أخي المال والثاني كل سر . وروى أيضاً : ( ويجنب يسر الأمور ولك ** ن ذوي المال حضرٌ كل يسر ) واليسر : نقيض العسر . وحضر : جمع حاضر من حضره إذا شاهده . والرواية الأولى هي )
رواية الجاحظ في البيان والتبيين والرواية الثانية هي رواية الزبير بن بكار في أنساب قريش وتبعه صاحب الأغاني . وأبو الحسن المدائني في كتاب المقسات . وهي لزيد بن عمرو بن نفيل كما في كتاب سيبويه وخدمته . وكذا في أمالي الزجاجي الوسطى وأثبتها الجاحظ لابنه سعيد بن زيد ونسبها الزبير بن بكار لنبيه بن الحجاج . قال أبو الحسن المدائني : قالوا : تزوج عمرو بن نفيل امرأة أبيه نفيل بن عبد العزى فولدت زيد بن عمرو بن نفيل وكانت ولدت الخطاب أبا عمر بن الخطاب فكان الخطاب عم زيد وأخاه لأمه . وكان زيد يطلب الدين ويخرج من مكة إلى الشام وغيرها يلتمس الدين فكان الخطاب يعيب عليه خروجه عن مكة وطلب الدين وخلاف قومه وكان يؤذيه
____________________

وأمر امرأته أن تعاتبه وتأخذه بلسانها ففعلت فاعتزم على الخروج فقال زيد لامرأته صفية بنت الحضرمي : ( لا تحبسيني في الهوا ** ن صفي ما دابي ودابه ) ( إني إذا خفت الهوا ** ن مشيعُ ذللٌ ركابه ) ( دعموص أبواب الملو ** ك وجانبٌ للخرق بابه ) ( قطاع أسبابٍ تذ ** ل بغير أقرانٍ صعابه ) ( وإنما ألف الهوا ** ن العير إذ يهوى إهابه ) ( وأخي ابن أمي ثم عم ** ي لا يواتيني خطابه ) ( وإذا يعاتبني أخ ** ي أقول : أعياني جوابه ) ( وإذا أشاء لقلت : ما ** عندي مفاتحه مبابه ) وقال لامرأتيه : تلك عرساي تنطقان . . . . . . . . . . . . . . الأبيات أما الأول فهو زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى بن رياح بن عبد الله بن قرط بن رزاح بن عدي بن كعب بن لؤي بن غالب بن فهر : القرشي العدوي . قال صاحب الاستيعاب : كان زيد بن عمرو بن نفيل يطلب دين الحنيفية دين إبراهيم عليه السلام قبل أن يبعث النبي صلى الله عليه وسلم وكان لا يذبح للأنصاب ولا يأكل الميتة والدم . قال ابن حجر في الإصابة : ذكر البغوي وبن منده وغيرهما زيداً هذا في الصحابة . وفيه نظر لأنه مات قبل البعثة بخمس سنين ولكنه يجيء على أحد الاحتمالين في تعريف الصحابي وهو أنه من رأى النبي صلى الله عليه )
وسلم مؤمناً به هل يشترط في كونه مؤمناً به أن تقع رؤيته له بعد البعثة فيؤمن به حين يراه أو بعد ذلك أو يكفي كونه مؤمناً به أنه سيبعث كما في قصة هذا وغيره .
____________________

وقد ذكر ابن إسحاق أن أسماء بنت أبي بكر قالت : لقد رأيت زيد بن عمرو بن نفيل مسنداً ظهره إلى الكعبة يقول : يا معشر قريش والذي نفسي بيده ما أصبح منكم أحدٌ على دين إبراهيم غيري . وأخرج الفاكهي بسند له إلى عامر بن ربيعة قال : لقيت زيد بن عمرو وهو خارج من مكة يريد حراء فقال : يا عامر إني قد فارقت قومي واتبعت ملة إبراهيم وما كان يعبد إسماعيل من بعده كان يصلي إلى هذه البنية . وأنا أنتظر نبياً من ولد إسماعيل ثم من ولد عبد المطلب وما أراني أدركه . وأنا أومن به وأصدقه وأشهد أنه نبي . الحديث . زاد الواقدي في حديث نحوه : فإن طالت بك مدة فأقرئه مني السلام . وفيه : لما أسلمت أقرأت النبي صلى الله عليه وسلم منه السلام فرد عليه وترحم عليه وقال : رأيته في الجنة يسحب ذيولاً . وروى الواقدي عن ابنه سعيد بن زيد قال : توفي أبي وقريشٌ تبني الكعبة . وكان ذلك قبل المبعث بخمس سنين . أما سعيد بن زيد المذكور فقد كان من السابقين إلى الإسلام وهاجر وشهد أحداً والمشاهد بعدها ولم يكن بالمدينة زمان بدر فلذلك لم يشهدها . وهو أحد العشرة المبشرة وكان إسلامه قديماً قبل عمر وكان إسلام عمر عنده في بيته لأنه كان زوج أخته فاطمة . قال الواقدي : توفي بالعقيق فحمل إلى المدينة وذلك سنة خمسين من الهجرة وقيل إحدى وخمسين وقيل سنة اثنتين وعاش بضعاً وسبعين سنة . وزعم الهيثم بن عدي أنه مات بالكوفة وصلى عليه المغيرة بن شعبة . قال : وعاش ثلاثاً وسبعين سنة وزعم العلامة الدواني في شرح ديباجة العقائد العضدية وتبعه السيد عيسى الصفوي في شرح الفوائد الغياثية أن زيد بن عمر المذكور نبيٌّ أوحي إليه لتكميل نفسه .
____________________

وهذه عبارته : النبي : إنسانٌ بعثه الله إلى الخلق لتبليغ ما أوحاه إليه .
وعلى هذا لا يشمل من أوحى الله ما يحتاج إليه لكماله في نفسه من غير أن يكون مبعوثاً إلى غيره كما قيل في زيد بن عمرو بن نفيل اللهم إلا أن يتكلف . أقول : هذا غير صحيح فإنه لم يقل أحدٌ من المؤرخين والمحدثين : إنه نبي أو ادعى النبوة . وأمره مشهور وكان حياً في زمن النبي صلى الله عليه وسلم وليس في عصره نبي غيره . قال الذهبي : زيد بن عمرو بن نفيل هو الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : إنه يبعث أمةً وحده وكان على دين إبراهيم ورأى النبي صلى الله عليه وسلم وتوفي قبل مبعثه صلى الله عليه وسلم . وكان دخل الشام والبلقاء . )
وكان نفرٌ من قريش : زيد وورقة وعثمان بن الحارث وعبيد بن جحش خالفوا قريشاً وقالوا لهم : إنكم تعبدون ما لا يضر ولا ينفع من الأصنام ولا يأكلون ذبائحهم . واجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم قبل البعثة وقال له : إني شاممت النصرانية واليهودية فلم أر فيها ما أريد فقصصت ذلك على راهبٍ فقال لي : إنك تريد ملة إبراهيم الحنيفية وهي لا توجد اليوم فالحق ببلدك فإن الله باعثٌ من قومك من يأتي بها وهو أكرم الخلق على الله . اه . ومنه تعلم أن ما قاله الدواني لا يليق بمثله أن يذكره . وكذا ما في حواشي الكازروني من أنه يجوز أن يكون زيد مبعوثاً إلى الخلق بدليل أنه كان يسند ظهره إلى الكعبة ويقول : أيها الناس لم يبق على دين إبراهيم غيري . ويعلم من هذا أنه يجوز أن يكون نبياً فلا ينتقض به التعريف . انتهى . وهذا مما يقضي منه التعجب وكذا جميع ما ذكره هنا أرباب حواشيه .
____________________

وذكره البيضاوي عند تفسير قوله تعالى : فلا تجعلوا لله أنداداً : وقال : هو موحد الجاهلية . وأما الثاني فهو نبيه بضم النون وفتح الموحدة بعدها ياء ساكنة فهاء وكنيته أبو الرزام بتشديد الزاي المعجمة ابن الحجاج بتشديد الجيم الأولى ابن عامر بن حذيفة بن سهم بن عمرو بن هصيص بالتصغير ابن كعب بن لؤي بن غالب . قال الزبير بن بكار في أنساب قريش : كان نبيهٌ وأخوه منبه على صيغة اسم الفاعل من التنبيه من وجوه قريش وذوي النباهة فيهم وقتلا ببدر كافرين . وكانا من المطعمين يوم بدر ورثاهما الأعشى بن نباش بن زرارة التميمي حليف بني عبد الدار وكان مداحاً لنبيه بن الحجاج وله فيه قصيدة يصف ناقته : ( تبلغن رجلاً محضاً ضرائبه ** مؤملاً وأبوه قبل مأمول ) ( إن نبيهاً أبا الرزام أحلمهم ** حلماً وأجودهم والجود تفضيل ) وكان نبيهٌ شاعراً وهو الذي يقول في زوجتيه وقد سألتاه الطلاق : ( تلك عرساي تنطقان بهجرٍ ** وتقولان قول أثرٍ وعثر ) إلى آخر الأبيات المقدمة . ومن شعره : ( قصر الشيء بي ولو كنت ذا ما ** لً كثير لأحلب الناس حولي )
____________________

( ولقالوا أنت الكريم علينا ** ولحطوا إلى هواي وميلي ) ( ولكلت المعروف كيلاً هنيئاً ** يعجز الناس أن يكيلوا ككيلي ) وله أيضاً : ) ( قالت سليمى يوم جئت أزورها ** لا أبتغي إلا امرأً ذا مال ) ( فلأحرصن على اكتساب محببٍ ** ولأكسبن في عفةٍ وجمال ) وله شعر كثير . اه . والأنضر كأحمد : لغةٌ في النضر وهو الذهب .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والسبعون بعد الأربعمائة ) قول الفوارس ويك عنتر أقدم على أن الفراء قال : وي في ويكأنه كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب كقوله : ويك عنتر أي : ويلك وعجباً منك . أقول : ليس هذا مذهب الفراء وإنما هو قولٌ لبعض النحويين نقله الفراء عنه كما مضى .
____________________

زعم أن ويكأن مركب من ويك ومن أن وأن ويك أصله ويلك فحذفت منه اللام كما في بيت عنترة . ولا تخفى ركاكة قول الشارح : وي كلمة تعجب ألحق بها كاف الخطاب مع قوله : أي ويلك وعجباً منك . قال ابن الشجري في أماليه : قال المفسرون في قول الله تعالى : ويكأن الله يبسط الرزق معناه ألم تر أن الله . ومثل ذلك : ويكأنه لا يفلح الكافرون .
واختلف فيها اللغويون فقال الخليل : إنها وي مفصولة من كأن والمراد بها التنبيه . وإلى هذا ذهب يونس وسيبويه والكسائي . وقال السيرافي : وي كلمة يقولها المتندم عند إظهار ندامته ويقولها المندم لغيره والمنبه . ومعنى كأن الله يبسط الرزق التحقيق وإن كان لفظه لفظ التنبيه فالتقدير : تنبه أن الله يبسط الرزق أي : تنبه لبسط الله الرزق . وقال الفراء معناه في كلام العرب التقرير كقولك لمن تقرر : ألا ترى إلى صنع الله فكأنه قيل : أما ترى أن الله يبسط الرزق . وأقول : إن كل واحد من مذهبي الخليل والفراء وكذلك ما قاله السيرافي من أن التقدير : تنبه أن الله يبسط الرزق معناه ألم تر أن الله يبسط الرزق . وشاهد ذلك قوله تعالى : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة
____________________

. فهذا تنبيهٌ على قدرته وتقريرٌ بها . وقال غير هؤلاء من اللغويين : هي ويك بمعنى ويلك وحذفت اللام لكثرة هذه اللفظة في الكلام . وأن من قوله أن الله يبسط الرزق مفتوحة بإضمار اعلم . واحتجوا بقول عنترة : ويك عنتر أقدم فالكاف على هذا القول ضمير فلها موضع من الإعراب . وقال آخرون : هي وي اسمٌ للفعل ومعناها أتعجب كما تقول : وي لم فعلت هذا فالكاف في هذا الوجه حرفٌ للخطاب كالكاف في رويدك فهي دالة على أن التعجب موجه إلى مخاطب لا إلى غائب . وانفتحت أن )
بتقدير اللام أي : أتعجب لأن الله يبسط الرزق . انتهى كلام ابن الشجري . والبيت من معلقة عنترة العبسي . قال شراح المعلقة : قال بعض النحويين : معنى : ويك ويحك . وقال بعضهم : معناه ويلك . وكلا القولين خطأ لأنه كان يجب على هذا أن يقرأ : ويك إنه كما يقال : ويلك إنه وويحك إنه . على أنه قد احتج لصاحب هذا القول بأن المعنى : ويلك اعلم أنه لا يفلح الكافرون . وهذا أيضاً خطأ من جهات إحداها : حذف اللام من ويلك وحذف اعلم لأن مثل هذا لا يحذف لأنه لا يعرف معناه . وأيضاً فإن المعنى لا يصح لأنه لا يدرى من خاطبوا بهذا . وروي عن بعض أهل التفسير أن معنى ويك ألم تر وأما ترى والأحسن في هذا ما روى سيبويه عن الخليل وهو أن وي منفصلة وهي
____________________

كلمة يقولها المتندم إذا ما تنبه على ما كان منه كأنهم قالوا على الندم : وي كأنه لا يفلح الكافرون . انتهى . وروي : قيل الفوارس . والقول والقيل بمعنًى . وجمع فارس الوصفي على فوارس نادر . وعنتر : منادى مرخم أي : يا عنترة .
وأقدم بفتح الهمزة وكسر الدال بمعنى تقدم أو هو من الإقدام الذي بمعنى الاجتهاد والتصميم .
وروى بدله : قدم أي : قدم الفرس أو بمعنى تقدم . جعل أمرهم له بالتقدم شفاء لنفسه لما ينال في تقدمه من الظفر بأعدائه ولما يكتسب من ذلك من الرفعة وعلو المنزلة . وقد تقدمت ترجمة عنترة وشرح المعلقة في أبيات منها في الشاهد الثاني عشر وغيره . وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الأربعمائة ) ( روافده أكرم الرافدات ** بخٍ لك بخٍّ لبحرٍ خضم ) على أن الشاعر جمع فيه لغتي بخٍ الموصولة في الدرج وهما : تخفيف الخاء مع الكسر والتنوين وتشديدها كذلك . وهذا من الصحاح فإنه قال : بخ كلمة تقال عند المدح والرضا بالشيء وتكرر للمبالغة فيقال : بخ بخ . فإن وصلت خفضت ونونت فقلت : بخٍ بخٍ وربما شددت كالاسم .
____________________

وقد جمعهما الشاعر فقال يصف بيتاً : روافده أكرم الرافدات . . . . . . . . . . . . . . البيت وأورده أبو عبيد القاسم بن سلام في الغريب المصنف قال : الروافد خشب السقف قال الشاعر وذكر بيتاً : روافده أكرم الرافدات . . . . . . . . . . . . . . البيت قال شارح أبياته يوسف بن الحسن السيرافي : بخ كلمة تقال عند وصف الشيء بالرفعة والتناهي في الأمور الجليلة : وهي مبنية على السكون لأنه من أسماء الأفعال والفعل الذي هي في موضعه فعل تعجبٍ في قولك : أفعل به في موضع أعظم به وأكرم به كما كان صه في موضع اسكت . وهو في نية تعريف . وهذه الأفعال التي للتعريف إذا نوي بها التعريف لم تنون وإن نوي بها التنكير نونت . فمن قال : بخٍ ونون أراد به النكرة فأدخل التنوين وهو حرف ساكن على الخاء وهي ساكنة فاجتمع ساكنان فكسرت الأولى منهما وهي الخاء . فإن قال قائل : الساكنان إذا التقيا في كلمة واحدة كسر الثاني منهما نحو : دراك ونزال وإذا التقيا من كلمتين كسر الأول نحو : اضرب ابنك وأكرم القوم فلما كسرت الخاء لدخول التنوين وهما في كلمة واحدة ولم يكسر التنوين قيل له : التنوين ليس من الكلمة وهو مضمومٍ إليها داخلٌ للعلامة وليس من حروفها فجرى مجرى كلمة غير الكلمة الأولى . وبخ بالتشديد هو الأصل والمخفف ما حذف منه حرفٌ من الأصل . والخضم : الكثير العظيم الكثرة . وصف البيت بالكرم وأراد كرم من هو بيته . انتهى . فعلى كلامه هي اسم فعلٍ لا اسم صوت . والبيت لم أقف على قائله وتتمته . والله أعلم .
____________________

وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الأربعمائة ) وصار وصل الغانيات أخا على أن الشاعر جعل أخا كالمصدر فأعربه وهو مصدر بمعنى المفعول أي : مكروهاً .
وكذلك أورد الزمخشري في الأصوات وقال : وأخ عند التكره . قال العجاج : وصار وصل الغانيات أخا وروى كخا . قال ابن دريد في الجمهرة : أخ وذكرها بالفتح كلمة تقال عند التأوه وأحسبها محدثه . وكخ : زجر للصبي وردعٌ له وتقال عند التقذر للشيء وتكسر الكاف وتفتح وتسكن الخاء وتكسر بتنوين وغير تنوين قيل : هي أعجمية عربت . كذا في النهاية . ولم أر نسبة البيت للعجاج إلا في المفصل . وفي العباب للصاغاني يقال للصبي إذا نهي عن فعل شيء قذرٍ : إخ بالكسر بمنزلة قول العجم : كخ كأنه زجر وقد تفتح همزته قال أعرابي : وكان وصل الغانيات أخا ويروى كخا . وإخ بالكسر : صوت يناخ به الجمل ليبرك ولا يشتق منه الفعل فلا يقال أخخت الجمل . إنما يقولون أنخته . وهو من أبيات رواها جماعة غفلاً منهم ثعلب في أماليه وأنشد :
____________________

( لا خير في الشيخ إذا ما أجلخا ** وسار غرب عينه ولخا ) ( وكان أكلاً قاعداً وشخا ** تحت رواق البيت يخشى الدخا ) ( وانثنت الرجل فكانت فخا ** وكان وصل الغانيات أخا ) اجلخ : سقط ولم يتحرك . ولخ : سال . وأخ كقولك : أف وتف . انتهى . وكذا رواها الزجاجي في أماليه الوسطى عن ابن الأعرابي وقال : اجلخ : اعوج . ولخ : التصقت عينيه . وشخا يقول : كثر غائطه . والدخ بضم الدال وفتحها : الدخان . ويغشى الدخ : يغشى التنور فيقول : أطعموني . انتهى . وقال علي بن حمزة البصري في التنبيهات : الغرب : بثرة تكون في العين تقذى ولا ترقأ . وأنشد الأبيات . وكذلك أنشد الأبيات ابن دريد في الجمهرة وقال : لخت عينه تلخ لخاً ولخخاً إذا كثرت دموعها وغلظت جفونها . وربما قالوا : لحت أي : بالمهملة . وقال أبو عبد الله محمد بن الحسين اليمني في طبقات النحويين : حدثنا ابن مطرف قال : أخبرنا ابن دريد قال : أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال : قالت أعرابيةُ في زوجها وكان شيخاً : لا خير في الشيخ إذا ما اجلخا )
الأبيات . فقال زوجها : ( أم جوارٍ ضنؤها غير أمر ** صهصلق الصوت بعينيها الصبر ) ( تبادر الذئب بعدوٍ مشفتر ** سائلةٌ أصداغها ما تختمر ) ( تغدو عليهم بعمودٍ منكسر ** حتى يفر أهلها كل مفر ) ( لو نحرت في بيتها عشر جزر ** لأصبحت من لحمهن تعتذر ) فقالت لزوجها : اسكت فإنا حماراً العبادي . قال : أجل وأنت بدأت . انتهى .
____________________

وجوارٍ : جمع جارية . والضنء بفتح الضاد المعجمة وكسرها وسكون النون بعدها همزة : النسل والولد ولا واحد له من لفظه . وأمرٌ : كثيرٌ من أمر كفرح إذا كثر والصهصلق قال في القاموس : هي العجوز الصخابة ومن الأصوات : الشديد . والصبر : عصارة شجر مرٍّ . يريد أن عينيها تدمع دائماً كأن في عينيها هذه العصارة . والمشفتر كمقشعر : المشمر والمنتصب . وسائلة أصداغها أي : طويلة شعر الأصداغ . وما تختمر أي : لم تستعمل الخمار . والجزر بضمتين : جمع جزور وهو البعير أو الناقة المجزورة وما يذبح من الشاء واحدتها جزرة .
____________________

( المركب ) أنشد فيه ( الشاهد الثاني والثمانون بعد الأربعمائة ) ( كلف من عنائه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته ) على أن بعض الكوفيين أجاز إضافة النيف إلى العشرة . قال أبو علي في التذكرة القصرية : البغداديون يجيزون خمسة عشر فيضيفون وأنت تريد به العدد ويستشهدون بقول الشاعر : ( كلف من شقائه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته ) وأصحابنا يمنعون من ذلك إذا أردت به العدد . فإن سميته بخمسة عشر جازت الإضافة على قول من قال : معديكرب وجاز أن لا تضيف على حد من قال : معديكرب لأنه قد خرج عن العدد بالتسمية . وأجاز ذاك أبو عمر في الفرخ . انتهى . وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إضافة النيف إلى العشرة واستدلوا بالبيت ولأن النيف اسم مظهرٌ كغيره من الأسماء المظهرة التي تجوز إضافتها ومنعه البصريون لأن الاسمين قد جعلا اسماً واحداً فكما لا يجوز أن يضاف الاسم الواحد بعضه إلى بعض فكذلك ها هنا .
____________________

وبيان ذلك : أن الاسمين لما ركبا دلا على معنًى واحد والإضافة تبطل ذلك المعنى . ألا ترى أنك لو قلت : قبضت خمسة عشر من غير إضافة دل على أنك قد قبضت خمسةً وعشرة . وإذا أضفت دل على أنك قبضت الخمسة دون العشرة فلما كانت الإضافة تبطل المعنى المقصود وجب أن لا تجوز . وأما البيت فلا يعرف قائله ولا يؤخذ به . على أنا نقول : إنما صرفه لضرورة ورده إلى الجر لأن ثماني عشرة لما كانا بمنزلة اسم واحد وقد أضيف إليهما بنت رد الإعراب إلى الأصل بإضافة بنت إليهما لا بإضافة ثماني إلى عشرة . وهم إذا صرفوا المبني للضرورة ردوه إلى الأصل . وأما قولهم إن النيف اسمٌ مظهر كغيره من الأسماء في جواز الإضافة قلنا : إلا أنه مركب والتركيب ينافي الإضافة لأن التركيب جعل الاسمين اسماً واحداً بخلاف الإضافة فإن المضاف يدل على مسمى والمضاف إليه يدل على مسمًى آخر . وحينئذ لا يجوز الإضافة لاستحالة المعنى . اه . وأنشد الفراء البيت في موضعين من تفسيره عن أبي ثروان : أحدهما : عند قوله تعالى : إني رأيت أحد عشر كوكبا لما ذكر من مذهب الكوفيين وفصل المسألة عندهم . وثانيهما عند قوله تعالى : ربنا غلبت علينا شقوتنا بكسر الشين وهي قراءة أهل المدينة وعاصم وأنشد هذا البيت أيضاً . والعناء : بالفتح : التعب والنصب . والحجة بالكسر : السنة . ونائب فاعل كلف : ضمير الرجل وبنت : مفعول ثان لكلف . قال الجاحظ في )
كتاب الحيوان : أنشدني أبو الرديني الدلهم بن شهاب أحد بني عوف بن كنانة من عكل قال : أنشدني نفيع بن طارق : ( علق من عناءه وشقوته ** بنت ثماني عشرةٍ من حجته )
____________________

( وقد رأيت هدجاً في مشيته ** وقد جلا الشيب عذار لحيته ) ( يظنها ظناً بغير رؤيته ** تمشي بجهمٍ ضيقه في همته ) ( لم يخزه الله برحبٍ سعته ** حجم بعد حلقه ونورته ) ( كقنفذ القف اختفى في فروته ** لا يقنع الأير بنزع زهرته ) كأن فيه وهجاً من ملته والهدج : مشية الشيخ . والجهم : الباسر الكالح من جهم بالضم إذا صار باسر الوجه . أراد حراً جهماً ذا عكنٍ كالوجه الجهم . وقوله : ضيقه في همته أراد أن حرها ضيقٌ كضيق همته .
وحجم بفتح الجيم والحاء المهملة أي : برز الحر الجهم من حجم الرجل إذا فتح عينيه كالشاخص . والقف : حجارة غاصٌّ بعضها ببعض مترادف بعضها إلى بعض . والملة : بالفتح : الرماد الحار . وأنشد بعده ( ولا تبلى بسالتهم وإن هم ** صلوا بالحرب حيناً بعد حين ) على أن أصل حين حين بالتركيب حيناً بعد حين كما في البيت .
____________________

وأورده صاحب الصحاح في صلي بالأمر كفرح إذا قاسى حره وشدته . والبيت من أبياتٍ لأبي الغول الطهوي أوردها القالي في أماليه وأبو تمامٍ في أول حماسته وهي : ( فدت نفسي وما ملكت يميني ** فوارس صدقوا فيهم ظنوني ) ( فوارس لا يملون المنايا ** إذا دارت رحى الحرب الزبون ) ( ولا يجزون من حسنٍ بسوءى ** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) ( ولا تبلى بسالتهم وإن هم ** صلوا بالحرب حيناً بعد حين ) ( هم منعوا حمى الوقبى بضربٍ ** يؤلف بين أشتات المنون ) ( فنكب عنهم درء الأعادي ** وداووا بالجنون من الجنون ) ( ولا يرعون أكناف الهوينى ** إذا حلوا ولا أرض الهدون ) قوله : فدت نفسي إلخ جملة دعائية و ما موصولة . وتخصيص اليمين لفضلها وقوة التصرف )
بها وهم يقيمون البعض مقام الجملة وينسبون إليه الأحداث والأخبار كثيراً كقوله تعالى : فظلت أعناقهم لها خاضعين . قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : قوله : صدقوا فيهم ظنوني ف ظنوني مفعولة . وروى غير القالي : صدقت فيهم ظنوني فالظنون على هذه الرواية فاعلةٌ .
____________________

ويروى : صدقت بضم الصاد فتكون الظنون مفعولةً . يريد : أنها نائب فاعل . وأنشده صاحب الكشاف في صورة سبأ برواية : صدقت فيهم ظنوني وقال : لو قرئ : ولقد صدق عليهم إبليس ظنه بتشديد الدال ورفع إبليس والظن كما في البيت لكان مبالغةً في الصدق عليهم . وفوارس شاذ في الجموع لأن فواعل جمع فاعلة لما يعقل دون فاعل . والمعنى : تفدي نفسي ومالي أجمع فوارس يكونون عند ظنوني بهم في الحرب . وقوله : فوارس لا يملون إلخ بالنصب بدل من فوارس وبالرفع خبر مبتدأ محذوف أي : هم فوارس . والمنايا : جمع منية وهي الموت أراد أسبابها . والزبون : الناقة التي تزبن حالبها أي : تدفعه برجلها ومنه الزبانية لأنهم يدفعون إلى النار . وإنما لم يؤنث لاستواء فعول في المؤنث والمذكر . شبه الحرب التي لا تقبل الصلح بالناقة الزبون . ويقال : ثبت فلانٌ في رحا الحرب أي : حيث دارت كالرحا . قوله : ولا يجزون من حسن إلخ يشرح إن شاء الله في أفعل التفضيل . قوله : ولا تبلى بسالتهم إلخ قال الطبرسي : تبلى من بلي الثوب . ويروى : تبلى بالضم من بلوت إذا اختبرت . والبسالة يوصف بها الأسد والرجل وصلوا من صليت بكذا أي : منيت به . وجواب إن هم صلوا يدل عليه ما قبله تقديره : إن منوا بالحرب لم تخلق شجاعتهم أو لم تختبر شجاعتهم ليعرف غورها ومنتهاها على مر الزمان واختلاف الأحوال . انتهى . وقال أبو عبيد البكري : هكذا الرواية تبلى بالفتح من البلى .
____________________

وروى غير القالي : ولا تبلى بضم التاء من الابتلاء وهو الاختبار أي : لا يختبر ما عندهم من النجدة والبأس وإن طال أمد الحرب لكثرة ما عندهم من ذلك . ويجوز على هذه الرواية صلوا بالحرب إلا بعد حين . وقوله : هم منعوا حمى إلخ الحمى : موضع الماء والكلأ .
والوقبى : بفتح الواو والقاف : موضع بقرب البصرة . وكان حديثه أن عبد الله ابن عامر كان عاملاً لعثمان بالبصرة وأعمالها . واستعمل بشر بن حارث بن كهف المازني على الأحماء التي منها الوقبى فحفر بها ركيتين : ذات القصر والجوفاء فانتزعهما منه عبد الله بن عامر ووقعت الحرب بينهم بسبب ذلك وعاد الماء في آخر حروب ومغاورات إلى بني مازن . كذا قال شراح الحماسة . وقال أبو عبيدة : كانت الوقبى لبكرٍ على إيادٍ الدهر فغلبهم عليها بنو مازن بعون عبد )
الله بن عامر صاحب البصرة لهم فهي بأيدي بني مازن اليوم . وكان بين بني شيبان وبين مازن حرب فيها وتعرف بيوم الوقبى قتل فيها جماعة من بني شيبان . انتهى . يقول : إن هؤلاء القوم الذين يمنعون حمى هذا المكان بضربٍ يجمع بين المنايا المتفرقة . وهذا يحتمل وجوهاً : يجوز أن يكون أن هؤلاء لو بقوا في أماكنهم ولم يجتمعوا في هذه المعركة لوقعت مناياهم متفرقةً في أمكنةٍ متغايرة وأزمنة متفاوتة فلما اجتمعوا تحت الضرب الذي وصفه صار الضرب جامعاً لهم .
ويجوز أن يكون المعنى أن أسباب الموت مختلفة وهذا الضرب جمع بين الأسباب كلها . وحكي عن أبي سعيد الضرير أن المعنى أن الضرب إذا وقع ألف بين أقدارهم التي قدرت عليهم .
ويجوز أن يكون المراد : بضربٍ لا ينفس المضروب ولا يمهله لأنه جمع فرق الموت له . وقوله : فنكب عنهم إلخ الدرء أصله الدفع ثم استعمل في الخلاف لأن المختلفين يتدافعان . يقول : هذا الضرب نكب عن هؤلاء القوم اعوجاج الأعادي وخلافهم وداووا الشر بالشر .
____________________

وهذا كقولهم : الحديد بالحديد يفلح . وأصل النكب الميل . وقال أبو عبيد البكري : هذا مثل قول عمرو بن كلثوم : ( ألا لا يجهلن أحدٌ علينا ** فنجهل فوق جهل الجاهلينا ) وقال الفرزدق : ( أحلامنا تزن الجبال رزانةً ** ويزيد جاهلنا على الجهال ) قوله : ولا يرعون أكناف إلخ الهوينى : الدعة والخفض وهو مصغر الهونى تأنيث الأهون . ويجوز أن يكون الهونى اسماً مبنياً من الهينة وهي السكون ولا تجعله تأنيث الأهون . والهدون : السكون والصلح . يصفهم بالحرص على القتال وإيثار جانب الخصومة على الصلح . فيقول : لا يرعى هؤلاء القوم من عزهم ومنعتهم الأماكن التي أباحتها المسالمة ووطأتها المهادنة ولكن يرعون النواحي المحمية والأراضي المنعية . وأبو الغول الطهوي هو كما قال الآمدي في المؤتلف والمختلف من قوم
____________________

من بني طهية يقال لهم : بنو عبد شمس بن أبي سود . وكان يكنى أبا البلاد وقيل له : أبو الغول لأنه فيما زعم رأى غولاً فقتلها وقال : ( رأيت الغول تهوي جنح ليلٍ ** بسهبٍ كالعباية صحصحان ) ( فقلت لها : كلانا نضو أرضٍ ** أخو سفرٍ فصدي عن مكاني ) ( إذا عينان في وجهٍ قبيحٍ ** كوجه الهر مشقوق اللسان ) ) ( بعيني بومةٍ وشواة كلبٍ ** وجلدٍ في قراً أو في شنان ) وله في هذا حديث وخبر في كتاب بني طهية . انتهى . ونسب ابن قتيبة تلك الأبيات لأبي الغول النهشلي . قال : علباء بن جوشن من بني قطن بن نهشل وكان شاعراً مجيداً وهو القائل : ( وسوءةٍ يكثر الشيطان إن ذكرت ** منها التعجب جاءت من سليمانا ) ( لا تعجبن لخيرٍ جاء من يده ** فالكوكب النحس يسقي الأرض أحيانا ) انتهى . وأبو الغول النهشلي غير أبي الغول الطهوي نقلهما الآمدي عن أبي اليقظان وقال في النهشلي : هو علباء بن جوشن وإنه شاعر ذكره أبو اليقظان ولم ينشد له شعراً ولم أرى له ذكراً في كتاب بني نهشل . انتهى .
____________________

وأبو سود بضم السين هو ابن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وأم أبي سود : طهية بنت عبد شمس بن سعد بن زيد مناة بن تميم . ونهشل هو ابن دارم بن مالك بن حنظلة المذكور . فأبو سود يكون عم نهشل . وعلباء بكسر العين المهملة وسكون اللام بعدها باء موحدة وألف ممدودة . وسليمان هو سليمان بن عبد الملك بن مروان .
فالنهشلي شاعر إسلاميٌّ في الدولة المروانية وأما الطهوي فلم أقف على كونه إسلامياً أو جاهلياً . وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( فلولا يوم يومٍ ما أردنا ** جزاءك والقروض لها جزاء ) على أنه إذا خرج الظروف والأحوال عن الظرفية والحالية وجبت الإضافة ولم يجز التركيب . قال سيبويه : وأما يوم يومٍ وصباح مساءٍ وبيت بيتٍ وبين بينٍ فإن العرب تختلف في ذلك يجعله بعضهم بمنزلة اسم واحد وبعضهم يضيف الأول إلى الآخر ولا يجعله اسماً واحداً ولا يجعلون شيئاً من هذه الأسماء بمنزلة اسمٍ واحد إلا في حال الحال والظرف كما لم يجعلوا يا ابن عم ويا ابن أم بمنزلة شيء واحد إلا في حال النداء .
____________________

والآخر من هذه الأسماء في موضع جرٍّ وجعل لفظه كلفظ الواحد وهما اسمان أحدهما مضافُ إلى الآخر . وزعم يونس وهو رأيه أن أبا عمرو كان يجعل لفظه كلفظه إذا كان شيءٌ منه ظرفاً أو حالاً . وقال الفرزدق : ولولا يوم يومٍ ما أردنا . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فالأصل في هذا والقياس الإضافة . انتهى . قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة يوم الأول إلى الثاني على حد قولهم : معديكرب فيمن أضاف الأول إلى الثاني . يقول : لولا نصر مالكٍ في اليوم الذي تعلم ما طلبنا جزاءك . وجعل نصرهم له قرضاً يطالبونه بالجزاء عليه . هذا كلامه . ولم يشرح وجه الإضافة . وظاهرها إضافة المترادفين . وقد شرحها أبو علي في التذكرة قال : أما قوله حين لا حين فالثاني غير الأول لأن الحين يقع على الجزء اليسير من الزمان فأضاف الحين الأول إلى الثاني ولا زائدةٌ فيكون من إضافة البعض إلى الكل نحو : حلقة فضةٍ وعيد السنة وسبت الأسبوع فلا يكون إضافة الشيء إلى نفسه . ومثله قول الفرزدق : ولولا يوم يومٍ ما أردنا . . . . . . . . . . . . . . البيت فيوم الأول : وضح النهار والثاني : البرهة كالتي في قوله : ومن يولهم يومئذٍ دبره . وأنشد أبو عمرو :
____________________

( حبذا العرصات يوماً ** في ليالٍ مقمرات ) ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : وجن الخازباز به جنونا على أن لام التعريف إذا دخلت على اللغات المذكورة ل خازباز لم تغير ما كان مبنياً عن بنائه .
قال ابن بري في شرح أبيات إيضاح الفارسي : بني على الكسر كما تبنى الأصوات وفيه لغات .
ولما أرادوا تعريفه أدخلوا أل عليه لأن المركب حكمه حكم المفرد في ذلك نحو : الخمسة عشر درهماً . قال أبو علي : وإنما جاز دخول أل عليه وإن كان الغالب عليه وقوعه صوتاً لأنهم أوقعوه على غير الأصوات في نحو قوله : ( يا خازباز أرسل اللهازما ** إني أخاف أن تكون لازما )
____________________

فقيل : إنه ورم . وقد يجوز أن يشبه بباب العباس لأن ما دخلته أل من ذلك كثير نحو : تداعين باسم الشيب وشيب : حكاية صوت جذب الماء ورشفه عند الشرب . انتهى . وصدره : تفقأ فوقه القلع السواري ( يظل يحفهن بقفقفيه ** ويلحفهن هفافاً ثخينا ) ( بهجلٍ من قساً ذفر الخزامى ** تهادى الجربياء به الحنين ) تفقأ فوقه القلع السواري . . . . . . . . . . . . . . البيت يصف في هذه الأبيات نعاماً . ويحفهن أي : يحف بياضات . والقفقفان : الجناحان . والقفقف كجعفر بقافين بينهما فاءان . وجناح هفاف أي : حفيف الطيران . وحمله ثخيناً لتراكب الريش عليه . أي : يلبس بيضه جناحيه ويجعلهما للبيض كاللحاف وجناحه خفيف مع ثخنه وكثرة ريشه لأنه لو كان ثقيلاً لكسر البيض . وقوله : بهجل من قساً إلخ الباء متعلقة بيلحفهن .
والهجل بفتح الهاء وسكون الجيم : المطمئن من الأرض . والروض أحسن ما يكون في مطمئن لأن السيول تجتمع فيها . وقساً بفتح القاف والسين المهملة : موضع .
____________________

يريد أن هذا الموضع أدحيها ومحل بيضها . وذفر : صفة لهجل بفتح الذال المعجمة وكسر الفاء وصفٌ من الذفر بفتحتين وهو كل ريح ذكية من طيب أو نتن . وأما الدر بالمهملة وسكون الفاء فهو النتن خاصة .
والخزامى بضم المعجمة : نبات طيب الريح . والجربياء بكسر الجيم : ريح الشمال . وتهادى أي : )
تتهادى أي : تهدي إليه الحنين وهو الشوق وتوقان النفس . وضمير به للهجل . وقوله : تفقأ فوقه أي : فوق الهجل . وتفقأ أي : تتفقأ فهو مضارع أي : تنشق السحائب فوق هذه الروضة التي في هذا الهجل . وقال المرزوقي في شرح الفصيح : يقال : تفقأ السحاب أي : سال بالمطر . وأنشد البيت . وجملة تفقأ صفة أخرى من هجل أو حال منه . والقلع بفتح القاف واللام : جمع قلعة وهي القطعة العظيمة من السحاب . وقال ابن السكيت في لإصلاح المنطق : السحاب العظام .
والسواري : جمع سارية وهي السحابة التي تأتي ليلاً . والخازباز هنا : نبت . قال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : جنونه : طوله وسرعة نباته . وبه أي : بهذا الهجل . وكذلك قال قبله أو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : المجنون من الشجر كله العشب : ما طال طولاً شديداً . وإذا كان كذلك قيل جن جنوناً . وأنشد هذا البيت . وقال في ثلاثة مواضع أخر من كتابه : الخازباز من ذبان العشب . وأنشدوا قول ابن أحمر في صفة عشب : وجن الخازباز به جنونا يعني في هزجه وطيرانه . وقال آخرون هو نبتٌ . وجنونه : طوله وسموقه . انتهى .
____________________

وفسره حمزة في أمثاله بالذباب عند قوله : الخازباز أخصب قال : هو ذباب يطير في الربيع يدل على خصب السنة . وأنشد البيت . وفسره الزمخشري أيضاً في المفصل بذباب العشب . ومثل للعشب بقوله : والخازباز السنم المجودا وهو من أرجوزة أورد بعضها ابن الأعرابي في نوادره وهو : ( والخازباز الناعم الرغيدا ** والصليان السنم المجودا ) بحيث يدعو عامر مسعودا فهذا صوابه . وقد سبق الزمخشري ابن السكيت في إصلاح المنطق . وهو مركب من بيتين كما ترى . وهذه أسماء نباتات . والسنم بفتح السين وكسر النون : العالي . والمجود : الذي أصابه الجود بالفتح وهو المطر القوي . وعامر ومسعود : راعيان . قال ابن السكيت : قوله : بحيث يدعو إلخ هذا بيتٌ يلقى فيسأل : لم يدعو أحدهما الآخر فالجواب : إنما قال هذا لكثرة النبت وطوله بحيث يواري مسعوداً عن عامر فلا يعرف عامرٌ مكان مسعود فيدعوه ليعرف مكانه .
وأطيب : مفعول ثان . وروى بدله : أكرم . وها : ضمير الإبل مفعول أول . ومن روى : رعيتها فأطيب حال وها ضمير البقعة وما بعده بدل من أطيب على الوجهين . وتسمية هذه النباتات )
عوداً على اعتبار تسمية الغيث شجرة .
____________________

وابن أحمر شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الستين بعد الأربعمائة .
____________________

( الكنايات ) أنشد فيها ( الشاهد السادس والثمانون بعد الأربعمائة ) ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب ) على أن فعلة كناية عن موزونه مع اعتبار معناه وهو خولة . والبيت للمتنبي من قصيدةٍ رثى بها خولة أخت سيف الدولة الحمداني ولم يصرح بلفظها استعظاماً لكونها ملكة بل كنى عن اسمها بفعلة فلفظ فعلة حكمها حكم موزونها ممتنع من الصرف للعلمية والتأنيث فكذا فعلة ممتنع . وقد أورده الشارح المحقق في باب العلم أيضاً . ومنه قول المتنبي أيضاً : ( يا وجه داهية التي لولاك ما ** أكل الضنى جسمي ورض الأعظما ) قال ابن فورجة : داهية ليست باسم علم لمحبوبته ولكن كنى بها عن اسمها على سبيل التضجر لعظم ما حل به من بلائها أي : إنها لم تكن إلا داهية عليه . وزعم ابن جني أن داهية اسم التي شبب بها . ولم يصب الواحدي في قوله : الوجه قول ابن جني : فترك صرفها في البيت ولو لم يكن علماً كان الوجه صرفها . اه . وقد نقل الشارح المحقق عن سيبويه أن حال كناية العلم في الصرف ومنعه كحال العلم . وبه يضمحل قوله : ولو لم تكن علماً لكان الوجه صرفها .
____________________

وهذه أبياتٌ من أول القصيدة : ( يا أخت خير أخٍ يا بنت خير أبٍ ** كنايةً بهما عن أشرف النسب ) قال الواحدي : أراد يا أخت سيف الدولة ويا بنت أبي الهيجاء فكنى عن ذلك ونصب كناية على المصدر كأنه قال : كنيت كناية . ( أجل قدرك أن تسمي مؤبنةً ** ومن يصفك فقد سماك للعرب ) مؤبنة : مرثية من التأبين وهو مدح الميت . وتسمي بمعنى تعرفي . أي : أنت أجل من أن تعرفي باسمك بل وصفك يعرفك بما فيك من المحاسن والمحامد التي ليست في غيرك كما قال أبو نواس : ( فهي إذا سميت فقد وصفت ** فيجمع الاسم معنيين معاً ) )
إلى أن قال : ( طوى الجزيرة حتى جاءني خبرٌ ** فزعن فيه بآمالي إلى الكذب ) يريد خبر نعيها وأنه رجا أن يكون كذباً وتعلل بهذا الرجاء . والجزيرة : مدينة على شط دجلة بين الموصل وميافارقين . يقول : جاءني خبر موتها من الشام وقطع الجزيرة حتى وصل إلي فلما ( حتى إذا لم يدع لي صدقه أملاً ** شرقت بالدمع حتى كاد يشرق بي ) يقول : حتى إذا صح الخبر ولم يبق لي أملٌ في كونه كذباً شرقت بالدمع لغلبة البكاء إياي حتى كاد الدمع يشرق بي أي : كثرة الدموع حتى صرت بالإضافة إليها لقلة كالشيء الذي يشرق به .
والشرق بالدمع : أن يقطع الانتحاب نفسه فيجعله في مثل حال الشرق بالشيء . والمعنى : كاد الدمع لإحاطته بي أن يكون كأنه شرقٌ بي .
____________________

( تعثرت به في الأفواه ألسنها ** والبرد في الطرق والأقلام في الكتب ) أورده الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية قال : إن كان قبل الهاء متحركٌ نحو : به وغلامه فلا بد من الصلة إلا أن يضطر شاعر فيحذفها كقول المتنبي : . . . . . . . وأنشد البيت . قال الواحدي : أي لهول ذلك الخبر لم تقدر الألسن في الأفواه أن تنطق ولا البريد في الطريق أن يحمله ولا الأقلام أن تكتبه . ولم يلحق الياء في الهاء من به واكتفى بالكسرة ضرورة . وقد جاء عن العرب ما هو أشد من هذا كقول الشاعر : ( واشرب الماء ما بي نحوه عطشٌ ** إلا لأن عيونه سيل واديها ) وهذا كقراءة من قرأ : لا يؤده إليك بسكون الهاء . ويروى : تعثرت بك يخاطب الخبر وترك لفظ الغيبة . كذا في شرح الواحدي . وقال المعري : يريد أن هذا الخبر نبأٌ عظيم لا تجترئ الأفواه على النطق به . وهذا قد يجوز أن يكون صحيحاً لأن الإنسان ربما هاب الإخبار بالشيء لعظمه في نفسه وكذلك الكاتب الذي يكتب بالخبر الشنيع ربما يعثر قلمه هيبةً للأمر الذي دخل فيه وإنما التعثر للكاتب . وأما إذا ادعى التعثر من البرد فكذب لا محالة لأن البريد لا يشعر بالخبر .
وقد ذكر في موضع آخر ما يدل على أن حامل الكتاب الذي لا يشعر ما فيه غير شاقٍّ عليه حمله فكيف بالدابة التي لا يحكم عليها بالعقل . وذلك قوله لعضد الدولة :
____________________

( حاشاك أن تضعف عن حمل ما ** تحمل السائر في كتبه ) وقال المبارك بن أحمد المستوفي في كتاب النظام : لا فرق بين تعثر القلم وتعثر البريد لأن نسبة )
ذلك إليهما محال . وإذا اعتذر في القلم بتعثر الكاتب فهلا اعتذر في البريد بتعثر أصحابه لأن كلاً من الأقلام والبرد لا يشعر بالخبر . ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكر ولم تخلع ولم تهب ) قال ابن جني : كنى بفعلة عن اسمها واسمها خولة . قال أبو العلاء : وهذا تقويةٌ لقوله : أجل قدرك أن تسمي مؤبنة قال الواحدي : يذكر مساعيها أيام حياتها يقول : كأنها لم تفعل شيئاً مما ذكر لأن ذلك انطوى بموتها . وقال ابن المستوفي في النظام : زعم أبو البقاء أن المعنى : أنها كانت تجهز الجيوش إلى ديار بكر للجهاد . وليس كذلك لأن الموكب الجماعة يركبون للزينة والفرجة . قال الجوهري : الموكب بابةٌ من السير . والموكب : القوم الركوب على الإبل للزينة وكذلك جماعة الفرسان . وفي قول أبي الطيب : ديار بكر دليلٌ على ما ذكرته لأنه لو أراد ما ذكره أبو البقاء كان قد قصر جهادها على موضع مخصوص وهذا فيه نقصٌ من المدح . وعلى أن ديار بكر كان لسيف الدولة معظمها فكيف تجهز جيشاً إلى بلاد أخيها . وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
____________________

وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الأربعمائة ) اكفف اكفف هو قطعة من بيت ثان من أحجية للحريري في مقاماته وهما : ( يا من تقصر عن مدا ** هـ خطا مجاريه وتضعف ) ( ما مثل قولك للذي ** أضحى يحاجيك : اكفف اكفف ) على أن المراد بهذين اللفظين المكررين بطريق الإلغاز والتعمية : مهمه وهو القفز . فإن اكفف يرادفه مه ومكرره مهمه فمجموع اكفف اكفف كنايةٌ عن : مهمه . وهذا تعمية وإلغاز .
والمعمى واللغز في اللغة كلاهما بمعنى واحد وهو الشيء المستور . وبينهما فرقٌ عند علماء الأدب . فالمعمى كما قال القطب في رسالة المعمى المسماة بكنز الأسما في كشف المعمى : هو قولٌ يستخرج منه كلمة فأكثر بطريق الرمز والإيماء بحيث يقبله الذوق السليم . واللغز : ذكر أوصاف مخصوصة بموصوف لينتقل إليه وذلك بعبارة يدل ظاهرها على غيره وباطنها عليه .
قال القطب في رسالته : قد فرقوا بينهما بأن الكلام إذا دل على اسم شيء من الأشياء بذكر صفاتٍ له تميزه عما عداه كان لغزاً . وإذا دل على اسم خاص بملاحظة كونه لفظاً بدلالة مرموزه سمي ذلك معمًّى . فالكلام الدال على بعض السماء يكون معمى من حيث أن مدلوله اسم من الأسماء بملاحظة الرمز على حروفه ولغزاً من حيث أن مدلوله ذاتٌ من الذوات بملاحظة أوصافها . فعلى هذا يكون قول القائل في كمون :
____________________

( يا أيها العطار أعرب لنا ** عن اسم شيءٍ قل في سومكا ) ( تنظره بالعين في يقظةٍ ** كما ترى بالقلب في نومكا ) يصلح أن يكون لغزاً بملاحظة دلالته على صفات الكمون ويصلح أن يكون في اصطلاحهم معمًّى باعتبار دلالته على اسم بطريق الرمز . انتهى . ويقال للمعمى في اللغة أحجية أيضاً وهي في اصطلاح أهل الأدب نوعٌ منه . وقد نظم الحريري في المقامة السادسة والثلاثين عشرين أحجية وهو أول من اخترعها وسماها أحجية . وقال : وضع الأحجية لامتحان الألمعية واستخراج الخبيئة الخفية . وشرطها أن تكون ذات مماثلةٍ حقيقية وألفاظ معنوية ولطيفةٍ أدبية . فمتى نافت هذا النمط ضاهت السقط ولم تدخل السفط . ومن أحاجيه قوله في ها ديةً : ( أيا مستنبط الغام ** ض من لغزٍ وإضمار ) ) ( ألا اكشف لي ما مثل ** تناول ألف دينار ) وقد تلاه من جاء بعده فنظم في هذا الأسلوب ما راق وسحر الألباب وشاق الأفهام لدركها من كل باب . والأحجية في الحقيقة من قسم الترادف والتحليل وهما من أعمال فن المعمى .
فالأحجية نوعٌ من المعمى وهو فن استنبطه أدباء العجم أسسوا له قواعد وعقدوا له معاقد حتى صار فناً متميزاً من سائر الفنون . وأول من دونه المولى شرف الدين علي اليزيدي مؤرخ الفتوحات التيمورية
____________________

باللغة الفارسية . وكان شاعراً فصيحاً وناثراً بليغاً في اللسانين وتوفي سنة ثلاثين وثمانمائة . قال القطب : وما زال فضلاء العجم يقتفون أثره ويوسعون دائرة الفن ويتعمقون فيه إلى أن ألف فيه المولى نور الدين عبد الرحمن الجامي صاحب شرح الكافية عشر مسائل قد دونت وشرحت . وكثر فيها التصنيف إلى أن نبغ في عصره المولى مير حسين النيسابوري فأتى فيه بالسحر الحلال وفاق فيه لتعمقه ودقة نظره سائر الأقران في الأمثال . كتب فيه رسالة تكاد تبلغ حد الإعجاز أتى فيها بغرائب التعمية والإلغاز حتى إن المولى عبد الرحمن الجامي مع جلالة قدره قال : لو اطلعت عليها قبل الآن ما ألفت شيئاً في علم المعمى . وارتفع شأن مولانا مير حسين بسبب علم المعمى مع تعمقه في سائر العقليات فصار ملوك خراسان وأعيانها يرسلون أولادهم إليه ليقرؤوا رسالته عليه إلى أن توفي في عام اثني عشر وتسعمائة بعد وفاة الجامي بأربعة عشر عاماً . وظهر بعدهما فائقون في المعمى في كل قطر بحيث لو جمعت تراجمهم لزادت على مجلد كبير . ثم قال القطب : وأنت إذا تصفحت كتب الأدب وتتبعت دواوين شعراء العرب ظفرت من كلامهم بكثيرٍ مما يصدق عليه تعريف المعمى لكنهم نظموه في قالب اللغز يستخرج منه الاسم الذي ألغزوه بطريق الإيماء ووجدت كثيراً من أعمال المعمى في غضون ألغازهم . فليس العجم أبا عذرة هذا الفن ولكنهم دونوه ورتبوه . ورأيت كثيراً من ألغاز شرف الدين بن الفارض يصدق عليه تعريف المعمى في اصطلاح العجم . ويقرب من ذلك قول القائل في بختيار : ( وأهيف معشوق الدلال ممنعٍ ** يمزقني في الحب كل ممزق ) ( فلو أن لي نصف اسمه رق وارعوى ** أو العكس من باقيه لم أتعشق )
____________________

إلى أن قال : وأعمال المعمى ثلاثة : الأول : العمل التحصيلي وهو ما يتحصل به حروف الكلمة المطلوبة . والثاني : العمل التكميلي وهو ما بسببه تتكمل الحروف الحاصلة وتترتب . وهذا بمنزلة )
الصورة والأول بمنزلة المادة . والثالث : العمل التسهيلي وهو الذي يسهل أحد العملين السابقين .
وتحت كل نوع من هذه الأعمال أنواع متعددة . انتهى . قلت : وأول من دون في المعمى في اللغة العربية وترجمه بالطريقة العجمية العالم الفاضل قطب الدين المكي الحنفي في رسالة سماها كنز الأسما في كشف المعمى . وتلاه تلميذه عبد المعين بن أحمد الشهير بابن البكاء البلخي الحنفي وألف رسالة سماها الطراز الأسمى على كنز الأسما . وأما التأليف في الألغاز والأحاجي فقد صنف فيه جماعة عديدة لهم فيها كتب مفيدة وتصانيف سديدة أجلها علماً وأعظمها حجماً كتاب الإعجاز في الأحاجي والألغاز تأليف أبي المعالي سعد الوراق الحظيري وهو كتاب تكل عن وصفه اللسن جمع فيه ما تشتهيه الأنفس وتلذ فيع الأعين ذكر في أوله اشتقاق المعمى واللغز والأحجية والفرق بينها وبين وما شاكلها فلا بأس بإيراده هنا فإنه قلما يوجد في كتاب على أسلوبه . قال في الجمهرة : الحجا : العقل . والحجيا من قولهم : حجياك ما كذا وكذا
____________________

وهي لعبةٌ وأغلوطة يتعاطاها الناس بينهم نحو قولهم : أحاجيك ما ذو ثلاث آذان يسبق الخيل بالرديان يعنون السهم وما أشبه ذلك . وقال أيضاً اللغز : ميلك بالشيء عن جهته وبه سمي اللغز من الشعر كأنه عمي عن جهته . واللغيزاء بالمد : أن يحفر اليربوع ثم يميل في بعض حفر ليعمي على طالبه . والألغاز : طرقٌ تلتوي وتشكل على سالكها والواحد لغز . وقال الأزهري : قال الليث : اللغز : ما ألغزت من كلام فشبهت معناه مثل قول الشاعر أنشده الفراء : ( ولما رأيت النسر عز ابن دأيةٍ ** وعشش في وكريه جاشت له نفسي ) أراد به الشيب شبهه به لبياضه وشبه الشباب بابن دأية وهو الغراب الأسود لأن شعر الشباب أسود . قال : وأخبرني المنذري عن أبي الهيثم أنه قال : اللغز بضمتين واللغز بالسكون واللغيزاء . والألغاز : حفرٌ يحفرها اليربوع في جحره تحت الأرض . يقال : ألغز اليربوع إلغازاً .
فيحفر في جانبٍ منه طريقاً ويحفر في الجانب الآخر طريقاً وكذلك في الجانب الثالث والرابع فإذا طلبه البدوي بعصاه من جانبٍ نفق من الجانب الآخر . والأحاجي : جمع أحجية أفعولة من الحجا وهو العقل أي : مسألة تستخرج بالعقل . وقال الأزهري : قال الليث : تقول حاجيته فحجوته إذا أتت عليه كلمةٌ مخالفة المعنى للفظ . والجواري يتحاجين الحجيا تصغير الحجوى .
وتقول الجارية للأخرى : حجياك ما كلن كذا وكذا والأحجية : اسم المحاجاة وفي لغةٍ : أحجوة والياء أحسن . والحجوى : اسمٌ أيضاً للمحاجاة .
____________________

والمعمى : المغطى . قال الأزهري : التعمية : أن )
يعمى الإنسان فيلبسه عليه تلبيساً . والأعماء : جمع عمًى وأنشدونا : وبلدة عاميةٍ أعماؤه أي : دراسة . وأعماؤه : مجاهله بقال : بلد عمًى لا يهتدى فيه لأنه لا أعلام له يهتدى بها : والمعامي هي الأراضي المجهولة . وقال الليث : العمى : ذهاب البصر من العينين كلتيهما والفعل منه عمي يعمى عمًى . وقال مجاهد في قوله تعالى : قل رب لما حشرتني أعمى وقد كنت بصيراً قال : أعمى عن الحجة وقد كنت بصيراً بها . وقال ابن عرفة : يقال : عمى عن رشده وعمي عليه طريقه إذا لم يهتد إليه . وروى أبو عبيد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أبا رزين العقيلي قال له : أين كان ربنا قبل أن خلق السموات والأرض قال : كان في عماءٍ تحته هواء . وقال أبو عبيد : العماء في كلام العرب : السحاب وهو ممدود . قال أبو عبيد : وإنما تأولنا هذا الحديث على كلام العرب المنقول عنهم ولا يدرى كيف كان ذلك العماء . قال : وأما العمى في البصر فمقصور وليس هو من هذا الحديث في شيء . قال الأزهري : وبلغني عن أبي الهيثم في تفسير هذا الحديث أنه في عمًى مقصور قال : وكل أمر لا تدركه القلوب بالعقول فهو عمًى .
والمعنى أنه تبارك
____________________

وتعالى كان حيث لا تدركه عقول بني آدم ولا يبلغ كنهه الوصف ولا تدركه الفطن . ثم قال بعد كلامٍ طويل : فصل في ذكر أسماء هذا الفن وعودها إلى معنى واحد . هذا الفن وأشباهه يسمى المعاياة والعويص واللغز والرمز والمحاجاة وأبيات المعاني والملاحن والمرموس والتأويل والكناية والتعريض والإشارة والتوجيه والمعمى والممثل . والمعنى في الجميع واحد وإنما اختلفت أسماؤه بحسب اختلاف وجوه اعتباراته فإنك إذا اعتبرته من حيث هو مغطى عنك سميته معمًّى مأخوذ من لفظ العمى وهو تغطية البصر عن إدراك المعقول . وكل شيء تغطى عنك فهو عمًى عليك . وإذا اعتبرته من حيث أنه ستر عنك ورمس سميته مرموساً مأخوذ من الرمس وهو القبر كأنه قبر ودفن ليخفى مكانه عن ملتمسيه . قد صنف بعض الناس في هذا كتاباً وسماه كتاب المرموس وأكثره ركيك عامي .
وإذا اعتبرته من حيث أن معناه يؤول إليك أي : يرجع أو يؤول إلى أصل سميته مؤولاً وسميت فعلك تأويلاً . وأكثر ما يختص هذا بالآيات والأخبار . والتفسير يختص باللفظ والتأويل بالمعنى .
وإذا اعتبرته من حيث صعوبة فهمه واعتياص استخراجه سميته عويصاً . وهذا يختص بمشكل كل علم يقال منه مسألة عويصة وعلم عويص . وإذا اعتبرته من حيث أن غيرك حاجاك به )
أي : استخرج مقدار حجاك وهو عقلك أو مقدار ريثك في استخراجه مشتقاً من الحجو وهو الوقوف واللبث سميته محاجاة ومسائله أحاجٍ وأحدها أحجية وأحجيا . وهذا أيضاً لا يختص بفن واحد من العلوم وإن كان الحريري صاحب المقامات قد أفرد له باباً . وإذا اعتبرته من حيث أنه قد عمل له وجوهٌ وأبواب مشتبهة سميته لغزاً وسميت فعلك له إلغازاً مأخوذ من لغز اليربوع .
____________________

وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه كان يعاييك أي : يظهر إعياءك . وهو التعب فيه سميته معاياة . وقد صنف الفقهاء في هذا الفن كتباً وسموها كتب المعاياة . ولغيرهم من أرباب العلوم مصنفات . وإذا اعتبرته من حيث أن واضعه لم يفصح به قلت : رمز والشيء مرموز والفعل رمز وقريب مئة الاشارة . وإذا اعتبرته من حيث استخراج كثرة معانيه في الشعر سميته أبيات المعاني وكتب المعاني . وهذا يخص الأدب والشعر . وإذا اعتبرته من حيث هو ذو وجوه سميته الموجه وسميت فعله التوجيه . وذلك مثل قول محمد بن حكينا وقد كان أمين الدولة أبو الحسن بن صاعد الطبيب قاطعه ثم استماله وكان ابن حكينا قد أضر بصره وافتقر فكتب إليه : ( وإذا شئت أن تصالح بشا ** ر بن بردٍ فاطرح عليه أباه ) فنفذ إليه برداً واسترضاه فاصطلحا . وهذا أحسن ما سمعت في التوجيه . قوله : بشار بن برد أي : أعمى . فاطرح عليه أباه هذه لفظةٌ بغدادية يقال : لمن يريد أن يصالح : اطرح عليه فلاناً أي : احمله إليه ليشفع لك . ولم يتفق لأحدٍ في التوجيه أحسن من هذا . وإذا اعتبرته من حيث أن قائله لم يصرح بغرضه سميته تعريضاً وكناية . وأكثر أرباب الحياء من الناس مضطرٌّ إلى مثله . وإذا اعتبرته من حيث أن قائله يوهمك شيئاً ويريد غيره سميته لحناً وسميت مسائله الملاحن . وقد صنف الناس في هذا الفن كتباً كالملاحن لابن دريد والمنقذ
____________________

للمفجع والحيل في الفقه وغيره . فاعرف ذلك . والحريري هو أبو محمد القاسم بن علي بن محمد بن عثمان الحريري البصري صاحب المقامات . كان أحد أئمة عصره ورزق السعادة والحظوة التامة في عمل المقامات واشتملت على شيءٍ كثير من كلام العرب من لغاتها وأمثالها ورموز أسرار كلامها . ومن عرفها حق معرفتها استدل بها على فضله وكثرة اطلاعه وغزارة مادته . روي أن الزمخشري لما وقف عليها استحسنها وكتب على ظهر نسخةٍ منها : ( أقسم بالله وآياته ** ومشعر الحج وميقاته ) ) ( أن الحريري حريٌّ بأن ** نكتب بالتبر مقاماته ) ثم صنع الزمخشري المقامات المنسوبة إليه وهي قليلة بالنسبة إليها وشرحها أيضاَ وصنع في إثرها نوابغ الكلم . وقد اعتنى بشرح المقامات أفاضل العلماء شروحاً متنوعة تفوت الحصر والعد . وله أيضاً درة الغواص وله أيضاً شروحٌ كثيرة قد اجتمع منها عندي خمسة شروح . وله أيضاً ملحة الإعراب في النحو وشرحها أيضاً . وهو عند العلماء يعد ضعيفاً في النحو . وله ديوان رسائل وشعر كثير . وله قصائد استعمل فيها التجنيس كثيراً . ويحكى أنه كان دميماً قبيح المنظر فجاءه شخصٌ غريب ليأخذ عنه فلما رآه استزرى شكله ففهم الحريري ذلك منه فلما التمس منه أن يملي عليه قال له : اكتب :
____________________

( فاختر لنفسك غيري إنني رجلٌ ** مثل المعيد فاسمع بي ولا ترني ) فخجل الرجل وانصرف عنه . وكانت ولادته سنة ستٍّ وأربعين وأربعمائة وتوفي في سنة ست عشرة وخمسمائة بالبصرة . والحريري نسبته إلى الحرير وعمله أو بيعه . وكان يزعم أنه من ربيعة الفرس وكان مولعاً بنتف لحيته عند الفكرة وكان يسكن في مشان البصرة بفتح الميم والشين المعجمة وهي بليدة فوق البصرة كثيرة النخل موصوفة بشدة الوخم وكان أصله منها يقال : إنه كان له بها ثمانية عشر ألف نخلة وإنه كان من ذوي اليسار . ولما اشتهرت المقامات استدعاه من البصرة إلى بغداد وزير المسترشد جلال الدين عميد الدولة أبو الحسن بن صدقة وسأله عن صناعته فقال : أنا رجلٌ منشئ . فاقترح عليه إنشاء رسالة في واقعةٍ عينها فانفرد في ناحية من الديوان ومكث زماناً طويلاً فلم يفتح الله عليه بشيء فقام وهو خجلان . عمل هذين البيتين في أبو محمد المعروف بابن حكينا الشاعر البغدادي : ( شيخٌ لنا من ربيعة الفرس ** ينتف عثنونه من الهوس ) ( أنطقه الله بالمشان كما ** رماه وسط الديوان بالخرس ) وأما سعد الوراق فهو أبو المعالي سعد بن علي بن القاسم الأنصاري الخزرجي الوراق الحظيري البغدادي المعروف بدلال الكتب . كان له نظمٌ جيد وألف مجاميع منها كتاب زينة الدهر وعصرة أهل العصر وهو ذيلٌ على دمية القصر للباخرزي .
____________________

وله كتابٌ سماه ملح الملح يدل على كثرة اطلاعه . وله كتاب الألغاز المذكور . وله شعرٌ جيد منه : ( ومعذرٍ في خده ** وردٌ وفي فيه مدام ) ) ( ما لان لي حتى تغ ** شى صبح سالفه ظلام ) ( كالمهر يجمع تحت را ** كبه ويعطفه اللجام ) وله أيضاً : ( أحدقت ظلمة العذار بخدي ** هـ فزادت في حبه حسراتي ) ( قلت : ماء الحياة في فمه العذ ** ب دعوني أخوض في الظلمات ) وله كل معنى مليح مع جودة السبك . وتوفي في يوم الاثنين الخامس والعشرين من صفر سنة ثمان وستين وخمسمائة ببغداد . والحظيري بفتح الحاء المهملة وكسر الظاء المعجمة : نسبة إلى موضع فوق بغداد يقال له : الحظيرة ينسب إليه كثير من العلماء . والثياب الحظيرية منسوبةٌ إليه أيضاً .
ولخصت هاتين الترجمتين من الوفيات لابن خلكان . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الأربعمائة )
____________________

على أنه يقال : كنوت كما يقال كنيت . وأورده يعقوب بن السكيت في باب ما يقال بالياء والواو من إصلاح المنطق قال : ويقال : كنيته وكنوته . وأنشد أبو زياد : وإني لأكنو عن قذور البيت قال شارح أبياته ابن السيرافي : قذور : امرأة . يقول : أذكرها في بعض الأوقات باسم غيرها وأصرح باسمها في وقت آخر وأعرب وأبين . يقال : أعرب عن الشيء يعرب إعراباً إذا بينه .
وأصارح : أظهر ولا أستر . انتهى . وقال ابن دريد : ناقة قذور : عزيزة النفس لا ترعى مع الإبل ولا تبرك معها . انتهى . فيكون اسم المرأة منقولاً من هذا . وأبو زياد هو صاحب النوادر المشهورة أنشد ذلك البيت في نوادره ولم يعزه لأحد . وهو يزيد بن عبد الله بن الحر بن همام بن دهر بن ربيعة بن عمرو بن نفاثة بن عبد الله بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . وقدم أبو زياد بغداد من البادية أيام المهدي لأمرٍ أصاب قومه فأقام ببغداد أربعين سنة وصنف كتاب النوادر وهو كتاب كبير فيه فوائد كثيرة . وله كتاب الفروق . ومن شعره :
____________________

( له نارٌ تشب على يفاع ** إذا النيران ألبست القناعا ) ( ولم يك أكثر الفتيان مالاً ** ولكن كان أرحبهم ذراعا ) وأنشد بعده : هذا صدر وعجزه : )
قد تمنى لي موتاً لم يطع وتقدم شرحه في الشاهد التاسع والثلاثين بعد الأربعمائة . وأنشد بعده : ( على أنني بعد ما قد مضى ** ثلاثون للهجر حولاً كميلا ) وتقدم الكلام عليه في الشاهد السادس عشر بعد المائتين . وأنشد بعده
____________________

( الشاهد التاسع والثمانون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( كم يجود مقرفٍ نال العلا ** وكريمٍ بخله قد وضعه ) على أن يونس يجيز في الاختيار الفصل بين كم الخبرية وبين مميزها المتضايفين بالظرف كما في البيت . قال سيبويه : وقد يجوز أن تجر يعني : كم وبينها وبين الاسم حاجز فتقول : كم فيها رجلٍ . فإن قال قائل : أضمر من بعد فيها قيل له : ليس في كل موضع يضمر الجار . وقد يجوز على قول الشاعر : ( كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ** وكريمٍ بخله قد وضعه ) الجر والرفع والنصب على ما فسرنا . انتهى . قال الأعلم : فالرفع على أن تجعل كم ظرفاً ويكون لتكثير المرار وترفع مقرف بالابتداء وما بعده خبر والتقدير : كم مرةٍ مقرفٌ نال العلا . والنصب على التمييز لقبح الفصل بينه وبين كم في الجر .
____________________

وأما الجر فعلى أنه أجاز الفصل بين كم وما عملت فيه بالظرف ضرورة . وموضع كم في الموضعين موضع رفع بالابتداء والتقدير : كثيرٌ من المقرفين نال العلا بجودٍ . والمقرف : النذل اللئيم الأب . يقول : قد يرتفع اللئيم بجوده ويتضع الرفيع الكريم الأب ببخله . انتهى . وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه إذا فصل بين كم الخبرية وبين الاسم بظرف كان مخفوضاً بالنقل والقياس . أما بالنقل فقوله : كم بجود مقرفٍ نال العلا وقال الآخر : كم من بني بكر بن سعدٍ سيدٍ وأما القياس فلأن خفض الاسم بتقدير من نحو : كم رجل أكرمت بدليل أن المعنى يقتضيه فتقدر من في الفصل كما تقدر في الاتصال . ولا يجوز أن تكون بمنزلة عددٍ ينصب كثلاثين ولو كانت بمنزلته لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل بينهما . وذهب البصريون إلى أنه لا يجوز فيه الجر )
ويجب نصبه لأن كم هي العاملة للجر لأنها بمنزلة عدد مضاف فإذا فصل بظرفٍ بطلت
____________________

كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ والتقدير : كم فضل فلما فصل نصب . وإنما عدل إلى النصب لأن كم بمنزلة عدد ينصب ما بعده . ولم يمتنع النصب بالفصل لأن له نظيراً . وأما قوله : بجود مقرف فالرواية الصحيحة مقرفٌ بالرفع أو أن الجر شاذٌّ وهذا هو الجواب عن البيت الثاني . وقولهم : إن من مقدرة قلنا : إن كم عند المحققين من أصحابكم بمنزلة رب يخفض الاسم بها كرب ولأن حذف حرف الجر له مواضع مخصوصة وليس هذا منها . وقولهم : إنها لو كانت بمنزلة عدد ينصب ما بعده كثلاثين لكان ينبغي أن لا يجوز الفصل . قلنا : إنما جاز فيها جوازاً حسناً دون نحو ثلاثين لأن كم منعت من بعض ما لثلاثين من التصرف فجعل هذا عوضاً مما منعته . ألا ترى أن ثلاثين تكون فاعلة لفظاً ومعنى ومفعولة فلما منعت كم من هذا جعل لها ضربٌ من التصرف ليقع التعادل . على أنه جاء الفصل بين ثلاثين ومميزها في الشعر كقوله : ( على أنني بعد ما قد مضى ** ثلاثون للهجر حولاً كميلا ) انتهى . وقوله : بجود متعلق بنال والباء سببية وكم على هذا الوجه مبتدأ وهي خبرية ونال العلا الخبر . ومن روى بنصب مقرف فهي أيضاً خبرية .
____________________

قال أبو علي : وقد تجعل كم في الخبر بمنزلة عشرين فينصب ما بعدها ويختار ذلك إذا وقع الفصل بين المضاف والمضاف إليه .
فتكون كم أيضاً مبتدأ ونال العلا الخبر ونصب مقرف على التمييز . ومن روى برفع مقرف فهي أيضاً خبرية وموضعها نصب بأنها ظرف والعامل فيها نال ومقرف : مبتدأ ونال العلا خبره . وإنما لم تكن كم في الخبر لأنها هنا ظرف زمان . وقوله : وكريم بالجر عطف على مقرف على رواية الجر وجملة بخله قد وضعه من المبتدأ والخبر خبر لكم المقدرة . والبيت من أبيات نسبها صاحب الأغاني لأنس بن زنيم قالها لعبيد الله بن زياد بن سمية . كذا قال صاحب الأغاني وشراح أبيات سيبويه وشراح الجمل وهي : ( سل أميري ما الذي غيره ** عن وصالي اليوم حتى ودعه ) ( لا تهني بعد إكرامك لي ** فشديدٌ عادة منتزعه ) ( لا يكن وعدك برقاً خلباً ** إن خير البرق ما الغيث معه ) ( كم بجودٍ مقرفٍ نال العلا ** وشريفٍ بخله قد وضعه ) )
وقوله : سل أميري إلخ أنشده الشارح المحقق في شرح الشافية على أن يدع سمع ماضيه ودع كما في البيت .
____________________

قال سيبويه : استغنوا عن وذر وودع بقولهم : ترك . وقد جاء ودع على جهة الشذوذ قرئ في الشواذ : ما ودعك وكقوله : حتى ودعه . قال سويد بن أبي كاهل : ( فسعى مسعاته في قومه ** ثم لم يدرك ولا عجزاً ودع ) ( فكان ما قدموا لأنفسهم ** أكثر نفعاً من الذي ودعوا ) وقد جاء وادع أيضاً في الشعر انشده أبو علي في البصريات وهو : ( فأيهما ما اتبعن فإنني ** حزينٌ على ترك الذي أنا وادع ) وقد جاء المصدر أيضاً في الحديث وهو قوله صلى الله عليه وسلم : لينتهين أقوامٌ عن ودعهم الجمعات أو ليختمن الله على قلوبهم . وقد جاء اسم المفعول أيضاً . قال خفاف بن ندبة : ( إذا ما استحمت أرضه من سمائه ** جرى وهو مودوعٌ وواعد مصدق ) قال الصغاني : أي : متروك لا يضرب ولا يزجر . وقول ابن بري إن مودوعاً هنا من الدعة التي هي السكون لا من الترك يرد عليه أن ودع بمعنى سكن غير متعدٍّ يقال : ودع في بيته .
____________________

وقوله : لا تهني هو من الإهانة . والخلب من البرق : الذي لا مطر معه ولا ينتفع بسحابه . وتضرب به العرب المثل لمن أخلف وعده . قال أعشى همدان : ( لا يكن وعدك برقاً خلباً ** كاذباً يلمع في عرض الغمام ) الأبيات . ونسب صاحب الحماسة البصرية هذه البيات في باب الوصف لعبد الله بن كريز .
وزاد بعد البيت الثاني : ( واذكر البلوى التي أبليتني ** ومقالاً قلته في المجمعه ) ورويت أيضاً لأبي الأسود الدؤلي . والله أعلم بحقيقة الحال . وأنس بن زنيم شاعر صحابي مضاف إلى جده . قال الآمدي : هو أنس ابن أبي أناس الكناني بن زنيم بن محمية بن عبد بن عدي بن الديل بن بكر ابن كنانة بن خزيمة بن مدركة . وهو شاعرٌ مشهور حاذق وهو القائل : ( وعوراء من قيل امرئ قد رددتها ** بسالمة العينين طالبةٍ عذرا ) ( ولو أنه إذ قالها قلت مثلها ** أو اكثر منها أورثت بيننا غمرا )
____________________

( فأعرضت عنه وانتظرت به غداً ** لعل غداً يبدي لمؤتمرٍ أمرا ) ( لأنزع ضيماً ثاوياً في فؤاده ** وأقلم أظفاراً أطال بها الحفر ) )
وقال ابن حجر في الإصابة : ذكر ابن إسحاق في المغازي أن عمرو بن سالم الخزاعي خرج في أربعين راكباً يستنصرون رسول الله صلى الله عليه وسلم على قريش فأنشده : لا هم إني ناشدٌ محمدا عهد أبينا وأبيه الأتلدا الأبيات . ثم قال : يا رسول الله إن أنس بن زنيم هجاك فهدر رسول الله صلى الله عليه وسلم دمه فبلغه ذلك فقدم عليه صلى الله عليه وسلم معتذراً وأنشده أبياتاً مدحه بها وكلمه فيه نوفل بن معاوية الدؤلي فعفا عنه . ومن تلك الأبيات : ( فلما حملت من ناقةٍ فوق رحلها ** أبر وأوفى ذمة من محمد ) قال دعبل بن علي في طبقات الشعراء : هذا أصدق بيتٍ قالته العرب . ولأنس مع عبد الله بن زياد أمير العراق أخبارٌ أوردها الأصفهاني صاحب الأغاني في ترجمة حارثة بن بدر الغداني فإنه كان بينهما أهاجٍ بعد تصافٍ . وروى أن أنساً لما رأى من عبيد الله بن زياد جفوة وأثرى لحارثة بن بدر قال : ( أهان وأقسى ثم تنتصحونني ** ومن ذا الذي يعطي نصيحته قسرا )
____________________

( رأيت أكف المصلتين عليكم ** ملاءاً وكفي من عطائكم صفرا ) ( متى تسألوني ما علي وتمنعوا ** الذي لي لا أسطع على ذلكم صبرا ) ( وإني صرفت الناس عما يريبكم ** ولو شئت قد أغليت في حربكم قدرا ) ( وإني مع الساعي عليكم بسيفه ** إذا عظمكم يوماً رأيت به كسرا ) فقال عبيد الله لحارثة : أجبه . فاستعفاه لمودةٍ كانت بينهما فأكرهه على ذلك وأقسم عليه فقال : ( تبدلت من أنسٍ إنه ** كذوب المودة خوانها ) ( أراه بصيراً بعيب الخليل ** وشر الأخلاء عورانها ) فأجاب أنس : ( بصرت به في قديم الزمان ** كما بصر العين إنسانها ) ودام الشر بينهما زماناً طويلاً . وذكر ما جرى بينهما وشعر كل واحدٍ في الآخر بإغراء عبيد الله بن زياد . وأنشد بعده ( الشاهد التسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س :
____________________

( كم في بني سعد بن بكرٍ سيدٍ ** ضخم الدسيعة ماجدٍ نفاع ) على أن فيه دليلاً على جواز الفصل بالظرف المستقر عند يونس كما جاز الفصل بالظرف اللغو في البيت السابق . وسيبويه لا يجيز الفصل بالظرف إلا لضرورة . وأنشد هذا البيت . قال الأعلم : الشاهد فيه خفض سيد ب كم ضرورة ولو رفع سيد أو نصب لجاز كما تقدم . وبيان كونه ظرفاً مستقراً أن كم في محل رفع مبتدأ والظرف الفاصل في محل رفع خبر المبتدأ . وأخطأ ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل في زعمه أن الظرف حالٌ من سيد وكان في الأصل صفةً فلما قدم عليه صار حالاً منه . ووجه الخطأ أن المبتدأ يبقى بلا خبر . وضخم وماجد ونفاع بجر الثلاثة صفات لسيد . والدسيعة بفتح الدال وكسر السين وبعد المثناة التحتية عين والثلاثة بالإهمال ومعناها العطية . قال الأعلم : هي من دسع البعير بجرته إذا دفع بها . ويقال هي الجفنة والمعنى أنه واسع المعروف . والماجد : الشريف . يصف كثرة السادات في هذه القبيلة .
والبيت وقع غفلاً في كتاب سيبويه والمفصل ولم يعزه أحدٌ من شراحهما إلى قائله . وزعم العيني أنه للفرزدق . والله أعلم به . وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س :
____________________

( كم نالني منهم فضلاً على عدمٍ ** إذ لا أكاد من الإقتار أحتمل ) على أن جر التمييز مع الفصل بالجملة لا يجيزه إلا الفراء فيجوز عنده خفض فضلاً . وأما غيره فيوجب نصبه كما في البيت . قال سيبويه : وقال الخليل : إذا فصلت بين كم وبين الاسم بشيء استغنى عليه السكوت أو لم يستغن فاحمله على لغة الذين يجعلونه بمنزلة اسم منون لأنه قبيح أن يفصل بين الجار والمجرور لأن المجرور داخلٌ في الجار فصارا كأنهما كلمة واحدة .
والاسم المنون قد يفصل بينه وبين الذي يعمل فيه تقول : هذا ضاربٌ بك زيداً ولا تقول هذا ضاربٌ بك زيدٍ . قال القطامي : وإن شاء رفع فجعل كم المرار التي ناله فيها الفضل فارتفع الفضل بنالني كقولك : كم قد أتاني زيد فزيد : فاعل وكم : مفعول فيها وهي المرار التي أتاه فيها وليس زيد من المرار . اه .
قيل : روى فضلاً بالجر أيضاً . فكم على النصب والجر مبتدأ وجملة : نالني خبره وفاعله ضمير كم . وعلى الرفع ظرف لنالني كما قال سيبويه . وزعم العيني أن كم مع النصب ظرف زمان تقديره : كم مرة أو كم يوماً وجملة نالني منهم جملة معترضة بين كم ومميزها وهو فضلاً . هذا كلامه .
____________________

ولا يخفى فساده إذ جعل المميز محذوفاً مع أن مذكور . ولا يصح جعل جملة نالني اعتراضية إذ لا فاعل للفعل حينئذ . وقوله : على عدم أي : مع عدم متعلق بمحذوف على أنه حال من الياء . كذا قال ابن الحاجب في أماليه عن ابن برهان . وزعم العيني أنه متعلق بنالني .
وهو فاسدٌ يدرك بالتأمل . وأفسد منه قول ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : قوله : على عدم حال من الياء وعامله نالني ويجوز أن يعمل فيه فضل المصدر على أنه مفعول به .
والعدم بفتحتين والعدم بضم فسكون كلاهما بمعنى الفقر والاحتياج . ومنهم متعلق بنالني .
وقال ابن المستوفي يجوز أن يكون موضع منهم النصب على الحال صفة لفضل مقدماً عليه ويجوز أن يكون من قيه مبنياً للجنس ويعمل فيه نالني . وهذا خطأ فإن من البيانية مع مجرورها تتعلق بمحذوف على أنه حال . والفضل : الخير والإنعام وجملة أحتمل في محل نصب خبر كاد وهو بالحاء المهملة . قال شارح ديوان القطامي : أي : لم يكن لي حمولةٌ أحتمل عليها . والحمولة بالفتح قال صاحب المصباح : هو البعير يحمل عليه وقد يستعمل في الفرس والبغل والحمار . )
اه . فمعنى احتمل : أتخذ حمولة . وقال الأعلم : قوله : إذ لا أكاد إلخ أي : حين بلغ مني الجهد وسوء الحال إلى أن لا أقدر على الارتحال لطلب الرزق ضعفاً وفقراً . ويروى : أجتمل بالجيم أي : أجمع العظام لأخرج ودكها وأتعلل به والجميل : الودك . اه .
____________________

ولم يذكر أحدٌ رواية الجيم من اجتملت الشحم إذا أذبته وكذا جملته أجمله جملاً وربما قالوا : أجملته حكاه أبو عبيدٍ .
ورأيت في بعض الحواشي أنه روي : أحتمل بالحاء المهملة من الاحتمال وما أظنه صحيحاً .
وزعم بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل أن الرواية احتول ولم يذكر غيرها . وقال : أحتول من الحيلة وأصلها حولة قلبت الواو ياء كما في ميزان . وكان الوجه أحتال إلا أنه جاء على الأصل المرفوض . هذا كلامه ولم أرها لغيره . وقوله : إذ لا أكاد إذ ظرف لنالني . والإقتار : مصدر أقتر . قال في الصحاح : وأقتر الرجل : افتقر . ومن متعلقة بالنفي وقال العيني : ومن متعلقة بأجتمل . وسيجيء رده . وزعم ابن برهان أن قوله من الإقتار مفعول له يعمل فيه أحتمل . قال ابن الحاجب في أماليه : لا يصح هذا لفساد المعنى إذ الاحتمال لم يكن من أجل إقتار فيخصصه بالنفي وإنما يصح أن يكون معللاً بمثل ذلك ثم ينفيه مخصصاً له كقولك : ما جئتك طمعاً في برك فإن المجيء قد يكون طمعاً في البر فينفى المجيء المقيد بعلة الطمع ولذلك لا يلزم منه نفي المجيء لغير ذلك لأنه لا يتعرض له بل قد يفهم منه إثبات مجيء لغير ذلك عند من يقول بالمفهوم . أما لو قال : ما كلفتك بشيء للتخفيف عليك فلا يستقيم أن يكون تعليلاً لكلفتك فإنه لا يصح أن يكون التخفيف علة للتكليف وإنما علل به نفي التكليف من أجل غرض التخفيف . وسر ذلك هو أنه إذا تعلق الفعل بشيء فلا بد أن يعقل مثبتاً في نفسه ثم يتعلق النفي به . وإذا تعلق النفي به انتفى المقيد بما تعلق ولا ينتفي مطلقاً إذ لم ينفه إلا مقيداً . ومن أجل ذلك امتنع تعلق من الإقتار بأحتمل . ويمنع أيضاً تعلقه بأكاد إذ لا يتصور تعليل مقاربة الاحتمال بالإقتار لأنه عكس المعنى على ما تقدم في أحتمل فوجب أن يكون متعلقاً بالنفي إذ هو المسبب بالمعنى لأن المعنى انتفت مقاربة الاحتمال من أجل الإقتار .
____________________

ألا ترى أنك لو قلت لمن قال : انتفت مقاربة الاحتمال : ما سبب ذلك لصح أن يقول : سببه الإقتار . ولو قلت لمن قال : ما سبب مقاربة الاحتمال أو ما سبب الاحتمال سببه الإقتار لكان فاسداً . فهو مما يوضح أنه تعليل للنفي وغير مستقيم أن يكون تعليلاً لأحتمل أو أكاد . انتهى كلامه . والبيت من قصيدة للقطامي عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً مدح بها أبا عثمان عبد الواحد . قال ابن )
الكلبي وابن حبيب : هو عبد الواحد بن الحارث بن الحكم بن أبي العاص بن عبد شمس بن عبد مناف . وقال مصعب الزبيري : هو عبد الواحد بن سليمان بن عبد الملك . وكان والياً في المدينة لمروان بن محمد . وهذا مطلع القصيدة : ( إنا محيوك فاسلم أيها الطلل ** وأن بليت وإن طالت بك الطيل ) إلى أن قال بعد ستة أبيات : ( والناس من يلق خيراً قائلون له ** ما يشتهي ولأم المخطئ الهبل ) ( قد يدرك المتأني بعض حاجته ** وقد يكون مع المستعجل الزلل ) ثم وصف الإبل التي توصله إلى حبيبته علية بأبياتٍ منها :
____________________

( يمشين رهواً فلا الأعجاز خاذلةٌ ** ولا الصدور على الأعجاز تتكل ) إلى أن قال : ( فقلت للركب لما أن علت بهم ** من عن يمين الحبيا نظرةٌ قبل ) ( ألمحةً من سنا برقٍ رأى بصري ** أم وجه عالية اختالت به الكلل ) ثم بعد أبيات خاطب ناقته فقال : ( إن ترجعي من أبي عثمان منجحةً ** فقد يهون على المستنجح العمل ) ( أهل المدينة لا يحزنك شأنهم ** إذا تخاطأ عبد الواحد الأجل ) ( إلا وهم جبل الله الذي قصرت ** عنه الجبال فما ساوى به جبل ) ( قومٌ هم ثبتوا الإسلام وامتنعوا ** رهط الرسول الذي ما بعده رسل ) ( من صالحوه رأى في عيشه سعةٌ ** ولا يرى من أرادوا ضره يئل ) كم نالني منهم فضلاً على عدم . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وكم من الدهر ما قد ثبتوا قدمي ** إذ لا يزال مع الأعداء ينتضل )
____________________

( فما هم صالحوا من يبتغي عنتي ** ولا هم كدروا الخير الذي فعلوا ) ( هم الملوك وأبناء الملوك لهم ** والآخذون به والساسة الأول ) قوله : إنا محيوك أي : داعون لك بالتحية وهي البقاء والطلل : ما شخص من آثار الديار .
والطيل بالكسر : جمع طيلة وهي الدهر . وقوله : والناس من يلق إلخ يقول : من أخطأ قيل : لأمه الثكل وهو الهبل . ومن يلق خيراً أي : من أصاب عوضاً من الدنيا قالوا : ما أرجله لله )
أبوه ما أعقله ومن أخطأه الرزق قالوا : أماته الله ما أعجزه وقوله : قد يدرك المتأني إلخ صاحب الأناة والوقار والحلم . وزل عن الأرض يزل زليلاً إذا عثر . وقوله : يمشين رهواً إلخ أي : على هينتها . يقال : فعل ذلك راهياً أي : ساكناً سهلاً . وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : واترك البحر رهواً على أن الرهو : السير السهل الساكن . ونسب البيت للأعشى ( ودع هريرة إن الركب مرتحل ** وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ) وليس كذلك . قال أبو عمرو : يقول : هي موثقة الصدور والأعجاز لا تخذل أعجازها صدورها ولا صدورها أعجازها . وقوله : فقلت للركب إلخ نظرة : فاعل علت . والنظرة القبل بفتحتين : التي لم تتقدمها نظرة ومنه يقال : رأينا الهلال قبلاً إذا لم يكن رئي من قبل ذلك .
ومعنى علت بهم : جعلتهم يعلون وينظرون .
____________________

والحبيا بضم الحاء المهملة وفتح الموحدة وتشديد المثناة التحتية : موضع بالشام . وعن بمعنى جانب فهي اسم . وبه استدل ابن قتيبة في أدب الكاتب وابن الناظم والمرادي أيضاً في شرح الألفية . وقوله : ألمحةٌ من سنة إلخ هذا البيت مقول قلت . واللمحة : اللمعة . وسنا البرق : ضوءه . واختالت : تزينت به الكلل من حسنه وضمير به للوجه . والكلل : الستور . يريد أن وجه عالية ظهر إليهم من الستر فأشرفوا ينظرون إليه إعجاباً به . ومنجحة من أنجح الرجل واستنجح إذا ظفر بحاجته . والعمل : التعب . ويحفى : يمشي بغير حذاء ومصدره الحفاء بالمد . ويئل : ينجو يقال : وأل يئل موئلاً . ونالني : أصابني .
وينتضل : يرتمي بالضاد المعجمة . وعنتي : هلاكي . يقال : عنت الرجل يعنت عنتاً إذا وقع في هلكة . وقوله : هم الملوك وأبناء الملوك لهم أي : منهم . والآخذون به أي : بالملك فأضمره لما جرى ذكر الملوك . والقطامي : شاعرٌ إسلامي في الدولة الأموية تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
____________________

وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( كم عمةٌ لك يا جرير وخالةٌ ** فدعاء قد حلبت علي عشاري ) على أنه قد روي عمة وخالة بالحركات الثلاث . وشرحها شرحاً جيداً وجوز في النصب أن تكون كم استفهامية وخبرية . وهو مذهب أبي الحسن الربعي . فإن السيرافي قال : كم حينئذ استفهامية . وتبعه الزجاجي . وقال أبو علي : لا معنى هنا للاستفهام ولكن شبه بالاستفهامية فنصب بها كما تشبه الاستفهامية بالخبرية فيجر بها في نحو قولك : على كم جذعٍ بيتك مبنيٌّ .
وتوسط الربعي بينهما فقال : الوجه ما قاله أبو علي . والذي قاله السيرافي يجوز على أنه استفهمه هازئاً به . كذا نقل ابن السيد وتبعه ابن خلف . والربعي مسبوقٌ فإن ابن السراج قال في الأصول : النصب عندي على وجهين : على ما قاله سيبويه في لغة من ينصب في الخبر وعلى الاستفهام . انتهى . وبهذا يضمحل قول اللخمي في شرح أبيات الجمل : إن سيبويه أدخل البيت في وجه النصب على الخبر والتحقيق لا على وجه الاستفهام والشك .
____________________

قال سيبويه : ومن ينصب كثير منهم الفرزدق . ولم يذكر الاستفهام لكن ذكر أنها شبهت في الخبر بالاستفهام فنصب بها كما ينصب ما بعد العدد . انتهى . وكذا جوز الشارح المحقق الوجهين في الرفع . قال ابن السراج : اعلم أنك إذا قلت : كم عمةٍ بالجر فلست تقصد إلا واحدة وكذلك إذا نصبت فإن رفعت لم يكن إلا واحدة لأن التمييز يقع واحده في موضع الجمع فإذا رفعت فلست تريد التمييز فإذا قلت : كم درهمٌ عندك فإنما المعنى : كم دانقاً هذا الدرهم الذي أسألك عنه فالدرهم واحد لأنه خبر وليس بتمييز . اه . فكلٌّ من الجر والنصب أبلغ من الرفع لأنهما يدلان على أن لجرير عماتٍ وخالات أجيرات ممتهنات . والرفع يدل على أن له عمةً واحدة حلبت له عشاره . ولهذا قال السيرافي : الأجود في البيت الخفض وبعده النصب وبعده الرفع . وبين الشارح المحقق إعراب كم مع الرفع ولم يبينه مع غيره . فهي مع خفض عمة ونصبها موضعها رفعٌ على الابتداء والخبر جملة قد حلبت . قال ابن هشام في المغني : وأفرد الضمير في حلبت حملاً على لفظ كم . وليس هذا من قبيل ما هو عائدٌ على مجموع ما تقدم نحو : النساء فعلت كما زعمه الدماميني فإن العمة والخالة مفردان بخلاف النساء فإنه اسم جمع . وأما في رواية رفع عمة على الابتداء فلا بد من تقدير قد حلبت أخرى لأن المخبر عنه في هذا الوجه متعدد لفظاً ومعنى . ونظيره : )
زينب وهند قامت . قاله ابن هشام في المغني . وجاز الابتداء بها وإن كانت نكرة لأنها قد وصفت ب لك وبفدعاء محذوفةٍ مدلولها عليها بالمذكورة إذ ليس المراد تخصيص الخالة بالفدع كما حذفت لك من صفة خالة استدلالاً عليها بلك الأولى . قاله ابن هشام أيضاً . وعليه فيكون من قبيل الاحتباك وهو أن يثبت لأحدهما نظير ما حذف من الآخر . ونقل ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل عن الزمخشري في حواشيه على المفصل أن التقدير : كم لك غيرهما فتعلق لك بكم . ولأبي علي في المسائل المنثورة كلامٌ جيد في كم أحببت إيراده هنا .
____________________

قال : إذا كانت كم خراً جاز فيهما بعدها الجر والرفع والنصب وإنما جررته بكم لأن كم نقيضة رب ومن أصولهم حمل الشيء على نقيضه . ألا ترى أن رب للقلة وكم للكثرة فلما كانت بهذه المنزلة أجريت مجرى رب . وإن نصب ما بعدها فجائزٌ لأنها عددٌ في الحقيقة والأعداد تبين مرة بالنصب ومرة بالجر . وإذا كان هذا جائزاً في الأعداد فعلى أي وجهٍ أردت جاز . الرفع إذا قلت : كم رجلٌ أتاني صارت كم في معنى مرار فتكون في موضع نصب بأتاني ويكون رجلٌ مبتدأ وأتاني خبره . قال أبو عمرو : لا يكون ما تبين به كم إلا نكرة وذلك لأنها عدد والأعداد لا تبين إلا بالنكرات . والنصب في الخبر جائز لأنها عددٌ في الحقيقة وإن كان الوجه الجر .
والحسن أن تنصب إذا فصلت بينها وبين ما أضيف إليها لأن الفصل بين المتضايفين قبيح . فلما قبح نصبوه لأنها في الحقيقة عدد ورجل يفسر ويوضح . وأما قول الشاعر : كم بجود مقرفاً البيت فنصب مقرفاً فسر به كم لأنه حال بينه وبين كم بقوله بجود وتكون كم في موضع رفع بالابتداء وهي في المعنى فاعلة كما تقول : زيد قام فزيد مبتدأ وإن كان فاعلاً في المعنى .
ويجوز الجر لأنك حلت بين كم وبين عملت فيه بظرف . فأما قول الفرزدق : كم عمة لك يا جرير وخالة فأما النصب في العمة فتجعل كم رفعاً بالابتداء وحلبت خبرها وعمة تفسير العدد كأنه قال : عشرون عمة حلبت . والجر على ما تقدم من الكلام . وأما الرفع في العمة فتكون كم في موضع نصب وتكون كم في معنى مرار فتصير ظرفاً للحلب .
____________________

قال أبو عمرو : تقول : كم رجال قد رأينا فجاز في كم أن تفسر بالجمع لأن العدد يفسر بالجمع وبالواحد . وإذا كانت كم عدداً جاز تفسيرها بالواحد والجمع مع أنه مع كم أشد استمراراً وذلك إذا قلت : عشرون درهماً ففي الكلام دلالة على الجمع . وإذا قلت : كم فليس في كم دلالةٌ على الجمع فلذلك أجازوا ذلك )
في كم . انتهى كلام أبي علي . وفدعاء : صفة لخلة لقربها وحذفه من عمة قبلها . وقد فسر الشارح الفدعاء بكلام الصحاح وقال ابن الأعرابي : الأفدع : الذي يمشي على ظهور قدميه .
وقال أبو جعفر : الفدع في القدم والكوع في اليد . والرسغ بالضم هو من الإنسان : مفصل ما بين الكف والساعد والقدم إلى الساق . ومن الدواب : الموضع المستدق بين الحافر وموضع الوظيف من اليد والرجل . والإنسي بكسر الهمزة قال صاحب الصحاح : الإنسي : الأيسر من كل شيء .
وقال الأصمعي : هو الأيمن . وقال : كل اثنين من الإنسان مثل الساعدين والقدمين فما أقبل منهما على الإنسان فهو إنسيٌّ وما أدبر عنه فهو وحشي . انتهى . وقال صاحب المصباح : الوحشي من كل دابة : الجانب الأيمن . قال الشاعر : ( فمالت على شق وحشيها ** وقد ريع جانبها الأيسر ) قال الأزهري : قال أئمة العربية : الوحشي من جميع الحيوان غير الإنسان : الجانب الأيمن وهو الذي لا يركب منه الراكب ولا يحلب منه الحالب . والإنسي : الجانب الآخر وهو الأيسر . وروى أبو عبيدٍ عن الأصمعي أن الوحشي هو الذي يأتي منه الراكب ويحلب منه
____________________

الحالب لأن الدابة تستوحش عنده فتفر منه إلى الجانب اليمن . قال الأزهري : وهو غير صحيح عندي . قال ابن الأنباري : ويقال : ما من شيء يفزع إلا مال إلى جانبه الأيمن لأن الدابة إنما تؤتى للركوب والحلب من الجانب الأيسر فتخاف عنده فتفر من موضع المخافة وهو الجانب الأيسر إلى موضع الأمن وهو الجانب الأيمن . فلهذا قيل الوحشي الجانب الأيمن . ووحشي اليد والقدم : ما لم يقبل على صاحبه والإنسي خلافه . ووحشي القوس : ظهرها . وإنسيها : ما أقبل عليك منها . انتهى وسقناه برمته لجودته . والشوه بسكون الواو : مصدر شاهت الوجوه تشوه أي : قبحت . وقول الشارح المحقق : وإنما عدى حلبت بعلى لتضمنه معنى ثقلت إلخ مأخوذ من كلام صدر الأفاضل فإنه قال : إن قيل : ما معنى حلبت علي أجيب بأن معناه : على كرهٍ مني . وهذا كما يقال باع القاضي عليه داره . يقول : استنكفت أن تحلب عشاري . ويشهد لهذا المعنى الفدعاء . انتهى . قال شارح شواهد الإيضاح والمفتاح : وجه الشهادة أن الفدعاء من صفات الإماء فيؤذن بلؤمٍ من يوصف به فلذلك استنكف . يريد : خدمنني على كره لأنني لم أكن راضياً بذلك لخستهن ولؤمهن . ونقل ابن المستوفي عن حواشي المفصل أن الفدع من صفات الإماء . وقوله : علي أي : لي أي : كانت راعية لي . ثم نقل كلام صدر الأفاضل . وقال : الأجود )
ما في الحواشي لأنه لا تحلب عشاره إلا بإذنه وهو أبلغ . هذا كلامه .
____________________

والعشار بالكسر جمع عشراء بضمٍّ ففتح وبالمد قال اللخمي : هي الناقة التي مضت لها عشرة أشهر من حملها . ثم يبقى عليها الاسم إلى أن تنتج لحولٍ وبعد ذلك بأيام . على هذا إجماع أكثر اللغويين . وقيل : يقع هذا الاسم على التي أتى عليها من وضعها عشرة أشهر وهي في هذا البيت كذلك بدليل قوله : حلبت وهو الوجه ويحتمل أن يحمل البيت الأول على القول الأول . ومعنى البيت يذمه بذلك ويصفه أنه من أهل القلة وليس من أهل الشرف والسعة إذ لو كان كذلك لصانهن من الابتذال . وإنما خص النساء بالحلب لأن العرب يتعايرون بحلب النساء فهو في القلة كما قال السليك : ( أشاب الرأس أني كل يومٍ ** أرى لي خالةً وسط الرحال ) ( يعز على أن يلقين ضيماً ** ويعجز عن تخلصهن مالي ) وقد صحف اللحياني ثلاث كلمات من البيت . الأولى : حلبت فإنه صحفه بجليت بضم الجيم وكسر اللام بعدها مثناة تحتية . والثانية : علي صحفه بعلى الجارة . والثالثة : عشاري فإنه صحفه بعشار بفتح العين وتشديد الشين . قال ابن جني في سر الصناعة : أصحابنا البصريون في كثير مما يحكيه اللحياني كالمتوقفين . حكى أبو العباس عن إسحاق بن إبراهيم قال : سمعت اللحياني ينشد : ( كم عمة يا جرير لك وخالةٍ ** فدعاء قد جليت على عشار ) فقلت له : ويحك إنما هو : قد حلبت علي عشاري . فقال لي : وهذه أيضاً رواية .
____________________

ومما صحفه أيضاً قولهم في المثل : يا حامل اذكر حلا حامل بالميم . وإنما هو : يا حابل اذكر حلا بالباء أي : يا من يشد الحبل اذكر وقت حله . وذاكرت بنوادره شيخنا أبا علي فرأيته غير راضٍ بها وكان يكاد يصلي بنوادر أبي زيد إعظاماً لها . وقال لي وقت قراءتي إياها عليه : ليس فيها حرف إلا وتحته لأبي زيد غرضٌ ما . وهو كذلك لأنها محشوة بالنكت والأسرار . انتهى . ورأيت في تذكرة أبي علي حدثني أبو خالد عن إسحاق بن الموصلي قال : أنشد أبو المنذر العروضي يوماً : قد جليت على عشار فقيل له : الرواية : قد حلبت علي عشاري فقال : وهذا أيضاً وجيه . انتهى . ووقع مثل بيت الفرزدق بيتٌ لجرير من قصيدةٍ هجى بها خليد عينين العبدي وهو : ) ( كم عمة لك يا خليد وخالة ** خضر نواجذها من الكراث ) قال المبرد في الكامل : وإنما هجاه بالكراث لأن قبيلة عبد القيس يسكنون البحرين والكراث من أطعمتهم والعامة يسمونه : الركل والركال . وبيت الفرزدق من قصيدة عدتها ثمان وثلاثون بيتاً هجا بها جريراً مطلعها : ( يا ابن المراغة إنما جاريتني ** بمسبقين لدى الفعال قصار )
____________________

( والحابسين إلى العش ليشربوا ** نزح الركي ودمنة الأسآر ) ( يا ابن المراغة كيف تطلب دارماً ** وأبوك بين حمارةٍ وجمار ) ( لن تدركوا كرمي بلؤم أبيكم ** وأوابدي بتنحل الأشعار ) إلى أن قال : ( يستيقظون إلى نهاق حميرهم ** وتنام أعينهم عن الأوتار ) ( متبرقعي لؤماً كأن وجوههم ** طليت حواجبها عنية قار ) ( كم من أبٍ لي يا جرير كأنه ** قمر المجرة أو سراج نهار ) ( ورث المكارم كابراً عن كابر ** ضخم الدسيعة كل يوم فخار ) إلى أن قال : ( كم عمةٍ لك يا جرير وخالةٍ ** فدعاء قد حلبت علي عشاري ) ( كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا ** ولهى إذا سمعت دعاء يسار ) ( شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها ** فطارةٌ لقوادم الأبكار ) وهذا آخر القصيدة . وقوله : لا يغدرون إلخ . يقول : هم ضعفاء لا يقدرون على غدر ولا على وفاء .
____________________

وعنية بفتح العين وكسر النون بعدها مثناة تحتية مشددة قال في الصحاح : هو بول البعير يعقد في الشمس يطلى به الأجرب . والقار بالقاف قال في الصحاح : هو الإبل . وقوله : كنا نحاذر إلخ تضيع : مضارع أضاع ولقاحنا مفعوله وهو جمع لقوح وهي الناقة الحلوب . قال في الصحاح : إذا نتجت الناقة فهي لقوح شهرين أو ثلاثة ثم لبون بعد ذلك . وقوله : ولهى : فاعل تضيع وهو فعلة من الوله . ويسار اسم عبد كان يتعرض لبنات مولاه . وقوله : شغارة تقذ الفصيل إلخ هو من شواهد سيبويه أورده بعد قوله : كم عمة لك يا جرير البيت بنصب شغارةً على الذم . قال : زعم يونس أنه سمع الفرزدق ينشده بالنصب جعله شتماً وكأنه حين )
ذكر الحلب صار من يخاطب عنده عالماً بذلك . ولو ابتدأه وأجراه على الأول كان جائزاً عربياً .
انتهى . قال الأعلم : الشاهد في نصب شغارة وفطارة على الشتم . والشغارة : التي ترفع رجلها ضاربةً للفصيل لتمنعه من الرضاع عند الحلب يقال : شغر الكلب إذا رفع رجليه ليبول .
والوقذ : أشد الضرب . والموقوذة : التي نهكت ضرباً حتى أشرفت على الهلاك .
____________________

والفطارة : التي تحلب الفطر وهو القبض على الخلف بأطراف الأصابع لصغره . والضف : أن يقبض عليه بالكف لعظمه . والأبكار : جمع بكر وهي التي نتجت أول بطن . وقوادمها : أخلافها وهي أربعة : قادمان وآخران فسماها كلها قوادم اتساعاً وجازاً . وإنما وصفها بهذا الضرب من الحلب لأنه أصعبه . انتهى . وقال ابن خلف : الضف بالفاء ويقال : الضب بالباء وهو الحلب بالكف كلها وإنما يكون للكبار من النوق وأما الصغار من النوق فإنما تحلب بأطراف الأصابع لصغر ضرعها وإنما وصف حذقها ومعرفتها بالحلب لأنها نشأت عليه . وقال ابن المستوفي : أراد أنها عالمة بالحلب فهي أول من فتح قوادمها . قالوا : لأن الأخلاف والضروع أيام الحمل تكون مسدودةً بشيء كالصمغ فإذا ولدت الدابة عالجه الحالب حتى ينزعه من مكانه فيسهل خروج ( عوجوا المطي علي ذا الأكوار ** كيما أخبركم من الأخبار ) ( أن الخلال وخنزراً ولدتهما ** أمٌّ مقارفةٌ على الأطهار ) شغارة تقذ الفصيل برجلها . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى . وقد تكلم السيد المرتضى قدس سره في أماليه على هذا البيت فلا باس بإيراده : قال : أما قول الفرزدق :
____________________

شغارةٌ تقذ الفصيل برجلها . . . . . . . . . . . . . . البيت فإنه من غريب شعره . وفسره قال : معنى شغارة أنها ترفع رجلها للبول . وقوله : تقذ الفصيل أي : تدفعه عن الدنو إلى الرضاع ليتوفر اللبن على الحلب . وأراد بتقذه أي : تبالغ في إيلامه وضربه ومنه الموقوذة . فأما قوله : فطارة لقوادم البكار فالفطر هو الحلب بثلاث أصابع .
والقوادم : الأخلاف . وإنما خص الأبكار بذلك لأن صغر أخلافها يمنع من حلبها ضباً . والضب هو الحلب بالأصابع الأربع فكأنه لا يمكن فيها لقصر أخلافها إلا الفطر . ومعنى البيت تعييره لنساء جرير بأنهن راعيات وذلك مما تعير به العرب النساء . ألا ترى إلى قوله قبل هذا البيت : كم عمة لك يا جرير وخالة . . . . . . . . . . . . . . البيت )
كنا نحاذر أن تضيع لقاحنا . . . . . . . . . . . . . . البيت ثم تلا ذلك بقوله : شغارة . قال السيد المرتضى رضي الله عنه : وعندي أن قوله شغارة كناية عن رفع رجلها للزنى وهو أشبه بأن تكون مرادة في هذا الموضع . ألا ترى أنه قد وصفها بالوله وترك حفظ اللقاح عند سماعها دعاء يسار . ويسار : اسمٌ لراع فكأنه وصفها بالوله إلى الزنى والإسراع إليه وترك حفظ ما استحفظته من اللقاح . انتهى كلامه . وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين . وأنشد بعده :
____________________

الواهب المائة الهجان وعبدها هذا صدر وعجزه : عوذاً تزجي خلفها أطفالها على أنه يجوز في التابع ما لا يجوز في المتبوع كما هنا وهو جعل ضمير المعرف باللام في التابع مثل المعرف باللام فإن قوله : عبدها بالجر معطوف على المائة وهو مضاف إلى ما ليس فيه أل واغتفر هذا لكونه تابعاً . والهجان : كرام الإبل . والعوذ : جمع عائذ وهي الحديثة النتاج قبل أن توفي خمس عشرة ليلة ثم هي مطفل بعده . وتزجي : تسوق وفاعله ضمير العوذ وأطفالها مفعولة . والمعنى أن هذا الممدوح يهب المائة من الإبل الكريمة مع أطفالها ويهب راعيها أيضاً .
وقد تقدم شرح هذا مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائتين .
____________________

( الظروف ) أنشد فيه : ( إلا علالة أو بدا ** هة سابحٍ نهد الجزاره ) على أنه حذف المضاف إليه من الأول بدلالة المضاف إليه من الثاني التابع فإن الأصل : إلا علالة سابح أو بداهة سابح فحذف سابح من الأول لدلالة الثاني عليه . وتقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب ومر في باب الإضافة أيضاً . قال الفراء في تفسيره : ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر فقد قال الشاعر : ( إلا بداهة أو علا ** لة سابحٍ نهد الجزاره ) وسمعت أبا ثروان العكلي يقول : قطع الله الغداة يد ورجل من قاله . وإنما يجوز هذا في الشيئين يصطحبان مثل اليد والرجل . ومثله : عندي نصف أو ربع درهم وجئتك قبل أو بعد العصر . ولا يجوز في الشيئين يتباعدان مثل الدار والغلام فلا يجيزون : اشتريت دار أو غلام زيد ولكن عبد أو أمة زيد وعين أو أذن زيد وما أشبهه . اه .
____________________

والعلالة بالضم : بقية جري الفرس وهو منصوبٌ لأنه استثناء منقطع . والبداهة بالضم أيضاً : أول جري الفرس . والسابح : الفرس الذي يدحو الأرض بيديه في العدو . والنهد : المرتفع العالي . والجزاره : بضم الجيم : الرأس واليدان والرجلان . يريد أن في عنقه وقوائمه طولاً وارتفاعاً . وأنشد بعده لاهد الثالث والتسعون بعد الأربعمائة ( ونحن قتلنا الأزد أزد ** فما شربوا بعداً على لذةٍ خمرا ) على أنه يجوز بقلة في هذه الظروف أن يعوض التنوين من المضاف إليه فيعرب كما أعرب بعداً في البيت على الظرفية والكثير البناء على الضم إذ المختار عند الشارح المحقق أن المبني على الضم والمنون لا فرق بينهما في المعنى وإنهما مقطوعان عن الإضافة . فإن لم يبدل التنوين من المضاف إليه بني على الضم لما ذكره وإن أبدل عنه كان معرباً بالنصب على الظرفية . وقد ينون المبني على الضم في الضرورة . وقد روى : فما شربوا بعدٌ أيضاً بضمتين . فالأول معرب وهذا مبني وكلاهما معرفة إذ المضموم بنية الإضافة إلى معرفة . قال أبو حيان في الارتشاف : وإذا قطعا يعني قبل وبعد عن الإضافة لفظاً ونوى ما أضيف إليه وكان معرفة بنيا على الضم .
____________________


ثم قال أبو حيان : وقد يتوقف في تعريفهما بالإضافة إلى معرفة لأنهما متوغلان في الإبهام . هذا )
محصل كلام الشارح المحقق : وكون التنوين المنصوب للتعويض من المضاف إليه كتنوين بعض وكل هو مذهب الجماعة . قال ابن مالك في شرح الكافية : وذهب بعض العلماء إلى أن قبلاً في قوله : وكنت قبلاً معرفةٌ بنية الإضافة إلا أنه أعرب لأنه جعل ما لحقه من التنوين عوضاً من اللفظ بالمضاف إليه فعومل قبل مع التنوين لكنه عوضاً من المضاف إليه بما يعامل به مع المضاف إليه كما فعل بكل حين قطع عن الإضافة لحقه التنوين عوضاً . وهذا القول عندي حسن . اه . وهذا خلاف الطريقة المشهورة وهو ما عليه الجمهور قالوا : إن المنون نكرة كسائر النكرات وإن التنوين فيها للتمكين . قال ابن مالك في الألفية : ( وأعربوا نصباً إذا ما نكر ** قبلاً وما من بعده قد ذكرا ) قال الشاطبي في شرحه : تخصيصه النصب في هذه الأشياء إذا قصد تنكيرها دون الجر والرفع ظاهر التحكم من غير دليل وأمرٌ لا يساعده عليه سماع فإن أكثر ما ذكر يدخل فيه الجر وغيره .
____________________

تقول أتيته من فوق ومن تحتٍ وفي بعض القراءات : لله الأمر من قبل ومن بعدٍ ومن دونٍ ومن دبرٍ وما أشبه ذلك . قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن قوله : ومن دونٍ ومن فوق ومن تحت ومن قبل ومن بعد ومن دبرٍ ومن خلف فقال : أجروا هذا مجرى الأسماء المتمكنة لأنها تضاف وتستعمل غير ظرف . ثم قال : وكذلك من أمام ومن قدامٍ ومن وراء ومن قبل ومن دبرٍ قال : وزعم الخليل أنهن نكرات كقول أبي النجم : يأتي لها من أيمنٍ وأشمل وزعم أنهن نكرات إذا لم يضفن إلى معرفة كما يكون أيمنٌ وأشملٌ نكرة . وسألنا العرب فوجدناهم يوافقونة . اه . وقد رفعوا قبل ونحوه كما في قوله الوافر : ( هتكت به بيوت بني طريفٍ ** على ما كان قبلٌ من عتاب ) انتهى وأورده الشاطبي . وقسموا هذه الظروف على أربعة أقسام :
____________________

ما ذكر فيه المضاف إليه نحو : قبل زيد وبعده . فهذا ينصب على الظرفية ويجر بمن خاصة . الثاني : ما حذف منه المضاف إليه ونوي ثبوت لفظه فهذا أيضا يعرب كالأول إلا أنه لا ينون لنية الإضافة . الثالث : ما حذف منه المضاف إليه ونوي معناه لا لفظه فهذا يبنى على الضم . الرابع : ما حذف منه المضاف إليه ولم ينو لا لفظه ولا معناه . فهذا ينون وتنوينه للتمكين وهو نكرة . وقد تكلم الفراء على قبل وبعد في تفسيره فلا بأس بنقل كلامه تبركاً . قال : قوله تعالى : لله الأمر من قبل )
ومن بعد القراءة بالرفع من غير تنوين لأنهما في المعنى يراد بهما الإضافة إلى شيء لا محالة فلما أديا عن معنى ما أضيفتا إليه وسموهما بالرفع وهما مخفوضتان ليكون الرفع دليلاً على ما سقط مما أضفتهما إليه . وكذلك ما أشبههما كقول الشاعر الوجز : إن تأت من تحت أجئها من عل ومثله قول الشاعر : ترفع إذا جعلته غاية ولم تذكر بعده الذي أضفته إليه فإن نويت أن تظهره أو أظهرته قلت : لله الأمر من قبل ومن بعد كأنك أظهرت المخفوض الذي أسندت إليه قبل وبعد .
____________________

وسمع الكسائي بعض بني أسدٍ يقرؤها : لله الأمر من قبل ومن بعد بخفض قبل وبرفع بعد على ما نوى . وأنشدني هو الطويل : ( أكابدها حتى أعرس بعد ما ** يكون سحيراً أو بعيد فأهجعا ) أراد : بعيد السحر فأضمره ولو لم يرد ضمير الإضافة لرفع فقال : بعيد . ومثله قول الشاعر الطويل : ( فو الله ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول ) رفعت أول لأنه غاية . ألا ترى أنها مسندة إلى شيء هي أوله كما تعرف أن قبل لا يكون إلا قبل شيء وأن بعد كذلك . ولو أطلقتهما بالعربية فنونت وفيهما معنى الإضافة فخفضت في الخفض ونونت في النصب والرفع لكان صواباً . قد سمع ذلك من العرب وجاء في أشعارها فقال بعضهم : ( فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ** أكاد أغص بالماء الحميم ) فنون . وكذلك تقول : جئتك من قبلٍ فرأيتك . وكذلك قوله الطويل :
____________________

فهذا مخفوضٌ وإن شئت نونت . وأما قول الآخر : ( هتكت به بيوت بني طريفٍ ** على ما كان قبلٌ من عتاب ) فنون ورفع فإن ذلك لضرورة الشعر كما يضطر إليه الشاعر فينون في النداء المفرد كقوله : ( قدموا إذ قيل قيسٌ قدموا ** وارفعوا المجد بأطراف الأسل ) وأنشدني بعض بني عقيل : ( ونحن قتلنا الأسد أسد شنوءةٍ ** فما شربوا بعد على لذة خمرا ) )
ولو رده إلى النصب كان وجهاً كما قال الطويل : فساغ لي الشراب وكنت قبلاً وكذا النداء لو رد إلى النصب إذا نون كان وجهاً كما قال : ( فطر خالداً إن كنت تستطيع طيرةً ** ولا تقعن إلا وقلبك حاذر ) ولا تنكرن أن تضيف قبل وبعد وأشباههما وإن لم يظهر . إلى آخر ما نقلناه قبل هذا البيت .
انتهى كلام الفراء . وقد لخص هذا الكلام أبو إسحاق الزجاجي في شرح خطبة أدب الكتاب
____________________

وهو عندي بخطه وتاريخ كتابته سنة سبع وسبعين وثلثمائة وقال : هذا الذي اختاره الفراء من نصب المنادى المفرد في ضرورة الشعر هو مذهب أبي عمرو بن العلاء وأصحابه . والمذهب الأول هو رفعه منوناً هو مذهب الخليل وسيبويه وأصحابه . وذلك أن أبا عمرو قال : المنادى المفرد إذا اضطر الشاعر إلى تنوينه فسبيله أن ينصبه لأنه في موضع نصب . وإنما بني على الضم لمضارعته المضمر فإذا نون فقد زال عن البناء وسبيله أن يرجع إلى أصله . وقال الخليل : سبيله أن يترك مضموماً وينون . وشبهه بالاسم الذي لا ينصرف إذا نون في ضرورة الشعر . ومذهب أبي عمرو أقيس ولولا كراهة الإطالة لذكرت ما يعتل به الفريقان . وأنشد البصريون قول الأحوص الوافر : ( سلام الله يا مطرٌ عليها ** وليس عليك يا مطر السلام ) فالخليل وأصحابه يروونه : يا مطرٌ بالرفع والتنوين وأبو عمرو وأصحابه يروونه : يا مطراً بالنصب . قال سيبويه : وكل العرب ينشدون الخفيف :
____________________

يا عدياً لقلبك المهتاج بالنصب . انتهى . والبيت الشاهد لم أر من عزاه إلى قائله . وأورده الزجاجي في شرح تلك الخطبة مع بيتٍ قبله وهو الطويل : ( ما من أناسٍ بين مصر وعالجٍ ** وأبين إلا قد تركنا لهم وترا ) وعالج بكسر اللام : موضع بالبادية به رمل . وأبين بفتح الهمزة وكسرها وسكون الموحدة بعدها مثناة مفتوحة : موضع في اليمن قال أبو عبيد البكري : هو بكسر الهمزة اسم رجل كان في الزمن القديم وهو الذي تنسب إليه عدن إبين من بلاد اليمن هكذا ذكره سيبويه في الأبنية بكسر الهمزة . وقال أبو حاتم : سألت أبا عبيد : كيف تقول ابين بفتح الهمزة أو بكسرها قال : )
أقولهما جميعاً . قال الهمداني : وهو ذو أبيت بن ذي يقدم بن الصوأر بن عبد شمس بن وائل بن الغوث . قال الرائش البسيط : ( واذكر به سيد الأقوام ذا بينٍ ** من القدام وعمراً والفتى الثاني ) أراد : ذا إبين . وحمير تطرح مثل هذه الألف فتقول في اذهب : ذهب . اه . وقال ياقوت في معجم البلدان : أبين بفتح أوله ويكسر ويقال : يبين . وذكره سيبويه في الأمثلة بكسر الهمزة ولا يعرف أهل اليمن غير الفتح وهو مخلاف باليمن منه عدن يقال : إنه سمي بأبين بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير ابن سبأ . وقال الطبري : عدن وأبين : ابنا عدنان بن أدد .
____________________

وأنشد الفراء : ( ما من أناسٍ بين مصر وعالج ** البيتين ) وقال عمارة بن الحسن اليمني : أبين : موضع في جبل عدن . اه . والوتر بفتح الواو وكسرها : الجناية التي يجنيها الرجل على غيره من قتلٍ أو نهب أو سبي . والأزد ويقال : الأسد بإبدال الزاي سيناً : أبو حيٍّ من اليمن وهو أزد بن الغوث بن نبت بن مالك بن كهلان بن سبأ . وهو فرق : فرقة يقال لها : أزد شنوءة وأخرى أزد عمان وأخرى أزد السراة . فلما كان الأزد يجمع قبائل شتى بين المراد منه بقوله أزد شنوءة . والشنوءة بالهمزة على وزن فعولة ومعناه التقزز وهو التباعد من الأدناس . تقول : رجل فيه شنوءة أي : تقزز . قال في الصحاح : ومنه أزد شنوءة وهم حيٌّ باليمن ينسب إليهم شنائي . قال ابن السكيت ربما قالوا أزد شنوة بالتشديد غير مهموز وينسب إليها شنوي . قال الرجز : ( نحن قريشٌ وهم شنوه ** بنا قريشاً ختم النبوه ) ورواه ابن سيده في المحكم وتبعه العيني : ونحن قتلنا الأسد أسد خفية وهذا تحريف قطعاً ولا يلائمه ما بعده . وخفية بفتح الخاء المعجمة وكسر الفاء : اسم موضع كثير الأسود . قال العيني : وأسد خفية بدل من الأسد ولم يبين هل هو بدل كل أو بدل بعض بتقدير العائد أي : منهم والظاهر أنه بيان له . وبعداً : ظرف لشربوا .
____________________

والأصل عند الشارح المحقق بعد قتلنا إياهم فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين . وأنشد بعده الوافر : ( فساغ لي الشراب وكنت قبلاً ** أكاد أغص بالماء الحميم ) على أن الأصل : قبل هذا فحذف المضاف إليه وعوض عنه بالتنوين . وعند الجمهور : التنوين )
للتمكين وهو نكرة فمعنى كنت قبلاً : كنت متقدماً . ومعنى فما شربوا بعداً : ما شربوا متأخراً ولا ينوي تقدمٌ ولا تأخر على شيء معين وإنما المراد في هذه الحالة مطلق التقدم والتأخر من حيث هو . وأما في حال الإضافة فالنية بهما التقدم والتأخر على شيء بعينه . قال الدماميني .
والبيت قد تقدم شرحه مستوفًى في الشاهد التاسع والستين . وأنشد بعده الرجز :
____________________

خالط من سلمى خياشيم وفا على أن الأصل : وفاها فحذف المضاف إليه . وتقدم عليه الكلام في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين من باب الاستثناء وبعد الشاهد الثاني والعشرين بعد الثلثمائة من باب الإضافة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والتسعون بعد الأربعمائة ) البسيط : ( إني أتتني لسان لا اسر بها ** من علو لا عجبٌ منها ولا سخر ) على أنه روى علو مثلث الواو . قال صاحب الصحاح : وعلو بتثليث الواو : أي : أتاني خبرٌ من أعلى نجد . وقال أبو عبيدة : أراد العالية . وقال ثعلب : أي : من أعالي البلاد . وأنث اللسان لأنه بمعنى الرسالة هنا لأن الشاعر كان أتاه خبر قتل أخيه المنتشر . والسخر بفتحتين وبضمتين : الاستهزاء . يقول : لا عجب من هذه الرسالة وإن كانت عظيمة لأن مصائب الدنيا كثيرة ولا سخر بالموت . وقيل : معناه لا أقول ذلك سخرية . والبيت مطلع قصيدةٍ لأعشى باهلة رثى بها أخاه المنتشر بن وهب الباهلي . وقد
____________________

شرحنا القصيدة برمتها وما يتعلق بها على سبيل الاستقصاء في الشاهد السابع والعشرين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س : ( بآية يقدمون الخيل شعثاً ** كأن على سنابكها مداما ) على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر ومن غير الأغلب أن تضاف إليها بدونه كهذا البيت . وهذا خلاف مذهب سيبويه فإن آية عنده لا تضاف إلى الفعلية إلا بدون حرف المصدر . هذا نصه : ومما يضاف إلى الفعل أيضاً قال الأعشى : بآية يقدمون الخيل شعثاً . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال يزيد بن عمرو بن الصعق : فما : لغوٌ . انتهى . وذهب ابن جني إلى أن آية إنما تضاف إلى مفرد نحو : إن آية ملكه أن
____________________

يأتيكم التابوت وقال : الأصل بآية ما تقدمون أي : بآية إقدامكم كما قال الوافر : بآية ما يحبون الطعاما ويؤخذ من تقريره أن تقدمون بالخطاب والمشهور أنه بالغيبة وعليه المعنى . قال ابن هشام في المغني : فيه حذف موصول حرفيٍّ غير أن وبقاء صلته . ثم هو غير متأتٍّ في قوله الطويل : بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً وتكلف الدماميني فقال : بل هو متأتٍّ بأم تكون ما مصدرية ولا النافية محذوفة لدلالة ما بعدها عليها والمعنى بآية كونهم لا ضعافاً ولا عزلاً . ثم قال ابن هشام : ومذهب سيبويه أن آية مما يضاف جوازاً إلى الجملة الفعلية المتصرف فعلها سواء كان مثبتاً كالبيت الشاهد أو منفياً بما كقوله : بآية ما كانوا ضعافاً ولا عزلاً انتهى .
____________________

وكذا قال : صاحب المفصل أن آية مما يضاف إلى الفعل . قال النحاس : قال أبو إسحاق : لأن معنى آية علامة من الزمان وأضيف الفعل إلى الزمان لأن الفعل من أجل الزمان ذكر . وكان أبو إسحاق يرى أنه حكاية . وقال غيره : المراد المصدر . وقال المبرد في إضافة آية إلى الفعل : إنه بعيد وجاز على بعده للزوم الإضافة لأن آية لا تكاد تفرد إذا أردت بها العلامة . انتهى . وفيه أن أكثر ما وجدت في القرآن بهذا المعنى مفردةً عن الإضافة قال تعالى : وآيةٌ لهم الليل نسلخ منه النهار و آيةٌ لهم أن حملنا ذريتهم . وقال الأعلم : الشاهد فيه اضافة آية إلى يقدمون على )
تأويل المصدر أي : بآية إقدامهم الخيل . يريد أن المعنى عليه لأن الفعل مؤول بحرف مصدر مقدر إذ الغرض أنه مضافٌ إلى الجملة من دون سابك . ثم قال الأعلم : وجاز هذا فيها لأنها اسمٌ من أسماء الفعل لأنها بمعنى علامة والعلامة من العلم وأسماء الأفعال تضارع الزمان فمن حيث جاز أن يضاف الزمان إلى الفعل جاز هذا في آية وكأن إضافتها على تأويل إقامتها مقام الوقت كأنه قال : بعلامة وقت يقدمون . يقول : أبلغهم عني كذا بعلامة إقدامهم الخيل للقاء شعثاً متغيرة من السفر والجهد . وشبه ما ينصب من عرقها ممتزجاً بالدم على سنابكها بالخمر .
والسنابك : جمع سنبك وهو مقدم الحافر . انتهى .
____________________

أراد أن ذلك لما صار عادةً وأمراً لازماً صار علامة . وكأن الشاعر لما حمل إنساناً أن يبلغ قوماً رسالته قال له ذلك الإنسان : بأي علامة يعرف هؤلاء القوم فقال : بعلامة تقديمهم الخيل إلى الحرب . أي : إذا رأيت قوماً بهذه الصفة فأبلغ رسالتي . والشعث : جمع أشعث وهو المغبر الرأس . قال الدماميني في الحاشية الهندية : ضمير يقدمون ضمير غيبة يعود على تميم المذكورين قبله وهو : وهذا لا يصح فإن كل بيت منهما من شعرٍ آخر وليسا من قصيدةٍ لقائل واحد . والبيت الشاهد لم أره منسوباً إلى الأعشى في كتاب سيبويه وفي غيره غير منسوب إلى أحد . والله أعلم به . وقد تكلم على معنى الآية أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي فيما كتبه على إصلاح المنطق لأبي يوسف بن السكيت من كتاب التنبيهات على أغلاط الرواة قال أبو يوسف : وقد تأييته : تعمدت آيته أي : شخصه . وحكى لنا أبو عمرو : يقال خرج القوم بآيتهم أي : بجماعتهم أي : لم يدعوا وراءهم شيئاً . وأنشدنا لبرج بن مسهرالطويل : ( خرجنا من النعتين لا حي مثلنا ** بآيتنا نزجي اللقاح المطافلا ) قال : ومعنى آية من كتاب الله أي : جماعة حروفه . قال أبو القاسم : قد أفسد أبو يوسف صحيح قوله الأول بقول أبي عمرو في معنى الآية من كتاب الله وإنما الآية العلامة لا جماعة حروف .
____________________

وكذلك قال ابن دريد : والآية من القرآن الكريم كأنها علامةٌ لشيء ثم يخرج منها إلى غيرها . وكذلك قال في بيت البرج أي : خرجوا بجماعتهم وبما يستدل به عليهم من متاعهم .
ويقال : هذه آية كذا أي : علامة كذا ومنه قوله تعالى : أتبنون بكل ربعٍ آيةً تعبثون أي : أمرةً وعلامة ومنه قول الشاعر : بآية يقدمون الخيل زوراً تسن على سنابكها القرون ) ( بآية يقدمون الخيل زوراً ** كأن على سنابكها مداما ) وقال آخر ( ألا أبلغ لديك بني تميم ** بآية ما يحبون الطعاما ) وقال المفسرون في قوله تعالى : رب اجعل لي آية قالوا علامةً أعلم بها وقوع ما بشرت به .
وكذلك قالوا في قوله سبحانه : قال آيتك أن لا تكلم الناس أي : تمنع الكلام وأنت سوي فتعلم بذلك أن الله قد وهب لك الولد . فكان ذلك من فعل الله به علامة دالة على صحة ما بشره به من أمر يحيى عليه السلام . وكذلك قوله سبحانه وتعالى : واضمم يدك إلى جناحك تخرج بيضاء من غير سوءٍ آيةً أخرى قال المفسرون : كانت في قلب العصا آيةٌ دالة على وحدانية الله تعالى . ثم أمره بضم يده وأعلمه أنها تخرج بيضاء من غير برص وأن
____________________

تلك آية أخرى دالة على ما دلت عليه الآية الأخرى . فأصل الآية العلامة فكأن الآية من كتاب الله علامةٌ يفضى منها إلى غيره كأعلام الطريق المنصوبة للهداية . قال الشاعر البسيط : إذا مضى علمٌ منها بدا علم ولما كانت الآية هي العلام الدالة على الشيء سموا شخص الشيء آيته وقالوا : تآييته على وزن فاعلته إذا تعمدت آيته . وكذلك آيات الله التي ضربها لعباده أمثالاً : ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره وقال سبحانه : وانظر إلى حمارك ولنجعلك آيةً للناس . وقال عز وجل : لقد رأى من آيات ربه الكبرى . وقال تقدست أسماؤه : لنريك من آياتنا الكبرى في أمثال هذه الآيات . وكلها بمعنى الدلائل والعلامات الدالة على صنع اللطيف الخبير . ولا وجه لما قاله من جماعة الحروف . وإن قاله غيره فهو قول غير مقبول . انتهى ما ساقه أبو القاسم . وقد اختلف في أصلها على ستة أقوال : أحدها : أن أصلها أيية كقصبة فالقياس في إعلالها أياة فتصح العين وتعل اللام ولكن عكسوا شذوذاً فأعلوا الياء الأولى لتحركها وانفتاح ما قبلها دون الثانية . وهذا قول الخليل .
____________________

الثاني : أن أصلها أيية بسكون العين كحية فأعلت بقلب الياء الأولى اكتفاء بشطر العلة وهو فتح ما قبلها فقط دون تحركها . قاله الفراء وعزي لسيبويه واختاره ابن مالك وقال : إنه أسهل الوجوه لكونه ليس فيه إلا الاجتزاء بشطر العلة . وإذا كانوا قد عولوا عليه فيما لم يجتمع فيه ياءان نحو : طائي وسمع : اللهم تقبل تابتي وصامتي ففيما اجتمع فيه ياءان أولى لأنه أثقل . الثالث : أن أصلها آيية كضاربة حذفت العين استثقالاً لتوالي ياءين أولاهما )
مكسورة ولذلك كانت أولى بالحذف من الثانية . قال الكسائي : ورد بأنه كان يلزم قلب الياء همزة لوقوعها بعد ألف زائدة في قولهم : آي . الرابع : أن أصلها أيية بضم الياء الأولى كسمرة فقلبت العين ألفاً . ورد بأنه كان يجب قلب الضمة كسرة . الخامس : أن أصلها أيية بكسر الياء الأولى كنبقة فقلبت الياء الأولى ألفاً . ورد بأن ما كان كذلك يجوز فيه الفك والإدغام كحيي وحي . السادس : أن أصلها أيية كقصبة كالأول إلا أنه أعلت الثانية على القياس فصار أياة كحياة ونواة ثم قدمت اللام إلى موضع العين فوزنها فلعة . وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س الوافر :
____________________

( ألا من مبلغٌ عني تميماً ** بآية ما يحبون الطعاما ) على أن آية تضاف في الأغلب إلى الفعلية مصدرة بحرف المصدر كما في البيت فإن ما مصدريةٌ تؤول مع الفعل بعدها بمصدر مجرور بإضافة آية إليه . وهذا خلاف مذهب سيبويه : فإن ما زائدة وآية مضافة إلى الفعل ولا تأويل بمصدر صناعة . قال النحاس : ما عند سيبويه لغو . وقال المبرد : ما والفعل مصدر . وأنكر ما قاله سيبويه . وقال ابن هشام في المغني في حذف ما المصدرية من الباب الخامس : الصواب أن ما مصدرية . وهذا يشعر أن مذهب سيبويه خطأ . وليس هذا بصواب فكان اللائق أن يقول : والصحيح أو يقول : وعندي أو وعند غيره . قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة آية إلى يحبون وما زائدة للتوكيد . ويجوز أن تكون ما مع الفعل بتأويل المصدر كإضافتها إلى سائر الأسماء . انتهى . ومفعول مبلغ محذوف أي : رسالة كأنه لما قال : من مبلغٌ تميماً عني رسالة قيل له : بأي علامةٍ يعرفون فقال : بعلامة حبهم الطعام وحرصهم عليه . يريد : إذا رأيت قوماً يحبون الطعام فاعلم أنهم تميم فبلغهم رسالتي .
وقل الزمخشري في شرح أبيات سيبويه : ما زائدة أي : بعلامة محبتكم الطعام يشعر أن تحبون بالخطاب . وليس كذلك وإنما هو بالغيبة .
____________________

وروى صدره المبرد في الكامل : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما ) قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل هذا من الغلط إنما الرواية : بآية ما بهم حب الطعام وبعده الوافر : ) ( أجارتها أسيد ثم أودت ** بذات الضرع منها والسنام ) وليس أبو العباس المبرد بأول من غلط فيه من النحويين . انتهى . وعليه لا شاهد فيه . وهذا يؤيد قول سيبويه فإن ما موصولة وحب الطعام مبتدأ والظرف قبله خبره والجملة صلة الموصول . وفي شرح شواهد المغني للسيوطي : قال أبو محمد السيرافي : وفي شعره يعني يزيد بن عمرو بن الصعق : ( أجارتها أسيد ثم غارت ** بذات الضرع منه والسنام ) وسببه أن بني عوف بن عمرو بن كلاب جاوروا بني أسيد بن عمرو بن تميم فأجلوهم عن مواضعهم فقال يزيد هذا الشعر . وفي أيام العرب لأبي عبيدة : نزل يزيد بن الصعق قريباً من بني أسيد بن عمرو بن تميم واستجارهم لإبله فأجاروه ثم أغار عليه ناسٌ منهم فذهبوا بها فقال يزيد هذين البيتين . انتهى . وعلى هذه الرواية أيضاً لا شاهد فيه وحب منصوب بنزع الحافض أي : بآية ما يذكرون بحب الطعام .
____________________

وقول السيرافي وفي شعره يوهم أن هذا الشعر غير البيت الشاهد وليس كذلك فإن الشعر واحد والقافية مجرورة . وقد رد عليه أوس بن غلفاء الهجيمي من قصيدة الوافر : ( فإنك من هجاء بني تميمٍ ** كمزداد الغرام إلى الغرام ) ( هم تركوك أسلح من حبارى ** رأت صقراً وأشرد من نعام ) ( وهم ضربوك أم الرأس حتى ** بدت أم الشؤون من العظام ) ( إذا يأسونها جشأت إليهم ** شرنبثة القوائم أم هام ) قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : الذي ضرب يزيد على رأسه الحارث بن حصبة أو طارق بن حصبة الشك من أبي عبيدة ضربه يوم ذي نجب وأسره فقال تميم لابن أبي جويرية التميمي وكان نطاسياً أي : طبيباً : انظر إليه فإن كنت ترجوه فلن نطلقه حتى يعطينا الرضا في فدائه . فإن خفت عليه قنعنا منه بأدنى شيء . فأعطاه يزيد شيئاً على أن يخبره بأنه يخاف عليه فأخذوا منه شيئاً يسيراً وأطلقوه . انتهى . وقوله : أجارتها أسيد ثم أوردت إلخ أجاره : التزم له ذمة المجاورة . والضمير للإبل . وأودت بذات الضرع أي : أهلكتها . وروى بدله : غارت أي : أتت الغور بها .
____________________

وإنما جعل حب الطعام آية لبني تميم يعرفون به لما كان من أمرهم في تحريق عمرو بن هند إياهم ووفود البرجمي عليه لما شم رائحة المحرقين فظنهم طعاماً يصنع )
فقذف به إلى النار . قال المبرد في الكامل : وكان سبب ذلك أن أسعد بن المنذر أخا عمرو ابن هند كان مسترضعاً في بني دارم في حجر حاجب بن زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم وانصرف ذات يومٍ من صيدٍ وبه نبيذ فعبث كما تعبث الملوك فرماه رجلٌ من بني دارم بسهم فقتله ففي ذلك يقول عمرو بن ملقط الطائي لعمرو ابن هند مجزوء الكامل : ( فاقتل زرارة لا أرى ** في القوم أوفى من زرارة ) فغزاهم عمرو بن هندٍ فقتلهم يوم القصيبة ويوم أوارة . وفي ذلك يقول الأعشى مجزوء الكامل : ( وتكون في الشرف الموا ** زي منقراً وبني زرارة ) ( أبناء قومٍ قتلوا ** يوم القصيبة والأواره ) ثم أقسم عمرو بن هندٍ ليحرقن منهم مائة فبذلك سمي محرقاً فأخذ تسعة وتسعين رجلاً فقذفهم في النار ثم أراد أن يبر قسمه بعجوزٍ منهم لتكمل العدة فلما أمر بها قالت العجوز : ألا فتًى يفدي هذه العجوز بنفسه ثم قالت : هيهات صارت الفتيان حمما . ومر وافدٌ للبراجم فاشتم رائحة اللحم فظن أن الملك يتخذ طعاماً فعرج عليه فأتي به فقال له من أنت فقال : أبيت اللعن أنا وافد
____________________

البراجم . فقال عمرو : إن الشقي وافد البراجم ثم أمر به فقذف في النار . ففي ذلك يقول جريرٌ يعير الفرزدق الكامل : ( أين الذين بنار عمرٍ و حرقوا ** أم أين أسعد فيكم المسترضع ) وقال الطرماح البسيط : ( ودارمٌ قد قذقنا منهم مائةً ** في جاحم النار إذ ينزون بالجدد ) ( ينزون بالمشتوى منها ويوقدها ** عمرٌ و ولولا شحوم القوم لم تقد ) ولذلك عيرت بنو تميم بحب الطعام يعنى كطمع البرجمي في الأكل . قال يزيد بن عمرو بن الصعق أحد بني عمرو بن كلاب : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما ) وقال آخر الوافر : ( بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ** أو الشيء الملفف في البجاد ) ( تراه ينقب البطحاء حولاً ** ليأكل رأس لقمان بن عاد ) انتهى ما أورده المبرد . قال ابن رشيق في العمدة : زعم أبو عبيدة أن من زعم أنه أحرقهم فقد )
____________________


أخطأ فذكر له شعر الطرماح فقال : لا علم له بهذا . واستشهد بقول جرير : ( أين الذين بسيف عمرٍ و قتلوا ** أم أين أسعد فيكم المستوضع ) انتهى . وهذه الرواية للبيت غير رواية المبرد . وروى صاحب الأغاني خبر هذا اليوم بسنده إلى هشام بن الكلبي عن أبيه وغيره من أشياخ طيئٍ بأبسط من رواية المبرد مع مخالفة قال : كان من حديث يوم أوارة أن عمرو بن المنذر بن ماء السماء وهو عمرو بن هند كان يعرف بأمه هندٍ بنت الحارث الملك المقصور بن حجر آكل المرار الكندي وهو الذي يقال له : مضرط الحجارة أنه كان عاقد هذا الحي من طيئ على أن لا ينازعوا ولا يفاخروا ولا يغيروا . وأن عمرو بن هندٍ غزا اليمامة فرجع منفضاً فمر بطيئ فقال له زرارة بن عدس بن زيد بن عبد الله بن دارم الحنظلي : أبيت اللعن أصب من هذا الحي شيئاً . قال له : ويلك إن لهم عقداً .
قال : وإن كان . فلم يزل به حتى أصاب مالاً ونسوة وأذواداً فذمه قيس بن جروة الطائي بقصيدة على نقض عهده فبلغت عمرو بن هند فغزا طيئاً . فأسر أسرى من طيئ من بني عدي بن أخزم وهم رهط حاتم بن عبد الله وفيهم قيس بن جحدر وهو جد الطرماح بن حكيم وهو ابن خالة حاتم فوفد حاتمٌ فيهم إلى عمرو بن هند فوهبهم له . ثم إن المنذر بن ماء السماء وضع ابناً له صغيراً ويقال : بل كان أخاه صغيراً يقال له : مالك عند زرارة وإنه خرج ذات يوم يتصيد فأخفق ولم يصب شيئاً فمر بإبلٍ لرجل من بني عبد الله بن دارم يقال له : سويدٌ .
____________________

وكانت عند سويد ابنة زرارة بن عدس فولدت له سبعة غلمة فأمر مالك بن المنذر بناقة سمينة منها فنحرها ثم اشتوى وسويدٌ نائم فلما انتبه شد على مالك بعصاً فضربه فأمه . ومات الغلام . وخرج سويدٌ هارباً حتى لحق بمكة وعلم أنه لا يأمن فحالف بني نوفل بن عبد مناف فاختط بمكة وكانت طيئ تطلب عثرات زرارة وبني أبيه حتى بلغهم ما صنعوا بأخي الملك فأنشأ عمرو بن ثعلبة بن ملقط الطائي يقول مجزوء الكامل : ( من مبلغٌ عمراً بأ ** ن المرء لم يخلق صباره ) ( وحوادث الأيام لا ** يبقى لها إلا الحجاره ) ( أن ابن عجزة أمه ** بالسفح أسفل من أواره ) ( تسفي الرياح خلال كش ** حيه وقد سلبوا إزاره ) ( فاقتل زرارة لا أرى ** في القوم أوفى من زراره ) )
والصبارة : بالضم : الحجارة وقيل : بالفتح جمع صبار والهاء لجمع الجمع لأن الصبار جمع صبرة بالفتح وهي حجارة شديدة . كذا في الصحاح . وأوارة بالضم : اسم ماء وإليه نسب ذلك اليوم . والعجزة بالكسر :
____________________

آخر ولد الرجل عنى به أخاه . ويقال لأول ولد الرجل : زكمةٌ بالضم . فلما بلغ العشر عمرو بن هند بكى حتى فاضت عيناه وبلغ الخبر زرارة فهرب وركب عمرو بن هندٍ في طلبه فلم يقدر عليه فأخذ امرأته وهي حبلى وقال : ما فعل زرارة الغادر الفاجر قالت : إن كان ما علمت لطيب العرق سمين المرق ويأكل ما وجد ولا يسأل عما فقد ولا ينام ليلة يخاف ولا يشبع ليلة يضاف فبقر بطنها فقال قوم زرارة لزرارة : والله ما قتلت أخاه فأت الملك فاصدقه الخبر . فأتاه زرارة فأخبره الخبر فقال : جئني بسويد . فقال : قد لحق بمكة . فقال : علي ببنيه . فأتاه ببنيه السبعة وبأمهم بنت زرارة وهم غلمةٌ فتناولوا أحدهم فضربت عنقه وتعلق بزرارة الآخرون فتناولوهم وقتلوا . وآلى عمرو بن هند ليحرقن من بني حنظلة مائة رجلٍ فخرج يريدهم وبعث على مقدمته عمرو بن ملقطٍ الطائي فأخذ منهم ثمانية وتسعين رجلاً بأسفل أوارة من ناحية البحرين فحبسهم ولحقه عمرو بن هند حتى انتهى إلى أوارة فأمر لهم بأخدودٍ ثم أضرمه ناراً وقذف بهم فيها فاحترقوا . وأقبل راكبٌ من البراجم وهم بطن من بني حنظلة عند المساء لا يدري بشيء مما كان فقال له عمرو بن هند : ما جاء بك فقال : حب الطعام قد أقويت ثلاثاً لم أذق طعاماً فلما سطع الدخان ظننته دخان طعام . فقال له عمرو : ممن أنت قال : من البراجم . فقال عمرو : إن الشقي وافد البراجم فذهبت مثلاً . ورمي به في النار . فهجت العرب تميماً بذلك فقال ابن الصعق العامري : ( ألا أبلغ لديك بني تميمٍ ** بآية ما يحبون الطعاما )
____________________

وأقام عمرو بن هند لا يرى أحداً فقيل له : أبيت اللعن لو تحللت بامرأة منهم فدعا بامرأة منهم فقال لها : من أنت قالت : أنا الحمراء ابنة ضمرة بن جابر بن قطن بن نهشل . فقال : إني لأظنك أعجمية . فقالت ما أنا بأعجمية ولا ولدتني العجم الرجز : ( إني لبنت ضمرة بن جابر ** سادا معداً كابراً عن كابر ) ( إني لأخت ضمرة بن ضمره ** إذا البلاد لفعت بغمره ) فقال عمرٌ و : والله لولا مخافة أن تلدي مثلك لصرفتك عن النار قالت : أما والذي أسأله أن )
يضع وسادك ويخفض عمادك ويسلبك ملكك ويقرب هلكك ولا أبالي ما صنعت فقال : اقذفوها في النار : فأحرقت . انتهى ما أورده صاحب الأغاني مختصراً . قال ابن قتيبة في خطبة أدب الكتاب : مازح معاوية بن أبي سفيان الأحنف ابن قيس فما رئي مازحان أوقر منهما فقال له : يا أحنق ما الشيء الملفف في البجاد فقال : السخينة يا أمير المؤمنين . أراد معاوية قول الشاعر : ( إذا ما مت ميتٌ من تميمٍ ** فسرك أن يعيش فجئ بزاد ) ( بخبزٍ أو بلحمٍ أو بتمرٍ ** أو الشيء الملفف في البجاد ) ( تراه يطوف الآفاق حرصاً ** ليأكل رأس لقمان بن عاد ) والملفف في البجاد : وطب اللبن . وأراد الأحنف أن قريشاً كانت تعير بأكل السخينة وهي حساء من دقيق يتخذ عند غلاء السعر وعجف المال وكلب الزمان . انتهى .
____________________

قال ابن السيد في شرحه : هذا الشعر ليزيد بن عمرو بن الصعق وذكر الجاحظ أنه لأبي المهوش الأسدي . والذي اقتضى ذكر الشيء الملفف في البجاد وذكر السخينة في هذه الممازحة أن معاوية كان قرشياً وكانت قريش تعير بأكل السخينة . وكان السبب في ذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم لما بعث فيهم فكفروا به دعا الله عليهم وقال : اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف . فأجدبوا سبع سنين فكانوا يأكلون الوبر بالدم ويسمونه العلهز . وكان أكثر قريش إذ ذاك يأكلون السخينة فكانت قريش تلقب سخينة ولذلك يقول كعب بن مالك الكامل : وذكر أبو عبيدة أن قريشاً كانت تلقب سخينة لأكلهم السخن وأنه لقب لزمهم قبل مبعث النبي صلى الله عليه وسلم . ويدل على صحة ما ذكر قول خداش بن زهير ولم يدرك الإسلام البسيط :
____________________

( يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ ** على سخينة لولا الليل والحرم ) وأما الأحنف بن قيس فإنه كان تميمياً وكانت تميم تعير حب الطعام وشدة الشرة وكان السبب الذي جر ذلك أن أسعد بن المنذر أخا عمرو بن هند كان مسترضعاً في بني دارم .
إلى آخر ما رواه المبرد في الكامل . وقال السهيلي في الروض الأنف : قول كعب : ( جاءت سخينة كي تغالب ربها ** البيت ) )
كان هذا الاسم مما سميت به قريش قديماً ذكروا أن قصياً كان إذا ذبحت ذبيحة أو نحرت نحيرة بمكة أتي بعجزها فيصنع منه خزيرة وهو لحم يطبخ ببر فيطعمه الناس فسميت قريش سخينة . وقيل : أن العرب كانوا إذا أسنتوا أكلوا العلهز وهو الوبر والدم وتأكل قريش الخزيرة واللفيتة فنفست عليهم العرب ذلك فلقبوهم سخينة . ولم تكن قريشٌ تكره هذا اللقب ولو كرهته ما استجاز كعب أن يذكره ورسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ولتركه أدباً مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ كان قرشياً . ولقد استنشد عبد الملك بن مروان ما قاله الهوازني في ( يا شدة ما شددنا غير كاذبةٍ ** البيت ) فقال : ما زاد هذا على أن استثنى . ولم يكره سماع التلقيب بسخينة . فدل على أن هذا اللقب لم يكن مكروهاً عندهم ولا كان فيه تعيير لهم . انتهى . والعلهز بكسر العين المهملة وسكون اللام وكسر الهاء بعدها زاي معجمة . والخزيرة بفتح الخاء وكسر الزاي المعجمتين ثم راء مهملة . قال في
____________________

الصحاح : الخزيرة : أن تنصب القدر بلحم يقطع صغاراً على ماء كثير فإذا نضج ذر عليه الدقيق . فإن لم يكن فيها لحمٌ فهي العصيدة . وقال ابن السيد : قوله : إذا ما مات ميت إلخ فيه ردٌّ على أبي حاتم السجستاني فإنه كان يقول : قول العامة مات الميت خطأ والصواب مات الحي . وهذا الذي أنكره غير منكر لأن الحي قد يجوز أن يسمى ميتاً لأن أمره يؤول إلى الموت . قال تعالى : إنك ميتٌ وإنهم ميتون . ومثله كثير . وقد فرق قومٌ بينهما فقالوا : الميت بالتشديد : ما سيموت والميت بالتخفيف : ما قد مات . وهذا خطأ فإن المشدد أصل المخفف والتخفيف لم يحدث فيه شيئاً يغير معناه . وقد استعملتهما العرب من غير فرق . قال الشاعر الخفيف : ( ليس من مات فاستراح بميتٍ ** إنما الميت ميت الأحياء ) وقال ابن قعاسٍ الأسدي الوافر : ففي البيت الأول سوى بينهما وفي الثاني جعل المخفف الحي الذي لم يمت . ألا ترى أن معناه والمرء سيموت فجرى مجرى قوله تعالى : إنك ميتٌ وإنهم ميتون . وقوله : بخبز أو بتمر أو بسمن : بدل من قوله : بزاد . والملفف في البجاد : وطب اللبن يلف فيه ويترك حتى يروب .
والوطب : زق اللبن خاصة . والبجاد : الكساء فيه خطوط .
____________________

وقوله : حرصاً : مصدر وقع موقع الحال أو مفعول لأجله . وإنما ذكر لقمان بن عادٍ لجلالته ولعظمه يريد أنه لشدة نهمه وشرهه إذا )
ظفر بأكلةٍ فكأنه قد ظفر برأس لقمان لسروره بما نال وإعجابه بما وصل إليه . وهذا كما يقال لمن يزهى بما فعل ويفخر بما أدرك : كأنه قد برأس خاقان وهذا الكلام الذي جرى بين معاوية والأحنف يسمى التعريض لأن كل واحد منهما عرض بصاحبه بما تسب به قبيلته من غير تصريح . ويشبه ذلك ما يروى من أن شريك بن عبد الله النميري ساير عمر بن هبيرة الفزاري يوماً فبدرت بغلة شريك فقال له ابن هبيرة : غض من لجام بغلتك . فقال له شريك : إنها مكتوبة . فضحك ابن هبيرة وقال : لم أرد ما ذهبت إليه . عرض ابن هبيرة بقول الشاعر الوافر : ( فغض الطرف إنك من نميرٍ ** فلا كعباً بلغت ولا كلابا ) وعرض شريط بقول سالم بن دارة البسيط : ( لا تأمنن فزارياً خلوت به ** على قلوصك واكتبها بأسيار ) وكان بنو فزارة ينسبون إلى غشيان الإبل . وقوله : تعير بأكل السخينة بالباء . وقد منعه ابن قتيبة قال : تقول : عيرته كذا ولا تقول عيرته بكذا . والصحيح أنهما لغتان وإسقاط الباء أفصح . والحساء والحسو : لغتان . والعجف : الضعف والهزال . وأراد بالمال هنا الحيوان وكذلك تستعمله العرب في الأكثر وقد يجعل اسماً لكل ما يملكه الإنسان من ناطق وصامت قال تعالى : ولا تؤتوا السفهاء
____________________

أموالكم وقال تعالى : والذين في أموالهم حقٌّ معلومٌ للسائل والمحروم . فالمال فيهما عامٌّ لكل ما يملك . وكلب الزمان : شدته وأصل الكلب سعار يصيب الكلاب فضرب بذلك مثلاً للزمان الذي يذهب بالأموال ويتعرق الأجسام كما سموا السنة الشديدة ضبعاً تشبيهاً لها بالضبع . وقالوا : أكله الدهر وتعرقه الزمان كما قال البسيط : ( أبا خراشة أما أنت ذا نفرٍ ** فإن قومي لم تأكلهم الضبع ) وترجمة يزيد بن الصعق تقدمت في الشاهد التاسع والستين . وأنشد بعده البيسط :
____________________

( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال ) وتقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين . وضمير منها راجع للوجناء وهي الناقة الشديدة . والشرب : مفعول يمنع وغير فاعله لكنه بني على الفتح جوازاً لإضافته إلى مبني . وروى الرفع أيضاً فلا شاهد فيه . وأراد بنطقت صوتت مجازاً . وفي بمعنى على .
وذات بالجر صفة لغصون . والأوقال : جمع وقل بفتح فسكون وهو ثمر الدوم اليابس فإن كان ثمره طرياً فاسمه البهش . يريد : لم يمنعها أن تشرب الماء غير ما سمعت من صوت حمامة )
فنفرت . يريد أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدة نفسها وهو محمود فيها . وأنشد بعده الخفيف : ( غير أني قد استعين على اله ** م إذا خف بالثوي النجاء ) وتقدم هذا أيضاً مشروحاً في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائتين . وغير للاستثناء المنقطع مما قبله فيحتمل أن تكون الفتحة فيه للبناء وفيه الشاهد ويحتمل أن تكون نصباً فلا شاهد فيه .
وقوله : قد استعين بنقل فتحة الهمزة إلى دال قد . وخف بمعنى ذهب وأسرع . والثوي : مبالغة ثاوٍ بمعنى مقيم . والنجاء بفتح النون
____________________

بعدها جيم : المضي والسرعة والباء للتعدية . أي : إذا اضطر المقيم السفر وأقلقه السير والمضي . وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الأربعمائة ) الكامل : بأذل حيث يكون من يتذلل على أن أبا علي قال في كتاب الشعر : إن جملة يكون صفة ل حيث لا أنها مضاف إليه . لأن حيث هنا اسم بمعنى موضع لا أنها باقية على الظرفية . وكتاب الشعر يقال له : إيضاح الشعر وإعراب الشعر أيضاً . وقد تكلم على هذا المصراع وأجاد الكلام فيه فينبغي أن نثبته هنا إيضاحاً له . والمصراع من قصيدة طويلة عدتها تسعة وتسعون بيتاً للفرزدق هجا بها جريراً .
ولا بد من نقل بيتين منها ليتضح معناه وهما : ( إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ ** وأبوك خلف أتانه يتقمل ) ( يهز الهرانع عقده عند الخصى ** بأذل حيث يكون من يتذلل ) قال أبو علي : أنشده بعض البغداديين وزعم أن حيث يكون اسماً والقول في ذلك أن أفعل لا يضاف إلا إلى ما هو بعضه فإذا كان كذا فإنه يراد به الموضع لأنه مضاف إلى مواضع وجاز أن يراد بحيث الكثرة لإبهامها كما تقول أفضل رجل .
____________________

وكذلك لما أضاف أذل صار كأنه قال : بأذل موضع فحيث موضع ولا يجوز مع الإضافة إليها أن تكون ظرفاً كقولك : يا سارق الليلة أهل الدار وقد حكى قطرب فيها الإعراب . ومما جاء حيث مفعولاً به قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته . ألا ترى أن حيث لا يخلو من أن يكون جراً أو نصباً . فلا يجوز أن يكون جراً لأنه )
يلزم أن يضاف إليه أفعل وأفعل إنما يضاف إلى ما هو بعض له وهذا لا يجوز في هذا الموضع فلا يجوز أن يكون جراً وإذا لم يكنه كان نصباً بشيء دل عليه يعلم أنه مفعول به . والمعنى : الله يعلم مكان رسالاته وأهل رسالته . فهذا إذن اسم أيضاً . فإن قال قائل : إذا صار اسماً فلم لا يعرب لزواله عن أن يكون ظرفاً قيل : كونه اسماً لا يخرجه عن البناء ألا ترى أن منذ حرف فإذا استعملت اسماً في نحو منذ يومان لم تخرج عن البناء . وكذلك عن وعلى إذا قلت : من عن يمين الخط وكذلك قول الشاعر الطويل : غدت من عليه
____________________

وكذلك : كم بنيت في الاستفهام فإذا صارت خبراً بقيت على بنائها فكذلك حيث إذا صارت اسماً . فأما موضع يكون في قوله : بأذل حيث يكون من يتذلل فجر بأنه صفة حيث كأنه قال : بأذل موضع يكونه أي : يكون فيه . فحذف الحرف وأوصل الفعل فليس بجرٍّ لإضافة حيث إليه لأن حيث إنما يضاف إلى الفعل إذا كان ظرفاً . فإذا لم يكن ظرفاً لم ينبغ أن يضاف إلى الفعل . وليس حيث في البيت بظرف . وإنما لم يعرب من لم يعربه لأنه جعله بمنزلة ما ومن في أنهما لم يعربا إذا وصفا وكانا نكرتين . وذاك أن الإضافة في حيث كانت للتخصيص كما أن الصفة كذلك فلما جعل اسماً ولم يضف صار لزوم الصفة له للتخصيص بمنزلة لزوم الصلة للتخصيص فضارع حال الوصف حال الإضافة . ولو جعلت في قوله : بأذل حيث يكون زماناً لم يحسن لأن أفعل هذا بعض ما يضاف إليه . وإذا قلت : هذا أذل رجل فالمعنى : هذا رجل ذليل ولا يكاد يقال : زمان ذليل كما يقال : موضع ذليل . ألا ترى أن الأماكن قد وصفت بالعز فإذا جاز وصفها بالعز جاز وصفها بخلافه ولا تكاد تسمع وصف الزمان بالذل . فلا يجوز إذن أن يكون موضع يكون جراً بأنه صفة حيث ويجعل حيث اسم زمان . انتهى كلام أبي علي . وحاصله : أن أذل أفعل تفضيل مجرور بالكسر وهو مضاف إلى حيث بمعنى موضع يراد به الكثرة لإبهامه ولهذا صح إضافة أفعل إليه إذ لا يضاف أفعل التفضيل إلا إلى ما هو بعضه . وجملة يكون : صفة ل حيث فتكون في محل جر والعائد إلى الموصوف ضمير نصب محذوف والأصل : يكون فيه ففيه خبر يكون ومن يتذلل اسمه فحذف حرف الجر واتصل الضمير بيكون فصار يكونه ثم حذف الضمير فصار
____________________

يكون فجملة يكون )
إلخ في محل جر لكونها صفة لحيث لا لكونها مضافاً إليه . وحيث موصوف بالجملة لا مضاف إليها . ولما كان حكم الجملة بعد حيث في الآية حكمها في البيت نسبهما إلى أبي علي وإن لم يذكر حكم الجملة بعد حيث في الآية أبو علي . وقال الشارح المحقق : الأولى أن يكون مضافاً ولا مانع من إضافته وهو اسمٌ لا ظرف إلى الجملة كما في ظروف الزمان وذلك نحو قوله تعالى : يوم ينفع الصادقين صدقهم . وعلى هذا أيضاً يكون الخبر محذوفاً يقدر بعد يتذلل أي : فيه .
وقوله : إنا لنضرب رأس كل قبيلةٍ يقول : نحن في الطرف الأعلى من العز وأنتم في نهاية الذل والعجز . والأتان : أنثى الحمار .
ويتقمل : يقتل قمله . وقوله : يهز الهرانع إلخ تفسير لقوله : يتقمل . ويهز : مضارع وهز يهز هزةً ووهزاً إذا نزع القملة وقصعها أوله وثالثه زاء معجمة . والهرانع : مفعول يهز مقدم جمع هرنع بكسر الهاء وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها عين مهملة وهو القمل الواحدة هرنعة .
قال الشاعر : في رأسه هرانع كالجعلان كذا قال ابن دريد . وقال الليث : الهرنوع كعصفور : القملة الضخمة ويقال : هي الصغيرة .
وأنشد البيت . فيكون الجمع على حذف الزائد . وقال ابن الأعرابي : الهرنع كقنفذ والهرنوع : القملة الصغيرة . وعقده فاعل يهز وهو بفتح العين المهملة وسكون القاف والضمير راجع لقوله : وأبوك .
____________________

وفسره ابن حبيب في شرح المناقضات وابن قتيبة في أبيات المعاني وقالا : يعني عقدة الثلاثين وهو هيئة تناول القملة بإصبعين : الإبهام والسبابة . ورواه الصاغاني في العباب في مادة وهز عن شمر كذا : ( يهز الهرانع لا يزال ويفتلي ** بأذل حيث يكون من يتذلل ) ففاعل يهز على هذا ضمير أبوك . واعلم أن العقود والعقد نوع من الحساب يكون بأصابع اليدين يقال له : حساب اليد . وقد ورد منه في الحديث : وعقد عقد تسعين . وقد ألفوا فيه كتباً وأراجيز منها أرجوزة أبي الحسن علي الشهير بابن المغربي . وقد شرحها عبد القادر بن علي بن شعبان العوفي ومنها في عقد الثلاثين الرجز : ( واضممهما عند الثلاثين ترى ** كقابض الإبرة من فوق الثرى ) )
قال شارحها : أشار إلى أن الثلاثين تحصل بوضع إبهامك إلى طرف السبابة أي : جمع طرفيهما كقابض الإبرة . وعند الخصى ظرف لقوله يهز . وقوله : بأذل الباء بمعنى في متعلقة بمحذوف على أنه حال من ضمير عقده . يقول : نحن لعزنا وكثرتنا نحارب كل قبيلة ونقطع رؤوسها وأبوك لذله وعجزه يقتل قمله خلف أتانه فهو يتناول قملة بإصبعه من بين أفخاذه حالة كونه جالساً في أحقر موضع يجلس فيه الذليل وهو خلف الأتان . فنحن نقتل الأبطال وأبوك يقتل القمل والصئبان فشتان ما بيني وبينك . وهذه القصيدة مطلعها : ويأتي شرحه أن شاء الله في الصفة المشبهة .
____________________

وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الأربعمائة ) الوافر : ( نهيتك عن طلابك أم عمرٍ و ** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح ) على أن التنوين اللاحق ل إذ عوضٌ عن الجملة والأصل : وأنت إذ الأمر ذاك وفي ذلك الوقت .
وكذا أورده صاحب الكشاف في سورة ص . استشهد به على أن أوانٍ في قوله : طلبوا صلحنا ولات أوانٍ بني على الكسر تشبيهاً ب إذ في أنه زمان قطع منه المضاف إليه وعوض عنه التنوين وكسر لالتقاء الساكنين . وروي أيضاً : وأنت إذاً صحيح فيكون التنوين فيه أيضاً عوضاً عن المضاف إليه الجملي عند الشارح المحقق ويكون الأصل وأنت إذ نهيتك كما قال في قوله تعالى : فعلتها إذاً وأنا من الضالين . والمشهور أنها في مثله للجواب والجزاء . وعليه مشى المرزوقي في شرح الهذليين قال : رواه الباهلي : وأنت إذاً
____________________

صحيح . وتكون إذاً للحال كأنه يحكي ما كان . والمراد : ( فإنك إن ترى عرصات جملٍ ** بعاقبةٍ فأنت إذاً سعيد ) قال سيبويه : إن إذاً جوابٌ وجزاء وإذا كان كذلك ففي الفاء مع ما بعدها الجزاء فما معنى إذاً فإن ذلك عندي لتوكيد الجزاء كما أن الياء في قوله الرجز : والدهر بالإنسان دواري لتوكيد الصفة . انتهى . وقوله قبل البيت : وقوله هو بالجر معطوف على مدخول الكافي في قوله تعالى : وكلاًّ آتينا . واعلم أن الشارح المحقق قد دقق النظر في نحو : يومئذ فجعل إذ بدلاً من )
الظرف قبله فيكون يوم ونحوه غير مضاف إلى إذ . وحينئذ يرد عليه : ما وجه حذف
____________________

التنوين من الظرف الأول ومن قال بالإضافة كالجمهور فحذف التنوين ظاهر . ويجوز فيه البناء على الفتح والإعراب على حسب العامل . قال ابن السراج في الأصول : واسماء الزمان إذا أضيفت إلى اسم مبني جاز أن تعربها وجاز أن تبنيها وذلك نحو : يومئذ بالرفع ويومئذ بالفتح فيقراً على هذا إن شئت : من عذاب يومئذٍ بالجر ومن عذاب يومئذٍ بالفتح . اه . وقد قرر الشارح المحقق هذا فيما سيأتي وتنبه لهذا الاعتراض فأجاب عنه بأن الإعراب لعروض علة البناء أعني الإضافة إلى الجمل والبناء لوقوع إذ المبني موقع المضاف إليه لفظاً . وقوله : والذي يبدو لي أن هذه الظروف التي كأنها في الظاهر مضافة إلى إذ ليست مضافة إليه بل إلى الجمل المحذوفة هذا ممكن في يوم وحين فإنهما يجوز إضافتهما إلى الجمل وقد سمع . وأما ساعة وليلة وغداة وعشية وعاقبة فإنها ليست من الظروف التي يجوز إضافتها إلى الجمل لأنه لم يسمع فكيف يقال إنها تضاف إلى الجمل وإذ بدل منها فلما حذفت الجملة المضافة إليها إذ عوض التنوين عنها وقد وجد بخط صاحب القاموس تركيب هذه الظروف مع إذ قال : لا يضاف إلى إذ من الظروف في كلام العرب غير سبعة ألفاظ وهي : يومئذ وحينئذ وساعتئذ وليلتئذ وغداتئذ وعشيتئذٍ وعاقبتئذٍ . اه . قيل : ومقتضاه أنه لا يقال وقتئذ ولا شهرئذ ولا سنتئذ .
وقد ورد أوانئذٍ في شعر الداخل بن حرام الهزلي قال الوافر : ( دلفت لها أوانئذٍ بسهمٍ ** حليفٍ لم تخونه الشروج )
____________________

والدليف : سير فيه إبطاء . وحليف : حديد . وتخونه : تنقصه . والشروج : الشقوق والصدوع .
وزعم الأخفش أن إذ معرب مجرور بإضافة ما قبله إليه . قال ابن هشام في المغني : وزعم الأخفش أن إذ في ذلك معربة لزوال افتقارها إلى الجملة وأن الكسرة إعراب لأن اليوم مضاف إليها . ورد بأن بناءها لوضعها على حرفين وبأن الافتقار باق في المعنى كالموصول تحذف صلته لدليل . قال مجزوء الكامل : ( نحن الألى فاجمع جمو ** عك ثم جهزهم إلينا ) أي : نحن الألى عرفوا . وبأن العوض ينزل منزلة المعوض منه فكان المضاف إليه مذكور وبقوله : وأنت إذ صحيح . وأجاب عن هذا بأن الأصل حينئذ ثم حذف المضاف وبقي الجر كقراءة بعضهم : والله يريد الآخرة أي : ثواب الآخرة . اه . وهذا مع أنه لا قرينة عليه لا يفيد شيئاً )
لوجود مقتضى البناء فيه . وقد سها سهواً بيناً شارح شواهد المغني فقال : البيت استشهد به الأخفش على أن إذٍ معربة لعدم إضافة زمان إليها وقد كسرت . وأجيب بأن الأصل وأنت حينئذ ثم حذف المضاف وبقي الجر . هذا كلامه .
____________________

ولا يخفى أن الأخفش لم يستشهد بالبيت وإنما استشهد به عليه فأجاب بأن الحين منه محذوف . وهو غير قائل بأن إذ معربة لعدم الإضافة . وقد تكلم ابن جني في سر الصناعة على يومئذ ببيان وافٍ وإن كان على خلاف طريقة الشارح المحقق فلا بأس بإيراده مختصراً قال : من وجوه التنوين أن يلحق عوضاً من الإضافة نحو : يومئذ وليلتئذ وساعتئذ وحينئذ وكذلك قول الشاعر : وأنت إذٍ صحيح وإنما أصل هذا أن تكون إذ مضافة إلى جملة نحو : جئتك إذ زيد أمير وقمت إذا قام زيد فلما اقتطع المضاف إليه إذ عوض منه التنوين فدخل وهو ساكن على الذال وهي ساكنة فكسرت الذال لالتقاء الساكنين فقيل : يومئذ . وليست الكسرة كسرة إعراب وإن كانت إذ في موضع جر بإضافة ما قبلها إليها . وإنما الكسرة فيها لسكونها وسكون التنوين بعدها ويدل على أن الكسر في ذال إذ إنما هي لالتقاء الساكنين قول الشاعر : وأنت إذٍ صحيح ألا ترى أن إذا ليس فبلها شيء فأما قول أبي الحسن أنه جر إذ لأنه أراد قبلها حين ثم حذفها وبقي الجر فساقط . ألا ترى أن الجماعة قد أجمعت على أن إذ و كم و من من الأسماء المبنية على الوقف . وقد قال أبو الحسن نفسه في بعض التعاليق عنه في حاشية الكتاب : بعد كم و إذ من التمكن أن الإعراب لم يدخلهما قط . فهذا تصريح منه ببناء إذ وهو اللائق به والأشبه باعتقاده وذلك القول الذي حكيناه عنه شيء قاله في كتابه الموسوم بمعاني القرآن وإنما هو شبيه بالسهو منه .
____________________

على أن أبا علي قد اعتذر له منه بما يكاد يكون عذراً . قلت : أورد هذا العذر في آخر إعراب الحماسة : قال : سألت أبا علي عن قوله : وأنت إذٍ صحيح فقلت : قد قال أبو الحسن : إنه أراد حينئذ فهذا تفسير المعنى أم تقدير الإعراب على أن تكون إذ مجرورة بحين المرادة المحذوفة فقال : لا بل إنما فسر المعنى ولا يريد أن إذ مجرورة بحين المرادة . والذي قاله أبو علي أجري على مقاييس مذاهب أصحابنا غير أن كلام أبي الحسن ظاهره هناك أنه يريد ما عدل أبو علي عنه . انتهى .
ثم قال ابن جني : ويؤيد ما ذكرته من بناء إذ أنها إذا أضيفت مبنية نحو قوله : إذ الأغلال في )
أعناقهم و إذ يرفع إبراهيم القواعد من البيت فإذا في هذا ونحوه مضافة إلى الجمل بعدها وموضعها نصب وهي كما ترى مبنية . فإذا كانت في حال إضافتها إلى الجمل كلا إضافة لأن من حق الإضافة أن تقع على الأفراد فهي إذا لم تضف في اللفظ أصلاً أجدر باستحقاق البناء . ويزيدك وضوحاً قراءة الكسائي : من عذاب يومئذٍ فبني يوم على الفتح لما أضافه إلى مبني غير متمكن . فإن قيل : بنيت إذ من حيث كانت غايةً منقطعاً منها ما أضيفت إليه أو من حيث إضافتها إلى جملة تجري الإضافة إليها مجرى لا إضافة فهلا أعربت لما أضيفت إلى المفرد في نحو قولهم : فعلت إذ ذاك قلت : هذه مغالطة فإن ذاك ليس مجروراً بإضافة إذ إليه وإنما ذاك مبتدأ حذف خبره تخفيفاً والتقدير : إذ ذاك كذاك . فالجملة هي التي في موضع الجر .
____________________

ونظير هذا ما ذهب إليه أبو العباس المبرد في قول الآخر الخفيف : ( طلبوا صلحنا ولات أوانٍ ** فأجبنا أن ليس حين بقاء ) وذلك إلى أنه ذهب إلى كسرة أوان ليست إعراباً ولا أن التنوين الذي بعدها هو التابع لحركات الإعراب وإنما تقديره عنده أن أوان بمنزلة إذ في أن حكمه أن يضاف إلى الجملة نحو : جئتك أوان قام زيد وأوان الحجاج أميرٍ أي : إذ ذاك كذاك فلما حذف المضاف إليه أوان عوض من المضاف إليه تنويناً . والنون عنده كانت في التقدير ساكنة فلما لقيها التنوين ساكناً كسرت النون هذا أوان الشد فاشتدي زيم وقوله : فهذا أوان العرض وغير ذلك .
____________________

فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فهلا حركوا التنوين في يومئذ وأوان ولم حركوا آخره دون التنوين فالجواب : أنهم لو فعلوا ذلك لوجب أن يقولوا : إذن فيشبه النون الزائد النون الأصلي ولما أمكنهم أن يفعلوه في أوان لأنهم لو آثروا إسكان النون لما قدروا على ذلك لأن الألف ساكنة قبلها وكان يلزمهم من ذلك أن يكسروا النون لسكونها وسكون الألف ثم يأتي التنوين بعدهما فكان لا بد أيضاً من أن يقولوا : أوانن . فإن قيل : فلعل على هذا كسرهم النون من أوان إنما هو لسكونها وسكون الألف قبلها دون أن يكون كسرهم إياها لسكونها وسكون التنوين بعدها فالجواب ما تقدم من كسرهم ذال إذ لسكونها وسكون التنوين بعدها . فعلى هذا ينبغي أن يحمل كسر النون من أوان لئلا يختلف الباب . ولأن أوان أيضاً لم ينطق به قبل )
لحاق التنوين لنونه فيقدر مكسور النون لسكونها وسكون الألف قبلها إنما حذف منه المضاف إليه وعوض التنوين عقيب ذلك فلم يوجد له زمن تلفظ به بلا تنوين فيلزم القضاء بأن نونه إنما كسرت لسكون الألف قبلها . فاعرف ذلك من مذهب المبرد . وأما الجماعة إلا أبا الحسن والمبرد فعندها أن أوان مجرورة بلات وأن ذلك لغة شاذة . انتهى كلام لبن جني . والبيت من مقطوعة تسعة أبيات لأبي ذؤيب الهذلي أولها الوافر : ( جمالك أيها القلب القريح ** ستلقى من تحب فتستريح ) نهيتك عن طلابك أم عمرٍ و . . . . . . . . . . . . . . البيت ( وقلت : تجنبن سخط ابن عمٍّ ** ومطلب شلةٍ وهي الطروح )
____________________

وقوله : جمالك إلخ قال الإمام المرزوقي في شرحه : يجوز أن يكون المراد : الزم جمالك الذي عرف منك وعهد فيما تدفع إليه وتمتحن به أي : صبرك المألوف المشهور . ويجوز أن يكون المعنى : تصبر وافعل ما يكون حسناً بك . والمصادر يؤمر بها توسعاً مضافة ومفردة . وهذا الكلام بعثٌ على ملازمة الحسنى وتحضيض ووعد النجاح في العقبى وتقريب . وقوله : نهيتك عن طلابك إلخ قال الإمام المرزوقي : يذكر قلبه بما كان من وعظه له في ابتداء الأمر وزجره من قبل استحكام الحب فيقول : دفعتك عن طلب هذه المرأة بعاقبة أي : بآخر ما وصيتك به .
هذا كما تقول لمن تعتب عليه فيما لم يقبله : كان آخر كلامي معك تحذيرك ما تقاسيه الساعة ولست تريد أن تلك الوصاة كانت مؤخرة عن غيرها ومردفة سواها مما هو أهم منها ولكنه تنبه على أن الكلام كان مقصوراً عليها أولاً وآخراً . ويجوز أن يكون المعنى : نهيتك عن طلبها بذكر ما يفضي أمرك إليه وتدور عاقبتك عليه وأنت بعد سليم تقدر على التملس منها وتملك أمرك وشأنك في حبها . وكأنه كان رأى لتلك الحالة عواقب مذمومة تحصل كل واحدة على طريق البدل من صاحبتها وكان ذكرها كلها فلذلك نكر العاقبة . ويجوز أن يريد : نهيتك بعقب ما طلبتها أي : كما طلبتها زجرتك عن قريب لأن مبادئ الأمور تكون ضعيفة فيسهل فيها كثير مما يصعب من بعد وهذا أقرب الوجوه في نفسي . والعرب تقول : تغير فلانٌ بعاقبة أي : عن قريب بعقب ما عهد عليه قبل . انتهى .
____________________

فظهر من هذا أن عاقبة بالقاف والموحدة .
وكذا هي في رواية أبي بكر القاري شارح أشعار الهذليين قبل الإمام المرزوقي وهي عندي بخطه وعليها خطوط علماء العربية . منهم أحمد بن فارس صاحب المجمل في اللغة وفسرها )
القاري بقوله : آخر الشأن . والباء على المعاني الثلاثة متعلقة بنهيتك . وحملة وأنت صحيح حال من الكاف في نهيتك . وصحفها الدماميني في الحاشية الهندية على المغني بالفاء والمثناة التحتية فجعل الباء متعلقة بمحذوف على أنه حال من إحدى الكافين كالجملة الاسمية وجوز أيضاً أن تكون الباء متعلقة بنهيتك وقال : أي : نهيتك عن حال عاقبة . والاسمية حال من التاء . أقول : لا يصح كونها حالاً من التاء لأنها صفة للمخاطب لا للمتكلم . فتأمل . وقوله : وقلت تجنبن إلخ قال الإمام المرزوقي : روي لنا عن الدريدي عن أبي يزيد وعن الزيادي : شلة بضم الشين قال : وكذا قرأته بخط ذي الرمة . وكذا رواه الباهلي أيضاً . وروي : شلة بفتح الشين وهما جميعاً من الشل : الطرد كأنه يعدد ما كان يحذره منه ويعرفه أن نتائجه كان عالماً بها فلها ما كان ينفره .
والمعنى أن طلبك لها يجلب عليك مراغمة أبناء عمك ويسوقك إلى التعب فيما يبعد عنك ولا يجدي عليك .
____________________

والطروح : البعيدة . وروى بعضهم : ونوًى طروح أي : تطرح أهلها في أقاصي الأرض . وكأنه أراد : ونوى طروح ذاك لأن القوافي مرفوعة . اه . وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب . وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الأربعمائة ) وهو من شواهد س الطويل : ( على حين عاتبت المشيب على الصبا ** فقلت : ألما تصح والشيب وازع ) على أنه يجوز إعراب حين بالجر لعدم لزومها للإضافة إلى الجملة ويجوز بناؤها على الفتح لاكتسابها البناء من إضافتها إلى المبني وهو جملة عاتبت . وأورده صاحب الكشاف عند قراءة نافع والكسائي : ومن خزي يومئذٍ بفتح الميم شاهداً على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه . والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني وقد تقدمت مشروحة بتمامها في الشاهد
____________________

( فأسبل مني عبرةً فرددتها ** على النحر منها مستهلٌّ ودامع ) وفاعل أسبل ضمير ذو حسًى في بيت من مطلع القصيدة بضم الحاء والسين المهملتين وهو بلد في بلاد بن مرة . وعبرة : مفعول أسبل يقال : أسبل الرجل الماء أي : صبه . والعبرة بالفتح : الدمعة . وإنما ردها خوف الفضيحة فإنه يبكي على دار الحبيب الدارسة وهو شيخ . وعلى النحر متعلق بأسبل ويجوز أن يتعلق برددتها على وجه . والنحر موضع القلادة من الصدر والدمعة تجري على الخدود ثم تسيل منها على النحر . ومستهل : سائل منصب له وقع . ومنه )
استهلت السماء بالمطر إذا دام مطرها . ودامع : قاطر . وجملة منها مستهل صفة لعبرة أي : بعضها مستهل وبعضها دامع . وقوله : على حين عاتبت إلخ على بمعنى في متعلقة بأسبل .
وعاتبه على كذا أي : لامه مع تسخط بسببه . فعلى الصبا متعلق بعاتبت . والصبا بالكسر والقصر : اسم الصبوة وهي الميل إلى هوى النفس . والمشيب : الشيب وهو ابيضاض الشعر المسود ويأتي بمعنى الدخول في حد الشيب . وقوله : فقلت أي : للمشيب معطوف على عاتبت . وجملة : ألما تصح إلخ مقول القول . والهمزة للإنكار ولما : جازمة بمعنى لم وفيها توقع لأن صحوه متوقع . وتصح مجزوم بحذف الواو من صحا يصحو إذا زال سكره . وجملة والشيب وازع : حال من فاعل تصح . و وازع بالزاي المعجمة : الزاجر والكاف . تقول : وزع
____________________

( إذا لم يزع ذا الجهل حلمٌ ولا تقًى ** ففي السيف والتقوى لذي الجهل وازع ) وروى أبو عبيدة : ألما أصح بالهمزة بدل التاء . وقد تقدمت ترجمة النابغة الذبياني في الشاهد الرابع بعد المائة . وأنشد بعده البسيط : ( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** حمامةٌ في غصونٍ ذات أوقال ) على أن غيراً بنيت على الفتح لإضافتها إلى مبني وبينه الشارح المحقق مع أنها فاعل لم يمنع .
وقد روى الرفع أيضاً على الأصل : قال سيبويه في باب ما تكون أن وأنّ مع صلتهما بمنزلة غيرهما من السماء : حدثنا أبو الخطاب أنه سمع من العرب الموثوق بهم من ينشد هذا البيت رفعاً : ( لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت ** البيت ) وزعموا أن أناساً ينصبون هذا كنصب بعضهم يومئذ في كل موضع فكذلك غير أن نطقت .
وكما قال النابغة : على حين عاتبت المشيب على الصبا انتهى . وتقدم شرحه قريباً .
____________________

وأنشد بعده ( ونطعنهم حيث الكلى بعد ضربهم ** ببيض المواضي حيث لي العمائم ) على أن إضافة حيث إلى مفرد نادرة فتكون حيث بمعنى مكان ولي مجرور بإضافة حيث إليه وهو مصدر لوى العمامة على رأسه أي : ومكان لف العمائم هو الرأس . قال ابن هشام في المغني : وندرت إضافة حيث إلى المفرد كهذا البيت . والكسائي يقيسه . وأندر من ذلك )
إضافتها إلى جملة محذوفة كقوله الطويل : ( إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له ** أتاه برياها خليلٌ يواصله ) أي : إذا ريدة نفحت له من حيث هب وذلك لأن ريدة فاعل بمحذوف يفسره نفحت فلو كان نفحت مضافاً إليه حيث لزم بطلان التفسير إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف فلا يفسر عاملاٌ فيه . قال أبو الفتح في كتاب التمام : ومن أضاف حيث إلى المفرد أعربها .
انتهى . وقال العيني : إن حيث لم يضف في البيت إلى جملة فيكون معرباً ومحله النصب على الحالية . انتهى .
____________________

يريد ما ذكره أبو الفتح من أنها إذا أضيفت إلى مفرد أعربت فتكون منصوبة لفظاً على الظرفية وعاملها مقدر منصوب على الحالية كما قالوا مثله في : رأيت الهلال بين السحاب . هذا مراده . وقال شارح شواهد المغني : الصواب أنها ظرف لضرب لا حال فإنها ظرف مكان كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم . ولم يفهم ابن الملا الحلبي في شرح المغني عبارة العيني وزيفها وهذا كلامه . ومن خطه نقلت : وقول العيني هنا أن حيث حيث لم تضف إلى جملة معربة محلها النصب على الحال مردود إذ لا معنى لجعل إعرابها محلياً مع الحكم عليها بأنها معربة . انتهى . وقول شارح أبيات المغني كما أن تحت ظرف مكان لنطعنهم . هذه رواية العيني أخذها منه فإن صاحب المغني لم يورد إلا المصراع الثاني . والمشهور في شرح المفصل وغيره أن الرواية حيث الحبا قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : يجوز أن يكون حيث مضافاً إلى الحبا على حد حيث : لي العمائم إلا أنه لا يظهر فيه الإعراب . والحبا : جمع حبوة وهو أن يجمع الرجل ظهره وساقيه بعمامته وقد يحتبي بيديه . وفيها ضم الحاء وفتحها . وقال الجوهري : والجمع حبًى مكسور الأول عن يعقوب . والذي أنشده شيخنا البحراني وكتبه بخطه : الحبا بضم الحاء وبالألف . انتهى . ورواية الشارح المحقق في جميع نسخه : الكلى بدل الحبا . وبهذه الرواية تمم المصراع الدماميني وتبعه ابن الملا . وهو جمع كلية والكلوة لغة فيه . وقال ابن السكيت : ولا تقل كلوة أي : بكسر الكاف . والمراد بالروايات الثلاث الأوساط . ولكلٍّ كليتان وهما لحمتان لازقتان بعظم الصلب عند الخاصرتين . وقوله : ونطعنهم قال صاحب المصباح : طعنه بالرمح طعناً من باب قتل . ثم قال : وطعنت فيه بالقول وطعنت عليه من باب قتل أيضاً ومن باب نفع لغة . وأجاز الفراء يطعن في جميع معانيه بالفتح لمكان حرف الحلق .
____________________

وفي القاموس : طعنه بالرمح كمنعه ونصره طعناً : ضربه وفيه بالقول طعناً . وقال شارح أبيات المغني : يقال : طعنه بالرمح )
يطعنه بالضم في المضارع وكذا كل ما هو حسي . وأما المنوي كيطعن في النسب فبفتح العين .
وقوله : بعد ضربهم مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي : ضربنا إياهم . وقوله : ببيض المواضي بالكسر : جمع أبيض وهو السيف . والمواضي : جمع ماض وهو القاطع الحاد والإضافة من باب إضافة الموصوف إلى الصفة . وقال العيني : البيض بفتح الباء : الحديد .
والمواضي : السيوف . أراد ضربهم بحديد السيوف في رؤوسهم . ويجوز كسر الباء إلى آخر ما ذكرنا . ولا ينبغي لمثله أن يسود وجه الورق الأبيض بهذه الترهات . وهذا البيت لم يعرف له قائل . قال ابن المستوفي : هذا البيت لا يحسن أن يكون من باب ما يفتخر به لأنهم إذا ضربوهم مكان لي العمائم ولم يموتوا واحتاجوا إلى أن يطعنوهم مكان الحبا وعادة الشجاع أن يأتي بالضرب بعد الطعن فهذا منهم فعل جبان خائف غير متمكن من قتل قرنه . وإنما الجيد قول بلعاء بن قيس من بني ليث بن كنانة البسيط : ( وفارسٍ في غمرات الموت منغمسٍ ** إذا تألى علة مكروهةٍ صدقا ) ( غشيته وهو في جأواء باسلةٍ ** غضباً أصاب سواء الرأس فانفلقا ) ( بضربةٍ لم تكن مني مخالسة ** ولا تعجلتها جبناً ولا فرقا ) فانظر كيف وصف قرنه بما وصف به ووصف موضعه وبالغ في وصفهما ووصف ضربته بما يدل على جرأته وشجاعته . انتهى .
____________________

هذا ولم يورد الزمخشري في المفصل هذا البيت بتمامه وإنما قال : وقد روى ابن الأعرابي بيتاً عجزه : حيث لي العمائم قال التبريزي في شرح الكافية : إنما لم ينشد البيت بتمامه للاختلاف في صدره فبعضهم رواه كما ذكر وبعضهم قال : صدره : ( ونحن سقينا الموت بالسيف معقلاً ** وقد كان منهم حيث لي العمائم ) انتهى . وقال ابن المستوفي : وما أنشده ابن الأعرابي فقد قال الأندلسي : وجدت أنا تمامه في بعض حواشي المفصل وهو : ( ونحن قتلنا بالشآم مغفلاً ** وقد كان منا حيث لي العمائم ) قال : ولا أعلم صحته . وأوله على ما أنشدنيه شيخنا محمد بن يوسف البحراني : ونطعنهم حيث الحبا بعد ضربهم . . . . . . . . . . . . . . البيت )
ولم يتممه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل إلا بقوله : ( ونحن سقينا الموت بالشآم معقلاً ** وقد كان منكم حيث لي العمائم ) وقال : المعنى ونحن سقينا هذا الرجل وهو معقل كأس الموت بهذه البلدة وقتلناه وقد كان هذا الرجل منكم فوق الرؤوس منكم أي : كان رئيسكم وعالياً عليكم . وقال بعض الشارحين : معناه قد كان المعقل منكم وهو الملجأ في مكان لي العمائم وهو الرأس . وهذا ليس بظاهر .
انتهى . وهذا البيت أيضاً لم يعرف قائله . أقول : البيت الذي رواه ابن الأعرابي غير ذينك البيتين . قال الصاغاني في العباب : وروى ابن الأعرابي بيت كثير الطويل :
____________________

( وهاجرةٍ يا عز يلطف حرها ** لركبانها من حيث لي العمائم ) ( نصبت لها وجهي وعزة تتقي ** بجلبابها والستر لفح السمائم ) ويروى : من تحت لوث العمائم ولعل الزمخشري لم ينشده لرجحان الرواية الثانية عنده . وأما البيت الذي أنشده صاحب المغني هو : ( إذا ريدةٌ من حيث ما نفحت له ** إلخ ) فهو لأبي حية النميري : شاعر إسلامي أدرك الدولة الأموية والعباسية . توفي سنة بضع وثمانين ومائة . والريدة براء مهملة مفتوحة ومثناة تحتية بعدها دال : الريح اللينة الهبوب . ونفحت : هبت . والريا : الرائحة . وقد أورد أبو علي هذا البيت في الإيضاح الشعري وتكلم عليه فيه ولم يظفر به أحد من شراح المغني فلا بأس بإيراده . قال : وصف أبو حية النميري بهذا البيت حماراً . يقال : ريح رادة وريدة وريدانة : اللينة . ورياها : ريحها . وخليل يعني : أنفه . يقول : تأتيه الريح لتنسمه إياها بأنفه . فإذا هذه هي التي هي ظرف من الزمان لأن المعنى : إذا نفحت ريح تنسمها . وإذا كانت كذلك كانت ريدة مرتفعة بفعل مضمر يفسره نفحت مثل : إذا السماء انشقت ونحو ذلك ومن متعلقة بالمحذوف الذي فسره نفحت . وما أضيف إليه حيث محذوف كما يحذف ما يضاف إليه إذ في يومئذٍ للدلالة عليه وأنه قد علم أن المعنى إذا نفحت من حيث ما نفحت . وإن شئت قلت : إن حيث مضافة إلى نفحت وريدة مرتفعة بفعل مضمر دل عليه نفحت وإن كان قد أضيف إليه حيث كما دل عليه الفعل الذي في صلة )
أن في قولك : لو أنك جئتني لأكرمتك وأغنى عنه . فكذلك هذا الفعل المضاف إليها
____________________

حيث أغنى عن ذلك الفعل لما دل عليه كما قلنا في لو . ألا ترى أن المضاف إليه مثل ما بعد الاسم الموصول في أن كل واحد منهما لا يعمل فيما قبله . ومع ذلك فقد أغنى الفعل الذي في صلة أن عن الفعل الذي يقتضيه لو وإن كان قبل الصلة . فكذلك الفعل المضاف إليه حيث . انتهى بكلامه وحروفه . وما تكون زائدة في التوجيهين . ونقل عن ابن مالك في التوجيه الأول عوض عن الجملة المحذوفة كالتنوين الذي في حينئذ . وبالتوجيه الثاني يسقط قول ابن هشام : فلو كانت نفحة مضافاً إليه لزم بطلان التفسير إذ المضاف إليه لا يعمل فيما قبل المضاف . ويتأيد قول الدماميني في الحاشية الهندية : لا مانع من كون نفحت مضافاً إليه مع جعله مفسراً . وما استند إليه منظور فيه لأن الظاهر من كلامهم أن امتناع تفسير ما لا يعمل مخصوص بباب الاشتغال .
تم بعون الله وتيسيره الجزء السادس من خزانة الأدب بتقسيم محققها .
____________________


وأنشد بعده ( الشاهد الواحد بعد الخمسمائة ) الرجز أما ترى حيث سهيلٍ طالعا وبعده : نجماً يضيء كالشهاب ساطعا على أن حيث مضافةٌ إلى مفرد بندرة وسهيل مجرور بإضافة حيث إليه . وفي هذه الصورة يجوز بناء حيث وإعرابها .
وروي : برفع سهيل على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : موجود فتكون حيث مبنية مضافة إلى الجملة وهي هنا على كل تقدير وقعت مفعولاً لترى لا ظرفاً له . هذا محصل كلام الشارح المحقق .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : هذا البيت أنشده الكسائي وجعل حيث اسماً ولم يعربه لأن كونه اسماً لا يخرجه عن البناء كقوله تعالى : من لدن حكيمٍ خبير . يريد أن موضع حيث النصب بترى فإن قلت : إن حيث إنما جاء
____________________

اسماً في الشعر وقد يجوز أن تجعل الظروف أسماءً في الشعر . فالجواب أن ذلك قد جاء اسماً في غير الشعر . )
وقد حكى أحمد بن يحيى عن بعض أصحابه أنهم قالوا : هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ يعني الوجه . فهذا قد جاء في الكلام . ومما جاء مفعولاً به قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته كما تقدم . اه .
وقال أبو حيان في الارتشاف : مذهب البصريين أنه لا يجوز إضافتها إلى المفرد وما سمع من ذلك نحو : الطويل حيث لي العمائم نادر . وأجاز الكسائي الإضافة إلى المفرد قياساً على ما سمع من إضافتها إلى المفرد . اه .
ولا يخفى أن إعراب هذا الشعر مشكل . والذي أراه أن الرؤية بصرية وأن حيث : مفعول به لترى وسهيل : مجرور بإضافة حيث إليه وطالعاً : حال من سهيل . ومجيء الحال من المضاف إليه وإن كان قليلاً فقد ورد منه كثيرٌ في الشعر .
قال تأبط شراً : الطويل
____________________

فبائساً : حالٌ من الياء .
قال أبو علي في المسائل الشيرازيات : قد جاء الحال من المضاف إليه في نحو ما أنشده أبو زيد : الكامل ( عوذٌ وبهثةٌ حاشدون عليهم ** حلق الحديد مضاعفاً يتلهب ) ومضاعفاً : حال من الحديد . اه .
وقال الشاطبي في شرح الألفية : مثل هذا إنما يكون على توهم إسقاط المضاف اعتباراً بصحة الكلام دونه . ومن هنا أجاز الفارسي في قول الشاعر : الطويل ( أرى رجلاً منهم أسيفاً كأنما ** يضم إلى كشحيه كفاً مخضبا ) أن يكون مخضباً حالاً من الهاء في كشحيه وهو مضاف ولكنه في تقدير : يضم إليه لأنه إذا ضمه إلى كشحيه فقد ضمه إليه فكأنه قال : يضم إليه فهو في التقدير حال من المجرور بحرفٍ وهو جائزٌ كما تقدم . وكذلك جعل مضاعفاً من قوله : حلق الحديد مضاعفاً يتلهب حالاً من الحديد . اه .
وكذلك المعنى هنا فجاء طالعاً حالاً من سهيل على توهم أنه مفعول وسقوط حيث فيكون نجماً على هذا بياناً لسهيل أو بدلاً منه . ويجوز أن يكون منصوباً على المدح . )
ونقل الدماميني في الحاشية الهندية عن شارح اللباب أن طالعاً : مفعول به ثان لترى أو حال من سهيل إن جعلت حيث صلة بمنزلة مقام في قوله : الوافر
____________________

نفيت عنه مقام الذئب وإن لم يجعل صلة يكون حالاً والعامل معنى الإضافة أي : مكاناً مختصاً بسهيل حال كونه طالعاً . ويجوز أن يكون حيث في البيت باقياً على الظرفية وحذف مفعول ترى نسياً كأنه قيل : أما تحدث الرؤية في مكان سهيل طالعاً اه .
قلت : جعل العامل معنى الإضافة غير مرضي عندهم وكذا القول بزيادة حيث والأولى أن تجعل الحال من ضميرٍ يعود إلى سهيل حذف هو وعامله للدلالة عليه أي : تراه طالعاً . هذا كلام الدماميني .
وقال اللبلي في شرح أدب الكاتب : من جر سهيل نصب طالعاً حالاً من حيث لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة .
والتقدير : حيث سهيل طالعاً فيه وحيث مفعول ترى . وإن جعلت ترى بمعنى تعلم كان طالباً مفعولاً ثانياً . ولا يجوز أن يكون حيث ظرفاً لفساد المعنى . اه .
وقال العيني : حيث معرب إما منصوبٌ على الظرفية أو على المفعولية ويكون ترى علمية مفعوله الأول حيث ومفعوله الثاني طالعاً أو تكون ترى بصرية
____________________

فتكون حيث : مفعولاً به وطالعاً : حالاً من حيث لا من سهيل لأن الحال من المضاف إليه ضعيفة . هذا كلامه .
وأما إن رفع سهيل فطالعاً حالٌ من ضمير خبر سهيل ونجماً منصوب على المدح . وسهيلٌ : نجمٌ عند طلوعه تنضج الفواكه وينقضي القيظ . والشهاب : شعلة من نار ساطعة أي : مرتفعة فيكون ساطعاً : حالاً مؤكدة . والهمزة في أما للاستفهام . وهذا الشعر لم أعرف قائله والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية : وأما قوله : البسيط ( وأنني حيث ما يدني الهوى بصري ** من حيث ما سلكوا أدنو فأنظور ) فمن جوز إضافته إلى المفرد فما : مصدرية أي : من حيث السلوك . ومن لا يجوز يجعله في محل المبتدأ وخبره محذوف فيكون مضافاً إلى الجملة أو ما زائدة . اه .
وقال أبو حيان في الارتشاف : والجملة التي تضاف إليها حيث شرطها أن تكون خبرية اسمية )
أو فعلية مثبتة مصدرة بماض أو مضارع مثبتين أو منفيين بلم أو لا . فأما قوله من حيث ما سلكوا فما زائدة .
وأنشد بعده الطويل
____________________

لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا صدر وعجزه : فشد ولم تفرغ بيوتٌ كثيرةٌ على أن حيث المضافة إلى الجملة والمفرد قد تفارق الظرفية فتجر كما في البيت فإنها في موضع جر بإضافة لدى إليها وقد تنصب على المفعولية كما في قوله تعالى : الله أعلم حيث يجعل رسالاته . وقد تنصب على التمييز كما في : هي أحسن الناس حيث نظر ناظرٌ يعني وجهاً .
قال ابن هشام في المغني : والغالب كونها في محل نصب على الظرفية أو خفض بمن وقد تخفض بغيرها كقوله : لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم وقد تقع مفعولاً به وفاقاً للفارسي وحمل عليه : الله أعلم حيث يجعل رسالاته إذ المعنى أنه تعالى يعلم نفس المكان المستحق لوضع الرسالة فيه لا شيئاً في المكان . وناصبها يعلم محذوفاً مدلولاً عليه بأعلم لا بأعلم نفسه لأن أفعل التفضيل لا ينصب المفعول به . فإن أولته بعالم جاز ( إن حيث استقر من أنت راعي ** هـ حمًى فيه عزةٌ وأمان ) لجواز تقدير حيث خبراً وحمى اسماً . فإن قيل : يؤدي إلى جعل المكان حالاً في
____________________

المكان . قلنا : هو نظير قولك : إن في مكة دار زيد . ونظيره في الزمان : إن في يوم الجمعة ساعة الإجابة . اه .
وقوله : والغالب كونها في محل نصب على الظرفية أو خفض بمن بقي عليه خفضها بالباء وبغيرها . قال أبو حيان في الارتشاف : إنها جرت بمن كثيراً وبفي شاذاً نحو : الطويل فأصبح في حيث التقينا شريدهم وب على . قال : الطويل سلامٌ بني عمرٍ و على حيث هامكم )
وب الباء نحو : الخفيف كان منا بحيث يعكى الإزار وب إلى نحو : إلى حيث ألقت رحلها أم قشعم وأضيفت لدى إليها في قوله : لدى حيث ألقت رحلها . وتمام الدليل في الآية أن يقال : لا يجوز أن تكون حيث ظرفاً لأن علم الله لا يختص بمكان دون مكان . ولا يجوز أن تكون مجرورة بإضافة أعلم إليها لأنها ليست بصفة وهي شرطٌ في إضافة أفعل التفضيل . ولا يجوز أن تكون منصوبة به لأن أفعل التفضيل لا يعمل النصب في الظاهر . وإذا بطل ذلك تعين أن يكون منصوباً على المفعول به بفعل مقدر دل عليه أعلم أي : الله أعلم يعلم حيث يجعل كقوله : الطويل
____________________

وأضرب منا بالسيوف القوانسا أي : أضرب منا يضرب القوانس بالسيوف .
وجوز السفاقسي أن تكون باقية على الظرفية قال : فإنه لا مانع من عمل أعلم في الظرف .
والذي يظهر لي أنه باق على ظرفيته والإشكال إنما يرد من حيث مفهوم الظرف وكم موضع ترك فيه المفهوم لقيام الدليل على تركه . وقد قدم الدليل القاطع في هذا الموضع . اه .
وقوله : لا دليل له في قوله إن حيث استقر إلخ يريد أن حيث فيه : ظرف وهو خبر مقدم وحمى : اسم إن مؤخر كقولهم : إن عندك زيداً . ويرد عليه أن هذا الحمل غير مراد وإنما المعنى : إن مكاناً استقر فيه جماعةٌ أنت راعيهم وحافظهم هو حمًى فيه العزة والأمان . فتأمل .
والحمى : المكان المحمي من المكروه .
وقد ذكر أبو حيان في تذكرته أن حيث : تقع اسماً لكأن وتقع مبتدأ وأورد مسائل تمرين لحيث فلا بأس بإيرادها هنا قال : إذا قيل : حيث نلتقي طيبٌ حكم على حيث بالرفع لأنه اسم المكان الذي خبره طيب وهو نائب عن موضعين أسبقهما محدود خبره طيب وآخرهما مجهول ناصبه نلتقي تلخيصه : الموضع الذي نلتقي فيه طيب . وقال الشاعر : الرجز
____________________

( كأن حيث نلتقي منه المحل ** من جانبيه وعلان ووعل ) ثلاثةً أشرفن في طودٍ عتل )
أنشد هذا الشعر هشام وقال : ثلاثة خبر كأن .
وإذا قيل : إن حيث زيد ضربت عمراً ففيها وجهان : رفع زيد ونصب عمرو ونصب زيد وعمرو . فعلى الأول أبطل إن في ظاهر الكلام ونصب عمراً بضربت ورفع زيداً بحيث لنيابة زيد عن محلين أسبقهما يطلبه الضرب وآخرهما يرفع زيداً وتقديرها : إن في المكان الذي فيه زيد ضربت زيداً .
والكسائي يقول : ليس لإن اسم ولا خبر . لأنها مبطلة عن ضربت إذ لم تكن من عوامل الأفعال . والبصريون يضمرون الهاء مع إن ويجعلون الجملة الخبر . والفراء يقول : ضربت سد مسد ضارباً أنا .
وقال هشام : يقال : حيث زيدٌ عمروٌ بفتح الثاء ورفع زيد وعمرو وحيث زيدٍ عمرو بفتح الثاء وخفض زيد . وأما الفتح مع رفع زيد فمفارقٌ للقياس يجري مجرى قول من يقول : حيث زيدٍ عمرو فيضم الثاء ويخفض بها زيداً قال : أما ترى حيث سهيلٍ طالعاً وقد حكوا عن العرب حيث سهيلٍ بضم الثاء وخفض سهيل وهو فاسد العلة لأن ضم الثاء يوجب رفع سهيل كما أن فتح الثاء يوجب به خفض سهيل . ولا ينبغي أن يبنى إلا على الأكثر والأعرف والأصح علة .
وإذا قيل : إن حيث أبوك كان أخوك رفع الأخ بكان وحيث خبر كان والأب رفع بحيث لنيابتها عن محلين أحدهما خبر كان والآخر رافع الأب وإن مبطلة عن كان والتقدير : إن في المكان الذي فيه أبوك كان أخوك .
ويجوز إن حيث أبوك كان أخاك فأخاك اسم إن وحيث خبر إن وأبوك رفع بالراجع من كان وحيث خبر كان والتقدير : إن أخاك في المكان الذي كان فيه أبوك .
وإذا قيل : إن حيث أبوك قائم أخاك جالس نصب الأخ بإن وجالس خبر إن ورفع قائم بالأب وحيث نائبة عن محلين : أحدهما : صلة الجالس وهو الأسبق وآخرها صلة قائم .
____________________


ويجوز : إن حيث أبوك قائماً أخاك جالس الأخ وجالس على ما كانا عليه والجواب الأول وقائماً نصبٌ على الحال من أبيك وحيث متضمنة لمحلين أولهما صلة الجالس وآخرهما رفع للأب . )
ويجوز : إن حيث أبوك قائماً أخاك جالساً أخاك : اسم إن وحيث خبر إن وهي رافع الأب .
وقائماً : حال الأب وجالساً : حال الأخ .
ويجوز : إن حيث أبوك قائم أخاك جالساً أخاك : اسم إن وحيث متضمن محلين أولهما خبر إن وآخرهما صلة قائم وقائم رفع بأبيك وجالساً نصب على الحال من أخيك . وإن فتحت ثاء حيث وأضيفت قيل : إن حيث أبيك قائماً أخاك جالسٌ وجالساً على التفسير المتقدم . انتهى ما أورده أبو حيان .
وقال في الارتشاف : لم يجىء فاعلاً ولا مفعولاً به ولا مبتدأ . وقد فرع الكوفيون صوراً على حيث منها : حيث نلتقي طيب .
ثم ذكر بعض ما أورده في التذكرة .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى ولا بد من إيراد شيء مما قبله ليتضح معناه وهذه أبيات مما قبله ومما بعده : ( لعمري لنعم الحي جر عليهم ** بما لا يؤتيهم حصين بن ضمضم ) ( وقال : سأقضي حاجتي ثم أتقي ** عدوي بألفٍ من ورائي ملجم ) ( فشد ولم تفزع بيوتٌ كثيرةٌ ** لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم ) ( لدى أسدٍ شاكي السلاح مقذفٍ ** له لبدٌ أظفاره لم تقلم )
____________________

( جريءٍ متى يظلم يعاقب بظلمه ** سريعاً وإلا يبد بالظلم يظلم ) أراد بالحي حي مرة من بني ذبيان . وجر : فعل ماض من الجريرة وهي الجناية . ويواتيهم : يوافقهم . وحصين بن ضمضم : هو ابن عم النابغة الذبياني وكانت جنايته أنه لما اصطلحت قبيلة ذبيان مع قبيلة عبس امتنع حصينٌ هذا من الصلح واستتر من القبيلتين لأن ورد بن حابس العبسي كان قتل هرم بن ضمضم وهو أخو حصين فحلف حصينٌ لا يغسل رأسه حتى يقتل ورداً أو رجلاً منهم .
ثم أقبل رجلٌ من بني عبس فنزل بحصين بن ضمضم فلما علم أنه عبسي قتله فكاد الصلح ينتقض فسعى بالصلح وتحمل الدية الحارث بن عوف وهرم بن سنان المريين . ولهذا مدحهم زهير بقوله : لنعم الحي .
وقد تقدم الكلام على هذه القصيدة وعلى سببها مفصلاً في الشاهد السادس والخمسين بعد )
المائة .
وقوله : وكان طوى كشحاً إلخ اسم كان ضمير حصين . والكشح : الخاصرة يقال : طوى كشحه على كذا أي : أضمره في نفسه . والمستكنة : المستترة . أي : أضمر على غدرةٍ مستترة .
وقوله : فلا هو أبداها أي : ما أظهر الغدرة المستكنة ولا تقدم فيها قبل الصلح .
وروى : ولم يتجمجم : بجيمين أي : لم يتنهنه عما أراد مما كتم . وقال الأعلم : أي : لم يدع التقدم فيما أضمر ولم يتردد في إنفاذه .
وشرح هذين البيتين تقدم في الشاهد السادس والأربعين بعد المائتين .
وقوله : وقال سأقضي حاجتي إلخ فاعل قال : ضمير حصين . وحاجته :
____________________

ما كان أضمره في نفسه من قتل عبسي وورائي أي : أمامي كقوله تعالى : وكان وراءهم ملكٌ وقوله : ومن ورائه عذابٌ . وملجم : يروى بكسر الجيم أي : بألف فارس ملجم فرسه . ويروى بفتح الجيم أي : بألف فرس ملجم وأراد بها فرسانها .
قال الأعلم : أي سأدرك ثأري ثم ألقى عدوي بألف فارس أي : أجعلهم بيني وبين عدوي .
يقال : اتقاه بحقه أي جعله بينه وبينه . وجعل ملجماً على لفظ ألف فذكره ولو كان في غير الشعر لجاز تأنيثه على المعنى . اه . وذلك لأن فرساً مما يذكر ويؤنث .
وقوله : فشد إلخ أي : حمل حصينٌ على ذلك الرجل العبسي فقتله ولم تفزع بيوت كثيرة أي : لم يعلم أكثر قومه بفعله وأراد بالبيوت أحياءً وقبائل . يقول : لو علموا بفعله لفزعوا أي : لأغاثوا الرجل العبسي ولم يدعوا حصيناً يقتله . وإنما أراد زهير بقوله هذا أن لا يفسدوا صلحهم بفعله .
وقوله : حيث ألقت رحلها أي : حيث كان شدة الأمر يعني موضع الحرب . وأم قشعم : كنية الحرب ويقال : كنية المنية .
والمعنى : أن حصيناً شد على الرجل العبسي فقتله بعد الصلح وحين حطمت رحلها الرحب ووضعت أوزارها وسكنت . ويقال : هو دعاء على حصين أي : عدا على الرجل العبسي بعد الصلح وخالف الجماعة فصيره الله إلى هذه الشدة ويكون معنى ألقت رحلها على هذا : ثبتت وتمكنت .
هذا كلام الأعلم في شرح الأشعار الستة . وتفزع على روايته بالبناء للفاعل .
وقال التبريزي في شرح المعلقة : معناه شد على عدوه وحده فقتله ولم تفزع العامة بطلب واحد )
وإنما قصد الثأر أي : لم يستعن على قتله بأحد .
____________________


ونقل صعوداء في شرح ديوان زهير عن قوم : أن أم قشعم على هذه الرواية هي أم حصين أي : فلم تفزع البيوت التي بحضرة بيت أمه لأنه أخذ ثأره . ف لدى على قول الأعلم ظرف متعلق بشد وعلى قول صعوداء يكون لدى متعلقاً بمحذوف على أنه صفة ثانية لبيوت أو حالٌ منه .
وروى الزوزني : ولم يفزع بيوتاً على أن فاعله ضمير حصين وقال : أي : لم يتعرض لغيره عند ملقى رحل المنية . وملقى الرحال : المنزل لأن المسافر يلقي به رحله أي أثاثه ومتاعه . أراد : عند منزل المنية . وجعله منزل المنية لحلولها فيه . فعلى هذا يكون لدى متعلقاً ب تفزع مضارع أفزعه أي : أخافه بخلاف الأول فإنه مضارع بمعنى أغاث أو علم .
والمشهور رواية فشد ولم ينظر بيوتاً كثيرة فيكون فاعل ينظر أيضاً ضمير حصين ثم اختلفوا فرواه صعوداء بفتح أوله وقال : لم ينظر أي : لم ينتظر يقال : نظرت الرجل أي : انتظرته . وعلى هذا يكون المعنى : لم ينتظر حصين أن ينصره قومه على أخذ ثأره .
وروى أبو جعفر : ولم ينظر بضم أوله وكسر ثالثه وقال : معناه : لم يؤخر حصينٌ أهل بيت قاتل أخيه في قتله لكنه عجل فقتله . فيكون ينظر مضارع أنظره بمعنى أمهله وأخره .
وعلى هذين الوجهين يكون لدى متعلقاً بشد وكذلك على قول من فسر أم قشعم بالعنكبوت وهو أبو عبيدة أو بالضبع كما نقله صعوداء .
ويكون المعنى : فشد على صاحب ثأره بمضيعةٍ من الأرض . قال صعوداء : أم قشعم عند الأصمعي : الحرب الشديدة . ومن جعلها العنكبوت أو الضبع فمعناه وجده بمضيعةٍ فقتله .
____________________


وقال ابن الأثير في المرصع : أم قشعم هي المنية والداهية والحرب والنسر والعنكبوت لدى حيث ألقت رحلها أم قشعم هذا كلامه .
وقشعم : فعلمٌ من قشعت الريح التراب فانقشع وأقشع القوم عن الشيء وتقشعوا إذا تفرقوا عنه وتركوه .
وقوله : لدى أسدٍ شاكي السلاح إلخ هذا البيت في الظاهر غير مرتبط بما قبله ولا يعرف متعلق لدى أسدٍ . وقد فحصت عنه فلم أجد من ربطه بما قبله مع أنه من أبيات علم المعاني أورد شاهداً لجواز الجمع بين التجريد والترشيح . )
وقد رجعت إلى معاهد التنصيص للعباسي فلم أر فيه غير هذه الأبيات ولم يتكلم عليها بشيءٍ ففزعت إلى قريحتي وأعملت الفكرة فأرشدني الله إلى وجهه وهو أن لدى أسد متعلق بألقت رحلها أم قشعم على تفسير أم قشعم بالحرب ومعنى ألقت رحلها : حطت رحلها الحرب ووضعت أوزارها وسكنت فيكون الإلقاء عبارة عن السكون والهدوء كما قال الشاعر : الطويل ( فألقت عصاها واستقر بها النوى ** كما قر عيناً بالإياب المسافر ) ويكون المراد من الأسد الحارث بن عوفٍ المري فإنه هو الذي أطفأ نار الحرب بين عبس وذبيان بعد ما جرى بينهما في يوم داحس وسعى في الصلح بينهما بتحمل الديات مع ابن عمه هرم بن سنان المري . وعلى هذا يتضح الارتباط ويضمحل ما فسر به أم قشعم من سائر المعاني ولله الحمد والمنة .
وقال الزوزني : البيت كله من صفة حصين بن ضمضم .
____________________


وقال الأعلم والتبريزي أراد بقوله : لدى أسد : الجيش . وحمل لفظ البيت على الأسد .
ولا يخفى أنه لا يصح الارتباط بكل من هذين القولين .
وقوله : شاكي السلاح وهو مقلوب شائك كما بين في الصرف أي : سلاحه شائكة حديدة ذات شوكة .
والمقذف بصيغة اسم المفعول قال الأعلم وأبو جعفر : هو الغليظ الكثير اللحم فيكون ترشيحاً . كقوله : له لبدٌ إلخ .
وقال الزوزني : أي : يقذف به كثيراً إلى الوقائع والحروب فعلى هذا يكون تجريداً كشاكي السلاح . وروى صعوداء والتبريزي : مقاذف بكسر الذال وفسراه : بمرامٍ أي : يرامى بنفسه في الحروب . وهذا تجريد أيضاً .
وقوله : له لبد هو بكسر اللام وفتح الموحدة جمع لبدة . قال الأعلم : اللبدة : زبرة الأسد .
والزبرة : شعر متلبد متراكب بين كتفي الأسد إذا أسن . وأراد بالأظفار السلاح . يقول : سلاحه تام حديد . وأول من كنى بالأظفار عن السلاح أوس بن حجر في قوله : الطويل ( لعمرك إنا والأحاليف هؤلا ** لفي حقبةٍ أظفارها لم تقلم ) ثم تبعه زهيرٌ والنابغة في قوله : الكامل )
آتوك غير مقلمي الأظفار اه .
____________________


وقوله : جريء هو وصف أسد ويظلم الأول ويبد كلاهما بالبناء للمفعول ويعاقب ويظلم الثاني بالبناء للفاعل .
قال الأعلم : قوله وإلا يبد بالظلم إلخ . يقول : إن لم يظلم بدأهم بالظلم لعزة نفسه وجراءته .
ومتى جازم لفعلين . وسريعاً إما حال من ضمير يعاقب وإما مفعول مطلق أي : عقاباً سريعاً .
ويبد أصله يبدأ بالهمزة فأبدلها ألفاً ثم حذفت الألف للجازم .
وقد أورده الشارح المحقق في أول شرح الشافية لما ذكرنا .
وترجمة زهير بن أبي سلمى تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده المديد ( للفتى عقلٌ يعيش به ** حيث تهدي ساقه قدمه ) على أن الأخفش قال : إن حيث قد تأتي بمعنى الحين أي : ظرف زمان كما في هذا البيت .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : زعم أبو الحسن أن حيث قد يكون اسماً للزمان وأنشد : للفتى عقلٌ يعيش به . . . . . . . . . . . . البيت فجعل حيث فيه حيناً .
فإن قلت : فهل يجوز على هذا أن يكون موضع الجملة بعد حيث جراً لإضافة حيث إليه كما تضاف أسماء الزمان إلى الجمل فالجواب : أن ذلك لا يمتنع فيه إذا كان زماناً . اه .

____________________

وقال ابن مالك : لا حجة للأخفش فيه لجواز إرادة المكان على ما هو أصله .
ويدل لما قاله أن المعنى على الظرفية المكانية إذ المعنى : أين مشى لا حين مشى .
وقال ابن هشام في المغني : وإذا اتصل بحيث ما الكافة ضمنت معنى الشرط وجزمت الفعلين كقوله : الخفيف ( حيثما تستقم يقدر لك الل ** هـ نجاحاً في غابر الأزمان ) وهذا البيت دليلٌ عندي على مجيئها للزمان . قال الدماميني في الحاشية الهندية : كأن ذلك جاء من قبل قوله : في غابر الأزمان فصرح بالزمان . وليس بقاطع فإن الظرف المذكور إما لغو )
متعلق بيقدر وإما مستقر صفة لنجاحاً .
وذلك لا يوجب أن يكون المراد بحيث الزمان لاحتمال أن يكون المراد : أينما تستقم يقدر لك النجاح في الزمان المستقبل .
وقوله : حيث تهدي قال في الصحاح : وهداه أي : تقدمه . وأنشد البيت . وساقه : مفعول مقدم وقدمه : فاعل مؤخر .
والبيت آخر قصيدة عدتها ثلاثةٌ وعشرون بيتاً لطرفة بن العبد .
وأورد أبو عبيدٍ في الغريب المصنف البيت الذي قبل هذا فلنقتصر عليه وهو : ( الهبيت لا فؤاد له ** والثبيت ثبته فهمه ) قال أبو عبيد : الهبيت : الذاهب العقل . وقال شارح أبياته ابن السيرافي : المعنى أن الجبان يذهب عقله ويطير قلبه من الفزع فلا يهتدي للصواب والثابت القلب يعرف وجه الرأي فيأتيه .
وقوله : للفتى عقل أي : للفتى العاقل عقلٌ يعيش به أين توجه انتفع به . اه .
____________________


وقال ابن السكيت في شرح ديوانه : الهبيت : الذي فيه هيبة أي : ضربةٌ بالعصا . وقال أبو عمرو : الهبيت المبهوت جبناً . ويروى : والثبيت قلبه قيمه أي : قوامه . وقوله : حيث تهدي وقال الأعلم في شرحٍ الأشعار الستة : الهبيت : المبهوت يقال : رجل هبيت ومهبوت ومبهوت بمعنى وهو الجبان المخلوع الفؤاد . وقوله : والثبيت ثبته فهمه أي : من كان ثابت القلب ففهمه يثبت عقله . وهذا مثلٌ ضربه لشدة الحرب . وقوله : للفتى عقل يقول من كان عاقلاً وفتًى متصرفاً عاش حيثما نقلته قدمه وذهبت به من أرض غربة وغيرها . اه .
وكلهم حملوا حيث على أصلها كما هو ظاهر من كلامهم .
وترجمة طرفة تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : البسيط ( ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي ** ناراً إذا خمدت نيرانهم تقد ) على أن إذا قد تجزم في الشعر فعلين كما هنا فإن جملة خمدت في محل جزم شرط إذا وتقد جوابها وهو مجزوم وكسرة الدال للروي .
قال سيبويه : وقد جاوزا بها أي : بإذا في الشعر مضطرين شبهوها بإن حيث رأوها لما
____________________

( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) وقال الفرزدق : ترفع لي خندفٌ والله يرفع لي . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعض السلوليين : الطويل ( إذا لم تزل في كل دارٍ عرفتها ** لها واكفٌ من دمع عينيك يسجم ) فهذا اضطرارٌ وهو في الكلام خطأ ولكن الجيد قول كعب بن زهير : الخفيف ( وإذا ما تشاء تبعث منها ** مغرب الشمس ناشطاً مذعورا ) اه .
وقوله : إذا قصرت أسيافنا إلخ يأتي شرحه إن شاء الله بعد بيت الفرزدق .
وقوله : ترفع لي خندفٌ إلخ قال الأعلم : الشاهد فيه جزم تقد على جواب إذا لأنه قدرها عاملةً عمل إن ضرورةً . يقول : ترفع لي قبيلتي من الشرف ما هو في الشهرة كالنار الموقدة إذا قعدت بغيري قبيلته . وخندف : أم مدركة وطابخة ابني إلياس فلذلك فخر بخندفٍ على قيس عيلان بن مضر .
وقوله : إذا لم تزل في كل دار إلخ قال الأعلم : الشاهد في جزم تسجم على جواب إذا كما تقدم . وتقدير لفظ البيت : إذا لم تزل في كل دار عرفتها من ديار الأحبة يسجم لها واكفٌ من دمع عينيك . ومعنى يسجم ينصب . والواكف : القاطر . ورفعه بإضمار فعلٍ دل عليه يسجم .
ويجوز أن يكون مرتفعاً به على التقديم
____________________

والتأخير ضرورة . ويروى : يسكب .
والبيت لجرير في قصيدة بائية ونسب إلى غيره في الكتاب وغيرت قافيته غلطاً . ويحتمل أن يكون لغيره من قصيدة ميمية . )
وقوله : وإذا ما تشاء تبعث إلخ قال الأعلم : الشاهد فيه رفع ما بعد إذا على ما يجب فيها .
وصف ناقته بالنشاط والسرعة بعد سير النهار كله فشبهها في انبعاثها مسرعةً بناشط قد ذعر من صائدٍ أو سبع . والناشط : الثور يخرج من بلد إلى بلد فذلك أوحش له وأذعر . انتهى .
وروى بيت الفرزدق إذا ما خبت نيرانهم تقد . وعليه فلا ضرورة فيه . ووقع بهذه الرواية في بعض نسخ اللباب وقال : إنه قليل .
قال شارحه الفالي : هذا البيت لم يوجد مذكوراً في نسخة مقابلة بنسخه المصنف والظاهر أنه إلحاق والصواب إذا خمدت لأن إذا بدون ما هو المبحث وأما مع ما فتجويز الجزم به قد لا يستبعد لأن إذ مع ما جوز الجزم بها فإذا مع ما أجدر . انتهى .
ولم يرتض الشارح المحقق الجزم بإذا ما أيضاً كما سيأتي في آخر الكلام على إذا وإذ .
وقوله : ترفع لي خندف بكسر الخاء المعجمة والدال قال ابن هشام في السيرة : قال ابن إسحاق : ولد إلياس بن مضر ثلاثة نفر : مدركة بن إلياس وطابخة بن إلياس وقمعة بن إلياس بكسر القاف وتشديد الميم المفتوحة وأمهم خندف : امرأة من اليمن وهي خندف بنت الحاف بن قضاعة . انتهى .
____________________


والخندفة : مشيةٌ كالهرولة ومنه سميت خندف واسمها ليلى نسب ولد إلياس إليها وهي أمهم . وإنما افتخر بها الفرزدق لأنه تميمي ونسب تميم ينتمي إليها . وتنوين خندف للضرورة .
وقوله : والله يرفع لي أي : إن الرافع في الحقيقة هو الله . وخمدت النار خموداً من باب قعد : ماتت فلم يبق منها شيء وقيل : سكن لهبها وبقي جمرها .
وأما خبت النار خبواً من باب قعد أيضاً فمعناه خمد لهبها . وتقد مضارع وقدت النار وقداً من باب وعد ووقوداً أي : اشتعلت .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس بعد الخمسمائة )
____________________

( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) على أن إذا جازمة للشرط والجزاء في ضرورة الشعر بدليل جزم نضارب بالعطف على موضع جملة كان وصلها إلخ الواقعة جواباً ل إذا .
ولولا أن جملة الجواب في موضع جزم لما عطف عليه نضارب مجزوماً . وأما كسرة الباء فهي للروي .
والبيت الذي قبل هذا ظهر أثر الجزم فيه على نفس الجواب بخلاف هذا البيت فإنه ظهر أثره في تابعه ولهذا قدمه على هذا البيت . وقد تقدم نقل كلام سيبويه .
وإلى : متعلقة بوصلها . ويجوز أن يكون متعلقاً بالخطا . والمعنى : فنخطو إلى أعدائنا . كذا قال اللخمي .
وفيه على الأول الفصل بين المصدر ومعموله بمعمول غيره لأن خطانا خبر كان والعامل في إذا شرطها لأنها ليست حينئذ مضافة إليه .
قال اللخمي : ويجوز أن يكون العامل كان .
وقال الأعلم : يقول : إذا قصرت أسيافنا في اللقاء عن الوصول إلى الأقران وصلناها بخطانا مقدمين عليهم حتى ننالهم .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : معنى البيت : إذا ضاقت الحرب عن مجال الخيل واستعمال الرماح نزلنا للمضاربة بالسيوف فإن قصرت عن إدراك الأقران خطونا إليهم إقداماً عليهم فألحقناها بهم . انتهى .
قال ابن الشجري في أماليه : وإنما لم يجزموا بإذا في حال السعة كما
____________________

جزموا بمتى لأنه خالف إن من حيث شرطوا به فيما لا بد من كونه كقولك : إذا جاء الصيف سافرت وإذا انصرم الشتاء قفلت . ولا تقول : إن جاء الصيف ولا إن انصرم الشتاء لأن الصيف لا بد من مجيئه والشتاء لا بد من انصرامه .
وكذا لا تقول : إن جاء شعبان كما تقول إذا جاء شعبان . وتقول : إن جاء زيدٌ لقيته فلا تقطع بمجيئه . فإن قلت إذا جاء قطعت بمجيئه . فلما خالفت إذا إن فيما تقتضيه إن من الإبهام لم يجزموا بها في سعة الكلام . انتهى . )
والبيت من قصيدةٍ بائية مجرورةٍ لقيس بن الخطيم ووقع أيضاً في شعرٍ رويه مرفوع .
أما القصيدة المجرورة فعدتها ثمانية وثلاثون بيتاً أوردها محمد بن المبارك بن محمد بن ميمون في منتهى الطلب من أشعار العرب ذكر فيها يوم بعاث وكان قبل الإسلام بقريب .
ومطلعها : ( ديار التي كادت ونحن على منًى ** تحل بنا لولا نجاء الركائب ) ( تبدت لنا كالشمس تحت غمامةٍ ** بدا حاجبٌ منها وضنت بحاجب ) إلى أن قال : ( إذ ما فررنا كان أسوا فرارنا ** صدود الخدود وازورار المناكب ) ( صدود الخدود والقنا متشاجرٌ ** ولا تبرح الأقدام عند التضارب ) إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . البيت
____________________

قال ابن السيد : وروي : إلى أعدائنا للتقارب فلا شاهد فيه . وروي أيضاً : وإن قصرت أسيافنا فنضارب بالرفع على الإقواء . وأسوا أصله مهموز فأبدل الهمزة ألفاً بمعنى أقبح .
يقول : لا نفر في الحر بأبداً وإنما نصد بوجوهنا ونميل مناكبنا عند اشتجار القنا أي : تداخل بعضها في بعض . وهذا لا يسمى فراراً وإنما يسمى اتقاءً . وهذا ممدوحٌ في الشجعان أي : فإن كان يقع منا فرارٌ في الحرب فهو هذا لا غير .
وأما الذي رويه مرفوع فقد وقع في شعرين أحدهما في قصيدة للأخنس بن شهاب التغلبي أولها : ( لابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ ** كما رقش العنوان في الرق كاتب ) ( فوارسها من تغلب ابنة وائلٍ ** حماةٌ كماةٌ ليس فيها أشائب ) وإن قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت هكذا رواه المفضل بإن بدل إذا ولكن روى المصراع الثاني كذا : خطانا إلى القوم الذين نضارب ورواه أبو تمام أيضاً ب إن إلا أنه رواه إلى أعدائنا فنضارب فيكون نضارب خبر مبتدأ محذوف أي : فنحن نضارب .
____________________


والقصيدة في رواية المفضل الضبي في المفضليات سبعة وعشرون بيتاً وشرحها ابن الأنباري . )
ورواها أبو عمرٍ و الشيباني في أشعار تغلب ثلاثين بيتاً . وأوردها أبو تمام في الحماسة ثلاثة وعشرين بيتاً . ونقلها الأعلم الشنتمري في حماسته . وهذا مطلعها عنده : ( فمن يك أمسى في بلادٍ مقامه ** يسائل أطلالاً بها ما تجاوب ) فلابنة حطان بن عوفٍ منازلٌ . . . . . . . . . . . . البيت وأورد منها في مختار أشعار القبائل سبعة أبيات لا غير .
وأما الشعر الثاني فهو من قصيدةٍ عدتها أربعة وعشرون بيتاً لرقيم أخي بني الصادرة .
وأوردها أبو عمرو الشيباني في أشعار قبيلة محارب بن خصفة بن قيس عيلان وهي عندي في نسخة قديمة تاريخ كتابتها في صفر سنة إحدى وتسعين ومائتين وكاتبها أبو عبد الله الحسين بن أحمد الفزاري قال : نقلتها من نسخة أبي الحسن الطوسي وقد عرضت على ابن الأعرابي .
وهذا أولها : الطويل ( عفت ذروةٌ من آل ليلى فعازب ** فميث النقا من أهله فالذنائب ) وهذه أسماء أماكن أربعة . إلى أن قال : ( وقد علمت قيس بن عيلان أننا ** لنا في محليها الذرى والذوائب )
____________________

( وإنا لنقري الضيف من قمع الذرا ** إذا أخلفت أنواءهن الكواكب ) ( ونحن بنو الحرب العوان نشبها ** وبالحرب سمينا فنحن محارب ) ( إذا قصرت أسيافنا كان وصلها ** خطانا إلى أعدائنا فنضارب ) ( فذلك أفنانا وأبقى قبائلاً ** توقوا بنا إذ قارعتنا الكتائب ) ( نقلب بيضاً بالأكف صوارماً ** فهن لهامات الرجال عصائب ) ثم ذكر حروبهم وغلبتهم فيها وختم القصيدة بقوله : ( فتلك مساعينا لمن رام حربنا ** إذا ما التقت عند الحفاظ الكتائب ) وأورد أبو محمد الأعرابي الأسود في كتاب ضالة الأديب أربعة أبيات من هذه القصيدة ولم ( تمنى دريد أن يلاقي ثلةً ** فقارعه من دون ذاك الكتائب ) ( فنحن قتلنا بكره وابن أمه ** ونحن طعنا في استه وهو هارب ) ونحن بنو الحرب العوان نشبها . . . . . . . . . . . . البيت إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت )
والبيتان الأولان غير مذكورين في رواية أبي عمرو الشيباني والظاهر أنهما من قصيدةٍ لآخر لأن رقيماً قال في قصيدته : ( ويوم دريدٍ قد تركناه ثاوياً ** به دامياتٌ في المكر جوالب ) وقال أبو محمد الأعرابي : سبب هذا الشعر أن دريد بن الصمة هجا زيد بن سهل المحاربي في قصيدة قالها دريد حين غزا غطفان غزوة ثانية فأغار على بني ثعلبة بن سعد بن ذبيان فهرب عياض بن ناشب الثعلبي ثم غزاهم فأغار على أشجع فلم يصبهم فقال دريد في ذلك : ( قتلنا بعبد الله خير لداته ** ذؤاب بن أسماء بن زيد بن قارب ) وهي ثمانية عشر بيتاً ومنها :
____________________

( تمنيتني زيد بن سهلٍ سفاهةً ** وأنت امرؤٌ لا تحتويك مقانب ) ( وأنت امرؤٌ جعد القفا متعكسٌ ** من الأقط الحولي شبعان كانب ) وهذان البيتان بالرفع على الإقواء . والمتعكس : المتثني غضون القفا . والكانب بالنون : الممتلئ الغليظ . وآخرها : الطويل ( فليت قبوراً بالمراضين حدثت ** بشدتنا في الحي حي محارب ) قال أبو محمد : ولما ذكر دريد محارباً قال بعضهم يرد عليه . وذكر الأبيات الأربعة .
وقد أورد الشريف الحسيني هبة الله في حماسته البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة التي رواها أبو عمرٍ و الشيباني ونسبها لسهم بن مرة المحاربي وهي : إذا قصرت أسيافنا كان وصلها . . . . . . . . . . . . البيت ونحن بنو الحرب العوان نشبها . . . . . . . . . . . . البيت فذلك أفنانا وأبقى قبائلاً . . . . . . . . . . . . البيت والله أعلم بحقيقة الحال .
فظهر مما ذكرنا أن البيت من ثلاث قصائد .
قال ثعلب : هذا البيت يتنازعه الأنصار وقريش وتغلب . وزعمت علماء الحجاز أنه لضرار بن الخطاب الفهري أحد بني محارب من قريش .
____________________


وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : هو للأخنس بن شهاب قال : هو أول العرب وصل قصر وإن قصرت أسيافنا . . . . . . . . . . . . البيت )
ومنه استرق كعب بن مالك الأنصاري صلة السيوف فقال : ( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا ** قدماً ونلحقها إذا لم تلحق ) انتهى .
وهذا هو الصحيح لأنه قاله قبل أن يخلق هؤلاء بدهرٍ كما سيأتي . ومنه تعلم خطأ جماعةٍ اعترضوا على سيبويه في روايته البيت بالكسر منهم ابن هشام اللخمي قال في شرح أبيات الجمل : روى سيبويه هذا البيت بكسر الباء من نضارب على أن يكون معطوفاً على موضع كان والبيت من شعرٍ كله مرفوع .
وكذلك أدخله أبو تمام في حماسته فيحتمل أن يكون سيبويه رواه مقوًى لقيس بن الخطيم والصحيح أنه للأخنس بن شهاب . هذا كلامه .
واعلم أن جماعةً من الشعراء تداولوا هذا المعنى وقد أوردنا جملةً مما قالوه في الشاهد السادس والخمسين بعد الأربعمائة عند بيت كعب بن مالك الأنصاري .
وزعم المبرد في الكامل أن قول أبي مخزوم النهشلي : البسيط ( إذا الكماة تنحوا أن ينالهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) وممن تبع الأخنس بن شهاب في المعنى حناك بن سنة العبسي الجاهلي وهو بكسر المهملة وتخفيف النون وآخره كاف وسنة بفتح السين المهملة وتشديد النون قال : الكامل
____________________

( أبني جذيمة نحن أهل لوائكم ** وأقلكم يوم الطعان جبانا ) ( كانت لنا كرم المواطن عادةً ** نصل السيوف إذا قصرن خطانا ) أوردهما الآمدي في المؤتلف والمختلف .
ومنهم : أبو قيس بن الأسلت الأنصاري قال : السريع ( والسيف إن قصره صانعٌ ** طوله يوم الوغى باعي ) ومنهم : وداك بن ثميل المازني قال : الطويل ( مقاديم وصالون في الروع خطوهم ** بكل رقيق الشفرتين يماني ) ومنهم : نهشل بن حري قال : الطويل ( فتًى كان للرمح الأصم محطماً ** طعاناً وللسيف القصير مطيلا ) ومنهم : عبيد الله بن الحر الجعفي قال : الطويل ) ( إذا أخذت كفي بقائم مرهفٍ ** وكان قصيراً عاد وهو طويل ) ومنهم : نابغة بني الحارث بن كعب واسمه يزيد بن أبان قال : الكامل ومنه قول عبد الرحمن بن سلامة الحاجب : الوافر ( ويومٍ تقصر الآجال فيه ** نطاوله بأرماحٍ قصار ) وقال آخر : الطويل ( تطيل السيوف المرهفات لدى الوغى ** خطانا إذا ارتدت خطًى وسيوف ) وقد أخذه مسلم بن الوليد وزاد فيه وأجاد : البسيط
____________________

( إن قصر السيف لم يمش الخطى عدداً ** أو عرد السيف لم يهمم بتعريد ) قال ابن الأثير : في المثل السائر في السرقات الشعرية : الضرب السادس : السلخ وهو أن يؤخذ المعنى فيزاد عليه معنًى آخر . فمما جاء منه قول الأخنس بن شهاب وأخذه مسلم بن الوليد فزاد عليه . وأنشد البيتين .
وأخطأ الخالديان في شرح ديوان مسلم في زعمهما أن مسلماً أخذه من قيس بن الخطيم .
وروى أبو إسحاق إبراهيم بن علي الحصري في كتاب الجواهر في الملح والنوادر أن بعض الأمراء أعطى سيفاً لرجل فقال : هو قصير . قال : صله بخطوتك . قال : الصين أقرب من تلك الخطوة ومثله ما رواه الخالديان قالا : روي أن المهلب نظر إلى سيف مع بعض ولده فقال له : إن سيفك لقصير . قال : ليس بقصيرٍ من يصله بخطوه . فقال بعض من حضر المجلس : تلك الخطوة وروي أن الحجاج سأل المهلب أن يريه سيفه فلما نظر إليه قال : يا أبا سعد إن سيفك لقصير . قال : إذا كان في يدي فلا .
وأما قيس بن الخطيم فهو شاعرٌ فارس أنصاري مات كافراً .
قال ابن حجر في الإصابة : قيس بن الخطيم الأنصاري ذكره علي بن سعد العسكري في الصحابة وهو وهمٌ فقد ذكر أهل المغازي أنه قدم مكة فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام وتلا عليه القرآن فقال : إني لأسمع كلاماً عجيباً فدعني أنظر في أمري هذه السنة ثم أعود إليك . فمات قبل الحول . وهذا
____________________

هو الشاعر المشهور وهو من الأوس وله في وقعة بعاث التي كانت بين الأوس والخزرج قبل الهجرة أشعارٌ كثيرة . انتهى .
والخطيم بفتح الخاء المعجمة وكسر الطاء المهملة . )
وهذه نسبته : قيس بن الخطيم بن عدي بن عمرو بن سواد بن ظفر وظفر هو كعب ابن الخزرج بن عمرو بن مالك بن أوس بن حارثة بن ثعلبة العنقاء بن عمرو بن عامر وهو ماء السماء بن حارثة الغطريف .
وقيسٌ شاعر الأوس وهو القائل : الطويل ( طعنت ابن عبد القيس طعنة ثائرٍ ** لها نفذٌ لولا الشعاع أضاءها ) ( وكنت امرأٌ لا أسمع الدهر سبةً ** أسب بها إلا كشفت غطاءها ) ( وإني في الحرب الضروس موكلٌ ** بإقدام نفسٍ لا أريد بقاءها ) ( إذا سقمت نفسي إلى ذي عداوةٍ ** فإني بنصل السيف باغٍ دواءها )
____________________

( متى يأت هذا الموت لم تبق حاجة ** لنفسي إلا قد قضيت قضاءها ) وقائم فاعل يرى . ودون و وراء من الأضداد فإن كان الأول بمعنى قدام كان الآخر بمعنى خلف وإن كان الأول بمعنى خلف كان الثاني بمعنى قدام .
وملكت بمعنى شددت وضبطت . وأنهرت : أوسعت . وقد ضمن المصراع الصفي الحلي في قوله : الطويل ( تزوج جاري وهو شيخٌ صبيةٌ ** فلم يستطع غشيانها حين جاءها ) ( ولو أنني بادرتها لتركتها ** يرى قائمٌ من دونها ما وراءها ) وابن عبد القيس الذي قتله هو رجلٌ من قبيلة عبد القيس . كان قتل أباه الخطيم فأخذ ثأره منه .
ومن شعر قيس : الوافر ( وما بعض الإقامة في ديارٍ ** يهان بها الفتى إلا عياه ) ( وكل شديدةٍ نزلت بقومٍ ** سيأتي بعد شدتها رخاء ) ( ولا يعطى الحريص غنًى بحرصٍ ** وقد ينمي على الجود الثراء )
____________________

( غناء النفس ما عمرت غناء ** وفقر النفس ما عمرت شقاء ) ( وليس بنافعٍ ذا البخل مالٌ ** ولا مزر بصاحبه السخاء ) ( وبعض الداء ملتمسٌ شفاه ** وداء النوك ليس له شفاء ) قال صاحب الأغاني : قيس بن الخطيم هذا هو صاحب المنافسات مع حسان ابن ثابت . )
وذلك أن حساناً كان يذكر ليلى بنت الخطيم أخت قيس في شعره وكان قيس يذكر في شعره امرأته عمرة كما ذكرها في مطلع قصيدة البيت الشاهد .
وحكى المفضل قال : لما هدأت حرب الأوس والخزرج تذكرت الخزرج قيس ابن الخطيم ونكايته فيهم فتواعدوا إلى قتله فخرج عشيةً من منزله يريد مالاً له الشوط حتى مر بأطم بني حارثة فرمي منهم بثلاثة أسهم فوقع أحدها في صدره فصاح صيحةً سمعها رهطه فجاؤوه وحملوه إلى منزله فلم يروا له كفئاً إلا أبا صعصعة بن زيد بن عوف من بني النجار .
فاندس إليه رجلٌ حتى اغتاله في منزله فضرب عنقه واشتمل على رأسه وأتى به قيساً وهو بآخر رمقٍ فألقاه بين يديه وقال : يا قيس قد أدركت بثأرك . فقال : عضضت بأير أبيك إن كان غير أبي صعصعة فقال : هو أبو صعصعة . وأراه الرأس فلم يلبث أن مات على كفره قبل قدوم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة .
وأما الأخنس بن شهاب فقد قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : هو الأخنس بن شهاب بن ثمامة بن أرقم بن حزابة بن الحارث بن نمير بن أسامة بن
____________________

بكر بن معاوية بن غنم بن تغلب .
والأخنس شاعر جاهلي قبل الإسلام بدهر . انتهى .
وأما رقيم أخو بني الصادرة المحاربي فالظاهر أنه شاعرٌ إسلامي لأن أبا عمرو الشيباني قال بعد تلك القصيدة : وقال رقيم أيضاً وكان سعد بن معاذٍ الأنصاري خاله : الرجز ( اهتز عرش الله ذي الجلال ** لموت خالي يوم مات خالي ) ورقيم بضم الراء وفتح القاف . والصادرة اسمه سعد بن بذاوة بن ذهل بن خلف بن محارب .
كذا في جمهرة الأنساب .
ولم يذكره ابن حجر في الإصابة . فإذا لم يكن صحابياً ولا مخضرماً يكون تابعياً ويكون سعد بن معاذ خال أبيه أو خال إحدى أمهاته . والله أعلم .
وقد أورد ابن حجر من اسمه رقيم من الصحابة لكنه أنصاري لا محاربي . قال : أبو ثابت رقيم بن ثابت بن ثعلبة الأنصاري الأوسي استشهد بالطائف .
إذا الخصم أبزى مائل الرأس أنكب على أن وقوع الجملة الاسمية بعد إذا شاذ .
وتقدم ما يتعلق في الشاهد التاسع والخمسين بعد المائة . وهذا عجزٌ وصدره : )
____________________


فهلا أعدوني لمثلي تفاقدوا وهو من أبيات مذكورة في الحماسة وقد شرحناها هناك .
وإذا : ظرفٌ لأعدوني . وجملة : تفاقدوا اعتراضٌ بينهما . يقول : هلا جعلوني عدةً لرجل مثلي فقد بعضهم بعضاً وهلا ادخروني ليوم الحاجة إذا كان الخصم هكذا متأخر العجز مائل الرأس منحرفاً .
وهذا تصويرٌ لحال المقاتل إذا انتصب في وجه مقصوده . ورجلٌ أبزى بالزاء المعجمة : يخرج صدره ويدخل ظهره . وأبزى هنا مثلٌ ومعناه الراصد المخاتل لأن المخاتل ربما انثنى فيخرج عجزه .
وفسره أبو رياش بقوله : تحامل على خصمه ليظلمه . فجعل أبزى فعلاً ماضياً وإنما المعروف بزوت الرجل ومنه اشتقاق البازي . وعليه فالخصم مرفوعٌ بفعل يفسره أبزى فلا شذوذ حينئذ .
قال في القاموس : وبزى فلاناً : قهره وبطش به كأبزى به . ويرفع مائل الرأس على أنه بدلٌ من الخصم . والأنكب : المائل وأصله الذي يشتكي منكبيه فهو يمشي في شق . ومائل الرأس أي : مصعر من الكبر .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد الخمسمائة ) البسيط ( حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ ** شلا كما تطرد الجمالة الشردا )
____________________

على أن جواب إذا عند الشارح المحقق محذوفٌ لتفخيم الأمر والتقدير : بلغوا أملهم أو أدركوا ما أحبوا ونحو ذلك .
وهذا هو الصواب من أقوالٍ ثلاثة في إذا .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : هذا مذهب الأصمعي ومثله يقول الراجز : الرجز ( لو قد حداهن أبو الجودي ** بزجرٍ مسحنفر الروي ) مستوياتٍ كنوى البرني وذهب جماعةٌ إلى أن شلا أثر الجواب إذا التقدير : شلوهم شلا فاستغنى بذكر المصدر عن ذكر الفعل لدلالته عليه . منهم أبو علي في التذكرة قال : شلا منتصب بجواب إذا .
ومنهم : ابن الشجري في أماليه قال : البيت آخر القصيدة فلا يجوز أن تنصب شلا بأسلكوهم لئلا يبقى إذا بغير جوابٍ ظاهر ولا مقدر ولكن تنصبه بفعلٍ تضمره فيكون جواب إذا فكأنك قلت : حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا .
ومنهم : ابن الأنباري في مسائل الخلاف قال : لم يأت بالجواب لأن هذا البيت آخر القصيدة والتقدير فيه : حتى إذا أسلكوهم شلوا شلا فحذف للعلم به توخياً للإيجاز .
وهذا المذهب غير سديدٍ في المعنى لأن الشل أي : الطرد إنما كان قبل إسلاكهم في قتائدة أي : إدخالهم فيها وكلامهم يقتضي أن يكون بعد ذلك وهو فاسد وإنما شلا حال من الواو أي : شالين أو من هم أي : مشلولين .
والأقيس لقوله كما تطرد الجمالة فشبه الشل بشل الجمالة وهو الطاردون . وإذا كان حالاً من ضمير المفعول وجب أن يقول : كما تطرد الجمال الشرد وهو مع
____________________

ذلك جائز لأن العرب قد توقع التشبيه على شيء والمراد غيره . والكاف في كما في موضع الصفة لشلا وما مصدرية كأنه قال : شلا كطرد .
والشرد بضمتين : جمع شرود : وهي من الإبل التي تفر من الشيء إذا رأته فإذا طردت كان أشد لفرارها فلذلك خصها بالذكر . )
قال ابن السيد : وقال أبو عبيدة : إذا زائدة فلذلك لم يؤت لها بجواب . فالميداني مسبوق بأبي عبيدة في هذا لا أنه قوله كما هو صريح كلام الشارح المحقق .
ويؤيده ما روى أبو عبد الله محمد بن الحسين اليميني في ترجمة أبي عبيدة من طبقات النحويين قال : حدثونا عن رجل عن أبي حاتم قال : أملى علينا أبو عبيدة بيت عبد مناف بن ربع الهذلي : حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ . . . . . . . . . . . . البيت قال : هذا كلامٌ لم يجىء له خبر .
وهذا البيت آخر القصيدة . قال : ومثله قول الله جل ثناؤه : ولو أن قرآناً سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض إلى قوله : بل لله الأمر جميعاً .
قال : فجئت إلى الأصمعي فأخبرته بذلك فقال : أخطأ ابن الحائك إنما الخبر في قوله : شلا كأنه قال : شلوهم شلا . قال : فجعلت أكتب ما يقول ففكر ساعة ثم قال لي : اصبر فإني أظنه كما قال لأن أبا الجودي الراجز أنشدني : الرجز ( لو قد حداهن أبو الجودي ** بزجرٍ مستحنفر الروي ) فهذا كلامٌ لم يجئ له خبر . انتهى .
____________________


وهذا النقل يخالف ما قاله ابن السيد وكذلك يخالفه قول شارح أشعار هذيل السكري وهو غير أشعار الهذليين في شرح هذا الشعر قال الأصمعي : هذا ليس له جوابٌ وقد سمعت خلفاً ينشد عن أبي الجودي : لو قد حداهن أبو الجودي . . . . . . . . . . . . البيت لم يجعل له جواباً . وقال : قد يقال : إن قوله شلا جوابٌ كأنه قال : حتى إذا أسلكوهم شلوهم شلا . انتهى .
فالنقل عن الأصمعي مضطربٌ كما ترى .
وقال في الصحاح : إذا زائدة أو يكون قد كف عن خبره لعلم السامع . انتهى .
ولا ينبغي القول بزيادة إذا لأنها اسم والاسم لا يكون لغواً . وعلى تقدير القول يكون شلا حالاً أيضاً كما قلنا .
وقوله : أسلكوهم أسلك لغة في سلك يقال : أسلكت الشيء في الشيء مثل سلكته فيه بمعنى أدخلته فيه ولهذا أنشد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : فاسلك فيها من كل )
زوجين اثنين .
وقتائدة بضم القاف بعدها مثناة فوقية وبعد الألف همزة : بعدها دال مهملة . قال ابن السيد : هي ثنية ضيقة .
وقال الأصمعي : كل ثنية قتائدة . وقال في الصحاح : قتائدة : اسم عقبة . وأنشد البيت وقال : أي : أسلكوهم في طريق قتائدة .
وقال البكري في معجم ما استعجم : قال اليزيدي عن ابن حبيب : هي جبلٌ بين المنصرف والروحاء . وعلى قول الأصمعي لا يكون صرفها للضرورة .
قال أبو الفتح : همزة قتائدة أصلٌ لأنها حشو ولم يدل على زيادتها دليل .
____________________


قال : ولا تحملها على حطائط وجرائض لقلتهما . انتهى .
ونقل ياقوت في معجم البلدان عن الأزهري أنها جبل . وأنشد البيت .
والشل : الطرد والجمالة : فاعل تطرد . قال ابن السيد : والجمالة : أصحاب الجمال كما يقال الحمارة لأصحاب الحمير والبغالة لأصحاب البغال . ولم يقولوا فراسة ولا خيالة . انتهى .
وقال ابن الشجري في معاني التاء : الضرب الرابع أن يدل لحاق التاء على الجمع كقولهم : رجلٌ جمال ورجالٌ جمالةٌ وبغال وبغالة وحمار وحمارة وسيار وسيارة . وأنشد البيت .
والشرد بضمتين كما تقدم قال في الصحاح ويروى البيت بفتحتين أيضاً على أنه جمع شارد وقد استشهد أبو علي به على أن تاء التأنيث قد تجيء دالة على عكس دلالتها في باب تمرة وتمر . قال أحد شراح أبيات الإيضاح : ألا ترى أن جمالة واقعٌ على الجمع فإن أردت الجمع أسقطت التاء فقلت : تمر .
فإن قال قائل : لعل التاء لم تلحق جمالةً وأمثاله لما ذكرتم من التفرقة بين الجمع والمفرد ولحقته من حيث كان صفة الجمع .
ألا ترى أن الأصل كما تطرد الرجال الجمالة الشرد . والجمع وإن كان لمذكر قد تعامله العرب معاملة الواحدة من المؤنث ومن ذلك قولهم : الرجال وأعضادها والنساء وأعجازها .
قيل له : الدليل على أن التاء في جمالة دخلت لما ذكر من الفرق أنها من الصفات التي أتت على معنى النسب كدارع ولابنٍ .

____________________

ألا ترى أنها غير مأخوذةٍ من فعل كما أن دارعاً ولابناً كذلك . وقياس الصفات التي تأتي على )
معنى النسب التي لا تلحقها التاء وإن جرت على مؤنث نحو : حائض وطامث فكان ينبغي على هذا أن لا تلحق التاء لولا ما أريد من التفرقة بين المفرد والجمع .
وإنما أدخلوها حين أرادوا التفرقة في صفة الجماعة ولم يدخلوها في صفة المفرد لأن جمع التكسير وإن كان لمن يعقل قد يعامل معاملة الواحدة من المؤنث كما تقدم فكانت بذلك أحق والبيت آخر قصيدةٍ عدتها اثنا عشر بيتاً لعبد مناف بن ربع الجربي . وهي : البسيط ( ماذا يغير ابنتي ربعٍ عويلهما ** لا ترقدان ولا بؤسى لمن رقدا ) ( كلتاهما أبطنت أحشاؤها قصباً ** من بطن حلية لا رطباً ولا نقدا ) ( إذا تجرد نوحٌ قامتا معه ** ضرباً أليماً بسبتٍ يلعج الجلدا ) ( من الأسى أهل أنف يوم جاءهم ** جيش الحمار فجاؤوا عارضاً بردا ) ( لنعم ما أحسن الأبيات نهنهةً ** أولى العدي وبعد أحسنوا الطردا ) ( إذ قدموا مائةً واستأخرت مائةٌ ** وفياً وزادوا على كلتيهما عددا ) ( صابوا بستة أبياتٍ وأربعة ** حتى كأن عليهم جابئاً لبدا )
____________________

( شدوا على القوم فاعتطوا أوائلهم ** جيش الحمار ولاقوا عارضاً بردا ) ( فالطعن شغشغةٌ والضرب هيقعةٌ ** ضرب المعول تحت الديمة العضدا ) ( وللقسي أزاميلٌ وغمغمةٌ ** حس الجنوب تسوق الماء والبردا ) ( كأنهم تحت صيفي له نحمٌ ** مصرحٍ طحرت أسناؤه القردا ) حتى إذا أسلكوهم في قتائدةٍ . . . . . . . . . . . . البيت قوله : ماذا يغير ابنتي ربع إلخ قال شارح القصيدة : غار أهله : مارهم . وابنتا ربع هما أختا الشاعر . والعويل : رفع الصوت بالبكاء . لا ترقدان : لا تنامان ومن نام فلا بؤسى له فإن الذي ينام مستريحٌ بخيرٍ في راحة قرير العين وإنما البؤس على من حزن لسهرٍ أو مرض . والبؤس : الضيق والشدة .
وقوله : كلتاهما إلى آخره هذا مثل أي : كأن في صدورها مزامير من البكاء والحنين . ومن بطن حلية أي : هذا القصب الذي يزمر به أخذ من بطن حلية بفتح المهملة وسكون اللام بعدها مثناة تحيتة : اسم واد . والنقد بفتحٍ فكسر : المتأكل .
وقوله : إذا تجرد نوحٌ إلخ جمع نائحة أي : إذا تهيأ نساءٌ للنوح . وضرباً أي : وضربنا ضرباً . )
بسبت بالكسر وهو الجلد المدبوغ . كان النساء يلطمن خدودهن بجلدة . ويلعج : يحرق يقال : وجد لا عج الحزن أي : حرقته والجلد بكسر اللام لغة في سكونها أراد جلد وجهها .
____________________


وقوله : من الأسى إلخ الأسى : الحزن . وأنف : بلدٌ به قتلوا يومئذ .
وقوله : جيش الحمار كانوا غزوا ومعهم حمارٌ يحملون عليه زادهم . والعارض : الجيش شبهه لكثرته بالعارض من السحاب الممتلئ ماءً . والبرد بكسر الراء : الذي فيه البرد بفتحتين .
وقوله : لنعم ما أحسن إلخ .
وروي : والنهنهة : الرد . وأولى العدي : العادية وهي الحاملة . و الأبيات : قوم أغير عليهم . وأحسنوا الطرد أي : أحسنوا طرادهم .
وأولى مفعول لنهنهة . والمعنى : نعم ما أحسنوا رد العدي وأحسنوا مطاردتهم بعد .
وقوله : إذ قدموا مائة إلخ وروى أبو عبد الله : البسيط ( فقدموا مائةً وأخروا مائةً ** كلتاهما قد وفت وازدادتا عددا ) وقوله : صابوا بستة إلخ صابوا : وقعوا . وصاب المطر : وقع . والجابئ بموحدة فهمزة : الجراد .
واللبد بفتح فكسر : المتراكب بعضه على بعضٍ . واللبد بضم ففتح : الكثير . يقول : من كثرة ما وقع عليهم الناس كأن عليهم جراداً منقضاً .
وقوله : شدوا على القوم فاعتطوا : شقوا أوائل القوم . وجيش الحمار بالجر بدل من ضمير الجمع المضاف وبالنصب بدل من أوائل . وقيل له : جيش الحمار
____________________

لأنه كان في الجيش حمارٌ جاؤوا عليه . ويقال : إنما كان معهم حمارٌ يحمل بعض متاعهم . يقول : لاقوا جيشاً مثل العارض الذي فيه بردٌ .
وقوله : فالطعن شغشغة : إلخ الشغشغة بمعجمتين : حكاية صوت الطعن في الأجواف والأكفال .
والهيقعة : حكاية صوت الضرب بالسيوف . والمعول بكسر الواو المشددة : الذي يبني عالة .
والعالة : شجر يقطعه الرامي فيستظل به من المطر . والعضد بفتحتين : ما قطع من الشجر والمضارع بكسر الضاد يقال : عضد يعضد عضداً إذا قطع . وجعله تحت الديمة لأنه أسمع لصوته إذا ابتل .
وقوله : وللقسي أزاميل : جمع أزملٍ والياء من إشباع الكسرة . وأزمل كل شيء : صوته . )
يريد أن لها أصواتاً تختلط فتصير واحداً . والغمغمة : صوتٌ لا يفهم . والحس : الصوت .
والجنوب : الريح . أي : لها صوتٌ كدوي الريح الجنوب .
وقوله : كأنهم تحت صيفي إلخ أي : سحاب . له نحم بفتح النون والحاء المهملة أي : صوت ينتحم مثل نحيم الدابة . مصرح : صرح بالماء : صبه وانكشف فصار غيماً خالصاً ونفى عنه القرد بفتح القاف والراء المهملة وهو من السحاب : الصغار المتلبد المتراكب بعضه على بعض .
وطحرت : دفعت . والأسناء : جمع سناً وهو الضوء . يقول : كأنهم تحت مطرٍ صيفي مما يقع بهم له نحم أي : صوت رعد . ويروى : لهم نحم .
وعبد مناف : شاعرٌ جاهلي من شعراء هذيل وهو ابن ربع الجربي بكسر الراء وسكون الموحدة . والجربي بضم الجيم وفتح الراء المهملة : نسبة إلى جريب كقريش وهو بطنٌ من هذيل وهو جريب بن سعد بن هذيل . وهذه
____________________

الوقعة يقال لها : يوم أنف بفتح الألف وسكون النون وقال السكري : أنفٌ : داران إحداهما فوق الأخرى بينهما قريبٌ من ميل . ويقال : أنف عاذ فيضاف بالعين المهملة والذال المعجمة كذا قال السكري . وبدالٍ مهملة رواها أبو عمرو .
وكانت بنو ظفر من بني سليم حرباً لهذيل فخرج المعترض بن حنواء الظفري يغزو بني قرد من هذيل وفي بني سليم رجلٌ من أنفسهم كان دليل القوم على أخواله من هذيل وأمه امرأةٌ من بني جريب بن سعد واسمه دبية فدلهم فوجد بني قرد بأنف وبنو سليم يومئذ مائتا رجل وزاملتهم حمار .
فلما جاء دبية بنى قرد قالوا له : أي ابن أختنا أتخشى علينا من قومك مخشى قال : معاذ الله . فصدقوه وأطعموه وتحدثوا معه ساعةً من الليل .
ثم قام كل واحد منهم إلى بيته ورمقه رجلٌ من القوم وأوجس منه خيفة حتى إذا هدأ أهل الدار فلم يسمع ركز أحدٍ ولا حسه لم ير إلا إياه قد انسل من تحت لحاف أصحابه . فحذر بني قرد لذلك فقعد كل رجل منهم في جوف بيته آخذاً بقائم سيفه أو عجس قوسه ومعه نبله .
وحدث دبية أصحابه بمكان الدارين فقدموا مائةً نحو الدار العليا وتواعدوا طلوع القمر وهي ليلة خمسةٍ وعشرين من الشهر والدار في سفح الجبل فبدا القمر للأسفلين قبل الأعلين فأغار الذين بدا لهم القمر فقتلوا رجلاً من بني قرد فخرجوا من بيوتهم فشدوا عليهم فهزموهم )
فلم يرع الأعلين إلا بنو قرد يطردون أصحابهم بالسيوف فزعموا أنهم لم ينج منهم ليلتئذٍ إلا ستون رجلاً من المائتين
____________________

وقتل دبية وأدرك المعترض فقتل أيضاً .
وقال عبد مناف بن ربع هذه القصيدة وذكر فيها هذا اليوم .
وقد أطلت الكلام هنا لأني لم أر من شرح البيت الشاهد كما ينبغي ولم يذكر أحدٌ القصيدة ولا اليوم كان سبباً لها .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع بعد الخمسمائة ) الطويل ( فأضحى ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أو هي أقربا ) لما ذكره قال أبو علي في التذكرة القصرية : هي لا تدخل فصلاً في قول أصحابنا قبل نكرة فإذا كانت أقرب بمنزلة قريب لم تكن هي فصلاً وإذا لم تكن فصلاً كان أو عطفاً على عاملين .
انتهى .
وفيه مسامحة إذ مراده على معمولي عاملين فهي معطوف على مفعول ترى وأقرب معطوف على مكان .
وقال في إيضاح الشعر : لا تخلو هي من أن تكون مبتدأ أو وصفاً أو فصلاً . فلا تكون مبتدأ لانتصاب ما بعده فبقي أن تكون وصفاً أو فصلاً . وذلك أن قوله : رآها مكان السوق دال على : أو رآها فحذفها من اللفظ لدلالة ما تقدم عليها فصار التقدير : أو رآها أقرب أي : أو رآها أقرب من السوق فصارت هي فصلاً بين الهاء والخبر المنتصب .
وقد يجوز أن تجعل هي وصفاً للهاء التي هي المفعول الأول كما جاز ذلك في : تجدوه عند الله هو خيراً . والأول أوجه لأن المحذوف لحذفه يستغني عن وصفه .
____________________


ويجوز أن يكون أقرب ظرفاً . فإذا جعلته ظرفاً ولم تجعله وصفاً كان مبتدأ وأقرب الخبر والتقدير : أو هي أقرب من السوق . ومثله : والركب أسفل منكم . انتهى .
وهذا الأخير هو مراد الشارح المحقق . وأراد بالوصف التوكيد وهو تعبير سيبويه .
وقال أبو حيان في تذكرته : قال الفراء : إذا قيل منزلك بالحيرة أو أقرب منها ففي أقرب الرفع والنصب أي : أو منزلك أقرب من الحيرة أو مكاناً أقرب منها أو يكون موضع أقرب خفضاً )
بالنسق على الحيرة معناه أو بأقرب منها . وأنشد الفراء : فنصب الأقرب على المحل وتأويله : أو هي مكاناً أقرب من خراسان . على أن قد جوز مجوزٌ نصب أقرب في البيت على خبر رأى المضمرة وقدره : أو رآها هي أقرب . انتهى .
وقوله : أقرب من خراسان سهوٌ وصوابه أقرب من السوق .
ثم قال أبو حبان : وقد قال الفراء : العرب تؤثر الرفع مع أو . واحتج بقول الله تعالى : فهي كالحجارة أو أشد قسوة . رفعت القراء أشد ولم تحمله على العطف وبنته على : أو هي أشد قسوة .
على أنه يجوز في النحو أو أشد قسوة بنصب أشد وموضعه خفض بالنسق على الحجارة أي : كالحجارة أو كأشد قسوة .
فإنما أوثر الرفع مع أو لأنها تأتي بمعنى الإباحة : إن شبهتم قلوب هؤلاء بالحجارة أصبتم أو بما هو أشد قسوة من الحجارة أصبتم وإن شبهتم قلوبهم بالحجارة وما هو أشد قسوة منها لم تخطئوا كما يقال : جالس الحسن أو ابن سيرين .
____________________


يعني قد أبحت إفراد أحدهما بالمجالسة والجمع بينهما في ذلك . فلما أتت أو بهذا المعنى اختاروا أن لا يعربوا ما بعدها بإعراب الذي قبلها إذا أمكن الاستئناف ليدل بذلك على استواء الجملتين اللتين إحداهما قبلها والأخرى بعدها . ولو لم يكن استئنافٌ اختلط الذي بعدها وهذا يؤيد كون أقرب ظرفاً خبراً لهي .
والبيت آخر أبيات خمسة لعبد الله بن الزبير الأسدي رواها المبرد في الكامل وغيره وهي : الطويل ( أقول لعبد الله يوم لقيته ** أرى الأمر أمسى منصباً متشعبا ) ( تجهز فإما أن تزور ابن ضابئ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا ) ( هما خطتا خسفٍ نجاؤك منهما ** ركوبك حولياً من الثلج أشهبا ) ( فما إن أرى الحجاج يغمد سيفه ** يد الدهر حتى يترك الطفل أشيبا ) ( فأضحى ولو كانت خراسان دونه ** رآها مكان السوق أوهي أقربا ) قوله : أقول لعبد الله روى صاحب الأغاني أقول لإبراهيم . وأورد منشأ هذه الأبيات مختصراً فقال : )
لما قدم الحجاج الكوفة والياً صعد المنبر وأوعد أهلها وهددهم ثم حثهم على اللحاق بالمهلب بن أبي صفرة وأقسم إن وجد منهم أحداً اسمه في جريدة المهلب بعد ثالثة بالكوفة قتله .
فجاءه عمير بن ضابئ البرجمي فقال : أيها الأمير : إني شيخٌ لا فضل في ولي
____________________

ابنٌ شاب جلد فاقبله بدلاً مني . فقال عنبسة بن سعيد بن العاص : أيها الأمير هذا جاء إلى عثمان وهو مقتولٌ فرفسه وكسر ضلعين من أضلاعه فقال له الحجاج : فهلا يومئذ بعثت بدلاً يا حرسي اضرب عنقه فسمع الحجاج ضوضاةً فقال : ما هذا فقيل : هذه البراجم جاءت لتنصر عميراً .
فقال : أتحفوهم برأسه فولوا هاربين فازدحم الناس على الجسر للعبور للمهلب حتى غرق بعضهم فقال عبد الله بن الزبير الأسدي : أقول لإبراهيم لما لقيته . . . . . . . الأبيات المذكورة والمنصب : اسم فاعل من أنصبه أي : أتعبه . والمتشعب أيضاً : اسم فاعل من تشعب أي : تفرق .
وقوله : تجهز فإما إلخ أي : تهيأ لأحد هذين الأمرين : إما يقتلك الحجاج كما قتل عميراً وإما تلحق المهلب .
وقوله : هما خطتا خسفٍ إلخ الخطة بالضم : الحالة . والخسف بفتح المعجمة : الذل . ونجاؤك أي : خلاصك . والحولي هو من كل ذي حافر ما استكمل سنةً ودخل في الثانية . والأنثى حولية وأراد به هنا المهر . والأشهب من الخيل وغيره : ما غلب بياضه على سواده .
ومن الثلج صفة أولى لحولي وهو بالضم جمع أثلج وهو الفرحان النشيط . ومراده بهذا ( أقاتلي الحجاج إن لم أزر له ** دراب وأترك عند هندٍ فؤاديا )
____________________

( فإن كان لا يرضيك حتى تردني ** إلى قطري ما إخالك راضيا ) ( إذا جاوزت درب المجيرين ناقتي ** فباست أبي الحجاج لما ثنانيا ) ( أيرجو بنو مروان سمعي وطاعتي ** وقومي تميمٌ والفلاة ورائيا ) وممن هرب منه : مالك بن الريب المازني وقال : الطويل ( فإن تنصفونا يال مروان نقترب ** إليكم وإلا فأدنوا ببعاد ) ( ففي الأرض عن دار المذلة مذهبٌ ** وكل بلادٍ أوطنت كبلاد ) ) ( فماذا ترى الحجاج يبلغ جهده ** إذا نحن جاوزنا خفير زياد ) ( فلولا بنو مروان كان ابن يوسفٍ ** كما كان عبداً من عبيد إياد ) وقوله : فما إن أرى إلخ إن زائدة والحجاج مفعول أول لأرى وجملة : يغمد سيفه في موضع المفعول الثاني . وأغمد سيفه : أدخله في
____________________

غمده بالكسر أي : قرابه . ويد الدهر بفتح المثناة التحتية بمعنى مدى الدهر بالميم بدلها . وقوله : حتى يترك حتى : بمعنى إلا .
وقوله : فأضحى ولو كانت خراسان الفاء سببية تسبب ما بعدها عن قوله : تجهز فإما أن تزور . . . البيت . وأضحى من الأفعال الناقصة واسمها ضمير عبد الله وإبراهيم وجملة رآها وكان طوى كشحاً على مستكنة على وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة وعلى هذا تكون لو وصليةً لا جواب لها وعليه المعنى فإنه يريد أن عبد الله صار كأنه رأى خراسان مكان السوق قريبة منه أو هي أقرب من السوق فذهب إليها من غير تأهب واستعداد لشدة خوفه من الحجاج وإن كانت خراسان في نفس الأمر دونه بمراحل .
وزعم أبو علي في إيضاح الشعر أن خبر أضحى محذوف فتكون لو شرطية و رآها جوابها .
ولا يخفى ركاكة الشرطية . وهذه عبارته : فأما خبر أضحى فمحذوف تقديره : فأضحى مشمراً أو مجداً أو نحو ذلك مما يدل عليه ما تقدم . انتهى .
وخراسان : ولايةٌ واسعة تشتمل على أمهاتٍ من البلاد منها نيسابور وهراة ومرو وبلخ واختلف في تسميتها بذلك فقال دغفل النسابة : خرج خراسان وهيطل ابنا عابر بن سام بن نوح عليه السلام لما تبلبلت الألسن ببابل
____________________

فنزل كل واحد منهم في البلد المنسوب إليه .
يريد أن هيطل نزل في البلد المعروف بالهياطلة وهو ما وراء نهر جيحون ونزل خراسان في البلاد المذكورة فسمي كل بقعة بالذي نزل بها .
ونقل أبو عبيد البكري في المعجم عن الجرجاني أنه قال : معنى خر : كل وآسان معناه : سهل أي : كل بلا تعب . وقال غيره : معنى خراسان بالفارسية مطلع الشمس . انتهى .
وقوله : دونه أي : دون عبد الله . ودون بمعنى أمام . وزعم المبرد في الكامل أن الضمير للسفر المفهوم من المقام . وقال : يعني دون السفر . رآها مكان السوق للخوف والطاعة . وهذا كلامه )
ولم يفسر من هذا الشعر غير هذا .
ومكان : ظرف والسوق مؤنث سماعي وتذكر وهو محل البيع والشراء وهي ضمير خراسان وأقرب أفعل تفضيل منصوبٌ على الظرفية وهو وعامله خبر هي والألف للإطلاق .
روى صاحب الأغاني أن ناظم هذه الأبيات لما قفل من حرب الأزارقة جاء يوماً إلى الحجاج هو بقنطرة الكوفة يعرض عليه الجيش وجعل يسأل عن رجلٍ رجل فمر به ابن الزبير فسأله من هو فأخبره فقال : أأنت الذي تقول : ( تخير فإما تزور ابن ضابئ ** عميراً وإما أن تزور المهلبا ) قال : بلى . فقال الحجاج : فامض إلى بعثك . فمضى فمات بالري .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة .
وهذه الوقعة وقعة الخوارج وكان أميرهم قطري بن الفجاءة وكان تغلب على شيراز وكازرون وما يليها في زمن عبد الملك بن مروان وكان عبد الملك أمر
____________________

أمير الكوفة أخاه وهو بشر بن مروان أن يولي المهلب بن أبي صفرة لقتال الخوارج فولاه وأمده بجيشٍ من الكوفة كبيرهم عبد الرحمن بن مخنف وكانوا ثمانية آلاف رجل ولحقوا بالمهلب . وبعد شهر مات بشر فلما تسامعوا بموته تسللوا من عند المهلب وجاؤوا إلى الكوفة .
ثم إن عبد الملك بن مروان ولى الحجاج موضع أخيه وأمره أن يمد المهلب فلما جاء الحجاج إلى الكوفة صعد المنبر وحث أهل الكوفة باللحاق إلى المهلب وهددهم وأعطاهم أرزاقهم وحلف إن وجد أحداً منهم بعد ثلاثة أيام ليضربن عنقه . فهابه الناس وتسارعوا في السفر .
وقد فصل المبرد في الكامل هذه الأخبار والحروب وما قيل فيها من الأشعار وشرحها .
وللحجاج خطبةٌ بليغة قالها على المنبر حين دخوله الكوفة أميراً عليها ستأتي إن شاء الله مشروحة في أفعال المقاربة عند شعر عمير بن ضابئ .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن بعد الخمسمائة ) : الطويل
____________________

على أن الأغلب مجيء إذا الفجائية في جواب بينا كما في البيت .
وقد تقترن الفاء الزائدة بإذا كما قال ابن عبدل وهو من شعراء الحماسة : الكامل ( بيناهم بالظهر قد جلسوا ** يوماً بحيث تنزع الذبح ) ( فإذا ابن هندٍ في مواكبه ** تهدي به خطارةٌ سرح ) قال ابن جني في إعراب الحماسة : يوماً منصوب لأنه بدل من بينا ألا ترى أن معناه بين أوقات هم قد جلسوا وذلك البين هو اليوم الذي أبدله منه . وليس يعني باليوم المقدار المعروف من طلوع الشمس إلى غروبها وإنما يريد الوقت مبهماً لا يخص به مقداراً من الزمان . وقد يكون برهةً من الدهر تشتمل على الأيام والليالي . وزاد الفاء في قوله : فإذا وإنما أراد : بيناهم كذلك إذا ابن هند قد فعل كذا . انتهى .
ويؤخذ منه أن بينا يجوز اقتران جوابها بإذا وإن أبدل منها ظرف زمانٍ آخر .
وقول الشارح المحقق : ولا يجيء بعد إذا المفاجأة إلا الفعل الماضي أراد : مع بينا وبينما وهو الظاهر كقوله : البسيط
____________________

فبينما العسر إذ دارت مياسير وأما مع غيرهما فلا تأتي المفاجأة . قال أبو حيان في الارتشاف وتأتي إذ للمفاجأة . قال ولا تكون للمفاجأة إلا بعد بينا وبينما . انتهى .
وكذلك قال ابن هشام في المغني : تكون إذ للمفاجأة نص عليه سيبويه وهي الواقعة بعد بينا وبينما .
وأجاز الرضي مجيئها لها في غير جوابهما فيما يأتي قبل إيراد قوله : بينا تعنقه الكماة . . . البيت الآتي فقال : وقد تجيء إذ للمفاجأة في غير جواب بينا وبينما كما في قولك : كنت واثقاً إذ جاءني عمرو .
هذا كلامه .
وهذا يحتاج إلى إثباته بكلام من يوثق به . قال ابن جني في إعراب الحماسة : قوله : بينا نسوس الناس إلخ أراد بين فأشبع الفتحة فأنشأ عنها ألفاً . قال أبو علي : أصله بين أوقاتٍ نسوس الناس )
والعامل في بينا ما دل عليه قوله : إذا نحن فيهم سوقة نتنصف ألا ترى أن معناه بين هذه الأوقات خدمنا الناس وذللنا كما أن قوله تعالى : وإن تصبهم سيئة بما قدمت أيديهم إذا هم يقنطون تأويله : قنطوا . فوقوع إذا هذه المكانية جواباً للشرط من أقوى دليل على قوة شبهها بالفعل . وإذا هذه منصوبة بالفعل بعدها وليست مضافة إليه . وكذلك إذ ( بينما الناس على عليائها ** إذ هووا في هوة منها فغاروا )
____________________

إذ منصوبة الموضع بهووا .
وقال أيضاً في سر الصناعة : أشبع الفتحة في بينا فحدث بعدها ألف . فإن قيل : فإلام أضاف بين وقد علمنا أن هذا الظرف لا يضاف من الأسماء إلا إلى ما يدل على أكثر من الواحد وما عكف عليه غيره بالواو نحو المال بين زيد وعمرو وقوله : نسوس الناس جملة والجملة لا مذهب لها بعد هذا الظرف فالجواب : أن ها هنا واسطةً محذوفة والتقدير : بين أوقات نسوس الناس خدمنا أي : خدمنا بين أوقات سياستنا الناس والجمل مما يضاف إليها أسماء الزمان نحو أتيتك زمن الحجاج أمير .
ثم إنه حذف المضاف الذي هو أوقات وأولى الظرف الذي كان مضافاً إلى المحذوف الجملة التي أقيمت مقام المضاف إليها كقوله عز وجل : واسئل القرية أي : أهلها . هكذا علقت عن أبي علي في تفسير هذه اللفظة وقت القراءة عليه وقل من يضبط ذلك إلا من كان متقناً أصيلاً في هذه الصناعة . انتهى .
وهكذا كل من شرح بينا قال : الألف نشأت عن إشباع الفتحة . وزعم الفراء أن أصل بينا بينما فحذفت الميم .
وقال زين العرب في أول شرح المصابيح : وقول الجوهري نشأت الألف من إشباع الفتحة ففيه نظر وهو أن الألف إنما تتولد من الفتحة في القافية . والحق أن بينا أصله بيناً بالتنوين والتنوين فيه للعوض عن المضاف إليه المحذوف . وهو الأوقات ثم أبدل الألف من التنوين في الوصل إجراءً للوصل مجرى الوقف فثبتت الألف ثبوتها في الوقف بدل التنوين . وأما بينما فما فيه بمعنى الزمان فلا حذف فيه أو ما فيه زائدة بين المضاف والمضاف إليه . انتهى .
____________________


وعلى هذا فألف بينا عوض العوض . ومثله غير معروف . ويقتضي أيضاً أن يكون بينا غير )
مضاف إلى الجملة .
وقول الشارح المحقق : لما قصد إلى إضافة بين إلى جملة زادوا عليه ما الكافة أو أشبعوا الفتحة . يريد أن ما والألف كفتا بين عن الإضافة إلى المفرد وهيآها للإضافة إلى جملة . وهذا شيءٌ غريب والمشهور أن الألف من إشباع الفتحة وبين مضافة إلى الجملة من غير تعرض لكف وتهيئة .
وذهب بعضهم إلى أن الألف زائدة من غير إشباع وهي كافة لبين عن الإضافة . كذا نفل ابن هشام في الألف اللينة من المغني .
وقال أيضاً في بحث ما الكافة للظروف عن الإضافة : إن ما تكون كافة لبيت عن الإضافة ( بينما نحن بالأراك معاً ** إذ أتى راكبٌ على جمله ) وقيل : ما زائدة وبين مضافةٌ إلى الجملة وقيل : زائدة وبين مضافة إلى زمن محذوفٍ مضافٍ إلى الجملة أي : بين أوقات نحن بالأراك والأقوال الثلاثة في بين مع الألف في نحو قوله : فبينا نسوس الناس البيت . انتهى .
أقول : صاحب القول الثاني لا بد له من تقدير الأوقات فلا يباين القول الثالث . ولم يتنبه شراحه .
وقوله : والأقوال الثلاثة في بين مع الألف . فالأول : تكون الألف كافة عن الإضافة . والثاني : أنها زائدة وبين مضافة إلى الجملة . والثالث : أنها زائدة وبين مضافة إلى الزمن المذكور .
ويرد على هذا أيضاً ما ذكرنا والصواب أن القولين الأخيرين فيهما قولٌ واحد .
____________________


وقال زين العرب : هذه الألف عوض عن الأوقات المحذوفة وكذلك ما عوضٌ عنها .
وهذا غير قوله الأول الذي جعله الحق عنده .
والحاصل أن في ألف بينا خمسة أقوال : أحدها : إشباعٌ لتهيئة بين للإضافة .
وثانيها : أنها مجتلبة للكف عن الإضافة .
ورابعها : أنها بدلٌ من تنوين العوض .
وخامسها أنها بقية ما . وهو أبعد الأقوال .
والجيد ما ذهب إليه الشارح المحقق . )
والبيت أول بيتين لحرقة بنت النعمان بن المنذر أوردهما أبو تمام في الحماسة والرواية : بينما نسوس بإسقاط الفاء على الحزم . والثاني : ( فأف لدنيا لا يدوم نعيمها ** تقلب تاراتٍ بنا وتصرف ) تقول : بينا نستخدم الناس وندبر أمورهم وطاعتنا واجبةٌ عليهم وأحكامنا نافذة تقلبت الأمور واتضعت الأحوال وصرنا سوقة تخدم الناس .
ونسوس من ساس زيدٌ الأمر يسوسه سياسةً : دبره وقام بأمره . والسياسة لفظة عربية خالصة زعم بعضهم أنها معرب سه يسا وهي لفظة مركبة من كلمتين أولاهما أعجمية والأخرى تركية . فسه بالفارسية ثلاثة ويسا بالمغلية الترتيب فكأنه قال : التراتيب الثلاثة .
قال : وسببه على ما في النجوم الزاهرة أن جنكزخان الملعون ملك المغل
____________________

قسم ممالكه بين أولاده وأوصاهم بوصايا أن لا يخرجوا عنها فجعلوها قانوناً فسموها بذلك . ثم غيروها فقالوا : سياسة .
وهذا شيء لا أصل له فإنها لفظة عربية متصرفة تكلمت بها العرب قبل أن يخلق جنكزخان فإنه كان في تاريخ الستمائة وصاحبة هذا البيت قبله بأربعمائة سنة . نعم لو قيل أفريدون بدل جنكزخان لكان له وجه فإنه قسم مملكته بين أولاده الثلاث : سلم وتور وإيرج ورتب لهم قوانين ثلاثة .
وقولها : والأمر أمرنا فيه قصر إفراد تريد : لا أحد يشاركنا في السلطنة ولا يد فوق أيدينا .
والسوقة بالضم قال الحريري في درة الغواص : ومنه أيضاً توهمهم أن السوقة اسمٌ لأهل السوق .
وليس كذلك بل السوقة الرعية . سموا بذلك لأن الملك يسوقهم إلى إرادته .
ويستوي لفظ الواحد والجماعة فيه فيقال : رجل سوقةٌ وقومٌ سوقة كما قالت الحرقة بنت النعمان : فبينا نسوق الناس . . . . البيت .
فأما أهل السوق فهم السوقيون واحدهم سوقي والسوق في كلام العرب تذكر وتؤنث .
انتهى .
والمشهور في رواية البيت : بينا نسوس بدل نسوق .
ومثله في لحن العامة للجواليقي قال : يذهب عوام الناس إلى أن السوقة أهل السوق وذلك خطأ إنما السوقة من ليس يملك تاجراً كان أو غير تاجر بمنزلة الرعية . وسموا سوقة لأن الملك )
يسوقهم فينساقون له ويصرفهم على مراده . يقال للواحد : سوقة وللاثنين : سوقة . وربما جمع سوقا .
قال زهير : البسيط
____________________

( يطلب شأو امرأين قدما حسناً ** نالا الملوك وبذا هذه السوقا ) وأما أهل السوق فالواحد سوقي والجماعة سوقيون . انتهى .
ونقل الصاغاني في العباب هذه العبارة وزاد : ويستوي فيه المذكر والمؤنث .
ونتنصف بالبناء للفاعل أي : نخدم . قال ابن السكيت : نصفهم ينصفهم وينصفهم بضم الصاد وكسرها نصافاً ونصافة بكسرهما أي : خدمهم . وكذلك تنصف . والناصف : الخادم والجمع نصف بفتحتين وكذلك المنصف بفتح الميم وكسرها : الخادم والجمع مناصف .
وظاهر تفسير ابن الشجري إياه بقوله : أي نستخدم أنه بالبناء للمفعول .
ووقع في بعض نسخ مغني اللبيب ليس ننصف بدل نتنصف أي : نعامل بالإنصاف . ولم أر من روى كذا .
وقولها : فأف لدنيا إلخ أي : تحقيراً لدنيا نعيمها يزول وجمالها لا يدوم بل تتحول وتتقلب بأهلها . وتقلب وتصرف كلاهما مضارع والأصل : تتقلب وتتصرف أي : تتغير . و أف بكسر وحرقة بضم الحاء وفتح الراء المهملتين بعدها قاف وهي بنت النعمان ابن المنذر اللخمي ملك الحيرة بظهر الكوفة . وهي امرأة شريفة شاعرة . كذا ذكرها الآمدي في المؤتلف والمختلف .
وأنشد لها هذين البيتين .
ولحرقة هذه أخٌ اسمه حريق مصغر اسمها . قال هانئ بن قبيصة يوم ذي قار : المنسرح ( أقسم بالله نسلم الحلقه ** ولا حريقاً وأخته حرقه )
____________________

( حتى يظل الرئيس منجدلاً ** ويقرع السهم طرة الدرقه ) كذا ذكرها العسكري في كتاب التصحيف وأنشد لها البيتين وقال : ولها خبر مع سعد بن أبي وقاص .
وذكرها الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوي قال : زعموا أن زياد بن أبيه مر بالحيرة فنظر إلى دير هناك فقال لخادمه : لمن هذا قال : دير حرقة بنت النعمان ابن المنذر . فقال : ميلوا بنا لنسمع كلامها . فجاءت إلى وراء الباب فكلمها الخادم فقال ها : كلمي الأمير . قالت : أوجز أم )
أطيل قال : بل أوجزي . قالت : كنا أهل بيتٍ طلعت الشمس علينا وما على الأرض أحدٌ أعز منا فما غابت تلك الشمس حتى رحمنا عدونا . قال : فأمر لها بأوساق من شعير فقالت : أطعمتك يدٌ شبعي جاعت ولا أطعمتك يدٌ جوعى شبعت . ( سل الخير أهل الخير قدماً ولا تسل ** فتًى ذاق طعم الخير منذ قريب ) ويقال : إن فروة بن إياس بن قبيصة انتهى إلى دير حرقة بنت النعمان فألفاها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك قالت : ما من دارٍ امتلأت سروراً إلا امتلأت بعد ذلك ثبوراً ثم قالت : فبينا نسوس الناس والأمر أمرنا . . . . . . . . . . . . . . البيتين قال : وقالت حرقة بنت النعمان لسعد بن أبي وقاص : لا جعل الله إلى لئيم حاجة ولا زالت لكريمٍ إليك حاجة وعقد لك المنن في أعناق الكرام ولا أزال بك عن كريمٍ نعمة ولا أزالها عنه بغيرك إلا جعلك سبباً لردها عليه . انتهى .
وأورد خبر سعد بن أبي وقاص معها بأتم من هذا المعافى بن زكريا في كتاب الجليس بسنده إلى حسان بن أبان قال : لما قدم سعد بن أبي وقاص القادسية أميراً
____________________

أتته حرقة بنت النعمان بن المنذر في جوارٍ كلهن مثل زيها يطلبن صلته . فلما وقفن بين يديه قال : أيتكن حرقة قلن : هذه . قال لها : أنت حرقة قالت : نعم فما تكرارك استفهامي إن الدنيا دار زوال وإنها لا تدوم على حال إنا كنا ملوك هذا المصر قبلك يجبى إلينا خراجه ويطيعنا أهله زمان الدولة فلما أدبر الأمر وانقضى صاح بنا صائح الدهر فصدع عصانا وشتت ملأنا . وكذلك الدهر يا سعد إنه ليس من قومٍ بسرور وحبرة إلا والدهر معقبهم حسرة ثم أنشأت تقول : فقال سعد : قاتل الله عدي بن زيد كأنه ينظر إليها حيث يقول : ( إن للدهر صولةً فأحذرنها ** لا تبيتن قد أمنت السرورا ) ( قد يبيت الفتى معافًى فيرزا ** ولقد كان آمناً مسرورا ) وأكرمها سعدٌ وأحسن جائزتها فلما أرادت فراقه قالت له : حتى أحييك بتحية أملاكنا بعضهم بعضاً : لا جعل الله لك إلى لئيم حاجة ولا زال الكريم عندك حاجة ولا نزع من عبدٍ صالح نعمةً إلا جعلك سبباً لردها عليه فلما خرجت من عنده تلقاها نساء المصر فقلن لها : ما صنع بك الأكير قالت : الخفيف ( حاط لي ذمتي وأكرم وجهي ** إنما يكرم الكريم الكريم ) )
انتهى نقله من شرح أبيات المغني للسيوطي .
ونسب ابن الشجري في أماليه هذين البيتين إلى هند بنت النعمان بن المنذر .
____________________


ولعل حرقة يكون لقباً لهند أو أختاً لها . قال : هند بنت النعمان لها ديرٌ بظاهر الكوفة باقٍ إلى اليوم . ولما كان المغيرة بن شعبة الثقفي والياً بالكوفة من قبل معاوية وكان أحد دهاة العرب أرسل إلى هند بنت النعمان يخطبها وكانت قد عميت فأبت وقالت : والصليب ما في رغبة لجمال ولا لكثرة مال وأي رغبةٍ لشيخ أعور في عجوز عمياء ولكن أردت أن تفخر بنكاحي ( أدركت ما منيت نفسي خالياً ** لله درك يا ابنة النعمان ) ( فلقد رددت على المغيرة ذهنه ** إن الملوك ذكية الأذهان ) ( إني لحلفك بالصليب مصدقٌ ** والصلب أصدق حلفة الرهبان ) وكانت بعد ذلك تدخل عليه فيكرمها ويبرها . وسألها يوماً عن حالها فأنشدت : بينا نسوس الناس والأمر أمرنا . . . . . . . . . . . . . . البيتين وروي أن المغيرة هذا أدمى ثمانين بكراً ومات بالكوفة وهو أميرها بالطاعون سنة خمسين .
انتهى .
وأورد هنداً هذه إسماعيل الموصلي في كتاب الأوائل قال : أول امرأة أحبت امرأةً في العرب هند بنت النعمان بن المنذر كانت تهوى زرقاء اليمامة فلما قتلت الزرقاء ترهبت هند ولبست المسوح وبنت لها ديراً يعرف بدير هند إلى الآن وأقامت به حتى ماتت .
كذا ذكر أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني الكبير . وفيه نظر فإن هند بنت النعمان ماتت في ولاية المغيرة بن شعبة على الكوفة وزرقاء اليمامة من جديس ولهم خبر مع طسم وكانوا في زمن ملوك الطوائف وبينهما زمان طويل . فما أعلم من أين وقع لأبي الفرج هذا . انتهى .

____________________

وأنشد بعده : تمامه : شلا كما يطرد الجمالة الشردا على أن إذا فيه زائدة . وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع بعد الخمسمائة ) : الكامل ( بينا تعنقه الكماة وروغه ** يوماً أتيح له جري سلفع ) على أنه يجوز إضافة بينا دون بينما إلى المصدر كما في البيت . والأعرف الرفع على أنه مبتدأ محذوف الخبر أي : تعنقه حاصلٌ .
أقول : الأولى أن يقول : حاصلان لأن قوله : وروغه معطوف على تعنقه .
وقوله : يجوز إضافة بينا إلى المصدر يعني إلى الأسماء المفردة إذا كان فيها معنى الفعل حملاً على معنى حين كقولك : بينا قيام زيدٍ أقبل عمرو أي : حين قيام هذا أقبل ذاك . فإن وقع بعدها اسم جوهرٍ لم يكن إلا رفعاً نحو : بينا زيدٌ
____________________

في الدار أقبل عمرو لأنها تضاف إلى جثة والبيت لأبي ذؤيب الهذلي من قصيدته المشهورة التي رثى بها أولاده وكانوا خمسةً وهلكوا في عام واحد أصابهم الطاعون وكانوا فيمن هاجر إلى مصر .
وقد تقدم شرح بعض منها في الشاهد السابع والستين .
قال الإمام المرزوقي في شرح هذه القصيدة : روى الأصمعي : بينا تعنقه وروغه مجروراً .
وكان يقول : بينا يضاف إلى المصادر خاصة . والنحويون يخالفونه ويقولون : بينا وبينما عبارتان للحين وهما مبهمتان لا تضافان إلا إلى الجمل التي تبينها . فإذا قلت : بينا أنا جالس طلع زيد فالمعنى : حين أنا جالس أو وقت أنا جالس طلع زيد . وذكر سيبويه خاصة أن إذ تقع بعدهما للمفاجأة تقول : بينما نحن نسير إذ أقبل زيد .
وكثير من النحويين والأصمعي ينكرون هذا ويقولون : لا حاجة إلى إذ ألا ترى أنك تقول : حين زيدٌ جالس قام عمرو . و بينما بمنزلة حين . قالوا : وأشعارهم وردت بلا إذ . ومما استشهدوا به بيت أبي ذؤيب هذا وغيره . ومما يستشهد به لسيبويه قوله : الخفيف ( بينما نحن بالكثيب ضحًى ** إذ أتى راكبٌ على جمله ) فأما الخلاف الأول فمن شرط الأزمنة أن تضاف إلى الجمل وتشرح بها . ورواية النحويين والناس : بينا تعنقه الكماة فيرتفع تعنقه بالابتداء ويكون خبره مضمراً كأنه قال : بينا تعنقه وقال أبو علي في إيضاح الشعر : أنشد ثعلبٌ أحمد بن يحيى قول الشاعر : الكامل
____________________

( بينا كذاك رأيتني متلفعاً ** بالبرد فوق جلالة سرداح ) )
أضاف بينا إلى الكاف كما يضاف إلى المصدر في قوله : بينا تعنقه الكماة وروغه . . . . . . . . . . . . . . البيت وكما أضيفت مثلٌ إليها في قوله : الرجز فصيروا مثل كعصفٍ مأكول ولا يكون الكاف حرفاً لأن الاسم لا يضاف إلى الحرف وينبغي أن يجعل الكاف بمنزلة مثل في أنها تدل على أكثر من واحدٍ كما أن مثلاً كذلك في نحو قوله عز وجل : إنكم إذاً مثلهم لأن بين تضاف إلى أكثر من واحد ويجوز أن تكون الكاف زائدة كزيادتها في قوله عز وجل : ليس كمثله شيء وذاك منجرةٌ والمعنى الإضافة إلى ذاك . وقد أضيفت بين إلى المبهم المفرد في نحو قوله سبحانه : عوانٌ بين ذلك .
فإن قدرت الإضافة إلى الفعل الذي هو رأيتني كما أضافه الآخر إليه في قوله : البسيط ( بينا أنازعهم ثوبي وأجذبهم ** إذا بنو صحفٍ بالحق قد وردوا ) وكما أضيف إلى الجملة الاسمية في قوله : الوافر
____________________

وفصلت بين المضاف والمضاف إليه بالظرف فهو وجه . انتهى .
وهذه القصيدة أوردها المفضل في آخر المفضليات . قال ابن الأنباري في شرحها : وروى أبو عبيدة : فيما تعنقه الكماة وروغه جعل ما زائدة صلةً في الكلام أي : بينا يقتل ويراوغ إذ قتل . وعلى هذا لا شاهد في البيت ويكون تعنقه مجروراً بفي . وضمير تعنقه راجع للمستشعر في بيتٍ قبل هذا بستة أبيات وهو : ( والدهر لا يبقى على حدثانه ** مستشعرٌ حلق الحديد مقنع ) والدهر مبتدأ وجملة لا يبقى إلخ خبر المبتدأ . وعلى بمعنى مع و الحدثان بالتحريك : مصدرٌ بمعنى الحدث والحادثة ومستشعر فاعل يبقى أي : فارسٌ مستشعر وهو اسم فاعل من استشعر الثوب والدرع إذا لبسه شعاراً . والشعار بالكسر : الملبوس الذي يلي شعر الجسد .
____________________


وروى : متسربل أي : يتخذه سربالاً . وحلق الحديد : مفعول مستشعر وأراد به الدرع .
والمقنع بفتح النون المشددة : الذي على رأسه المغفر أو بيضة الحديد قاله المرزوقي .
وقال ابن الأنباري : المقنع : اللابس المغفر . و المغفر : ثوبٌ تغطى به البيضة . و المقنع : الشاك )
السلاح التامه . وحلق الحديد : حلق الدرع . ويروى : سميدع : وهو السيد . انتهى .
وقوله : بينا تعنقه كذا في جميع الروايات ووقع في الشرح وفي جمل الزجاجي وغيرهما : تعانقه بالألف .
قال ابن السيد واللخمي : هو خطأ والصواب تعنقه لأن تعانق لا يتعدى إلى مفعول إنما يقال تعانق الرجلان والمعانقة والاعتناق . والتعنق هي المتعدية ومعنى الجميع الأخذ بالعنق .
والاعتناق : آخر مراتب الحرب لأن أول الحرب الترامي بالسهام ثم المطاعنة بالرماح ثم المجالدة بالسيوف ثم الاعتناق وهو أن يتخاطف الفارسان فيتساقطا إلى الأرض معاً . وقد ذكر زهير بن أبي سلمى في قوله : البسيط ( يطعنهم ما ارتموا حتى إذا اطعنوا ** ضارب حتى إذا ما ضاربوا اعتنقا ) أراد : أنه يزيد على ما يفعلون .
والكماة بالنصب مفعول تعنقه جمع كمي وهو الشجاع الذي ستر درعه بثوبه . قال أبو زيد في نوادره : الكمي : الشديد الشجاع من كل دابة .
وقوله : وروغه : معطوف على تعنقه إن جراً وإن رفعاً وهو بالغين المعجمة وهو حيدته عن الأقران يميناً وشمالاً للتحفظ .
____________________


قال اللخمي : ومن روى بالعين المهملة فمعناه الفزع . ( بينا هم بالظهر قد جلسوا ** يوماً بحيث تنزع الذبح ) وقد تقدم بيانه قريباً في شرح البيت الذي قبل هذا . وقال اللخمي : العامل في يومٍ تعنقه ويحتمل أن يكون الروغ ويحتمل أن يكون أتيح والأول أقوى لترك تكلف التقديم . هذا كلامه .
وقوله : أتيح : هو جواب بينا وهو العامل فيه بمعنى قدر مجهول أتاح الله له الشيء أي : قدره له وهو بالحاء المهملة . وجريء بالهمز : فعيل من الجراءة . والسلفع كجعفر : الجريء الواسع الصدر . ويقال : للمرأة إذا كانت جريئةً سلفع .
وقال المرزوقي : وأكثر من يوصف به النساء ويستعمل فيهن بغير هاء والمعنى : أن هذا المستشعر الدرع حزماً وقت معانقته للأبطال ومراوغته للشجعان قدر له رجلٌ هكذا وقيض له فارسٌ شجاع مثله فاقتتلا حتى قتل كل واحد منهما صاحبه . ومراده أن الشجاع لا تعصمه جراءته من الهلاك وأن كل مخلوق فالفناء غايته . )
وأبو ذؤيب شاعرٌ إسلامي مخضرم تقدمت ترجمته في الشاهد السابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الخمسمائة )
____________________

وكان إذ ما يسلل السيف يضرب على أن بعضهم قال : يجازي ب إذا ما فيجزم الشرط والجزاء كما جزم يسلل وكسرة اللام التقاء الساكنين وجزم يضرب وكسرة الباء للروي . والرواية : متى ما .
قال شارح اللباب : قد نقل عن بعضهم أنه جوز الجزم ب إذا مكفوفة بما وأنشد للفرزدق : وكان إذا ما يسلل السيف يضرب ومن منعه قال : الرواية : متى ما يسلل . انتهى .
ورواية متى ما هي رواية حمزة الأصبهاني في أمثاله .
وذهب ابن يعيش في شرح المفصل إلى أن الجزم بها في الشعر قليل . وأنشد هذا الشعر .
وقال أبو علي : كان القياس أن تكف ما إذا عن الإضافة كما كفت حيث وإذ لما جوزي بهما إلا أن الشاعر إذا ارتكب الضرورة استجاز كثيراً مما لا يجوز في الكلام .
وإنما جاز المجازاة بإذا ما في الشعر لأنها قد ساوقت إن في الاستفهام إذ كان وقتها غير معلوم فأشبهت بجهالة وقتها ما لا يدرى أن يكون أم لا يكون . فاعرفه . انتهى .
ونقل أبو حيان في تذكرته أن الصيمري ذهب إلى أنها تكف بما مثل إذ فتجزم كبيت الفرزدق .
قال : وقد جاء بعدها ولم تجزم قال : الخفيف
____________________

ويجوز دخول الفاء على جوابها قال الفرزدق : الوافر ( إذا ما قيل يا لحماة قومٍ ** فنحن بدعوة الداعي دعينا ) وذهب أبو علي في مثل هذا إلى أن إذا غير معمولة لأنه لما جاءت الفاء في جوابها صارت بمنزلة إن وتلك لا يعمل فيها الفعل . انتهى .
وهذا المصراع من قصيدةٍ للفرزدق . وهذه أبيات منها : ( لعمري لقد أوفى وزاد وفاؤه ** على كل جارٍ جار آل المهلب ) ( كما كان أوفى إذ ينادي ابن ديهثٍ ** وصرمته كالمغنم المنتهب ) ( فقام أبو ليلى إليه ابن ظالمٍ ** وكان إذا ما يسلل السيف يضرب ) ) ( وما كان جارٌ غير دلوٍ تعلقت ** بحبلين في مستحصد القد مكرب ) روى الأصبهاني بسنده في الأغاني أن الحارث بن ظالم المري لما كان نزيلاً عند النعمان بن المنذر أخذ مصدقٌ للنعمان إبلاً لامرأة من بني مرة يقال لها : ديهث فأتت الحارث فعلقت دلوها بدلوه ومعها بني لها فقالت : يا أبا ليلى إني أتيتك مضافة فقال : إذا أورد القوم النعم فنادي بأعلى صوتك : الرجز
____________________

( دعوت بالله ولم تراعي ** ذلك راعيك فنعم الراعي ) يشفي به مجامع الصداع وخرج الحارث بن ظالم في إثرها وهو يقول : الرجز ( أنا أبو ليلى وسيفي المعلوب ** كم قد أجرنا من حريبٍ محروب ) ( وكم رددنا من سليبٍ مسلوب ** وطعنةٍ طعنتها بالمضبوب ) ذاك جهيز الموت عند المكروب ثم قال : لا يردن عليك ناقةٌ ولا بعيرٌ تعرفينه إلا أخذته ففعلت ورأت لقوحاً لها يحلبها حبشي فقالت : يا أبا ليلى هذه لي . قال الحبشي : كذبت . فقال الحارث بن ظالم : أرسلها ويلك فضرط الحبشي فقال الحارث : : است الحالب أعلم فصارت مثلاً .
____________________


قال أبو عبيدة : ففي ذلك يقول الفرزدق . وأنشد الأبيات . انتهى .
وقوله : لعمري لقد أوفى هو لغة في : وفى بالعهد كوعى وفاءً : ضد غدر . والجار : المجير والمستجير والمجاور الذي أجرته من أن يظلم فهو ضد . والمراد هنا الأول .
وفاعل أوفى الأول ضمير سليمان بن عبد الملك فإنه أجار يزيد بن المهلب من الحجاج لما هرب من حبسه وجاء إليه فأرسله مع ابنه أيوب إلى أخيه الوليد بن عبد الملك وكتب إليه يشفع فيه فقبل شفاعته .
وفاعل أوفى الثاني : ضمير أبي ليلى تنازعه هو وقام . وابن ديهث : فاعل ينادي . وصرمته : مبتدأ وكالمغنم : خبره والمتنهب : صفته حال من ابن .
والصرمة بالكسر : القطعة من الإبل ما بين العشرين إلى الثلاثين أو إلى الخمسين وقيل غير ذلك .
والمغنم : الغنيمة . والمتنهب : اسم مفعول .
وأبو ليلى : كنية الحارث بن ظالم وهو جاهلي . والقيام هنا هو العزم على الشيء والإتيان به )
على أكمل هيئاته .
والمعنى : قام لينصره ويأخذ بساعده . وجملة : وكان إذا ما يسلل إلخ معطوفة على قام أو إنها اعتراضية أفاد بها أن شأنه كان كذا . واسم كان ضمير أبو ليلى والجملة الشرطية خبر كان .
وجملة : وما كان جار إلخ حال من أبو ليلى . والجار هنا المستجير وهو اسم كان وغير دلوٍ خبرها . والقد بالكسر : السير يقد من جلد غير مدبوغ . والمستحصد اسم مفعول من استحصد الحبل إذا استحكم فتله أو ربطه . والمكرب : اسم مفعول من أكرب الدلو إذا شدها بالكرب بفتحتين وهو حبل يشد في وسط عرقوة الدلو ليلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير . ويقال أيضاً : كربها وكربها كما يقال : أكربها .
____________________


والمصدق كمحدث : آخذ الصدقات . ومضامة : اسم مفعول من الضيم وهو الجور . ومجامع والحارث بن ظالم المري جاهلي ضرب المثل بفتكه فقيل : أفتك من الحارث بن ظالم .
فمن خير فتكه ما رواه حمزة الأصبهاني والزمخشري في أمثالهما أن الحارث بن ظالم قتل خالد بن جعفر بن كلاب وكان جاراً للأسود بن المنذر أخي النعمان بن المنذر وهرب فقيل له : لن تصيبه بشيءٍ كسبي جاراتٍ له من بلي وهو حي من قضاعة ففعل فسمع ذلك الحارث فكر راجعاً من مهربه وأتى مرعى إبلهم إذا ناقةٌ لهن تدعى اللفاع تحلب فقال يخاطب الإبل : الرجز ( إذا سمعت حنة اللفاع ** فادعي أبا ليلى ولا ترتاعي ) ذلك راعيك فنعم الراعي فعرفه البائن فحبق خوفاً وأنكره المستعلي فقال الحارث : است البائن أعلم ثم استنقذهن وأموالهن وأتى أخته سلمى وقد تبنت شرحبيل بن الأسود الملك فمكر بها وأخذه منها وقتله فضرب به المثل في الفتك .
____________________


والبائن : الذي يكون عند يمين الحلوبة . والمستعلي على يسارها . قال الزمخشري : قولهم : است البائن أعلم مثلٌ يضرب لمن ولي أمراً وصلي به فهو أعلم به من غيره . وقيل يضرب لكل ما ينكر وشاهده حاضر .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي عشر بعد الخمسمائة ) الرجز من أين عشرون لها من أنى على أن أنى تجر بمن ظاهرة كما في البيت ومقدرة كما قدره الشارح المحقق .
وهذا البيت من أرجوزة رواها أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد عن ثعلب وهي : الرجز ( لأجعلن لابنة عثمٍ فنا ** من أين عشرون لها من أنى ) ( حتى يصير مهرها دهدنا ** يا كرواناً صك فاكبأنا ) ( فشن بالسلح فلما شنا ** بل الذنابى عبساً مبنا ) ( أإبلي تأخذها مصنا ** خافض سن ومشيلاً سنا ) وروى أبو زيد في نوادره البيت الأول والثالث فقط وروى : زيد
____________________

بدل عثم الدهدن : الباطل .
والفن : العناء . يقال : فننت الرجل إذا عنيته أفنه فناً . انتهى .
لأجعلن لابنة عثمٍ فنا قالا : أراد عثمان وهذا يدلك على أن الألف والنون في عثمان زائدتان فحذفهما لما اضطر وفتح أوله ليدل على ما حذف . وقال ثعلب : يريد بقوله : فناً ضرباً من الخصومة .
وقوله : يا كرواناً قال الأخفش : ترك مخاطبتها ثم أقبل على وليها كأنه قال : يا رجلاً كرواناً أي : يا مثل الكروان بضعفه إنما يدفع عن نفسه بسلحه إذا صك أي : ضرب . والاكبئنان : التقبض . وشن : صب والعبس : ما تعلق بذنبه وما يليه من سلحه . والمبن : المقيم يقال : أبن بالمكان إذا أقام به . والمصن : المتكبر .
وقوله : خافض سن ومشيلاً أخبرني أبو العباس ثعلب عن الباهلي عن الأصمعي أنه قال : تأويله أنه إذا أعطاه حقاً طلب منه جذعاً وإذا أعطاه سديساً طلب منه بازلاً .
وحكي لي من ناحية أخرى عن الأصمعي أنه قال : إذا أخذ وليها ما يدعي كثر ماله واستغنى فأكل بنهمٍ وشره فذلك قوله : خافض سن ومشيلاً سناً .
ويقال : شال الشيء إذا ارتفع وأشلته وشلت به إذا رفعته .
وحدثنا أبو العباس ثعلب قال : حدثني ابن الأعرابي أنه شاهد أبا عبيدة مرة واحدة فأخطأ في )
ثلاثة أحرف هذا منها . وذلك أنه قال : شلت الحجر والعرب
____________________

لا تقول إلا : أشلته وشلت به .
وقد أورد ابن السكيت في إصلاح المنطق الأبيات الخمسة الأخيرة من قوله : يا كرواناً صك إلخ وقال : هي في مصدق هجي بها أي : في عامل الزكاة ثم قال : قوله : خافض سن ومشيلاً سنا أي : تأخذ بنت لبون فتقول : هذه بنت مخاض فقد خفضها عن سنها التي هي فيها .
وقوله : ومشيلاً سنا يقول : تكون له بنت مخاض فيقول : لي بنت لبون : فقد رفع السن التي هي له إلى سن أخرى أعلى منها . وتكون ابنة لبونٍ فأخذ حقةً . انتهى .
وأورد ابن السيرافي في شرح أبياته الأبيات الثلاثة المتقدمة أيضاً وقال : الرجز لمدرك بن حصين وقال : قوله : فنا أي : أمراً عجباً . وقوله : من أين عشرون لها أي : من الإبل . والدهدن : الباطل وكذلك الدهدر . وقوله : يا كرواناً شبهه بالكروان . و اكبأن : تقبض واجتمع وسلح من خوفه . و شن : فرق سلحه . والمبن : الذي لصق بالذنابى ويبس عليها . والمصن : المتكبر والمنتن أيضاً واللازم للشيء لا يفارقه أيضاً . والمشيل : الرافع ويقال : أشال يشيل إشالةً إذا رفع . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد الخمسمائة )
____________________

( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) على أن لدن مجرورة بمن مضمرة أي : من لدن شب . وأورده في لدن أيضاً على أنها إن أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان .
والبيت من قصيدة للقطامي وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة . وهذه أبيات من أولها . ( نأتك بليلى نيةٌ لم تقارب ** وما حب ليلى من فؤادي بذاهب ) ( منعمةً تجلو بعود أراكة ** ذرى بردٍ عذبٍ شتيت المناصب ) ( كأن فضيضاً من غريض غمامةٍ ** على ظمأٍ جادت به أم غالب ) ( لمستهلكٍ قد كاد من شدة الهوى ** يموت ومن طول العدات الكواذب ) ( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) ( قديديمة التجريب والحلم إنني ** أرى غفلات العيش قبل التجارب ) قوله : نأتك بليلى نية إلخ قال شارح ديوانه : أي بعدت عنك . غذاءً ناعماً . وتجلو أراد تستاك . والذرى : الأعالي . والبرد : بفتحتين حب الغمام .
____________________


شبه أسنانها في شدة بياضها بالبرد . وإنما خص الذرى لأنها صحاح لم تتكسر . وشتيت : وقوله : كأن فضيضاً إلخ فضيض السحابة : ماؤها إذا انفض منها . شبه عذوبة ريقها بماء سحابة . والغريض : الطري . وقوله : لمستهلك إلخ اللام متعلقة بجادت وأراد بالمستهلك نفسه لأنه هالكٌ من حبها ومعرضها للهلاك .
وقوله : صريع غوان بالجر : بدلٌ من مستهلك ويجوز رفعه على إضمار مبتدأ ضمير المستهلك . و الصريع : المصروع وهو المطروح على الأرض : يريد أنه قد أصيب من حبهن حتى لا حراك به . و الغواني : جمع غانية وهي التي استغنت بجمالها عن الزينة وقيل : هي التي غنيت بزوجها عن غيره وقيل : هي التي غنيت في بيت أبويها ولم تتزوج أي : أقامت . وأنشد أبو عبيدة للقول الثاني : البسيط ( أزمان ليلى كعابٌ غير غانيةٍ ** وأنت أمرد معروفٌ لك الغزل ) وراق بمعنى أعجب أي : أعجبهن لجماله وشبابه وأعجبنه لحسنهن . )
وقوله : لدن شب إلخ أي : من عند وقت شبابه إلى وقت شيبه فدل على إضمار من بدليل حتى لأنها بمعنى إلى . و الذوائب : الضفائر من الشعر جمع ذؤابة .
وقد لقب القطامي صريع الغواني بهذا البيت وهو أول من لقب به وقد ذكر في الأوليات ثم لقب به مسلم بن الوليد . قال صاحب زهر الآداب : لقب مسلم صريع الغواني بقوله : الطويل انتهى .
____________________


قال صاحب الأغاني : الذي لقب مسلماً بهذا اللقب هارون الرشيد لهذا البيت .
وقوله : قديديمة التجريب إلخ وهو من أبيات سيبويه وجمل الزجاجي استشهد به على تصغير قدام قديديمة بالهاء . ومثلها وريئة . وإنما أدخلوا الهاء في تصغير وراء وقدام وإن كانت قد جاوزتا ثلاثة أحرف لأن باب الظروف التذكير فلما شذتا في بابهما فرقوا بينهما وبين غيرهما فأدخلوا فيهما علامة التأنيث . قاله اللخمي .
وقديديمة : منصوبةٌ على الظرف والعامل فيها : راقهن ورقنه أي : أعجبهن وأعجبنه . قديديمة التجريب والحلم أي : أمام التجريب والحلم .
ثم قال : أرى غفلات العيش قبل التجارب يقال : إنما يستلذ بالعيش أيام الغفلة وفي أيام الشباب قبل التجارب والتجارب إنما هي في الكبر وهو وقت أن يزهد فيهن لسنه وتجريبه وأن يزهدن فيه لشيبه .
وقد يحتمل أن يكون العامل في قديديمة محذوفاً دل عليه سياق الكلام كأنه أراد : تظن طيب العيش ولذته قدام التجربة والحلم أي : أمام ذلك ليس الأمر كذلك إنما يطيب العيش ويحسن قبل التجارب وفي عنفوان الشباب وحين الغفلة وأما بعد ذلك فلا . فيكون العامل فيها تظن وقوله : إنني قال ابن السيد : يروى بكسر الهمزة على الاستئناف وبفتحها وهو مفعول من أجله . وقد تكون إن مكسورة وفيها معنى المفعول من أجله كقوله عز وجل : ويصلى سعيراً إنه كان في أهله مسروراً .
وجاز ذلك لأن إن داخلة على الجمل والجملة قد يكون فيها معنى العلة
____________________

والسبب موجوداً . كما قال تعالى : وإن هذه أمتكم أمةً واحدةً وأنا ربكم فاتقون . ألا ترى أن المعنى : ولأن هذه أمتكم ولكوني ربكم فاتقون . انتهى .
وهذه القصيدة هجو امرأةٍ من بني محارب . حكى أبو عمرو الشيباني أن القطامي نزل في بعض )
أسفاره بامرأة من محارب بن قيس فاستقراها فقالت : أنا من قومٍ يشتوون القد من الجوع . قال : ومن هؤلاء ويحك قالت : محارب . ولم تقره فبات عندها بأشر ليلةً فقال هذه القصيدة ومنها : الطويل ( وإني وإن كان المسافر نازلاً ** وإن كان ذا حق على الناس واجب ) ( فلا بد أن الضيف مخبر ما رأى ** مخبر أهلٍ أو مخبر صاحب ) ( لمخبرك الأنباء عن أم منزلٍ ** تضيفتها بين العذيب فراسب ) ( تلفعت في طل وريحٍ تلفني ** وفي طرمساء غير ذات كواكب ) ( فما راعها إلا بغام مطيتي ** تريح بمحسورٍ من الصوت لاغب ) ( تقول وقد قربت كوري وناقتي : ** إليك فلا تذعر علي ركائبي ) ( وجنت جنوناً من دلاثٍ مناخةٍ ** ومن رجلٍ عاري الأشاجع شاحب ) ( فسلمت والتسليم ليس يسرها ** ولكنه حق على كل جانب ) ( فردت سلاماً كارهاً ثم أعرضت ** كما انحازت الأفعى مخافة ضارب ) ( فقلت لها : لا تفعلي ذا براكبٍ ** أتاك مصيبٍ ما أصاب فذاهب ) ( فلما تنازعنا الحديث سألتها ** من الحي قالت : معشرٌ من محارب ) ( من المشتوين القد مما تراهم ** جياعاً وريف الناس ليس بناضب )
____________________

( فلما بدا حرمانها الضيف لم يكن ** علي مناخ السوء ضربة لازب ) ( وقمت إلى مهريةٍ قد تعودت ** يداها ورجلاها خبيب المواكب ) ثم وصف ناقته بأبيات وقال : ( ألا إنما نيران قيسٍ إذا شتوا ** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب ) و العذيب : ماء أسفل الرحبة . و راسب : قريبٌ منه . و الطل : الندى . والطرمساء بالكسر : الظلمة .
والحيزبون : العجوز . والبغام بالضم : صوت تختلسه الناقة ولا تتمه . والمحسور : صوتٌ ضعيف .
وتريح بالضم : تستريح . والكور بالضم : الرحل بأداته . و الدلاث : بالكسر : الناقة . والأشاجع : عروق ظاهر الكف . والجانب : الغريب . )
ونار الحباحب بالضم : النار التي تظهر من قرع الحوافر . أراد أنها ضعيفة لا يشعلونها خوفاً من الضيف .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث عشر بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( فأصبحت أنى تأتها تبتئس بها ** كلا مركبيها تحت رجليك شاجر )
____________________

على أن أنى فيه شرطية مجرورة بمن مضمرة أي : من أنى تأتها .
قال سيبويه : ومما جاء بأنى من الجزاء قول لبيد : قال الأعلم : الشاهد فيه جزم تأتها ب أنى لأن معناها معنى أين ومتى وكلاهما للجزاء .
وتبتئس جزمٌ على جوابها .
قال أبو الحسن الطوسي في شرح ديوان لبيد قال الأصمعي : لم أسمع أحداً يجازى بأنى وأظنه أراد أياً تأتها يريد أي جانبي هذه الناقة أتيته وجدت مركبه تحت رجلك شاجراً أي : ينحيك ويدفعك لا يطمئن تحت رجلك .
وقال أبو عبيدة : أنى تأتها مجازاة يقول : من أي جانبٍ أتيت هذه الناقة وجدت كلا مركبيها شاجراً دافعاً لك . وتبتئس : يصبك منها بؤسٌ . يقول : كيفما ركبت منها التبس عليك الأمر .
وشاجرٌ : ملتبس . يقال : شاجر ما بين القوم : إذا اختلفوا . ويقال : شجره بالرمح إذا دفعه به وطعنه .
وقال أبو عمرو : الشاجر : المفرق بين رجليه وقد شجر بين رجليه إذا فرق بينهما إذا ركب .
انتهى .
وهذا مبني على إرجاع الضمائر المؤنثة إلى الناقة المفهومة من المقام .
وكذلك قال ابن سيده في شرح أبيات الجمل . ولم يرتضه اللخمي في شرحها . قال : قد غلط ابن سيده شارح الأبيات في البيت وزعم أنه يصف ناقة وإنما يصف داهيةً . ولو علم ما قبله علم ( لي النصر منكم والولاء عليكم ** وما كنت فقعاً أنبتته القراقر ) ( وأنت فقيرٌ لم تبدل خليفةً ** سواي ولم يلحق بنوك أصاغر )
____________________

) ( فقلت ازدجر أحناء طيرك واعلمن ** بأنك إن قدمت رجلك عاثر ) ( وإن هوان الجار للجار مؤلمٌ ** وفاقرةٌ تأوي إليها الفواقر ) فأصبحت أنى تأتها . . . . . . . . . . . . . . البيت ( فإن تتقدم تغش منها مقدماً ** غليظاً وإن أخرت فالكفل فاجر ) و الفاقرة : الداهية التي تكسر فقار الظهر وهي التي يصف في البيت . شبهها بالدابة الشموس التي إذا ركبها رمته عن ظهرها . انتهى .
أقول : البيت الذي فيه الفاقرة غير ثابتٍ في رواية الطوسي فيجوز أن يكون ابن سيده تبعه .
على أن هذا لا يسمى غلطاً فإنه تمثيل سواء قيل داهية أو ناقة أو مركب .
قال ابن السيد في شرحه : العرب تشبه التنشب في العظائم بالركوب على المراكب الصعبة فيقولون : ركبت مني أمراً عظيماً ولقد ركبت مركباً صعباً وفلانٌ ركاب العظائم .
ونحوه قول الشاعر : الطويل ( لئن جد أسباب التقاط بيننا ** لترتحلن مني على ظهر شيهم ) وروى : تشتجر بدل تبتئس قال ابن السيد : معناه تشتبك ويروى :
____________________

تلتبس ومعناه كمعنى تشتجر . و شاجر : مشتبك . وقال اللخمي : تشتجر مأخوذ من شجر الراكب إذا خالف بين رجليه فرفع رجلاً ووضع أخرى وهي ركبةٌ متهيئة للسقوط . ويروى : تبتئس من بؤس الحال .
ويروى أيضاً : تلتبس . ومركبيها : ناحيتيها اللتين ترام منهما . و شاجر : مضطرب .
يقول : من ركبها فرقت بين رجليه فهوت به . ويروى : شاغر والمعنى واحد .
يعتب عمه عامر بن مالك ملاعب الأسنة وكان قد ضرب جاراً للبيدٍ بالسيف فغضب لبيد لذلك فقال الشعر الذي تقدم يعدد بلاءه عنده . وفي الشعر ما يدل على ذلك وهو : ( من يك عني جاهلاً أو مغمراً ** فما كان بدعاً من بلائي عامر ) ( وفي كل يومٍ ذي حفاظٍ بلوتني ** فقمت مقاماً لم يقمه العواور ) و كلا مبتدأ والخبر شاجر . و تحت رجليك متعلق بشاجر . و كلا عند سيبويه اسمٌ مفردٌ .
انتهى .
وقوله : رجليك بالتثنية وروي بالإفراد . قال ابن السيد : ويروى : رحلك والرحل للناقة مثل السرج للفرس . )

____________________

والفاجر : المائل غير المستقيم .
وكان للبيدٍ جارٌ من بني القين قد لجأ إليه واعتصم به فضربه عمه بالسيف فغضب لذلك لبيد وقال يعدد على عمه بلاءه عنده وينكر فعله بجاره . وأنشد الأبيات السابقة .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : قوله فأصبحت أنى تأتها أي : متى أتيت هذه التي وقعت فيها تلتبس بها أي : تلتبس بمكروهها شرها .
ويروى : تبتئس أي : لا يقربك الناس من أجلها . وكلا مركبي الخطة إن تقدمت أو تأخرت شاجر أي : مختلف متفرق . والشاجر : الذي قد دخل بعضه في بعض وتغير نظامه . وأراد بالمركبين قادمة الرحل وآخرته . وعلى هذا طريق المثل .
يقول : لا تجد في الأمر الذي تريد أن تعمله مركباً وطيئاً ولا رأياً صحيحاً أي : موضعك إن ركبت منه آذاك وفرق بين رجليك ولم تثبت عليه ولم تطمئن . هذا كلامه . وهذا بحروفه هو ولم يورد أبو الحسن الطوسي سبب هذه القصيدة وعدتها عنده ثلاثة وعشرون بيتاً .
ولنذكر ما شرح به الأبيات السابقة : قوله : من يك عني جاهلاً رواه الطوسي : من كان مني جاهلاً . وهذا أول القصيدة . يقول : من كان يجهلني فإن عمي عامراً يعرف بلائي . وبلاؤه : صنيعه وعمله . وعامر هو ملاعب الأسنة .
____________________


والمغمر : المنسوب إلى الغمر بالضم وهو الجهل . والبدع بالكسر : كل حديث أحدث أي : ليس عامرٌ ببدعٍ من بلائي أي : بأول ما عرف ذلك .
وقوله : وفي كل يوم إلخ هو البيت الرابع عشر من القصيدة . والعواور : الجبناء والضعفاء جمع عوار بالضم والتشديد .
وبعده قوله : لي النصر منكم إلخ والرواية عند الطوسي : لي النصر منهم والولاء عليكم بالغيبة في الأول والخطاب في الثاني وقال : منهم أي : من هؤلاء الملوك وأردافهم الذين ذكروا . )
والولاء عليكم يقول : يوالوني عليكم . والفقع : ضربٌ من الكمأة وهو شرها . و القرقر كجعفر : الأرض المستوية . وفي المثل : أذل من فقع بقرقرٍ . يقول : لم أكن ذليلاً .
وقوله : وأنت فقير أي : محتاج إلي . والخليفة هنا : خلفٌ يخلفه . يقول : أنا خلفك . ولم يلحق بنوك أي : لم يكبروا له .
وقوله : فقلت ازدجر إلخ الأحناء : جمع حنو بالكسر وهي الجوانب . وقولهم : ازدجر أحناء طيرك أي : نواحيه يميناً وشمالاً وأماماً وخلفاً . ويريد بالطير الخفة . قاله الجوهري وأنشد البيت . وقالوا : أراد بذلك انظر فيما تعمله أمخطىءٌ أنت فيه أم مصيب وقال الطوسي : ازدجر : ازجر أحناء قولك إنما هذا مثل يقول : ازدجر : ازجر أحناء قولك أي : عن يمين وشمال وعلى أي حال شئت . يقول : إن ركبت هذا الأمر الذي قلت لك فيه ازدجر عثرت أو معناه انظر ما عاقبته .
____________________


وقوله : فإن تتقدم إلخ قال الطوسي : منها أي : من هذه التي ذكر يقول : إن تقدمت تقدمت على غلظٍ وأمر صعب ليس يسهل عليك وإن أخرت يقول : إن رجعت . والكفل بالكسر : كساءٌ يضعه الرجل على ظهر البعير ثم يركبه يتوقى العرق .
وقال ابن الأعرابي : هو كساء يركب به يدار حول سنام البعير ثم يعقد عقداً من خلفه يكتفل به الرجل فيمسكه ويجعل العقد من خلف السنام وفاجر : مائل وقيل : فاتحٌ لرجليك يفرج ما بينهما .
يقول : فكيف ركبت لم تجدها كما تريد . وإنما يريد نفسه أي : إنك إن فقدتني لم تجد مثلي .
وهذا مثلٌ . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الخمسمائة ) الطويل ( شربن بماء البحر ثم ترفعت ** متى لجج خضرٍ لهن نئيج ) على أن متى عند هذيل حرف جر بمعنى من أو في أو اسمٌ بمعنى وسط .
____________________


قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : في قوله متى لججٍ قولان : قيل : أراد من لجج كما قال صخر الغي : الوافر متى أقطارها علقٌ نفيث أراد : من أقطارها . وقيل : متى بمعنى وسط . وحكى أبو معاذٍ الهراء وهو من شيوخ الكوفيين : جعلته في متى كمي . انتهى . و متى هنا فيما نقله أبو معاذٍ لا تحتمل غير معنى وسط بخلاف ما نقله الشارح المحقق عن أبي زيد فإنه يحتمله ويحتمل معنى في كما قال الشارح .
وقال ابن هشام في المغني : إن متى عند هذيل اسمٌ مرادف للوسط وحرفٌ بمعنى من أو في .
يقولون : أخرجها متى كمه أي : منه . واختلف في قول بعضهم : وضعته متى كمي فقال ابن سيده : بمعنى في وقال غيره : بمعنى وسط . وكذلك اختلفوا في قول أبي ذؤيب الهذلي يصف السحاب : شربن بماء البحر ثم ترفعت . . . . . . . . . . . . . . البيت فقيل بمعنى من وقال ابن سيده : بمعنى وسط . انتهى .
والباء في قوله : بماء البحر قيل على بابها وشربن مضمن معنى روين . وقال جماعة : هي للتبعيض منهم الأصمعي وابن قتيبة في أدب الكاتب وأبو علي وغيره .
وقال ابن جني في المحتسب : الباء زائدة أي : شربن ماء البحر وإن كان قد قيل إن الباء هنا بمعنى في والمفعول محذوف معناه شربن الماء في جملة البحر . وفي هذا التأويل ضربٌ من الإطالة والبعد .
وقال في سر الصناعة أيضاً : الباء فيه زائدة إنما معناه شربن ماء البحر . هذا
____________________

هو الظاهر من الحال والعدول عنه تعسف . وقال بعضهم : معناه شربن من ماء البحر فأوقع الباء موقع من .
انتهى . )
وسبقه الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : يشرب بها من سورة الدهر قال : يشرب بها وقد أنشدني بعضهم : شربن بماء البحر ثم ترفعت . . . . . . . . . . . . . . البيت ومثله : إنه ليتكلم بكلام حسنٍ ويتكلم كلاماً حسناً . انتهى .
والحاصل أن في هذه الباء أربعة أقوال : أحدها : أنها للتعدية . ثانيها : أنها للتبعيض بمعنى من . ثالثها : أنها بمعنى في . رابعها : أنها زائدة .
وهذا على ما في كتب المؤلفين . وأما الثابت في شعر أبي ذؤيب من رواية أبي بكر القارئ وغيره فهو : ( تروت بماء البحر ثم تنصبت ** على حبشياتٍ لهن نئيج ) قال القارئ : تروت : يعني الحناتم . وتنصيت : ارتفعت . وعلي حبشيات : على سحائب سود .
ونئيج : مر سريع .
وعلى هذه الرواية لا شاهد في الموضعين .

____________________

والبيت بعد مطلع قصيدةٍ لأبي ذؤيب الهذلي عدتها تسعةٌ وعشرون بيتاً وهذا مطلعها عند أبي بكر القارئ وأبي حنيفة الدينوري في كتاب النبات : قال القارئ : الحناتم : السحاب في سواده . والحنتمة : الجرة الخضراء . شبه السحاب بها .
والحناتم : الجرار الخضر . وثجيج : سائل . انتهى .
وقال الدينوري : الحنتم من السحاب : الأخضر وهو الأسود . وثجيج : متدفق .
وقال ابن السيد : الحناتم : سحابٌ سود واحدها حنتم وأصل الحناتم جرار خضر ولكن العرب تجعل كل أخضر أسود وإنما يفعلون ذلك لأن الخضرة إذا اشتدت صارت سواداً ولذلك قالوا لليل : أخضر .
قال ذو الرمة : البسيط في ظل أخضر يدعو هامه البوم وأم عمرٍ و مفعول مقدم وحناتم فاعل مؤخر وكل آخر ليلة ظرف . قال الأصمعي : يريد أبداً .
ومثله : لا أكلمك آخر الليالي أي : لا أكلمك ما بقي علي من الزمن ليلة . )
والثج والثجيج : السيل الشديد فيجوز أن يكون معنى ثجيج بمعنى ثاج ويجوز أن يكون أراد ذو ثجيج فحذف المضاف ويجوز أن يكون أوقع المصدر
____________________

موقع اسم فاعل مبالغةً في المعنى .
قاله ابن السيد .
وجعل العيني وتبعه السيوطي في شرح أبيات المغني هذا البيت بعد البيت الشاهد وقال : ( صحا قلبه بل لج وهو لجوج ** وزالت به بالأنعمين حدوج ) وهذا البيت غير موجودٍ في القصيدة . ورواه العيني : صبا صبوةً بل لج وهو لجوج وأورد بعد أربعة أبياتٍ أخر إلى قوله : سقى أم عمرو البيت الذي ذكرناه مطلعاً . وليست هذه الأبيات في تلك القصيدة ولا هي من نسجها وما أدري من أين أتى بها . والله أعلم .
وقوله : شربن بماء البحر النون ضمير الحناتم .
وقال العيني : ضمير السحب . مع أنه لم يتقدم للسحب ذكر ولا في الأبيات التي جعلها أول القصيدة .
قال ابن السيد : هذيلٌ كلها تصف أن السحاب تستقي من البحر ثم تصعد في الجو . وهذا ما عليه الحكماء من أن السحاب ينعقد من البخار أعني الأجزاء الهوائية المائية المتحللة بالحرارة من الأشياء الرطبة وذلك أن البخار المذكور إذا تصاعد ولم يتلطف بتحليل الحرارة أجزاءه المائية حتى يصير هواء فإنه إذا بلغ الطبقة الزمهريرية تكاثف فاجتمع سحاباً وتقاطر مطراً إن لم يكن البرد شديداً .
واللجج : جمع لجة وهو معظم الماء . ووصفها بخضر لصفائها يقال : ماء
____________________

أخضر أي : صافٍ .
ونئيج : على فعيل مهموز العين : المر السريع بصوتٍ من نأجت الريح تنأج نئيجاً : تحركت فهي نؤوج . وللريح نئيج أي : مر سريع . وجملة : لهن نئيج في موضع الحال من فاعل ترفعت العائد على حناتم بمعنى سحائب .
وترجمة أبي ذؤيب الهذلي تقدمت في الشاهد السابع والستين من أوائل الكتاب .
وأنشده بعده ( الشاهد الخامس عشر بعد الخمسمائة ) البسيط ( أو راعيان لبعرانٍ شردن لنا ** كي لا يحسان من بعراننا أثرا ) على أن كي فيه بمعنى كيف أو أن أصلها كيف فحذفت الفاء لضرورة الشعر .
وهذا البيت أنشده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولسوف يعطيك ربك فترضى كذا : ( من طالبين لبعرانٍ لنا رفضت ** كي لا يحسون من بعراننا أثرا ) قال : هي في قراءة عبد الله : ولسيعطيك ربك فترضى والمعنى واحد إلا أن سوف كثرت في الكلام وعرف موضعها فترك منها الفاء والواو والحرف
____________________

إذا كثر فربما فعل به ذلك كما قيل : أيشٍ تقول وكما قيل : قم لا أباك وقم لا بشانيك يريدون : لا أبا لك ولا أبا لشانئك . وقد سمعت بيتاً حذفت الفاء فيه من كيف قال الشاعر : من طالبين لبعرانٍ لنا رفضت . . . . . . . . . . . . . البيت أراد : كيف لا يحسون . وهذا كذلك . انتهى .
ونقلته من نسخةٍ صحيحة بخط الخطيب البغدادي صاحب تاريخ بغداد .
وأنكر أبو علي في البغداديات هذا وحتم أن تكون كي فيه بمعنى اللام وهذه عبارته : أنشد أبو بكر عن ابن الجهم عن الفراء : ( من طالبين لبعرانٍ لهم شردت ** كيما يحسون من بعرانهم خبرا ) قال الفراء : أراد كيف فرخم . قال أبو بكر : وهذا خطأ وهو كما قال وبسطه أن كيف اسم يمتنع ترخيمه من غير وجه : أحدها : أنه اسم ثلاثي والثلاثي لم يجئ مرخماً إلا ما كان ثالثه تاء التأنيث .
والآخر : أنه منكور والمنكور لا يرخم كما لا يبنى والترخيم أبعد من البناء فإن امتنع بناؤه كان ترخيمه أشد امتناعاً أيضاً فإن كيف اسمٌ مبني مشابه للحروف والحذف إنما يكون في الأسماء المتمكنة والأفعال المأخوذ منها ولا يكون في الحروف .
كذلك ينبغي أن لا يكون فيما غلب عليه شبهها وصار بذلك في حيزها . فإن أراد بالترخيم ما يستعمله النحويون في هذا النوع من المنادى فهو غير منادًى وإن أراد به الحذف فهو غير سائغ . )
فإن قلت : فقد قالوا : لد ولدن فحذفوا منه وهو غير متمكن فكذلك يسوغ الحذف من كيف .
____________________


فالجواب أنه لا يسوغ الحذف من حيث حذف من لدن وذلك أن لدن لما فتح ما قبل النون منها وضم ونصب الاسم بعدها في قولهم : لدن غدوةً ضارع التنوين الزائد في الاسم لاختلاف الحركة قبلها وانتصاب الاسم بعدها فحسن لذلك حذفها كما يحذف الزائد .
وأيضاً فإن هذا الاسم يضاف في نحو قولهم : لد الصلاة ويدخل عليه حرف الجر ويضاف إلى المضمر والمظهر . وكل ذلك توسع فيها ليس في كيف مثله فيسوغ فيه في دخول ذلك ما لا يسوغ في كيف .
وأيضاً فإن النون شديدة المشابهة بحروف اللين . ألا تراها تزاد في مواضع زيادتها وتلحق علامة الإعراب كما يزاد ما هو منها . وحذفوها فاءً في قوله : الطويل وهل يعمن من كان في العصر الخالي وفي نحو : عموا ظلاما . فحذفه أسهل لذلك من حذف غيره . ولو لم
____________________

يكن في النون من هذه الكلمة ما ذكرنا لما كان لحمل كيف عليه مساغٌ ما وجد لغيره مجاز .
فإن قلت : فكيف وجه البيت عندك فالقول أن كي على ضربين : تكون مرة بمعنى اللام وذلك في قولهم : كيمه . وتكون في معنى أن في نحو : لكيلا تأسوا فنقول : إن كي في البيت هي التي بمعنى اللام فيمن قال : كيمه دخلتها ما كافة فمنعتها العمل الذي تعمله فارتفع الفعل بعدها لكف ما لها عن الدخول على الفعل كما كفت رب ومن في قولهم : مما أفعل وربما يقوم .
ونظير هذا ما أنشدناه عن أبي الحسن من قوله : الطويل ( إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يرجى الفتى كيما يضر وينفع ) فعلى هذا يحمل هذا البيت . انتهى .
وهذا كله تطويلٌ بلا طائل فإن رواية الفراء الثابتة عنه : كي لا بلا النافية لا بما والتصرف في الحرف بالحذف وغيره ثابتٌ مع أنه خلاف الأصل فكونه في الاسم أولى وأحق .
ونظير حذف الفاء من كيف حذفها من سوف فإنهم يقولون : سو أفعل والأصل : سوف أفعل . )

____________________

وقد حذفت من على الحرفية اللام والألف كما قال الشاعر وأنشده سيبويه في آخر كتابه : الطويل طفت علماء غزلة خالد والأصل : على الماء .
والمراد بالترخيم في نحو هذا التخفيف بالحذف وهو شائعٌ في كلامهم فلا وجه للترديد بين ترخيم المنادى وغيره .
على أن الفراء إنما عبر بالحذف لا بالترخيم ومحصل كلامه إنكار مجيء كي مخففاً من كيف .
وجمل كي في البيت على أنها بمعنى اللام بمعرفة ما الكافة لها عن النصب على تقدير صحة نقله فيما يصنع بقول الآخر قد أنشده ابن هشام في المغني في كي وفي كيف : البسيط ( كي تجنحون إلى سلمٍ وما ثئرت ** قتلاكم ولظى الهيجاء تضطرم ) وليس بعدها ما والمعنى على الاستفهام . ولعله يقول : إن كي موضوعة للاستفهام عن حال الشيء بمعنى كيف إلا أنها مخففة من كيف كما هو مذهب جماعة وحكاه الشارح المحقق عن الأندلسي .
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : وفي كيف لغتان قالوا : كيف وكي قال الشاعر :
____________________

قالوا : كي . ها هنا بمعنى كيف استفهامٌ . وقال قوم : أراد : كيف وإنما حذف الفاء تخفيفاً كما قالوا : سو أفعل والمراد : سوف أفعل . انتهى .
وعلى هذا الأخير اقتصر صاحب المغني . والظاهر أن هذا من قبيل ضرورة الشعر إذ لو كانت كي موضوعة للاستفهام لوردت في النثر ولدونت في كتب اللغة كسائر الألفاظ الموضوعة .
والبيت الأول غير واضح المعنى وقائله غير معروف وما قبله مجهول . و البعران بالضم : جمع بعير وهو في الإبل بمنزلة الرجل في الإنسان . والنون في شردن للإبل لأنها جماعة . ورواه ابن يعيش : شردت بالتاء مع تقديم لنا عليه . و يحسان بضم الياء : مضارع : أحس الرجل الشيء إحساساً : علم به . و أثراً : مفعول به .
ورواية أبي علي قريبةٌ من رواية الفراء .
وقوله : من طالبين هو جمع مجرور بمن . ورفضت بالفاء والضاد المعجمة قال في المصباح : )
رفضت الإبل من باب ضرب : تفرقت في المرعى . ويتعدى بالألف في الأكثر فيقال : أرفضتها وفي لغة بنفسه .
وقائل البيت الثاني مجهولٌ أيضاً . وزعم العيني وتبعه خدمة المغني أنه من أبيات سيبويه وهذا لا أصل له فإني قد تصفحت أبياته مراراً فلم أجده فيها . وتجنحون : تميلون . والسلم بكسر السين وفتحها : الصلح .
وثئرت بالبناء للمفعول . وقتلاكم : نائب الفاعل من ثأرت القتيل : طلبت دمه وقتلت قاتله .
والثأر مهموز . و الهيجاء : الحرب . وتضطرم : تلتهب . والجملتان حالان من الواو في تجنحون .
وأتعجب من العيني في قوله : الشاهد في كي فإنه بمعنى كيف وهو اسمٌ لا شك فيه ككيف لدخول حرف الجار عليه . انتهى .
____________________


وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الخمسمائة ) الرمل ( يا أبا الأسود لم أسلمتني ** لهموم طارقات وذكر ) على أن لم مركبة من اللام و ما الاستفهامية فلما جرت باللام حذفت الألف وسكنت الميم كما أن كم مركبة من الكاف و ما الاستفهامية .
وهذا قول الفراء في تفسيره أورده في شرح لكن من قوله تعالى : ولكن الناس أنفسهم يظلمون من سورة يونس قال : ونرى أن قول العرب : كم مالك أنها ما وصلت من أولها بالكاف ثم إن الكلام كثر بكم حتى حذفت الألف من آخرها وسكنت ميمها كما قالوا : لم قلت ذاك ومعناه : لم قلت ذاك ولما قلت ذاك كما قال الشاعر : يا أبا الأسود لم أسلمتني . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال بعض العرب في كلامه وقيل : مذ كم قعد فلان فقال : كمذ أخذت في حديثك . فرده الكاف في مذ يدل على أن الكاف في كم زائدة . وإنهم ليقولون : كيف أصبحت فيقول : كالخير وكخير . وقيل لبعضهم : كيف تصنعون الأقط فقال : كهينٍ . انتهى .
____________________


وقوله : لم قلت بسكون الميم ظاهره أنه جائز في الكلام ير مخصوص بالشعر ويؤيده قول ابن الشجري في أماليه : ومن العرب من يقول : لم فعلت بإسكان الميم . )
قال ابن مقبل : الوافر ( أأخطل لم ذكرت نساء قيسٍ ** فما روعن عنك ولا سبينا ) وقال آخر : ( يا أبا الأسود لم خليتني ** لهمومٍ طارقاتٍ وذكر ) انتهى .
وكذا في شرح الشافية للشارح المحقق قال : وأما على مه وإلى مه وحتى مه ف ما فيها جزء مما قبلها لكون ما قبلها حروفاً فلا تستقل فيجوز لك الوقف بالهاء كما ذكر وبسكون الميم أيضاً لكون علام مثلاً كغلام . قال : يا أبا الأسود لم خليتني . . . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
فقول ابن هشام في المغني إن تسكين الميم بعد حذف الألف مخصوص بالشعر غير صحيح .
وقد تقدم في الشاهد السادس والثلاثين بعد الأربعمائة ما يتعلق بحذف ألف ما الاستفهامية .
وقوله : أسلمتني هو من أسلم أمره لله وسلم بمعنى فوض أو من أسلم الأجير نفسه للمستأجر : مكنه من نفسه وكذلك سلم بالتشديد . ويجوز أن يكون من أسلمه بمعنى خذله .
____________________


وروى بدله : خليتني بمعنى تركتني . وروى أيضاً : خلفتني قال الدماميني : معناه أخرتني . و الهموم : الأحزان . و الطروق : المجيء ليلاً .
وإنما جعل الهموم طارقاتٍ لأن أكثر ما يعترى الإنسان في الليل حيث يجمع فكره ويخلو باله فيتذكر ما هو فيه من الأحوال الموجعة والمصائب المؤلمة . و ذكر بكسر ففتح قال الشاطبي في شرح الألفية : هو جمع ذكرى على خلاف القياس لأن وقال الدماميني : هو جمع ذكرى وهو نقيض النسيان . أو جمع ذكرة بمعنى ذكرى . وهو على الأول محفوظ وعلى الثاني مقيس . انتهى .
قال صاحب المصباح : ذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالتأنيث وكسر الذال والاسم ذكر بالضم والكسر نص عليه جماعةٌ منهم أبو عبيدة وابن قتيبة . وأنكر الفراء الكسر في القلب وقال : اجعلني على ذكرٍ منك بالضم لا غير . ولهذا اقتصر جماعةً عليه . ويتعدى بالألف والتضعيف فيقال : أذكرته وذكرته ما كان فتذكر . انتهى . )
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو لا يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشده بعده : الطويل ( صريع غوانٍ راقهن ورقنه ** لدن شب حتى شاب سود الذوائب ) على أن لدن إذا أضيفت إلى الجملة تمحضت للزمان .
هذا هو التحقيق لبقاء حكم المضاف إلى الجمل على وتيرة واحدة .
____________________


وقال أبو حيان في الارتشاف : ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلا لدن وحيث فتضاف إلى جملة الابتداء نحو : الطويل وتذكر نعماه لدن أنت يافعٌ لزمنا لدن ساءلتمونا وفاقكم وجاءت أن زائدة بعدها في قوله : الطويل وليت فلم تقطع لدن أن وليتنا قال ابن الدهان : ولا يضاف إلى الجمل من ظروف المكان إلا حيث وحدها . ولدن شب على إضمار أن كما صرح بأن في قوله : الطويل أراني لدن أن غاب رهطي انتهى .
____________________


وتقدم الكلام على البيت قريباً .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الخمسمائة ) الوافر ( فإن الكثر أعياني قديماً ** ولم أقتر لدن أني غلام ) على أن الجملة التي بعد لدن يجوز تصديرها بحرف مصدري .
وهذا البيت أنشده ابن السكيت في إصلاح المنطق ونسبه كالشارح إلى عمرو بن حسان من بني الحارث بن همام .
وقال شارح أبياته ابن اليرافي في قوله : فإن الكثر أعياني إلخ أي : طلب الغني في أول أمري وحين شبابي فلم أبلغ ما في نفسي منه ومع ذلك فلم أكن فقيراً . فلا تأمرني بطلب المال وجمعه وترك تفريقه فإني لا أبلغ نهاية الغنى بالمنع ولا أفتقر بالبذل . انتهى .
قال صاحب الصحاح : الكثر بالضم من المال : للكثير . يقال : ما له قل ولا كثر . وأنشد البيت .
وقال في قتر : وأقتر الرجل : افتقر . وأنشده أيضاً .
وقال في عيي : وعييت بأمري إذا لم تهتد لوجهه . وأعياني هو . وأنشده أيضاً وقال : يقول كنت متوسطاً لم أفتقر فقراً شديداً ولا أمكنني جمع المال الكثير .
ويروى : أعناني أي : أذلني وأخضعني . انتهى .
____________________


وهذا البيت يدل للشارح المحقق على أن لدن إذا أضيفت إلى الجملة تكون ظرف زمان . وهذا ظاهر منه .
وعمرو بن حسان : شاعرٌ صحابي ذكره ابن حجر في الإصابة . ( الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة ) الرجز ( طاروا علاهن فطر علاها ** واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ) على أنه قد حكي عن قوم من العرب : لداك وإلاك وعلاك فلم يقبلوا الألف ياءً مع المضمر في علاهن وعلاها وفي المثنى أعني حقواها . وكان القياس : عليهن وعليها وحقويها .
قال أبو حاتم فيما كتبه على نوادر أبي زيد : هذه لغة بني بن كعب ولغتهم قلب الياء الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً يقولون : أخذت الدرهمان والسلام علاكم . انتهى .
وسيأتي بقية الكلام عليه إن شاء الله في المثنى .
قال أبو زيد في نوادره : قال المفضل : أنشدني أبو الغول لبعض أهل اليمن : ( أي قلوصٍ راكبٍ تراها ** طاروا عليهن فشل علاها )
____________________

( واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ** ناجيةٍ وناجياً أباها ) القلوص مؤنثة . علاها يريد عليها وهي لغة بني الحارث بن كعب . وأما أباها فيمكن أن يكون أراد أبوها فجاء به على لغة من قال هذا أباك في وزن هذا قفاك . وكذا كان القياس .
وأنشد أبو زيد البيتين الأولين من الأربعة في أوائل النوادر ثم قال : وأما أباها يعني في البيت الرابع فيمكن أن يكون أراد أبوها فجاء به على لغة من قال : هذا أباك في وزن هذه عصاك .
وكذا كان القياس .
وقال بعضهم : ولكن يقال أبٌ وأبان كقولك : يدٌ ويدان فأراد الاثنين . انتهى .
قال أبو الحسن الأخفش في شرح النوادر : قال أبو حاتم : سألت أبا عبيدة عن هذه الأبيات فقال : انقط عليها هذا من صنعة المفضل . انتهى .
وقوله : أي قلوص راكبٍ بإضافة قلوص إلى راكب و أي استفهامية قصد بالاستفهام المدح والتعظيم وقد اكتسب التأنيث من قلوص ولهذا أعاد الضمير عليها مؤنثاً . أو فيه قلبٌ والأصل قلوص أي راكب تراها . وهذا هو الظاهر . و أي : منصوب من باب الاشتغال ويجوز الرفع على الابتداء . والقلوص بالفتح : الناقة الشابة .
وقوله : طاروا عليهن كذا في موضعين من النوادر ورواه الجوهري : طاروا علاهن كالثاني .
وطاروا يقال : طار القوم أي : نفروا مسرعين . كذا في المصباح . )
ورواه ابن هشام في شرح الشواهد : شالوا علاهن وقال : شال الشيء شولاً إذا ارتفع .
والأمر شل بالضم . ويتعدى بالهمزة وبالباء فيقال أشلته وشلت به . وقول العامة شلته بالكسر
____________________

والظاهر أن المراد ارتفعوا على إبلهم فارتفع عليها . ولا حاجة إلى ذكر المفعول المعدى بالباء .
ويؤيده رواية طاروا فإن المعنى أسرعوا مخفين . ورواية الشارح فطر علاها هي صاحب الصحاح . و الحقب بفتح الحاء المهملة والقاف قال في الصحاح : هو حبل يشد به الرحل إلى بطن البعير مما يلي ثيله أي : ذكره كي لا يجتذبه التصدير . تقول منه : أحقبت البعير . انتهى . و المثنى : مصدر ميمي من ثنيت الشيء ثنياً ومثنًى إذا عطفته أريد به اسم المفعول أي : المعطوف ثانياً . و حقواها : مثنى حقو بفتح الحاء المهملة وسكون القاف وهو الخصر ومشد الإزار مثلاً .
وقول أبي زيد : إن أباها مثنى أب حذفت النون للإضافة أراد أباها وأمها فثني على التغليب .
وأنشد الجوهري الأبيات في علا بهذا الترتيب : ( أي قلوصٍ راكبٍ تراها ** فاشدد بمثنى حقب حقواها ) ( ناجيةً وناجياً أباها ** طاروا علاهن فطر علاها ) وأنشد بعده الهزج ( فلولا نبل عوضٍ في ** حظباي وأوصالي )
____________________

على أن عوضاً قد يستعمل لمجرد الزمان فيعرب .
جعل الشارح المحقق استعماله لمجرد الزمان سبباً لإعرابه أي : الزمان المجرد عن العموم والاستغراق بأن يكون نكرة غير مضمن معنى الإضافة . فإن ضمنها بني على الضم كما سيأتي في كلامه . وإن أضيف لفظاً أعرب . فيكون له ثلاثة استعمالات : الأول : ما نكر بأن قطع عن الإضافة لفظاً ومعنًى كما في البيت وفي قولهم : من ذي عوضٍ فيعرب جراً بإضافة شيءٍ إليه . ولم يسمع نصبه منوناً على الظرفية .
الثاني : ما حذف منه المضاف إليه وضمن معناه فيبني على الضم أو أحد أخويه نحو : لا أفعله عوض والأصل : عوض العائضين . )
والثالث : ما أضيف لفظاً كعوض العائضين .
هذا مقتضى كلامه وهو الحق الذي لا ينبغي أن يحاد عنه فإنه جمع شملها المتفرق في كتب النحويين بإدخالها في حكم ظروف الجهات .
وقال أبو حيان في الارتشاف : وقد يضاف إلى العائضين أو يضاف إليه فيعرب . وأورد هذا وقال ابن هشام في المغني : هو معرب إن أضيف كقولهم : لا أفعله عوض العائضين مبني على أحد الحركات إن لم يضف .
فالأول : يشمل ما قاله الشارح المحقق لكن لا بذلك الحكم . والثاني : يقتضي بناء نحو البيت على حركة ولا قائل به .
____________________


والعجب من ابن الملا فإنه شرح كلام المغني بكلام الشارح المحقق .
وقال ابن جني في الكلام على هذا البيت من إعراب الحماسة : وأما إعرابه فلأنه اضطر إليه كما يضطر الشاعر إلى صرف ما لا ينصرف . وهو مبني على الضم والفتح . هذا كلامه .
فيقال له : أي : ضرورة في قولهم : افعل ذاك من ذي عوض .
وأما شراح الحماسة فالمفهوم من كلامهم أنه مبني في البيت . ولم يتعرضوا لإعرابه بوجهٍ .
قال المرزوقي : عوض اسم الدهر معرفة مبني وكما يبنى على الفتح قد يبنى على الضم والضم فيه حكاه الكوفيون . ويقال : لا أفعله عوض العائضين . وإنما يبنى لتضمنه معنى الألف واللام . انتهى .
وقد سطرها الخطيب التبريزي في شرحه من غير زيادة .
وأما الأمين الطبرسي فلم يزد على قوله : عوض من أسماء الدهر . وهذا كله مما يستغرب منه .
وقول الشارح المحقق : وعوض في الأصل اسم للزمان والدهر بل الأصل مصدر عاضني الله منه عوضاً بفتح فسكون وعوضاً بكسر ففتح وعياضاً بالكسر . كذا في العباب . فالعوض : كل إعطاءٍ يكون خلفاً من شيءٍ .
قال ابن جني في شرح البيت : إنما سموا الدهر عوضاً لأنه من التعويض وذلك أنه كلما مضى جزءٌ من الدهر خلف آخر من بعيده فكان الثاني كالعوض من الأول . وقد ذكرت هذا الموضع في كتابي الموسوم بكتاب التعاقب .
وقال ابن هشام في المغني : وقيل : بل لأن الدهر في زعمهم يستلب ويعوض . )
وقوله أيضاً : ويقال افعل ذلك من ذي عوض إلخ افعل يقرأ أمراً وخبراً
____________________

والمعنى افعله في زمانٍ ذي تعويض أي : في زمان يكون عوضاً من هذا الزمان وهو المستقبل .
وأنف بضم الألف والنون معناه الابتداء الجديد أي : الإضافي بالنسبة إلى ما قبله . والمعنى : افعله في زمان ذي ابتداءٍ متجدد وهو الوقت الذي يتجدد بانقضاء ما قبله كاليوم والليلة والأسبوع والشهر والسنة . والفعل منه استأنف استئنافاً .
ومنه حديث ابن عمر : إنما الأمر أنفٌ أي : يستأنف استئنافاً من غير أن يكون سبق به سابق قضاء وتقدير . وروضة أنفٌ أي : مستجدة لم تطأها الماشية ولم ترعها . ومنه حديث أبي ورجلٌ مئناف أي : ترعى ماشيته أنف الكلأ . وكأس أنف : مستجدة للشرب فيها لم تستعمل قبل هذا الوقت . وقولهم : فعله آنفاً بالمد وكسر النون من هذا أيضاً وهو أول الزمان الذي أنت فيه .
ويقال أيضاً : افعل ذاك من ذي قبل بفتح القاف والموحدة وهو اسم مصدر لأقبل إقبالاً . أي : في زمان ذي إقبال .
وفي فصيح ثعلب : لا أكلمك إلى عشرين ذي قبل أي : إلى عشر ليال من زمان ذي استقبال أي : من مستقبل الشهر .
والبيت من أبيات ثمانية للفند الزماني أوردها أبو تمام في مختار أشعار القبائل وفي الحماسة وأولها : ( أيا طعنة ما شيخٍ ** كبيرٍ يفنٍ بالي ) ( تقيم المأتم الأعلى ** على جهدٍ وإعوال )
____________________

( ولولا نبل عوضٍ في ** حظباي وأوصالي ) ( لطاعنت صدور الخي ** ل طعناً ليس بالآلي ) وقوله : أيا طعنة إلخ قال الإمام المرزوقي : أراد : يا طعنة شيخ و ما زائدة وهذا اللفظ لفظ النداء والمعنى معنى التعجب والتفخيم أراد : ما أهولها من طعنة ويا لها من طعنة بدرت من شيخٍ كبير السن فاني القوى بالي الجسم . و اليفن : الشيخ الهرم . ويجوز أن يكون المنادى محذوفاً وطعنة منصوب بفعل مضمر كأنه أراد : يا قوم اذكروا طعنة شيخ . انتهى . )
وقد بين الوجهين أبو هلال العسكري في شرح الحماسة قال : في ندائه وجهان : أحدهما : أن يعجب من فظاعتها فكأنه يقول : هلمي يا طعنة فاعجبي أنت أيضاً من سعتك وهولك .
والآخر : أن المنادى غير الطعنة كأنه قال : يا هؤلاء اشهدوا طعنةً لا يطعن مثلها شيخٌ . وإنما قال طعنة شيخ لأن قبيلة بكر قالت : وما يغني هذا العشمة وذلك أن عداد زمانٍ في بني حنيفة وكانوا اعتزلوا حرب بكر وتغلب حتى كتب إليهم الحارث بن عباد يعنفهم فسرحوا إليهم فنداً في سبعين راكباً وكتبوا إليهم : إنا أمددناكم بمائة فارس .
قال مؤرخ : أمددناكم بألف رجل . فقالت بكر : وما يغني هذا العشمة وكان شيخاً وله مائة وعشرون سنة . فقال : أما ترضون أن أكون لكم فنداً من أفناد حضن تلودون بي فأرسلوه في الطلائع ورجع وليس معه رمحه فسئل عنه فقال : طعنت به رجلاً فأنفذته وقال مؤرج : كان عمرو بن الرقبان التغلبي حمل على بكر فمر على صبي عند أمه فانتظمه برمحه وحمله على رأس الرمح وصرخت أمه فقال : تحنني أم
____________________

الربع . فحمل عليه الفند فطعنه فأنفذه . وتزعم بكر أنه طعنه وخلفه رديفٌ له فانتظمها . وهذا مشهور في بكر وتغلب أعني طعنة عمرو وطعنة الفند وقيل فيه شعر مصنوع قديم يعني هذه الأبيات . انتهى .
وقوله : تقيم المأتم إلخ قال المرزوقي : هذا من وصف الطعنة كأنه كان تناوله بها رئيساً فلذلك وصف المأتم بالأعلى . والمأتم أصله أن يقع على النساء يجتمعن في الخير والشر واشتقاقه من الأتم وهو الضم والجمع ومنه الأتوم وهي المرأة التي صار مسلكاها مسلكاً واحداً . وأراد بالمأتم هنا الاجتماع للرزية وهو مصدرٌ وصف به .
ويجوز أن يراد به أهل المأتم فحذف المضاف . والأعلى يراد به الأفظع شأناً . ووصف الطعنة بأنها تقيم الجمع على مجاهدة بلاء وإسراف في الصياح والعواء أي : تديم ذلك له . والعويل والعولة : صوت الصدر . انتهى .
وقال التبريزي : الإعوال : رفع الصوت بالبكاء .
وقوله : ولولا نبل عوض إلخ أجمعوا في هذا الموضع على أن عوضاً اسم الدهر وقد شذ بعضهم فقال : عوضٌ : رجلٌ كان يعمل النبال جيدة فشبه ما ناله من نوائب الزمان بإصابة تلك و حظباي بالإضافة إلى ياء المتكلم . والحظبى بضم الحاء المهملة وضم الظاء المشالة والمعجمة )
بعدها موحدة مشددة وألف مقصورة قال القالي في المقصور والممدود : هو الظهر . قال : ووزنه فعلى ولم يأت على هذا الوزن إلا الاسم دون الصفة .
وقال ابن ولاد في المقصور والممدود : هو الصلب يعني ظهر الرجل .
وقال أبو هلال العسكري في شرحه : قال أبو الندى : الحظبى : عرق في الظهر . وقال غيره : الحظبى : عرق يبتدئ من القلب ويبدو عند السرة ثم يتشعب
____________________

فتتفرق شعبه في الظهر يسميه الأطباء : الشريان العظيم وقال الصاغاني في العباب : الحظبى : صلب الرجل ويقال : إنه عرق في الظهر ويقال : إن الحظبى الجسم وفسر بالمعاني الثلاثة هذا البيت .
وقال أبو زيد : الحظنبى بالنون قبل الموحدة وأنشد البيت في حظنباي . ورواه المرزوقي : في حضماتي وأوصالي بضمتي الخاء والضاد المعجمتين وتشديد الميم وقبل ياء المتكلم مثناة فوقية على أنه جمع خضمة . قال : والخضمة : ما غلظ من الساق والذراع ويبدل من ميمه الباء فيقال : خضبة .
والمعنى : لولا رميات الدهر في مفاصلي ومجامع أعضائي ومستغلظ عضدي وذراعي لكان تأثيري وبلائي في الحرب أكثر مما كان ولشفعت تلك الظعنة ولم أدعها وتراً . انتهى .
وقال أبو هلال العسكري : ويروى : في أعالي يريد انحناء ظهره وتشنج جلده واضطراب خلقه وانحلال قواه . و الأوصال : جمع وصل بكسر الواو وسكون الصاد وهو المفصل .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : الظرف الذي هو قوله في حظباي متعلق بنفس النبل لما فيها من معنى الحدة والنفوذ كقول جرير : الطويل ( تركت بنا لوحاً ولو شئت جادنا ** بعيد الكرى ثلجٌ بكرمان ناضج ) علق بعيد الكرى بثلج لما فيه من معنى البرد . ولا يجوز أن يكون الظرف حالاً من نيل لأن أبا الحسن منع اشتغال الحال مع لولا لأنها ضربٌ من الخبر والخبر هنا محذوف البتة .
ويجوز أن يكون خبر لمبتدأٍ محذوف أي : هي في حظباي فيكون حظباي متعلقاً بمحذوف .
____________________


وأما حظباي فإنه معظم بدنه وهو قول أحمد بن يحيى وهو من قولهم : رجل حظبٌ للجافي الغليظ . وحظبى فعلى كالحذرى والنذرى . وحظباتي بالتاء خطأ . انتهى .
وقوله : لطاعنت صدور الخيل إلخ هذا جواب لولا . : أراد بالخيل الفرسان أي : لولا ما )
قدمت من العذر لدافعت بالطعن أوائل الخيل طعناً لا تقصير فيه ولا قصور . وخص الأوائل منهم لتقدمه . ويجوز أب يريد بالصدور الرؤساء والأكابر . وهم يتبجحون بمجاذبة الأشراف . ( من عهد عادٍ كان معروفاً لنا ** أسر الملوك وقتلها وقتالها ) وكما استعملوا الصدور في الأماثل والجلة استعملوا الأعجاز في الأراذل والسفلة وهذ كما قالوا : الرؤوس والأذناب وكما قال : البسيط ومن يسوي بأنف الناقة الذنبا ويقال : ألوت في الأمر آلو أي : قصرت . وجعل التقصير للطعن على المجاز . انتهى .
قال ابن جني : لك في طعناً وجهان : إن شئت حملته على فعلٍ آخر دل
____________________

عليه طاعنت كأنه قال : طعنت طعناً . وإن شئت حملته على أنه مصدر محذوف الزيادة أي : طاعنت طعناً أو مطاعناً أو طيعاناً على ما جاء في مصادر مثله .
والآلي : فاعل من ألوت أي : فترت وقصرت . وهذا من الأفعال التي لا تستعمل إلا في غير الواجب يقال : ما أولت أفعل كذا ولا يقال : قد ألوت في حاجتك ولا نحو ذلك . وهو في الفعل بمنزلة أحدٍ وكريبٍ وكتيعٍ ونحو ذلك . ومثله : ما زلت ولن أزال ومثله في أكثر الأقوال : ما رمت من موضعي أي : ما برحت . انتهى باختصار . و الفند بكسر الفاء وسكون النون . و زمان بكسر الزاي المعجمة وتشديد الميم . وهو شاعرٌ جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائتين .
هل رأيت الذئب قط
____________________

وقد تقدم شرحه في الشاهد السادس والتسعين على أن قط قد استعملت بدون النفي لفظاً لا معنى .
أما الأول فلأنها وقعت بعد هل الاستفهامية والفعل مع الاستفهام غير منفي .
وأما الثاني فلأن المراد من الاستفهام النفي أي : ما رأيت الذئب قط .
قال أبو حيان في الارتشاف : وقال ابن مالك : وربما استعملت دون نفي لفظاً ومعنى أو لفظاً لا معنى . واستدل على ذلك بما ورد في الحديث على عادته . انتهى .
أراد حديث البخاري : قصرنا الصلاة في السفر مع النبي صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط . )
قال الكرماني في شرح البخاري : فإن قلت : شرط قط أن تستعمل بعد النفي . قلت : أولاً لا نسلم ذلك فقد قال المالكي : استعمال قط غير مسبوق بالنفي مما خفي على النحاة وقد جاء في الحديث بدونه وله نظائر .
وثانياً : أنه بمعنى أبداً على سبيل المجاز وثالثاً : يقال إنه متعلق بمحذوف منفي أي : وما كنا أكثر من ذلك قط . ويجوز أن تكون ما نافية والجملة : خبر المبتدأ وأكثر منصوباً على أنه خبر كان والتقدير : ونحن ما كنا قط أكثر منا في ذلك الوقت . وجاز إعمال ما بعدها فيما قبلها إذا كانت بمعنى ليس . انتهى .
وقال الغرناطي : الذي جوزه مراعاة لفظة ما في قوله : ما كنا قط وإن كانت غير نافية . وقد تراعى الألفاظ دون المعاني . انتهى .
وإليه جنح ابن هشام في المغني قال : من إعطاء الشيء حكم المشبه به في لفظه دون معناه قول بعض الصحابة : قصرنا الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أكثر ما كنا قط . فأوقع قط بعد ما المصدرية كما تقع بعد ما النافية . انتهى . 

====

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

مذكرة مختصرة في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى

  مذكرة مختصرة في الفقه على مذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله تعالى مستنبطة من كتاب المختصر من الممتع   أعدها / العبد الفقير إلى رحمة...