مجلد 7. و8. خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
7.
مجلد 7.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
= وقال
الكرماني أيضاً في حديث البخاري : فصلى بأطول قيامٍ وركوع وسجود رأيته قط يفعله من
حديث أبي موسى في باب الذكر في الكسوف : فإن قلت : في بعض النسخ : رأيته بدون كلمة
ما فما وجهه قلت : إما أن أطول فيه معنى عدم المساواة أو قط بمعنى حسب أي : صلى في
ذلك اليوم فحسب بأطول قيامٍ رأيته يفعل أو أنه بمعنى أبداً . انتهى .
وقد استعملها الزمخشري في المستقبل قال في تفسير قوله تعالى : فمنهم مقتصد : إن
ذلك الإخلاص الحادث عند الخوف لا يبقى لأحد قط فأعمل فيه لا يبقى وهو مضارع .
قال أبو حيان في تفسيره بعد نقله كثرة استعمال الزمخشري قط ظرفاً والعامل فيه غير
ماض : وقال الحريري في درة الغواص : قولهم : لا أكلمه قط هو من أفحش الخطأ لتعارض
معانيه وتناقض الكلام فيه . وذلك أن العرب تستعمل لفظة قط فيما مضى من الزمان كما
تستعمل لفظة أبداً فيما يستقبل فيقولون : ما كلمته قط ولا أكلمه أبداً .
والمعنى في قولهم ما كلمته قط أي : فيما انقطع من عمري لأنه من قططت الشيء إذا
قطعته . ومنه قط القلم أي : قطع طرفه . وفيما يؤثر من شجاعة علي رضي الله عنه أنه
كان إذا اعتلى قد وإذا اعترض قط . فالقد : قطع الشيء طولاً والقط : قطعه عرضاً .
انتهى . )
وتبعه ابن هشام في المغني والقواعد قال : والعامة تقول : لا أفعله قط . وهو لحن .
____________________
واعترض عليه ابن جماعة في شرح القواعد بأنه غير صحيح وغايته استعمال اللفظ في غير
ما وضع له فيكون مجازاً لا لحناً . وجعله من اللحن عجيب إذ لا خلل في إعرابه .
وليس بشيءٍ لأن اللحن بمعنى مطلق الخطأ . وهم كثيراً ما يستعملونه بهذا المعنى .
فإن قلت : إذا استعمل العرب لفظاً في محل مخصوص كقط بعد نفي الماضي وكافة حالاً
منكرة أو في معنًى مخصوص كالغزالة للشمس في أول النهار فهل مخالفتهم في ذلك جائزة
أم لا وعلى تقدير الجواز هل يكون حقيقةً أو مجازاً وعلى الثاني أجيب بأن الذي يظهر
من كلامهم وتخطئة من خالفهم أنه غير جائز . فإن قيل بجوازه فالظاهر أنه مجاز مرسل
من استعمال المقيد في المطلق إلا أنه لا يظهر في كافة ونحوها كالظروف التي لا
تتصرف فإن معناها لم يتغير وإنما يتغير إعرابها وإن وقع مثله في مكان التقصير .
كذا في شرح الدرة لشيخنا الخفاجي .
وقول الشارح المحقق : وقط لا يستعمل إلا بمعنى أبداً ظاهره أن أبداً ظرف للماضي
ولم أره بهذا المعنى . الموجود في الصحاح والعباب والقاموس : الأبد : الدهر والأبد
: الدائم . بل قال الرماني كما في المصباح : الأبد : الدهر الطويل الذي ليس بمحدود
. فإذا قلت : لا أكلمه أبداً فالأبد من لدن تكلمت إلى آخر عمرك .
وقال أبو حيان في الارتشاف : ومما يستعمل ظرفاً في المستقبل أبداً . تقول : ما
أصحبك أبداً ولا تقول ما صحبتك أبداً .
وجعله السمين ظرفاً مطلقاً قال : أبداً ظرف زمان يقع للقليل والكثير ماضياً كان أو
مستقبلاً .
تقول : ما فعلته أبداً .
وقال الراغب : هو عبارةٌ عن مدة الزمان الممتد الذي لا يتجزأ كما يتجزأ الزمان .
وذلك أنه يقال زمان كذا ولا يقال أبد كذا . انتهى .
____________________
وأنشد بعده الطويل ( ولولا دفاعي عن عفاقٍ ومشهدي ** هوت بعفاق عوض عنقاء مغرب )
على أن عوضاً المبني قد يستعمل للمضي ومع الإثبات لفظاً . فإن هوت ماض مثبت وهو )
عامل في عوض لكنه منفي معنًى لكونه جواب لولا . ومن المعلوم أن جوابها ينتفي لثبوت
شرطها نحو : لولا زيد لأكرمتك فالإكرام منتفٍ لوجود زيد .
وأما عوض في البيت المتقدم في قوله : ولولا نبل عوضٍ فقد استعملت في الإثبات
لخروجها عن الظرفية . ولهذا جرت وكان عاملها اسماً .
وكذلك قال أبو حيان في الارتشاف : وربما جاءت عوض للمضي بمعنى قط قال : الطويل فلم
أر عاماً عوض أكثر هالكاً وقال أبو زيد أيضاً في نوادره : تقول : ما رأيت مثله عوض
.
ومنه تعلم سقوط قول الجوهري في الصحاح : لا يجوز أن تقول عوض ما فارقتك .
وقد تبع صاحب الصحاح جماعةٌ منهم الزمخشري قال في المفصل : وقط وعوض وهما لزماني
المضي والاستقبال على سبيل الاستغراق ولا يستعملان إلا في موضع النفي .
ومنهم صاحب اللباب وعبارته عبارة المفصل بعينها .
____________________
و عفاق بكسر العين المهملة
بعدها فاء : اسم جماعةٍ منهم عفاق بن المسيح بضم الميم وفتح السين المهملة وسكون
المثناة التحتية ابن بشر بن أسماء بن عوف بن رياح بن ربيعة بن غوث بن شمخ بن فزارة
الفزاري . وكان عفاق على شرطة الخميس مع علي بن أبي طالب . وكانوا يعرضون يوم
الخميس أو يجمعون يوم الخميس .
والمشهور ممن اسمه عفاق هو عفاق بن مري بضم الميم وفتح الراء وتشديد الياء ابن
سلمة بن قشير القشيري . كان جاور باهلة في سنة قحط فأخذه الأحدب بن عمرو بن جابر
بن عمار بن عبد العزى الباهلي فشواه وأكله .
وله يقول الشاعر : الرجز ( إن عفاقاً أكلته باهله ** تمششوا عظامه وكاهله ) وتركوا
أم عفاق ثاكله وعير الفرزدق كفهم عن باهلة حين لم يثأروا به فقال : الطويل ( إذا
عامرٌ خصيي عفاقٍ تقلدت ** بأعناقها واللؤم تحت العمائم ) وقال غيره : الوافر (
فلو كان البكاء يرد شيئاً ** بكيت على بجيرٍ أو عفاق ) )
وهذا من شواهد النحويين أورده أبو علي في المسائل المنثورة وقال : على المرأين بدل
من قوله : على بجير .
____________________
أورده صاحب اللباب على أن أو بمعنى الواو في قوله : أو عفاق ولولا أنها بمعنى
الواو لقيل على المرء . والمشهد : مصدر شهدت المجلس أي : حضرته . وهوت قال صاحب
المصباح : هوى يهوي من باب ضرب أيضاً هوياً بضم الهاء لا غير إذا ارتفع .
قال الشاعر : الكامل يهوي مخارمها هوي الأجدل و هوت العقاب تهوي هوياً بفتح الهاء
وضمها : انقضت على صيد أو غيره ما لم ترغه فإذا أراغته قيل : أهوت له بالألف .
والإراغة : ذهاب الصيد هكذا وهكذا وهي تتبعه . وهوى يهوي من باب ضرب أيضاً هوياً
بضم الهاء وفتحها وزاد ابن القوطية هواءً بالمد : سقط من أعلى إلى أسفل . قاله أبو
زيد وغيره .
قال الشاعر : الوافر هوي الدلو أسلمها الرشاء وهوى يهوي : مات أو سقط في مهواةٍ من
شرف هوياً وهوياً وهواءً بالمد . والمهواة بالفتح : ما و عنقاء : مؤنث أعنق وهو
الطويلة العنق .
____________________
قال الصاغاني في العباب : العنقاء : الداهية يقال : حلقت به عنقاء مغرب وطارت به
العنقاء .
وأصل العنقاء طائرٌ عظيم معروف الاسم مجهول الجسم .
وقال أبو حاتم في كتاب الطير : وأما العنقاء المغربة فالداهية وليست من الطير التي
علمناها .
يقال : ضربت عليه العنقاء المغربة إذا أصابه بلاء .
وقال ابن دريد : عنقاء مغربٌ كلمةٌ لا أصل لها يقال : إنها طائر عظيم لا يرى إلا
في الدهور ثم كثر حتى سموا الداهية عنقاء مغرب . قال : الطويل ( ولولا سليمان
الخليفة حلقت ** به من يد الحجاج عنقاء مغرب ) اه . و مغرب : اسم فاعل من أغرب
الرجل في البلاد إذا بعد فيها بإمعان وهو وصف عنقاء .
وإنما جاز لأنه على النسبة أي : ذات إغراب . )
وقال الصاغاني في هذه المادة : وعنقاء مغرب بلا هاء . والعنقاء المغرب : الداهية
وأصلها طائر معروف الاسم مجهول الجسم ويقال لهذا الطائر بالفارسية سيمرغ هكذا
يكتبونه موصولاً والأصل أن يكتب : سي مرغ مفصولاً ومعناه ثلاثون طائراً . يقال :
حلقت به عنقاء مغرب أنشد أبو مالك : الطويل ( وقالوا : الفتى ابن الأشعرية حلقت **
به المغرب العنقاء إن لم يسدد ) وقال : العنقاء المغرب في هذا البيت هي رأس الأكمة
. وأنكر أن يكون طائراً . والذي قال العنقاء المغرب طائر قال : هي التي أغربت في
البلاد فنأت ولم تحس ولم تر . وحذفت هاء التأنيث كما قالوا : لحيةٌ ناصل وناقة
ضامر وامرأة عاشق ذهبوا بها إلى النسب أي : ذات نصول وذات ضمر وذات عشق . وأغرب في
البلاد : أمعن فيها . وأغرب الرجل في منطقه إذا لم يبق شيئاً إلا تكلم به .
____________________
وأغرب الفرس في جريه وهو غاية
الإكثار منه . وأغرب الرجل إذا بالغ في الضحك حتى تبدو غروب أسنانه . انتهى .
وكذلك أجاب الزمخشري في أمثاله عن تذكير الوصف قال : ومغرب كقولهم : لحية ناصل
وناقة ضامر على مذهبي الخليل وسيبويه .
وبهذا يجاب ابن هشام في سؤاله عن صحة الوصف بمغرب فإنه قال في بعض تعليقاته :
لينظر في عنقاء مغرب لم ذكر الوصف وعنقاء فعلاء وفعلاء مؤنث دائماً .
ويسقط جواب عبد الله الدنوشري بأنه إنما لم تطابق الصفة الموصوف في التأنيث
اعتباراً بالمعنى إذ هي بمعنى الطائر . ووجه السقوط أن العنقاء أكثر استعمالها
بمعنى الداهية وهي وقال ابن السيد فيما كتبه على كامل المبرد : ذكر الفارسي أنه
يقال عنقاء مغرب على الصفة وعلى الإضافة حكاه في التذكرة .
وقال غيره : من جعل مغرباً صفة لعنقاء فهي التي لها إغرابٌ في الطيران . ويقال :
مغربة ذكره أبو حاتم وصاحب العين . ومن أضاف العنقاء إلى المغرب فالمغرب الرجل
الذي يأتي بالغرائب يقال : أغرب الرجل إذ أتى بالغرائب . انتهى .
فتأمل معنى الإضافة .
وفي القاموس : والعنقاء المغرب بالضم وعنقاء مغربٌ ومغربةٌ ومغربٍ مضافة طائر
معروف الاسم لا الجسم أو طائر عظيم يبعد في طيرانه أو من الألفاظ الدالة على غير
معنى والداهية )
ورأس الأكمة . انتهى .
فالمغرب ومغرب وصفٌ للعنقاء وعنقاء تعريفاً وتنكيراً بالتأويل المذكور . ومغربة
وصف لعنقاء منكراً والوصف مطابق . وأما عنقاء مغرب بإضافة عنقاء إلى مغرب فالظاهر
أنه من إضافة الموصوف إلى الصفة . وينبغي أن يكون هذا بفتح الميم فإنه نقل صاحب
حياة الحيوان عن بعضهم أن العنقاء طائر عند مغرب
____________________
الشمس أبيض له بيضٌ كالجبال .
وعلى هذا لا إشكال وتكون الإضافة من قبيل شهيد كربلاء .
وأما قوله : من الألفاظ الدالة على غير معنى وهي عبارة الدميري أيضاً فقد عسر فهمه
على بعض الفضلاء لأن الجمع بين قوله الدالة وقوله على غير معنًى كالجمع بين الضب
والنون .
فلو قال من الألفاظ التي لا معنى لها كان واضحاً .
وأجيب بأن في عبارته صفة محذوفة أي : على غير معنى خارجي . وقال الزمخشري في
أمثاله عند قولهم : طارت به عنقاء مغرب : زعموا أنها طائر كان على عهد حنظلة بن
صفوان الجميري نبي أهل الرس عظيم العنق .
وقيل : كان في عنقه بياض ولذلك سمي عنقاء . وكان أحسن طائر خلقه الله فاختطف
غلاماً فأغرب به ولذلك سمي المغرب فدعا عليه حنظلة فرمي بصاعقة . انتهى .
وقال الدميري في حياة الحيوان : هو طائر غريبٌ تبيض بيضاً كالجبال وتبعد في
طيرانها سميت بذلك لأنه كان في عنقها بياض كالطوق .
وقال القزويني : إنه أعظم الطير جثة وأكبرها خلقة تخطف الفيل كما تخطف الحدأة
الفأر وكانت قديماً بين الناس فتأذوا منها إلى أن سلبت يوماً عروساً بحليها فدعا
عليها حنظلة النبي فذهب الله بها إلى بعض جزائر البحر المحيط وراء خط الاستواء وهي
جزيرةٌ لا يصل إليها الناس وفيها حيوان كثير كالفيل والكركند والجاموس والببر
والسباع وجوارح الطير .
وعند طيرانها يسمع أجنحتها دوي كدوي الرعد القاصف والسيل وتعيش ألفي سنة وتزاوج
إذا مضى لها خمسمائة عام .
وقال العكبري في شرح المقامات : كان لأهل الرس جبلٌ شامخ فيه طيور
____________________
شتى منها العنقاء وهي طائر
عظيم الخلق طويل العنق ووجهه وجه إنسان من أحسن الطير شكلاً . وكانت تأكل الطير
فجاءت مرة فأخذت صبياً ثم جارية فاشتكوها لنبيهم حنظلة بن صفوان فدعا )
عليها حنظلة فذهبت وانقطع نسلها . وقيل أصابتها صاعقة فاحترقت .
وكان حنظلة في زمن الفترة بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم وسميت العنقاء لطول
عنقها .
وقيل : إنها كانت في زمن موسى . وقيل : إن النبي الذي دعا عليها خالد بن سنان .
وفي المثل : كالعنقاء تسمع بها ولا ترى كالغول . والمراد عدم رؤيتها بعد الانقراض
المذكور .
وسميت مغرباً بزنة اسم الفاعل من أغرب لأنها كانت تجيء بالغرائب . وقد وقع
استعمالها في هذا المثل بدون الوصف ومنه يعلم جواز استعمالها بدون الوصف . كقول
الشاعر : الكامل ( لما رأيت بني الزمان وما بهم ** خل وفي للشدائد أصطفي ) ( فعلمت
أن المستحيل ثلاثةٌ : ** الغول والعنقاء والخل الوفي ) ( وإذا السعادة أحرستك
عيونها ** نم فالمخاوف كلهن أمان ) ( واصطد بها العنقاء فهي حبالةٌ ** واقتد بها
الجوزاء فهي عنان ) وقال غيره : البسيط ( الخل والغول والعنقاء ثالثةٌ ** أسماء
أشياء لم توجد ولم تكن )
____________________
وبه يضمحل قول بعضهم : إن هذا
الشعر ليس بتركيب صحيح لعدم وصف العنقاء .
وقال : ظاهر كلامهم انحصار الاستعمال فيما ذكر فلا يقال العنقاء بلا وصف ولا يوصف
بغير ما ذكر ولا يقال أيضاً عنقاء منكراً بلا وصف . هذا كلامه .
ولا يخفى أن الوصف ليس بلازمٍ عرفت أو نكرت . وأما عدم الوصف بغير الإغراب فلأنها
لا يعلم من حالها غير هذا لكونها مجهولة عند الناس . ولو عرف شيءٌ من أحوالها غير
الإغراب لوصفت به . والله أعلم .
وذكر الدميري أن العقاب تسمى عنقاء مغرب لأنها تأتي من مكانٍ بعيد . وبهذا فسر قول
أبي العلاء المعري : الوافر ( أرى العنقاء تكبر أن تصادا ** فعاند من تطيق له
عنادا ) وأنشد بعده الطويل ( رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ** بأسحم داجٍ عوض لا
نتفرق ) )
على أن أكثر ما تستعمل عوض مع القسم أي : تكون من متعلقات
____________________
جواب القسم فعوض متعلق بنتفرق
أي : لا نتفرق أبداً .
فإن قلت : لا النافية مع جواب القسم لها الصدر تمنع من عمل ما بعدها فيما قبلها
فكيف تعلق عوض بما بعد لا الواقع جواباً لتقاسما قلت : أجازه ابن هشام في آخر
النوع الثاني عشر من الجهة السادسة من الباب الخامس من المغني : قال : وأما قوله
تعالى : ويقول الإنسان أئذا ما مت لسوف أخرج حياً فإن إذا ظرف لأخرج وإنما جاز
تقديم الظرف على لام القسم لتوسعهم في الظروف .
ومنه قوله : عوض لا نتفرق أي : لا نتفرق أبداً . ولا النافية لها الصدر في جواب
القسم .
انتهى .
وظاهر كلام الشارح هنا جوازه لكنه شرط عند الكلام على حروف القسم من حروف الجر
لجواز تقدمه أن تكون الجملة القسمية ولأجل إفادة عوضٍ فائدة القسم قد يقدم على
عامله قائماً مقام الجملة القسمية وإن كان عامله مقترناً بحرف يمنع عمله فيما
تقدمه كنون التوكيد واعترض الدماميني كلام ابن هشام بأنه نص في فصل إذا على أن
التوسع في الظرف بالتقديم في مثل قوله : الرجز ونحن عن فضلك ما استغنينا
____________________
خاص بالشعر فكيف ساغ له تخريج
الآية على ذلك وقال ابن هشام في الكلام على عوض : قيل إنها ظرف لنتفرق . واستشكله
الدماميني هناك بأن لا مانعةٌ من العمل . ثم نقل كلام الشارح المحقق في حروف القسم
وقال : فيمكن أن يكون لا نتفرق جواب قسم محذوف و عوض سد مسده . لكنه خلاف الظاهر
لأن جملة القسم مذكورة . وأجاز التعليق ابن يعيش في شرح المفصل من غير شرط قال :
أكثر استعمال عوض في القسم تقول : عوض لا أفارقك أي : لا أفارقك أبداً وقوله : عوض
لا نتفرق أبداً . انتهى .
وكذلك أجازه ابن جني وشارح اللباب وغيره . وهو الصحيح ويؤيده قول الكرماني في شرح
أبيات الموشح : اعلم أنه إذا كان معمول جواب القسم ظرفاً أو جاراً ومجروراً جاز
تقديمه عليه كقوله : عوض لا نتفرق . وإلا فلا يجوز في : والله لأضربن زيداً أن
يقال : والله زيداً لأضربن . )
وجعل الشارح المحقق عوض ظرفاً في نحو : البيت هو الصحيح . وزعم بعضهم أن عوض فيه
قال ابن هشام في المغني : واختلف في قول الأعشى : رضيعي لبانٍ ثدي أم . . . . . .
. . . . . . . . البيت فقيل ظرف لنتفرق . وقال ابن الكلبي : قسم وهو اسم صنم كان
لبكر بن وائل بدليل قوله : الوافر ( حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ ** وأنصابٍ تركن لدى
السعير ) و السعير : اسم صنمٍ كان لعنزة . انتهى .
ولو كان كما زعم لم يتجه بناؤه في البيت . انتهى كلام ابن هشام .
ووجهه أن الشاعر حلف بالدماء المائرات أي : الجاريات على وجه الأرض حول
____________________
عوض . ومن عادة المشركين
كانوا يذبحون ذبائح لأصنامهم فلولا أن عوضاً صنمٌ لما ذبح له شيءٌ ولما حلف
بالدماء التي حوله تعظيماً له . ويدل أيضاً على كونه صنماً ذكره مع السعير وهو
بالتصغير كما في القاموس وغيره خلافاً لما يوهمه كلام الصحاح .
والبيت قاله رشيد بن رميض بالتصغير فيهما العنزي . كذا في العباب للصاغاني . وزاد
بعده : ( أجوب الأرض دهراً إثر عمرٍ و ** ولا يلقى بساحته بعيري ) وما نقله ابن
هشام عن ابن الكلبي مسطورٌ كذلك في الصحاح في عوض . وقد راجعت كتاب الأصنام لابن
الكلبي وهو أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي فلم أر فيه ذكر عوض ولا ذكر
صنماً لبكر بن وائل مع أنه ذكر أصنام القبائل وسبب عبادتها وكيف أزالها النبي صلى
الله عليه وسلم وهو كتاب جيد في بابه جمع فيه فأوعى .
وكذا لم أر له ذكراً في كتاب أيمان العرب تأليف أبي إسحاق إبراهيم بن عبد الله
النجيرمي جمع فيه ألفاظ أيمانهم بأصنامهم وغيرها . وهو أيضاً كتابٌ لعباداتهم جيد
في بابه .
والمذكور في كتاب الأصنام إنما هو السعير وحده لا مع عوض قال وكان لعنزة صنم يقال
له : سعير فخرج ابن أبي حلاسٍ الكلبي على ناقته فمرت به
____________________
وقد عترت عنده عنزة فنفرت
ناقته منه فأنشد يقول : الكامل ( نفرت قلوصي من عتائر صرعت ** حول السعير تزوره
ابنا يقدم ) ) ( وجموع يذكر مهطعين جنابه ** ما إن يحير إليهم بتكلم ) قال أبو
المنذر : يقدم ويذكر ابنا عنزة . فرأى بني هؤلاء يطوفون حول السعير . انتهى .
وذكر ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وفي أبيات الجمل وتبعه اللخمي وغيره
كالصاغاني أن عوضاً كان صنماً لبكر بن وائل . ولم يسنده إلى أحد وقال : أصله أن
يكون وقال الصاغاني : قال الليث : عوض كلمة تجري مجرى القسم وبعض الناس يقول : هو
الدهر والزمان .
يقول الرجل لصاحبه : عوض لا يكون ذاك أبداً . فلو كان عوض اسماً للزمان لجرى
بالتنوين ولكنه حرف يراد به القسم كما أن أجل ونعم ونحوهما مما لم يتمكن في
التصريف حمل على غير الإعراب . انتهى .
والقول بأنه حرفٌ لا اسمٌ واهٍ جداً . وقول ابن هشام لم يتجه بناؤه في البيت يريد
أنه فيه مبني على الضم بناء الظروف المقطوعة عن الإضافة . ولو كان اسماً للصنم كما
زعم لأعرب كما أعرب في قوله : حلفت بمائراتٍ حول عوضٍ وكان الواجب حينئذ إما جره بواو
القسم أو نصبه بحذفها بالتنوين فيهما لأنه عند هذا القائل مقسم به . وجملة : لا
نتفرق جوابه والإعراب
____________________
منتفٍ فينتفي كونه اسماً
ويثبت ظرفيته للجواب والجواب إنما هو لتقاسما .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : روي قول الأعشى عوض لا نتفرق بالفتح والضم أي : لا
نتفرق أبداً . وذهب الكوفيون إلى أن عوض ها هنا قسم وأن لا نتفرق إنما هو جوابه .
وليس الأمر عندنا كذلك وإنما قوله لا نتفرق جواب تقاسما كقول تعالى : تقاسموا
بالله لنبيتنه . أي : تحالفا على ذلك . انتهى .
وكذلك قال العسكري في كتاب التصحيف : إنه ظرف قال قرأت على أبي بكر بن دريد :
الطويل ( فلم أر عاماً عوض أكثر هالكاً ** ووجه غلامٍ يسترى وغلامه ) عوض : اسم
معرفة وهو اسمٌ للدهر يضم ويفتح . والبصريون يقولونه بالضم . ومثله قول الأعشى :
عوض لا نتفرق . . . البيت أي : لا نتفرق الدهر . )
وبما ذكرنا من وجوب إعرابه يعرف ضعف الوجوه الثلاثة التي قالها ابن السيد في شرح
أبيات أدب الكاتب وأبيات الجمل . وتبعه اللخمي قال : من جعل عوض اسم صنم جاز في
إعرابه ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون مبتدأ محذوف الخبر كأنه قال : عوض قسمنا الذي
نقسم به .
وجاز أن يكون في موضع نصب على أن تقدر فيه حرف الجر وتحذفه كقولك : يمين الله
لأفعلن .
ويجوز أن يكون في موضع خفضٍ على إضمار حرف القسم . وهو أضعف الوجوه .
____________________
ومن وهذا البيت من قصيدة
للأعشى ميمون تقدم أبياتٌ من أولها في الشاهد الرابع بعد المائتين من باب الحال
وتقدم أيضاً بغضها من أولها في الشاهد السابع والثمانين بعد الثلثمائة من باب
الضمير .
وهذه أبياتٌ مما يليها وهو أول المديح : ( لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرةٌ ** إلى ضوء
نارٍ في يفاعٍ تحرق ) ( تشب لمقرورين يصطليانها ** وبات على النار الندى والمحلق )
( رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما ** بأسحم داجٍ عوض لا نتفرق ) ( ترى الجود يجري
ظاهراً فوق وجهه ** كما زان متن الهندواني رونق ) ( يداه يدا صدقٍ فكف مبيدةٌ **
وكف إذا ما ضن بالمال تنفق ) ( وأما إذا ما المحل سرح مالهم ** ولاح لهم وجه
العشيات سملق ) ( نفى الذم عن آل المحلق جفنةٌ ** كجابية الشيخ العراقي تفهق ) (
ترى القوم فيها شارعين ودونهم ** من القوم ولدانٌ من النسل دردق )
____________________
( يروح فتى صدقٍ ويغدو عليهم
** بملء جفانٍ من سديفٍ تدفق ) وبقي بعد هذا أكثر من ثلاثين بيتاً .
روى شارح ديوانه محمد بن حبيب وصاحب الأغاني والرياشي وغيرهم : أن الأعشى كان
يوافي سوق عكاظ في كل سنة وكان المحلق الممدوح واسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد من
بني عامر بن صعصعة مئناثاً مملقاً فقالت له امرأته : يا أبا كلابٍ ما يمنعك من
التعرض لهذا الشاعر فما رأيت أحداً مدحه إلا رفعه ولا هجا أحداً إلا وضعه وهو رجل
مفوه مجدود )
الشعر وأنت رجلٌ كما علمت خامل الذكر ذو بنات فإن سبقت الناس إليه فدعوته إلى
الضيافة رجوت لك حسن العاقبة .
قال : ويحك ما عندنا إلا ناقةٌ نعيش بها . قالت : إن الله يخلفها عليك . قال : لا
بد له من شراب . قالت : إن عندي ذخيرةً لي ولعلي أجمعها فتلقه قبل أن تسبق إليه .
ففعل وخرج إلى الأعشى . فوجد ابنه يقود ناقته فأخذ زمامها منه فقال الأعشى : من
هذا الذي غلبنا على خطام ناقتنا قيل : المحلق . قال : شريفٌ كريم .
وقال لابنه : خله يقتادها . فاقتادها إلى منزله فنحر له ناقته وكشف له عن سنامها
وكبدها ووجد امرأته قد خبزت خبزاً وأخرجت نحي سمن وجاءت بوطب لبن فلما أكل الأعشى
وأصحابه وكان في عصابةٍ قيسية قدم إليه الشراب واشتوى له من كبد الناقة وأطعمه من
أطايبها فلما أخذه الشراب سأله عن حاله وعياله فعرف البؤس في كلامه وأحاطت به
بناته
____________________
قال : أما والله لئن بقيت لهن
لا أدع شريدتهن قليلة . وخرج ولم يقل فيه شيئاً . ووافى المحلق عكاظ فإذا هو
بسرحةٍ قد اجتمع الناس عليها وإذا الأعشى يقول : لعمري لقد لاحت عيونٌ كثيرة إلى
آخر القصيدة . فسلم عليه المحلق فقال : مرحباً بسيد قومه : ونادى : يا معاشر العرب
هل فيكم مذكار يزوج ابنه ببنات هذا الشريف الكريم فما قام من مقعدة حتى خطبت بناته
جميعاً .
وقوله : لعمري لقد لاحت إلخ اللام لام ابتداء تفيد التأكيد وعمري : مبتدأ وحذف
خبره وجوباً أي : عمري قسمي . ومعنى لاحت : نظرت وتشوفت إلى هذه النار .
حكى الفراء لحت الشيء إذا أبصرته . وأنشد : المتقارب ( وأحمر من ضرب دار الملوك **
تلوح على وجهه جعفر ) كذا في شرح أبيات الجمل لابن السيد . و اليفاع بالفتح :
الموضع العالي . وجعل النار في يفاع لأنه أشهر لها لأنها إذا كانت في اليفاع
أصابتها الرياح فاشتعلت . وهذه النار نار الضيافة كانوا يوقدونها على الأماكن
المرتفعة لتكون أشهر وربما يوقدونها بالمندلي الرطب وهو عطر ينسب إلى مندل وهو بلد
من بلاد الهند ونحوه مما يتبخر به ليهتدي إليها العميان . وأشعارهم ونيران العرب
على ما في كتاب الأوائل لإسماعيل الموصلي اثنتا عشرة ناراً : )
____________________
إحداها : هذه وهي نار القرى وهي نار توقد لاستدلال الأضياف بها على المنزل . وأول
من أوقد النار بالمزدلفة حتى يراها من دفع من عرفة قصي بن كلاب .
الثانية : نار الاستمطار كانت العرب في الجاهلية الأولى إذا احتبس عنهم المطر
يجمعون البقر ويعقدون في أذنابها وعراقيبها السلع والعشر ويصعدون بها في الجبل
الوعر ويشعلون فيها النار .
ويزعمون أن ذلك من أسباب المطر .
الثالثة : نار التحالف كانوا إذا أرادوا الحلف أوقدوا ناراً وعقدوا حلفهم عندها
ودعوا بالحرمان والمنع من خيرها على من ينقض العهد ويحل العقد .
الرابعة : نار الطرد كانوا يوقدونها خلف من يمضي ولا يشتهون رجوعه .
الخامسة : نار الأهبة للحرب كانوا إذا أرادوا حرباً وتوقعوا جيشاً أوقدوا ناراً
على جبلهم ليبلغ الخبر فيأتونهم .
السادسة : نار الصيد وهي نار توقد للظباء لتعشى إذا نظرت إليها . ويطلب بها أيضاً
بيض النعام .
السابعة : نار الأسد وهي نارٌ يوقدونها إذا خافوه . وهو إذا رأى النار استهالها
فشغلته عن السابلة . وقال بعضهم : إذا رأى الأسد النار حدث له فكرٌ يصده عن إرادته
. والضفدع إذا رأى النار تحير وترك النقيق .
الثامنة : نار السليم توقد للملدوغ إذا سهر وللمجروح إذا نزف وللمضرب بالسياط ولمن
عضه الكلب الكلب لئلا يناموا فيشتد بهم الأمر ويؤدي إلى الهلاك .
التاسعة : نار الفداء وذلك أن الملوك إذا سبوا القبيلة خرجت إليهم السادة للفداء .
فكرهوا أن يعرضوا النساء نهاراً فيفتضحن وفي الظلمة يخفى قدر ما يحبسون لأنفسهم من
الصفي فيوقدون النار ليعرضن .
____________________
العاشرة : نار الوسم . قرب بعض اللصوص إبلاً للبيع فقيل له : ما نارك وكان أغار
عليها من كل وجه . وإنما سئل عن ذلك لأنهم يعرفون ميسم كل قوم وكرم إبلهم من لؤمها
.
فقال : الرجز ( تسألني الباعة أين نارها ** إذا زعزعتها فسمعت أبصارها ) ( كل نجار
إبلٍ نجارها ** وكل نار العالمين نارها ) )
الحادية عشرة : نار الحرتين كانت في بلاد عبس . فإذا كان الليل فهي نارٌ تسطع وفي
النهار دخانٌ يرتفع . وربما ندر منها عنق فأحرق من مر بها . فحفر لها خالد بن سنان
فدفنها الثانية عشرة : نار السعالي وهو شيء يقع للمتغرب والمتقفر . قال أبو
المضراب عبيد بن أيوب : الطويل ( ولله در الغول أي رفيقةٍ ** لصاحب دو خائفٍ متقفر
)
____________________
( أرنت بلحنٍ بعد لحنٍ وأوقدت
** حوالي نيراناً تبوح وتزهر ) وأما نار الحباحب فكل نارٍ لا أصل لها مثل ما ينقدح
من نعال الدواب وغيرها .
وأما نار اليراعة فهي طائرٌ صغير إذا طار بالليل حسبته شهاباً وضربٌ من الفراش إذا
طار بالليل حسبته شراراً .
وأول من أورى نارها : أبو حباحب بن كلب بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمرو بن الحاف
بن قضاعة فقالوا : نار أبي حباحب .
ومن حديثه ما ذكر عن ابن الكلبي قال : كان أبو حباحب رجلاً من العرب في سالف الدهر
بخيلاً لا توقد له نارٌ بليلٍ مخافة أن يقتبس منها فإن أوقدها ثم أبصرها مستضيءٌ
أطفأها .
فضربت العرب به المثل في البخل والخلف فقالوا : أخلف من نار أبي حباحب .
وقال ابن الشجري في أماليه : حباحب : رجل كان لا ينتفع بناره لبخله فنسب إليه كل
نار لا ينتفع بها فقيل لما تقدحه حوافر الخيل على الصفا : نار الحباحب .
____________________
ويوقدون بالصفاح نار الحباحب وجعل الكميت اسمه كنية للضرورة في قوله : الوافر (
يرى الراؤون بالشفرات منها ** كنار أبي الحباحب والظبينا ) وقال القطامي : ( ألا
إنما نيران قيسٍ إذا اشتووا ** لطارق ليلٍ مثل نار الحباحب ) انتهى .
وهذا هو التحقيق لا ما ذكره الموصلي تبعاً للعسكري في أوائله .
وزاد الصفدي في شرح لامية العجم : نار الغدر قال : كانوا إذا غدر الرجل بجاره
أوقدوا له ناراً بمنًى أيام الحج ثم صاحوا : هذه غدرة فلان )
وعد نار المزدلفة التي أول من أوقدها قصي قسماً مستقلاً . وجعل عدة النيران أربع
عشرة ناراً .
____________________
وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني في نار التحالف : كانوا يحلفون بالنار وكانت لهم
نارٌ يقال : إنها كانت بأشراف اليمن لها سدنة فإذا تفاقم الأمر بين القوم فحلف بها
انقطع بينهم . وكان اسمها : هولة والمهولة .
وكان سادنها إذا أتي برجلٍ هيبه من الحلف بها ولها قيم يطرح فيها الملح والكبريت
فإذا وقع فيها استشاطت وتنقضت فيقول : هذه النار قد تهددتك . فإن كان مريباً نكل
وإن كان بريئاً حلف .
قال الكميت : الطويل ( هم خوفونا بالعمى هوة الردى ** كما شب نار الحالفين المهول
) وقال الكميت وذكر امرأة : المتقارب ( فقد صرت عما لها بالمشي ** ب زولاً لديها
هو الأزول ) ( كهولة ما أوقد المحلفون ** لدى الحالفين وما زولوا )
____________________
وقال أوس : الطويل ( إذا
استقبلته الشمس صد بوجهه ** كما صد عن نار المهول حالف ) وقال أيضاً في نار الأهبة
: كانوا إذا أرادوا حرباً أو توقعوا جيشاً وأرادوا الاجتماع أوقدوا ليلاً على جبل
لتجتمع إليهم عشائرهم فإذا جدوا وأعجلوا أوقدوا نارين .
وقال الفرزدق : الكامل ( ضربوا الصنائع والملوك وأوقدوا ** نارين أشرفتا على
النيران ) وقوله : تحرق روي بالبناء للمفعول وروي بالبناء للمعلوم والمفعول محذوف
أي : الحطب .
وقوله : تشب لمقرورين إلخ أي : توقد . و المقرور : الذي أصابه القر وهو البرد . و
الاصطلاء : افتعال من صلي النار وصلي بها من باب تعب : إذا وجد حرها . والصلاء
ككتاب : حر النار .
وقوله : وبات على النار إلخ بات : له معنيان أشهرهما ما قاله الفراء : بات الرجل :
إذا سهر الليل كله في طاعة أو معصية . وهو المراد هنا . )
والثاني بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواءٌ كان في ليل أو نهار .
والندى : الجود والكرم والمحلق : هو الممدوح واسمه عبد العزى من بني عامر بن صعصعة
كما تقدم .
وهو جاهلي . كذا في أنساب ياقوت وغيره .
____________________
وقال العسكري في التصحيف : المحلق الذي مدحه الأعشى مفتوح اللام هو اسمه وهو
المحلق بن جزء من بني عامر بن صعصعة . والمحلق الضبي ولاه الحكم بن أيوب الثقفي
سفوان بفتح اللام أيضاً قال فيه بعض الشعراء : الطويل ( أبا يوسف لو كنت تعلم
طاعتي ** ونصحي إذاً ما بعتني بالمحلق ) وذكر أحمد بن حباب الحميري أن في جعفي في
مران منهم المخلق بخاء معجمة ولام وقد خالف الجمهور في قوله إن المحلق اسمه وقالوا
: أن اسمه عبد العزى بن حنتم بن شداد بن ربيعة بن عبد الله بن عبيد وهو أبو بكر بن
كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
وسمي محلقاً لأن فرسه عضه فصار موضع عضه كالحلقة فقيل له المحلق .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وسمي المحلق لأن بعيراً عضه في وجهه فصار فيه
كالحلقة . وقيل : بل كوى نفسه بكيةٍ شبه الحلقة .
وزاد اللخمي : لأنه كان يأتي موضع الحلاق بمنًى .
وحكى الموصلي أنه أصابه داء فاكتوى على حلقه فسمي المحلق .
وروى أبو عبيدة : المحلق بكسر اللام . وروى الأصبهاني بفتحها .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح .
وقال الجوهري : المحلق بكسر اللام : اسم رجل من بني أبي بكر بن كلاب من بني عامر .
انتهى .
وكسر اللام خلاف الصحيح . وهذا قول الأمير ابن ماكولا نقله عن النسابة
____________________
حسن ابن أخي اللبن . قال
الأمير : وحنتم بحاء مهملة مفتوحة بعدها نون ساكنة ثم مثناة فوقية . والمحلق كان
سيداً في الجاهلية وهو الذي مدحه الأعشى .
وقال الكلبي في جمهرة الأنساب : المحلق هو عبد العزى بن حنتم بن شداد ابن ربيعة
المجنون بن عبد الله بن أبي بكر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة . كان سيداً
وذا بأس في الجاهلية وله يقول الأعشى : وبات على النار الندى والمحلق )
وله حديث . وكان الأعشى نزل به فأمرته أمه فنحر للأعشى ناقة ولم يكن له غيرها .
انتهى .
قال ابن السيد : لما كان من شأن المتحالفين أن يتحالفوا على النار جعل الندى
والمحلق كمتحالفين اجتمعا على نار . وذكر المقرورين لأن المقرور يعظم النار
ويشعلها لشدة حاجته .
وقد أخذ أبو تمام الطائي هذا المعنى وأوضحه فقال في مدحه الحسن بن وهب : الكامل (
قد أثقب الحسن بن وهبٍ في الندى ** ناراً جلت إنسان عين المجتلي ) ( موسومةً
للمهتدي مأدومةً ** للمجتدي مظلومةً للمصطلي ) ( ما أنت حين تعد ناراً مثلها **
إلا كتالي سورةٍ لم تنزل ) اه .
وقال اللخمي : كان الناس يستحسنون هذا البيت للأعشى حتى قال الحطيئة : الطويل
____________________
( متى تأته تعشو إلى ضوء ناره
** تجد خير نارٍ عندها خير موقد ) فسقط بيت الأعشى . انتهى .
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : أو أجد على النار هدًى واستشهد به
على أن معنى الاستعلاء فيها أن أهل النار يستعلون المكان القريب منها كما قال
سيبويه في مررت بزيد : إنه لصوقٌ في مكان يقرب من زيد . أو لأن المصطلين بها إذا
تكنفوها قياماً وقعوداً كانوا مشرفين عليها .
وكذلك أورده ابن هشام في المغني قال : أحد معاني على : الاستعلاء إما على المجرور
وهو الغالب نحو : عليها وعلى الفلك تحملون أو على ما يقرب منه نحو : أو أجد على
النار هدًى أي : هادياً وقوله : وبات على النار الندي والمحلق وأورده في الباء
الموحدة أيضاً وقال : أقول : إن كلا من الإلصاق والاستعلاء إنما يكون حقيقياً إذا
كان مفضياً إلى نفس المجرور كأمسكت بزيد وصعدت على السطح .
فإن أفضى إلى ما يقرب منه فمجازي كمررت بزيد في تأويل الجمهور وكقوله :
____________________
وبات على النار الندى والمحلق
وقوله : رضيعي لبان إلخ هو مثنى رضيع قالوا : رضيع الإنسان : مراضعه .
قال التبريزي في شرح ديوان أبي تمام : إذا كانت المفاعلة بين اثنين جاء كل واحدٍ
منهما على فعيل )
كما جاء على مفاعل كقعيد للذي يقاعدك وتقاعده ونديم بمعنى منادم ورضيع وجليس بمعنى
مراضع ومجالس . انتهى .
وإليه أشار الجوهري بقوله : وهذا رضيعي كما تقول أكيلي . وكذلك قال صاحب المصباح :
راضعته مراضعة وهو رضيعي .
وفي عمدة الحفاظ للسمين : وفلان رضيع فلان أي : رضيعٌ معه . وأنشد هذا البيت ونسبه
للنابغة . وهو سهو .
وفعيل هذا لا يعمل النصب . قال الشارح المحقق في أبنية المبالغة : وأما الفعيل
بمعنى الفاعل كالجليس فليس للمبالغة فلا يعمل اتفاقاً .
فإضافة رضيعي إلى لبان ليس من الإضافة إلى المفعول به المصرح بل هو مفعولٌ على
التوسع بحذف حرف الجر لأنه يقال : رضيعه بلبان أمه فحذف الباء فانتصب لبان وأضيف
إليه الوصف . و ثدي بالجر بدل من لبان وعلى رواية النصب بدل أيضاً بتقدير مضافٍ
مجرور فيهما أي : لبان ثدي فلما حذف المضاف انتصب . أو هو منصوب على نزع الخافض أي
: من ثدي أم .
ولا يجوز الإبدال على محل لبان لأن شرطه كالعطف على المحل إمكان ظهور ذلك المحل في
____________________
فأما قوله : الوافر تمرون
الديار ولم تعوجوا فضرورة .
وغفل بعض من شرح درة الغواص عن عدم عمل فعيل المذكور فقال في شرحه : وذي منصوب
برضيعي ولا حاجة لتقدير من كما قيل لأن رضيع متعد بنفسه . هذا كلامه مع أنه قال
رضيع لا يكون إلا بمعنى مراضع .
ولا مانع عندي أن يكون هنا بمعنى راضع وتكون المشاركة من التثنية بل هذا هو الجيد
إذ لو كان رضيع هنا بمعنى مراضع لما ثنى ولكان المناسب أن يقول : رضيع الندي من
ثدي أم تقاسما وعليه يسهل إعراب البيت فيكون رضيعي مضافاً إلى مفعوله لأنه ماض
واسم الفعل الماضي تجب إضافته إلى ما يجيء بعده مما يكون في المعنى مفعولاً فيكون
ثدي أم بدلاً من لبان )
بتقدير مضاف مجرور والأصل رضيعي لبان لبان ثدي أم أو يكون بدلاً من لبانٍ على
المحل على قول من لا يشترط المحرز الطالب لذلك المحل . وفعيل قد وضع بالاشتراك
تارةً لفاعل وتارة لمفاعل والقرينة تعين وهي هنا التثنية .
وقد ذهب ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب وأبيات الجمل إلى ما
____________________
ذكرنا قال : لك أن تجعل
الرضيع بمعنى الراضع كقولهم : قدير بمعنى قادر فيكون متعدياً إلى مفعول واحد .
وإن شئت جعلته بمعنى مرضع كقولهم : رب عقيدٌ بمعنى معقد فيتعدى إلى مفعولين . ومن
خفض ثدي أم جعله بدلاً من لبان ومن نصبه أبدله من موضعه لأنه في موضع نصب . ولا بد
من تقدير مضاف في كلا الوجهين كأنه قال : لبان ثدي أم . وإنما لزم تقدير مضاف لأنه
لا يخلو من أن يكون بدل كل أو بدل بعض أو بدل اشتمال فلا يجوز الثاني لأن الثدي
ليس بعض اللبان ولا الثالث لأن الأول يشتمل على الثاني وذلك لا يصح ها هنا .
وقد ذهب قوم إلى أن الثاني هو المشتمل على الأول وذلك غلط فلم يبق إلا أن يكون بدل
كل . والثدي ليس اللبان فوجب أن يقدر لبان ثدي . ويجوز أن يكون ثدي أم مفعولاً سقط
منه حرف الجر كقولك : اخترت زيداً الرجال . انتهى .
وتعقبه اللخمي بأنه قيل : إن اسم الفاعل هنا بمعنى المضي فلا يعمل عند البصريين
وإن انتصاب ثدي إنما هو على التمييز لأنه يحسن فيه إدخال من المقدرة في التمييز .
ويحتمل أن يكون منصوباً بإضمار فعل دل عليه رضيع والتقدير : رضعا ثدي أم كقوله
تعالى : وجاعل الليل سكناً والشمس والقمر حسبانا . وهذا إنما يكون على أن تجعل
رضيعي خبراً وقال بعض فضلاء العجم في أبيات المفصل : ثدي بدل من محل لبان في تقدير
: رضيعين لباناً ثدي أم وهو بدل اشتمال .
____________________
وقيل : ثدي أم منصوب على إضمار رضعا بدلالة رضيعي .
وتبعه الكرماني في شرح أبيات الموشح . وفيه أن الوصف ماضٍ وأن بدل الاشتمال لا بد
له من ضمير .
والجيد في نصب رضيعي أن يكون على المدح .
وجوز ابن السيد واللخمي غير هذا : أن يكون حالاً من الندى والمحلق ويكون قوله :
على النار خبر بات . وأن يكون خبر بات وعلى النار حالاً . وأن يكونا خبرين . )
أقول : أما الأول ففيه مع ضعف مجيء الحال من المبتدأ المنسوخ فساد المعنى لأنه
يقتضي أن يكونا غير رضيعين في غير بياتهما على النار وجودة المعنى تقتضي أنهما
رضيعان مذ ولدا .
وأما الأخيران ففيهما قبح التضمين الذي هو من عيوب الشعر وهو توقف البيت على الآخر
.
ويرد هذا أيضاً على جعله حالاً من الندى والمحلق وعلى جعله بدلاً من مقرورين وعلى
جعله صفة له .
حكى هذه الثلاثة بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل . وجوز هذه الثلاثة شارح
وهذا تعسف فإن تقاسما جواب مقدر نشأ من قوله : وبات على النار الندى والمحلق
والخبر هو على النار . و اللبان بكسر اللام قال الأندلسي : هو لبن الآدمي . قيل :
ولا يقال له لبن إنما اللبن لسائر الحيوانات . وليس بصحيح لأنه قد جاء في الخبر :
اللبن للفحل أي : للزوج نعم اللبان في بني آدم أكثر . انتهى .
وكذلك قال ابن السيد : روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لبن الفحل محرم كما
اتفق عليه الفقهاء . وفسروه بأن الرجل تكون له امرأة ترضع بلبنه فكل من أرضعته
حرمته عليه وعلى ولده . والصحيح أنه يقال : اللبان للمرأة خاصة واللبن عام .
____________________
وقال الحريري في درة الخواص تبعاً لابن قتيبة في أدب الكاتب : يقولون لرضيع
الإنسان : قد ارتضع بلبنه وصوابه ارتضع بلبانه لأن اللبن المشروب واللبان مصدر
لابنه أي : شاركه في شرب اللبن . وهذا هو معنى كلامهم الذي نحوا إليه .
وإليه أشار الأعشى في قوله : رضيعي لبانٍ ثدي أم تقاسما البيت . انتهى .
وقد أخذ معنى هذا المصراع وبسطه الكميت في مدح مخلد بن يزيد وقال : الرجز ( ترى
الندى ومخلداً حليفين ** كانا معاً في مهده رضيعين ) تنازعا فيه لبان الثديين وفيه
لطف بلاغةٍ لجعلهما أخوين من جنسٍ واحد . و تقاسما : تفاعلا من القسم أي : أقسم كل
منهما لا يفارق أحدهما الآخر . وروى بدله : )
تحالفا من الحلف وهو اليمين . والباء في قوله : بأسحم داخلةٌ على المقسم به وقد
اختلف في معناه : قال ابن السيد : فيه سبعة أقوال : أحدها : هو الرماد وكانوا
يحلفون . قال الشاعر : المنسرح ( حلفت بالملح والرماد وبالن ** اس وبالله نسلم
الحلقه )
____________________
( حتى يظل الجواد منعفراً **
وتخضب النبل غرة الدرقه ) ثانيها : هو الليل .
ثالثها : هو الرحم .
رابعها : هو الدم لأنهم كانوا يغمسون أيديهم فيه إذا تحالفوا .
حكى هذه الأقوال الأربعة يعقوب وحكى غيره وهو الخامس أنه حلمة الثدي . وقيل وهو
السادس : زق الخمر . وقيل وهو السابع : دماء الذبائح التي كانت تذبح للأصنام .
وجعله أسحم لأن الدم إذا يبس اسود .
وأبعد هذه الأقوال قول من قال : إنه الرماد لأن الرماد لا يوصف بأنه أسحم ولا داجٍ
وإنما يوصف بأنه أورق . انتهى .
وقال أحمد بن فارس : الأسحم : الأسود . والأسحم في قول الأعشى : بأسحم داج هو
الليل وفي قول النابغة : الطويل بأسحم دانٍ هو السحاب وقول زهير : الطويل
____________________
بأسحم مذود هو القرن . ويقال
: بأسحم داجٍ أي : في الرحم . انتهى .
وقال الحريري في الدرة : عنى بالأسحم الداجي : ظلمة الرحم المشار إليها في قوله
تعالى : يخلقكم في بطون أمهاتكم خلقاً من بعد خلقٍ في ظلماتٍ ثلاث . وقيل : بل عنى
به الليل . وعلى وقد قيل إن المراد بلفظة تقاسما اقتسما وإن المراد بالأسحم الداجي
الدم وقيل : المراد بالأسحم اللبن لاعتراض السمرة فيه وبالداجي الدائم . انتهى . )
ولا وجه لتفسير تقاسما باقتسما على تفسير الأسحم بأحد المعنيين الأخيرين . وكيف
يصح تفسير الداجي بالدائم مع أنه من الدجية وهو الظلام .
وقال الجوهري : قيل : هو الدم وقيل : الرحم وقيل : سواد حلمة الثدي وقيل : زق
الخمر .
وقوله : عوض هو ظرفٌ مقطوع عن الإضافة متعلق بما بعده . وجملة : لا نتفرق جواب
القسم وجاء به على حكاية لفظ المتحالفين الذي نطقا به عند التحالف ولو جاء به على
لفظ الإخبار عنهما لقال : لا يفترقان .
وزعم ابن السيد وتبعه اللخمي أنه يجوز مع كون عوض ظرفاً أن يكون عوض مقسماً به
والباء في أسحم بمعنى في . وهذا فاسد لأنه كان يجب حينئذ إعرابه وجره بحرف القسم .
قال الأندلسي : لا يجوز أن يكون عوض اسم صنم لتقدم المقسم به قبله ولبنائه
____________________
وأيضاً لا يجوز حذف حرف القسم
عند ذكر الفعل .
وعليه اقتصر الخوارزمي نقله عنه ابن المستوفي قال : عنى بأسحم داج : الليل وهو ليس
بالمقسم به إنما هو ظرف بمنزلة أن تقول : تقاسما في ليلٍ داج يكون تآلفهما فيه
واستئناس كل وقال صاحب العين : عوض كلمة تجري مجرى القسم فعوض على هذا القول معناه
حلفا بالدهر لا نتفرق فحذف حرف القسم ونصب المقسم به كما في قولك : الله لأفعلن .
هذا كلامه .
وفيه أن حرف القسم لا يحذف مع ذكر الفعل .
وقال ابن السيد : ومن اعتقد أن عوض اسم صنم لزمه أن يجعل الباء في قوله : بأسحم
بمعنى في . ويعني بالأسحم الليل أو الرحم . ولا يجوز أن تكون الباء في هذا الوجه
للقسم لأن القسم لم يقع بالأسحم إنما وقع بعوض الذي هو الصنم . انتهى .
ويعرف وجه رده مما ذكرنا .
وقوله : وأما إذا ما المحل إلخ المحل : انقطاع المطر ويبس الأرض من الكلأ . وسرح
مالهم أي : أطلقها وفرقها . والمال عند العرب : الإبل والبقر والغنم . و السملق
كجعفر : القاع الصفصف .
وقوله : نفى الذم إلخ هو جواب إذا . والجفنة بالفتح : قصعة الطعام فاعل نفى .
والجابية بالجيم قال الجوهري : هي الحوض الذي يجبى فيه الماء للإبل . وأنشد البيت
. و تفهق قال المبرد في أول الكامل : من قولهم : فهق الغدير يفهق إذا امتلأ ماء
فلم يكن فيه موضع مزيد . )
____________________
قال الأعشى : هكذا ينشده أهل
البصرة وتأويله عندهم أن العراقي إذا تمكن من الماء ملأ جابيته لأنه حضري فلا يعرف
مواضع الماء ولا محاله . وسمعت أعرابية تنشد : كجابية السيح بإهمال الطرفين تريد
النهر الذي يجري على جابيته فماؤها لا ينقطع لأن النهر يمده . انتهى .
وقال ابن السيد في حاشيته على الكامل : كان الأحمر يقول : الشيخ تصحيف وإنما هو
السيح بالسين والحاء غير معجمتين وهو الماء الجاري على وجه الأرض يذهب ويجيء . و
الجابية : الحوض وجمعه الجوابي . وكل ما يحبس فيه الماء فهو جابية . وقيل : أراد
بالشيخ العراقي كسرى .
وحكاه أبو عبيد في كلامٍ ذكره عن الأصمعي في شرح الحديث . وحض بالشيخ على تأويل
المبرد لأنه جرب الأمور وقاسى الخير والشر وهو يأخذ بالحزم في أحواله . انتهى . و
دردق بدالين بينهما راء : الأطفال يقال : ولدانٌ دردق ودرادق . كذا في العباب .
والسديف : شحم السنام . وتدفق أصله تتدفق بتاءين .
والأعشى شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
وقد روى صاحب الأغاني سبب هذه القصيدة على غير ما ذكرناه أيضاً .
وقد روى عن النوفلي أن المحلق كانت له أخواتٌ ثلاث لم يرغب أحدٌ فيهن لفقرهن
وخموله .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز لقد
رأيت عجباً مذ أمسا على أن أمس غير منصرف مجرور بالفتحة والألف للإطلاق .
وهذا نص سيبويه في باب تغيير الأسماء المبهمة إذا صارت أعلاماً خاصة أوردته بطوله
لكثرة فوائده : وسألته رحمه الله يعني الخليل عن أمس اسم رجل فقال : مصروف لأن أمس
ها هنا ليس على الجر ولكنه لما كثر في كلامهم وكان من الظروف تركوه على حالٍ واحدة
كما فعلوا ذلك : بأين وكسروه كما كسروا غاق إذ كانت الحركة تدخله لغير إعراب كما
أن حركة غاق لغير إعراب .
فإذا صار اسماً لرجل انصرف لأنه قد نقلته إلى غير ذلك الموضع كما أنك إذا سميت
بغاق صرفته . فهذا يجري مجرى هذا كما جرى ذا مجرى لا .
واعلم أن بني تميم يقولون في موضع الرفع : ذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس فلا
يصرفون في الرفع لأنهم عدلوه عن الأصل الذي هو عليه في الكلام لا عما ينبغي له أن
يكون عليه في القياس .
ألا ترى أن أهل الحجاز يكسرونه في كل موضع وبنو تميم يكسرونه في أكثر المواضع في
الجر والنصب . فلما عدلوه عن أصله في الكلام ومجراه تركوا صرفه كما تركوا صرف أخر
حين فارقت أخواتها في حذف الألف واللام منها وكما تركوا صرف سحر ظرفاً .
لأنه إذا كان مجروراً أو مرفوعاً أو منصوباً غير ظرف لم يكن بمنزلته إلا وفيه
الألف
____________________
واللام أو يكون نكرةً إذا
أخرجتا منه . فلما صار معرفة في الظروف بغير ألف ولام خالف التعريف في هذه المواضع
وصار معدولاً عندهم كما عدلت أخر فترك صرفه في هذا الموضع كما ترك صرف أمس في
الرفع .
وإن سميت رجلاً بأمس في هذا القول صرفته لأنه لا بد لك من أن تصرفه في الجر والنصب
لأنه في الجر والنصب مكسورٌ في لغتهم فإذا انصرف في هذين الموضعين انصرف في الرفع
لأنك تدخله في الرفع وقد جرى له الصرف في القياس في الجر والنصب لأنك لم تعدله عن
أصله في )
الكلام مخالفاً للقياس . ولا يكون أبداً في الكلام اسمٌ منصرفٌ في الجر والنصب ولا
ينصرف في وكذلك سحر اسم رجل تصرفه وهو في الرجل أقوى لا يقع ظرفاً ولو وقع اسم
شيءٍ فكان ظرفاً صرفته وكان كأمس لو كان أمس منصوباً غير ظرف مكسور كما كان . وقد
فتح قومٌ أمس في مذ لما رفعوا وكانت في الجر هي التي ترفع شبهوها بها .
قال : الرجز ( لقد رأيت عجباً مذ أمسا ** عجائزاً مثل الأفاعي خمسا ) وهذا قليل .
انتهى كلام سيبويه ونقلته من نسخة معتمدة مقروءة على مشايخ جلة عليها خطوط
إجازاتهم منهم زيد بن الحسن بن زيد الكندي إمام عصره عربيةً وحديثاً وتاريخ إجازته
سنة ثلاث وتسعين وخمسمائة وهي نسخة ابن ولاد تلميذ ثعلب والمبرد وتوفي بمصر في سنة
ثمان وتسعين ومائتين .
فما اعترض به الشارح المحقق على الزجاجي في زعمه أن أمس في البيت مبنية على الفتح
حق لا شبهة فيه .
____________________
وقد غلطه شراحه منهم ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل قال : مذ أمسا جار ومجرور
ومذ هنا حرف جر وهي بمنزلة في كأنه قال : لقد رأيت عجباً في أمس والعامل وقد غلط
أبو القاسم فيها وزعم أنها في البيت مبنية على الفتح وإنما هي في البيت على لغة
بعض بني تميم . وليس في العرب من يبنيها على الفتح وهي مخفوضة بمذ ولكنها لا تنصرف
عندهم للتعريف والعدل .
وإنما دخل عليه الوهم من قول سيبويه : وقد فتح قومٌ أمس مع مذ لما رفعوا وكانت في
الجر هي التي ترفع شبهوها بها . وأنشد البيت على ذلك . فتوهم أنه لما ذكر الفتح
الذي هو لقب البناء أنه أراد أن أمس مبني .
ولو تأمل لبان له العذر في ذكر الفتح هنا إذ لا يمكن أن تسمى الحركة التي يحدثها
عامل الجر نصباً لأنها ليست للنصب إنما هي للجر . وسوى بين عملٍ الجار والناصب
دلالة على ضعف الجار فيما لا ينصرف ولم يسمها جراً استقلالاً لها لأنها لما ضمت
إلى النصب صارت كأنها غير جر البتة . )
ألا تراه قال : وجميع ما لا ينصرف إذا أدخلت عليه الألف واللام انجر وهو لم يزل
مجروراً إلا أنه جعل الجر المحمول على النصب غير جر . وإلا فالعوامل في المنصرف
وغير المنصرف واحدة .
فاعلم ذلك . انتهى كلام اللخمي .
وقال النحاس : قال سيبويه : قد فتح قوم أمس في مذ إلخ . هذا من كلام سيبويه مشكلٌ
يحتاج إلى الشرح . وشرحه علي بن سليمان قال : أهل الحجاز على ما حكاه النحويون
يكسرون أمس في الرفع والنصب والخفض وبنو تميم يرفعونه في موضع الرفع بلا تنوين
يجعلونه بمنزلة ما لا ينصرف .
____________________
وذلك أنه ليس سبيل الظرف أن يرفع لأن الأخبار ليست عنه فلما أخبروا عنه زادوه
فضلةً فأخرجوه من البناء إلى ما لا ينصرف فلما اضطر الشاعر أجراه في الخفض مجراه
في الرفع وقدر مذ هذه الخافضة وفتحه لأنه لا ينصرف . انتهى .
وقال الأعلم : الشاهد فيه إعراب أمس ومنعها من الانصراف لأنها اسمٌ لليوم الماضي
قيل يومك معدول عن الألف واللام . ونظير جرها بعد مذ ها هنا رفعها في موضع الرفع
إذا قالوا : ذهب أمس بما فيه وما رأيته مذ أمس وهي لغةٌ لبعض بني تميم .
فلما رفعت بعد مذ لأن مذ يرتفع ما بعدها إذا كان منقطعاً ماضياً جاز للشاعر أن
يخفضه بعدها على لغة من جر بها في ما مضى وانقطع لأن مذ هذه الخافضة لأمس هي
الرافعة له في لغة من يرفع . وقد بينت هذا وكشفت حقيقته في كتاب النكت . انتهى .
وليس في كلام سيبويه ما يدل على أنه ضرورة . فتأمل .
وأما ما وهم به الشارح المحقق الزمخشري فقد يمنع بأن يكون الزمخشري ذهب إلى ما
حكاه ونقله أبو حيان في الارتشاف . ويؤيده قول أبي زيد في النوادر : قوله مذ أمسا
ذهب بها إلى لغة بني تميم يقولون : ذهب أمس بما فيه فلم يصرفه .
وقال الجرمي فيما كتبه على النوادر : جعل مذ من حروف الجر ولم يصرف أمس فتح آخره
في موضع الجر وهو الوجه في أمس .
وأبو زيد من مشايخ سيبويه وإذا نقل عنه في كتابه قال : حدثني الثقة .
والشارح مسبوق بالتوهيم . قال أبو حيان : اختلف النحاة في إعراب أمس مطلقاً إعراب
ما لا ينصرف عند بعض تميم فذهب إلى إثبات ذلك ابن الباذش وهو قول ابن عصفور وابن
مالك . )
____________________
وقال الأستاذ أبو علي : هذا غلط وإنما بنو تميم يعربونه في الرفع ويبنون في النصب
والجر .
انتهى .
والبيتان من رجز في نوادر أبي زيد سمعه من العرب وأنشد بعدهما : الرجز ( يأكلن ما
في رحلهن همسا ** لا ترك الله لهن ضرسا ) وقال : الهمس : أن تأكل الشيء وأنت تخفيه
.
وقوله : عجائزاً نونه لضرورة الشعر قيل بيان بقوله : عجباً وقيل بدلٌ منه . وهو
جمع عجوز .
قال ابن السكيت : العجوز : المرأة الكبيرة ولا تقل عجوزة والعامة تقوله . ومثل
صفةٌ لعجائز وكذا قوله : خمساً . والسعالي : جمع سعلاة بالكسر ويقال أيضاً : سعلاء
بالمد والقصر وهي أنثى الغول وقيل : ساحرة الجن .
وروى أبو زيد وسيبويه : مثل الأفاعي جمع أفعى وهي حية يقال : هي رقشاء دقيقة العنق
عريضة الرأس لا تزال مستديرةً على نفسها لا ينفع منها ترياق ولا رقية . يقال : هذه
أفعى بالتنوين لأنه اسمٌ وليس بصفة . كذا في المصباح .
والرحل : المأوى والمنزل وروى أيضاً : يأكلن ما في عكمهن والعكم : العدل بكسر
أولهما .
وجملة : لا ترك الله إلخ دعائية . وزاد ابن السيد في أبيات الجمل بعد هذا : ولا
لقين الدهر إلا تعسا وقال : التعس : السقوط على القفا .
وزاد ابن هشام اللخمي : الرجز
____________________
( فيها عجوزٌ لا تساوي فلسا
** لا تأكل الزبدة إلا نهسا ) والبيت الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي ما عرف
قائلها . وقال ابن المستوفي : وجدت هذه الأبيات الثمانية في كتاب نحوٍ قديم للعجاج
أبي رؤبة . واراه بعيداً من نمطه .
وقوله : لا تأكل الزبدة إلا نهسا أي : لا أسنان لها فهي تنهسها . وهو إغراقٌ
وإفراط . و النهس : أخذ اللحم بمقدم الأسنان . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الخمسمائة ) البسيط ( لاه ابن عمك لا
أفضلك في حسبٍ ** عني ولا أنت دياني فتخوني ) على أن أصل لاه ابن عمك : لله ابن
عمك فحذف لام الجر لكثرة الاستعمال وقدر لام التعريف فبقي : لاه ابن عمك فبني
لتضمن الحرف .
وصريحه أن كسرة الهاء كسرة بناء وظاهر كلام المفصل أنها كسرة إعراب قال : وتضمر أي
: باء القسم كما تضمر اللام في : لاه أبوك فإن المضمر يبقى
____________________
معناه وأثره بخلاف المحذوف
فإنه يبقى معناه ولا يبقى أثره . كذا حققه السيد عند قول الكشاف في تفسير : يجعلون
أصابعهم لأن المحذوف باقٍ معناه وإن سقط لفظه .
قال ابن يعيش في شرحه : اعلم أنهم يقولون : لاه أبوك ولاه ابن عمك يريدون : لله
أبوك ولله ابن قال الشاعر : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ . . . . . . . . . . . .
. . البيت أي : لله ابن عمك فحذفت لام الجر ولام التعريف وبقيت اللام الأصلية .
هذا رأي سيبويه .
وأنكر ذلك المبرد وكان يزعم أن المحذوف لام التعريف واللام الأصلية والباقية هي
لام الجر وإنما فتحت لئلا ترجع الألف إلى الياء مع أن أصل لام الجر الفتح .
وربما قالوا لهي أبوك فقلبوا اللام إلى موضع العين وسكنوا لأن العين كانت ساكنة
وهي الألف وبنوه على الفتح لأنهم حذفوا منه لام التعريف وتضمن معناها فبني لذلك
كما بني أمس والآن وفتح آخره تخفيفاً لما دخله من الحذف والتغيير . انتهى .
وقال الأندلسي في شرحه أيضاً عند قوله وتضمر كما تضمر اللام إلخ : هذا هو الوجه
الثالث وهو أن تحذف الحرف لفظاً وتقدره معنًى فيبقى عمله كما تضمر رب .
وقال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : قوله لاه أراد : لله حذف لام الجر
واللام الأولى من الله .
وكان المبرد يرى أنه حذف اللامين من الله وأبقى لام الجر وفتحها . وحجته أن حرف
الجر لا يجوز أن يحذف . انتهى .
____________________
وقال ابن الشجري في أماليه : قوله : لاه ابن عمك أصله لله فحذف لام الجر وأعملها
محذوفة )
كما في قوله الله لأفعلن وأتبعها في الحذف لام التعريف فبقي لاه بوزن عال .
ولا يجوز أن تكون اللام في لاه لام الجر وفتحت لمجاورتها للألف كما زعم بعض
النحويين لأنهم قالوا : لهي أبوك بمعنى لله أبوك ففتحوا اللام ولا مانع لها من
الكسر في لهي لو كانت الجارة وإنما يفتحون لام الجر مع المضمر في نحو : لك ولنا
وفتحوها في الاستغاثة إذا دخلت على الاسم المستغاث به لأنه أشبه الضمير من حيث كان
منادًى والمنادى يحل محل الكاف من نحو : أدعوك .
فإن قيل : فكيف يتصل الاسم بالاسم في قوله لاه ابن عمك بغير واسطة وإنما يتصل
الاسم بالاسم في نحو : لله زيد ولأخيك ثوب بواسطة اللام فالجواب : أن اللام أوصلت
الاسم بالاسم وهي مقدرة كما تجملت الجر وهي مقدرة . انتهى .
فهؤلاء كلهم صرحوا بأن الكسرة إعراب وأن لاه مجرورة باللام المضمرة .
وكأنه والله أعلم اختصر كلامه من أمالي ابن الشجري فوقع فيما وقع . وهذه عبارة ابن
الشجري : أقول : إن الاسم الذي هو لاه على هذا القول تام وهو أن يكون أصله : ليه
على وزن جبل ومن قال : لهي أبوك فهو مقلوب من لاه فقدمت لامه التي هي الهاء على
عينه التي هي الياء فوزنه فلع .
وكان أصله بعد تقديم لامه على عينه : للهي فحذفوا لام الجر ثم لام التعريف وضمنوه
معنى لام التعريف فبنوه كما ضمنوا معناها أمس فوجب بناؤه وحركوا الياء لسكون الهاء
قبلها واختاروا لها الفتحة لخفتها . انتهى .
____________________
وقول الشارح المحقق كما هو أحد مذهبي سيبويه في الله وهو أنه من لاه يليه قال ابن
الشجري : أصل هذا الاسم الذي هو الله تعالى مسماه إلاه في أحد قولي سيبويه بوزن
فعال ثم لاه بوزن عال .
ولما حذفوا فاءه عوضوا منها لام التعريف فصادفت وهي ساكنة اللام التي هي عينٌ وهي
متحركة فأدغمت فيها . إلى أن قال : وهذا قول يونس بن حبيب وأبي الحسن الأخفش وعلي
بن حمزة الكسائي ويحيى بن زياد الفراء وقطرب بن المستنير .
وقال بعد وفاقه لهذه الجماعة : وجائز أن يكون أصله لاه وأصل لاه ليه على وزن جبل
ثم )
أدخل عليه الألف واللام فقيل الله . واستدل على ذلك بقول العرب : لهي أبوك يريد
لاه أبوك .
قال : فتقديره على هذا القول فعل والوزن وزن باب ودار . ( كحلفةٍ من أبي رياحٍ **
يسمعها لاهه الكبار ) ولذي الإصبع العدواني : لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ . . .
. . . . . . . . . . . البيت انتهى كلام سيبويه . هذا كلامه .
وأقول : هذان البيتان ليسا بموجودين في كتاب سيبويه كما نبهنا سابقاً في الشاهد
الخامس والعشرين بعد المائة .
وقد تكلم أبو علي الفارسي على قولهم : لهي أبوك في التذكرة القصرية
____________________
وفي إيضاح الشعر فلا بأس بنقل
كلاميه لمزيد الفائدة والإيضاح : قال في التذكرة : لهي أبوك مقلوب من لاه على
القول الذي لاه فيه فعل أي : بفتحتين لا على القول الذي لاه فيه عال محذوفة الفاء
وهي همزة إلاه .
ومن إشكال هذه المسألة مخالفة وزنها لوزن ما قلبت منه لأن الأصل فعل أي : بفتحتين
ولهي فلع أي : بسكون اللام .
ومن إشكالها أيضاً أن المقلوب منه معرب وهو لاه والمقلوب مبني على الفتح وهي لهي .
وإنما جعلنا لهي هو المقلوب لأنه أقل تمكناً وأكثر تغييراً بدليل أن اسم الله
تعالى معرب متصرف في الخبر والنداء أي : ليس هو مبنياً ودخول جميع العوامل عليه
ولهي أبوك مبني لا يزول عن هذا الموضع فهو بهذا أكثر تغييراً وأقل تمكناً .
ولا يخرج لاه في كلامهم مع ما ذكرنا من الدليل على أنه الأصل أنه ليس أصل اشتق منه
إذ كان في كلامهم ما العين فيه ياء كثيرٌ . فأما مخالفة وزن لهي الأصل الذي قلبت
منه فقد جاء مثله قالوا فوقٌ فعين الفعل منه ساكنة وقال امرؤ القيس : الهزج ونبلي
وفقاها كعراقيب فقلب العين إلى موضع اللام وحرك اللام كما سكن اللام في لهي وذلك
لأن
____________________
المقلوب بناء مستأنف فجائز أن
يأتي مخالفاً لما قلب منه .
يدلك على أنه بناء مستأنف قولهم : قسي هو مقلوب من قووس وهم لا يتكلمون بقووس )
البتة فتركهم الكلام بالأصل يدلك على أن المقلوب مبني بناء مستأنفاً لأنه لو لم
يكن مستأنفاً وكان هو المقلوب منه لكان المقلوب منه متكلماً به .
وإذا ثبت أنه بناء مستأنف لم ينكر أن يأتي على غير وزن المقلوب منه كما أنه لما أن
كانت أبنيته مستأنفة لم ينكر أن تجيء على وزن الواحد .
وأما وجه بنائه فهو أنه تضمن معنى حرف التعريف كما تضمن أمس ذلك .
ألا ترى أنه في معنى : لله أبوك وليس فيه حرف التعريف . وحرك بالفتح كراهةً للكسر
مع الياء . ولا يحكم بأن لاه مبني وأنت تجد سبيلاً إلى الحكم له بالإعراب .
ألا ترى أنه اسم متمكن منصرف فلا يحكم له بالبناء إلا بدليل كما لم يحكم للهي إلا
بدليل وهو الفتح . انتهى .
وصريح كلامه أخيراً يرد ما زعمه الشارح من بناء لاه .
وقال في إيضاح الشعر : تحذف حروف المعاني مع الأسماء على ضروب : أحدها : أن يحذف
الحرف ويضمن الاسم معناه وهذا يوجب بناء الاسم نحو أين وخمسة عشر وأمس في قول
الحجازيين ومن بناه ولهي أبوك .
والآخر : أن يعدل الاسم عن اسمٍ فيه حرف فهذا المعدول لا يجب بناؤه لأنه لم يتضمن
الحرف فيلزم البناء كما تضمنه الأول لأن الحرف يراد في ذلك البناء الذي وقع العدل
عنه . وإذا كان هناك مراداً لم يتضمن هناك الاسم .
ألا ترى أنه محال أن يراد ثم فيعدل هذا عنه ويتضمن معناه لأنك إذا ثبت الحرف في
موضعين فلا يكون حينئذ عدلاً .
ألا ترى أن العدل إنما هو أن تلفظ ببناءٍ وتريد الآخر فلا بد من أن يكون البناء
المعدول غير المعدول ومخالفاً له . ولا شيء يقع فيه الخلاف بين سحر المعدول
والمعدول عنه إلا إرادة لام التعريف في المعدول عنه وتعري المعدول منه
____________________
فلو ضمنته معناه لكان بمنزلة
إثباته ولو أثبته لم يكن عدلاً . فإذا كان كذلك لم يجز أن يتضمنه وإذا لم يتضمنه
لم يجز أن يبنى كما بنى أمس .
والضرب الثالث : أن تحذف الحرف في اللفظ ويكون مراداً فيه . وإنما تحذفه من اللفظ
اختصاراً و استخفافاً . فهذا يجري مجرى الثبات . فمن هذا القسم الحذف في جميع
الظروف )
حذفت اختصاراً لأن في ذكرك الأسماء التي هي ظروفٌ دلالةً على إرادتها .
ألا ترى أنك إذا قلت : جلست خلفك وقدمت اليوم علم أن هذا لا يكون شيئاً من أقسام
المفعولات إلا الظرف .
فلما كان كذلك كان حذفها بمنزلة إثباتها لقيام الدلالة عليها . فإذا كنيت رددت في
التي كانت محذوفة للاختصار وللدلالة القائمة عليها لأن الضمير لا يتميز ولا ينفصل
كما كان ذلك في المظهر .
ألا ترى أن الهاء في كناية الظرف كالهاء في كناية المفعول به . فإذا رددت الحرف
الذي كنت حذفته فوصلته به دل على أنه من بين المفعولات ظرف . فقد علمت بردك له في
الإضمار أنك لم تضمن الاسم معنى الحرف فتبنيه وأنه مراد في حال الحذف لأن في ظهور
الاسم دلالةً عليه فحذفته لذلك .
فهذا يشبه قولهم : الله لأفعلن في أنهم مع حذفهم ذلك يجري عندهم مجرى غير المحذوف
إلا أنه لما حذف في الظرف واستغني عنه وصل الفعل إليه فانتصب . والجار إذا حذفوه
على هذا الحد الذي ذكرته لك من أن الدلالة قائمة على حذفه يجري على ضربين : أحدهما
: أن يوصل الفعل كباب الظروف واخترت الرجال زيداً .
والآخر : أن يوصل الفعل ولكن يكون الحرف كالمثبت في اللفظ فيجرون به كما يجرون به
وهو مثبت وذلك قولهم : الله وكما قام لنا من الدلالة على حذفهم له في وبلدٍ وكما
ذهب إليه سيبويه في : المتقارب
____________________
ونارٍ توقد بالليل نارا وكما
ذهب بعض المتقدمين من البصريين في قوله : واختلاف الليل إلى أنه على ذلك .
ولو قال قائل في إنشاد من أنشد : الطويل ولا مستنكرٍ أن تعقرا إلى هذا الوجه لكان
قياس هذا القول . فأما تركهم الرد في حال الإضمار في نحو : الطويل فمنهم من يقول :
إنما فعل ذلك لأن الإضمار لا يكون إلا بعد مذكور فيعلم
____________________
أنه إضمار ذلك .
وهذا إذا اتسعوا فيه فجعلوا نصبه نصب المفعول به لم يلزم أن يكون عليه دلالة كما
كان في حال كونه ظرفاً . )
فأما قولهم : لهي أبوك فلا تكون هذه اللام الثانية في الاسم إلا التي هي فاء الفعل
.
والدليل على ذلك أنها لا تخلو من أن تكون الجارة أو المعرفة أو التي هي فاء . فلا
يجوز أن تكون المعرفة لأن تلك يتضمنها الاسم وإذا تضمنها الاسم لم تظهر .
ألا ترى أن الواو في خمسة عشر لا تثبت واللام في أمس في قول من بنى لا تظهر . فلما
كان الاسم هنا مبنياً أيضاً على الفتح ولم يكن فيه معنًى يوجب بناءه على تضمنه
لمعنى حرف التعريف وجب أيضاً أن لا يظهر كما لم يظهر أيضاً فيما ذكرت لك . فإذا لم
يجز ظهور حرف التعريف لم تخل المحذوفة من أحد أمرين : إما أن تكون الجارة أو التي
هي فاء الفعل . فلا يجوز أن تكون الجارة لأنها مفتوحة وتلك مكسورة مع المظهرة فلا
يجوز إذاً أن تكون إياها للفتح . فإن قال قائل : ما تنكر أن تكون الجارة وإنما
فتحت لأنها جاورت الألف والألف يفتح ما قبلها قيل له : الدلالة على أنها في قولهم
: لاه أبوك هي الفاء وليست الجارة أنها لو كانت الجارة في لاه وفتحت لمجاورة الألف
لوجب أن تكسر في لهي ولا تفتح لزوال المعنى الذي أوجب فتحه وهو مجاورة الألف .
فعلمت أن الفتح لم يكن لمجاورة الألف .
فإن قال : ترك في القلب كما كان في غير القلب فذلك دعوى لا دلالة عليها ولا يستقيم
في القلب ذلك .
ألا تراهم قالوا : جاهٌ في قلب وجه وفقاً في فوق . فإذا كانوا قد خصوه بأبنيةٍ لا
تكون في المقلوب عنه دل على أنه ليس يجب أن يكون كالمقلوب عنه . على أن ادعاء فتح
هذه اللام مع أنها الجارة لا سوغ في اللغة التي هي أشيع وأفشى . ولم تفتح في هذه
اللغة الشائعة إلا مع المنادى وذلك لمضارعته المضمر .
____________________
فإذا لم يجز ذلك ثبت أنها فاء الفعل وإذا ثبت ذلك ثبت أن الجارة مضمرة لا بد من
ذلك . ألا ترى أنك إن لم تضمر يتصل الاسم الثاني بالأول لأنه ليس إياه . فالمعنى
إذاً : لله أبوك .
ومما يدل على فساد قول من قال إن هذه اللام هي الجارة أنها إذا كانت إياها كانت في
تقدير الانفصال من الاسم من حيث كان العامل في تقدير الانفصال عن المعمول فيه فإذا
كان كذلك فقد ابتدأ الاسم أوله ساكن . وذلك مما قد رفضوه ولم يستعملوه .
ألا ترى أنهم لم يخففوا الهمزة إذا كانت أول كلمة من حيث كان تخفيفها تقريباً من
الساكن . فإذا )
ويدل على فساد ذلك أنهم لم يخرموا أول متفاعلن كما خرموا أول فعولن ومفاعلن ونحو
ذلك مما يتوالى في أوله متحركات لأن متفاعلن يسكن ثانيه للزحاف فيلزم لو خرموه كما
خرم فعولن الابتداء بالساكن .
وعلى هذا قال الخليل : لو لفظت بالدال من قد والباء من اضرب لقلت : أد وإب فاجتلبت
همزة الوصل .
وقال أبو عثمان : لو أعللت الفاء من عدة وزنة ونحوهما ولم تحذفها للزمك أن تجتلب
همزة الوصل فيها فتقول : إعدة .
ومن زعم أن الهمزة في أنا كان الأصل فيها ألفاً ثم أبدل منها همزة فقد جهل ما
ذكرناه من مذاهب العرب ومقاييس النحويين .
فأما أمس فقد جوزت العرب فيه ضربين : ضمنها قوم معنى الحرف فبنوها في كل حال
وعدلها آخرون فلم يصرفوه فهؤلاء
____________________
جعلوه بمنزلة سحر في باب
العدل وأنهم لم يضمنوه الحرف . فأما أخر والعدل فيه فله موضعٌ آخر يذكر فيه إن شاء
الله تعالى .
انتهى كلام أبي علي ولتعلق جميعه بهذا الباب سقناه برمته ليكون كالتتمة له وبالله
التوفيق .
والبيت من قصيدة لذي الإصبع العدواني وهو شاعر جاهلي وتقدمت ترجمته في الشاهد
الخامس والثمانين بعد الثلثمائة .
وعدتها في رواية المفضل في المفضليات ثمانية عشر بيتاً وفي رواية ابن الأنباري في
شرحها عن أبي عكرمة ورواية أبي علي القالي في أماليه ستة وثلاثون بيتاً .
واقتصرنا على رواية المفضل . قالها في ابن عم له كان ينافسه ويعاديه وهي : البسيط
( لي ابن عم على ما كان من خلقٍ ** مختلفان فأقليه ويقليني ) ( أزرى بنا أننا شالت
نعامتنا ** فخالني دونه وخلته دوني ) ( يا عمرو إلا تدع شتمي ومنقصتي ** أضربك حتى
تقول الهامة اسقوني ) ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ** عني ولا أنت دياني
فتخزوني ) ( ولا تقوت عيالي يوم مسغبةٍ ** ولا بنفسك في العزاء تكفيني )
____________________
( إني لعمرك ما بابي بذي غلقٍ
** عن الصديق ولا خيري بممنون ) ) ( ولا لساني على الأدنى بمنطلقٍ ** بالفاحشات
ولا فتكي بمأمون ) ( عف يؤوسٌ إذا ما خفت من بلدٍ ** هوناً فلست بوقافٍ على الهون
) ( عني إليك فما أمي براعيةٍ ** ترعى المخاض وما رأيي بمغبون ) ( إني أبي أبي ذو
محافظةٍ ** وابن أبي أبي من أبيين ) ( وأنتم معشرٌ زيدٌ على مائةٍ ** فاجمعوا
أمركم كلا فكيدوني ) ( فإن عرفتم سبيل الرشد فانطلقوا ** وإن جهلتم سبيل الرشد
فأتوني ) ( ماذا علي وإن كنتم ذوي كرمٍ ** أن لا أحبكم إن لم تحبوني ) ( لو تشربون
دمي لم يرو شاربكم ** ولا دماءكم جمعاً ترويني ) ( الله يعلمني والله يعلمكم **
والله يجزيكم عني ويجزيني ) ( قد كنت أوتيكم نصحي وأمنحكم ** ودي على مثبتٍ في
الصدر مكنون ) ( لا يخرج الكره مني غير مأبيةٍ ** ولا ألين لمن لا يبتغي ليني )
ومن رواية أبي عكرمة : ( فإن ترد عرض الدنيا بمنقصتي ** فإن ذلك مما ليس يشجيني )
( ولا يرى في غير الصبر منقصةٌ ** وما سواه فإن الله يكفيني ) ( لولا أياصر قربى
لست تحفظها ** ورهبة الله فيمن لا يعاديني ) ( إذن بريتك برياً لا انجبار له **
إني رأيتك لا تنفك تبريني ) ( إن الذي يقبض الدنيا ويبسطها ** إن كان أغناك عني
سوف يغنيني )
____________________
( والله لو كرهت كفي مصاحبتي
** لقلت إذ كرهت قربي لها بيني ) وقوله : لي ابن عم علم من هذا أنهما اثنان .
فقوله مختلفان خبر مبتدأ مضمر أي : نحن .
وقوله : من خلق أي : من تخالق . وكان تامة أي : ثبت و من بيانٌ لما .
ومطلع القصيدة على رواية أبي عكرمة والقالي : ( يا من لقلبٍ شديد الهم محزون **
أمسى تذكر ريا أم هارون ) ( أمسى تذكرها من بعدما شحطت ** والدهر ذو غلظةٍ حيناً
وذو لين ) ( فإن يكن حبها أمسى لنا شجناً ** فأصبح الوأي منها لا يواتيني ) ( فقد
غنينا وشمل الدهر يجمعنا ** أطيع ريا وريا لا تعاصيني ) ) ( ترمي الوشاة فلا تخطي
مقاتلهم ** بصادقٍ من صفاء الود مكنون ) ولي ابن عم على ما كان من خلقٍ . . . . .
. . . . . . . إلى آخره و الشجن : الحزن . و الوأي : الوعد . و غنينا : أقمنا .
وقوله : أزرى بنا إلخ قال ابن الأنباري : يقال أزرى به إذا قصر وزرى عليه : إذا
عابه .
وقوله : شالت نعامتنا أي : تفرق أمرنا واختلف . يقال عند اختلاف القوم : شالت
نعامتهم وزف رألهم . و الرأل : فرخ النعام . وقيل يقال شالت نعامتهم إذا جلوا عن
الموضع .
____________________
والمعنى : تنافرنا فصلات لا أطمئن إليه ولا يطمئن إلي ويقال ألقوا عصاهم إذا سكنوا
واطمأنوا . انتهى .
وقال الزمخشري في المستقصى : شالت نعامتهم أي : تفرقوا وذهبوا . لأن النعامة
موصوفةٌ بالخفة وسرعة الذهاب والهرب . ويقال أيضاً : خفت نعامتهم وزف رألهم . وقيل
: النعامة : جماعة القوم . وأنشد البيت مع أبيات أخر .
وقوله : يا عمرو إلا تدع شتمي إلخ قال ابن الأنباري : قال الأصمعي : العرب تقول :
العطش في الرأس .
وأنشد قول الراجز : الرجز ( قد علمت أني مروي هامها ** ومذهب الغليل من أوامها )
إذا جعلت الدلو في خطامها الغليل : شدة العطش . و الأوام : حر تجده في أجوافها .
وأنشد أيضاً : الطويل ستعلم إن متنا صدًى أينا الصدي صدًى أي : عطشاً . والمعنى :
إن لا تدع شتمي اضربك على هامتك حيث تعطش . ويقال : إن الرجل إذا قتل فلم يدرك
بثأره خرجت هامةٌ من قبره فلا تزال تصيح : اسقوني اسقوني وأنشد في ذلك : الوافر
____________________
( فإن تك هامةٌ بهراة تزقو **
فقد أزقيت بالمروين هاما ) انتهى .
قال الشريف الرضي في أماليه بعد نقل هذا : وهذا باطلٌ لا أصل له . ويجوز أن يعنيه
ذو الإصبع على مذاهب العرب . )
وقوله : لاه ابن عمك إلخ أصله : لله ابن عمك فحذف لام الجر مع لام التعريف وبقي
عمله شذوذاً وهو خبر مقدم وابن عمك : مبتدأ مؤخر واللام المحذوفة للتعجب .
ونقل الشريف المرتضى عن ابن دريد أنه قال : أقسم وأراد : لله ابن عمك فتكون اللام
للقسم وجملة : لا أفضلت جوابه .
وهذا غير صحيح لأنه يبقى قوله ابن عمك ضائعاً .
وقال ابن هشام في المغني أصله لله در ابن عمك . وهذا تكلف لأنه إجحاف مستغنًى عنه
يجعل اللام للتعجب ويكون جملة : لا أفضلت إلخ بياناً وتفسيراً لجهة التعجب من كمال
صفاته المقتضى للتعجب منها .
وقال ابن الأنباري : وروى : لاه ابن عمك بالخفض وهو قسمٌ المعنى : رب ابن عمك بخفض
رب فيكون على هذا رب تابعاً للفظ الجلالة بالوصفية ويكون جملة : لا أفضلت إلخ جواب
القسم واللام المضمرة للقسم ولاه مقسم به .
وقد أورد الشارح المحقق هذا البيت في عن من حروف الجر على أنها هنا في بابها من
المجاوزة وأفضلت مضمن لمعنى تجاوزت في الفضل .
وأورده ابن هشام في المغني على أن عن فيه بمعنى على قال : لأن المعنى المعروف :
أفضلت عليه .
____________________
وهذا قول ابن السكيت في إصلاح المنطق وتبعه ابن قتيبة وغيره .
قال ابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : ذهب يعقوب بن السكيت ومن كتابه نقل ابن
قتيبة هذه الأبواب إلى أن عن ها هنا بمعنى علي . وإنما قال ذلك لأنه جعل أفضلت من
قولهم : أفضلت على الرجل إذا أوليته فضلاً . وأفضلت هذه تتعدى بعلى لأنها بمعنى
الإنعام . ومعناه : إنك لم تنعم علي بأن شرفتني فتعتد بذلك علي .
وقد يجوز أن يكون من قولهم : أعطى وأفضل إذا زاد على الواجب . وأفل هذه أيضاً
تتعدى بعلى يقال : أفضل على كذا أي : زاد عليه فضلةً .
وقد يجوز أن يكون من قولهم : أفضل الرجل إذا صار ذا فضلٍ في نفسه فيكون معناه : ليس
لك فضلٌ تنفرد به عني وتحوزه دوني . فتكون عن هنا واقعةً موقعها غير مبدلة من على
.
انتهى . )
ومنه أخذ ما نقله ابن الملا بقوله : قيل : ضمن أفضل معنى انفرد فعدى بعن لأنه إذا
أفضل عليه في الحسب أي : زاد فقد انفرد عنه بتلك الزيادة . وقيل : هي على بابها
لأنه إذا كان أفضل وكان فوقه في الحسب فقد زاد عنه وصار في حيز فكأنه يقول : ما
زاد قدرك عن قدري ولا ارتفع شأنك عن شأني . انتهى .
هذا وقد روى صاحب الأغاني : ( لاه ابن عمك لا أفضلت في حسبٍ ** شيئاً . . . . . .
. . . . . . . ) وعليها لا يكون في البيت عن فلا يأتي هذا البحث .
وعلى تلك كان الظاهر أن يقول : عنه بضمير الغائب لكنه التفت من الغيبة إلى التكلم
.
قال ابن السيد : ويعني بابن العم المذكور نفسه فلذلك رد الإخبار بلفظ المتكلم ولم
يخرجه بلفظ الغيبة لئلا يتوهم أنه يعني نفسه . ولو جاء بالكلام على لفظ الغيبة
____________________
لكان أحسن ولكنه أراد تأكيد
البيان ورفع الإشكال . و الحسب : ما يعده الإنسان من مآثر نفسه .
وفي القاموس : الديان : القهار والقاضي والحاكم والمجازي الذي لا يضيع عملاً بل
يجزي بالخير والشر . و تخزوني بالخاء والزاي المعجمتين : مضارع خزاه خزواً بالفتح
: ساسه وقهره وملكه . وأما الخزي بالكسر وهو الهوان والذل فالفعل منه كرضي .
وأخزاه الله : فضحه .
قال الدماميني : يحتمل الرفع والنصب في فتخزوني كما يحتملها نحو : ما تأتينا
فتحدثنا أي : ولا أنت مالكي فأنت تسوسني أو ليس لك ملك فسياسة . وعلى تقدير النصب
فالفتحة مقدرة كما في قوله : الطويل أبى الله أن أسمو بأم ولا أب وليس بضرورة .
وقد قرئ في الشواذ : إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة
____________________
النكاح بإسكان الواو من يعفو
الذي . انتهى .
وقال ابن السيد : وقوله لا أفضلت معناه : لم تفضل . والعرب تقرن لا بالفعل الماضي
فينوب ذلك مناب لم إذا قرنت بالفعل المستقبل .
فمن ذلك قوله تعالى : فلا صدق ولا صلى . معناه : لم يصدق ولم يصل . ومنه قول أبي )
خراش : الرجز ومعنى البيت : لله ابن عمك الذي ساواك في الحسب وماثلك في الشرف فليس
لك فضل عليه فتفتخر به ولا أنت مالك أمره فتسوسه وتصرفه على حكمك .
وقوله : ولا تقوت علي إلخ تقوت : تعطي القوت . و المسغبة : المجاعة . و العزاء
بفتح العين المهملة وتشديد الزاي : الضيق والشدة .
وقوله : إني لعمرك إلخ الممنون : المقطوع أو من المنة .
وقوله : عف يؤوس إلخ أي : أعف عما ليس لي لست بذي طمع آيس مما في أيدي غيري فلا
تتبعه نفسي . و الهون بالضم : الذل .
وقوله : فما أمي براعية أي : لست بابن أمة . عرض به وكان ابن أمة . وإنما خص رعية
المخاض لأنها أشد من رعية غيرها ولا يمتهن فيها إلا من لم يبال به .
____________________
وقوله : إني أبي إلخ قال ابن جني في سر الصناعة : كسرة النون من أبيين حركة التقاء
الساكنين وهما الياء والنون وكسرت النون على أصل التقاء الساكنين إذا التقيا . ولم
تفتح كما تفتح نون الجمع لأن الشاعر اضطر إلى ذلك لئلا يختلف حركة حرف الروي في
سائر الأبيات .
وقوله : وأنتم معشر إلخ زيدٌ : زيادة . وأجمع أمره بألفٍ قال تعالى : فأجمعوا
أمركم وشركاءكم .
وقوله : لا يخرج الكره هو فاعل يخرج يقول : إذا أكرهت على الشيء لم يكن عندي إلا
الإباء له لا أعطي على القسر شيئاً . و المأبية : مصدر كالإباء .
____________________
( النكرة والمعرفة ) أنشد فيه
( الشاهد الرابع والعشرون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر أظبيٌ كان أمك
أم حمار على أن الضمير المستتر في كان نكرة لأنه عاد على نكرة غير مختصة بشيءٍ وهو
ظبي .
وقد تكلم الشارح المحقق عليه في باب الأفعال الناقصة وسيأتي إن شاء الله الكلام عليه
هناك .
ولنشرح هنا الشعر ونعين قائله فنقول : هو من أبيات أوردها أبو تمام في كتاب مختار
أشعار القبائل ونسبها لثروان ابن فزارة بن عبد يغوث العامري وهي : ( وكائن قد رأيت
من اهل دارٍ ** دعاهم رائدٌ لهم فساروا ) ( فأصبح عهدهم كمقص قرنٍ ** فلا عينٌ تحس
ولا أثار )
____________________
( فإنك لا يضرك بعد عامٍ **
أظبيٌ كان أمك أم حمار ) ( فقد لحق الأسافل بالأعالي ** وماج اللؤم واختلط النجار
) ( وعاد العبد مثل أبي قبيسٍ ** وسيق مع المعلهجة العشار ) وقوله : وكائن هي
خبرية بمعنى كم الخبرية . و الرائد : الذي يرسل في طلب الكلأ .
وقوله : فأصبح عهدهم إلخ العهد بالفتح : المنزل الذي لا يزال القوم إذا بعدوا عنه
رجعوا إليه وكذلك المهد .
وقوله : كمقص قرن قال أبو تمام أي : كمقطع قرن . يريد : خلت ديارهم . وقيل : مقص
قرن : جبلٌ مشرف على عرفات أيضاً . وليس يريده . انتهى .
قال أبو محمد الأعرابي : مقص : موضعٌ تقتص فيه الأرض أي : لا يوجد لهم ولعهدهم أثر
كما لا يوجد أثر من يمشي على صخرة . و قرن : جبل . انتهى . و تحس : بالبناء
للمفعول من أحس الرجل الشيء إحساساً أي : علم به . و الأثار بالفتح هو الأثر .
ويقال : أثارةٌ أيضاً بالهاء . )
وقوله : لقد بدلت أهلاً إلخ بالبناء للمفعول . و السخار بضم السين وكسرها : اسم
للسخرية والاستهزاء .
ورواه مؤرجٍ السدوسي في أمثاله : فإنك لا يضورك يقال : ضاره يضوره ويضيره بمعنى .
ورويا : حولٍ بدل عام . ولم أر رواية فإنك لا تبالي لأحد إلا للنحويين .
وقوله : أظبي كان إلخ هذه هي الرواية المشهورة التي رواها سيبويه فمن
____________________
دونه من النحاة .
وقال أبو محمد الأسود الأعرابي في رده على ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه : كيف
يكون الظبي والحمار أمين وهما ذكرا الحيوان حتى إن المثل يضرب بالحمار فيقال : من
ينك العير ينك نياكا والصواب ما أنشدناه أبو الندى : أظبي ناك أمك أم حمار وإنما
قلبت اللفظة تحرجاً فيما أرى ثم استشهد به النحويون على ظاهره . وهذه الأبيات قطعة
طريفةً أكتبها أبو الندى وذكر أنها لثروان بن فزارة بن عبد يغوث بن ربيعة بن عمرو
بن عامر .
انتهى .
أقول : يدفع ما توقف فيه بأن أم هنا معناه الأصل . وهذا معنى شائع لا ينبغي العدول
عنه فإن الأم في اللغة تطلق على أصل كل شيء سواءٌ كان في الحيوان أو في غيره .
وقال الأعلم : في شرح شواهد سيبويه وصف في البيت تغير الزمان واطراح مراعاة
الأنساب .
فقد لحق الأسافل بالأعالي فيقول : لا تبالي بعد قيامك بنفسك واستغنائك عن أبويك من
انتسبت إليه
____________________
من شريف أو وضيع . وضرب المثل
بالظبي والحمار وجعلهما أمين وهما ذكران لأنه مثلٌ لا حقيقة وقصد قصد الجنسين ولم
يحقق أبوة . وذكر الحول لذكر الظبي والحمار لأنهما يستغنيان بأنفسهما بعد الحول
فضرب المثل بذكره للإنسان لما أراد من استغنائه بنفسه . انتهى .
وقوله : وماج اللؤم إلخ ماج يموج . و اللؤم : دناءة النفس والآباء . و النجار بكسر
النون وضمها بعدها جيم : الأصل أي : ذهب السودد وغلب على الناس اللؤم والدناءة واشتبه
الأصل والنسب حتى لو بقوا على هذه الحالة سنة لا يبالي إنسانٌ أهجيناً كان أو غير
هجين . )
وقوله : مثل أبي قبيس هو مصغر أبو قابوس وهو كنية النعمان بن المنذر ملك الحيرة .
و قابوس : معرب كاووس اسم ملكٍ من ملوك الفرس القديمة .
وقال أبو محمد الأعرابي : الذي أنشدناه أبو الندى : وعاد الفند مثل أبي قبيس و
الفند بكسر الفاء وسكون النون : قطعة من الجبل طولاً وقيل : الجبل العظيم . و أبو
قبيس : جبلٌ بمكة سمي برجل من مذحج حداد لأنه أول من بنى فيه .
وفي القاموس : المعلهج كمزعفر : الأحمق اللئيم والهجين . وحكم الجوهري بزيادة هائه
غلط .
والهجين : اللئيم وعربي ولد من أمة أو من أبوه خيرٌ من أمه . وفرسٌ هجين : غير
كريم كالبرذون . والعشار بالكسر : جمع
____________________
عشير وهو القريب والصديق أو
جمع عشراء والعشراء من النوق : التي مضى لحملها عشرة أشهر أو ثمانية أو هي كالنفساء
من النساء .
وقال أبو محمد الأعرابي : الفند كناية عن الرجل الوضيع . وأبو قبيس : الرجل الشريف
. و المعلهجة : الفاسدة النسب أي : تزوجت هذه المعلهجة ومهرت مهر الشريفة . و
ثروان بن فزارة : صحابي وفد على رسول الله صلى الله عليه وسلم . وهو القائل :
الطويل ( إليك رسول الله خبت مطيتي ** مسافة أرباعٍ تروح وتغتدي ) ونسبه صاحب
الجمهرة وابن حجر في الإصابة عنه كذا : ثروان بن فزارة ابن عبد يغوث بن زهير الصتم
بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر بن صعصعة .
والصتم بفتح الصاد وسكون التاء المثناة الفوقية : لقب زهير ويقال له : زهيرٌ
الأكبر .
ونسب سيبويه هذا البيت لخداش بن زهير . وزهير هذا هو زهير الصتم المذكور وهو أخو
عبد يغوث جد ثروان الصحابي . قال المرزباني : هو جاهلي . وأورده ابن حجر في
الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم يجتمعوا
به .
قال : خداش بن زهير العامري شهد حنيناً مع المشركين وله في ذلك شعر يقول فيه :
البسيط ( يا شدةً ما شددنا غير كاذبةٍ ** على سخينة لولا الليل والحرم )
____________________
ثم أسلم خداشٌ بعد ذلك بزمان
ووفد ولده سعساع على عبد الملك يتنازعون في العرافة فنظر إليه عبد الملك فقال : قد
وليتك العرافة . فقام قومه وهم يقولون : فلج ابن خداش )
فسمعهم عبد الملك فقال : كلا والله لا يهجونا أبوك في الجاهلية ونسودك في الإسلام
. وذكر البيت المتقدم .
والمراد بقوله : سخينة قريش . وذكر المرزباني أنه جاهلي وأن البيت الذي قاله في
قريش كان في حرب الفجار . وهذا أصوب . انتهى .
ونسب العسكري في كتاب التصحيف البيت الشاهد لزرارة بن فروان من بني عامر بن صعصعة
وقال : الفاء في فروان مفتوحة .
ولم أر زرارة هذا في الأقسام الأربعة من الإصابة ولا في جمهرة الأنساب لابن الكلبي
. والله أعلم .
ولقد أمر على اللئيم يسبني
____________________
على أنه يجوز وصف المعرف
باللام الجنسية بالنكرة كما هنا فإن جملة يسبني نكرة وقعت وصفاً للئيم .
وفيه أنهم قالوا : الجمل لا تتصف بتعريف ولا تنكير . وقالوا أيضاً : إن الجملة بعد
المعرف باللام الجنسية يحتمل أن تكون حالاً منه وأن تكون وصفاً له . ومثلوا بهذا
البيت . منهم ابن هشام في المغني وغيره .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الخمسمائة ) الكامل ( أزف الترحل غير أن
ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد ) على أن قد كلمة مستقلة يصلح الوقف عليها .
وهذا الفصل قد أخذه الشارح المحقق من سر الصناعة لابن جني وهذه عبارته فيه قال :
وذهب الخليل إلى أن حرف التعريف بمنزلة قد في الأفعال وأن الهمزة واللام جميعاً
للتعريف .
وحكي عنه أنه كان يسميها أل كقولنا : قد وأنه لم يكن يقول الألف واللام كما لا
تقول في قد القاف والدال . ويقوي هذا المذهب
____________________
قطع أل في أنصاف الأبيات نحو
قول عبيد : الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل
الحلال ) ( مثل سحق البرد عفى بعدك ال ** قطر مغناه وتأويب الشمال ) وهذه قطعةٌ
لعبيد مشهورة عددها بضعة عشر بيتاً يطرد جميعها على هذا القطع الذي تراه إلا بيتاً
واحداً من جملتها . ولو كانت اللام وحدها حرفاً للتعريف لما جاز فصلها من الكلمة
التي عرفتها لاسيما واللام ساكنة والساكن لا ينوى به الانفصال .
ويقوي ذلك أيضاً قول الآخر : الرجز ( عجل لنا هذا وألحقنا بذال ** الشحم إن قد
أجمناه بجل ) فإفراده أل وإعادته إياها في البيت الثاني يدل من مذهبهم على قوة
اعتقادهم لقطعها فصار قطعهم أل وهم يريدون الاسم بعدها كقطع النابغة قد وهو يريد
الفعل بعدها .
وذلك قوله : ( أفد الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد ) ألا ترى أن
التقدير فيه : وكأن قد زالت فقطع قد من الفعل كقطع أل من الاسم . وعلى هذا أيضاً
قالوا في التذكر : قام ال إذا نويت بعده كلاماً
____________________
أي : الحارث والعباس فجرى هذا
مجرى قولك في التذكر : قدي أي : قد انقطع أو قد قام أو قد استخرج ونحو ذلك .
وإذا كان أل عند الخليل حرفاً واحداً فقد كان ينبغي أن تكون همزته مقطوعة ثابتة
كقاف قد وباء بل إلا أنه لما كثر استعمالهم لهذا الحرف عرف موضعه فحذفت همزته كما
حذفوا : لم يك ولم أدر ولم أبل . )
ويؤكد هذا القول عندك أيضاً أنهم قد أثبتوا هذه الهمزة بحيث تحذف همزات الوصل البتة
وذلك نحو قول الله عز وجل : الله أذن لكم و : آلذكرين حرم أم الأنثيين ونحو قولهم
في القسم : أفأ لله ولاها الله ذا . ولم نر همزة الوصل ثبتت في نحو هذا فهذا كله
يؤكد أن همزة أل ليست بهمزة وصل وأنها مع اللام كقد وهل ونحوهما . انتهى كلامه .
ثم أخذ في تأييد المذهب بكون اللام هي المعرفة ونفض مذهب الخليل فقال : وأما ما
يدل على أن اللام وحدها هي حرف التعريف وأن الهمزة إنما دخلت عليها لسكونها فهو جر
الجار إلى ما بعد حرف التعريف وذلك نحو قولهم : عجبت من الرجل ومررت بالغلام فنفوذ
الجر بحرفه إلى ما بعد التعريف يدل على أن حرف التعريف غير فاصلٍ عندهم بين الجار
والمجرور .
وإنما كان كذلك لأنه في نهاية اللطافة والاتصال بما عرفه . وإنما كان كذلك لأنه
على حرف ولو كان حرف التعريف عندهم حرفين كقد وهل لما جاز الفصل به بين الجار
والمجرور لأن قد و هل كلمتان بائنتان قائمتان بأنفسهما . ألا ترى أن أصحابنا
أنكروا على الكسائي وغيره في قراءته : ثم ليقطع بسكون اللام .
____________________
وكذلك : ثم ليقضوا تفثهم لأن ثم قائمة بنفسها لأنها على أكثر من حرف واحد وليست
كواو العطف وفائه لأن تينك ضعيفتان متصلتان بما بعدهما فلطفتا عن نية فصلهما
وقيامهما بأنفسهما . وكذلك لو كان حرف التعريف في نية الانفصال لما جاز نفوذ الجر
إلى ما بعد حرف التعريف .
وهذا يدل على شدة امتزاج حرف التعريف بما عرفه . وإنما كان كذلك لقلته وضعفه عن
قيامه بنفسه ولو كان حرفين لما لحقته هذه القلة ولا تجاوز حرف الجر إلى ما بعده .
ودليلٌ آخر يدل على شدة اتصال حرف التعريف بما دخل عليه وهو أنه قد حدث بدخوله
معنًى فيما عرفه لم يكن قبل دخوله وهو معنى التعريف فصار المعرف كأنه غير ذلك
المنكور وشيءٌ سواه .
ألا ترى إلى إجازتهم الجمع بين رجل والرجل قافيتين في شعر واحد من غير استكراه ولا
اعتقاد إبطاء . فهذا يدلك على أن حرف التعريف كأنه مبني مع ما عرفه كما أن ياء
التحقير فكما جاز أن يجمع بين رجلكم ورجيلكم قافيتين وبين درهمكم ودراهمكم كذلك
جاز أيضاً أن يجمع بين رجل والرجل لأن للنكرة شيء سوى المعرفة كما أن المكبر غير
المصغر )
وكما أن الواحد غير الجميع .
فهذا أيضاً دليلٌ قوي يدل على أن حرف التعريف مبني مع ما عرفه أو كالمبني معه .
ويزيدك تأنيساً بهذا أن حرف التعريف نقيض التنوين لأن التنوين دليل التنكير كما أن
هذا الحرف دليل التعريف .
فكما أن التنوين في آخر الاسم واحد فكذلك حرف التعريف من أوله ينبغي أن يكون حرفاً
واحداً .
فأما ما يحتج به الخليل من انفصاله عنه بالوقوف عليه عند التذكر فإن ذلك لا
____________________
يدل على أنه في نية الانفصال
منه لأن لقائل أن يقول : إنه حرف واحد ولكن الهمزة لما دخلت على اللام فكثر اللفظ
بها أشبهت اللام بدخول الهمزة عليها من جهة اللفظ لا المعنى ما كان من الحروف على
حرفين نحو : هل ولو ومن وقد فجاز فصلها في بعض المواضع . وهذا الشبه اللفظي موجودٌ
في كثير من كلامهم .
ألا ترى أن أحمد وبابه مما ضارع الفعل لفظاً إنما روعيت به مشابهة اللفظ فمنع ما
يختص ومن الشبه الفظي ما حكى سيبويه من صرفههم جندلاً وذلذلاً وذلك أنه لما فقد
الألف التي في جنادل وذلاذل من اللفظ أشبها الآحاد نحو : علبط وخزخز فصرفا كما
صرفا وإن كان الجميع من وراء الإحاطة بالعلم أنه لا يراد هنا إلا الجمع فغلب شبه
اللفظ بالواحد وإن كانت الدلالة قد قامت من طريق المعنى على إدارة الجمع .
وهذا الشبه اللفظي أكثر من أن أضبطه لك . فكذلك جاز أن تشبه اللام لما دخلت الهمزة
عليها فكثرتها في اللفظ بما جاء من الحروف على حرفين : نحو بل وقد ولن .
وكما جاز الوقوف عليها مع التذكر لما ذكرناه من مشابهتها قد وبل كذلك جاز أيضاً
قطعها في المصراع الأول ومجيء ما تعرف به في المصراع الثاني نحو ما أنشدناه لعبيد
.
وأما قوله سبحانه : آلذكرين حرم وقوله : آلله أذن لهم فإنما جاز احتمالهم لقطع
همزة الوصل مخافة التباس الاستفهام بالخبر . وأيضاً فقد يقطعون في المصراع الأول
بعض الكلمة وما هو منها أصل ويأتون بالبقية في أول المصراع الثاني .
فإذا جاز ذلك في أنفس الكلم ولم يدل على انفصال بعض الكلمة من بعض فغير منكر أيضاً
أن يفصل لام المعرفة في المصراع الأول ولا يدل ذلك على أنها عندهم في نية الانفصال
كما لم يكن )
ذلك فيما هو من أصل الكلمة .
____________________
( يا نفس أكلاً واضطجا ** عاً
نفس لست بخالدة ) وهو كثير . ومنه قول الأعشى : الخفيف ( حل أهلي ما بين درنا
فبادو ** لي وحلت علويةً بالسخال ) وإذا جاز قطع همزة الوصل التي لا اختلاف بينهم
فيها نحو ما أنشده أبو الحسن : الطويل ( ألا لا أرى اثنين أحسن شيمةً ** على حدثان
الدهر مني ومن جمل ) فأن يجوز قطع الهمزة التي هي مختلف في أمرها وهي مفتوحة أيضاً
مشابهةٌ لما لا يكون من الهمز إلا قطعاً نحو همزة أحمر أولى وأجدر . إلى آخر ما
ذكر فإنه أطال وأطاب بضعفي ما نقلنا .
وقد أورده الشارح المحقق في الجوازم وفي كأن من الحروف المشبهة بالفعل أيضاً على
أن الفعل بعد قد محذوف أي : كأن قد زالت .
وقد أورده ابن هشام على أن الفعل يجوز حذفه بعدها لقرينة وفي التنوين أيضاً على أن
دال قد لحقها تنوين الترنم قال : تنوين الترنم وهو اللاحق للقوافي المطلقة بدلاً
من حرف الإطلاق وهو الألف والواو والياء وذلك في إنشاد بني تميم .
____________________
وظاهر قولهم أنه تنوين محصل للترنم . وقد صرح بذلك ابن يعيش .
والذي صرح به سيبويه وغيره من المحققين أنه جيء به لقطع الترنم وأن الترنم وهو
التغني يحصل بأحرف الإطلاق لقبولها لمد الصوت فيها فإذا أنشدوا ولم يترنموا جاؤوا
بالنون في مكانها .
ولا يختص هذا التنوين بالاسم بدليل قوله : وكأن قدن البيت . انتهى .
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني وهو من أوائل القصيدة وهي : ( أمن ال مية رائحٌ
أو مغتدي ** عجلان ذا زادٍ وغير مزود ) ( زعم البوارح أن رحلتنا غداً ** وبذاك
تنعاب الغراب الأسود ) ( لا مرحباً بغدٍ ولا أهلاً به ** إن كان تفريق الأحبة في
غد ) أزف الترحل . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال شارح
ديوانه : قوله : أمن ال مية يخاطب نفسه كالمستثب والنون من أمن متحركة بفتحة )
همزة أل الملقاة عليها لتحذف تخفيفاً .
قال الأصمعي : تقديره أم آل مية أنت رائح أو مغتد . و رائح : من راح يروح رواحاً .
و مغتد : من اغتدى أي : ذهب وقت الغداة وهو ضد الرواح . و عجلان : من العجلة نصبه
على الحال . و ذا : حالٌ من ضمير عجلان وقيل : بدل منه .
والزاد في هذا الموضع : ما كان من تسليم ورد تحية . و تنعاب الغراب : صياحه . و
البوارح : جمع بارح وهو ما ولاك مياسره يمر من ميامنك إلى مياسرك . والعرب تتطير
بالبارح وتتفاءل بالسانح .
____________________
و أزف : من باب فرح أي : دنا
. وروى بدله : أفد وهو مثله وزناً ومعنًى . و الترحل : الرحيل . و غير منصوب على
الاستثناء المنقطع . و الركاب : الإبل واحدها راحلة من غير لفظها . و لما : جازمةٌ
بمعنى لم . و تزل بضم الزاي من زال يزول زوالاً أي : فارق . والباء للمعية . و
الرحال : جمع رحل وهو ما يستصحبه الإنسان من الأثاث . و كأن مخففة من الثقيلة .
قال الشارح المحقق في بابها : الأفصح عند تخفيفها إلغاؤها وإذا لم تعملها لفظاً
ففيها ضمير شأن مقدر فاسمها ضمير الشأن والجملة المحذوفة بعد قد خبرها . وسيأتي
الكلام عليه إن شاء الله في كأن .
ونقل ابن الملا في شرح المغني عن ابن جني في الخصائص أنه جوز أن يكون قدي هنا
بمعنى حسبي أي : وكأن ذلك حسبي ف قدي وحده هو الخبر . هذا كلامه .
وأنشد بعده الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل
الحلال )
____________________
على أن الخليل استدل على أن
حرف التعريف أل لام اللام وحدها بفصل الشاعر إياها من المعرف بها . ولو كانت اللام
وحدها حرف تعريف لما جاز فصلها من المعرف لا سيما واللام ساكنة .
وقد تقدم بيانه ونقضه في البيت قبله .
قال ابن جني في المنصف وهو شرح تصريف المازني المسمى بالملوكي : قد ذهب بعضهم إلى
أن الألف واللام جميعاً للتعريف بمنزلة قد في الأفعال ولكن هذه الهمزة لما كثرت في
الكلام )
وعرف موضعها والهمزة مستثقلة حذفت في الوصل لضربٍ من التخفيف .
قالوا : والدليل على ذلك أن الشاعر إذا اضطر فصلها من الكلمة كما تفصل قد . من ذلك
قوله : الرجز ( عجل لنا هذا وألحقنا بذا ال ** شحم إنا قد مللناه بجل ) فقطعها في
البيت الأول ثم ردها في أول الكلمة بعد . لأنها مرت في البيت الأول فكأنها لما
تباعدت أنسيها ولم يعتد بها . وهذا أحد ما يدل عندي على أن ما كان من الرجز على
ثلاثة ألا ترى أنه رد أل في أول البيت الثاني . لأن الأول بيتٌ كامل قد قام بنفسه
وتمت أجزاؤه فاحتاج في ابتداء البيت الثاني أن يعرف الكلمة التي في أوله فلم يعتد
بالحرف الذي كان فصله لأنهما ليسا في بيتٍ واحد .
ولو كان هذان البيتان بيتاً واحداً كما يقول من يخالف لما احتاج إلى رد حرف
التعريف .
ألا ترى أن عبيداً لما جاء بقصيدة طويلة الأبيات وجعل آخر المصراع الأول أل لم يعد
الحرف في أول المصراع الثاني لما كانا مصراعين ولم يكن كل واحد
____________________
منهما بيتاً قائماً برأسه .
وذلك قوله : ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من أهل الحلال ) فطرد
هذه القصيدة وهي بضعة عشر بيتاً على هذا الطرز إلا بيتاً واحداً وهو : ( فانتحينا
الحارث الأعرج في ** جحفلٍ كالليل خطار العوالي ) فهذا ما عندي في هذا . وقد كان
أبو علي يحتج أيضاً على أبي الحسن بشيءٍ غير هذا .
انتهى .
وقال ابن جني في باب التطوع بما لا يلزم من الخصائص قال : وهو أمرٌ قد جاء في
الشعر القديم والمولد جميعاً مجيئاً واسعاً . وهو أن يلتزم الشاعر ما لا يجب عليه
ليدل بذلك على غزارة وسعة ما عنده .
وأورد قصائد إلى أن قال : وعلى ذلك ما أنشدنا أبو بكر محمد بن علي عن أبي إسحاق
لعبيدٍ من قوله : الرمل المرفل ( يا خليلي اربعا واستخبرا ال ** منزل الدارس من
أهل الحلال ) ( مثل سحق البرد عفى بعدك ال ** قطر مغناه وتأويب الشمال )
____________________
( ولقد يغنى به جيرانك ال **
ممسكو منك بأسباب الوصال ) ) ( ثم أودى ودهم إذا أزمعوا ال ** بين والأيام حالٌ
بعد حال ) ( فانصرف عنهم بعنس كالوأى ال ** جأب ذي العانة أو شاة الرمال ) ( نحن
قدنا من أهاضيب الملا ال ** خيل في الأرسان أمثال السعالي ) ( شزباً يعسفن من
مجهولة ال ** أرض وعثاً من سهولٍ أو رمال ) ( فانتجعنا الحارث الأعرج في ** جحفلٍ
كالليل خطار العوالي ) ( ثم عجناهن خوصاً كالقطا ال ** قاربات الماء من أين الكلال
) ( نحو قرصٍ يوم جالت جولة ال ** خيل قباً عن يمينٍ أو شمال ) ( كم رئيسٍ يقدم
الألف على ال ** سابح الأجرد ذي العقب الطوال ) ( قد أباحت جمعه أسيافنا ال ** بيض
في الروعة من حي حلال ) ( منزلٌ دمنه آباؤنا ال ** مورثونا المجد في أولى الليالي
) ( ما لنا فيها حصونٌ غير ما ال ** مفردات الخيل تعدو بالرجال ) ( في روابي عدملي
شامخ ال ** أنف فيه إرث مجدٍ وجمال ) ( فاتبعنا دأب أولانا الأولى ال ** موقدي
الحرب ومروي بالحبال )
____________________
وقال القصيدة كلها على أن آخر
مصراع كل بيت منها منتهٍ إلى لام التعريف غير بيت واحد وهو قوله : فانتجعنا الحارث
إلى آخره فسار هذا البيت الذي نقض القصيدة أن تمضي على ترتيب واحد هو الجزء .
وذلك أنه دل على أن هذا الشاعر إنما تساند إلى ما في طبعه ولم يتجشم إلا ما في
نهضته ووضعه من غير اغتصاب له ولا استكراه ألجأ إليه إذ لو كان ذلك على خلاف ما
حددناه وأنه إنما صنع الشعر صنعاً لكان قمنا أن لا ينقض ذلك ببيت واحد يوهيه ويقدح
فيه . وهذا واضح . انتهى .
وقوله : يا خليلي مثنى خليل . و اربعا بألف التثنية من ربع زيدٌ بالمكان يربع بفتح
الباء فيهما إذا اطمأن وأقام به . و استخبرا أمرٌ مسند إلى ألف التثنية . و الحلال
: جمع حال بمعنى نازل .
وفي القاموس : الحلال : جمع حلة بكسر المهملة فيهما وهم القوم النزول وجماعة بيوت
الناس أو مائة بيت والمجلس والمجتمع . )
وقوله : مثل سحق البرد إلخ السحق بالفتح : الثوب البالي وقد سحق ككرم سحوقة بالضم
كأسحق . و البرد بالضم : ثوبٌ مخطط : فهو من قبيل إضافة الصفة إلى الموصوف . وعفى
تعفية : غطاه تغطية ومحاه .
والقطر أي : المطر فاعله . و مغناه : مفعوله . والمغنى : المنزل الذي غني به أهله
ثم ظعنوا أو عام من غني بالمكان كرضي إذا أقام فيه . و التأويب : الرجوع والمراد
تردد هبوبها . و الشمال : الريح المعروفة .
وقوله : ولقد يغنى هو من غني المذكور . والممسكو أصله الممسكون حذفت نونه تخفيفاً
.
قال ابن جني في المصنف : قوله : الممسكو أراد الممسكون ولكنه حذف النون لطول الاسم
لا للإضافة . وعندي فيه شيءٌ ليس في قوله : الحافظو عورة
____________________
العشيرة وذلك أن حرف التعريف
منه في المصراع الأول وبقية الكلمة في المصراع الثاني والمصراع كثيراً ما يقوم
بنفسه حتى يكاد يكون بيتاً كاملاً وكثيراً ما تقطع همزة الوصل في أول المصراع
الثاني نحو قوله : البسيط ( لتسمعن وشيكاً في دياركم : ** الله أكبر يا ثارات
عثمانا ) وقد أجاز أبو الحسن الخرم في أول المصراع الثاني بخلاف الخليل وجاء ذلك
في الشعر كقول امرئ القيس : المتقارب ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرة ** شقت مآقيهما من
دبر ) فلما كان أول الممسكو في المصراع الأول وباقيه في المصراع الثاني وهما
كالبيتين ازدادت الكلمة طولاً وازداد حذف النون جوازاً . وليس الحافظو كذلك . فهذا
فصلٌ فيه لطف وكلا الاسمين إنما وجب فيه الحذف لطوله .
وقوله : ثم أودى أي : هلك . و أزمعوا : من أزمعت الأمر وعليه : أجمعت أو ثبت عليه
.
وقوله : والأيام حالٌ أي : ذات حالٍ وتغير .
وقوله : بعنسٍ كالوأى العنس بالفتح : الناقة الصلبة . و الوأى بفتح الواو والهمزة
بعدها ألف مقصورة : الحمار الوحشي . والجأب بفتح الجيم وسكون الهمزة : الحمار
الغليظ . و العانة بالنون : الأتان وهو المراد هنا والقطيع من حمر الوحش والشاة
الواحدة من الغنم للذكر والأنثى أو تكون من الضأن والمعز والظباء والبقر والنعام
وحمر الوحش والمرأة الجمع شاء . كذا في القاموس . )
____________________
وأهاضيب الملا : اسم مكان . و أهاضيب : جمع هضاب جمع هضبة وهي الجبل المنبسط قال
أبو عبيد البكري في المعجم : الملا : بفتح الميم والقصر : موضعٌ من أرض كلب وموضع
في ديار طيىء . و السعالي : جمع سعلاة وهي أنثى الغول .
وقوله : شزباً إلخ وهو جمع شازب : الضامر اليابس . و العسف : الأخذ على غير الطريق
. و وعثاً : مفعول يعسفن جمع أوعث بمعنى وعث . و الوعث بالفتح : الطريق العسرة
كالوعث بكسر العين . وقوله : من سهول أو رمال بيان لقوله رعثا .
وقوله : فانتجعنا الحارث إلخ من انتجع فلاناً أي : أتاه طالباً معروفه . وهنا تهكم
وسخرية .
والحارث الأعرج هو من ملوك لشام . وأمه مارية ذات القرطين . و الجحفل بفتح الجيم :
الجيش الكثير . و الخطار : المضطرب . و العوالي : الرماح جمع عالية والعالية :
أعلى القناة أو النصف الذي يلي السنان .
وقوله : ثم عجناهن يقال : عاج رأس البعير أي : عطفه بالزمام . و الخوص بالضم : جمع
أخوص وخوصاء وهي الغائرة العينين . و القاربات من القرب بفتحتين وهو سير الليل
لورد الغد . و الأين : الإعياء . و الكلال بمعناه أيضاً .
وقوله : نحو قرص بالضم : موضع . و قباً : جمع أقب وصفٌ من القبب بفتحتين وهو دقة
الخصر وضمور البطن .
____________________
وقوله : كم رئيس يقدم الألف الرئيس : سيد القوم وكبيرهم . و السابح : الفرس الحسن
الجري . و الأجرد : القصير الشعر . و العقب بفتح المهملة وسكون القاف : الجري بعد
الجري . و الطوال : بالضم بمعنى الطويل وجمعه : مفعول أباحت وأسيافنا : فاعله . و
القدموس بالضم : القديم والسين زائدة . و المورثونا المجد : جمع مورث و نا ضمير
المتكلم مع الغير و المجد بالنصب مفعول .
وقوله : ما لنا فيها أي : في تلك الدار . و المفردات بفتح الراء : التي أفردت عن
غيرها و ما زائدة والخيل بدل من المفردات .
وقوله : في روابي إلخ جمع رابية وهي ما علا من الأرض . و العدملي بضم العين وسكون
الدال المهملتين وضم الميم وكسر اللام قال صاحب القاموس : العدمل والعدملي
والعدامل والعداملي مضمومات : كل مسن قديم والضخم القديم من الشجر ومن الضباب . و
الإرث )
بالكسر : الأصل .
وقوله : فاتبعنا دأب أولانا إلخ أي : دأب عشيرتنا الأولى أي : آبائنا الأقدمين .
والأولى الثانية بدل من الأولى وهي اسم إشارة بمعنى أولئك . والموقدين صفة له أو
بدل وحذفت نونه للإضافة .
وعبيد هو عبيد بن الأبرص الأسدي بفتح العين وكسر الموحدة وهو شاعرٌ جاهلي تقدمت
ترجمته في الشاهد السادس عشر بعد المائة .
وقوله في البيت الآخر : عجل لنا هذا وألحقنا البيت هو من أبيات سيبويه . وهذا نصه
في المسألة : وزعم الخليل أن الألف واللام اللتين يعرفون بهما حرفٌ واحد كقد وأن
ليست واحدة منهما منفصلة من الأخرى كانفصال ألف
____________________
الاستفهام في قوله : أزيد
ولكن الألف كألف ايم في ايم الله وهي موصولة كما أن ألف ايم موصولة . إلى أن قال :
وقال الخليل : ومما يدلك على أن تلك مفصولة من الرجل ولم يبن عليها وأن الألف
واللام فيها بمنزلة قد قول الشاعر : الرجز ( دع ذا وعجل ذا وألحقنا بذال ** بالشحم
إنا قد مللناه بجل ) قال : هي ها هنا كقول الرجل وهو يتذكر قدي ثم يقول قد فعل .
ولا يفعل مثل هذا علمناه بشيءٍ مما كان من الحروف الموصولة . ويقول الرجل ألي ثم
يتذكر . فقد سمعناهم يقولون ذلك ولولا أن الألف واللام بمنزلة قد وسوف لكانتا
بناءً بني عليه الاسم لا يفارقه ولكنهما جميعاً بمنزلة هل وقد وسوف يدخلان للتعريف
. انتهى نصه .
وقال الأعلم : الشاهد في قوله بذال وأراد : بذا الشحم ففصل لام التعريف من الشحم
لما ومعنى بجل حسب يقال : بجلي كذا أي : حسبي . انتهى .
____________________
والبيت غفل لم يحل قائله . وقال العيني : قائله غيلان بن حريث الربعي الراجز .
وقوله : وألحقنا في رواية سيبويه : وألزقنا وضبط بعض شراح أبياته بخل بالخاء
المعجمة أراد به الخل المعهود . والباء فيه حرف جر . وهذا أقرب إلى المعنى . انتهى
. ولم أر ما ذكره .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الخمسمائة ) الطويل وبالنسر عندما هو
قطعة من بيت وهو : ( أما والدماء المائرات تخالها ** على قنة العزى وبالنسر عندما
) على أن لام التعريف قد تزاد في العلم .
قال ابن الشجري في أماليه : نسرٌ : الصنم الذي كان قوم نوح يعبدونه وقد ذكره الله
تعالى في وأدخل فيه الشاعر الألف واللام زيادة للضرورة في قوله : و بالنسر عندما
البيت . انتهى .
____________________
وقال ابن جني في سر الصناعة : أنشدنا أبو علي هذا البيت وقال : اللام في النسر
زائدة . وهو كما قال لأن نسراً بمنزلة عمرو .
وقال ابن جني قبل هذا : وأما اللات والعزى فذهب أبو الحسن إلى أن اللام فيهما
زائدة . والذي يدل على صحة مذهبه أن اللات والعزى علمان بمنزلة يغوث ويعوق ونسر
ومناة وغير ذلك من أسماء الأصنام .
فهذه كلها أعلام وغير محتاجةٍ في تعرفها إلى اللام وليست من باب الحارث والعباس
التي نقلت فصارت أعلاماً وأقرت فيها لام التعريف على ضربٍ من توهم روائح الصفة
فيها فتحمل على ذلك . فوجب أن تكون فيها زائدة ويؤكد زيادتها فيها أيضاً لزومها
إياها كلزوم لام الآن والذي وبابه .
فإن قلت : فقد حكى أبو زيد : لقيته فينة والفينة وقالوا للشمس : إلاهة والإلاهة .
وليست فينة ولا إلاهة بصفتين فيجوز تعريفهما وفيهما اللام كالحارثوالعباس .
فالجواب : أن فينة والفينة وإلاهة والإلاهة مما اعتقب عليه تعريفان : أحدهما :
بالألف واللام والآخر : بالوضع والعلمية ولم نسمعهم يقولون : لات وعزى بغير لام
ومحصلة أن اللام في النسر زائدة بعد وضع العلمية وأن اللام في اللات والعزى زائدة
فيهما عند وضع العلمية وأن اللام في الفينة والإلاهة للتعريف وليست زائدة .
____________________
ولهذا لم ينشد الشارح المحقق البيت بتمامه لتعين الزائد الطارئ للضرورة من الزائد
غير المنفك إلا في ضرورة كقوله : الطويل ) ( عزاي شدي شدةً لا تكذبني ** على خالدٍ
والقي الخمار وشمري ) وبيت الشاهد أول أبيات ثلاثة لعمرو بن عبد الجن وبعده :
الطويل ( وما سبح الرهبان في كل ليلةٍ ** أبيل الأبيلين المسيح بن مريما ) ( لقد
هز مني عامرٌ يوم لعلعٍ ** حساماً إذا ما هز بالكف صمما ) كذا أنشد هذه الأبيات
أبو علي في التذكرة القصرية عن ابن الأعرابي وابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن
الشجري في أماليه .
وقوله : ألا والدماء إلخ ألا : كلمة يستفتح بها الكلام التنبيه والواو للقسم
والدماء مقسم به والبيت الثالث جواب القسم . و المائرات : المترددات من مار الدم
على وجه الأرض يمور إذا تردد .
ويروى : أما ودماء مائرات بدون لام . و تخالها : تظنها . و عندما المفعول الثاني .
و قنة العزى : رواه أبو علي في الحجة : أما ودماءٍ لا تزال كأنها
____________________
وقال انتصاب عندم بأحد شيئين
: أحدهما : ما في كان من معنى الفعل والآخر : أن يجعل على قنة العزى مستقراً فيكون
الحال عنه . فإن نصبت بالأول فذو الحال الضمير الذي في كأنها وإن نصبته عن المستقر
فذو الحال الذكر الذي في المستقر والمعنى على حذف المضاف كأنه مثل عندم . انتهى .
وقوله : وما سبح إلخ الواو عاطفة على الدماء و ما : مصدرية و سبح بمعنى نزه
والرهبان : فاعله و أبيل مفعوله وفي كل ليلة متعلق بسبح .
وروى : في كل بيعة أي : وتسبيح الرهبان أبي الأبيلين . و البيعة بكسر الباء :
متعبد النصارى . و أبيل الأبيلين : راهب الرهبان .
قال ابن فارس والصاغاني في العباب : الأبيل : راهب النصارى وكانوا يسمون عيسى عليه
السلام أبي الأبيلين ومعناه راهب الراهبين . وعيسى : بدلٌ أو عطف بيان له . و
الأبيل بفتح الهمزة وكسر الموحدة كأمير : الراهب سمي به لتأبله عن النساء وترك
غشيانهن . والفعل منه أبل يأبل إبالة ككتب كتابة إذا تنسك وترهب .
وما سبح الرهبان في كل بيعة . . . . . . . . . . . . . . البيت )
وقال الآخر : الطويل
____________________
وما صك ناقوس النصارى أبيلها
وقالوا : أيبلي . قال : المتقارب ( وما أيبلي على هيكلٍ ** بناه وصلب فيه وصارا )
قال أبو عبيدة : أيبلي : صاحب أبيل وهي عصا الناقوس . انتهى . و الأيبلي هو بتقديم
المثناة التحتية الساكنة وتأخير الموحدة المفتوحة ويجوز ضمها ويجوز إبدال الألف هاء
فيقال : هيبلي ويجوز إبدال الياء التحتية ألفاً فيقال آبلي .
وقد جمع صاحب القاموس هذه اللغات فقال : الأبيل كأمير : العصا والحزين بالسريانية
ورئيس النصارى أو الراهب أو صاحب الناقوس كالأيبلي بضم الباء وفتحها والهيبلي
والآبلي بضم الباء والأبيل بضم الباء وفتحها . انتهى .
وقوله : وما أيبليٌّ على هيكل هو من قصيدةٍ للأعشى ميمون . قال الصاغاني في العباب
: قيل أراد أبيلي كأميري فلما اضطر قدم الياء كما قالوا أينق والأصل أنوق .
قال عدي بن زيد العبادي : الرمل وقال ابن دريد : الأبيل : ضارب الناقوس .
وأنشد : وما صك ناقوس النصارى أبيلها
____________________
انتهى .
ونقل العيني عن ابن الأثير أنه روي أيضاً : أبيل الأبيليين عيسى بن مريما على
النسب .
وقوله : هز مني عامر إلخ هذا من قبيل التجريد يريد أن عامراً وجدني حساماً في ذلك
اليوم .
وروى الصاغاني في العباب : لقد ذاق مني . و لعلع : كجعفر : موضع قال ابن ولاد :
لعلعٌ آخر السواد إلى البر ما بين البصرة والكوفة .
وقال غيره : لعلعٌ : ببطن فلج وهي لبكر وائل وقيل : هي من الجزيرة . كذا في معجم
ما )
استعجم للبكري . و صمم : مضى يقال : صمم الرجل في الأمر إذا جد فيه .
والأبيات لعمرو بن عبد الجن . كذا قال الصاغاني في العباب وغيره . وفي جمهرة
الأنساب لابن الكلبي أنه تنوخي . وهو عمرو بن عبد الجن بن عائذ الله بن أسعد بن
سعد بن كثير بن غالب بن جرم . وأسد بن ناعصة بن عمرو بن عبد الجن كان فارساً في
الجاهلية .
قال : ورأيت رجلاً من بني عبد الجن بالكوفة شجاعاً قطعت رجله فجعلت له من فضة . و
تنوخ : قبيلةٌ من قبائل اليمن .
تتمة العزى في الأصل : تأنيث الأعز وقد يكون الأعز بمعنى العزيز والعزى بمعنى
العزيزة .
قال في الصحاح : العزى : اسم صنم كان لقريش وبني كنانة ويقال العزى : سمرة كانت
لغطفان يعبدونها وكانوا بنوا عليها بيتاً وأقاموا لها سدنة فبعث رسول الله صلى
الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدم البيت وأحرق السمرة وهو يقول : الرجز
____________________
( يا عز كفرانك لا سبحانك **
إني رأيت الله قد أهانك ) ولا بأس بإيراد شيءٍ من أخبار الأصنام وسبب اتخاذ العرب
لها وكيف أزالها النبي صلى الله عليه وسلم .
قال أبو المنذر هشام بن محمد بن السائب الكلبي في كتاب الأصنام : حدثني أبي وغيره
أن إسماعيل بن إبراهيم صلى الله عليهما وسلم لما سكن مكة وولد له بها أولادٌ كثيرة
حتى ملؤوا مكة ونفوا من كان فيها من العماليق ضاقت عليهم مكة ووقعت بينهم الحروب
والعداوات وأخرج بعضهم بعضاً فتفسحوا في البلاد والتماس المعاش .
وكان الذي سلخ بهم إلى عبادة الأوثان والحجارة أنه كان لا يظعن من مكة ظاعنٌ إلا
احتمل معه حجراً من حجارة الحرم تعظيماً للحرم وصبابة بمكة فحيثما حلوا وضعوه وطافوا
به كطوافهم بالكعبة تيمناً منهم بها وصبابةً بها وحباً وهم على إرث أبيهم إسماعيل
: من تعظيم الكعبة والحج والاعتمار .
ثم سلخ ذلك بهم إلى أن عبدوا ما استحبوا ونسوا ما كانوا عليه واستبدلوا بدين
إبراهيم وإسماعيل غيره فعبدوا الأوثان وصاروا إلى ما كان عليه الأمم من قبلهم كقوم
نوح وفيهم بقايا على دين أبيهم إسماعيل مع إدخالهم فيه ما ليس منه . )
فكان أول من غير دين إسماعيل عليه السلام فنصب الأوثان وسيب السائبة
____________________
ووصل الوصيلة وبحر البحيرة
وحمى الحامية : عمرو بن ربيعة وهو لحي ابن حارثة بن عمرو بن عامر الأزدي وهو أبو
خزاعة .
وكان الحارث هو الذي يلي أمر الكعبة . فلما بلغ عمرو بن لحي نازعه في الولاية
وقاتل جرهماً ببني إسماعيل فظفر بهم وأجلاهم عن الكعبة ونفاهم من بلاد مكة وتولى
حجابة البيت .
فأتاها فاستحم بها فبرأ ووجد أهلها يعبدون الأصنام فقال : ما هذه فقالوا : نستسقي
بها المطر ونستنصر بها على العدو . فسألهم أن يعطوه منها ففعلوا فقدم بها مكة
ونصبها حول الكعبة .
وحدث الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس أن إسافاً ونائلة رجلٌ من جرهم يقال له :
إساف بن يعلى ونائلة بنت زيد من جرهم وكان يتعشقها في أرض اليمن فأقبلوا حجاجاً
فدخلا الكعبة فوجدا غفلة من الناس وخلوة من البيت ففجر بها في البيت فمسخا
فوجدوهما مسخين فأخرجوهما فوضعوهما موضعهما فعبدتهما خزاعة وقريش ومن حج البيت بعد
من العرب .
وكان أول من اتخذ تلك الأصنام من ولد إسماعيل وغيرهم و سموها بأسمائها على ما بقي
فيهم من ذكرها حين فارقوا دين إسماعيل هذيل بن مدركة .
____________________
اتخذوا سواعاً فكان لهم برهاطٍ من أرض ينبع . وينبع عرضٌ من أعراض المدينة وكانت
سدنته بني لحيان .
واتخذت كلبٌ : ودا بدومة الجندل .
واتخذت مذحج وأهل جرش : يغوث واتخذت خيوان : يعوق فكان بقريةٍ لهم يقال لها :
خيوان واتخذت حمير : نسراً فعبدوه بأرضٍ يقال لها : بلخع ولم أسمع حمير سمت به
أحداً ولم أسمع له ذكراً في أشعارها ولا أشعار أحد من العرب . وأظن ذلك كان
لانتقال حمير أيام تبع عن عبادة الأصنام إلى اليهودية .
وكان لحمير أيضاً بيت بصنعاء يقال له : رئام بهمزة بعد الراء المكسورة يعظمونه
ويتقربوه عنده بالذبائح وكانوا فيما يذكرون يكلمون منه . فلما انصرف تبع من مسيره
الذي سار فيه انصرف تبع من مسيره الذي سار فيه إلى العراق قدم معه الحبران اللذان
صحباه من المدينة فأمراه بهدم )
رئام . وتهود تبع وأهل اليمن .
فمن ثم لم أسمع بذكر رئام ولا نسرٍ في شيءٍ من الأشعار ولا الأسماء . ولم تحفظ
العرب من أشعارها إلا ما كان قبيل الإسلام .
قال هشام أبو المنذر : ولم أسمع في رئام وحده شعراً وقد سمعت في البقية .
____________________
هذه الخمسة الأصنام التي كان يعبدها قوم نوح وذكرها الله في كتابه : ولا تذرن وداً
ولا سواعاً ولا يغوث ويعوق ونسراً .
فلما صنع هذا عمرو بن لحيٍّ دانت العرب للأصنام وعبدوها واتخذوها .
فكان أقدمها مناة . وسميت العرب عبد مناة وزيد مناة . وكان منصوباً على ساحل البحر
من وكانت العرب جميعاً تعظمه وتذبح حوله وكان أشد إعظاماً له الأوس والخزرج .
وكان أولاد معدٍّ على بقية من دين إسماعيل وكانت ربيعة ومضر على بقية من دينه .
ومناة هي التي ذكرها الله : ومناة الثالثة الأخرى . وكانت لهذيلٍ وخزاعة . وقريش
وجميع العرب تعظمها إلى أن خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة سنة ثمان
من الهجرة وهو عام الفتح .
فلما سار من المدينة أربع ليال أو خمس ليال بعث علياً إليها فهدمها وأخذ ما كان
لها فأقبل به إلى النبي صلى الله عليه وسلم وكان فيما أخذ سفيان كان الحارث بن أبي
شمرٍ ملك غسان أهداهما لها أحدهما اسمه مخذم والآخر رسوب فوهبهما لعلي فيقال : إن
ذا الفقار سيف عليٍّ أحدهما
____________________
ويقال : إن علياً وجدهما في
الفلس : صنم لطييء حين بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فهدمه .
ثم اتخذوا اللات بالطائف وكانت صخرةً مربعة وكان يهوديٌّ يلت عندها السويق وكانت
سدنتها من ثقيف بنو عتاب بن مالك وكانوا بنوا عليها بناء وكانت قريشٌ وسائر العرب
تعظمها .
وسمت زيد اللات وتيم اللات وكانت في موضع منارة مسجد الطائف اليسرى اليوم .
فلم تزل كذلك حتى أسلمت ثقيف فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم المغيرة بن شعبة
فهدمها وحرقها بالنار .
ثم اتخذوا العزى وسمي بها عبد العزى بن كعب وكان الذي اتخذها ظالم بن أسعد وكانت )
بوادٍ من نخلة الشآمية يقال له : حراضٌ عن يمين المصعد إلى العراق من مكة فوق ذات
عرق إلى البستان بتسعة أميال فبنى عليها بيتاً وكانوا يسمعون فيه الصوت .
وكانت أعظم الأصنام عند قريش وكانت تطوف بالكعبة وتقول : واللات والعزى ومناة
الثالثة الأخرى فإنهن الغرانيق العلى وإن شفاعتهن لترتجى .
وكانوا يقولون : بنات الله تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً وهن يشفعن إليه .
فلما بعث الله رسوله أنزل عليه : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى ألكم
الذكر وله الأنثى الآية .
____________________
وحمت لها قريشٌ شعباً من وادي حراض يقال له : سقام يضاهون به حرم الكعبة . وكان
لها منحرٌ ينحرون فيه هداياها يقال له : الغبغب وكانت قريش تخصها بالإعظام فلذلك
قال زيد بن عمرو بن نفيل وكان قد تأله في الجاهلية وترك عبادة الأصنام : الوافر (
تركت اللات والعزى جميعاً ** كذلك يفعل الجلد الصبور ) ( ولا هبلاً أزور و كان
رباً ** لنا في الدهر إذ حلمي صغير ) وكان سدنة العزى بني شيبان من بني سليم وكان
آخر من سدنها منهم دبية فلم تزل كذلك حتى بعث الله نبينا صلى الله عليه وسلم فعاب
الأصنام ونهاهم عن عبادتها ونزل القرآن فيها فاشتد ذلك على قريش فلما كان يوم
الفتح دعا النبي صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فقال : انطلق إلى شجرةٍ ببطن
نخلة فاعضدها . فانطلق فقتل دبية .
وحدثني أبي عن أبي صالح عن ابن عباس قال : كانت العزى شيطانةً تأتي ثلاث سمرات
ببطن نخلة فلما بعث النبي خالد بن الوليد قال له : ائت بطن نخلة فإنك تجد ثلاث
سمرات فاعضد الأولى . فأتاها فعضدها فلما جاء إليه عليه الصلاة والسلام فقال : هل
رأيت شيئاً قال : لا . قال : فاعضد الثانية .
____________________
فعضدها ثم أتى النبي صلى الله
عليه وسلم فقال : هل رأيت شيئاً قال : لا . قال : فاعضد الثالثة .
فأتاها فإذا هي بحبشيةٍ نافشة شعرها واضعةٍ ثديها على عاتقها تصرف بأنيابها وخلفها
دبية السلمي وكان سادنها فلما نظر إلى خالد قال : الطويل ( عزاي شدي شدةً لا تكذبي
** على خالدٍ ألقي الخمار وشمري ) ( فإنك إن لا تقتلي اليوم خالداً ** تبوئي بذلٍّ
عاجلاً وتنصري ) ) ( يا عز كفرانك لا سبحانك ** إني رأيت الله قد أهانك ) ثم ضربها
ففلق رأسها فإذا حممة ثم عضد الشجرة وقتل دبية السادن ثم أتى النبي صلى الله عليه
وسلم فأخبره فقال : تلك العزى ولا عزى بعدها للعرب .
قال أبو المنذر : ولم تكن قريش ومن بمكة يعظمون شيئاً من الأصنام إعظامهم العزى ثم
اللات ثم مناة .
فأما العزى فكانت تخصها دون غيرها بالزيارة والهدية .
وكانت ثقيف تخص اللات وكانت الأوس والخزرج تخص مناة وكلهم كان معظماً للعزى ولم
يكونوا يرون في الخمسة الأصنام التي رفعها عمرو بن لحي كرأيهم في هذه .
____________________
وكانت لقريش أصنامٌ في جوف الكعبة وحولها وكان أعظمها عندهم هبل وكان فيما بلغني
من عقيقٍ أحمر على صورة إنسان مكسور اليد اليمنى أدركته قريشٌ كذلك فجعلوا له يداً
من الذهب .
وكان أول من نصبه خزيمة بن مدركة وكان يقال له : هبل خزيمة وكان قدامه سبعة أقدح
مكتوبٍ في أولها : صريحٌ والآخر : ملصقٌ . فإذا شكوا في مولودٍ أهدوا له هديةً ثم
ضربوا بالقداح فإن خرج : صريح ألحقوه وإن كان ملصقاً دفعوه . وقدحاً على الميت
وقدحاً على النكاح وثلاثةً لم تفسر لي . فإذا اختصموا في أمرٍ أو أرادوا سفراً أو
عملاً أتوه فاستقسموا بالقداح عنده فما خرج عملوا به وانتهوا إليه .
وكان لهم إسافٌ ونائلة لما مسخا حجرين وضعا عند الكعبة ليتعظ الناس بهما فلما طال
مكثهما وعبدت الأصنام عبدا معها وكان أحدهما بلصق الكعبة والآخر في موضع زمزم
فنقلت قريشٌ الذي كان بلصق الكعبة إلى الآخر . وكانوا ينحرون ويذبحون عندهما .
فلما ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة ودخل المسجد والأصنام منصوبة
حول الكعبة فجعل يطعن بسية قوسه في عيونها ووجوهها ويقول : جاء الحق وزهق الباطل إن
الباطل كان زهوقا ثم أمر فكفئت على وجوهها ثم أخرجت من المسجد فحرقت فقال في ذلك
راشد بن عبد الله السلمي : الكامل ( قالت هلم إلى الحديث فقلت لا ** يأبى الإله
عليك والإسلام ) ( أو ما رأيت محمداً وقبيله ** بالفتح حين تكسر الأصنام ) ) (
لرأيت نور الله أضحى ساطعاً ** والشرك يغشى وجهه الإظلام )
____________________
وكان لهم أيضاً مناف وسمت به
عبد مناف ولا أدري أين كان ولا من نصبه ولم تكن الحيض من النساء تدنو من أصنامهم
ولا تمسح بها إنما كانت تقف ناحيةً منها .
وكان لأهل كل دارٍ من مكة صنم في دارهم يعبدونه فإذا أراد أحدهم السفر كان آخر ما
يصنع في منزله أن يتمسح به وإذا قدم من سفره كان أول ما يصنع إذا دخل منزله أن
يتمسح به .
فلما بعث الله نبيه وأتاهم بتوحيد الله وعبادته قالوا : أجعل الآلهة إلهاً واحداً
إن هذا لشيءُ عجاب يعنون الأصنام .
واستهترت العرب في عبادتها فمنهم من اتخذ بيتاً ومنهم من اتخذ صنماً ومن لم يقدر
عليه ولا على بناء بيت نصب حجراً أمام الحرم وأمام غيره مما استحسن ثم طاف به
كطوافه بالبيت وسموها الأنصاب .
فإذا كانت تماثيل دعوها الأصنام والأوثان . وسموا طوافهم الدوار . فكان الرجل إذا
سافر فنزل منزلاً أخذ أربعة أحجار فنظر إلى أحسنها فاتخذ رباً وجعل ثلاث أثافي
لقدره وإذا ارتحل غيره فإذا نزل منزلاً آخر فعل مثل ذلك فكانوا ينحرون ويذبحون عند
كلها ويتقربون إليها وهم على ذلك عارفون بفضل الكعبة عليها .
وكانت بنو مليح من خزاعة وهم رهط طلحة الطلحات يعبدون الجن
____________________
وفيهم نزلت : إن الذين تدعون
من دون الله عبادٌ أمثالكم .
وكانت من تلك الأصنام ذو الخلصة وتقدم شرحه في أوائل الكتاب في الشاهد السابع وكان
لمالك وملكان ابني كنانة بساحل جدة صنم يقال له : سعد وكانت صخرةً طويلةً فأقبل
رجل منهم بإبلٍ له ليقفها عليه يتبرك بذلك فيها فلما أدناها منه نفرت وكان يهراق
عليه بالدماء فذهبت في كل وجه فتناول حجراً فرماه به وقال : لا بارك الله فيك
إلهاً أنفرت علي إبلي ثم انصرف وهو يقول : الطويل ( أتينا إلى سعدٍ ليجمع شملنا **
فشتتنا سعدٌ فلا نحن من سعد ) ( وهل سعد إلا صخرةً بتنوفةٍ ** من الأرض لا يدعو
لغيٍّ ولا رشد ) وكان لدوس ثم لبني منهب بن دوس صنم يقال له : ذو الكفين فلما
أسلموا بعث النبي صلى )
الله عليه وسلم الطفيل بن عمروٍ الدوسي فحرقه وهو يقول : الرجز ( يا ذا الكفين لست
من عبادكا ** ميلادنا أكبر من ميلادكا ) إني حشوت النار في فؤادكا
____________________
وكان لبني الحارث بن يشكر من
الأزد صنم يقال له : ذو الشرى .
وكان لقضاعة ولخم وجذام وعاملة وغطفان صنمٌ في مشارف الشام يقال له : الأقيصر .
وكان لمزينة صنم يقال : نهمٌ وبه سميت عبد نهم وكان سادنه خزاعي بن عبد نهمٍ من (
ذهبت إلى نهمٍ لأذبح عنده ** عتيرة نسكٍ كالذي كنت أفعل ) ( فقلت لنفسي حين راجعت
عقلها ** أهذا إلهٌ أبكمٌ ليس يعقل ) ( أبيت فديني اليوم دين محمدٍ ** إله السماء
الماجد المتفضل ) ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم فأسلم وضمن إسلام قومه مزينة .
وكان لأزد السراة صنم يقال له : عائم بالهمزة .
وكان لعنزة صنمٌ يقال له : سعير وتقدم شرحه قريباً .
وكان لخولان صنمٌ يقال له : عميانس يقسمون له من أنعامهم وحروثهم قسماً بينه وبين
الله تعالى بزعمهم فما دخل في حق الله من حق عميانس ردوه عليه وما دخل في حق الصنم
من حق الله الذي سموه له تركوه له .
وفيهم نزل فيما بلغنا : وجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً . الآية .
____________________
وكان لبني الحارث كعبةٌ بنجران يعظمونها .
وكان أبرهة الأشرم بنى بيتاً بصنعاء سماها القليس بفتح القاف وكسر اللام وضبطه
صاحب القاموس بضم القاف وفتح اللام المشددة بناها بالرخام وجيد الخشب المذهب وكتب
إلى ملك الحبشة : إني قد بنيت لك كنيسةً لم يبن مثلها أحد ولست تاركاً العرب حتى
أصرف حجهم فبلغ ذلك بعض نسأة الشهور فبعث رجلين من قومه وأمرهما أن يخرجا حتى
يتغوطا فيها .
ففعلا فلما بلغه ذلك غضب وخرج بالفيل والحبشة فكان من أمره ما كان .
قال أبو المنذر : المعمول من خشبٍ أو ذهبٍ أو فضة صورة إنسانٍ فهو صنم . وإذا كان
من حجارة فهو وثن .
هذا ملخص ما ذكره من الأصنام وبقي عليه عوض وتقدم شرحه قبل هذا بستة شواهد . ) (
فتبدلوا اليعبوب بعد إلههم ** صنماً فقروا يا جديل وأعذبوا ) أي : لا تأكلوا على
ذلك ولا تشربوا . و باجر بالموحدة وبالجيم قال ابن دريد : هو صنمٌ كان للأزد في
الجاهلية ومن جاورهم من طيئ وقضاعة كانوا يعبدونه . وهو بفتح الجيم وربما قالوا
بكسرها .
____________________
وأنشد بعده : الطويل لحافي لحاف الضيف والبرد برده على أن أل في البرد عوضٌ عن
الضمير المضاف إليه والتقدير : وبردي برده .
ولم يلهني عنه غزالٌ مقنع وهو من شعرٍ في الحماسة وتقدم شرحه في الشاهد الثالث
والتسعين بعد المائتين .
____________________
( باب العلم ) أنشد فيه :
البسيط ( سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودي والجمد ) على أن سبحان
أكثر ما يستعمل مضافاً وإذا قطع فقد جاء منوناً في الشعر كما في البيت فلا يكون
سبحان علماً معرفاً بالعلمية بل تعريفه إما بالإضافة لفظاً كسبحان الله أو تقديراً
كما في قوله : السريع سبحان من علقمة الفاخر أي : سبحان الله .
____________________
وإما باللام وهو قليل كقوله : الرجز سبحانك اللهم ذا السبحان وإذا قطع عن الإضافة
في الشعر نون ونصب على المفعولية المطلقة كسائر المصادر . فسبحان عنده إما معرف
بالإضافة أو باللام وإما منكر في الشعر ولا علمية .
وقريبٌ منه قول الطيبي في حاشية الكشاف : لا يستعمل سبحان علماً إلا شاذاً وأكثر
وقد رد ابن هشام في الجامع الصغير بعين ما رد به الشارح المحقق إلا أنه قال :
لملازمته )
للإضافة .
هذا محصله وهو مخالفٌ لكلام سيبويه فمن بعده . والباعث له على المخالفة ما ذكره .
قال س في باب ما ينتصب من المصادر على إضمار الفعل المتروك إظهاره : زعم أبو
الخطاب أن سبحان الله كقولك : براءة الله من السوء كأنه يقول : أبرأ براءة الله من
السوء .
وزعم أن مثله قول الأعشى : ( أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) أي :
براءةً منه . وأما التنوين في سبحان فإنما ترك صرفه لأنه صار عندهم معرفة وانتصابه
كانتصاب الحمد لله .
وزعم أن قول الشاعر : الوافر
____________________
( سلامك ربنا في كل فجرٍ **
بريئاً ما تغنثك الذموم ) على قوله برأتك ربنا من كل سوء . فكل هذا ينتصب انتصاب
حمداً وشكراً إلا أن هذا ينصرف وذلك لا ينصرف . ونظير سبحان الله في البناء من
المصادر والمجرى لا في المعنى : وقد جاء سبحان منوناً مفرداً في الشعر قال الشاعر
: سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به شبهوه بقولهم : حجراً وسلاماً . انتهى كلام سيبويه .
وقوله : سبحان من علقمة الفاخر قال الأعلم : الشاهد فيه نصب سبحان على المصدر
ولزومها النصب من أجل قلة التمكن .
وحذف التنوين منها لأنها وضعت علماً للكلمة فجرت في المنع من الصرف مجرى عثمان
ونحوه ومعناها البراءة والتنزيه .
وقوله : سلامك ربنا إلخ قال الأعلم : الشاهد في نصب سلامك على المصدر الموضوع
بدلاً من اللفظ بالفعل ومعناه البراءة والتنزيه وهو بمنزلة سبحانك في المعنى وقلة
التمكن .
ونصب بريئاً على الحال المؤكدة والتقدير : أبرئك بريئاً لأن معنى سلامك كمعنى
أبرئك ومعنى تغنثك : تعلق بك وهي بالثاء المثلثة . و الذموم : جمع ذم . أي : لا
تلحقك صفة ذم . )
والبيت لأمية بن أبي الصلت .
وقوله : سبحانه ثم سبحانا إلخ قال الأعلم : الشاهد قوله سبحاناً وتنكيره
____________________
وتنوينه ضرورة والمعروف فيه
أنه يضاف إلى ما بعده أو يجعل مفرداً معرفة كما تقدم في بيت الأعشى . ووجه تنكيره
وتنوينه أن يشبه ببراءةً لأنه في معناها . والجودي والجمد بضمتين : جبلان . انتهى
.
وقال ابن خلف : قوله : سبحاناً فيه وجهان : يجوز أن يكون نكرة فصرفه ويجوز أن يكون
صرفه للضرورة . انتهى .
وهذا من كلام أبي علي في التذكرة القصرية قال : سبحاناً يحتمل وجهين : أحدهما : أن
يكون هو الذي كان يضيفه في سبحانه . ويجوز أن يكون معرفةً في الأصل ثم نكر كزيد من
الزيدين . وجاز إفراد سبحان وإن لم يستعمل ذلك في الكلام فجاء في الشعر كما استعمل
العلم في قوله : سبحان من علقمة الفاخر انتهى .
ويكون تنوينه على الأول ضرورة . وإلى الثاني ذهب ابن الشجري في أماليه قال : سبحان
في قول الأعشى : سبحان من علقمة الفاخر لم يصرفه لأن فيه الألف والنون زائدين وأنه
علمٌ للتسبيح . فإن نكرته صرفته كما قال أمية .
اه .
وقد تقدم في الشاهد الرابع والستين بعد الأربعمائة النقل عن تذكرة أبي علي ما
يتعلق بتنوين سبحان بأبسط من هذا فارجع إليه .
____________________
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : سبحان علمٌ عندنا واقع على التسبيح وهو مصدر معناه
البراءة والتنزيه وليس منه فعل وإنما هو واقعٌ موقع التسبيح الذي هو المصدر في
الحقيقة جعل علماً على هذا الموضع فهو معرفة لذلك ولا ينصرف للتعريف وزيادة الألف
والنون .
قال الأعشى : سبحان من علقمة الفاخر فلم ينونه لما ذكرنا من أنه لا ينصرف . فإن
أضفته قلت : سبحان الله فيصير معرفة بالإضافة )
وابتز منه تعريف العلمية كما قلنا في الإضافة نحو : زيدكم وعمركم يكون بعد يلب
العلمية .
فأما قوله : سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ففي تنوين سبحاناً هنا وجهان : أحدهما : أن
يكون ضرورةً كما يصرف ما لا ينصرف في الشعر من نحو أحمد وعمر .
وقد حمل صاحب الكشف قول الزمخشري : سبحان على للتسبيح على أنه علم مطلقاً سواء
أضيف أو لم ينضف . وكذا قال الفناري في حاشية ديباجة المطول : إنه علمٌ أضيف أو لم
يضف وهو غير منصرف للألف والنون مع العلمية .
وهذه طريقة ابن مالك وتبعه الشارح المحقق وهي أن العلم يجوز أن يضاف مع بقائه على
علميته من غير قصد تنكير . ولا يرد بهذا على الشارح المحقق هنا كما زعمه بعض
مشايخنا لأنه قد نقل أنه يعرف باللام تارة وينكر تارة .
وأما قوله : إنه ممنوعٌ من الصرف مع الإضافة أيضاً فلعله مفرع على القول بأنه إذا
لم تزل إحدى العلتين فهو غير منصرف وإن كان مضافاً .
____________________
وهذه عبارة صاحب الكشف : قوله : سبحان علم للتسبيح الظاهر من إطلاقه ها هنا وفي
المفصل أنه علم للتسبيح أي : التنزيه البليغ لا التسبيح بمعنى قول سبحان الله
مطلقاً مضافاً كان أم لا خلاف ما نص عليه الشيخ ابن الحاجب أن ذلك في غير حال
الإضافة .
والوجه ما ذهب إليه العلامة لأنه إذا ثبتت العلة بدليلها فالإضافة لا تنافيها
وليست من باب زيد المعارك لتكون شاذة بل من باب حاتم طيئ وعنترة عبس ولهذا لم يضف
إلا إلى اسم من أسمائه تعالى .
وأما دلالته على التنزيه البليغ فمن الاشتقاق أعني من التسبيح وهو الإبعاد في
الأرض . ثم ما يعطيه نقله إلى التفعيل ثم العدول من المصدر إلى الاسم الموضوع له
خاصة لا سيما وهو علم يشار به إلى الحقيقة الحاضرة في الذهن وما فيه من قيامه مقام
المصدر مع الفعل .
ولهذا لم يجز استعماله إليه فيه تعالت أسماؤه وعظم كبرياؤه . وكأنه قيل : ما أبعد
الذي له هذه القدرة عن جميع النقائض فلا يكون اصطفاؤه لعبده الخصيص به إلا حكمةً
وصواباً . فالتنزيه لا ينافي التعجب كما توهم واعترض وجعله مداراً . والتعجب ها
هنا هو الوجه بخلافه في قوله : )
وقد تضمن كلامه جواب من استشكل العلمية بأمرين : أحدهما : أن مدلول التسبيح لفظ
لأنه مصدر سبح إذا قال سبحان الله ومدلول سبحانه التنزيه لا اللفظ فلا يصلح جعل
سبحان الذي مدلوله معنًى على ما مدلوله لفظ .
وثانيهما : ما ذكره البهلوان في حاشية الكشاف من أنه قد تقرر أن العلم لا تجوز
إضافته إلا بعد تنكيره وطريق تنكير العلم أن يؤول بواحد من الأمة المسماة به .
____________________
وعلم الجنس مسماه شيءٌ واحد لا متعدد فلا يصلح تنكيره .
وقول صاحب الكشف : وليست من باب زيد المعارك أي : من إضافة العلم إلى ما هو وأشار
أبو السعود في تفسيره لردهما بقوله : وحيث كان المسمى معنًى لا عيناً وجنساً لا
شخصاً لم تكن إضافته من قبيل ما في زيد المعارك أو حاتم طيئ . وإنما فعل هذا لأن
نحو : زيد المعارك لا يكون إلا في علم الشخص دون علم الجنس .
قال صاحب اللباب : طريق تنكير العلم أن يتأول بواحدٍ من الأمة المسماة به نحو :
هذا زيد ورأيت زيداً آخر .
أو يكون صاحبه قد اشتهر بمعنًى من المعاني فيجعل بمنزلة الجنس الدال على ذلك
المعنى نحو قولهم : لكل فرعونٍ موسى .
قال شارحه : قوله وطريق تنكير العلم أي : من أعلام الأشخاص لا من أعلام الأجناس
فإنه لا ينكر بالطريق الأول لأن من شرطه أن يوجد الاشتراك في التسمية والمسمى بعلم
الجنس واحدٌ لا تعدد فيه اللهم إلا أن يوجد اسمٌ مشترك أطلق بحسب الاشتراك على
نوعين مختلفين ثم ورد الاستعمال فيه مراداً به واحدٌ من المسمى به .
وأما بالطريق الثاني فلا شبهة في إمكان تنكيرها مثل أن يقال : فرست كل أسامةٍ أي :
بالغ في الشجاعة .
وقوله : وزيداً آخر تأويله المسمى بزيد وحينئذ يصير اسم جنس متواطئاً يدخل فيه كل
من وقوله : لكل فرعونٍ موسى أي : لكل ظالم مبطلٍ عادل محقٌّ . ويجوز أن يبقى العلم
في هذا على حاله ويكون المضاف محذوفاً أي : لمثل كل فرعونٍ مثل موسى . وليس المراد
هنا مسمًّى بموسى ولا مسمًّى بفرعون . انتهى . )
ويمكن تصوير تنكير العلم الجنسي بطريقٍ آخر وهو أن يجرد عن ملاحظة التعيين ويراد
به مطلق الماهية في ضمن أي فردٍ من أفراده .
والحاصل أن القول بالعلمية مطلقاً أضيف أو لم يضف صعب .
____________________
ولله در الشارح المحقق تفصى عن الأمور بسلوكه طريقةً وسطى لا يرد عليها ما ذكر وإن
كانت مخالفةً للجمهور .
بقي بحثٌ في عامل سبحان هل يجوز أن يقدر فعل أمر فيه نزاعٌ .
ذكر السيد في شرح المفتاح في قوله تعالى : فلما جاءها نوجي أن بورك من في النار
ومن حولها وسبحان الله رب العالمين أن قوله وسبحان بتقدير الأمر تنزيهاً له تعالى
في مقام المكالمة عن المكان والجهد أي : وسبحه تسبيحاً . انتهى .
وقال القاضي في فسبحان الله حين تمسون : إخبارٌ في معنى الأمر بتنزيه الله تعالى
والثناء عليه في هذه الأوقات .
وقال بعض من كتب عليه : لم يجعله أمراً ابتداءً لأن سبحان الله على ما بين في
النحو لزم طريقةً واحدة لا ينصبه فعل أمر .
وجوز الأمرين أبو شامة في : سبحان الذي أسرى قال : إن فعله المحذوف إما فعل أمر أو
خبر أي : سبحوا أو سبح الذي أسرى بعبده على أن يكون ابتداءً ثناءً من الله على
نفسه كقوله : الحمد لله رب العالمين .
والبيت من أبيات لورقة بن نوفل الصحابي قالها لكفار مكة حين رآهم يعذبون بلالاً
على إسلامه تقدم شرحها مع ترجمته في الشاهد الرابع والثلاثين بعد المائتين .
وقبله : ( سبحان ذي العرش لا شيءٌ يعادله ** رب البرية فردٌ واحدٌ صمد ) وقوله :
نعوذ به يريد كلما رأينا أحداً يعبد غير الله عدنا بعظمته وسبحنا حتى يعصمنا من
الضلال .
____________________
وروى الرياشي : نعوذ له بالدال المهملة واللام أي : نعاوده مرة بعد مرة . و الجودي
: جبل بالموصل وقيل : بالجزيرة . و الجمد بضم الجيم والميم : جبلٌ أيضاً بين مكة
والبصرة . ومفعول سبح محذوف أي : سبحه الجودي . ) ( الشاهد الثامن والعشرون بعد
الخمسمائة ) الرجز سبحانك اللهم ذا السبحان على أن سبحان جاء معرفاً باللام فلا
يكون علماً فلا يأتي فيه ما زعمه بعضهم من أنه علمٌ ولو أضيف . و ذا بمعنى صاحب
منصوب لأنه تابع للهم على المحل .
وهذا الرجز أنشده ابن مالك في شرح الكافية قال في نظمها : ( سبحان في غير اختيار
أفردا ** ملابس التنوين أو مجردا ) ( وشذ قول راجزٍ رباني ** سبحانك اللهم ذا
السبحان ) وقال في الشرح : من الملتزم الإضافة سبحان وهو اسمٌ بمعنى التسبيح وليس
بعلم لأنه لو كان علماً لم يضف إلى اسم واحدٍ كسائر الأعلام . وأخلي من الإضافة
لفظاً للضرورة منوناً وغير منون .
فالتنوين كقول الشاعر : سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به . . . . . . . . . . . . . .
البيت
____________________
سبحان من علقمة الفاخر وزعم
الزمخشري وأبو علي أن الشاعر ترك تنوين سبحان لأنه علمٌ على التسبيح فلا ينصرف
للعلمية وزيادة الألف والنون .
وليس الأمر كما زعما بل ترك التنوين لأنه مضاف إلى محذوف مقدر الثبوت كما قال
الراجز : الرجز خالط من سلمى خياشيم وفا أراد : وفاها . وشذ دخول الألف واللام على
سبحان والإضافة إليه فيما أنشده ابن الشجري من قول الراجز : س سبحانك اللهم ذا
السبحان انتهى .
وأورده أبو حيان أيضاً في الارتشاف كما يأتي بعد هذا .
وأنشد بعده : )
سبحان من علقمة الفاخر
____________________
على أنهم استدلوا به على
علمية سبحان بمنعه من الصرف للعلمية وزيادة الألف والنون كعثمان . ورده الشارح
المحقق بأنه من قبيل المضاف أي : سبحان الله حذف المضاف إليه وأبقى المضاف على
حاله من التجرد عن التنوين .
والشارح المحقق مسبوق بهذا الرد نقله أبو حيان في الارتشاف قال فيه : معنى سبحان
الله براءةً من السوء . ويستعمل مفرداً منوناً وغير منون .
فإذا قلت : سبحان فهو ممنوع من الصرف عند سيبويه للعلمية وزيادة الألف والنون .
وقيل : هو مضاف في التقدير ترك على هيئته حين كان مضافاً في اللفظ . وهو اسمٌ موضع
المصدر الذي هو التسبيح وأصله الإضافة ثم استعمل مقطوعاً عنها منوناً في الشعر
وغير منون . وقيل : وضع نكرةً جاريةً مجرى المصادر فعرف بالإضافة وبأل . قال :
سبحانك اللهم ذا السبحان انتهى .
وممن حكى ما رده الشارح ابن الحاجب في شرح المفصل قال : والذي يدل عليه أنه علمٌ
قول الشاعر : ( قد قلت لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) ولولا أنه علم
لوجب صرفه لأن الألف والنون في غير الصفات إنما تمنع مع العلمية ولا يستعمل وإذا
كان مضافاً فليس بعلم لأن الأعلام لا تضاف وهي أعلام لأنها معرفة والمعرفة لا تضاف
. وقيل : إن سبحان في البيت حذف المضاف إليه وهو مرادٌ للعلم به . انتهى .
وزعم الراغب أن سبحان في هذا البيت مضاف إلى علقمة و من زائدة .
وهو ضعيف لغةً وصناعة .
____________________
أما الأول فلأن العرب لا تستعمله مضافاً إلا إلى الله أو إلى ضميره أو إلى الرب
ولم يسمع إضافته إلى غيره .
وأما صناعة فلأن من لا تزاد في الواجب عند البصريين . و سبحان هنا للتعجب ومن
داخلةٌ على المتعجب منه . والأصل فيه أن يسبح الله عند رؤية العجيب من صنائعه ثم
كثر حتى استعمل في كل متعجبٍ منه . )
وصاحب الصحاح وتبعه صاحب العباب نظرا إلى ظاهره فقال : العرب تقول : سبحان من كذا
إذا تعجبت منه .
قال الأعشى يذكر علقمة بن علاثة : ( أقول لما جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر
) يقول : العجب منه إذ يفخر . وإنما لم ينون لأنه معرفةٌ عندهم وفيه شبه التأنيث .
انتهى .
والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي وفضل عدو الله عامر
بن الطفيل عليه .
وقد تقدم شرحها وسببها في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائتين .
وأنشد بعده : خالط من سلمى خياشيم وفا على أن أصله وفاها حذف المضاف إليه وبقي
المضاف على حاله .
____________________
وتقدم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الكامل ( ولأنت أجرأ من أسامة إذ ** دعيت نزال ولج في الذعر ) تقدم
شرحه في الشاهد السابع والستين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : البسيط ( كأن فعلة لم تملأ مواكبها ** ديار بكرٍ ولم تخلع ولم تهب )
وقد تقدم شرح هذا أيضاً في الشاهد السادس والثمانين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
وتقدم شرحه أيضاً في الشاهد
التاسع عشر بعد المائة .
وأنشد بعده : الطويل ( علا زيدنا يوم النقا رأس زيدكم ** بأبيض ماضي الشفرتين
يماني ) وهذا أيضاً تقدم شرحه في الشاهد الثامن عشر بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الخمسمائة ) الكامل ( سكنوا شبيثاً
والأحص وأصبحت ** نزلت منازلهم بنو ذبيان ) ( وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ ** رقعوا
معاوز فقده بفلان )
____________________
على أن فلاناً يجوز أن يأتي
في غير الحكاية خلافاً للمصنف وابن السراج كما في البيت الثاني فإن فلاناً الأول
وقع فاعلاً لفعل يفسره ما بعده و فلاناً الثاني جر بالياء وهما وقعا في غير حكاية
.
والمصنف ذهب إلى هذا في شرح المفصل قال في آخر شرح العلم : ولم يثبت استعمال فلان
إلا حكاية لأنه اسم اللفظ الذي هو علم لا اسم مدلول العلم فلذلك لا يقال : جاءني
فلان ولكن يقال : قال زيد : جاءني فلان .
قال الله تعالى : يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلاً يا ويلتى ليتني لم أتخذ
فلاناً خليلاً فهو إذن اسم الاسم . انتهى .
والبيتان للمرار الفقعسي قد سقط من بينهما بيت .
وروى القالي في أماليه عن ابن دريد عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي قال : بينا أنا
بحمى ضرية إذ وقف علي غلامٌ من بني أسد في أطمارٍ ما ظننته يجمع بين كلمتين فقلت :
ما اسمك فقال : حريقيص . فقلت : أما كفى أهلك أن سموك حرقوصاً حتى حقروا اسمك فقال
: إن السقط يحرق الحرجة فعجبت من جوابه واتصل الكلام بيننا فقلت : أنشدنا شيئاً من
أشعار قومك . قال : نعم أنشدنك لمرارنا قلت : افعل . فقال : ( سكنوا شبيثاً والأحص
وأصبحت ** نزلت منازلهم بنو ذبيان ) ( وإذا يقال أتيتم لم يبرحوا ** حتى تقيم
الحرب سوق طعان ) ( وإذا فلانٌ مات عن أكرومةٍ ** رقعوا معاوز فقده بفلان ) قال :
فكادت الأرض أن تسوخ بي لحسن إنشاده وجودة الشعر . فأنشدت الرشيد هذه الأبيات
____________________
و حمى ضرية بفتح الضاد
المعجمة وكسر الراء المهملة وتشديد المثناة التحتية : نسب هذا الحمى إلى ضرية بنت
ربيعة بن نزار بن معد بن عدنان وهو أكبر الأحماء من ضرية إلى المدينة وهي أرض
كثيرة العشب . )
وأول من حماه في الإسلام عمر بن الخطاب لإبل الصدقة وظهر الغزاة وكان حماه ستة
أميالٍ من كل ناحية من نواحي ضرية وضرية في أوسط الحمى . و الحرقوص بالقاف
وبالمهملات كعصفور : دويبةٌ كالبرغوث ربما نبت له جناحان فطار . و السقط قال
القالي : هو ما يسقط من الزند إذا قدح .
وقال أبو عبيدة : في سقط النار وسقط الولد وسقط الرمل ثلاث لغات : الضم والفتح
والكسر .
وزناد العرب من خشب وأكثر ما يكون من المرخ والعفار ولذلك قال الأعشى : المتقارب (
زنادك خير زناد الملو ** ك صادف منهن مرخٌ عفارا ) وإنما يؤخذ عود قدر شبر فيثقب
في وسطه ثقب لا ينفذ ويؤخذ عود آخر قدر ذراع فيحدد طرفه فيجعل ذلك المحدد في ذلك
الثقب وقد وضعه بين رجليه فيديره ويفتله فيوري ناراً .
فالأعلى زند والأسفل زندة . و الحرجة بفتح الحاء والراء المهملتين بعدهما جيم قال
القالي : هو الشجر الكثير الملتف قال العجاج : الرجز
____________________
( عاين حياً كالحراج نعمه **
يكون أقصى شله محرنجمه ) يقول : عاين هذا الجيش الذي أتانا حياً . ويعني بالحي
قومه بني سعد . و النعم : الإبل . و أقصى : أبعد . و شله : طرده . و محرنجمه :
مبركه حيث يجتمع بعضه إلى بعض .
والمعنى أن الناس إذا فوجئوا بالغارة طردوا إبلهم وقاموا هم يقاتلون فإن انهزموا
كانوا قد نجوا بها . يقول : فهؤلاء من عزهم ومنعتهم لا يطردونها ولكن يكون أقصى طردهم
أن ينيخوها في مبركها ثم يقاتلوا عنها . انتهى .
وقوله : سكنوا شبيثاً وهو بضم الشين المعجمة وفتح الموحدة وآخره ثاء مثلثة : اسم
ماءٍ لبني تغلب .
قال الجعدي وذكر كليباً لما طعنه جساس : الطويل ( فقال لجساس أغثني بشربةٍ ** من
الماء وامننها علي وأنعم ) ( فقال : تجاوزت الأحص وماءه ** وبطن شبيثٍ وهو ذو
مترسم ) مترسم أي : موضع الماء لمن طلبه . وقال عمرو بن الأهتم : الطويل ( فقال
لجساس أغثني بشربةٍ ** وإلا فنبئ من لقيت مكاني ) )
كذا في المعجم للبكري . قال السكري : يقال ماء دفن ومياهٌ دفان أي : مندفة قد درس
مواضعها . والأحص بمهملتين قال البكري في معجمه : هو على وزن أفعل وادٍ لبني تغلب
كانت فيه وقائعهم مع إخوتهم بكر .
____________________
قال مهلهل : الكامل ( وادي الأحص لقد سقاك من العدى ** فيض الدموع بأهله الدعس ) و
الدعس : من منازل بكر .
وقال جرير : الكامل ( سادت همومي بالأحص وسادي ** هيهات من بلد الأحص بلادي )
وبالأحص قتل جساس بن مرة كليب بن ربيعة . انتهى .
وقوله : تجاوزت الأحص وشبيثاً صار مثلاً يضرب لطالب الشيء بعد فوته أورده الزمخشري
في أمثاله قال : هما ماءان .
وأصله أن جساس بن مرة لما ركب ليلحق كليباً أردف خلفه عمرو بن الحارث ابن ذهل بن
شيبان فلما طعنه وبه رمقٌ قال له : الطويل ( أغثني يا جساس منك بشربةٍ ** تعودها
فضلاً علي وأنعم ) فقال له جساس : تجاوزت الأحص وشبيثاً . أراد : إنك تباعدت عن
موضع سقياك ثم نزل عمرٌ و فحسب أنه يسقيه فلما علم أن نزوله للإجهاز عليه قال :
البسيط ( المستجير بعمرٍ و عند كربته ** كالمستجير من الرمضاء بالنار ) اه . و
أصبحت نزلت إلخ بنو ذبيان اسم أصبحت وجملة نزلت : خبرها
____________________
وتقدم من الشارح أنه يجوز
وقوع الماضي خبراً للأفعال الناقصة .
وقوله : وإذا يقال أتيتم إلخ هذا البيت هو الذي أعجب الأصمعي والرشيد لدلالته على
كمال الشجاعة . و أتيتم : بالبناء للمفعول يستعمل في المكروه أي : دهيتم بمجيء
العدو . وبرح الشيء من باب تعب براحاً : زال من مكانه .
وروى : الخيل بدل الحرب . و الطعان : المطاعنة بالرمح .
وقوله : عن أكرومة عن متعلقة بحال محذوفة أي : منصرفاً عن أكرومة بضم الهمزة أي :
عن )
ذكرٍ جميل ومنقبةٍ كريمة . والأكرومة من الكرم كالأعجوبة من العجب .
وقوله : رقعوا معاوز إلخ رقعوا بالقاف من رقعت الثوب رقعاً من باب نفع إذا جعلت
مكان القطع خرقةً واسمها رقعة و المعاوز قال القالي : هي الثياب الخلقان .
وفي الصحاح : المعوزة والمعوز بكسر أولهما : الثوب الخلق الذي يبتذل والجمع معاوز
. و الفقد : مصدر فقدته فقداً من باب ضرب إذا عدمته . يقول : إذا مات منهم سيد
أقاموا موضعه سيداً آخر . و المرار الفقعسي الأسدي هو شاعر إسلامي من شعراء الدولة
الأموية بفتح الميم وتشديد الراء الأولى . وينسب تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه
الأقربين وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة وهو جده الأعلى . وتقدمت ترجمته في
الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين .
والموجود في نسخ الشرح : المرار العبسي وهو تحريف وتصحيفٌ من الفقعسي إذ ليس من
الشعراء المرار العبسي وكأنه حرف بالنظر إلى قوله نزلت منازلهم بنو ذبيان فإن
عبساً وذبيان أخوان أبوا قبيلتين وهما ابنا بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن
عيلان بن مضر .
____________________
ويدل أيضاً لما قلنا حكاية الأصمعي إذ وقف على غلامٍ من بني أسد وفيها أنشدك
لمرارنا .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثلاثون بعد الخمسمائة ) ( أخذت بعين المال حتى نهكته **
وبالدين حتى ما أكاد أدان ) ( وحتى سألت القرض عند ذوي الغنى ** ورد فلانٌ حاجتي
وفلان ) لما تقدم قبله فإن فلاناً فاعل رد وهو في غير حكاية .
روى أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني بسنده قال : مر عبيد الله بن العباس بن عبد
المطلب بمعن بن أوسٍ المزني وقد كف بصره فقال له : يا معن كيف حالك فقال له : ضعف
بصري وكثر عيالي وغلبني الدين . قال : وكم دينك قال : عشرة آلاف درهم . فبعث بها
إليه ثم مر من الغد فقال له : كيف أصبحت يا معن قال : أخذت بعين المال حتى نهكته .
. . . . . . . . . . . . البيتين قال له عبيد الله : الله المستعان إنا بعثنا إليك
بالأمس لقمةً فما لكتها حتى انتزعت من يديك فأي شيءٍ للأهل والقرابة والجيران وبعث
إليه بعشرة آلاف درهمٍ أخرى فقال معنٌ يمدحه : الطويل ( إنك فرعٌ من قريشٍ وإنما
** يمج الندى منها البحور الفوارع ) ( ثووا قادةً للناس بطحاء مكة ** لهم وسقايات
الحجيج الدوافع )
____________________
( فلما دعوا للموت لم تبك
منهم ** على حادثات الدهر العيون الدوامع ) قوله : أخذت بعين المال إلخ يقال : أخذ
الخطام وأخذ به على زيادة الباء أو أخذت مضمن معنى تصرفت . وعين المال هنا : نقده
فإن العين له معانٍ منها النقد . و حتى هنا بمعنى الغاية . و نهكته : أتلفته
ومزقته وهو من نهكته الحمى إذا جهدته وأضنته ونقصت لحمه جاء من باب نفع ومن باب
فرح أو من باب نهكت الثوب من باب نفع : لبسته حتى خلق . يقول : تصرفت بالمال النقد
وأسرفت فيه إلى أن فني .
قوله : وبالدين معطوف على قوله بعين المال أي : وأخذت الدين من هنا ومن هنا حتى ما
بقي من يقرضني . و أكاد بفتح الهمزة بمعنى أقرب .
قال في المصباح : كاد يفعل كذا يكاد من باب تعب : قارب الفعل .
قال ابن الأنباري : قال اللغويون : كدت أفعل معناه عند العرب قاربت الفعل ولم أفعل
وما كدت أفعل معناه فعلت بعد إبطاء . قال الأزهري : وهو كذلك وشاهد قوله تعالى :
وما )
كادوا يفعلون . وقد يكون ما كدت أفعل بمعنى ما قاربت . انتهى .
وهذا الأخير هو المراد هنا . و أدان : مجهول دنته بمعنى أقرضته قال صاحب المصباح :
قال جماعة : يستعمل دان لازماً ومتعدياً فيقال : دنته إذا أقرضته فهو مدين ومديون
واسم الفاعل دائن فيكون الدائن من يأخذ الدين على كونه لازماً ومن يعطيه على كونه
متعدياً . وقال ابن القطاع : دنته أقرضته ودنته استقرضت منه .
وقال ابن قتيبة : لا يستعمل دان إلا لازماً فيمن يأخذ الدين . وقال ابن السكيت
أيضاً : دان الرجل إذا استقرض فهو دائن . وكذلك قال ثعلب ونقله الأزهري أيضاً .
____________________
وعلى هذا فلا يقال منه مدين ولا مديون لأن اسم المفعول إنما يكون من فعل متعدٍّ
وهذا الفعل لازم فإذا أردت التعدي قلت : أدنته وداينته . قاله أبو زيد وابن السكيت
وابن قتيبة وثعلب . انتهى .
وقوله : وحتى سألت القرض إلخ سألت هنا بمعنى طلبت و القرض بفتح القاف وكسرها وهو
ما تعطيه غيرك من المال لتقضاه . والفرق بينه وبين الدين أن الدين أعم منه يكون
ثمن مبيع وغيره والقرض خاصٌّ بالنقد من غير ربح .
وقوله : ورد فلان إلخ معطوف على سألت قال أبو هلال العسكري في كتاب الفروق في
اللغة : الفرق بين الفقر والحاجة أن الحاجة هي القصور عن المبلغ المطلوب ولهذا
يقال : الثوب يحتاج إلى خرقة وفلان يحتاج إلى عقل وذلك إذا كان قاصراً غير تام .
والفقر خلاف الغنى .
فأما قولهم : مفتقر إلى عقل فهو استعارة ومحتاج إلى عقل حقيقة . والفرق بين النقص
والحاجة : أن النقص سبب الحاجة والمحتاج يحتاج لنقصه والنقص أعم من الحاجة لأنه
يستعمل فيما يحتاج وفيما لا يحتاج .
وقوله : فما لكتها من لاك اللقمة يلوكها لوكاً إذا مضغها .
وقوله : إنك فرع من قريش إلخ هو مخروم .
ويروى : وإنك بالواو فلا خرم . والفرع مستعار من فروع الشجرة وهي أغصانها .
وفي الصحاح : هو فرع قومه للشريف منهم . ومج الماء من فيه : رمى به . و الندى :
أصل المطر ويطلق لمعانٍ يقال : أصابه ندًى من طلٍّ ومن عرق وندى الخير وندى الشر
وندى الصوت . )
والندى : ما أصاب من بلل .
وبعضهم يقول : ما سقط آخر الليل ندًى وأما الذي يسقط أوله فهو السدى بالقصر أيضاً
.
وضمير منها لقريش . وشبه أجوادهم وكرماءهم بالبحور . و الفوارع : جمع فارع وهو
العالي .
وقوله : ثووا قادة الناس إلخ ثوى هنا متعدٍّ بمعنى سكنوا ونزلوا . قال صاحب
المصباح : ثوى بالمكان وفيه أي : أقام وربما تعدى بنفسه . و قادة :
____________________
جمع قائد من قاد الأمير الجيش
والناس قيادةً . و بطحاء مكة مفعول ثووا و لهم خبر مقدم و الدوافع مبتدأ مؤخر :
جمع دافع .
يقال : شاةٌ أو ناقة دافعٌ ودافعة ومدفاع وهي التي تدفع اللبأ في ضرعها قبيل
النتاج . وفي بمعنى وقوله : فلما دعوا للموت بالبناء للمفعول . يصفهم بالشجاعة
يقول : إن طلبوا للحرب لم تدمع لهم عينٌ خوفاً من القتل . و عبيد الله بن العباس
هو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أخو عبد الله بن العباس حبر هذه الأمة
. قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : أجواد الحجاز ثلاثة في عصر واحد : عبيد الله
بن العباس وعبد الله بن جعفر وسعيد بن العاص .
فمن جود عبيد الله بن العباس أنه أول من فطر جيرانه وأول من وضع الموائد على الطرق
وأول من حيا على طعامه وأول من أنهبه . وفيه يقول شاعر المدينة : الطويل ( وفي
السنة الشهباء أطعمت حامضاً ** وحلواً ولحماً تامكاً وممزعا ) ( وأنت ربيعٌ
لليتامى وعصمةٌ ** إذا المحل من جو السماء تطلعا ) ( أبوك أبو الفضل الذي كان
رحمةً ** وغيثاً ونوراً للخلائق أجمعا ) ومن جوده : أنه أتاه رجلٌ وهو بفناء داره
فقال : يا ابن عباس إن لي عندك يداً وقد احتجت إليها . فصعد فيه بصره وصوبه فلم
يعرفه ثم قال : ما يدك عندنا قال : رأيتك واقفاً بزمزم وغلامك يمتح لك من مائها
والشمس قد صهرتك فظللتك بطرف كسائي حتى شربت .
قال : إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري . ثم قال لقيمه : ما عندك قال :
مائتا
____________________
قال له الرجل : والله لو لم
يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين
محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفع بك وبأبيك ومن جوده أيضاً : أن معاوية حبس عن
الحسين بن علي عليهما السلام صلاته حتى ضاقت عليه حاله فقيل : لو وجهت إلى ابن عمك
عبيد الله فإنه قدم بنحوٍ من ألف ألف درهم . )
فقال الحسين : وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت
وأسخى من البحر إذا زخر ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عنه صلاته
وضيق حاله وأنه يحتاج إلى مائة ألف درهم فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق
الناس قلباً وألينهم عطفاً انهملت عيناه ثم قال : ويلك يا معاوية مما اجترحت يداك
من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو ضيق الحال وكثرة العيال :
ثم قال لقهرمانه : احمل إلى الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثوب ودابة وأخبره
أني شاطرته مالي فإن أقنعه ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر .
قال له القيم : فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال : إذا بلغنا ذلك دللتك
على أمر تقيم به حالك . فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال : إنا لله حملت
والله على ابن عمي وما فأخذ الشطر من ماله . وهو أول من فعل ذلك في الإسلام .
ومن جوده : أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة
ومسكاً وآنيةً من ذهب وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب
وهو ينظر إليها فقال : هل في نفسك منها شيءٌ فقال : نعم والله إن في نفسي منها ما
كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال : فشأنك بها فهي لك .
____________________
قال : جعلتك فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي . قال : فاختمها بخاتمك
وادفعها إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً . فقال الحاجب : والله لهذه
الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى أراك مكانه يعني معاوية .
فظن عبيد الله أنها مكيدة منه قال : دع عنك هذا الكلام فإنا قومٌ نفي بما وعدنا
ولا ننقض ما أكدنا .
ومن جوده أيضاً : أنه أتاه سائل وهو لا يعرفه فقال له : تصدق فإني نبئت أن عبيد
الله بن عباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه . فقال له : وأين أنا من عبيد الله
قال : أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال : فيهما .
قال : أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت حسيباً .
فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال فقال له السائل : إن لم تكن عبيد الله
بن )
عباس فأنت خير منه وإن كنت هو فأنت اليوم خيرٌ منك أمس . فأعطاه ألفاً أخرى فقال
السائل : هذه هزة كريمٍ حسيب والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في قلبك فما أخطأت
إلا باعتراض الشك من جوانحي .
ومن جوده أيضاً : أنه جاءه رجلٌ من الأنصار فقال : يا ابن عم رسول الله إنه ولد لي
في هذه الليلة مولود وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت .
فقال عبيد الله : بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة . ثم دعا
بوكيله وقال : انطلق الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه وادفع إليه مائتي دينار
للنفقة على تربيته .
ثم قال للأنصاري : عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة .
قال الأنصاري : لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت
له تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وطل كرمك أكثر من وابله .
____________________
وأما معن بن أوس المزني فهو ابن أوس بن نصر بن زياد بن اسعد بن أسحم بن ربيعة بن
عداء بن ثعلبة بن ذؤيب بن سعد بن عداء بن عثمان بن عمرو بن أد بن طابخة بن إلياس
بن مضر .
ومزينة بالتصغير هي أم عمرو بن أد بن طابخة . كذا في جمهرة الأنساب للكلبي .
وأسحم بالمهملتين . وعداءٌ في الموضعين بالكسر والمد والتخفيف . وروى في الأول عدي
بتشديد الياء . و معنٌ شاعر مجيدٌ فحل من مخضرمي الجاهلية والإسلام أورده ابن حجر
في المخضرمين من الإصابة ولد مدائح في أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وعمر إلى
أيام الفتنة بين عبد الله بن الزبير ومروان بن الحكم .
وكان معاوية يفضل مزينة في الشعر ويقول : كان اشعر الجاهلية منهم وهو زهير وكان
اشعر الإسلام منهم وهو كعب بن زهير .
روى صاحب الأغاني أن معن بن أوس كان مئناثاً وكان يحسن صحبة بناته وتربيتهن فولد
لبعض عشيرته بنتٌ فكرهها وأظهر جزعاً من ذلك فقال معن : الطويل ( رأيت رجالاً
يكرهون بناتهم ** وفيهن لا تكذب نساءٌ صوالح ) ( وفيهن والأيام يعثرن بالفتى **
نوادب لا يمللنه ونوائح ) والبيت الثاني من أبيات مغني اللبيب على أن فيه الاعتراض
بين المبتدأ والخبر . )
____________________
قال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي بعد إيراد هذين البيتين و : أنشد صاعد بن
الحسن لحسان بن الغدير أحد بني عامر شعراً فيه البيت الأول من هذين البيتين وهي
أبيات منها : ( إذا المرء لم ينفعك حياً فنفعه ** أقل إذا رصت عليه الصفائح ) (
رأيت رجالاً يكرهون بناتهم ** وهن البواكي والجيوب النواضج ) ( وللموت سوراتٌ بها
تنقض القوى ** وتسلو عن المال النفوس الشحائح ) ( وما النأي بالبعد المفرق بيننا
** بل النأي ما ضمت عليه الضرائح ) وروى أن عبد الملك بن مروان قال يوماً وعنده
عدة من آل بيته وولده : ليقل كل واحدٍ منكم أحسن شعرٍ سمعه . فذكروا لامرئ القيس
والأعشى وطرفة فأكثروا حتى أتوا على محاسن ما قالوا فقال عبد الملك : أشعرهم والله
الذي يقول : الطويل ( وذي رحمٍ قلمت أظفار ضغنه ** بحلمي عنه وهو ليس له حلم ) (
إذا سمته وصل القرابة سامني ** قطيعتها تلك السفاهة والظلم ) ( فأسعى لكي أبني
ويهدم صالحي ** وليس الذي بيني كمن شأنه الهدم ) ( يحاول رغمي لا يحاول غيره **
وكالموت عندي أن يحل به رغم ) ( فما زلت في لينٍ له وتعطفٍ ** عليه كما تحنو على
الولد الأم )
____________________
( لأستل منه الضغن حتى سللته
** وإن كان ذا ضغنٍ يضيق به الحلم ) قالوا : ومن قائلها يا أمير المؤمنين قال :
معن بن أوس المزني . ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الخمسمائة ) البسيط ( الله
أعطاك فضلاً من عطيته ** على هنٍ وهنٍ فيما مضى وهن ) على أنه قد يكنى ب هن عن
العلم كما هنا .
وهذا من شرح المفصل لابن الحاجب وعبارته : وقد يكنى ب هن عما لا يراد التصريح به
لغرضٍ كقول ابن هرمة يخاطب حسن بن زيد :
____________________
الله أعطاك فضلاً . . . . . .
. . . . . . . . البيت يعني عبد الله وحسناً وإبراهيم بني حسن بن حسن كأنهم كانوا
وعدوه شيئاً فوفى به حسن .
ومن ثم قال بعضهم : يكنى به عن الأعلام أيضاً . انتهى .
وقال أحد شراح أبيات الإيضاح للفارسي : قال الهروي : هن وهنة كناية عن الشيء لا
تذكره باسمه . ولم يخص جنساً من غيره .
وقال أبو الحسن الأخفش في الأوسط له : تقول : هذا فلان بن فلان وهذا هن بن هن وهذه
هنة بنت هنة كأنه قيل : هذا زيد بن عمرو فلم يذكره فوضع بأنها يكنى بها عن الأعلام
. وهو الله أعطاك فضلاً من عطيته . . . . . . . . . . . . . البيت يعني : حسناً
وإبراهيم وعبد الله بني حسن بن حسن وكأنهم كانوا وعدوه شيئاً فوفى به حسن . انتهى
كلامه .
وقال الشنواتي في حاشية الأوضح : الهن يطلق ويراد به الحقير قال الشاعر : الله
أعطاك فضلاً . . . . . . . . . . . . . . البيت يعني على أقوام هم بالنسبة إليك
صغارٌ محتقرون . انتهى .
والبيت من أبيات ثلاثة رواها أبو العباس أحمد بن يحيى الشهير بثعلب في أماليه قال
: أخبرنا محمد قال حدثنا أبو العباس : قال حدثني عمر بن شبة قال : أخبرني أبو سلمة
قال : أخبرني ابن زبنج راوية ابن هرمة قال : أصابت ابن هرمة أزمةٌ فقال لي في يوم
حارٍّ : اذهب فتكار لي حمارين إلى ستة أميال ولم يسم موضعاً . فركب واحداً وركبت
واحداً ثم سرنا حتى انتهينا إلى قصور حسن بن زيد ببطحاء ابن أزهر فدخلنا مسجده . )
فلما زالت الشمس خرج علينا مشتملاً على قميصه فقال لمولى له : أذن . فأذن ثم لم
يكلمنا كلمة ثم قال له : أقم . فأقام فصلى بنا ثم أقبل على ابن هرمة فقال : مرحباً
بك أبا إسحاق حاجتك قال : نعم بأبي أنت وأمي أبياتٌ قلتها وقد كان عبد الله بن حسن
وحسن وإبراهيم بنو حسن بن حسن وعدوه شيئاً فأخلفوه فقال : هاتها .
فأنشد : ( أما بنو هاشمٍ حولي فقد قرعوا ** نبلي الصياب التي جمعت في قرني )
____________________
( فما بيثرب منهم من أعاتبه
** إلا عوائد أرجوهن من حسن ) ( الله أعطاك فضلاً من عطيته ** على هنٍ وهنٍ فيما
مضى وهن ) قال : حاجتك قال : لابن أبي مضرس علي خمسون ومائة دينار . قال : فقال
لمولى له : أبا هيثم اركب هذه البغلة فأتني بابن أبي مضرس وذكر حقه .
قال : فما صلينا العصر حتى جاء به فقال له : مرحباً بك يا ابن أبي مضرس أمعك ذكر
حقٍّ على ابن هرمة فقال : نعم . قال : فامحه . قال : فمحاه .
ثم قال : يا هيثم بع ابن أبي مضرس من تمر الخانقين بمائة وخمسين ديناراً وزده في
كل دينار ربع دينار وكل لابن هرمة بخمسين ومائة دينار تمراً وكل لابن زبنج بثلاثين
ديناراً تمراً .
قال : فانصرفنا من عنده فلقيه محمد بن عبد الله بن حسن بالسيالة وقد بلغه الشعر
فغضب لأبيه وعمومته فقال : أيا ماص بظر أمه أأنت القائل : قال : لا والله بأبي أنت
ولكني الذي أقول لك : البسيط ( لا والذي منه نعمةٌ سلفت ** نرجو عواقبها في آخر
الزمن ) ( لقد أبنت بأمرٍ ما عمدت له ** ولا تعمده قولي ولا سنني ) ( فكيف أمشي مع
الأقوام معتدلاً ** وقد رميت بريء العود بالأبن ) ( ما غيرت وجهه أمٌّ مهجنةٌ **
إذا القتام تغشى أوجه الهجن ) قال : وأم الحسن أم ولد . انتهى ما رواه ثعلب .
قال أصحاب الأغاني : ويروى أن ابن هرمة لما قال هذا الشعر في حسن بن زيد قال عبد
الله بن حسن : والله ما أراد الفاسق غيري وغير أخوي حسن وإبراهيم .
____________________
وكان عبد الله يجري عليه رزقاً فقطعه عنه وغضب عليه فأتاه يعتذر فنحي وطرد )
فسأل رجالاً أن يكلموه فردهم فيئس من رضاه فاجتنبه وخافه فمكث ما شاء الله ثم مر
عشيةً وعبد الله على زربيته فلما رآه عبد الله تضاءل وتصاغر وأسرع في المشي فرق له
عبد الله وأمر به فردوه وقال له : يا فاسق تقول : على هن وهن أتفضل الحسن علي وعلى
أخوي فقال : بأبي أنت وأمي ورب هذا القبر ما عنيت إلا فرعون وهامان وقارون أفتغضب
لهم فضحك ورد عليه جرايته . انتهى . و زبنج بفتح الزاي المعجمة وفتح الموحدة
وتشديد النون المفتوحة بعدها جيم . و الأزمة : الشدة والضائقة .
وقوله : فتكار أمرٌ من تكاري يتكارى بمعنى اكترى يكتري أي : أخذ الدابة بالكراء
والأجرة . و حسن بن يزيد هو حسن بن زيد بن الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهم
ولي المدينة وكان شريفاً فاضلاً . فزيد بن حسن هو أخو حسن بن حسن . فحسن بن زيد
يكون ابن عمٍّ لهؤلاء الإخوة الثلاثة .
وقوله : أما بنو هاشم حولي إلخ قرعت : أصابت . ونبلي بالفتح : سهامي .
والصياب بالكسر : جمع صائب من صاب السهم يصوب صيبوبة أي : قصد ولم يجز وصاب السهم
القرطاس يصيبه صيباً : لغة في أصابه . و القرن بالتحريك : الجعبة .
قال الأصمعي : القرن : جعبة من جلود تكون مشقوقة ثم تخزر حتى تصل الريح إلى الريش
فلا يفسد .
____________________
و يثرب هي المدينة المنورة .
وقوله : إلا عوائد استثناءٌ منقطع أي : لكن . و عوائد : مبتدأٌ ز أرجوهن : خبره
وحسن هو حسن بن زيد . يقول : ليس في المدينة من أعاتبه على ترك إحسانه إلي لكنني
أرجو العوائد من حسن ابن زيد . و العوائد : جمع عائدة وهي الصلة والإحسان .
وقوله : الله أعطاك فضلاً الفضل هنا : الزيادة . يقول : إن الله أعطاك فضلاً على
أبناء عمك أي : فضلك عليهم .
وقوله : فيما مضى أي : في الأزل . وعبر عن كل واحدٍ منهم بهنٍ الموضوع لما يستقبح
ذكره من أسماء الجنس .
وليس هن كناية عن علم كلٍّ منهم ولو كان كناية عنهم لما غضب على الشاعر محمد بن
عبد الله لأبيه وعميه ولما اشتد غضب عبد الله لنفسه ولأخويه . ولو كان الغضب لمجرد
التفضيل لما )
بلغ هذا المبلغ منهم وهم فروع الإمامة وهضاب الحلم والإغضاء .
وقوله : حاجتك هو منصوب في الموضعين بتقدير اذكر . وقوله : من تمر الخانقين بالخاء
المعجمة والنون والقاف هو موضع ويعرب إعراب المثنى . كذا في المعجم : هي قرية
جامعة بينها وبين المدينة تسعة وعشرون ميلاً وهي لولد حسن ابن علي بن أبي طالب وهي
في الطريق منها إلى مكة .
وقوله : لا والذي أنت منه نعمةٌ سلفت إلخ لا : نفيٌ لما اتهم به الشاعر والواو
للقسم .
يعني : ليس الأمر كما توهم والله الذي أنعم بك علينا ونرجو حسن عاقبة هذه النعمة
عند انقضاء الأجل بأن يميتنا على حبكم .
وقوله : لقد أبنت إلخ هذا جواب القسم و أبنت : بالبناء للمفعول أي : ذكرت بسوءٍ
وهو بالألف بسوءٍ وهو بالألف والباء والنون . يقال : فلانٌ يؤبن بكذا أي :
____________________
يذكر بقبيح . وأبنه يأبنه من
باب نصر وضرب إذا اتهمه به . و عمدت : قصدت . و السنن بفتحتين : الطريقة .
وقوله : فكيف أمشي مع الأقوام إلخ المعتدل : المستقيم . وجملة قد رميت من الفعل
والفاعل حال من فاعل أمشي . و رميت بمعنى قذفت . بريء العود مفعوله وبالأبن متعلق
برميت . و الأبن بضم الألف وفتح الموحدة : جمع أبنة بضم الألف وسكون الموحدة وهي
العقدة في العود ومتعلق بريء محذوف أي : بريء العود من الأبن .
يقول : فكيف أكون بين الناس مستقيماً إذا قذفت المستقيم بالعيوب .
وقوله : ما غيرت وجهه إلخ غيره تغييراً : جعله غيراً . يريد أن أم الحسن ابن الحسن
وإن كانت أم ولد ما ولدت ابنها الحسن مغايراً لشكل آبائه كما يقال : الولد للخال
بل ولدته على صورة آبائه : سيداً جليلاً شهماً . و المهجنة بكسر الجيم : وهي
المرأة التي تلد هجيناً . و الهجين : الذي تلده أمٌّ ليست بعربية . و القتام بفتح
القاف : الغبار . وغشى تغشية أي : غطى تغطية . وأوجه مفعوله جمع وجه .
والهجن بضمتين : جمع هجين . و الزربية بكسر الزاء المعجمة وسكون الراء المهملة هي
و ابن هرمة بفتح الهاء وسكون الراء بعدها ميم : شاعرٌ مطبوع أدرك الدولتين ومات في
مدة هارون الرشيد . واسمه إبراهيم وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين .
وأنشد بعده : الرجز )
____________________
يا مرحباه بحمار ناجيه على أن هاء السكت في الوصل قد تحرك بالضم وبالكسر .
وتقدم في باب المندوب أن بعضهم يحركها بالفتح بعد الألف . و يا : حرف نداء
والمنادى محذوف و مرحباً مصدر منصوب بعامل محذوف أي : صادف رحباً وسعة حذف تنوينه
لنية الوقف ووصل به هاء السكت ثم عن له الوصل فوصل . والباء متعلق به . و حمار
مضاف إلى ناجية .
وروى الفراء في تفسيره : ناهيه بدل ناجيه وهو اسم شخص .
وقد تقدم الكلام عليه في الشاهد السابع والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الخمسمائة ) يا رب يا رباه إياك أسل على
أن الهاء في رباه للسكت وتضم وتكسر .
وتقدم في باب المندوب أنها تفتح أيضاً عند بعضهم إذا كانت بعد ألف كما هنا . ففيها
بعد الألف ثلاث حركات .
وذكر هنا أنها تزاد في السعة وصلاً ووقفاً في آخر هنٍ وإخوته . وهي في
____________________
نحو هذين البيتين في حال
الضرورة وهذا قول الكوفيين وبعض البصريين . وقدم في باب المندوب أن الكوفيين
يثبتونها وقفاً ووصلاً في الشعر وغيره . ففي كلاميه تدافع .
قال الفراء في تفسيره من سورة الزمر عند قوله تعالى : يا حسرتا : يا ويلتا مضافٌ
إلى المتكلم . تحول العرب الياء إلى الألف في كل كلام كان معناه الاستغاثة : يخرج
على لفظ الدعاء .
وربما أدخلت العرب الهاء بعد الألف التي في حسرتا فيخفضونها مرة ويرفعونها .
أنشدني أبو فقعس بعض بني أسد : الرجز ( يا رب يا رباه إياك أسل ** عفراء يا رباه
من قبل الأجل ) فخفض .
وأنشدني أيضاً : الرجز
____________________
والخفض أكثر في كلام العرب
إلا في قولهم : يا هناه ويا هنتاه فالرفع في هذا أكثر من الخفض )
لأنه كثر في الكلام فكأنه حرفٌ واحدٌ مدعو . انتهى .
وظاهره على إطلاقه لا يختص بضرورةٍ عندهم وأما عند البصريين فلا يجوز تحريكها ولا
تلحق وصلاً في غير : يا هناه .
والبيتان المذكوران وقعا بلا مناسبةٍ في أوائل إصلاح المنطق ليعقوب بن السكيت قال
شارح أبياته يوسف بن السيرافي : لم ينشد يعقوب هذين البيتين ولا الأبيات التي
بعدهما شاهداً لشيءٍ تقدم وإنما أنشد ذلك لأن الهاء تضم وتكسر وهذا لا يتعلق بالباب
.
وهذه الهاء ليست من الكلمة وإنما دخلت للوقف ثم احتاج إلى وصلها الشاعر فحركها
بالكسر .
ومن ضم شبهها بهاء الضمير وهذا رديءٌ جداً . و عفراء : اسم امرأة سأل ربه أن يريه
إياها قبل أجله ويجمع بينهما . انتهى .
وقال الزمخشري في المفصل : وحق هاء السكت أن تكون ساكنة وتحريكها لحنٌ نحو ما في
إصلاح المنطق لابن السكيت من قوله : يا مرحباه بحمار عفراء يا مرحباه بحمار ناجيه
مما لا معرج عليه للقياس واستعمال الفصحاء . ومعذرة من قال ذلك أنه أجرى الوصل
مجرى الوقف مع تشبيه هاء الوقف بهاء الضمير .
قال شارحه ابن يعيش : اعلم أنه قد يؤتى بهذه الهاء لبيان حروف المد واللين كما
يؤتى بها لبيان حروف المد واللين كما يؤتى بها لبيان الحركات .
ولا تكون إلا ساكنة لأنها موضوعةٌ للوقف والوقف إنما يكون على الساكن .
____________________
وتحريكها لحنٌ وخروجٌ عن كرم العرب لأنه لا يجوز ثبات هذه الهاء في الوصل فتحرك بل
إذا وصلت استغنت عنها بما بعدها من الكلام .
فأما قوله : يا مرحباه بحمار عفراء فإن الشعر لعروة بن حزام العذري . وقول الآخر :
يا مرحباه بحمار ناجيه )
فضرورة وهو رديء في الكلام . وإنما اضطر الشاعر حين وصل إلى التحريك لأنه لا يجتمع
ساكنان في الوصل على غير شرط إلا حرك . وقد رويت بضم الهاء وكسرها . فالكسر
لالتقاء ( إذا أتى قربته لما شاء ** من الشعير والحشيش والماء ) ومعناه أن عروة
كان يحب عفراء وفيها يقول : ( يا رب يا رباه إياك أسل ** عفراء يا رباه من قبل
الأجل ) فإن عفراء من الدنيا الأمل ثم خرج فلقي حماراً عليه امرأةٌ فقيل له : هذا
حمار عفراء فقال : يا مرحباه بحمار عفراء فرحب بحمارها لمحبته لها وأعد له الشعير
والحشيش والماء .
ونظير معناه قول الآخر : الوافر
____________________
( أحب لحبها السودان حتى **
أحب لحبها سود الكلاب ) انتهى .
وهذا من رجز أورده أبو محمد الأسود الأعرابي في ضالة الأديب ولم ينسبه إلى أحد وهو
: الرجز ( إليك أشكو عرق دهرٍ ذي خبل ** وعيلاً شعثاً صغاراً كالحجل ) ( وأمهم
تهتف تستكسي الحلل ** قد طار عنها درعها ما لم يخل ) ( فإن عفراء من الدنيا أمل **
لو كلمت رهبان ديرٍ في قلل ) لزحف الرهبان يمشي وزحل وقد راجعت ديوان عروة فلم أجد
هذا الرجز .
وعروة تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والتسعين بعد المائة .
وقوله : عرق دهرٍ ذي خبل العرق بفتح العين وسكون الراء المهملتين : مصدر عرقت
العظم من باب نصر إذا أكلت ما عليه من اللحم . و الخبل : الفساد . و العيل
بفتحيتين : لغة في العيال . و تهتف : تصوت . و الحلل بضم ففتح قال الصاغاني : هي
برود اليمن . و الحلة : إزارٌ ورداءٌ لا تسمى حلة حتى تكون ثوبين . و الدرع بالكسر
: ثوب المرأة خاصة . )
____________________
تتمة قد حقق الشارح المحقق هنا أن الألف والهاء في يا هناه زائدتان بدليل أنهما
تلحقان فروعه من التثنية والجمع والتأنيث كما نقله عن الأخفش فيكون من المحذوف
اللام ووزنه فعاه .
وقصد بهذا البيان الوافي الرد على ابن جني في زعمه أن الهاء لام الكلمة وأن وزنها
فعال وشدد في زعمه وخطأ من عدها للسكت .
فرد عليه الشارح بأنها قد لحقت مع الألف آخر المثنى والمجموع على حده وآخر المؤنث
. ولو كانت لاماً لما جاز تأخيرها . وأجاب على تحريك الهاء .
وهذه عبارة ابن جني في سر الصناعة في إبدال الهاء من الواو قال : أبدلوها من حرف
واحد وهو قول امرئ القيس : المتقارب ( وقد رابني قولها يا هنا ** هـ ويحك ألحقت
شراً بشر ) فالهاء الأخيرة في هناه بدل من الواو في : هنوك وهنوات وكان أصله هناو
فأبدلت الواو هاء قالوا : هناه . هكذا قال أصحابنا .
ولو قال قائل : إن الهاء إنما هي بدل من الألف المنقلبة عن الواو الواقعة بعد ألف هناه
إذ أصله هناو ثم صارت هنا بألفين كما أن أصل عطاء عطاو ثم صار بعد القلب عطاا فلما
صار هناا التقت ألفان كره اجتماع الساكنين فقلبت الألف الأخيرة هاء فقالوا : هناه
كما أبدل الجميع من ألف عطاا الثانية همزة لئلا يجتمع
____________________
همزتان لكان قولاً قوياً
ولكان أيضاً أشبه من أن يكون قلبت الواو في أول أحوالها هاء من وجهين : أحدهما :
أن من شريطة قلب الواو ألفاً أن تقع طرفاً بعد ألف زائدة وقد وقعت هنا كذلك .
والآخر : أن الهاء إلى الألف أقرب منها إلى الواو بل هما في الطرفين . ألا ترى أن
أبا الحسن ذهب إلى أن الهاء مع الألف من موضع واحد لقرب مكانيهما . فقلب الألف
إذاً هاءً أقرب من قلب الواو هاء . )
وكتب إلي أبو علي من حلب في جواب شيءٍ سألته عنه فقال : وقد ذهب أحد علمائنا إلى
أن الهاء من هناه إنما لحقت في الوقف لخفاء الألف كما تلحق بعد ألف الندبة ثم إنها
شبهت بالهاء الأصلية فحركت .
ولم يسم أبو عليٍّ هذا العالم من هو فلما انحدرت إليه إلى مدينة السلام وقرأت عليه
نوادر أبي زيد نظرت وإذا أبو زيد هو صاحب هذا القول .
وهذا من أبي زيد غير مرضيٍّ عند الجماعة وذلك أن الهاء التي تلحق لبيان الحركات
وحروف اللين إنما تلحق في الوقف فإذا صرت إلى الوصل حذفتها البتة فلم توجد فيه
ساكنة متحركة .
وقد استقصيت هذا الفصل في كتابي في شعر المتنبي عند قوله : البسيط ودللت هناك على
ضعف قول أبي زيد وبيت المتنبي جميعاً . انتهى .
وقال ابن جهور في إعراب أبيات الجمل : واختلف في أصلها فذهب قومٌ إلى أن هذه الهاء
أصل وليست بمبدلة وأنها مثل سنة وعضة التي لامها تارةً هاء وتارةً حرف علة .
____________________
وهذا القول ضعيفٌ من جهة أن باب قلق وسلس قليل .
وذهب آخرون إلى أن الألف والهاء زائدتان وعلى هذا كثيرٌ من البصريين والكوفيين
بدليل قولهم : هن وهنة وأن لام الكلمة محذوفة . وعلى هذا تأتي مسائل التثنية
والجمع والمذكر والمؤنث . فالألف والهاء في كونهما زائدتين نظيرتا الألف والهاء في
الندبة إلا أن هذه الهاء ليست للسكت كما ذهب إليه بعضهم لتحركها وهاء السكت لا
تتحرك .
ومن جعلها هاء سكت قال : زيدت الألف لبعد الصوت وزيدت الهاء للوقف ثم كثر في
كلامهم حتى صارت الهاء كأنها أصلية تحركت .
فإذا ثنيته على هذا قلت : يا هنانيه أقبلا . فالألف والنون للتثنية والياء التي
بعد النون هي الألف التي كانت في هناه فانقلبت ياءً لانكسار ما قبلها وهو نون
التثنية وانكسرت الهاء بعد أن كانت مضمومة لمجاورتها الياء . وتقول في الجمع : يا
هنوناه أقبلوا الواو والنون للجمع والألف وإنما جاز أن يجمع هذا بالواو والنون من
قبل أن هذه الكلمة قد تطرق عليها التغيير بحذف لامها فصارت الواو والنون كالعوض من
لام الكلمة على حد قولهم : سنون .
وتقول في المؤنث : يا هنتاه أقبلي وفي التثنية : يا هنتانيه أقبلا وفي الجمع : يا
هناتوه أقبلن قلبت )
ألف هناه واواً لانضمام ما قبلها كما قلبتها ياءً لانكسار ما قبلها في التثنية .
وهناه كلمة يكنى بها عن النكرات كما يكنى بفلانٍ عن الأعلام . فمعنى يا هناه : يا رجل
.
ولا تستعمل إلا في النداء عند الجفاء والغلظة .
وقيل : إنها كناية عن الفواحش والعورات يكنى بها عما يستقبح ذكره . انتهى .
وقوله : فمعنى هناه : يا رجل مساوٍ لقول الشارح المحقق : للمنادى غير المصرح باسمه
.
وإنما أورده في باب العلم استطراداً بمناسبة هن الذي قد يكنى به عن العلم .
____________________
ولهذا قال : ومنه أي : ومن هنٍ المذكور . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والثلاثون بعد الخمسمائة ) المنسرح على أن هذا البيت
يدل على أن الرقيات في قولهم : قيس الرقيات بالإضافة ليس من باب إضافة الاسم إلى
اللقب بل هو من باب الإضافة لأدنى ملابسة لنكاحه لنسوةٍ اسم كل منها رقية . وقيل :
هن جداته . وقيل : شبب بثلاثٍ كذلك .
ولو كان الرقيات لقباً لقيس لقيل في البيت : قل لابن قيس الرقيات فلما أضاف أخاً
إليه وأتبعه لقيس في إعرابه علم أنه غير لقب لقيس ولو كان لقباً له لقيل قيس
الرقيات إما بتنوين قيس وإتباع الرقيات له بجعله عطف بيان له وإما بإضافته إلى
الرقيات .
فلما أتبعه بإضافة أخ إلى الرقيات علم أنه غير لقب له فعرف أن الإضافة إليها في
قولهم قيس الرقيات للملابسة المذكورة .
هذا على تقرير الشارح . وأما على ما سيأتي فأخي الرقيات تابع لابن لا لقيس . و
العرف بكسر العين وسكون الراء المهملتين قال صاحب العباب : هو الصبر . وأنشد البيت
عن ابن الأعرابي . يتعجب من الصبر في المصائب . و الأخ يستعمل في اللغة على خمسة
معان : الأول : أخو النسب من الأبوين أو من أحدهما .
____________________
الثاني : أخو النسبة إلى القوم يقال : يا أخا تميم لمن هو منهم . وبه فسر قوله
تعالى : يا أخت الثالث : أخو الصداقة . )
الرابع : أخو المجانسة والمشابهة كقولهم : هذا الثوب أخو هذا .
الخامس : أخو الملازمة والملابسة كقولهم : أخو الحرب وأخو الليل .
فإن كان الرقيات عبارةً عن الزوجات أو المعشوقات فالأخ بالمعنى الأخير . وإن كان
أريد بها الجدات فالأخ بالمعنى الثاني .
ولم يذكر الشارح المحقق وجه تلقيبه بالرقيات على تقدير كون الرقيات لقباً . فأقول
: يكون وجهه ما نقله كراع من أنه إنما لقب بهذا لقوله : مجزوء الوافر ( رقية لا
رقية لا ** رقية أيها الرجل ) قال ابن دريد في الوشاح : من الشعراء من غلبت عليهم
ألقابهم بشعرهم حتى صاروا لا يعرفون إلا بها . فمنهم : منبه بن سعد بن قيس بن
عيلان بن مضر وهو أعصر وإنما سمي أعصر بقوله : الكامل ( قالت عميرة ما لرأسك بعدما
** نفد الشباب أتى بلونٍ منكر ) ( أعمير إن أباك غير رأسه ** مر الليالي واختلاف
الأعصر ) ومنهم : شأس بن نهار العبدي سمي الممزق بقوله : الطويل
____________________
ثم ذكر أكثر من خمسين شاعراً
لقب بشعر قاله .
وتفصيل الشارح المحقق في قيس الرقيات أجود من تفصيل ابن الحاجب في شرح المفصل وإن
كان مأخوذاً منه وهذه عبارته : وابن قيس الرقيات عبد الله قال الأصمعي : نكح قيسٌ
نساءً اسم كل واحدةٍ رقية . وقيل : كانت له جداتٌ كذلك .
وقيل : كان يشبب بثلاثٍ كذلك . والاستشهاد على الوجه الضعيف في إضافته على ذلك .
فأما إذا جعل الرقيات لقباً لقيس كانت الإضافة من باب قيس قفة وإما على الوجوب أو
على الأفصح كما تقدم .
ورواية تنوين قيسٍ تقوي الوجه الثاني .
وقوله : ( قل لابن قيسٍ أخي الرقيات ** ما أحسن العرف في المصيبات ) يقوي الوجه
الأول . انتهى . )
أراد بالاستشهاد على الوجه الضعيف الإضافة لأدنى ملابسة . وقوله : تقوي الوجه
الثاني أي : كون الرقيات لقباً .
والقول الأول وهو أن الرقيات أسماء زوجاته قول الأصمعي نقله عنه صاحب الصحاح .
والقول الثاني قاله ابن سلام الجمحي قال : لقب بالرقيات لأن جداتٍ له توالين كلٌّ
منها تسمى رقية .
والقول الثالث قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء . وقال أبو عبيد في كتاب النسب :
سمي بذلك لأنه كان يشبب بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية . وعلى هذا يكون الجمع
عبارة عن اثنتين .
____________________
واعلم أن قول الشارح المحقق تبعاً لغيره إن الرقيات تابعٌ لقيس لا لابنه هو قول
أبي علي فإنه قال : قيس هو الملقب بالرقيات لا اختلاف في ذلك لقب به لأن له جدات
توالين يسمين الرقيات . قاله ابن سلام . انتهى .
وقوله : لا اختلاف في ذلك هو خلاف الواقع فإن الأكثرين ذهبوا إلى أنه لقب لابنه :
إما عبد الله وإما عبيد الله .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : إنما سمي عبد الله بن قيس أحد بني عامر بن لؤي
الرقيات لأنه كان يشبب بثلاث نسوة يقال لهن كلهن رقية .
وكذا في الأغاني . ورأيت بخط الحافظ مغلطاي على هامش كامل المبرد ما نصه : ونقلت
من خط الشاطبي : وافق الأصمعي ابن قتيبة على قوله .
وذكر النحاس عن البرقي أن في أجداده ثلاث نسوة كل امرأة منهن تسمى رقية . فعلى هذا
يقال : عبد الله بن قيس الرقيات على الإضافة . قال ابن بري .
ونقلت من خط الشاطبي أيضاً : رأيت بعض من ألف في النسب يقول : إن ابن قيس . انتهى
ما أورده الحافظ مغلطاي .
وكذلك قال أبو عبيد في النسب : عبيد الله بن قيس سمي بالرقيات لأنه كان يشبب
بامرأتين كلٌّ منهما تسمى رقية . انتهى .
وإذا قيل ابن قيس الرقيات فالمراد ابنه الشاعر فإن لقيس ابنين : عبد الله وعبيد
الله واختلفوا في الشاعر منهما فقال ابن قتيبة والمبرد في الكامل : هو عبد الله
المكبر .
وقال المرزباني في معجمه : هو عبيد الله بالتصغير . قال : ومن الرواة من يقول
الشاعر عبد الله )
وهو خطأ . انتهى .
____________________
وقال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : ذكر المبرد أن اسمه عبد الله بن قيس .
وكذلك قال فيه ابن سلام والجاحظ وابن قتيبة . وقال غيرهم : هو عبيد الله حكاه أبو
عبيد عن الأصمعي وغيره ومنهم الكلبي .
وكذلك قال المصعب الزبيري في أنساب قريش وبين أن له أخاً شقيقاً يقال له : عبد
الله بن قيس ويقال فيه نفسه الرقيات لقبٌ له ويقال ابن الرقيات . واختلف في معنى
تلقيبه بذلك فقال ابن قتيبة : لأنه كان يشبب بثلاث رقيات .
وقال ابن سلام : إنما نسب إلى الرقيات لأن له جداتٍ اسمهن رقيات . وقال كراع : سمي
ابن قيس الرقيات لقوله : رقية لا رقية لا رقية أيها الرجل انتهى .
فأنت ترى أن مبنى كلام هؤلاء الأئمة على أن الملقب بالرقيات إنما هو ابن قيس لا
قيس . ولا جائز أن يقال إنه من قبيل تعدي اللقب من الأب إلى الابن لما نقلنا عن
هؤلاء الأئمة .
وعلى ما ذكرنا جرى صاحب القاموس وخطأ صاحب الصحاح فقال : وعبيد الله بن قيس
الرقيات لعدة زوجاتٍ أو جداتٍ أو حيات له أسماؤهن رقية كسمية . ووهم الجوهري .
انتهى .
وهذه عبارة الصحاح : وعبد الله بن قيس الرقيات إنما أضيف قيس إليهن لأنه تزوج عدة
نسوة . إلى آخر الأقوال الثلاثة .
ونقل السيوطي عن ابن الأنباري في فصل معرفة الألقاب وأسبابها أنه كان
____________________
يختار الرفع في الرقيات ويقول
: إنه لقبٌ لعبد الله لتشبيبه بثلاث نسوة أسماؤهن رقية . وقال غيره : الرقيات
جداته فهو مضاف . انتهى .
يعني أن عبد الله مضافٌ إلى الرقيات على تفسيرها بالجدات فيكون مثل حب رمان زيد
فإن القصد إلى إضافة الحب المختص بكونه للرمان إلى زيد . والمتلبس بالرقيات ابن
قيس لا قيس . وبهذا يوجه رواية جر الرقيات . و ابن قيس الرقيات شاعر قريش . وهذه
نسبته من الجمهرة لابن الكلبي : عبيد الله الذي يقال )
له : ابن قيس الرقيات هو ابن قيس بن شريح بن مالك بن ربيعة بن وهيب بن ضباب بن
حجير بن عبد بن معيص بن عامر بن لؤي بن غالب بن فهر بن النضر .
وعبيد الله وشريح ووهيب وحجير بتقديم المهملة ولؤي هذه الخمسة بالتصغير . و ضباب
بالفتح . و عبد بالإفراد . و معيص بفتح الميم وكسر العين المهملة .
وعبد الله بن قيس أخو عبيد الله الرقيات له عقب ولا عقب لعبيد الله . وأسامة بن
عبد الله بن قيس قتل يوم الحرة وله يقول ابن قيس الرقيات : الكامل ( فنعى أسامة لي
وإخوته ** فظللت مستكاً مسامعيه ) ورقية التي كان يشبب بها ابن قيس الرقيات بنت
عبد الواحد بن أبي سعد ابن قيس بن
____________________
قال الزبير بن بكار : سألت
عمي مصعباً ومحمد بن الضحاك ومحمد بن حسن عن شاعر قريش في الإسلام فكلهم قالوا :
ابن قيس الرقيات .
وفي الأغاني أن ابن قيس الرقيان كان زبيري الهوى خرج مع مصعب بن الزبير على عبد
الملك بن مروان فقاتل معه إلى أن قتل مصعب فخرج هارباً حتى دخل الكوفة فوقف على
باب دارٍ فرأته صاحبة الدار فعرفت أنه خائف فأدخلته عليةً وجاءت إليه بجميع ما
يحتاجه فأقام عندها أكثر من حولٍ وهي لا تسأله من هو ولا يسألها من هي وهي تسمع
الجعل صباحاً ومساءً .
فبينا هو على تلك الحال وإذا بمنادي عبد الملك ينادي ببراءة الذمة ممن أصيب عنده :
فأعلم المرأة أنه راحل فقالت : لا يروعك ما سمعت فإن هذا نداءٌ شائع منذ نزلت بنا
فإن أردت المقام فالرحب والسعة وإن أردت الانصراف فأعلمني . فقال لها : لا بد من
الرحيل .
فلكا كان الليل رقت إليه وقالت : انزل إن شئت . فنزل وإذا راحلتان على إحداهما
رحلٌ والأخرى زاملة ومعهما عبدان ونفقة الطريق فقالت : العبدان لك مع الراحلتين .
فقال لها : من أنت فوالله ما رأيت أكرم منك قالت : أنا التي تقول فيها : المنسرح (
عاد له من كثيرة الطرب ** فعينه بالدموع تنسكب ) وفي رواية الأصمعي أنها قالت له :
ما فعلت بك ما فعلت لتكافئني فسأل عنها فقيل : كثيرة .
فذكرها في شعره .
ثم مضى حتى دخل مكة فأتى أهله ليلاً فلما دخل عليهم بكوا وقالوا : ما خرج عنا طلبك
)
إلا في هذه الساعة فانج بنفسك . فأقام عندهم حتى أسحر ثم نهض ومعه العبدان حتى أتى
المدينة .
____________________
فجاء إلى عبد الله بن جعفر بن أبي طالب عند المساء وهو يعشي أصحابه فجلس معهم وجعل
يتعاجم فلما خرج أصحابه كشف عن وجهه وقال : جئت عائذاً بك .
فكتب ابن جعفر إلى أم البنين بنت عبد العزيز وهي زوجة الوليد بن عبد الملك لتشفع
له فشفعها فيه وقال لها : مريه أن يحضر مجلس العشية .
فحضر مع الناس فأذن لهم وأخر الإذن له حتى اخذوا مجالسهم ثم أذن له فلما دخل عليه
قال عبد الملك : يا أهل الشام أتعرفون هذا قالوا : لا . قال : هذا عبيد الله بن
قيس الرقيات الذي يقول : الخفيف ( كيف نومي على الفراش ولما ** تشمل الشام غارةٌ
شعواء ) ( تذهل الشيخ عن بنيه وتبدي ** عن خدام العقيلة العذراء ) قالوا : يا أمير
المؤمنين اسقنا دم هذا المنافق . قال : الآن وقد أمنته وصار على بساطي وفي منزلي
إنما أخرت الإذن له لتقتلوه فلم تفعلوا فاستأذنه في الإنشاد فأذن له .
____________________
فأنشده : عاد له من كثيرة الطرب حتى وصل فيها إلى قوله : المنسرح ( إن الأغر الذي
أبوه أبو ال ** عاصي عليه الوقار والحجب ) ( خليفة الله في رعيته ** جفت بذاك
الأقلام والكتب ) ( يعتدل التاج فوق مفرقه ** على جبينٍ كأنه الذهب ) فقال له عبد
الملك : يا ابن قيس تمدحني بما يمدح به الأعاجم وتقول في مصعب بن الزبير : الخفيف
( إنما مصعبٌ شهابٌ من ال ** له تجلت عن وجهه الظلماء ) ( ملكه ملك رحمةٍ ليس فيه
** جبروتٌ ولا به كبرياء ) ( يتقي الله في الأمور وقد أف ** لح من كان همه الاتقاء
) أما الأمان فقد سبق لك ولكن والله لا تأخذ مع المسلمين عطاءً أبداً فقال ابن قيس
لابن )
جعفر : وما ينفعني أماني تركت حياً كميتٍ لا آخذ مع الناس عطاء أبداً فقال له ابن
جعفر : كم بلغت من السن قال : ستين سنة .
قال : فعمر نفسك . قال : عشرين سنة . قال : كم عطاؤك قال : ألفا درهم . فأمر له
بأربعين ألف درهم
____________________
وقال ابن قتيبة في كتاب
الشعراء : لما قتل مصعب وصار الأمر إلى عبد الملك بن مروان أتى عبيد الله بن قيس
عبد الله ابن جعفر يستشفع به إلى عبد الملك فقال له عبد الله بن جعفر : إذا دخلت
معي على عبد الملك فكل أكلاً يستشنعه عبد الملك بن مروان .
ففعل فقال : من هذا يا ابن جعفر قال : هذا أكذب الناس إن قتل . قال : ومن هو قال :
الذي يقول : المنسرح ( ما نقموا من بني أمية إ ** لا أنهم يحملون إن غضبوا ) (
وأنهم معدن الملوك فلا ** تصلح إلا عليهم العرب ) قال : قد عفونا عنه ولكن لا يأخذ
مع المسلمين عطاء . فكان ابن جعفر إذا خرج عطاؤه يعطيه منه . انتهى .
وفي رواية صاحب الأغاني : قال ابن قيس الرقيات : تسأل أمير المؤمنين عن أمري . قال
: نعم فركب ابن جعفر فدخل معه إلى عبد الملك فلما قدم الطعام جعل يسيئ الأكل فقال
عبد الملك : من هذا يا بن جعفر قال : هذا إنسانٌ لا يجوز إلا أن يكون صادقاً إن
استبقي وإن قتل كان أكذب الناس . قال : وكيف ذلك قال : لأنه الذي يقول : ( ما نقموا
من بني أمية إ ** لا أنهم يحملون إن غضبوا ) الأبيات .
فإن قتلته لغضبك عليه كذبته فيما مدحكم به . قال : هو آمن ولكن لا أعطيه عطاءً من
بيت المال . قال : ولم وقد وهبته لي فأحب أن تهب لي عطاءه أيضاً كما وهبت لي دمه
وعفوت لي عن ذنبه قال : قد فعلت . قال : قد فعلت . قال : وتعطيه ما
____________________
فاته من العطاء قال : قد فعلت
.
وأمر له بذلك . انتهى .
وقوله : كيف نومي على الفراش البيتين أوردهما ابن السيد في أول أبيات معانيه وقال
: الغارة الاسم والإغارة المصدر . و الشعواء : الواسعة . )
وأنشد بعده الطويل ( ومن طلب الأوتار ما حز أنفه ** قصيرٌ ورام الموت بالسيف بيهس
) ( نعامة لما صرع القوم رهطه ** تبين في أثوابه كيف يلبس ) على أن الشاعر قد أتبع
اللقب الاسم فإن بيهساً اسم رجل و نعامة لقبه وهو عطف بيان لبيهس .
قال شارح اللباب : هذا من الأجراء في المفرد فإن نعامة وبيهس : اسمان لذاتٍ واحدة
والثاني لقب فكان القياس إضافة العلم إلى اللقب وقد أجري عليه .
وكذا قال أبو حيان في تذكرته قال : إذا كان الاسم واللقب مفردين بلا أل أضيف الاسم
إلى اللقب .
وقد يجمع بينهما ويفصل أحدهما عن الآخر وجاء ذلك في الشعر . وأنشد البيتين .
____________________
وما في ما حز إما زائدة أي : ومن طلب الأوتار حز أنفه قصير وهو إشارة إلى قصة قصير
مع الزباء وهي مشهورة . أو مصدرية على أنه مبتدأٌ مع خبره والجار والمجرور وهو من
طلب خبره مقدماً عليه أي : حز أنفه حاصلٌ من جهة طلب الأوتار . و نعامة عطف بيان
لبيهس وهو محل الاستشهاد . ومحل كيف نصبٌ على الحال والعامل يلبس والجملة وهي كيف
مع ما عمل فيه سادٌّ مسد المفعولين لتبين . ولا يجوز أن يكون مفعولاً لتبين لئلا
يبطل صدريته . انتهى .
والبيتان من قصيدة للمتلمس أورد منها أبو تمام في الحماسة بعضها . وهذا أول ما
أورده : الطويل ( ألم تر أن المرء رهن منيةٍ ** صريعٌ لعافي الطير أو سوف يرمس ) (
فلا تقبلن ضيماً مخافة ميتةٍ ** وموتن بها حراً وجلدك أملس ) فمن طلب الأوتار ما
حز أنفه . . . . . . . . . . . . . البيتين ( وما الناس إلا ما رأوا وتحثوا ** وما
العجز إلا أن يضاموا فيجلسوا ) ) ( ألم تر أن الجون أصبح راسياً ** تطيف به الأيام
ما يتأيس ) ( عصى تبعاً أزمان أهلكت القرى ** يطان عليه بالصفيح ويكلس ) ( هلم
إليها قد أثيرت زروعها ** وعادت عليها المنجنون تكدس )
____________________
( وذاك أوان العرض حي ذبابه
** زنابيره والأزرق المتلمس ) ( يكون نذيرٌ من ورائي جنةً ** وينصرني منهم جليٌّ
وأحمس ) ( وجمع بني قران فاعرض عليهم ** فإن تقبلوا هاتا التي نحن نوبس ) ( وإن يك
عنا في حبيبٍ تثاقلٌ ** فقد كان منا مقنبٌ ما يعرس ) هذا ما أورده أبو تمام .
قال ابن الأعرابي : إنما قال هذا فيما كان بين بني حنيفة وبين ضبيعة باليمامة
فأراد بنو حنيفة فنهاهم أن يقيموا على الذل وأن يقبلوا الضيم من قومهم وأمرهم
بقتالهم حتى يعطوهم حقهم .
ومعنى ألم تر : ألم تعلم . يقول : الإنسان مرتهنٌ بأجل فإما أن يموت حتف أنفه
فيدفن وإما أن يقتل في معركة فيترك لعوافي الطير والسباع . وهو جمع عافية وهو كل
طالب رزقٍ من إنسان أو بهيمة أو طائر . و الرمس : الدفن .
وقوله : فلا تقبلن ضيماً إلخ الضيم : الظلم والهضم . و ميتة : فعلة من الموت تكون
للحال والهيئة أي : لا تقبل الضيم مخافة حالةٍ من حالات الموت ونوع من أنواعه .
وميتة مرجع الضمير في بها أي : مت بتلك الميتة حراً لم يستعبدك الحر . وجلدك أملس
: نقيٌّ من العار سليمٌ من العيب .
يريد أن الموت نازل بك على كل حال فلا تتحمل العار خوفاً منه .
____________________
وقوله : فمن طلب الأوتار من للتعليل و ما إما زائدة وإما مصدرية . و الأوتار : جمع
وتر بفتح الواو وكسرها : الثأر والذحل . و حز بالحاء المهملة والزاء المعجمة :
ماضٍ من حززت الخشبة حزاً من باب قتل : فرضتها . والحز : الفرض . وأنفه مفعوله
وقصير فاعله . و صرع مبالغة صرعته صرعاً من باب نفع إذا قتلته . والقوم فاعله
ورهطه مفعوله . و الرهط : ما دون عشرة من الرجال ليس فيهم امرأة وقيل : من سبعة
إلى عشرة . وما دون السبعة إلا ثلاثةٍ نفرٌ . )
وقال أبو زيد : الرهط والنفر : ما دون العشرة من الرجال . وقال ثعلب : الرهط
والنفر والقوم والمعشر والعشيرة معناهم الجمع لا واحد لهم من لفظهم وهو للرجال دون
النساء .
وقال ابن السكيت : الرهط والعترة بمعنًى . ورهط الرجل : قومه وقبيلته الأقربون .
كذا في المصباح . و تبين بمعنى علم . وهذا الكلام من المتلمس تحضيضٌ على دفع الضيم
وركوب الإباء من التزام العار فلذلك أخذ يذكر بحال من لم يزل يحتال حتى أدرك مباغيه
من أعدائه .
وفي البيت إشارةٌ إلى قصتين : إحداهما : قصة قصير صاحب جذيمة الأبرش مع الزباء
والثانية : قصة بيهس .
أما الأولى فقد رواها صاحب الأغاني عن ابن حبيب قال : كان جذيمة الأبرش من أفضل
الملوك رأياً وأبعدهم مغاراً وأشدهم نكاية . وهو أول من استجمع له الملك بأرض
العراق .
فقصد في جموعه عمرو بن الظرب بن حسان بن أذينة بن السميدع بن هوبر العاملي من
عاملة العماليق فجمع عمرٌ و جموعه ولقيه فقتله جذيمة وفض
____________________
جموعه فانفلوا وملكوا بعده
عليهم ابنته الزباء وكانت من أحزم النساء فخافت أن يغزوها ملوك العرب فاتخذت
لنفسها نفقاً في حصنٍ كان لها على شاطئ الفرات وسكرت الفرات في وقت قلة الماء وبني
في بطنه أزجاً من الآجر والكلس متصلاً بذلك النفق وجعلت نفقاً آخر في البرية
متصلاً بمدينة أختها ثم أجرت الماء عليه فكانت إذا خافت عدواً دخلت النفق .
فلما استجمع لها أمرها واستحكم ملكها أرادت أن تغزو جذيمة ثائرةً بأبيها فقالت لها
أختها وكانت ذات رأي وحزم : الرأي ابعثي إليه فأعلميه أنك قد رغبت في أن تتزوجيه
وتجمعي ملكك وسليه أن يجيبك فإن اغتر ظفرت به بلا مخاطرة .
فكتبن إليه بذلك فاستخفه الطمع وشاور أصحابه فكلٌّ صوب رأيه في قصدها وإجابتها إلا
قصير بن سعد بن عمرو بن جذيمة بن قيس بن هلال بن نمارة ابن لخم فقال : هذا رأي
فاتر وغدرٌ حاضر فإن كانت صادقة فلتقبل إليك وإلا فلا تملكها من نفسك .
فلم يوافق جذيمة قوله ورحل إليها فلما دخل عليها أمرت بقطع رواهشه ونزف دمه إلى أن
مات .
فخرج قصيرٌ إلى عمرو بن عدي ابن أخت جذيمة فقال : هل لك في أن أصرف الجنود إليك
على أن تطلب بدم خالك فجعل ذلك له فأتى القادة والأعلام فقال : أنتم القادة
والرؤساء )
وعندنا الأموال والكنوز .
فانصرف إليه منهم بشرٌ كثير وملكوا عمرو بن عدي فقال قصير : انظر ما وعدتني به في
الزباء .
____________________
قال : وكيف وهي أمنع من عقاب الجو فقال : إذا أبيت فإني جادعٌ أنفي وأذني ومحتالٌ
لقتلها فأعني وخلاك ذم . فقال له عمرو : أنت أبصر . فجدع قصيرٌ أنفه ثم انطلق حتى
دخل على الزباء فقال : أنا قصير لا ورب البشر ما كان عليظهر الأرض أحدٌ كان أنصح
لجذيمة مني ولا أغش لك حتى جدع عمرو ابن عدي أنفي وأذني فعرفت أني لم أكن مع أحد
أثقل عليه منك .
فقالت : أي قصير نقبل ذلك منك ونصرفك في بضاعتنا . فأعطته مالاً للتجارة فأتى بيت
مال الحيرة فأخذ مما فيه بأمر عمرو بن عدي ما ظن أنه يرضيها وانصرف إليها به .
فلما رأت ما جاء به فرحت به وزادته ولم يزل بها حتى أنست به فقال لها يوماً : إنه
ليس من ملكةٍ ولا ملك إلا وينبغي لها أن تتخذ نفقاً تهرب إليه عند حدوث حادثة .
فقالت : إني قد فعلت ذلك تحت سريري هذا يخرج إلى نفقٍ تحت سرير أختي . وأرته إياه
.
فأظهر سروراً بذلك وخرج في تجارته كما كان يفعل وعرف عمرو بن عدي ما فعله فركب
عمرو في ألفي دارعٍ على ألف بعير في جوالق حتى إذا صاروا إليها تقدم قصيرٌ ودخل
على الزباء فقال : اصعدي حائط مدينتك فانظري إلى مالك فإني قد جئت بمالٍ صامت .
وقد كانت أمنته فلم تكن تتهمه فلما نظرت إلى ثقل مشي الجمال قالت وقيل إنه مصنوعٌ
منسوب إليها : الرجز ( ما للجمال مشيها وئيدا ** أجندلاً يحملن أم حديدا )
____________________
الأبيات المشهورة .
فلما دخلت الإبل خرجوا من الجوالق فثاروا بأهل المدينة ضرباً بالسيف ودخلوا عليها
قصرها فهربت تريد السرب فوجدت قصيراً قائماً عنده بالسيف فانصرفت راجعة واستقبلها
عمرو بن عدي فضربها . وقيل : بل مصت خاتمها وقالت : بيدي لا بيد عمرو وخربت
المدينة وسبيت الذراري وغنم عمرٌ و كل شيءٍ كان لها ولأبيها وأختها . انتهى .
وأما بيهس الذي يلقب نعامة فهو رجلٌ من بني فزارة وكان يحمق فقتل له سبعة إخوة
فجعل )
يلبس القميص مكان السراويل والسراويل مكان القميص فإذا سئل عن ذلك قال : الرجز
فتوصل بما صوره من حاله عند الناس إلى أن طلب بدماء إخوته .
وقوله : البس لكل حالة إلخ قال الزمخشري في أمثاله : قاله بيهس حين شق قميصه فغطى
به رأسه وكشف استه بعد قتل إخوته . وإنما أراد أنه افتضح بقتلهم وإنه إن لم يثأر
بهم فهو كالمقنع رأسه واسته مكشوفةٌ . يضرب في تلقي كل حال بما يليق بها . انتهى .
وقد أورده في الكشاف عند قوله تعالى : وعلمناه صنعة لبوس على أن أصل لبوس اللباس
بمعنى ما يلبس .
____________________
وقد أخطأ خضرٌ الموصلي في شرح شواهد التفسيرين في نسبته إلى بيهس ابن صهيب القضاعي
وهو شاعر إسلامي في الدولة المروانية وقد ترجمه الأصبهاني في الأغاني بحكاياتٍ
ونقلها خضر منها ونسبها إلى قائل البيت . وقد حصل له اشتباهٌ من اتفاق الاسمين .
وقائل البيت جاهليٌّ وقد ضرب به المثل في الجاهلية .
وقال أبو عبيد : المدركون الثأر في الجاهلية ثلاثة : بيهس وقصير وسيف ابن ذي يزن .
وبيهس صاحب البيت كما في الجمهرة هو بيهس بن خلف بن هلال بن غراب بن ظالم بن فزارة
بن ذبيان . فهو عدنانيٌّ وذاك قحطاني .
قال ابن الكلبي في الجمهرة : بيهس وإخوته التسعة منهم : نفر وربيع وحصين بنو خلف
كانوا والمشهور أنهم سبعة .
وهذه قصته من مجمع الأمثال للميداني قال : بيهس الفزاري الملقب بنعامة كان سابع
سبعة إخوةٍ فأغار عليهم ناسٌ من أشجع بينهم وبينهم حرب وهم في إبلهم فقتلوا منهم
ستة وبقي بيهس وكان يحمق وكان أصغرهم فأرادوا قتله ثم قالوا : وما تريدون من قتل
هذا يحسب عليكم برجلٍ ولا خير فيه . فتركوه فقال : دعوني أتوصل معكم .
فلما كان من الغد نزلوا فنحروا جزوراً في يوم شديد الحر فقالوا : ظللوا لحمكم لا
يفسد . فقال بيهس : لكن بالأثلات لحماً لا يظلل يريد إخوته فذهبت مثلاً .
فلما قال ذلك قالوا : إنه لمنكرٌ وهموا أن يقتلوه ثم تركوه وظلوا يشوون من لحم
الجزور ويأكلون فقال أحدهم : ما أطيب يومنا وأخصبه
____________________
فقال بيهس : لكن على بلدح
قومٌ عجفى . فأرسلها مثلاً . )
ثم انشعب طريقهم فأتى أمه فأخبرها الخبر قالت : فما جاءني بك من بين إخوتك فقال
بيهس : لو خيرت لاخترت . فذهبت مثلاً .
ثم إن أمه عطفت عليه ورقت فقال الناس : لقد أحبت أم بيهس بيهساً . فقال : ثكلٌ
أرأمها ولداً أي : أعطفها على ولد . فأرسلها مثلاً .
ثم إن أمه جعلت تعطيه ثياب إخوته فيلبسها فيقول : يا حبذا التراث لولا الذلة .
فأرسلها مثلاً .
ثم إنه أتى على ذلك ما شاء الله فمر بنسوة من قومه يصلحن امرأة منهن يردن أن
يهدينها لبعض قتلة إخوته فكشف ثوبه عن استه وغطى رأسه فقلن : ويلك ما تصنع يا بيهس
فقال : البس لكل حالة . . البيت .
فأرسلها مثلاً .
ثم أمر نساءً من بني كنانة وغيرها فصنعن له طعاماً فجعل يأكل ويقول : حبذا كثرة
الأيدي في غير طعام . فأرسلها مثلاً فقالت أمه : لا يطلب هذا بثأر فقال : لا تأمن
الأحمق وفي يده سكين . فأرسلها مثلاً .
ثم إنه أخبر أن أناساً من أشجع في غارٍ يشربون فيه فانطلق بخالٍ له يقال له أبو
حنش فقال له : هل لك في غارٍ فيه ظباءٌ لعلنا نصيبٌ منها ويروى : هل لك في غنيمة
باردة . فأرسلها مثلاً .
____________________
فانطلق بيهس بخاله حتى أقامه على فم الغار ثم دفع أبا حنش في الغار فقال : ضرباً
أبا حنش فقال بعضهم : إن أبا حنش لبطل فقال أبو حنش : مكرهٌ أخاك لا بطل . فأرسلها
مثلاً .
وقوله : لكن على بلدح قومٌ عجفى يضرب في التحزن بالأقارب . و بلدح كجعفر : جبلٌ في
طريق جدة على أربعة أميال من مكة .
وقوله : وما الناس إلا ما رأوا إلخ رواه أبو عمرو : الطويل ( وما البأس إلا حمل
نفسٍ على السرى ** وما العجز إلا نومةٌ وتشمس ) ومعنى الأول : ما الناس إلا رؤية
وتحدث أي : اعتبار بالمشاهدة أو بما يروى من أخبار الأمم .
وقوله : ألم تر أن الجون إلخ بفتح الجيم : حصن اليمامة . يقول : لا توعدونا فإن
حصننا حصين لا يوصل إليه ولا يستباح حماه . وجملة : تطيف إلخ إما في موضع خبر ثان
لأصبح وإما صفة )
لراسياً . وما يتأيس : لا يلين في موضع الحال .
وقوله : عصى تبعاً أزمان إلخ يقول : إن تبعاً لما غزا القرى والمدن لم يصل إلى
اليمامة . و يطان عليه بالصفيح أي : يجعله بدل طينه في الإصلاح والعمارة .
ويجوز أن يكون بالصفيح حالاً أي : يطان ويكلس بصفاحه أي : هو مبنيٌّ بالحجارة . و
يكلس : يصهرج . والكلس : الصاروج . و الصفيح : الحجارة العراض .
____________________
ومعناه أنه يبنى على المياه التي هي كالصفيح . والصفيح : السيوف واحدها صفيحة .
ويشبه الماء إذا كان صافياً بالسيف . وذكر الماء وأراد العمارة لأنها به تكون .
وقوله : هلم إليها إلخ يخاطب النعمان . وهذا تهكمٌ وسخرية . يقول : إن قدرت عليها
فاقصدها فإنها أخصب ما يكون مزدرعها مثار ودواليبها تدور . وضمير إليها لليمامة .
و المنجنون : الدولاب . ومعنى تكدس : يركب بعضها بعضاً في الدوران . ويستعمل في
سير الدواب وغيرها .
وقوله : وذاك أوان العرض بكسر العين المهملة : واد من أودية اليمامة . وحي أي :
عاش بالخصب . وروى : جن أي : كثر ونشط . وزنابيره بدل من ذبابه . وذباب الروض قد
يسمى الزنابير .
وقوله : الأزرق المتلمس : جنسٌ آخر يكون أخضر ضخماً . و المتلمس : الطالب .
وقد سمي الشاعر المتلمس بهذا البيت واسمه جرير . ولك أن تنصب الأوان وترفع العرض
بالابتداء واسم الزمان يضاف إلى الجمل كأنه قال : وهذا الذي ذكرت هو في ذاك الأوان
.
وقوله : يكون نذير من ورائي إلخ هو نذير من بهثة بن وهب . وقيل : أراد بالنذير :
المنذر .
والمعنى : إني لمرصدٌ لهم من ينذرني بهم فأتقي وأتحرز . و جليٌّ بضم الجيم وفتح
اللام وتشديد الياء و أحمس : بطنان من ضبيعة بن ربيعة .
يقول : فإذا جاء وقت التحارب قام بنصري هذان البطنان . وقيل : نذيرٌ وجليٌّ :
أخوان وقوله : وجمع بني قران إلخ جمع منصوب بفعل مضمر كأنه قال : سم جمع بني قران
.
____________________
ومعنى البيت : أجرونا مجرى نظائرنا فإنا نرضى بهم قدوة واعرضوا ما تسوموننا على
بني قران فإن التزموه وقبلوه فلنا بهم أسوة وإلا فالامتناع واجب .
وقوله : هاتا إلخ أي : هذه الخطة التي نكره عليها . و الأبس : القهر . وقال ابن
الأعرابي : أبست )
الرجل إذا لقيته بما يكره وأبسته إذا وضعت منه باستخفافٍ وإهانة .
قوله : فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله إلخ أعاد الشرط وذلك أنه قال قبل هذا : فإن
يقبلوا هاتا ولم يأت له بجواب ثم قال : فإن يقبلوا بالود نقبل بمثله فاكتفى بجوابٍ
واحد لاشتماله على ما يكون جواباً لهما فكأنه قال : إن قبلوا ما نوبس به نقبل مثله
وأن أقبلوا بعد ذلك وادين أقبلنا وإلا فنحن أشد أو أبلغ شماساً أي : امتناعا .
وكانوا بنو ضبيعة حلفاء لبني ذهل بن ثعلبة بن عكابة فوقع بينهم نزاع فعاتبهم
المتلمس .
وقوله : وإن يك عنا إلخ أراد : حبيب فخفف وهو حبيب بن كعب بن يشكر بن بكر بن وائل
. يقول : إن تكاسل بنو حبيب عن إدراك ثأرنا فقد كان منا من يدأب ويسهر . و المقنب
بالكسر : زهاء ثلثمائةٍ من الخيل . و التعريس : النزول في آخر الليل .
وقوله : ما يعرس أي : ما يستقرون إذا وتروا ولكنهم يغزون ويغيرون أبداً حتى يدركوا
و المتلمس شاعرٌ جاهلي واسمه جرير بن عبد المسيح وسمي المتلمس بالبيت المذكور .
وقد تقدمت ترجمته مفصلة في الشاهد التاسع والستين بعد الأربعمائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل ألا يا ديار الحي بالسبعان على أن السبعان أعرب بالحركة على النون مع لزوم
الألف . وإذا نسب إليه قيل : السبعاني .
وقال الزمخشري في باب النسب في المفصل : ومنذ لك قنسريٌّ ونصيبيٌّ فيمن جعل
الإعراب قبل النون . ومن جعله معتقب الإعراب قال : قنسريني . وقد جاء مثل ذلك في
التثنية قالوا : خليلانيٌّ وجاءني خليلان اسم رجل . وعلى هذا قوله : ألا يا ديار
الحي بالسبعان قال ابن المستوفي : وجدت بخط الزمخشري : ومن جعله معتقب الإعراب
بكسر القاف . وقد صحح عليه مرتين . فالمفتوح القاف مصدر والمكسورها اسم فاعل .
انتهى .
____________________
وقد أورد سيبويه هذا المصراع في أوزان الأسماء قال : ويكون على فعلانٍ وهو قليل
قالوا : السبعان وهو اسمٌ .
قال ابن مقبل : ألا يا ديار الحي بالسبعان انتهى .
وأورده ابن قتيبة في أدبالكاتب على أنه لم يأت اسمٌ على فعلان إلا حرف واحد .
وكذلك قال أبو عبيدٍ عبد الله البكري في شرح أمالي القالي . وقال في معجم ما
استعجم : السبعان بفتح أوله وضم ثانيه على بناء فعلان هكذا ذكره سيبويه وه جبلٌ
قبل الفلج . وأنشد هذا البيت . و الفلج بفتح الفاء وسكون اللام بعدها جيم : موضعٌ
في بلاد بني مازن وهو في طريق البصرة إلى مكة .
وقال ياقوت في معجم البلدان : السبعان منقول من تثنية السبع بفتح فضم قال أبو
منصور : هو موضعٌ معروف في ديار قيس .
وقال نصر : السبعان : جبلٌ قبل فلج وقيل : واد شمالي سلم عنده جبلٌ يقال له :
العبد أسود وهذا المصراع وقع صدر بيتٍ هو مطلع قصيدتين لشاعرين إحداهما لتميم بن
مقبل وهو )
شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب .
والثانية لشاعر جاهليٍّ من بني عقيل .
____________________
أما الأولى وهي المشهورة التي ذكرها شراح الشواهد فهذه أبيات من أولها : ( ألا يا
ديار الحي بالسبعان ** أمل عليها بالبلى الملوان ) ( نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهما **
على كل حال الناس يختلفان ) ( ألا يا ديار الحي لا هجر بيننا ** ولكن روعاتٍ من
الحدثان ) ( لدهماء إذ للناس والعيش غرةٌ ** وإ خلقانا بالصبا عسران ) وقوله : ألا
يا ديار الحي إلخ ألا : حرف تنبيه . يتأسف على ديار قومه بهذا المكان ويخبر أن
الملوين وهما الليل والنهار أبلياها ودرساها . و الحي : القبيلة .
وقوله : بالسبعان متعلق بمحذوف على أنه حال من ديار .
وقوله : أمل عليها فيه التفاتٌ لأنه لم يقل عليك . قال الجواليقي في شرح أدب
الكاتب : هو من أمللت الكتاب أمله . خاطبها ثم خرج عن خطابها إلى الإخبار عن
الغائب .
وقيل : ويجوز أن يكون من أمللت الرجل إذا أضجرته وأكثرت عليه ما يؤذيه كأن الليل
والنهار أملاها من كثرة ما فعلا بها من البلى . و الملوان : الليل والنهار ولا
يفرد واحدٌ منهما . يريد أن الليل والنهار أملا عليها أسباب البلى فزاد الباء كما
قال : البسيط
____________________
لا يقرأن بالسور انتهى .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : أمل بمعنى دأب ولا زم ومن هذا قيل
للدين : ملة لأنها طريقة تلازم . وقال الأصمعي : أمل في معنى أملى أي : طال .
انتهى .
وقال الجوهري : أمله وأمل عليه أي : أسأمه فأراد بأمل عليها أسامها الملوان بالبلى
لكثرة اختلافهما عليها . و البلى بالكسر والقصر مصدر بلي الثوب يبلي من باب تعب
بلًى وبلاءً بالفتح والمد أي : خلق فهو بالٍ . وبلي الميت : أفنته الأرض .
وأنشد ابن السكيت هذا البيت في إصلاح المنطق على أن الملوين فيه بمعنى الليل
والنهار .
وقال أبو عبيد البكري وابن السيد في شرح أبيات أدب الكاتب : جعل الشاعر الملوين
هنا بمعنى الغداة والعشي ويدل عليه قوله بعده : )
نهارٌ وليلٌ دائبٌ ملواهما و دأب : اجتهد وبالغ في العمل .
وقوله : على كل متعلق بدائب . و الروعة : المرة من الروع وهو الفزع . والحدثان
مصدر حدث الشيء من باب قعد إذا تجدد . أراد حوادث الدهر . و الغرة بالكسر : الغفلة
. و خلقانا : مثنى خلق بضمتين مضاف إلى نا .
____________________
وأما الثانية فقد أورد خمسة أبيات من أولها إبراهيم الحصري في كتابه زهر الآداب
وقال : إنها لشاعرٍ جاهلي من بني عقيل . وتابعه ياقوت في معجم البلدان وهي : ( ألا
يا ديار الحي بالسبعان ** عفت حججاً بعدي وهن ثماني ) ( فلم يبق منها غير نؤيٍ
مهدمٍ ** وغير أثافٍ كالركي دفان ) ( وآثار هابٍ أورق اللون سافرت ** به الريح
والأمطار كل مكان ) ( قفارٌ مروراةٍ يحار بها القطا ** ويضحي بها الجأبان يفترقان
) ( ينيران من نسج الغبار ملاءةً ** قميصين أسمالاً ويرتديان ) وقوله : عفت حججاً يقال
: عفت الدار تعفو أي : اندرست وذهب أثرها . و الحجج : جمع حجة بكسر أولهما : السنة
.
وروى ياقوت : خلت حججٌ بعدي لهن ثمان و الأثافي : جمع أثفية وهي ثلاثة أحجار تكون
عليها القدر . و الركي : جمع ركية وهي البئر . و دفان بكسر الدال بعدها فاء يقال :
ركية دفين ودفان إذا اندفن بعضها . والجمع دفن بضمتين .
وقوله : وآثار هابٍ الهابي : التراب الناعم الدقيق وهو اسم فاعل من هبا يهبو هبواً
أي : ارتفع . والهباء : دقاق التراب . والهابي أيضاً : تراب القبر .
____________________
وأنشد له الأصمعي : الطويل ( وهابٍ كجثمان الحمامة أجفلت ** به ريح ترجٍ والصبا كل
مجفل ) والمراد به هنا الرماد لأن الورقة هي لون الرماد .
وقوله : قفار مروراة إلخ القفار : جمع قفر وهو المكان الذي لا ماء فيه ولا نبات
وهو صفة )
لمكانٍ قبله . و المروراة بفتح الميم والراء قال في الصحاح : هي المفازة التي لا
شيء فيها وهي فعوعلة والجمع المرورى والمروريات والمراوي . و الجأب بفتح الجيم
وسكون الهمزة : الحمار الغليظ من حمر الوحش . وأراد بالجأبين الذكر والأنثى وإنما
يفترق كل منهما عن الآخر لعدم القوت .
وقوله : ينيران من نسج إلخ أي : يحوكان يقال : أنرت الثوب وهنرته أي : حكته .
ويقال أيضاً : وفي القاموس : النير علم للثوب . ونرت الثوب نيراً ونيرته وأنرته :
جعلت له نيراً . وهدب الثوب : لحمته . ومن نسج كان صفةً لقميصين فلما قدم عليه صار
حالاً منه . و الملاءة بالضم والمد : الريطة . و قميصين : بدل من ملاءة و ملاءة :
مفعول ينيران و عليهما : حال من الغبار . و أسمالاً : خلقاً يقال : ثوب أسمالٌ أي
: خلق . و يرتديان : معطوف على ينيران ومعناه يلبسان . يريد أن الحمارين لشدة
عدوهما يثور التراب ويعلوهما فيصير كالثوب عليهما . وإنما اشتد عدوهما للنجاة من
هذه المفازة .
قال ياقوت : زعموا أن أول من جعل الغبار ثوباً هذا الشاعر . وكذلك قال الحصري : هو
أول من نظر إلى هذا المعنى وتبعته الخنساء في قولها من أبيات وقد
____________________
قيل لها : لقد مدحت أخاك حتى
هجوت أباك فقالت : الكامل ( جارى أباه فأقبلا وهما ** يتعاوران ملاءة الحضر ) وهذه
أبرع عبارة وأنصع استعارة .
وتبعها عدي بن الرقاع في وصف حمار وأتانه : الكامل ( يتعاوران من الغبار ملاءةً **
بيضاء محدثةً هما نسجاها ) ( تطوى إذا وردا مكاناً جاسياً ** وإذا السنابك أسهلت
نشراها ) قال شارح ديوانه : قوله : يتعاوران إلخ أي : تصير الغبرة للعير مرة
وللأتان مرة . ويقال من العارية : قد تعورنا العواري . والمكان الجاسي : الغليظ
فإذا جريا فيه لم يكن لهما غبرةٌ وإذا أسهلا أي : صارا إلى سهولة الأرض ثار لهما
غبار .
فجعل إثارة الغبار بمنزلة ملاءة تنشر عليهما وزوال الغبار بمنزلة طي الملاءة .
وهذا أحسن ما قيل في وصف الغبار والعجاج .
وإلى هذا المعنى أشار أبو تمام الطائي في وصف كثرة ظعنه وقصده الملوك : الوافر ) (
يثير عجاجةً في كل يومٍ ** يهيم بها عدي بن الرقاع ) وقد سلك البحتري طريقة
الخنساء وأحسن فيه إذ يقول في يوسف بن أبي سعيد : الكامل ( جدٌّ كجد أبي سعيدٍ إنه
** ترك السماك كأنه لم يشرف )
____________________
( قاسمته أخلاقه وهي الردى **
للمعتدي وهي الندى للمعتفي ) ( فإذا جرى في غايةٍ وجريت في ** أخرى التقى شأواكما
في المنصف ) وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد الخمسمائة ) ( ولها
بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) على أن أبا علي قال : الماطرون مجرور
بكسرةٍ على النون .
أقول : قاله في باب ما جعلت فيه النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع
حرف إعراب من كتاب إيضاح الشعر وهذا نصه : اعلم أن هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب
صارت ثابتة في الكلمة فلم تحذف في الإضافة كما كانت تحذف قبل كما لا تحذف نون فرسن
وضيفن ورعشن ونحو ذلك من النونات التي تكون حرف إعراب وإن كانت زائدة .
ويكون حرف اللين قبلها الياء ولا يكون الواو لأن الواو تدل على إعرابٍ بعينه فلم
يجز ثباتها من حيث لم يجز ثبات إعرابين في الكلمة .
ألا ترى أنهم إذا نسبوا إلى رجلان ونحوه من التثنية حذفوا فقالوا : رجليٌّ مع أن
الألف قد لا تدل على إعراب بعينه لأن قوماً يجعلون حرف الإعراب في الأحوال الثلاث
ألفاً .
فإذا حذفوا ذلك مع أنهم قد جعلوها بمنزلة الدال فيه لا يكون لإعرابٍ مخصوص
____________________
فأن لا تثبت الواو الدالة على
إعراب مختصٍّ أولى .
فأما من أجاز ثبات الواو في هذا الضرب من الجمع وزعم أن ذلك يجوز فيه قياساً على
قولهم : زيتون فقوله في ذلك يبعد من جهة القياس مع أنا لم نعلمه جاء في شيء عنهم .
وذلك أن هذه الواو لم تكن قط إعراباً ولا دالاًّ عليه كما كانت التي في مسلمون .
فالواو في زيتون كالتي في منجنون في أنه لم يكن قط إعراباً كما أن التي في منجنون
كذلك .
وعلى ما ذهب إليه الناس جاء التنزيل وهو قوله تعالى : ولا طعامٌ إلا من غسلين لما
صارت )
النون حرف إعراب صار حرف اللين قبله الياء . وقال تعالى : لفي عليين وا أدراك ما
عليون .
فأما قول الشاعر : ( ولها بالماطرون إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) فأعجميٌّ وليست
الواو فيه إعراباً كالتي في سنين . فأما ثبات الياء في سنين وفلسطين وقنسرين فإنها
لما لم تدل على إعراب بعينه أشبهت الياء التي في شمليل وقنديل ولذلك ثبتت في النسب
ولم تحذف كما حذف ما يكون في ثباته في الاسم اجتماع علامتين للإعراب .
وقد كثر هذا الضرب من الجمع حتى لو جعل قياساً مستمراً كان مذهباً . انتهى .
ومثله قول ابن جني في سر الصناعة : فأما الماطرون فليست النون فيه بزائدة لأنها
تعرب .
قال : ولها بالماطرون إذا
____________________
وفيه ردٌّ لمن جعل الكلمة
ثلاثية كصاحب القاموس فإنه قال في مادة مطر : وماطرون : قرية بالشام .
وفيه أنه كان يجب أن يقول : الماطرون .
وقد خالف الجوهري فرواه الناطرون بالنون وقال : الناطرون : موضعٌ بناحية الشام والقول
في إعرابه كالقول في نصيبين وينشد هذا البيت بكسر النون : ولها بالناطرون إذا . .
. . . . . . . . . . . . البيت ورد عليه الصاغاني في العباب فقال : الماطرون :
موضع قرب دمشق . وقال بعض من صنف في اللغة : الناطرون : موضع بناحية الشام .
وكذلك غلطه صاحب القاموس . ولم يذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم .
وقال العيني كالشارح المحقق : في شرح كتاب سيبويه : الماطرون بالميم وطاء مفتوحة
والمشهور الماطرون بالميم وكسر الطاء . وقال أبو الحسن القفطي : الماطرون : بستانٌ
بظاهر دمشق .
ثم قال : والبيت من أبياتٍ ليزيد بن معاوية بن أبي سفيان تغزل بها في نصرانية قد
ترهبت في ديرٍ خراب عند الماطرون وهو بستان بظاهر دمشق يسمى اليوم الميطور .
وأولها : المديد
____________________
( راعياً للنجم أرقبه ** فإذا
ما كوكبٌ طلعا ) ) ( حال حتى إنني لأرى ** أنه بالفور قد رجعا ) ( ولها بالماطرون
إذا ** أكل النمل الذي جمعا ) ( خرفةٌ حتى إذا ارتبعت ** سكنت من جلقٍ بيعا ) ( في
قبابٍ حول دسكرةٍ ** حولها الزيتون قد ينعا ) آب : رجع . واكتع : افتعل من الكنع
بالكاف والنون قال صاحب العباب : اكتنع الليل : حضر ودنا . وأنشد هذا البيت . و
أمر بالبناء للمفعول بمعنى جعل مراً .
وقوله : ولها بالماطرون اللام متعلقة بمحذوف على أنه خبر مقدم وخرفة : مبتدأ مؤخر
وضمير المؤنث للنصرانية التي تغزل بها وبالماطرون فاعل لها و إذا ظرف عامله متعلق
باللام . و الخرفة بضم الخاء المعجمة وبالفاء : المخترف والمجتنى وقيل ما يجتنى .
وهذه الرواية رواية المبرد في الكامل .
وروى صاحب العباب في البيت : خلقة بالكسر بدل خرفة . وقال : خلفة الشجر : شجرٌ
يخرج بعد الثمر الكثير .
وكذا روى العيني عن ابن القوطية أنه قال : الرواية هي الخلفة باللام وهو ما يطلع
من الثمر بعد و النمل : فاعل أكل و الذي : مفعوله والعائد محذوف أي : جمعه . و
ارتبعت : دخلت في الربيع . ويروى : ربعت بمعناه .
____________________
ويروى : ذكرت بدل سكنت . و جلق بكسر الجيم واللام المشددة المكسورة : مدينة بالشام
.
ومن جلق كان صفة لقوله بيعا فلما قدم عليه صار حالاً منه . و بيعا : مفعول سكنت أو
ذكرت وهو جمع بيعة بالكسر .
قال الجوهري وصاحبا العباب والمصباح : هي للنصارى . وقال العيني : البيعة لليهود
والكنيسة للنصارى . وهذا لا يناسب قوله إن الشعر في نصرانية .
ومعنى البيتين أن لهذه المرأة تردداً إلى الماطرون في الشتاء فإن النمل يخزن الحب
في الصيف ليأكله في الشتاء ولا يخرج إلى وجه الأرض من قريته . وإذا دخلت في أيام
الربيع ارتحلت إلى البيع التي بجلق .
وقال العيني : قوله بالماطرون صفةٌ لخرفة . وهذا مخالفٌ لقولهم إن صفة النكرة إذا
تقدمت صارت حالاً منه . وقال : إذا للوقت والتقدير : لها خرفة وقت أكل النمل ما
جمعه . )
وقوله : في قباب حول إلخ الظرف : صفة لقوله بيعا وهو جمع قبة . و الدسكرة بفتح
الدال نقل صاحب العباب عن الليث أنها بناءٌ يشبه قصراً حوله بيوتٌ وجمعها دساكر
تكون قال المبرد في الكامل : أينعت الثمرة إيناعاً أي : أدركت . وينعت ينعاً
وينعاً بالفتح والضم .
ويقرأ : انظروا إلى ثمره إذا أثمر وينعه وينعه كلاهما جائز .
وأنشد هذه الأبيات الثلاثة الأخيرة وقال : قال أبو عبيدة : هذا الشعر يختلف فيه
فبعضهم ينسبه إلى الأحوص وبعضهم ينسبه إلى يزيد بن معاوية . انتهى .
وقد سها العيني هنا في قوله : الاستشهاد بالماطرون حيث نزل منزلة الزيتون في
إلزامه الواو وإعرابه بالحروف وصوابه وإعرابه بالحركات .
ولو استشهد الشارح المحقق بقوله : الخفيف
____________________
( طال ليلي وبت كالمجنون **
واعترتني الهموم بالماطرون ) كما استشهد به ابن هشام في شرح الألفية لكان أولى فإن
كسرة النون صريحة لوقوعها في القافية .
وهو مطلع قصيدة وبعده : الخفيف ( صاح حيا الإله حياً ودوراً ** عند أصل القناة من
جيرون ) ( عن يساري إذا دخلت إلى الدا ** ر وإن كنت خارجاً فيميني ) ( فلتلك
اغتربت بالشام حتى ** ظن أهلي مرجمات الظنون ) ( وإذا ما نسبتها لم تجدها ** في
سناءٍ من المكارم دون ) ( تجعل المسك واليلنجوج والن ** د صلاءً لها على الكانون )
____________________
( ثم خاصرتها إلى القبة الخض
** راء تمشي في مرمرٍ مسنون ) ( قبةٌ من مراجلٍ ضربتها ** عند حد الشتاء في قيطون
) ( ثم فارقتها على خير ما كا ** ن قرينٌ مقارناً لقرين ) ( فبكت خشية التفرق للبي
** ن بكاء الحزين إثر الحزين ) ( ليت شعري أمن هوًى طار نومي ** أم براني ربي قصير
الجفون ) و جيرون : بابٌ من أبواب دمشق . و الرجم : الكلام بالظن . و اليلنجوج
بجيمن : عود البخور .
وروى بدله : الألوة بفتح الهمزة وضم اللام وهو العود أيضاً . و الصلاء بالكسر
والمد : التدفي )
بالنار . و المخاصرة : أن يضع كل واحد من اثنين يده على خصر الآخر . و المسنون :
الأملس المجلو . و المراجل : جمع مرجل بالكسر .
وقال ابن الأعرابي وحده : بفتح الميم هو ضربٌ من برود اليمن . كذا في العباب .
وأخطأ العيني في قوله : هو القدر من النحاس إذ لا مناسبة له هنا . و القيطون :
المخدع .
____________________
قال العيني : هذه القصيدة لأبي دهبلٍ الجمحي وهو شاعرٌ إسلاميٌّ شبب فيها بعاتكة
بنت معاوية حين حجت ورجع معها إلى الشام فمرض بها . ويقال : إن يزيد قال لأبيه إن
أبا دهبل ذكر رملة ابنتك فاقتله . فقال : أي شيءٍ قال قال : ( هي زهراء مثل لؤلؤة
الغ ** واص . . . . . . . . . . البيت ) قال معاوية : لقد أحسن قال : فقد قال :
وإذا ما نسبتها . . . . . . . . . . . . . البيت قال : صدق قال : فقد قال : ثم
خاصرتها إلى القبة . . . . . . . . . . . . . البيت فقال معاوية : كذب وقال ثعلب :
حدثنا الزبير قال : حدثني مصعب قال : حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله قال : خرج أبو
دهبل يريد الغزو وكان رجلاً صالحاً جميلاً فلما كان بجيرون جاءته امرأة فأعطته
كتاباً فقال : اقرأ لي هذا الكتاب . فقرأه لها ثم ذهبت فدخلت قصراً وخرجت إليه
فقالت : لو تبلغت معي إلى هذا القصر فقرأته على امرأةٍ فيه كان لك فيه أجر .
فبلغ معها القصر فلما دخله فإذا فيه جوارٍ كثيرة فأغلقن عليه القصر وإذا امرأةٌ
وضيئةٌ تدعوه إلى نفسها فأبى فحبس وضيق عليه حتى كاد يموت .
ثم دعته إلى نفسها فقال : أما الحرام فو الله لا يكون ولكن أتزوجك . فتزوجته وأقام
معها زماناً طويلاً لا يخرج من القصر حتى يئس منه وتزوج بنوه وبناته واقتسموا ماله
وأقامت زوجته تبكي عليه حتى عميت .
ثم إن أبا دهبل قال لامرأته : إنك قد أثمت في وفي أهلي وولدي فأذني لي
____________________
في المصير إليهم وأعود إليك .
فأخذت عليه العهود أن لا يقيم إلا سنة . فخرج من عندها وقد أعطته مالاً كثيراً حتى
قدم على أهله فرأى حال زوجته فقال لأولاده . أنتم قد ورثتموني وأنا حيٌّ )
وهو حظكم والله لا يشرك زوجتي فيما قدمت به أحد . فتسلمت جميع ما أتى به .
ثم إنه اشتاق إلى زوجته الشامية وأراد الخروج إليها فبلغه موتها فأقام وقال هذه
القصيدة .
ويقال : إنها لعبد الرحمن بن حسان بن ثابت . وذهب إليه الجوهري وغيره .
وقال ابن بري : الصحيح أنها لأبي دهبل . انتهى كلام العيني .
ولم ينسبها أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني إلا لعبد الرحمن بن حسان قال : حدثنا
محمد بن العباس اليزيدي قال : حدثنا أحمد بن الحارث الخراز قال : حدثنا المدائني
عن أبي عبد الرحمن المبارك قال : شبب عبد الرحمن بن حسان بأخت معاوية فغضب يزيد
فدخل على معاوية فقال لمعاوية : يا أمير المؤمنين اقتل عبد الرحمن بن حسان . قال :
ولم قال : شبب بعمتي . قال : وما قال قال : قال : ( طال ليلي وبت كالمحزون **
ومللت الثواء في جيرون ) قال معاوية : يا بني وما علينا من طول ليله وحزنه أبعده
الله .
وهذا هو مطلع القصيدة عند صاحب الأغاني وليس فيه ذكر الماطرون قال يزيد : إنه يقول
: فلذاك اغتربت بالشام . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : يا بني وما علينا
من ظن أهله قال : إنه يقول : ( هي زهراء مثل لؤلؤة الغ ** واص . . . . . . . . . .
البيت )
____________________
قال : صدق يا بني . قال :
وإنه يقول : وإذا ما نسبتها لم تجدها . . . . . . . . . . . . . . البيت قال : صدق
يا بني هي هكذا .
قال : إنه يقول : ثم خاصرتها إلى القبة . . . . . . . . . . . . . . البيت قال :
خاصرتها : أخذت بخصرها وأخذت بخصري ولا كل هذا بابني ثم ضحك وقال : أنشدني ما قال
أيضاً .
فأنشده قوله : ) ( قبة من مراجلٍ نصبوها ** عند حد الشتاء في قيطون ) عن يساري إذا
دخلت . . . . . . . . . . . . . . البيت تجعل الند والألوة . . . . . . . . . . .
. . . البيت ( وقباب قد أشرجت وبيوتٌ ** نطقت بالريحان والزرجون ) قال : يا بني
ليس يجب القتل في هذا والعقوبة دون القتل ولكنا نكفه بالصلة له والتجاوز عنه .
ونسخت من كتاب ابن النطاح : وذكر الهيثم بن عدي عن ابن دأب قال : حدثنا شعيب بن
صفوان أن عبد الرحمن بن حسان بن ثابت كان يشبب بابنة معاوية ويذكرها في شعره فقال
الناس لمعاوية : لو جعلته نكالاً فقال : لا ولكن أداويه بغير ذلك .
فأذن له وكان يدخل عليه في أخريات الناس ثم أجلسه على سريره معه وأقبل عليه بوجهه
وحديثه ثم قال : إن ابنتي الأخرى عاتبةٌ عليك .
قال : في أي شيءٍ قال : في مدحتك أختها وتركك إياها . قال : فلها العتبى وكرامةٌ
أنا ذاكرها وممتدحها .
____________________
فلما فعل وبلغ ذلك الناس قالوا : قد كنا نرى أن نسيب عبد الرحمن بن حسان بابنة
معاوية لشيءٍ فإذا هو على رأي معاوية وأمره . وعلم من كان يعرف أنه ليس له بنت
أخرى أنه إنما خدعه ليشبب بها ولا أصل لها ليعلم الناس أنه كذب على الأولى لما ذكر
الثانية .
هذا ما أورده صاحب الأغاني . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الخفيف (
ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن لواً وإن ليتاً عناء ) على أن الكلمة المبنية إذا
أريد بها لفظها فالأكثر حكايتها على ما كانت عليه وقد تجيء معربةً كما في البيت
كما أعرب ليتٌ الأولى بالرفع على الابتداء ونصب الثانية مع لو بإن .
وأورده سيبويه في تسمية الحروف والكلم قال : والعرب تختلف فيها يؤنثها بعض ويذكرها
وأما ليت و إن فحركت أواخرها بالفتح لأنها بمنزلة الأفعال فإذا صيرت واحداً منهما
اسماً فهو ينصرف على كل حال . وإن جعلته اسماً للكلمة
____________________
وأنت تريد لغة من ذكر لم
تصرفها وإن سميتها بلغة من أنث كنت بالخيار .
إلى أن قال : وأما أو و لو فهما ساكنا الأواخر فإذا صارت كل واحدة منهما اسماً
فقصتها في التأنيث والتذكير والانصراف وترك الانصراف كقصة ليت وإن إلا أنك تلحق
واواً آخر فتثقل .
وذلك لأنه ليس في كلام العرب اسم آخره واو قبلها حرف مفتوح .
قال أبو زبيد : ( ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن ليتاً وإن لواً عناء ) وقال آخر :
الطويل ( ألام على لوٍّ ولو كنت عالماً ** بأذناب لوٍّ لم تفتني أوائله ) انتهى
كلام سيبويه .
قال الأعلم : الشاهد في تضعيف لو لما جعلها اسماً وأخبر عنها لأن الاسم المفرد
المتمكن لا يكون على أقل من حرفين متحركين والواو في لو لا تتحرك فضوعفت لتكون
كالأسماء المتمكنة .
ويحتمل الواو بالتضعيف الحركة . وأراد ب لو ها هنا لو التي للتمني في نحو قولك :
لو أتيتنا لو أقمت عندنا أي : ليتك أتيت . أي : أكثر التمني يكذب صاحبه ويعنيه ولا
يبلغ فيه مراده .
انتهى .
والبيت من قصيدة لأبي زبيدٍ الطائي أورد منها الأعلم في باب النسيب من حماسته ستة
أبيات وهي : الخفيف )
____________________
( ولقد مت غير أني حيٌّ **
يوم بانت بودها خنساء ) ( من بني عامرٍ لها شق قلبي ** قسمةً مثل ما يشق الرداء )
( أشربت لون صفرةٍ في بياضٍ ** وهي في ذاك لدنةٌ غيداء ) ( كل عينٍ متى تراها من
النا ** س إليها مديمةٌ حولاء ) ( ليت شعري وأين مني ليتٌ ** إن ليتاً وإن لواً
عناء ) ( أي ساعٍ سعى ليقطع شربي ** حين لاحت للصابح الجوزاء ) قوله : ولقد مت إلخ
يعني أنا لشدة الحزن ميت إلا أني في عداد الأحياء . و بانت : فارقت يريد : هجرتني
.
وقوله : لها شق قلبي بالكسر يريد : شقت قلبي بحبها فاستولت عليه .
وقوله : كل عين إلخ كل مبتدأ و متى اسم استفهام طرف لتراها وجملة : تراها صفة لعين
و مديمة : خبر المبتدأ و إليها : متعلق به وهو اسم فاعل من أدمت أي : واظبت . و
حولاء خبر ثان . جعلها حولاء لميلها إليها بالنظر فكأن بها حولاً .
وقوله : ليت شعري إلخ قد شرحه الشارح في ليت وقال : التزم حذف الخبر في ليت شعري
مردفاً باستفهام نحو : ليت شعري أتأتيني أم لا وهذا الاستفهام مفعول شعري . فجملة
: أي ساع سعى في البيت بعده مفعول شعري .
____________________
و الشرب بالكسر : النصيب من
الماء . و الصابح : من صبحت الإبل إذا سقيتها في أول النهار والإبل مصبوحة والقوم
صابحون . كذا في الجمهرة لابن دريد وأنشد هذا البيت .
وقال القالي في المقصور والممدود : و الجوزاء : برجٌ من بروج السماء . والعرب تقول
: إذا طلعت الجوزاء توقدت المعزاء وكنست الظباء وعرقت العلباء وطاب الخباء . وأنشد
هذا البيت .
وزاد صاحب الأغاني بعد هذا : الخفيف ( فاستظل العصفور كرهاً مع الض ** ب وأوفى في
عوده الحرباء ) ( ونفى الجندب الحصى بكراعي ** هـ وأذكت نيرانها المعزاء ) ( من
سمومٍ كأنها حر نارٍ ** شفعتها ظهيرةٌ غراء ) ( عرفت ناقتي شمائل مني ** فهي إلا
بغامها خرساء ) ( عرفت ليلها الطويل وليلي ** إن ذا النوم للعيون غطاء ) )
وأورد سبب هذه القصيدة بسنده عن ابن الأعرابي قال : كان الوليد بن عقبة قد
____________________
استعمل الربيع بن مري بن أوس
بن حارثة بن لأم الطائي على الحمى فيما بين الجزيرة وظهر الحيرة فأجدبت الجزيرة .
وكان أبو زبيدٍ في تغلب . فخرج لهم ليرعيهم فأبى عليه الأوسي وقال : إن شئت أرعيك
وحدك فعلت .
فأتى أبو زبيد الوليد بن عقبة فأعطاه ما بين القصور الحمر من الشام إلى القصور
الحمر من الحيرة وجعلها له حمًى وأخذها من الآخر .
قال عمر بن شبة في خبره خاصة : فلما عزل الوليد عن الكوفة وولي سعد ابن أبي وقاص
مكانه انتزعها منه وأخرجها من يده فقال أبو زبيد : ( ولقد مت غير أني حيٌّ ** يوم
بانت بودها خنساء ) إلى آخر القصيدة .
وأبو زبيدٍ الطائي : شاعر نصرانيٌّ كان في صدر الإسلام وتقدمت ترجمته في الشاهد
الثاني وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد المفصل
:
____________________
بوحشٍ إصمت هو قطعة من بيتٍ
للراعي وهو : البسيط ( أشلى سلوقيةً باتت وبات بها ** بوحشٍ إصمت في أصلابها أود )
على أنه إذا سمي بفعل فيه همزة وصل قطعت ك إصمت بكسر الهمزة والميم .
وتقدم عن الشارح المحقق أنه منقول من فعل أمر لبرية معينة . وقيل : هو علم الجنس
لكل مكانٍ قفر تقول : لقيته بوحش إصمت وببلد إصمت . و الوحش : المكان الخالي .
وكسر ميم إصمت والمسموع في الأمر الضم لأن الأعلام كثيراً ما تغير عند النقل تبعاً
لنقل معانيها كما قيل في شمس بن مالك بضم الشين . انتهى .
وقوله : : وكسر ميم إصمت إلخ جواب عن سؤال مقدر وهو أنه لو كان منقولاً من فعل
الأمر لكانت الهمزة والميم مضموتين لأنه يقال : صمت يصمت صمتاً من باب نصر وصموتاً
وصمتاً ومثله للأندلسي في شرح المفصل قال : المشهور في مضارع صمت : يصمت بالضم فإما
أن يكون الكسر لغة فيه لم ينقل وإما أن يكون مما غير في التسمية كما قالوا : شمس
بن مالك بالضم فغيروا لفظ الشمس .
وإما أن يكون مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت فلا يكون من هذا الفصل .
انتهى .
وكذا قال ابن يعيش في شرح المفصل .
____________________
وأجاب ابن الحاجب في أماليه على المفصل بغير هذا قال : وقد أخذ على صاحب المفصل
باستشهاده فإن العرب تقول : صمت يصمت فالأمر فيه بالضم فكيف جاء إصمت وجوابه أن
يقال : إن فعل يأتي على يفعل ويفعل .
ومنهم من يقول : إن سمع للفعل مضارع اتبع وإلا فأنت فيه مخير إن شئت قلت : يفعل أو
يفعل .
ومنهم من يقول : إن كثر استعمال المضارع اتبع وإلا كنت فيه بالخيار . انتهى .
وقال في شرح المفصل : واستشهاده بالبيت مستقيم على وجهين : أن يثبت أن فعل يجيء
على يفعل ويفعل . والوجه الثاني : أن يثبت صمت يصمت ولا يستقيم على غير ذلك . وقو بعضهم
: )
____________________
وإصمت علم للفلاة القفر سميت بذلك لأنه لا أنيس بها فينطقوا أو لأنها لشدتها تصمت
سالكها . والدليل تشتبه عليه طرقها فلا يتكلم لأنه لا يتضح له الهدى فيها .
ومانعها من الصرف التعريف ووزن الفعل لأنه بزنة اضرب وهي مجرورة الموضع بإضافة وحش
إليها .
وقيل : اسم بلدة بعينها . ويروى : ببلدة إصمت . ويقال : تركتني ببلدة إصمتة وبلد
إصمت . يضرب للرجل الذي لا ناصر له ولا مانع . انتهى .
____________________
ولم يورد أبو عبيد البكري هذه
الكلمة في معجم ما استعجم وأوردها ياقوت في معجم البلدان وقال : إصمت بالكسر وكسر
الميم وتاء مثناة : اسم )
علم لبرية بعينها . قال الراعي : أشلى سلوقيةً باتت وبات بها إلخوقال بعضهم :
العلم هو وحش إصمت الكلمتان معاً . وقال أبو زيد : يقال : لقيته بوحش إصمت وببلدة
إصمت أي : بمكان قفر . وإصمت منقول من فعل الأمر مجرد عن الضمير وقطعت همزته ليجري
على غالب الأسماء . وهكذا جميع ما يسمى به من فعل الأمر . وكسر الهمزة في إصمت إما
لغة لم تبلغنا وإما أن يكون غير في التسمية به عن أصمت بالضم الذي هو منقول في
مضارع هذا الفعل وإما أن يكون مجرداً مرتجلاً وافق لفظ الأمر الذي بمعنى اسكت .
وربما كان تسمية هذه الصحراء بهذا الفعل للغلبة لكثرة ما يقول الرجل لصاحبه إذا
سلكها : اصمت لئلا تسمع فتهلك لشدة الخوف بها . انتهى . فهذه عدة توجيهات لكسر
الهمزة والميم ولتسمية الفلاة به . وإصمته غير منصرف أيضاً لكن للعلمية والتأنيث .
والقول بأن إصمت مرتجل لا منقول أسلم وأسهل وحينئذ لا يحتاج إلى توجيه كسر الميم
ويكون منع الصرف للعلمية والتأنيث المعنوي وفي إصمتة التأنيث اللفظي على طريقة
واحدة .
____________________
والعجب من ابن يعيش فإنه وجه
منع الصرف في إصمت بما ذكرنا مع القول بالنقل . وكونه علم جنس أظهر من كونه علم
شخص لبقعةٍ معينة كما هو ظاهرٌ من استعمالهم : والصحيح أن العلم إنما هو إصمت
وإصمتة لا مجموع وحش إصمت ووحش إصمتة بدليل أنه يقال : بلد إصمت وصحراء إصمت وغير
ذلك ولم يقل أحد بعملية المجموع فيه وما يضاف إليهما من وحش وبلد وبلدة وصحراء
أيضاً كما نقله صاحب القاموس إضافته للتخصيص .
وقد يجمع إصمت على إصمتين شذوذاً كأنهم سموا كل قطعةٍ منها بإصمت إن كان إصمت علم
قفرٍ بعينه . وإن كان علم جنس فواضح . وقد رأيته في شعر أمية ابن أبي الصلت قال من
( وترذى الناب والجمعاء فيه ** بوحش الإصمتين له ذباب ) قال شارح ديوانه : ترذى من
الرذية أي : تترك وقد أرذيت فهي مراذة . و الناب : الناقة المسنة . و الجمعاء :
الذاهبة الأسنان . و الإصمتين : مكانٌ ليس فيه أحد .
وهو مثلٌ للعرب يقال : تركت فلاناً بوحش الإصمتين . وله ذبابٌ ذباب الحمار . انتهى
.
واعلم أن ابن المستوفي استشكل كون إصمت منقولاً من الفعل دون ضميره وقال : قول
النحاة إن إصمت منقول من فعل الأمر مجرداً من الضمير فيه نظر لأنه جمعٌ بين نقيضين
وذلك أنهم إنما سموا به بعد الأمر للمواجهة فلا بد من الضمير فيه . )
وإذا كان كذلك فهو من باب المسمى بالجملة المركبة من الفعل والفاعل . اللهم إلا أن
يكونوا نزعوه بعد التسمية تحكماً منهم . انتهى .
____________________
أقول : لا يرد ما ذكره فإنهم قالوا : إذا سمي بفعل فإن لم يعتبر ضميره الفاعل فهو
مفرد لا ينصرف وإن اعتبر ضميره فهو جملة محكية سواء كان الضمير مما يجب استتاره أم
لا بدليل أحمد المنقول من المضارع المتكلم وتغلب المنقول من المضارع للمخاطب
فالضمير أمر اعتباري يجوز أن يلاحظ ويعتبر ويجوز عدمه ولا ينظر إلى مكان تجريده من
الفعل حين التسمية .
واستشكل أيضاً قطع الهمزة بعد التسمية بأنه من باب تحصيل الحاصل لأنها مقطوعة قبل
قال : وقولهم إنهم قطعوا الهمزة من إصمت مع التسمية به خالياً من الضمير فيه أيضاً
نظر لأن المكان عندهم إنما سمي بقول الرجل لصاحبه : اصمت يسكته بذلك من غير أن
يكون تقدمه كلام قبله وصله به فوصل الهمزة . وكذا كل فعل أمر من يفعل قطعت همزته .
انتهى .
أقول : مرادهم التزام قطعها بعد التسمية درجاً وابتداء بخلاف إصمت قبل التسمية فإن
الهمزة لا تقطع في الدرج وهذا ظاهر .
وأما ما قاله صاحب القاموس من أن إصمت وإصمتة بقطع الهمزة ووصله فمشكل ولم أره
لغيره وكأنه مأخوذ من مفهوم قول أبي زيد كما نقله ابن مكرم في لسان العرب وهو أن
بعض العرب قطع الألف من إصمت ونصب التاء .
ومفهومه أن أكثر العرب يصل الألف ويسكن التاء ويكون حينئذ هذا من باب التسمية
بالجملة المحكية . ولم أر من قاله .
وأما وصلها في إصمتة فلم أعرف وجهه وقد ذكروا همزة الوصل في أسماءٍ معدودة وليس
هذا منها اللهم إلا أن يقال توصل بنقل حركتها إلى ساكن قبلها كقولك : من إصمتة .
والله أعلم .
وأما أطرقا فقد أدرجه صاحب المفصل في المنقول من فعل الأمر مع إصمت . وظاهره أنه
____________________
ولو لاحظه لذكره في العلم
المركب من جملة أو غيرها والصواب ذكره في قسم المركب لأنه جملة مركبة من فعل وفاعل
قطعاً .
ولهذا قال ابن الحاجب في شرحه : تمثيله بقوله : أطرقا في غير قسمٍ المركب ليس
بمستقيم .
وأجاب ابن يعيش بأن أطرقا لها جهتان : جهة كونه أمراً وجهة كونه جملة . فإيراده
هنا من )
حيث أنه أمر . ولو أورده في المركبات من حيث هو جملة لجاز . انتهى .
وفيه نظر فإن التقسيم يصير حينئذ فاسداً لأن كل تقسيم صحيح ذكرت فيه أنواعٌ
باعتبار صفاتٍ مصححةٍ للتقسيم يجب أن يكون صفة كل قسم منتفية عن بقية الأقسام وإلا
لم يصح التقسيم باعتبارها وها هنا التقسيم قد ذكر فيه المركب فيجب أن يكون التركيب
منتفياً عن بقية الأقسام .
وأجاب بعضهم بأنه يصح أن يكون أطرقا أمراً للواحد وتثنيته تثنية الفعل لا الفاعل
كأنه قال : أطرق أطرق كما قيل في : ألقيا في جهنم وفي : قفا نبك تأكيداً ومبالغة .
وأجاب بعضٌ آخر بأن الألف يجوز أن تكون بدلاً من نون التوكيد الخفيفة والأصل أطرقن
فأبدلت للوقف ألفاً .
ويرده ما حكوا في وجه التسمية من أن رجلاً قال لصاحبيه في موضع : أطرقا تخويفاً
لهما قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : أطرقا : موضعٌ بالحجاز . قال أبو
عمرو بن العلاء : غزا ثلاثة نفرٍ في الدهر الأول فلما صاروا إلى هذا الموضع سمعوا
نبأة فقال أحدهم لصاحبيه : أطرقا أي : اسكتا .
وقال في موضع آخر : أي : الزما الأرض فسمي به ذلك الموضع . قال أبو الفتح بن جني :
دل قول أبي عمرٍ و أن الموضع سمي بالفعل وفيه ضميره لم يجرد
____________________
عنه كما يقال : لقيته بوحش
إصمت أي : بفلاة يسكت فيها المرء صاحبه فيقول له : اصمت إلا أنه جرد إصمت من
الضمير فأعربه ولم يصرفه للتعريف والتأنيث أو وزن الفعل . انتهى كلام أبي عبيد .
وقال ياقوت في معجم البلدان : قال أبو عمرو : أطرقا : اسمٌ لبلد بعينه من فعل
الأمر وفيه ضمير وهي الألف . كأنه سالكه سمع نبأة فقال لصاحبيه : أطرقا .
وقال الأصمعي : كان ثلاثة نفر بهذا المكان فسمعوا صوتاً فقال أحدهم لصاحبيه :
أطرقا فسمي بذلك . انتهى .
وقيل : إن أطرقا غير علم لأرض فلا شاهد فيه . ثم اختلفوا فقال قوم : هو جمع طريق
كصديق وأصدقاء وقصر للضرورة . حكاه ياقوت .
وقال أبو عبيد في المعجم : قال بعضهم : هو جمع طريق على لغة هذيل ويجوز أن يكون
قال ابن يعيش : يكون على هذا حذف الألف الأولى التي للمد فعادت ألف التأنيث إلى
أصلها )
وهو القصر . وينبغي أن تكتب الألف بالياء . انتهى .
وقال ثعلب كما نقله أبو عبيد أيضاً : قوله على أطرقا أراد على أطرقة فأبدل من تاء
التأنيث ياءً كما يقال في شكاعي شكاعة كما يبدل أيضاً من الألف تاء .
قال الراجز : الرجز
____________________
( من بعدما وبعدما وبعدمت **
صارت نفوس القوم عند الغلصمت ) انتهى .
وقال بعضهم : الرواية : علا أطرقا وقال ابن يعيش : رواه بعضهم : بضم الراء كأنه
جعله جمع طريق ويجعل علا فعلاً ناصباً له من العلو وفيه ضمير كأنه قال : السيل علا
أطرقاً . وعلى هذا يكون قد أنث الطريق لأن فعيلاً وفعالاً إنما يجمعان على أفعل
إذا كان مؤنثاً نحو عناق وأعنق ويكون باليات الخيام من صفة أطرقاً . انتهى .
وحكاه أبو عبيد أيضاً قال : ويروى : علا أطرقاً من العلو . وجمع طريق على أطرق يدل
على تأنيثه لأن تكسير المؤنث كعناق وأعنق وعقاب وأعقب .
وقال ياقوت : قال أبو الفتح : ويروى : علا أطرقاً ف علا فعلٌ ماض . و أطرقا : جمع
طريق . فمن أنث الطريق جمعه على أطرق مثل عناق وأعنق ومن ذكره جمعه على أطرقاً
كصديق وأصدقاء فيكون قد قصره ضرورة .
هذا والصحيح أن أطرقاً علم أرض بدليل قول عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة
المخزومي يخاطب بني كعب بن عمرو من خزاعة وكان يطالبهم بدم الوليد بن المغيرة أبي
خالد بن الوليد لأنه مر برجل منهم يصلح سهاماً فعثر بسهم منها فجرحه فانتقض عليه
فمات : الطويل ( إني زعيمٌ أن تسيروا وتهربوا ** وأن تتركوا الظهران تعوي ثعالبه )
( وأن تتركوا ماءً بجزعة أطرقا ** وأن تسلكوا أي الأراك أطايبه ) ( وإنا أناسٌ لا
تطل دماؤنا ** ولا يتعالى صاعداً من نحاربه )
____________________
وقالوا في تفسير هذا : الجزعة
والجزع بمعنًى واحد وهم معظم الوادي . وقال ابن الأعرابي : هو ما انثنى منه . و
أطرقا هنا وقع مضافاً إليه وهو علم موضع سمي بفعل الأمر كما تقدم . ولا يتأتى هنا
ما تمحلوه في ذلك البيت .
قال ياقوت : وهذا الشعر يؤذن بأن أطرقا موضع من ضواحي مكة لأن الظهران هناك وهي )
منازل كعب بن خزاعة . فيكون أطرقا من منازلها بتلك النواحي وهي من منازل هذيلٍ
أيضاً ولذلك ذكروه في شعرهم . والله أعلم . انتهى .
وقد آن لنا أن نرجع إلى المقصود فنقول : البيت الشاهد من قصيدةٍ للراعي واسمه عبيد
بن حصين النميري وتقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
وهي من قصيدة مدح بها عبد الله بن معاوية بن أبي سفيان أولها : البسيط ( طاف
الخيال بأصحابي وقد هجدوا ** من أم علوان لا نحوٌ ولا صدد ) ( فأرقت فتيةً باتوا
على عجلٍ ** وأعيناً مسها الإدلاج والسهد ) ( هل تبلغني عبد الله دوسرةٌ ** وجناء
فيها عتيق الني ملتبد ) ( كأنها يوم خمس القوم عن جلبٍ ** ونحن والآل بالموماة
نطرد ) ( قرمٌ تعداه عادٍ عن طروقته ** من الهجان على خرطومه الزبد )
____________________
( أو ناشطٌ أسفع الخدين ألجأه
** نفح الشمال فأمسى دونه العقد ) ثم وصف الثور والأطلال فقال : ( حتى إذا هبط
الأحدان وانقطعت ** عنها سلاسل رملٍ بينها وهد ) ( صادف أطلس مشاءً بأكلبه ** إثر
الأوابد ما ينمي له سبد ) ( أشلى سلوقةً باتت وبات بها ** بوحش إصمت في أصلابها
أود ) ( يدب مستخفياً يغشي الضراء بها ** حتى استقامت وأعراه لها جدد ) هجدوا :
رقدوا . و النحو : التوجه . و الصدد : القرب . وخبر نحو محذوف أي : منها . و
الإدلاج : السير من أول الليل . و السهد بفتحتين : الأرق والسهر . و عبد الله هو
أخو يزيد بن معاوية . في الجمهرة : وعبد الله بن معاوية كان أحمق الناس وأمه فاختة
بنت قرظة بن عبد عمرو بن نوفل بن عبد مناف . وأم يزيد ميسون بنت بحدل الكلبية . و
الدوسرة بالفتح : الناقة الضخمة . و الوجناء : الشديدة . و الني بفتح النون :
السمن والشحم .
____________________
و الخمس بالكسر من أظماء
الإبل : أن ترعى ثلاثة أيام وترد اليوم الرابع .
والجلب بضم الجيم وفتح اللام : جمع جلبة وهي الشدة . يقال : أصابتنا جلبة الزمان
وكلبته . و الآل : السراب بعد الزوال . و الموماة بالفتح : الفلاة . )
وقرم : خبر كأنها وهو بفتح القاف وسكون الراء : البعير المكرم لا يجمل عليه ولا
يذلل ولكن يكون للفحلة . و تعداه أي : تعدى عليه . و عادٍ : من عدا عليه أي :
تجاوز عليه الحد . و الطروقة : أنثى الفحل .
يقال : طرق الفحل الناقة طرقاً فهي طروقة فعولة بمعنى مفعولة . والهجان من الإبل
البيض يستوي فيه المؤنث والمذكر والواحد والجمع .
شبه ناقته في حالة جهدها وشدتها وهو سائر في شدة الهجير بفحل هائج حال دون أنثاه
حائل . وفيه مبالغاتٌ لا تخفى .
وقوله : أو ناشط إلخ يعني أنها إما تشبه ذلك الفحل أو تشبه الناشط وهو الثور
الوحشي يخرج من أرضٍ إلى أرض . و الأسفع : الأسود من السفعة بالضم وهو سوادٌ مشربٌ
حمرة يعني اسود وجهه من شدة الحر أو من شدة البرد والريح . و ألجأه : اضطره .
والنفح : الهبوب . و الشمال : الريح المعروفة .
قال الأصمعي : ما كان من الرياح نفح فهو برد وما كان لفح فهو حر و العقد بفتح
العين وكسر القاف وفتحها : ما تعقد من الرمل أي : تراكم الواحدة عقدة كذلك .
يعني فهو مسرعٌ ليصل كناسه ومأواه . و الأحدان بالضم : قطع رمل متفرقة والأصل
وحدانٌ جمع أوحد . و وهد بضمتين : جمع وهاد وهو جمع وهدة وهو المكان المطمئن .
____________________
و صادف أي : ذلك الناشط . و
أطلس مفعوله يريد به صياداً وقانصاً . والأطلس قال في القاموس : هو الرجل يرمى بقبيح
. والسارق والذئب الأمعط .
وفي الصحاح : الأطلس : الخلق وكذلك الطلس بالكسر والجمع أطلاس . ورجل أطلس الثوب .
قال ذو الرمة يصف قانصاً : البسيط و مشاءً : مبالغة ماشٍ أي : كاسب . و أكلب : جمع
كلب . و الأوابد : جمع آبدة وهي الوحوش . و ينمي من نمى المال وغيره ينمي نماءً :
زاد . و السبد : الصوف كنى به عن المال والماشية .
وقوله : أشلى سلوقية فاعل أشلى ضمير أطلس المراد به القانص .
قال أبو زيد : أشليت الكلب : دعوته .
وقال ابن السكيت : يقال : أوسدت الكلب بالصيد وآسدته إذا أغريته به . ولا يقال :
أشليته )
إنما الإشلاء الدعاء . يقال : أشليت الشاة والناقة إذا دعوتما بأسمائهما لتحلبهما
.
وقول زياد الأعجم : الطويل ( أتينا أبا عمرٍ و فأشلى كلابه ** علينا فكدنا بين
بيتيه نؤكل ) يروى : فأغرى كلابه . كذا في الصحاح . وسلوقية أي : كلاباً سلوقية .
____________________
قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم : سلوق بفتح أوله وضم اللام : موضع تنسب
إليه الكلاب السلوقية والدروع . وفي كتاب العين : موضعٌ باليمن تنسب إليه الكلاب .
وقال أيضاً : السلوقي من الدروع والكلاب : أجودها .
وقال الأصمعي : إنما هي منسوبة إلى سلقية بفتح أوله وثانيه وإسكان القاف وتخفيف
الياء وفي البارع عن أبي حاتم : السلوقية من الكلاب منسوبةٌ إلى مدينة من مدائن
الروم يقال لها : سلقية فأعربت .
قال أبو حاتم : وقال أبو العالية : إنما يقال لها سلوقية وقد دخلتها وهي عظيمة
ولها شأن .
انتهى .
وقوله : باتت وبات بها قال صاحب المصباح : بات له معنيان أشهرهما اختصاص الفعل
بالليل كما اختص الفعل في ظل بالنهار . فإذا قلت : بات يفعل كذا فمعناه فعله
بالليل .
وقال الليث : من قال بات بمعنى نام فقد أخطأ لأنك تقول بات يرعى النجوم ومعناه
ينظر إليها وكيف ينام من يراقب النجوم .
والمعنى الثاني تكون بمعنى صار يقال : بات بموضع كذا أي : صار به سواءٌ كان في ليل
أو نهار . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : فإنه لا يدري أين باتت يده . والمعنى
صارت ووصلت . انتهى .
وقال الشارح المحقق : وتجيء بات تامة بمعنى : أقام ليلاً ونزل سواء نام أو لم ينم .
وفي كلامهم : سر وبت . انتهى .
____________________
وقوله : في أصلابها أود أي : في أصلاب الكلاب السلوقية . إذ لكل كلبٍ صلبٌ . ولهذا
وقدر بعضهم تبعاً لابن الحاجب : كلبةً سلوقيةً . ووجه جمع الأصلاب بجعل كل طائفة
من الفقر صلباً . وله العذر لأنه لم يقف على ما قبله .
والصلب : وسط الظهر من العنق إلى العجز وهي فقرات أي : خرزات منتظمة . والمتنان )
يكتنفان يميناً وشمالاً . و الأود بفتحتين : الاعوجاج . والجملة حالٌ من ضمير
الكلاب وهي حالٌ لازمة لأن الكلاب السلوقية يكون أوساطها مخروطة الشكل خلقة .
قال الأصمعي : إذا كان في ظهر الكلب احديدابٌ قليل كان أفره له وكذلك إذا كان واسع
الفقحة كان أسرع لجريه وكذلك من الدواب . وكذا إذا اتسع منخراه وشدقاه .
فقوله : أشلى سلوقية استئناف بعد الإخبار عن الناشط بما ذكره . وأراد : أشلى عليه
أي : أغرى الكلاب على الناشط .
وجملة : باتت إلخ استئناف بيانيٌّ كأنه قيل : فما صنعت قال : باتت . وقيل الجملة
صفة سلوقية . وبات هنا تامة كما نقلنا عن الشارح المحقق .
وقوله : وبات بها أي : وبات الصياد مع السلوقية فالباء بمعنى مع والضمير للسلوقية
.
وقوله : بوحش إصمت الباء بمعنى في متعلق بأحد الفعلين .
وقال ابن الحاجب في أماليه : المجرور في قوله : بوحش يتعلق بأشلى وتقديره : أشلى
سلوقية بوحش هذه البرية باتت السلوقية في هذه البرية . وبات بها أي : عندها
والضمير للسلوقية .
انتهى .
يريد أن الضمير في قوله : عندها للسلوقية وأما ضمير بها فهو لوحش إصمت .
وصرح به في شرح المفصل قال : بها أي : بوحش إصمت . وأضمر لأنه متقدم في المعنى
لأشلى أو لباتت الأول . انتهى .
____________________
وكذا صنع الأندلسي قال : أعمل الفعل الأول وأضمر الثاني . وروى أبو الحسن علي بن
عبد الله الطوسي : ( أشلى سلوقيةً زلاًّ جواعرها ** بوحش إصمت . . . . . . . إلخ )
و الزل بضم الزاي المعجمة وتشديد اللام : جمع أزل وهو الممسوح العجز . و الجواعر :
جمع جاعرة وهو موضع رقمة است الحمار .
وقوله : يدب مستخفياً إلخ دب يدب من باب ضرب أي : مشى مشياً رويداً . وفاعله ضمير
الصياد . وكذلك ضمير يغشي مضارع أغشى بمعنى أحاط . و الضراء مفعوله وهي جمع ضروةٍ
بالكسر وهو ولد الكلب . وضمير بها للسلوقية .
وجملة : يغشى حالٌ من ضمير يدب . و حتى بمعنى إلى . و أعراه : كشفه . والضمير
للناشط . )
وقوله : فجال من الجولان وفاعله ضمير الناشط و إذ : ظرفٌ لجال ورعنه من الروع وهو
الذعر والنون ضمير الكلاب السلوقية و ينأى : يبعد .
يريد أن الناشط نجا من يد الكلاب والحال أن في سوالف الكلاب من جلد مثل هذا الناشط
قدداً . و السالفة : صفحة العنق . و القدد : جمع قدة وهو سير غير مدبوغ .
وأما البيت الثاني فهو لأبي ذؤيبٍ الهذلي وقد تقدمت ترجمته في الشاهد السابع
والستين من قصيدة عدتها أربعة عشر بيتاً ذكر من أولها دروس الديار وطموسها إلى أن
رثى ابن عمه نشيبة بخمسة أبيات من آخرها .
وأولها : المتقارب
____________________
( عرفت الديار كرقم الدوا **
ة يزبرها الكاتب الحميري ) إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة : على أطرقا باليات الخيام
إلى آخره . يزبرها : يكتبها .
وذكر الحميري لأن الكتابة أصلها من اليمن . يريد : عرفت رسوم الديار وآثارها خفية
كآثار الخط القديم .
وقوله : على أطرقا قال السكري في شرحه : أراد : عرفت الديار على أطرقا . و الثمام
: شجر يلقى على الخيام . و العصي : خشب بيوت الأعراب . وقوافي هذه القصيدة إن
شددتها وصلتها وإلا خفضتها . انتهى .
والخيمة عند العرب : بيتٌ من عيدان . و الثمام : نبتٌ ضعيف يحشى به خصاص البيوت
ويستر به جوانب الخيمة . فالثمام والعصي استثناء من الخيام ويكون الاستثناء متصلاً
.
قال ابن يعيش هذه القصيدة تروى مطلقةً مرفوعة وتروى مقيدة ساكنة وهي من المتقارب .
فمن أطلقها كانت من الضرب الأول ووزنه فعولن عصي يو . ومن قيدها كانت من الضرب
الثالث وهو المحذوف . فعل عصي .
وقوله : على أطرقا نصبٌ على الحال من الديار وكذلك باليات الخيام حال .
والمراد : عرفت الديار على أطرقا في هذه الحال . وقوله : إلا الثمام وإلا العصي
يروى برفع الثمام ونصبه فمن نصب فلا إشكال فيه لأنه استثناء من موجب . ومن رفع
فبالابتداء والخبر )
محذوف والتقدير : إلا الثمام وإلا العصي لم تبل .
____________________
ومن نصب الثمام ورفع العصي فإنه يحمله على المعنى وذلك أنه لما قال بليت إلا
الثمام كان معناه بقي الثمام فعطف على هذا المعنى وتوهم اللفظ . ومن قيد القافية
جاز أن تكون العصي مرفوعة كالمطلقة على ما ذكرنا وجاز أن تكون منصوبةً بالعطف على
الثمام إلا إنه أسكن للوقف . وما فيه أل يكون الوقف عليه كالمرفوع والمجرور .
انتهى .
وقال صاحب المقتبس : ويروى : باليات مرفوعاً ومنصوباً على أنه خبر مبتدأ محذوف أي
: هي وعلى الحال . وقوله : على أطرقا متعلق بعرفت .
قال بعض فضلاء العجم : ويجوز أن يكون باليات على رواية الرفع مبتدأ وخبره على
أطرقا والإضافة كسحق عمامة . وعلى هذا كان كلاماً منقطعاً عن الأول وإخباراً
ثانياً عن اندراس المنازل .
وقال ابن الحاجب في الإيضاح : باليات الخيام حالٌ من الديار . وإلا الثمام
استثناءٌ منقطع .
وبعض الناس ينشد باليات بالرفع يجعله مبتدأ . وبعضهم ينشده إلا الثمام وإلا العصي
بالرفع وليس بصواب وإنما يجوز بناء الرفع على وجهين : أحدهما : على الإتباع على
المعنى دون اللفظ فيكون مثل : أعجبني ضرب زيدٍ العاقل بالرفع .
والثاني : إما على قولهم : ما جاءني أحدٌ إلا حمارٌ على اللغة التميمية . فقوله :
باليات الخيام الخيام مرفوعة من حيث المعنى فكأنه قال : باليات خيامها فيكون قوله
: إلا الثمام على اللغة التميمية وإما على أن إلا بمثابة غير . وكلٌّ منهما ضعيف .
أما أعجبني ضرب زيدٍ العاقل فلأن زيداً معرب والتوابع إنما تجري على متبوعاتها على
حسب إعرابها .
وأما ما جاءني أحدٌ إلا حمار فلأن ذلك إنما يثبت في النفي مع أنه فيه ضعيف لأن
الحمار ليس من جنس الأحد فلا يكون بدلاً وأما كون إلا بمثابة
____________________
غير فشرطه في الفصيح أن تكون
تابعةً لجمع منكر غير منحصر وذلك مفقود . انتهى .
وتوجيه ابن يعيش لرواية الرفع أسلم من هذا . فتأمل . فلا يرد عليه ما ذكره .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز
بنات ألببي على أنه إذا سمي ب ألبب يبقى الفك ولا يدغم وهو بفتح الهمزة وسكون
اللام وضم الموحدة الأولى .
وهذا قطعةٌ من بيت وهو : الرجز قال صاحب الصحاح : وبنات ألبب : عروقٌ في القلب
تكون فيها الرقة . وقيل لأعرابية تعاتب ابناً لها : ما لك لا تدعين عليه قالت :
تأبى له ذاك بنات ألببي والذي أورده سيبويه : الرجز قد علمت ذاك بنات ألببه قال :
وإذا سميت رجلاً بألبب من قولك : قد علمت ذاك بنات ألببه
____________________
تركته على حاله لأن هذا اسم
جاء على الأصل كما قالوا : رجاء بن حيوة وكما قالوا : ضيون . فجاؤوا به على الأصل
.
وربما جاءت العرب بالشيء على الأصل . ومجرى بابه في الكلام على غير ذلك . انتهى
كلام سيبويه .
قال صاحب الصحاح : قال المبرد في قول الشاعر : قد علمت ذاك بنات ألببه يريد : بنات
أعقل هذا الحي . فإن جمعت ألبباً قلت : ألابب والتصغير : أليب وهو أولى من وقال
ياقوت في حاشية الصحاح : ويروى : بنات ألببه بفتح الباء الأولى . والله أعلم .
ولم يورد أبو جعفر النحاس ولا الأعلم الشنتمري هذا البيت في شواهد سيبويه وكأنهما
لم يتنبها لكونه شعراً . والله أعلم .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
يعصرن السليط أقاربه )
على أنه لو سمي بضربن على لغة أكلوني البراغيث بجعل النون حرفاً دالاً على الجمع
المؤنث كما في يعصرن السليط أقاربه فإن النون فيه على قولٍ حرفٌ علامةٌ لجمع
المؤنث . و أقاربه هو الفاعل و السليط مفعوله وهو الزيت .
وهذا المقدار قطعةٌ من بيت للفرزدق تقدم شرحه في الشاهد السادس والسبعين بعد
الثلثمائة .
____________________
( أسماء العدد ) أنشد فيه ( الشاهد
الأربعون بعد الخمسمائة ) الرجز حتى استشاروا بي إحدى الإحد على أن إحدى يستعمل في
المدح ونفي المثل . فمعنى هو إحدى الإحد : داهيةٌ هي إحدى الإحد .
قال الدماميني في شرح التسهيل : إن قلت : كيف حمل إحدى الإحد مع أنه للمؤنث على
المذكر قلت : لأن المراد به داهيةٌ واحدة من الدواهي ومثله يحمل على المذكر فتقول
: هو داهيةٌ من الدواهي .
وأحد الأحدين المراد به إحدى الدواهي ولكنهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العاقل وإن
لم يكن عاقلاً . فمن قال : هو أحد الأحدين فقد راعى مطابقة لفظ هو فلذلك ذكر
اللفظين جميعاً .
ومن قال إحدى الإحد راعى المعنى فلذلك أتى بإحدى لأن ألفها إما للتأنيث أو للإلحاق
ولكنها تشبه في اللفظ ألف التأنيث فأضافها إلى جمع المؤنث وهو الإحد بكسر الألف
وفتح الحاء . وفيه لغة أخرى وهو ضم الألف وفتح الحاء .
والمشهور في هذا الجمع أعني فعل بضم الفاء أن يكون مفردة فعلةً مؤنثاً بالتاء كغرف
جمع غرفة لكنه جمع به المؤنث بالألف كأحدى حملاً لها على أختها أو يقدر له مفرد
مؤنث بها كما حققه السهيلي في الروض الأنف في جمع ذكرى وذكر .
وكما ا إحدى الأحد معناه : إحدى الدواهي كذلك معنى أحد الأحدين
____________________
لا يختص استعماله بالعقلاء
لكنهم يجمعون ما يستعظمونه جمع العقلاء . )
قال صاحب اللباب : ما لا يعقل يجمع جمع المذكر في أسماء الدواهي تنزيلاً له منزلة
العقلاء في شدة النكاية . و الداهية : الأمر العظيم . ودواهي الدهر : ما يصيب
الناس من عظيم نوبه .
والدهي بسكون الهاء : النكر وجودة الرأي . يقال : رجلٌ داهية بين الدهي والدهاء
بالمد . وقد يضاف إحدى إلى ضمير الإحد .
قال أبو زيد : يقال : لا يقوم لهذا الأمر إلا ابن إحداها أي : الكريم من الرجال .
وهذا تفسير بالمعنى .
وزعم أبو حيان أن إحدى الإحد خاصٌّ بالمؤنث . قال : كما قالوا : هو أحد الأحدين
وهي إحدى الإحد يريدون التفضيل في الدهاء والعقل بحيث لا نظير له . قال : استثاروا
بي إحدى الإحد انتهى .
وهذا البيت الذي أورده يرد عليه .
ويقال أيضاً : هو واحد الواحدين نقله صاحب القاموس . ويقال أيضاً : هو واحد
الأحدين وواحد الآحاد حكاهما صاحب العباب .
ولا تختص إضافة إحدى وواحد وأحدٍ إلى الجمع من لفظه . قال صاحب الكشاف عند قوله
تعالى : إنها لإحدى الكبر أي : لإحدى البلايا والدواهي : الكبر . ومعنى كونها
إحداهن أنها منهن واحدةٌ في العظم لا نظير لها كما تقول : هي إحدى النساء .
وقال أيضاً في تفسير قوله تعالى : ليكونن أهدى من إحدى الأمم : من الأمة التي يقال
لها : إحدى الأمم تفضيلاً لها على غيرها في الهدى والاستقامة .
____________________
قال صاحب الكشف : أقول : دلالتها على تفضيلها على سائر الأمم ليس بالواضح بخلاف
واحد القوم ونحوه ثم وجهها بأنه على أسلوب : الكامل انتهى .
قال شيخنا الخفاجي : يريد أن واحداً بمعنى منفرد ويلزم من انفراده امتيازه وعظمته
بخلاف إحدى فإنه اسمٌ لجزء الشيء فلا دلالة له على التعظيم إلا أن يقال إن البعض
يدل عليه كما في البيت لأن فيه إبهاماً والإبهام يستعمل للتعظيم . ولك أن تقول :
لا حاجة إلى هذا لأن )
الزمخشري أشار إلى أن إحدى هنا بمعنى واحدة . انتهى .
ورد الدماميني على صاحب الكشاف بأن الذي ثبت استعماله للمدح أحد وإحدى مضافين إلى
جمع من لفظهما واستعملوا ذلك أيضاً في المضاف إلى الوصف نحو : هو أحد العلماء .
أما في أسماء الأجناس مثل الأمم ففيه نظر . انتهى .
قال شيخنا : لا حاجة إلى النقل لأنه إن كان استفادته من أحد بمعنى واحد ومنفرد فهو
معنى حقيقيٌّ لا معنى لنخصصه . وإن كان لأن إبهام البعض يفيده فهو مجازيٌّ فهو لا
يقتصر فيه على السماع .
وفي الحماسة : الكامل ( يا واحد العرب الذي ما إن لهم ** من مذهبٍ عنه ولا من مقصر
)
____________________
وقال زهير : الطويل انتهى .
وقد سمع في إحدى قطعها عن الإضافة سئل ابن عباس رضي الله عنه عن رجل تتابع عليه
رمضانان فسكت ثم سأله آخر فقال : إحدى من سبع يصوم شهرين ويطعم .
قال ابن الأثير في النهاية : يريد به إحدى سني يوسف عليه السلام المجدبة . فشبه حاله
بها في الشدة . أو من الليالي السبع التي أرسل الله فيها العذاب على عاد . انتهى .
وهذا يرد على ابن مالك في قوله في التسهيل : ولا يستعمل إحدى في غير تنييف دون
إضافة فإن إحدى قد استعملت بلا إضافة إلا أن يزعم أن الأصل أنها إحدى الإحد من سبع
فحذف المضاف إليه .
والبيتان من رجز للمرار بن سعيد الفقعسي أورد بعضه الأصبهاني في الأغاني قال : كان
المرار قصيراً مفرط القصر ضئيل الجسم . وفي ذلك يقول : ( عدوني الثعلب عند العدد
** حتى استثاروا بي إحدى الإحد ) ( ليثاً هزبراً ذا سلاحٍ معتد ** يرمي بطرفٍ
كالحريق الموقد ) يقول : حسبوني من عداد الثعالب عند لقاء الأبطال أروغ عنهم ولا
أكافحهم .
____________________
وحتى بمعنى إلى . و استثاروا : هيجوا من ثار إلى الشر إذا نهض واستثاره : أنهضه .
وثارت والتجريد كما في الكشف هو تجريد المعنى المراد عمن قام به تصويراً له بصورة
المستقل مع )
إثبات ملابسة بينه وبين القائم به بأداة أو سياق . والأداة هنا الباء كما يقال :
لقيت بك أسداً و اسأل به خبيراً .
قال صاحب الكشف : ولعل جعلها إلصاقية أوجه أي : كائناً ملصقاً بك . والمراد
التصوير المذكور لأن الإلصاق هو الأصل فقد سلم عن الإضمار وأفاد المبالغة الزائدة
. انتهى .
قال شيخنا الخفاجي : وفيه أن السبب مبدأٌ أو منشأٌ للمسبب كما أن المنتزع مع
المنتزع منه كذلك فهو أقرب إلى التجريد ومجرد الإلصاق لا يفيده . انتهى . و إحدى :
منصوب بفتحة مقدرة مفعول للفعل قبله أي : إحدى الدواهي .
قال أبو الهيثم : إحدى الإحد ونحوه أبلغ المدح .
وقال صاحب العباب وتبعه صاحب القاموس : يقال في الأمر المتفاقم : إحدى الإحد أي :
الأمر المشتد الصعب من تفاقم الأمر إذا عظم .
وفي أمثال الميداني قال ابن الأعرابي : هذا أبلغ المدح كما يقال : واحدٌ لا نظير
له . التأنيث للمبالغة بمعنى الداهية . وأنشد هذا البيت وقال : يضرب لمن لا نهاية
لدهائه ولا مثل له في نكرائه .
____________________
( إنكم لا تنتهوا عن الحسد **
حتى يدليكم إلى إحدى الإحد ) وقوله : ليثاً هزبراً إلخ هذا تفسيرٌ وعطف بيان لإحدى
الإحد . و الليث : الأسد وكذلك الهزبر . و ذا سلاح : صفة لقوله ليثاً .
وكذلك قوله : معتدي إلا أنه وقف على لغة ربيعة في تسكين المنصوب . وهو من الاعتداء
.
قال في الصحاح : والعدوان : الظلم الصراح وقد عدا عليه وتعدى عليه واعتدى كله
بمعنًى .
وقوله : يرمي إلخ هو صفة أخرى لقوله : ليثاً . و الطرف : نظر العين . و الحريق :
المحرق . و الموقد بفتح القاف . أراد أن عينه في غضبه حمراء كالنار الموقدة
الملتهبة . و المرار بن سعيد : شاعرٌ إسلامي في الدولة المروانية وكان لصاً من
لصوص العرب .
وتقدمت ترجمته في الشاهد التاسع والتسعين بعد المائتين . وهو بفتح الميم وتشديد
الراء الأولى .
تتمة قد ذكر الشارح المحقق بعد هذا البيت إحدى وعشرين كلمة من الكلمات التي تختص
بالنفي )
وهي في أكثر النسخ محرفة غير منتفع بها فرأينا من الإحسان ضبطها وشرحها ابتغاءً
لوجه الله عز وجل وهي : الأولى : عريب بفتح العين المهملة وكسر الراء قال ابن
السيد : أي : ما بها
____________________
معرب يبين كلامه ويعربه . وقد
قالوا : ما بها معربٌ في هذا المعنى . وكذا قال صاحب القاموس .
الثانية : ديار أصله ديوار فيعال من دار يدور فأدغم . قال ابن السيد في شرح إصلاح
المنطق : ديار من الدار إما أن يكون فعلاً من ذلك وكان حكمه دوار لأن داراً من
الواو بدليل قوله في تحقيرها : دويرةٌ .
قال يعقوب في إصلاح المنطق : وفي جمعها أدؤر قلبت واوه همزةً لانضمامها كأجوهٍ في
وجوه .
وإما أن يكون فيعالاً أصلها ديوار فأدغم . وقد غلط يعقوب في ديار لأن ذا الرمة
استعمله في الواجب فقال : الطويل ( إلى كل ديارٍ تعرفن شخصه ** من القفر حتى تقشعر
ذوائبه ) الثالثة : داري منسوب إلى الدار . والداري أيضاً : رب النعم سمي بذلك
لأنه مقيمٌ في داره فنسب إليها . وإذا أرادوا المبالغة في لزوم الرجل الدار قالوا
: دارية والهاء للمبالغة .
والداري : العطار أيضاً وهو منسوبٌ إلى دارين : فرضة بالبحرين وفيها سوقٌ وكان
يحمل المسك من الهند إليها . والداري أيضاً : نوتي السفينة وملاحها منسوب إلى
دارين أيضاً .
وهذه الثلاثة لا تلتزم النفي . وأما تميم الداري الصحابي فمنسوب إلى الدار أحد
آبائه .
____________________
قال ابن السيد : هو منسوبٌ فكان قياسه داريٌّ لأن دوراً جمع دار وإذا نسب إلى
الجمع فالحكم أن يرد ذلك الجمع إلى الواحد .
وأما أبو عمر الدوري فليس منسوباً إلى الدور التي هي جمع دار إنما هو منسوبٌ إلى
موضعٍ بالعراق يقال له : دور . انتهى .
وزاد بعضهم : دؤريٌّ بهمز الواو قال القالي في أماليه : قال اللحياني : دؤري
بالهمز غلط عندنا .
وزاد صاحب القاموس ما بها ديور وهو فيعول . وهذه الخمسة من مادة واحدة .
الخامسة : طوريٌّ . قال ابن السيد : هو منسوبٌ إلى الطور وهو الجبل أي : ما بها
إنسيٌّ ولا وحشيٌّ . وقال القالي : هو منسوب إلى الطورة وهي في بعض اللغات :
الطيرة . انتهى .
نقل صاحب العباب عن ابن دريد أن الطورة بكسر الطاء في بعض اللغات مثل الطيرة )
بكسرها وفتح الياء أي : التطير . وكونه منسوباً إلى هذا بعيد . والصواب الأول .
ومثله طورانيٌّ بزيادة الألف والنون . قال صاحب العباب : الطوري : الوحشي والغريب
.
قال ذو الرمة : الطويل ( أعاريب طوريون من كل قريةٍ ** يحيدون عنها من حذار
المقادر ) وقال أبو عمرو : وقوله : طوريون واحدهم طوري وطوراني كذلك وهما الوحشي
من الناس قالالعجاج : الرجز
____________________
وبلدةٍ ليس بها طوري انتهى .
وعلى هذا لا يلزم طوريٌّ النفي .
السادسة : طاويٌّ بألف وواو نقله القالي عن اللحياني . وقال : ما بها طاويٌّ غير
مهموز .
وضبطها صاحب القاموس بضم الطاء وفتح الهمزة وهي عين الفعل وكسر الواو وهي لام
الفعل وياء مشددة .
ولم أر من ذكر هذه الكلمة في عداد نظائرها كذا كابن السكيت فإنه عقد لها فصلاً في
أواخر إصلاح المنطق . وكالقالي في أماليه فإنه ذكر جملةً كثيرة منها . وذكر صاحب
القاموس فيها لغتين أخريين ذكرهما القالي ولم يذكر الأولى : إحداهما : طوئيٌّ
بتأخير الهمزة عن الواو مع ضم الطاء وسكون الواو . وعلى هذه اقتصر صاحب الصحاح .
والثانية : طؤويٌّ بضم الطاء وسكون الهمزة وكسر الواو . ولم يذكر ابن السكيت غير
هذه .
قال ابن السيد في شرحه : وطؤويٌّ من طاء يطوء مثل طاع يطوع إذا ذهب في الأرض . غير
فظهر بهذا التحقيق أن طاوياً المذكور أولاً في كلام صاحب القاموس مقلوب أيضاً
وأصله طوئي فتكون الثلاثة من مادة واحدة وهي طاء وواو وهمزة . ولو
____________________
كانت الكلمة معتلة كما زعم
صاحب القاموس تبعاً لصاحب الصحاح كيف يصح إيراد طوئي بتأخير الهمزة فيها .
وقد ذكرت هذه الكلمة في التسهيل كما في الشرح فقال الدماميني في شرحه : هي بطاء
مهملة مفتوحة فهمزة ساكنة فواو فياء نسب . كذا هو مضبوطٌ في بعض النسخ . وقد قيل :
إنه من الطي أي : ما بها أحد يطوي . )
قال ابن هشام : هذا لا يصح لاختلاف المادة إلا إن قيل : إن الهمزة مثلها في العألم
. قلت : لا يصح لأن الطي مادته طاء فواو فياء بدليل طويت .
ووقعت في بعض النسخ لفظة طأويٌّ مضبوطة بفتح الهمزة . ولا يتأتى أن يكون من الطي
أصلاً . وقد يقال : إنه من وطئ فقلبت فاء الكلمة إلى موضع اللام . انتهى كلام
الدماميني .
والتحقيق ما نقلناه عن ابن السيد وبه تلتئم لغاتها ويزول الإشكال . هذا وفي غالب
نسخ الشرح : طاري بالراء . وقد أثبته ابن الصائغ على هامش التسهيل وقال : هو
الغريب الذي طرأ على البلاد . وعليه تكون الكلمة مهموزة اللام أبدلت ياءً لانكسار
ما قبلها وتطرفها . لكن يرد أن هذه الكلمة غير لازمة للنفي .
السابعة : أرم أوردها ثعلب في الفصيح قال شراحه : بفتح الهمزة وكسر الراء . وأما
الإرم بكسر الهمزة وفتح الراء فهو العلم وهو حجارةٌ يجعل بعضها على بعض في المفازة
والطريق يهتدى بها . كذا قال شارحه الهروي .
الثامنة : أريم بزيادة الياء على ما قبلها . وكلاهما وصفٌ ويقال أيضاً : آرم على
فاعل .
قال ابن السيد : أرم وآرم على فعل وفاعل معناهما آكل . يقال : أرم يأرم أرماً من
باب ضرب إذا أكل . والأرم : الأضراس جمع آرم لأنها تأرمٍ أي : تأكل . ومنه قيل :
فلانٌ يحرق عليك الأرم أي : يصرف بأنيابه عليك غيظاً يعني يصوت .
____________________
قال الشاعر : الرجز ( نبئت أحماء سليمى أنما ** ظلوا غضاباً يحرقون الأرما ) ويزاد
في آخر الأول ياء النسبة فيقال : أرميٌّ نقله القالي عن ابن الأعرابي وصاحب العباب
.
وضبطه صاحب القاموس بضبطين لم أجد واحداً منهما لأحد . قال : إرميٌّ كعنبي ويحرك
ويقال : أيرميٌّ أيضاً نقله القالي عن ابن الأعرابي أيضاً وصاحب العباب عن أبي
خيرة . وهو في الحقيقة مقلوب أريمي . وزاد صاحب القاموس : كسر أوله .
التاسعة : كتيع بفتح الكاف وكسر المثناة الفوقية . قال ابن السيد : هو من قولك :
أجمع أكتع . ( أجد الحي فاحتملوا سراعاً ** فما بالدار إذ ظعنوا كتيع ) وزاد صاحب
العباب عن ابن عباد كتاع كغراب . وقد جاء الكتيع بمعنى المفرد من الناس فالأولى أن
يكون منه . )
العاشرة : كراب بفتح الكاف وتشديد الراء وهو فعال من الكراب يقال : كربت الأرض
كراباً إذا قلبتها للحرث . ولم يذكر هذه الكلمة ابن السكيت .
الحادية عشرة : دعويٌّ بضم الدال وسكون العين وكسر الواو وياء النسبة .
قال ابن السكيت : هو من دعوت . ووقع شارحه دوعيٌّ وقال : هو من
____________________
الدعاء نسب على غير قياس وكان
قياسه دعوي أو دعائي . انتهى ولم أره لغيره .
الثانية عشرة : شفر بفتح الشين وضمها مع سكون الفاء فيهما حكاهما القالي عن
اللحياني .
قال ابن السيد : ما بها شفر أي : ما بها قليل ولا كثير من قولك : شفر بالتشديد إذا
قل .
وزاد صاحب العباب عن الفراء : شفرة بالفتح والهاء وأنشد عن شمر : الطويل ( رأت
إخوتي بعد الجميع تفرقوا ** فلم يبق إلا واحداً منهم شفر ) وقول الشارح المحقق :
وقد لا يصحب نفياً أي : يقع في الإيجاب . وأورد له صاحب العباب قول ذي الرمة :
الطويل وقال : أي : تمر بنا .
ويروى : إلى سفر يريد : المسافرين .
الثالثة عشرة : دبيٌّ بضم الدال وكسر الموحدة المشددة بعدها ياء نسبة . في العباب
: قال الكسائي : هو من دببت أي : ليس فيها من يدب .
وقال ابن السيد : هذا على غير القياس والقياس دبيبيٌّ لأنه منسوب إلى الدبيب .
الرابعة عشرة : دبيج بكسر الدال وكسر الموحدة المشددة . قال ابن السيد : هو من
الدبج وهو النقش والتزيين .
____________________
ورواه بعضهم : دبيح بالحاء المهملة ولا وجه له إلا أن يكون فعيلاً من قولهم : دبح
الرجل بالتشديد إذا طأطأ رأسه . انتهى .
وقال صاحب العباب : شك أبو عبيدٍ في الجيم والحاء وسأل عنه بالبادية جماعةً من
الأعراب فقالوا : ما بالدار دبيٌّ وما زادوا على ذلك . ووجد بخط أبي موسى الحامض :
ما بالدار دبيحٌ كوقع بالجيم عن ثعلب .
وقال ابن فارس : الحاء في هذه الكلمة أقيس من الجيم . قال : وإن كان بالجيم كما
قيل : فليس من هذا ولعله يكون من دبي من الدبيب ثم حولت ياء النسبة جيماً على لغة
من يفعل ذلك . )
وقال القالي : أنشد ابن الأعرابي : الرجز ( هل تعرف المنزل من ذات الهوج ** ليس
بها من الأنيس دبيج ) الخامسة عشرة : وابرٌ بالواو وكسر الموحدة . قال ابن السيد :
يجوز أن يكون معناه ذا وبرٍِ أي : مالك إبل . ويجوز أن يكون معناه مخيم بخباء من
وبر . وأنشد القالي عن ابن الأعرابي : الطويل ( يميناً أرى من آل زبان وابراً **
فيفلت مني دون منقطع الحبل ) والفعل منفيٌّ في جواب القسم أي : لا أرى . وأنشد
صاحب العباب أيضاً : الطويل ( فأبت إلى الحي الذين وراءهم ** جريضاً ولم يفلت من
الجيش وابر ) وفي غالب نسخ الشرح : آبر بدل وابر وهو اسم فاعل من أبرت النخلة إذا
أصلحتها باللقح .
ولم أر من ذكرها في هذه الكلمات مع أنها لا تلزم النفي .
____________________
ووقع في التسهيل أيضاً آبر
قال الدماميني : هو تحريف من النساح فإن آبراً يستعمل في الإيجاب والصواب : وابر
بالواو .
السادسة عشرة : آبز قال الشارح : هو بالزاي وهو اسم فاعل من أبز الظبي يأبز أبزاً
وأبوزاً : وثب أو تطلق في عدوه . والآبز أيضاً : الإنسان الذي يستريح في عدوه ثم
يمضي . ولم أرها أيضاً في هذه الألفاظ مع أنها لا تلزم النفي .
وإن قلنا إنها وابز أولها واو فليست مادة الواو والباء والزاي موجودة . ولا أشك أن
هذه الكلمة تصحفت على الشارح إما من آبن بالنون ومد الهمزة وهي في التسهيل ونقلها
القالي عن ابن الأعرابي .
قال الدماميني : آبن على زنة اسم الفاعل من أبنه إذا عابه أي : ما فيها من يعيب
وذلك جنس الإنسان وإما من وابن نقل القالي عن اللحياني : ما بها وابنٌ بالواو
والموحدة .
قال صاحب القاموس : وما في الدار وابنٌ بالموحدة كصاحب أي : أحد مأخوذ من الوبنة
وهي الجوعة .
السابعة عشرة : تأمور . قال ابن السيد : حكى أبو زيد : ما بها تأمور أي : أحد
بالهمز . ويقال أيضاً : ما في الركية تامور يعني الماء . وكذا نقل القالي عن أبي
زيد . والتامور بلا همز : الدم .
ويقال : دم النفس .
قال أوس بن حجر يحضض عمرو بن هند على بني حنيفة في قتل المنذر بن ماء السماء :
الكامل ) ( أنبئت أن بني سحيمٍ أدخلوا ** أبياتهم تامور نفس المنذر ) قال الأصمعي
: يعني مهجة نفسه . والتامور : الخمر والزعفران أيضاً .
الثامنة عشرة : تؤمور بضم التاء والهمز نقل القالي عن اللحياني : ما بها تامور ولا
تؤمور
____________________
التاسعة عشرة : تومور بضم
التاء بلا همز .
العشرون : تومريٌّ بضم التاء والميم . قال ابن السكيت : وما بها تومري منسوب إلى
تامور .
وبلادٌ خلاءٌ : ليس بها تومري . ويقال للمرأة : ما رأيت تومرياً أحسن منها للمرأة
الجميلة أي : لم أر خلقاً . وما رأيت تومرياً أحسن منه . انتهى .
قال شارحه ابن السيد : تومري منسوب إلى التامور وهو دم القلب نسبة على غير قياس .
وهذه الكلمات الأربعة من مادة التمر .
الحادية والعشرون : نميٌّ بضم النون وتشديد الميم وتشديد الياء . قال صاحب القاموس
: وما بها نميٌّ كقميٍّ : أحد . والنمي أيضاً : الخيلنة والعيب والطبيعة وجوهر
الإنسان وأصله .
وقال القالي : هو من نممت وهو منسوبٌ على خلاف القياس إلى النمة بالكسر وهو القملة
.
فالنمي معناه : ذو قمل . وهذه الكلمة ليست موجودة في الإصلاح وهي مذكورة في
التسهيل .
هذا ما ذكره الشارح المحقق . وهو في هذا تابعٌ لابن مالك .
وبقيت كلماتٌ أخر أوردها ابن السكيت هي : صافر . قال شارحه : هو اسم فاعل من صفر
الرجل يصفر صفيراً إذا صوت بنفسه .
ونافخ ضرمة بفتح الضاد والراء قال شارحه : أي : نافخ حطبة فيها نار .
ولاعي قروٍ بالعين المهملة وفتح القاف وسكون الراء بعدها واو . قال شارحه : أما
لاعي فلاعقٌ حريص يقال : رجلٌ لعوٌ ولعاً وكلبة لعوة كذلك . والقرو : ميلغة الكلب
فكأن معناه ما بها كلبٌ ولا ذئب .
وقال صاحب الصحاح : يقال : ما بها لاعي قروٍ أي : ما بها لاعي قروٍ أي : ما بها من
يلحس عساً معناه ما بها أحد .
____________________
ومنها : ما بها ناخر قال شارحه : ناخر : اسم فاعل من نخر ينخر إذا ردد نفسه في
خيشومه .
ومنها : ما بها نابح قال شارحه : يعني كلباً . يقال : نبح الكلب ينبح بكسر الباء
وفتحها فهو )
نابح ونباح .
ومنها : أنيسٌ . قال شارحه : هو فعيل من أنس بالشيء . غير أنه لا يستعمل إلا في
الجحد .
قال : الرجز وبلدةٍ ليس بها أنيس ويرد عليه قوله كما يأتي قريباً : الوافر ( أذئب
القفر أم ذئبٌ أنيسٌ ** أصاب البكر أم حدث الليالي ) وأورد أيضاً : ما بها داعٍ
ولا مجيب .
ولا يخفى أن هذا لا يختص بالنفي .
ولم يزد شارحه على قوله : داعٍ من الدعاء ومجيب من الإجابة .
وأورد : ما بها راغٍ ولا ثاغٍ . قال شارحه : قد تستعملان في غير النفي لأن الثغاء
صوت المعز والرغاء صوت الإبل . ومعلوم أنهما قد يستعملان في الإيجاب والنفي .
____________________
وهذه كلمات أخر من أمالي القالي : ما بها دويٌّ منسوب إلى الدوية .
وقال صاحب الصحاح : ما بها دويٌّ أي : أحد ممن يسكن الدو وهو أرض من أرض العرب .
وربما قالوا : داوية قلبوا الواو الأولى الساكنة ألفاً لانفتاح ما قبلها . ولا
يقاس عليه .
ومنها : ما بها عينٌ . وزاد أبو عبيد عن الفراء : ما بها عائن . وزاد اللحياني :
ما بها عائنة . قال صاحب الصحاح : عائنة بني فلان : أموالهم ورعيانهم . وما بها
عائن وكذلك ما بها عينٌ أي : أحد . وبلدٌ قليل العين أي : قليل الناس . انتهى .
فعلم أن عيناً وعائنة لا يلزمان النفي . وكذلك قال ابن السيد في شرح الإصلاح : حكى
عن الفراء : ما بها عائن وما بها عين . فأما عائن فلا يستعمل في الإيجاب وأما
العين فهم أهل الدار فقد يستعمل في الإيجاب .
تشرب ما في وطبها قبل العين ومنها : ما بها طارف أي : من يطرف بعينه أي : ينظر بها
. فهذه ثلاث كلمات فالمجموع : تسع كلمات .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الخمسمائة ) الرجز ( لها ثنايا أربعٌ
حسان ** وأربعٌ فثغرها ثمان )
____________________
على أنه قد تحذف الياء من
ثماني ويجعل الإعراب على النون .
واستشهد به صاحب الكشاف لقراءة من قرأ : وله الجوار المنشآت بحذف الياء من الجوار
ورفع الراء كما في ثمان .
وأنكر الحريري في درة الغواص حذف هذه الياء .
وقال ابن بري فيما كتب عليه الكوفيون يجيزون حذف هذه الياء في الشعر . وأنشد عليه
ثعلبٌ قوله : اه .
والصحيح أنه غير مختص بالشعر بدليل الحديث الذي أورده الشارح المحقق وهو في صحيح
مسلم في باب الكسوف عن ابن عباس أنه قال : صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حين
كسفت الشمس ثمان ركعاتٍ في أربع سجدات قال شارحه النووي : قوله ثمان ركعاتٍ في
أربع سجدات أي : ركع ثمان مرات كل أربع في ركعة وسجد سجدتين في كل ركعة . وقد صرح
بهذا في الكتاب في الرواية الثانية .
ولا أعرف صاحب هذا الرجز .
وأنشد المعري في شرح ديوان البحتري قبل هذين البيتين : إن كريا أمةٌ ميسان و كرياً
بضم الكاف وفتح الراء وتشديد المثناة التحتية : اسم أمة . و الأمة : خلاف الحرة .
و ميسان بكسر الميم : فيعال من الميس وهو مصدر ماس يميس ميساً وميساناً أيضاً وهو
التبختر . أراد أنها تتبختر في مشيها .
____________________
وقوله : لها ثنايا إلخ هي جمع ثنية وهي أربعٌ من مقدم الأسنان ثنتان من فوق وثنتان
من تحت . وحذف التاء من أربع لأن المعدود وهي الثنية مؤنث . وأراد بالأربع الثاني
الرباعيات بفتح الراء وتخفيف الياء جمع رباعية على وزن ثمانية . والرباعيات : أربع
أسنان ثنتان من يمين الثنية واحدة من فوق وواحدة من تحت وثنتان من شمالها كذلك . )
واعلم أن أسنان الإنسان اثنتان وثلاثون سناً : أربع ثنايا . وأربع رباعيات وأربعة
أنياب وأربعة نواجذ وستة عشر ضرساً .
وبعضهم يقول : أربع ثنايا وأربع رباعيات وأربعة أنياب وأربعة نواجذ وأربع ضواحك
واثنتا عشرة رحًى .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الخمسمائة ) الوافر ( ثلاثة أنفسٍ وثلاث
ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي )
____________________
وأنشده سيبويه شاهداً على
تأنيث ثلاثة أنفس وكان القياس ثلاث أنفس لأن النفس مؤنثة لكن أنث لكثرة إطلاق
النفس على الشخص .
ويأتي نصه بعد أربعة شواهد .
ذكر الأصبهاني في الأغاني بسنده أن الحطيئة خرج في سفر له حين عم الغلاء ومعه
امرأته أمامة وبنته مليكة فنزل منزلاً وسرح ذوداً له ثلاثاً فلما قام للرواح فقد
أحدها فقال : ( أذئب القفر أم ذئبٌ أنيسٌ ** أصاب البكر أم حدث الليالي ) ( ونحن
ثلاثةٌ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي ) سرح الدابة : أطلقها لترعى . و
الذود من الإبل قال ابن الأنباري : سمعت أبا العباس يقول : ما بين الثلاث إلى
العشر ذود .
وقال الفارابي : وهي هنا ثلاثة وهي مؤنثة .
وقال في البارع : الذود لا تكون إلا إناثاً .
ويرد عليه قوله : أصاب البكر بفتح الباء وهو الفتي من الإبل . و الرواح : المسير .
و القفر : الخلاء والمفازة . وأراد بالذئب الأنيس السارق . و حدث الليالي بفتحتين
: ما يحدث فيها من المصائب والمراد مطلق الحدث لا بقيد كونه )
أراد : ما أدري كيف تلف البكر أصابه أحد الذئبين أم حدث الليالي .
____________________
وقوله : ثلاث أنفس خبر مبتدأ محذوف أي : نحن ثلاثة . و العيال بكسر العين : أهل
البيت ومن يمونه الإنسان الواحد عيل كجياد جمع جيد .
وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
ورأيت في أمالي الزجاجي الوسطى قال : أخبرنا الأشنانداني عن العتبي عن رجلٍ من
قريش قال : حضرت مجلس عبد الملك وعنده بطنٌ من بني عامر بن صعصعة وكان رجلٌ بينهم
معه ابنتاه وذوده وهن ثلاثٌ فراح ذوده يوماً ففقد منها واحداً فنشده أي : سأل عنه
وطلبه فلم ينشد فأوفى على صخرة وأنشأ يقول : الوافر ( أذئب القفر أم ذئبٌ أنيسٌ **
سطا بالبكر أم صرف الليالي ) ( وأنتم لو أراد الدهر عدواً ** عديد الترب من أهلٍ
ومال ) ( ونحن ثلاثةٌ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي ) ( ولو مولى ضبابٍ
عال فيهم ** لجر الدهر عن حالٍ لحال ) ( ومولاهم أبي لا عيب فيه ** وفي مولاكم بعض
المقال ) ( هلم براءةً والحي ضاح ** وإلا فالوقوف على إلال ) فطلبوا له ذوده
فردوها عليه وغرموا له وقالوا : اخرج عنا . انتهى . و سطا بكذا وعليه : بطش بشدة .
و الصرف بالفتح : حادث الدهر . و أنتم : مبتدأ و عديد : خبره والجملة دليلٌ لجواب
لو . و العدو : مصدر عدا عليه أي : ظلمه وتجاوز الحد . و عال الزمان بالعين
المهملة أي : جار مصدره العول .
____________________
و المولى هنا : حليف القوم .
و ضباب بالكسر : قبيلة . و عال هنا بمعنى افتقر وصار ذا عيلة . و جر بالبناء
للمفعول و الدهر نائب الفاعل . يوبخهم بأنه مولًى لهم ولم يأخذوا بيده .
وهلم هنا بمعنى احضروا . وبراءةً : مفعول له . وضاح : بارز . وإلال بكسر الهمزة
ولامين : جبل بعرفات .
يعني : إن لم يحضروا للبراءة في حال كون الحي ضاحياً فنحن نقف معكم على إلال .
وداعي : فاعل دعا . والقلوص : الناقة الشابة . وثبير : جبل بين مكة ومنى . وقتال
بالكسر : اسم رجل . )
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الخمسمائة ) ( ثلاث مئين للملوك وفى بها
** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) على أنه جاء ثلاث مئين في ضرورة الشعر .
وقال صاحب المفصل : وقد رجع إلى القياس من قال : ثلاث مئين . . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . البيت قال ابن يعيش : هذا في الشعر على القياس لأن الشعر
يفسح لهم في مراجعة الأصول المرفوضة . فهذا وإن كان القياس إلا أنه شاذٌّ في
الاستعمال .
____________________
وكذا قال ابن مالك : إذا كان مفسر الثلاثة وأخواتها مائة فيفرد نحو : ثلثمائة .
وكان القياس أن يجمع فيقال : ثلاث مئات أو مئين . إلا أن العرب لا تجمع المائة إذا
أضيف إليها عددٌ إلا قليلاً كقوله : ثلاث مئين للملوك . . . . . . . . . . . . . .
البيت وكلهم من سيبويه قال : يقال ثلثمائة وكان حقه أن يقولوا : مئين أو مئات كما
تقول : ثلاثة آلاف لأن ما بين الثلاثة إلى العشرة يكون جماعة نحو : ثلاثة رجال
وعشرة رجال ولكنهم شبهوه بأحد عشر وثلاثة عشر . انتهى .
والنون من مئين منونة . قال شارح اللباب قالوا : قتل في معركة ثلاثةٌ من ملوك
العرب وكانت و الأهاتم بنقطتين من فوق : بنو الأهتم بن سنان بن سمي . وإنما سمي
بذلك لأنه كسرت ثنيته يوم الكلاب . والهتم : كسر الثنايا من أصلها . انتهى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قول ثلاث مئين قيل : غرم ثلاث ديات
فرهن بها رداءه . وكانت الدية مائة إبل والمعنى : ثلثمائة إبل . وفي بها ردائي حين
رهنته بها وجلت تلك المئون المرهون بها ردائي حين أديتها وجلت فعلتي هذه العار عن
وجوه الأهاتم وهم قوم الأهتم وهو لقب سنان بن سمي لأنه هتمت ثنيته يوم الكلاب .
وفي البيت وصفٌ لعظم شأنه لأنه لا يقدم على تحمل الديات والغرامات إلا السيد
العظيم الشأن .
ووصفٌ لنفاسة برده وغلاء ثمنه حيث رهنه بثلثمائة من الإبل . وفيه تأكيدٌ لعظم شأنه
. )
انتهى .
وقوله : ووصفٌ لنفاسة برده إلخ ليس رهن البردة لأنها تقاوم ثمن الإبل المذكورة بل
لأن الشريف إذا رهن شيئاً ولو كان حقيراً فلا بد من فكاكه لئلا يلزمه العار ولو
مات فكه بنوه أو أقاربه .
____________________
ومصداق ذلك ما قدمناه في ترجمة أبي تمام من حكاية كسرى مع حاجب بن زرارة في والبيت
من قصيدة طويلة للفرزدق مذكورةٍ في المناقضات وليست رواية البيت كذا وإنما هي : (
فدًى لسيوفٍ من تميمٍ وفي بها ** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) قال شارح المناقضات
: يعني بالأهاتم الأهتم بن سنان بن خالد بن منقر بن عبيد بن الحارث بن عمرو بن كعب
بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
فعرف أن الأهتم ليس لقباً لسنان بن خالد ولا سنان هو ابن سمي كما تقدم . ومشى عليه
العيني .
وناقضه جرير بقصيدة مثلها منها : ( فغيرك أدنى للخليفة عهده ** وغيرك جلى عن وجوه
الأهاتم ) قال شارحها : قوله : فغيرك أدنى إلخ يعني وكيع بن حسان بن قيس بن أبي
سود قتل قتيبة بن مسلم فتكاً وبعث برأسه إلى سليمان بن عبد الملك بن مروان وطاعته
لأن قتيبة كان خلع سليمان .
وقصة رداء الفرزدق رواها أبو عبيدة قال : كان الفرزدق بالمدبنة حين جاءت وقعة وكيع
وحج سليمان بن عبد الملك فبلغه بمكة وقعة وكيع بقتيبة فخطب الناس بمسجد عرفات :
فذكر غدر بني تميم ووثوبهم على سلطانهم وإسراعهم إلى الفتن وأنهم أصحابفتن وأهل
غدر وقلة شكر .
____________________
فقام إليه الفرزدق فقال وفتح رداءه : يا أمير المؤمنين هذا ردائي رهنٌ لك بوفاء
بني تميم والذي بلغك كذب فقال الفرزدق في ذلك حيث جاءت بيعة وكيع لسليمان : الطويل
( فدًى لسيوفٍ من تميمٍ وفى بها ** ردائي وجلت عن وجوه الأهاتم ) ( شفين حزازات
الصدور ولم تدع ** علينا مقالاً في وفاءٍ للائم ) ) ( أبأنا بهم قتلى وما في دمائهم
** وفاءٌ وهن الشافيات الحوائم ) ( جزى الله قومي إذ أراد خفارتي ** قتيبة سعي
الأفضلين الأكارم ) ( هم سمعوا يوم المحصب من منًى ** ندائي إذا التفت رفاق
المواسم ) و الحوائم : العطاش التي تحوم حول الماء . وخفض الحوائم على معنى الحسن
الوجه . انتهى .
وترجمة الفرزدق تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وقال العيني : الرداء في البيت الشاهد بمعنى السيف . وأنشد عليه بيتاً ثم قال :
ثلاث مئين مبتدأ وجملة وفى بها : خبره . و جلت بالتشديد بمعنى جلت بالتخفيف من جل
القوم عن البلد يجلون بالضم إذا جلوا والمعنى : كشفت ردائي حين وفت بديات الملوك
الثلاثة هم ذلك وتمادي الحروب عن أعيان الأهاتم وكبرائهم . فافهم .
هذا كلامه وهو كلام من لم يصل إلى العنقود .
____________________
ورأيت مثل البيت الشاهد في شعر قراد بن حنش الصاردي وهو : الطويل ( ونحن رهنا
القوس ثمت فوديت ** بألفٍ على ظهر الفزاري أقرعا ) ( بعشر مئينٍ للملوك سعى بها **
ليوفي سيار بن عمرٍ و فأسرعاد ) قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : إن سيار بن
عمرو بن جابر الفزاري احتمل للأسود بن المنذر دية ابنه الذي قتله الحارث بن ظالم
ألف بعير وهي دية الملوك ورهنه بها قوسه فوفى . وكان هذا قبل قوس حاجب بن زرارة .
وقال أبو عبيدة في مقاتل الفرسان : إن أخا سيار لأمه الحارث بن سفيان الصاردي
تكفلها للأسود فقام منها بثمانمائة ثم مات فرهن سيار قوسه على المائتين الباقيتين
لا غير فلما مدح قراد بن حنش بني فزارة جعل الحمالة كلها لسيار . انتهى .
وألف أقرع بالقاف أي : تام . و قراد بن حنش : شاعرٌ جاهلي من بني صاردة بتقديم
الراء على الدال وهم فخذ من وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الخمسمائة )
الرجز
____________________
وحاتم الطائي وهاب المئي على
أن أصله عند الأخفش : المئين فحذفت النون لضرورة الشعر .
وهذا البيت من رجز أورده أبو زيد في نوادره في موضعين : الموضع الأول قال فيه : هو
لامرأة من بني عامر .
والموضع الثاني قال فيه : هو لامرأة من بني عقيل تفخر بأخوالها من اليمن وهو :
الرجز ( حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) ( ولم يكن كخالك
العبد الدعي ** يأكل أزمان الهزال والسني ) هنات عيرٍ ميت غير ذكي قولها : هنات
عيرٍ ميت تعني ذكر العير فكنت عنه لأنها امرأة . انتهى .
وقال في الموضع الأول : حذف التنوين من حاتم الطائي لالتقاء الساكنين . وقال أبو
علي فيما كتبه فأما المئي والسني فإنها جمعٌ على فعول ثم قلبت الواوات ياءات فصار
مئي وسنيٌّ ثم خفف بأن حذف إحدى الياءين كما فعل في علي والدعي فبقي المئي والسني
. انتهى .
وقال أبو بكر بن السراج في الأصول : ذكر الأخفش سنين ومئين فقال : فيهما قولان .
ثم اختار أحدهما وهو الصحيح عندنا فقال : وأما سنين ومئين في قول من رفع النون فهو
فعيل ولكن كسر الفاء ككسرة ما بعدها وأجمعوا كلهم على كسرها فصارت النون في آخر
سنين بدلاً من الواو لأن أصلها من الواو .
وفي مئين النون بدل من الياء لأن أصلها من الياء كأنها كانت مئي وقد قالوها في بعض
الشعر ساكنةً ولا أراهم أرادوا إلا التثقيل ثم اضطروا فخففوا لأنهم لو
____________________
أرادوا التخفيف لصار الاسم
على فعل وهذا بناءٌ قليل .
قال الشاعر : ( حيدة خالي ولقيطٌ وعلي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) وأما قولهم :
ثلاث مئي فإنهم أرادوا بمئي جماعة المائة كتمرة وتمر تقول فيه : رأيت مئياً مثل
معياً . )
وقولهم : رأيت مئاً مثل معاً خطأٌ لأن المئي إنما جاءت في الشعر .
فنقول : ليس لك أن تدعي أن هذه الياء للإطلاق وأنت لا تجد ما هو على حرفين يكون
جماعةً ويكون واحدة بالهاء نحو تمرة وتمر . قال أبو الحسن : وهو مذهب يونس يعني :
بالياء .
قال : والقياس الجيد عندنا أن يكون سنين فعلينا مثل غسلين محذوفة ويكون قول الشاعر
: سني والمئي مرخماً .
فإن قلت : إن فعلينا لم يجئ في الجمع وقد جاء فعيل نحو : كليب وعبيد وقد جاء فيه
ما لزمه فعيل مكسور الفاء نحو : مئين فإن من الجمع أشياء لم يجئ مثلها إلا بغير
اطرد نحو : سفر وقد جاء منه ما ليس له نظير نحو : عدًى .
وأنت إذا جعلت سنيناً فعيلاً جعلت النون بدلاً والبدل لا يقاس عليه ولا يطرد
ومخالفة الجمع للواحد قد كثر فأن تحمله على ما لا بدل فيه أولى .
وليس يجوز أن تقول : إن الياء في سنين أصلية وقد وجدتها زائدة في هذا البناء بعينه
لما قلت : فعلين وفعلون يعني : أنك تقول : سنين يا هذا أو سنون .
ثم قال : قوله : ( وحاتم الطائي وهاب المئي ** يأكل أزمان الهزال والسني ) فهذا
إما أن يكون رخم سنين ومئين وإما أن يكون بنى سنة ومائة على سني ومئي وكان أصلهما
سنو ومئو فلما حذف النون ورخم بقي الاسم آخره واوٌ قبلها ضمة فلما أراد أن يجعله
اسماً كالأسماء التي لم يحذف منها شيء قلب الواو
____________________
ياءً وكسر ما قبلها لأنه ليس
في الأسماء ما آخره واوٌ قبلها ضمة . فمتى وقع من هذا شيءٌ قلبت الواو ياء . اه .
وقولها : حيدة خالي مبتدأٌ وخبر . و حيدة بفتح المهملة وسكون المثناة التحتية . و
لقيط بفتح اللام معطوف على حيدة . وكذا عليٌّ وحاتم فيكون أخوالها أربعة .
وروى هذين البيتين فقط الأخفش سعيد بن مسعدة في كتاب المعاياة لرجل من طيئ وذكر
خالداً بدل حاتم .
وقولها : ولم يكن كخالك إلخ الكاف مفتوحة لأنها خاطبت رجلاً . و الدي : غير خالص
النسب .
وقولها : يأكل أزمان إلخ هذا بيانٌ لعدم المشابهة بين خالها وبينه . و أزمان :
ظرفٌ ليأكل )
وهو جمع زمان . و الهزال بالضم : الضعف من الجوع . و السني : مرخم سنين جمع سنة
بمعنى الجدب والقحط . و هنات مفعول يأكل منصوب بالكسرة جمع هنة مؤنث هنٍ وهو كناية
عما يستقبح التصريح باسمه وهو هنا أير الحمار . و العير بفتح العين المهملة :
الحمار الوحشي والأهلي أيضاً والأنثى عيرة . و ميت : وصف عير وكذلك غير ذكي . و
الذكي : المذبوح خففت الياء الضرورة .
وقال أبو الحسن عليٌّ الأخفش فيما كتبه على نوادر أبي زيد : قال أبو سعيد : وروى
الرياشي مرةً أخرى بدل البيت الأخير : هنات عير ميتةٍ غير ذكي
____________________
قال أبو الحسن : الأول أحب
إلي وهو أجود . أبو زيد هنات عير ميتٍ تعني ذكر العير فكنت عنه لأنها امرأة .
والميتة بفتح الميم يكون نعتاً للشيء فإذا كسرت كانت الشيء بعينه .
قال أبو الحسن : الميتة تكون مصدراً كقولك : القعدة والركبة وما أشبههما وتكون
نعتاً كقولك : مررت بفرس ميتة فتنعته بالمصدر كما تقول : مررت برجل عدل ثم يصير
اسماً غالباً كأجدل وما أشبهه فتقول : هذا ميتة كما تقول : هذا أجدلٌ .
والميتة بكسر الميم : الحال التي يكون عليها الشيء كقولك : كريم الميتة وحسن
الصرعة .
والكسر مطرد في الحالات كلها كما أن الفتح مطرد في المرة . هذا الحق عندي الذي لا
يجوز غيره . انتهى .
تتمة ( إني لدى الحرب رخي اللبب ** عند تناديهم بهال وهب ) ( أمهتي خندف والياس
أبي ** وحاتم الطائي وهاب المئي ) وهذا لا أصل له فإن الرجز عنده لقصي بن كلاب أحد
أجداد النبي صلى الله عليه وسلم .
وكيف يكون حاتم الطائي أباً لقصيٍّ مع أنه بعده بمدة طويلة . وقافية الرجز أيضاً
تأباه وليس في هذا اشتباه .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
إذا عاش الفتى مائتين عاماً ** فقد ذهب اللذاذة والفتاء ) على أنه قد يفرد مميز
المائة وينصب كما في البيت .
وأورده سيبويه في موضعين : الأول : في باب الصفة المشبهة بالفاعل وذكر أسماء العدد
وعملها في الأسماء التي تبينها بالجر والنصب . حتى انتهى إلى قوله : فإذا بلغت
العقد تركت التنوين والنون وأضفت وجعلت الذي إلا أنك تدخل فيه الألف واللام لأن
الأول يكون به معرفة ولا يكون المنون به معرفة . وذلك قولك : مائة درهم ومائة
الدرهم . وكذلك إن ضاعفته فقلت : مائتا الدرهم ومائتا الدينار وكذلك الذي بعده
واحداً كان أو مثنى . وذلك قولك : ألف درهم وألفا درهم . وقد جاء في الشعر بعض هذا
منوناً .
قال الربيع بن ضبع الفزاري : إذا عاش الفتى مائتين عاماً انتهى .
والموضع الثاني باب كم قال فيه : لأنه لو جاز إذا اضطر شاعر فقال : ثلاثة أثواباً
كان معناه معنى ثلاثة أثواب قال الشاعر :
____________________
إذا عاش الفتى مائتين عاماً
انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه إثبات النون في مائتين في ضرورة ونصب ما بعدها وكان الوجه
حذفها وخفض ما بعدها إلا أنها شبهت للضرورة بالعشرين . ونحوها مما يثبت نونه وينصب
ما بعده .
وروى : أودى بدل ذهب بمعنى انقطع وهلك . و الفتاء : مصدر لفتى .
وروى : تسعين عاماً ولا ضرورة فيه على هذا . انتهى .
ورواية : تسعين لا أصل لها كما يعلم مما ياي .
وروي : التخيل بدل اللذاذة . و التخيل : التكبر وعجب المرء بنفسه . )
وروى بدله : المسرة و المروءة أيضاً . و الفتى : الشاب وقد فتي بالكسر يفتى بالفتح
فتًى فهو فتي السن بين الفتاء . قال الجواليقي : والفتاء مصدرٌ لفتي .
والبيت آخر أبيات ستة للربيع بن ضبع الفزاري وهي : الوافر ( ألا أبلغ بني بني
ربيعٍ ** فأنذال البنين لكم فداء ) ( بأني قد كبرت ودق عظمي ** فلا تشغلكم عني
النساء )
____________________
( فإن كنائني لنساء صدقٍ **
وما ألى بني وما أساؤوا ) ( إذا كان الشتاء فأدفئوني ** فإن الشيخ يهدمه الشتاء )
( فأما حين يذهب كل قرٍّ ** فسربالٌ خفيفٌ أو رداء ) إذا عاش الفتى مائتين عاماً .
. . . . . . . . . . . . . البيت قوله : فأنذال البنين لكم فداء جملة دعائية
معترضة .
وقوله : بأني قد كبرت الباء متعلقة بقوله : أبلغ في البيت المتقدم . وكبر من باب
تعب . ودق أي : صار دقيقاً يدق من باب ضرب دقة : خلاف غلظ فهو دقيق .
وروى : ورق جلدي أي : صار رقيقاً بالراء من الرقة . ولا ناهية . وشغل من باب نفع .
وعني أي : عن تفقد أموري وإصلاحها . و الكنائن : جمع كنة بالفتح والتشديد وهي
امرأة الابن والأخ يريد : أنهن نعم النساء . و ألى بتشديد اللام أي : ما أبطؤوا وما
قصروا . وهو من ألوت .
يقول : ما أبطأ بني عن فعل المكارم وما يجب عليهم من القيام بأمري .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : معنى ألى قصر في بري . يقال : ألا يألو فإذا
أكثرت الفعل قلت : ألى يؤلي تألية . انتهى .
وقال أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين : حدثنا أبو الأسود النوشجاني
____________________
عن العمري عن أبي عمرو
الشيباني قال : سألني القاسم بن معن عن قوله : وما ألى بني وما أساؤوا قلت :
أبطؤوا .
فقال : ما تركت في المسألة شيئاً .
ونقل صاحب الصحاح هذه الحكاية مجملة ثم قال أبو حاتم : و التألية التقصير ومن قال
: وما )
آلى بالمد فمعناه ما أقسموا أي : لا يبروني . انتهى .
وقال السيد المرتضى في أماليه : ألى بالتشديد هو الصحيح ومعناه : قصر في قول بعضهم
.
واللغة الأخرى ألا مخففاً يقال : ألا الرجل يألو إذا قصر وفتر . فأما آلى بالمد في
البيت فلا وجه له لأنه بمعنى حلف ولا معنى له ها هنا . انتهى .
وقوله : إذا كان الشتاء إلخ هذا البيت من أبيات الجمل وغيره .
ويروى : إذا جاء الشتاء . و أدفئوني : سخنوني لأدفأ . يقول : إذا دخل فصل الشتاء
فدثروني بالثياب . فإن هذا الفصل يضعف قوة الشيخ ويهدم عمره ويخاف عليه فيه . ودل
على أنه يريد أن يدفأ بالثياب لا بغير ذلك قوله بعد البيت : فأما حين يذهب كل قرٌّ
.
والشتاء في غير هذا الموضع يراد به الضيق وشظف العيش كما قال الحطيئة : الوافر (
إذا نزل الشتاء بدار قومٍ ** تجنب جار بيتهم الشتاء ) إذ الشتاء نفسه لا يقدر أحدٌ
أن يمتنع منه وإنما أراد أنهم يواسون من جاورهم فيتجنبه الضيق وسوء الحال والمعيشة
. و يهدمه من هدمت البناء من باب ضرب إذا أسقطته فانهدم .
____________________
و القر بضم القاف : البرد . و
السربال بالكسر : القميص . قال الجواليقي : و أو : بمعنى الواو .
وقوله : إذا عاش الفتى إلخ نصب عاماً على التمييز كما ينصب المفرد بعد العشرين وما
فوقها .
ولما صرفه عن الإضافة نصبه على التمييز وأعمل فيه مائتين ونصب مائتين على الظرف .
قال ابن المستوفي : نسبت هذه الأبيات ليزيد بن ضبة . والرواية : إذا عاش الفتى
ستين عاماً فلا ضرورة ولا شاهد . انتهى .
وقول شارح اللباب : وروي : إذا عاش الفتى خمسين عاماً رواية واهية فإن ابن الخمسين
لا يبلغ من الضعف هذه الرتبة .
والصحيح أن الأبيات للربيع بن ضبع الفزاري كما رواها له جمٌّ غفير وهو من المعمرين
أورده أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين وقال : قالوا : وكان من أطول من كان
قبل الإسلام عمراً : ربيع بن ضبع بن وهب بن بغيض ابن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة
عاش أربعين وثلثمائة سنة ولم يسلم . وقال لما بلغ مائتي سنة وأربعين سنة : )
المنسرح ( أصبح مني الشباب قد حسرا ** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا )
____________________
( ها أنا ذا آمل الخلود وقد
** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) ( أبا امرئ القيس هل سمعت به ** هيهات هيهات طال ذا
عمرا ) ( أصبحت لا أحمل السلاح ولا ** أملك رأس البعير إذا نفر ) ( والذئب أخشاه
إن مررت به ** وحدي وأخشى الرياح والمطرا ) ( من بعد ما قوةٍ أسر بها ** أصبحت
شيخاً أعالج الكبرا ) وقال لما بلغ مائتي سنة : ( ألا أبلغ بني بني ربيعٍ **
فأشرار البنين لكم فداء ) الأبيات المتقدمة . هذا ما أورده أبو حاتم .
وأورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة فيمن أدرك النبي صلى الله عليه وسلم
وكان يمكنه أن يسمع منه فلم ينقل ذلك . وقال : هو جاهلي ذكر ابن هشام في التيجان
أنه كبر وخرف وأدرك الإسلام . ويقال : إنه عاش ثلثمائة سنة منها ستون في الإسلام
ويقال : لم يسلم .
انتهى .
وذكره السيد المرتضى في فصل المعمرين من أماليه قال : ومن المعمرين : الربيع بن
ضبع الفزاري يقال : إنه بقي إلى أيام بني أمية وروي أنه دخل على عبد الملك بن
مروان فقال له : يا ربيع أخبرني عما أدركت من العمر والمدى ورأيت من الخطوب
الماضية . فقال : أنا الذي أقول :
____________________
( ها أنا ذا آمل الخلود وقد
** أدرك عقلي ومولدي حجرا ) فقال عبد الملك : قد رويت هذا من شعرك وأنا صبيٌّ .
قال : وأنا القائل : ( إذا عاش الفتى مائتين عاماً ** فقد ذهب اللذاذة والفتاء )
قال : وقد رويت هذا من شعرك وأنا غلام وأبيك يا ربيع لقد طار بك جدٌّ غير عاثر
ففصل لي عمرك .
قال : عشت مائتي سنة في فترة عيسى عليه السلام وعشراً ومائة سنة في الجاهلية وستين
سنةً في الإسلام . )
قال : فأخبرني : عن فتيةٍ من قريش متواطئي الأسماء . قال : سل عن أيهم شئت . قال :
أخبرني عن عبد الله بن عباس . قال : فهمٌ وعلم وعطاءٌ جذم ومقرًى ضخم . قال :
فأخبرني عن عبد الله بن عمر . قال : حلم وعلم وطول كظم وبعدٌ من الظلم .
قال : فأخبرني عن عبد الله بن جعفر . قال : ريحانة طيبٌ ريحها لينٌ مسها قليل على
المسلمين ضرها . قال : فأخبرني عن عبد الله بن الزبير . قال : جبلٌ وعر ينحدر منه
الصخر .
قال السيد رضي الله عنه : إن كان هذا الخبر صحيحاً فيشبه أن يكون سؤال عبد الملك
إنما كان في أيام معاوية لا في ولايته لأن الربيع يقول في الخبر : عشت في الإسلام
ستين سنة وعبد الملك ولي في سنة خمس وستين من الهجرة . فإن كان صحيحاً فلا بد مما
ذكرناه . فقد روي أن الربيع أدرك أيام معاوية .
ويقال : إن الربيع لما بلغ مائتي سنة قال : ألا أبلغ بني بني ربيعٍ . . . . . . .
. الأبيات المتقدمة
____________________
وقوله : عطاءٌ جذم أي : سريع
. وكل شيء تسرعت به فقد جذمته . وفي الحديث : إذا أذنت فرتل وإذا أقمت فاجذم أي :
أسرع . والمقرى : الإناء الذي يقرى فيه الضيف . انتهى ما ذكره السيد المرتضى .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : روى الرواة أن الربيع بن ضبع عاش حتى أدرك
الإسلام وأنه قدم الشام على معاوية بن أبي سفيان ومعه حفداته . ودخل حفيده على
معاوية فقال له : اقعد با شيخ . فقال له : وكيف يقعد من جده بالباب فقال له معاوية
: لعلك من ولد الربيع بن ضبع فقال : أجل . فأمره بالدخول فلما دخل سأله معاوية عن
سنه فقال : ( كأنها درةٌ منعمةٌ ** من نسوةٍ كن قبلها دررا ) ( أصبح مني الشباب
مبتكرا ** إن ينأ عني فقد ثوى عصرا ) إلى آخر الأبيات المتقدمة . فقرأ معاوية :
ومن نعمره ننكسه في الخلق . انتهى .
وقد أورد أبو زيد في نوادره هذه الأبيات كذا . وقال أبو حاتم : الزخين بالخاء
المعجمة . وقال الأخفش : الذي صح عندنا بالجيم .
____________________
وقوله : أصبح مني الشباب إلخ حسر البعير : أعيا . وروى : مبتكراً اسم فاعل من
الابتكار . )
وقوله : فارقنا أي : الشباب . وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن المراد
: أراد فراقنا .
قال ابن جني في المحتسب : ظاهر هذا البيت إلى التناقض لأنا إذا فارقنا فقد فارقناه
لا محالة فما معنى قوله من بعد : قبل أن نفارقه . وهو عندنا على إقامة المسبب مقام
السبب وهو وضع المفارقة موضع الإرادة لقرب أحدهما من الآخر .
وروى بدله : ودعنا قبل أن نودعه قال الدماميني في الحاشية الهندية على المغني :
وقع في حماسة أبي تمام قول ربيع بن زياد يرثي مالك بن زهير العبسي : الكامل
____________________
( من كان مسروراً بمقتل مالكٍ
** فليأت نسوتنا بوجه نهار ) ( يجد النساء حواسراً يندبه ** بالصبح قبل تبلج
الأسحار ) قال المرزوقي : إني لأتعجب من أبي تمام مع تكلفة رم جوانب ما اختاره من
الأبيات كيف ترك قوله : فليأت نسوتنا وهي لفظةٌ شنيعة جداً . وأصلحه المرزوقي
بقوله : فليأت ساحتنا .
قال التفتازاني : وأنا أتعجب من جار الله كيف لم يورده على هذا الوجه وحافظ على
لفظ الشاعر دراية مع زعمه أن القراء يقرؤون القرآن برأيهم . وأنا أتعجب من إنشاد
صاحب المغني لمثل هذا البيت أورده هنا مع أنه أشنع من بيت الحماسة وأفحش . ولقد
كان في غنية بما أورده من الكتاب والسنة .
قال ابن نباتة في مطلع الفوائد ومجمع الفرائد : في قوله : بالصبح قبل تبلج الأسحار
سؤالٌ لطيف وهو أن الصبح لا يكون إلا بعد تبلج الأسحار فكيف يقول قبله والجواب :
أنه أراد بقوله : يندبه بالصبح أنهن يصفنه بالخلال المضيئة والمناقب الواضحة التي
هي كالصبح . انتهى .
وقوله : أصبحت لا أحمل السلاح إلخ أورد في التفسيرين عند قوله تعالى : فهم لها
مالكون على أن الملك الضبط والتسخير كما في قوله : لا أملك رأس البعير أي : لا
أضبطه .
وقوله : والذئب أخشاه إلخ أورده سيبويه في كتابه والزجاجي في جمله وابن هشام في
شرح )
الألفية باب الاشتغال على أن الذئب منصوب بفعلٍ يفسره أخشاه .
يقول : قد ضعفت قواه عن حمل سلاح الحرب وصار في حال من لا يقدر على تصريف البعير
إذا ركبه ويخاف الذئب أن يعدو عليه ويتأذى بالريح إذا هبت والأمطار إذا نزلت .
____________________
وحجر بضم الحاء المهملة والجيم هو أبو امرئ القيس الشاعر . وقوله : طال ذا عمرا هو
تعجب . أي : ما أطول هذا العمر .
وقوله : من بعد ما قوة إلخ ما زائدة . و أعالج أي : أقاسي أمراض الكبر .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من أبيات الأصول :
الكامل ( فيها اثنتان وأربعون حلوبةً ** سوداً كخافية الغراب الأسحم ) على أنه
يجوز وصف المميز المفرد بالجمع باعتبار المعنى كما في البيت فإن حلوبة مميز مفرد
للعدد وقد وصف بالجمع وهو سود : جمع سوداء .
قال ابن السراج في الأصول : وتقول : عندي عشرون رجلاً صالحاً وعشرون رجلاً صالحون
ولا يجوز صالحين على أن تجعله صفة رجل .
فإن كان جمعاً على لفظ الواحد جاز فيه وجهان تقول : عندي عشرون درهماً جياداً
وجيادٌ . ومن رفع جعله صفة للعشرين ومن نصب أتبعه التفسير . وهذا البيت ينشد على
وجهين : ( فيها اثنتان وأربعون حلوبةً ** سوداً كخافية الغراب الأسحم ) ويروى :
سودٌ بالرفع .
____________________
وتقول : عندي ثلاث نسوة عجوزان وشابةٌ وعجوزين وشابةٌ ترد مرةً على ثلاث ومرة على
نسوة . انتهى .
فعرف أن كلام الشارح ليس على إطلاقه وينبغي تقييده بأن تكون الصفة على زنة المفرد
بأن لا تكون جمعاً .
قال أبو جعفر والخطيب والتبريزي : قوله : سوداً نعت لحلوبة لأنها في معنى الجماعة
والمعنى من )
الحلائب .
ويروى : سودٌ على أن يكون نعتاً لقوله : اثنتان وأربعون .
فإن قيل : كيف جاز أن ينعتهما وأحدهما معطوف على صاحبه قيل : لأنهما قد اجتمعا
فصارا بمنزلة قولك : جاءني زيد وعمرٌ و الظريفان . انتهى .
قال العيني : الشاهد في قوله : سوداً فإنها نعتٌ لقوله حلوبة وروعي فيها اللفظ .
انتهى .
ووجه ما قاله شراح معلقة عنترة : أبو جعفر النحوي والأعلم والخطيب أن الحلوبة
تستعمل في الواحد والجمع على لفظٍ واحد يقال : ناقةٌ حلوبة وإبلٌ حلوبة .
وقال الزوزني في شرح المعلقة : الحلوبة : جمع الحلوب عند البصريين وكذلك قتوبة
وقتوب وركوبة وركوب . وقال غيرهم : هي بمعنى محلوب وفعولٌ إذا كان بمعنى المفعول
جاز أن تلحقه التاء . انتهى .
وعلى هذا لا شاهد فيه ويكون من وصف الجمع بالجمع .
ولم يذكر الإمام المزوقي في شرح الفصيح غير هذا الأخير قال : وفعول إذا كان في
معنى مفعول قد تلحقه الهاء نحو : ركوبة وحلوبة وقتوبة . وأنشد هذا البيت .
____________________
وبما تقدم يرد قول الأعلم في زعمه أن سوداً ليس بوصف الحلوبة . قال : قوله : سوداً
حال من قوله : اثنتان وأربعون وهو حال من نكرة . ويجوز رفعه على النعت . ولا يكون
نعتاً لحلوبة لأنها مفردة إذ كانت تمييزاً للعدد وسوداً جمع ولا ينعت الواحد
بالجمع . انتهى .
ويعرف جوابه مما سقناه .
والبيت من معلقة عنترة بن شداد العبسي وقبله : الكامل ( ما راعني إلا حمولة أهلها
** وسط الديار تسف حب الخمخم ) راعني : أفزعني . و الحمولة بفتح الحاء : الإبل
التي يحمل عليها . و وسط : ظرف . و تسف : تأكل يقال : سففت الدواء وغيره بالكسر
أسفه بالفتح .
قال أبو عمرو الشيباني : و الخمخم بكسر الخائين المعجمتين : بقله لها حبٌّ أسود
إذا أكلته الغنم قلت ألبانها وتغيرت . وإنما وصف أنها تأكل هذا لأنها لم تجد غيره
.
وروى ابن الأعرابي : الحمحم بكسر الحائين المهملتين يروى بضمهما . وقال : الحمحم
أسرع هيجاً أي : يبساً من الخمخم . )
وإنما راعه كون الحمولة وسط الدار لأنها كانت عازبةً في المرعى فلما أرادوا الرحيل
ردوها إلى الديار ليتحملوا عليها فأفزعه ذلك .
وقال الخطيب : معنى البيت أنه راعه سف الحمولة حب الخمخم لأنه لم يبق شيء إلا
الرحيل فصارت تأكل حب الخمخم وذلك أنهم كانوا مجتمعين في الربيع فلما يبس البقل
ارتحلوا وتفرقوا .
____________________
يقول : لما جئت فنظرت إلى أهلها قد تحملوا أفزعني ذلك لفراقي إياها .
وقوله : فيها اثنتان وأربعون حلوبة إلخ أي : في هذه الحمولة من النوق التي تحلب
اثنتان وأربعون حلوبة .
وقال العيني : الضمير راجعٌ للركاب في بيت قبله .
وهذا خلاف الظاهر مع القرب . وفيها خبر مقدم واثنتان : مبتدأ مؤخر والجملة حال من
الحمولة .
قال أبو جعفر والخطيب : اثنتان مرفوع بالابتداء وإن شئت بالاستقرار . يريد : أن
فيها حالٌ من حمولة واثنتان فاعل فيها .
وقالا : ويروى : خلية بفتح الخاء المعجمة بدل حلوبة . و الخلية : أن يعطف على
الحوار ثلاثٌ من النوق ثم يتخلى الراعي بواحدةٍ منهن . فتلك الخلية . وأوضح منه أن
الخلية ناقةٌ تعطف مع أخرى على ولدٍ واحد فتدران عليه ويتخلى أهل البيت بواحدةٍ
يحلبونها .
وقوله : كخافية صفة سوداً . وشبه سواد تلك النوق الحلائب بسواد خوافي الغراب وهي
أواخر الريش من الجناح مما يلي الظهر سمين بذلك لخفائها . والأسحم : الأسود .
وإنما خص الخوافي لأنها أبسط وأشد بريقاً وألين .
وإنما ذكر أن في إبلهم هذا العدد من الحلوبة السود ليخبر بكثرتهم وكثرة إبلهم لأنه
إذا كان في إبلهم هذا العدد من هذا الصنف على غرابته وقلته فغيره من أصناف الإبل
أكثر من أن يحصى عدده . وإنما وصفها بالسود لأنها أنفس الإبل عندهم وأعزها .
وترجمة عنترة صاحب المعلقة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل (
وكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ : كاعبان ومعصر ) على أنه يجوز اعتبار
المعنى فتجرد علامة التأنيث من عدد المؤنث المعنوي كما هنا فإنه جرد ثلاثاً من
التاء لكون شخوص بمعنى نساء بدليل الإبدال عنه بما بعده .
قال سيبويه : وزعم يونس عن رؤبة أنه قال : ثلاث أنفس على تأنيث النفس كما تقول : ثلاث
أعين للعين من الناس .
قال الحطيئة : الوافر ( ثلاثة أنفسٍ وثلاث ذودٍ ** لقد جار الزمان على عيالي )
وقال عمر بن أبي ربيعة : ( فكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ : كاعبان
ومعصر ) فأنث الشخص إذ كان في المعنى أنثى . انتهى .
قال أبو جعفر النحاس : قرأت على أبي الحسن علي بن سليمان عن أبي العباس المبرد هذا
البيت .
____________________
قال أبو العباس : لما اضطر جعل الشخص بدلاً من امرأة إذ كان يقصدها به ولذلك قال :
كاعبان ومعصر فأبان . ومن ذلك قول الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها
لأن المعنى واقعٌ على حسنات وأمثال نعتٌ لما وقع عليه العدد .
وكذلك : وقطعناهم اثنتي عشرة أسباطاً لأن المعنى واقعٌ على جماعات .
وعلى هذا تقول : عندي عشرة نسابات لأنك تريد الرجال وإنما نسابات نعت . وتقول :
إذا عنيت المذكر : عندي ثلاثة دوابٌ يا فتى لأن الدواب نعت فكأنك قلت : عندي ثلاثة
براذين دواب .
وتقول : عندي خمسٌ من الشاء لأن الواحدة شاةٌ لذكر كان أو أنثى . انتهى .
وما نقله عن المبرد هو مسطور في الكامل قال فيه : قوله : ثلاث شخوص الوجه ثلاثة
شخوص ولكنه قصد إلى نساءٍ أنث على المعنى . وأبان ما أراد بقوله : كاعبان ومعصر .
ومثله قول الشاعر : الطويل ) ( فإن كلاباً هذه عشر أبطنٍ ** وأنت برئٌ من قبائلها
العشر ) فقال : عشر أبطن لأن البطن قبيلة وأبان ذلك في قوله : من قبائلها العشر .
وقال الله عز وجل : من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها لأن المعنى حسنات . انتهى .
وكذا قال السكري في شرح أشعار اللصوص قال : كان يجب أن يقول : ثلاثة لأن الشخوص
مذكرة ولكنه ذهب إلى أعيان النساء لأنهن مؤنثات وإن كان سبب اللفظ مذكراً .
____________________
وقد أدرج ابن جني في الخصائص هذا في فصل سماه الحمل على المعنى قال : اعلم أن هذا
الشرج غورٌ من العربية بعيد ومذهب نازح فصيح قد ورد به القرآن وفصيح الكلام
منثوراً ومنظوماً كتأنيث المذكر وتذكير المؤنث وتصور معنى الواحد في الجماعة
والجماعة في الواحد .
ثم قال : فمن تذكير المؤنث قول الحطيئة : ثلاثة أنفس ذهب بالنفس إلى الإنسان فذكر
. وقال عمر : ثلاث شخوص أنت الشخص لأنه أراد به المرأة . انتهى .
وقال ابن السكيت في كتاب المذكر والمؤنث : أنت الشخوص لأنها شخوص إناث . فلو قلت :
ثلاثة شخوص كان أجود لأن الشخص ذكر وإن كان لأنثى .
ومما اجتمعت عليه العرب لإيثار المضمر على الظاهر قولهم : ثلاثة أنفس وثلاثة أعيان
.
والخليل يختار : ثلاث أعين . والعين والنفس أنثيان فذهبوا إلى أعيان الرجال وأنفس
الرجال .
فإذا وجهت النفس إلى الرجل أو المرأة ذهبت بهما جميعاً إلى التذكير لأنه غير مؤنث
فتصير النفس تؤدي عن الإنسان ويؤدي الإنسان عن الذكر والأنثى فتقول : ثلاثة أنفس
كما تقول : ثلاثة من الناس وإن عنيت نساء .
فإن أردت الزوج كانت النفس أنثى وإذا أفردتها بفعل أو وصفتها به عاملتها معاملة
التأنيث كما قال الله تعالى : خلقكم من نفس واحدة ولم يقل واحد وهو آدم .
وقد يجوز لك أن تذهب إلى المعنى فإن كانت أنثى أنثت وإن كان ذكراً ذكرت . وليس
بالوجه . انتهى . و المجن بكسر الميم : الترس . قال العيني : ويروى : فكان نصيري
____________________
بدل مجني ومعناه : مانعي وقال
ابن سيده : يؤيده رواية من روى : فكان مجني . قال : وأكثر الناس يرونه : نصيري
بالنون .
وهو تصحيف .
وقال أبو الحجاج : هذا القول فيه إفراط ورواية النون غير بعيدة من الصواب وإن كان
رواية )
الباء أظهر لقوله : دون ولم يقل : على المستعملة مع النصر في مثل هذا النحو .
انتهى . و الكاعب قال الجوهري : هي الجارية التي يبدو ثديها للنهود . وقد كعبت
تكعب بالضم كعوباً وكعبت بالتشديد تكعيباً مثله . و معصر بضم الميم وكسر الصاد هي
الجارية أول ما أدركت وحاضت . يقال : قد أعصرت كأنها دخلت عصر شبابها أو بلغته .
قال الراجز : الرجز ( جارية بسفوان دارها ** يرتج عن مثل النقا إزارها ) قد أعصرت
أو قد دنا إعصارها والبيت من قصيدة طويلة لعمر بن أبي ربيعة تقدم نقلها في الشاهد
التسعين بعد الثلثمائة .
وهذه أبيات قبله : ( فلما تقضى الليل إلا أقله ** وكادت توالي نجمه تتغور ) (
أشارت بأن الحي قد حان منهم ** هبوبٌ ولكن موعدٌ لك عزور )
____________________
( فقلت : أباديهم فإما أفوتهم
** وإما ينال السيف ثأراً فيثأر ) ( فقالت : أتحقيقاً لما قال اكشحٌ ** علينا
وتصديقاً لما كان يؤثر ) ( فإن كان ما لا بد منه فغيره ** من الأمر أدنى للخفاء
وأستر ) ( أقص على أختي بدء حديثنا ** ومالي من أن تعلما متأخر ) ( لعلهما أن
تبغيا لك مخرجاً ** وأن ترحبا سرباً بما كنت أحصر ) ( فقالت لأختيها : أعينا على
فتًى ** أتى زائراً والأمر للأمر يقدر ) ( فأقبلتا فارتاعتا ثم قالتا : ** أقلي
عليك اللوم فالخطب أيسر ) ( يقوم فيمشي بيننا متنكراً ** فلا سرنا يفشو ولا هو
يبصر ) ( فكان مجني دون من كنت أتقي ** ثلاث شخوصٍ كاعبان ومعصر ) التوالي :
التتابع . وتتغور : تغور فتذهب وهو مأخوذ من الغور . و الهبوب : الانتباه يقال :
هب من نومه إذا استيقظ . و عزور بفتح العين المهملة وسكون الزاي المعجمة بعدها واو
مفتوحة قال أبو علي : هي ثنية الجحفة .
وقال السكوني : عزور : جبلٌ بينه وبين جبل رضوى قدر شوط الفرس . وهما جبلان شاهقان
)
ورضوى من ينبع على يوم ومن المدينة على سبع مراحل ميامنةً طريق المدينة ومياسرة
طريق البر لمن كان مصعداً إلى مكة وعلى ليلتين من البحر . كذا في معجم ما استعجم
للبكري .
____________________
و أيقاظ : جمع يقظ بفتح الياء
وضم القاف بمعنى يقظان .
وقوله : فقالت أتحقيقاً من كلام العرب : أكل هذا بخلاً . وذلك أنه رآه يفعل شيئاً
يكره فقال : أكل هذا تفعل بخلاً .
وقوله : أباديهم يريد أظهر لهم غير مهموز . يقال بدا يبدو غير مهموز إذا ظهر .
وقوله : بدء حديثنا : يريد أول حديثنا .
وقوله : وأن ترحبا يريد أن تتسعا أي : تتسع صدورهما من قولك : فلان رحيب الصدر .
وقوله : أحصر أي : أضيق به ذرعا يقال حصر صدره بمهملات من باب فرح إذا ضاق .
والسرب بالفتح : الطريق .
وقوله : فكان مجني إلخ أي : وقايتي . ودون بمعنى قدام . و مجنى اسم كان وثلاث
بالنصب خبرها ومن موصوله والعائد محذوف أي : أتقيه .
ويروى أن يزيد بن معاوية لما أراد توجيه مسلم بن عقبة إلى المدينة اعترض الناس فمر
به رجلٌ من أهل الشام ومعه ترسٌ قبيح فقال : يا أخا أهل الشام مجن ابن أبي ربيعة
أحسن من مجنك .
وترجمة عمر بن أبي ربيعة تقدمت في الشاهد السابع والثمانين .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز (
كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) على أنه ضرورة والقياس حنظلتان
بدون العدد لما بينه الشارح المحقق .
وأورده سيبويه في باب تكسير الواحد للجميع بعد باب العدد . قال الأعلم : الشاهد
فيه إضافة ثنتا إلى الحنظل وهو اسم يقع على جميع الجنس . وحق العدد القليل أن يضاف
إلى الجمع القليل .
وإنما جاز على تقدير : ثنتان من الحنظل . هذا كما قال : ثلاثة فلوس أي : ثلاثة من
هذا الجنس على ما بينه في الباب . و التدلدل : التعلق والاضطراب . وكان الوجه أن
يقول : حنظلتان فبناه على قياس الثلاثة وما بعدها إلى العشرة . وإنما خص ظرف
العجوز لأنها لا تستعمل طيباً ولا غيره مما يتصنع به النساء للرجال يأساً منهم
ولكنها تدخر
____________________
الحنظل ونحوه من الأدوية .
وظرف العجوز هو مزدوها الذي تخزن فيه متاعها . انتهى .
وهذان البيتان أوردهما أبو تمام في باب الملح من الحماسة . وروى : سحق جراب بدل
ظرف عجوز .
قال ابن جني في إعرابها : أخرج التثنية عن أصلها وذلك أن قياسها على الجمع عندي
اثنا رجال كقولهم : عندي ثلاثة رجال غير أن التثنية لما أمكنك فيها انتظام العدة
وبيان النوع غنيت بقليل اللفظ عن كثيره أي : غنيت برجلان عن اثنا رجال . فلما قال
ثنتا حنظل علمت بذلك أنه أخرجه على قياس الجمع . ويريد : كأن خصييه بما عليهما من
الصفن أو كأن ما عليهما منه بهما سحق جراب فيه ثنتا حنظل فحذف اختصاراً أو علماً
بما يعنيه . انتهى .
وأورده الشارح المحقق في باب التثنية . وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله هناك في
وجه تثنية خصي . و السحق بالفتح : الخلق . و الحنظل واحدها حنظلة .
وروي عن أبي حاتم أنه قال : الحنظل ها هنا الثوم .
وأوردهما الأعلم في حماسته برواية : ظرف عجوز . وكتب في الهامش : شبه خصيتيه في )
استرخاء صنفهما وتجلجل بيضتهما حين شاخ واسترخت جلدة استه بظرف عجوز فيه حنظلتان .
____________________
وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب ولا تتزين للرجال فيكون في ظرفها ما لا تتزين به
ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية .
ويحتمل أن يكون هذا في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلص خصيتاه . ويحتمل أن يكون
هجواً .
ووجهه أن يصف شيخاً قد كبر وأسن ولذلك قال : ظرف عجوز لأن ظرف العجوز خلقٌ متقبض
فيه تشنج لقدمه فلذلك شبه جلد الخصية به للغصون التي فيه .
والأولى أن يكون هجواً لذكره العجوز مع تصريحه بذكر الخصيتين . ومثل هذا لا يصلح
للمدح .
انتهى .
وهذا الكلام هو ما قاله أبو عبد الله النمري في شرح الحماسة وزيفه أبو محمد
الأعرابي الشهير بالأسود الغندجاني . قال فيما كتبه على شرح النمري : قال أبو عبد
الله : هذا يحتمل الذم والمدح إلا أن يكون له تمام فيحمل عليه .
فأما الذم فهو أن يصف شيخاً قد اضطرب جلده لكبر سنه وهرمه . وأما المدح فهو أن هذا
موضع المثل : لا تقعن البحر إلا سابحاً قوله : هذا يحتمل الذم والمدح يدل على أنه
لم يمارس الأشعار والأراجيز ولم يستقر الدواوين . ومثل هذا البيت لا يعرف معناه
قياساً إلا بمعرفة ما يتقدمه من
____________________
الأبيات . وقد أثبتها لك ها
هنا لئلا يشتبه عليك من معنى البيت ما اشتبه على أبي عبد الله فتكونا زندين في
مرقعة .
والأبيات لخطامٍ المجاشعي وهي من نوادر الرجز : ( يا رب بيضاء بوعس الأرمل **
شبيهة العين بعيني مغزل ) ( فيها طماحٌ عن حليلٍ حنكل ** وهي تداري ذاك بالتجمل )
( قد شفعت بناشئٍ هبركل ** ينفض عطفي خضل مرجل ) ( يحسب مختالاً وإن لم يختل ** دس
إليها برسولٍ مجمل ) ) ( عن كيف بالوصل لكم أم كيف لي ** فلم تزل عن زوجها المختشل
) ( ابعث وكن في الرائحين أو كل ** وكل ما أكلت في محلل ) ( وأوقرن يا هديت جملي
** حتى إذا دب الرضا في المفصل ) ( من الرضا جنعدل التكتل ** كأن خصييه من التدلدل
) ( ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ** لما غدا تبهلت : لا تأتلي ) عن : رب يا رب عليه
عجل برهصةٍ تقتله أو دمل أو حيةٍ تعض فوق المفصل قال أبو محمد الأعرابي : فقوله :
كأن خصييه من التدلدل أذم ذمٍّ يكون في الشيخ . وذلك أنهما يتدليان من الكبر كما
قال الآخر : الرجز ( قد حلفت بالله لا أحبه ** أن طال خصياه وقصر زبه ) يقال لمن
هذه صفته : الدودري . انتهى ما أورده . و بيضاء : امرأة حسناء . و الوعس : جمع
وعساء وهي أرضٌ لينة ذات رمل . و الأرمل : جمع رمل . و مغزل : ظبية ذات غزال . شبه
عينها بعين الظبية .
____________________
و الطماح بالكسر : الجماح . و
الحليل : الزوج . وروى : خليل بالمعجمة وهو الصديق . و الحنكل بفتح الحاء وسكون
النون وفتح الكاف : القصير واللئيم والجافي الغليظ . كذا في القاموس . و تداري من
المداراة . و التجمل : تكلف الجميل .
وقوله : قد شفعت هو جواب رب . وشغف الهوى قلبه من باب نفع إذا بلغ شغافه بالفتح أي
: غشاءه . و الناشئ مهموز الآخر وهو الحدث الذي جاوز حد الصغر . و الهبركل بفتح
الهاء الموحدة وسكون الراء وفتح الكاف : الشاب الحسن الجسم . و ينفض : يحرك . و
العطف بالكسر : الجانب . ونفض العطف كنايةٌ عن العجب والغرور . و الخضب بفتح الخاء
وكسر الضاد المعجمتين : الرطب والناعم . أي : قوامٌ خضل . و المرجل : الموشى
والمزين . و يحسب بالبناء للمفعول . والضمير للناشئ . و المختال : المعجب بنفسه .
وإن لم يختل أي : وإن لم يعجب بنفسه وأصله يختال : حذفت الألف لالتقاء الساكنين
بالجزم . و دس : أرسل بخفية . والباء في برسول زائدة . و مجمل : اسم فاعل من أجمل
في الطلب إذا رفق . )
وقوله : عن كيف إلخ عن لغة في أن وهي تفسيرية . و المختشل : اسم فاعل من اختشل
بالخاء والشين المعجمتين إذا ذل وضعف . و المفصل بكسر الميم وفتح الصاد : اللسان .
و تحيت : مصغر تحت . و المسعل : محل السعال . و الأزفل بفتح الهمزة وسكون الزاي
وفتح الفاء : الغضب والحدة .
وقوله : من الرضا إلخ من : ابتدائية . و جنعدل بفتح الجيم وضمها وفتح النون وسكون
العين وفتح الدال : الصلب الشديد . و التكتل : الاكتناز . و تبهلت : تضرعت ودعت .
و لا تأتلي : لا
____________________
و عن لغة في أن . و رب :
منادى . و الرهصة بفتح الراء : أن يتلف باطن حافر الدابة من حجرٍ يطؤه .
والدودري بفتح الدال وسكون الواو وفتح الدال الثانية وكسر الراء وتشديد الياء .
وفيه لغة أخرى : دردريٌّ بالراء موضع الواو . وقلا صاحب القاموس : وهو الآدر
الطويل الخصيتين والذي يذهب ويجيء في غير حاجة .
وقال ابن المستوفي : ويروى قبل الرجز الشاهد قوله : الرجز ( تقول : يا رباه يا رب
هل ** إن كنت من هذا منجي أحبلي ) ( إما بتطليقٍ وإما بأرحلي ** أو ارم في وجعائه
بدمل ) وقال العيني في هذا : الرجز لجندل بن المثنى . وفي شرح الفصيح قال ابن
السرافي : قالته سلمى الهذلية . انتهى .
أقول : شرح ابن السيرافي هذين البيتين في شرح أبيات إصلاح المنطق ولم يذكر هذه
الأبيات الأربعة المتقدمة عليهما ولا نسب الرجز لأحد . وهذه عبارته : التدلدل :
تحرك الشيء المعلق واضطرابه . وظرف العجوز : الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج
إليه . وظرف العجوز خلقٌ متقبض فيه تشنج لقدمه .
وقال ابن المستوفي : قال ابن السيرافي : حكى هذا الشاعر عن امرأةٍ أنها دعت على
زوجها وطلبت الراحة منه .
وقولها : هل أرادت هل تحسن إلي بتفريق ما بيني وبينه من الوصلة وعقد التزويج . و
الأحبل : جمع حبل وهو ما بينهما من العقد . و منجي : خبر كنت وأسكن الياء من أجل
القافية .
____________________
وقوله : إما بتطليق : إما أن يطلق طلاقاً بيناً . وإما أن يقول ارحلي يريد به
الطلاق . وحذف )
المستفهم عنه اعتماداً على فهم السامع . وحذف جواب لا شرط وهو إن كنت منجياً لي من
هذا الرجل فافعل .
وقوله : أو ارم في وجعائه إلخ هذا البيت أورده العيني بعد الثلاثة وقال : الوجعاء
بفتح الواو وسكون الجيم والمد : الاست .
وتقدمت ترجمة خطام المجاشعي في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والأربعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
على أن العدد المميز بمذكر و مؤنث معاً المفصول بينه و بينهما بلفظ بين أومن أو
بالمجموع إن كان المميزان يوماً و ليلة فالغلبة للتأنيث فإنه اعتبر جانب المؤنث
فذكر عدده .
وإن كان المميزان غير يوم وليلة فالغلبة للتذكير .
وهاتان المسألتان صرح بهما سيبويه . وهذا نصه : وتقول : سار خمس عشرة من بين يومٍ
وليلة لأنك ألقيت الاسم على الليالي ثم بينت فقلت : من بين يوم وليلة .
____________________
ألا ترى أنك تقول : لخمسٍ بقين أو خلون ويعلم المخاطب أن الأيام قد دخلت في الليل
فإذا ألقي الاسم على الليالي اكتفي بذلك عن الأيام كما أنك تقول : أتيته ضحوة
وبكرة فيعلم المخاطب أنها ضحوة يومك وبكرة يومك . وأشباه هذا في الكلام كثير .
فإنما قوله : من بين يوم وليلة توكيدٌ بعد ما وقع على الليالي لأنه قد علم أن
الأيام داخلةٌ مع الليالي .
قال النابغة الجعدي : ( فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلةٍ ** يكون النكير أن تضيف
وتجأرا ) وتقول : أعطاه خمسة عشر من بين عبدٍ وجارية لا يكون في هذا إلا هذا لأن
المتكلم لا يجوز له أن يقول : خمسة عشر عبداً فيعلم أن ثم من الجواري بعدتهم ولا
خمس عشرة جارية فيعلم أن ثم من العبيد بعدتهن فلا يكون هذا إلا مختلطاً ويقع عليه
الإثم الذي بين به العدد .
وقد يجوز في القياس خمسة عشر من بين يوم وليلة وليس بحد كلام العرب . انتهى . )
وقد عمم الشارح المحقق في قوله : الغلبة للتذكير نحو اشتريت عشرةً بين عبد وأمة
ورأيت خمسة عشر من النوق و الجمال .
وفي المثالين أربع صور . و الأول ممن يعقل والثاني ممن لا يعقل وفي كلٍّ منهما إما
تقديم المذكر و إما تأخيره . و الحكم في الصور الأربع واحد وهو تأنيث العدد .
وهذا صريح قول سيبويه : لا يكون في هذا إلا هذا . وهذا هو الظاهر فإن المذكر
عاقلاً كان أو غيره لشرفه يغلب على المؤنث قدم أو أخر . وهذا يشمل ما لو كان مع
غير عاقل نحو : اشتريت أربعة عشر بين عبد و ناقة أو بين ناقة و عبد .
وكذا يغلب مؤنث العاقل على غيره فتقول : اشتريت أربع عشرة بين جمل و أمة أو بين
أمة و جمل . قال أبو حيان : و هذا هو القياس .
____________________
وقد خالف الفراء في الثلاثة الأخيرة من الأربع في عموم قول الشارح المحقق فأوجب
تذكير العدد فيها لتغليب المؤنث قال عند تفسير قوله تعالى : يتربصن بأنفسهن أربعة
أشهرٍ وعشرا : فإن قلت : بين ناقة وجمل غلبت التأنيث ولم تبال أبدأت بالجمل أو
بالناقة فقلت : عندي خمس عشرة بين جمل وناقة . ولا يجوز أن تقول : عندي خمس عشرة
أمة وعبداً ولا بين أمة وعبد إلا بالتذكير لأن الذكران من غير ما ذكرت لك لا يجتزأ
منها بالإناث ولأن الذكر موسوم بغير سمة الأنثى . انتهى .
ونقل ابن السكيت كلامه هذا بحروفه في كتاب المؤنث والمذكر وفي كتاب إصلاح المنطق .
ووافق أبو حيان الشارح فيمن يعقل وخالفه فيمن لا يعقل . قال في الارتشاف : وإذا
ميزت عدداً مركباً بمذكر ومؤنث ذوي عقل فالحكم في العدد للمذكر سواء أقدم التمييز
المذكر أم أخر أو اتصل بالمركب أو انفصل يبين أو كان المذكر نصفاً أو أقل .
تقول : اشتريت خمسة عشر عبداً وأمة أو أمة وعبداً أو بين عبد وأمة أو بين أمة وعبد
تغلب المذكر ولو كان واحداً .
فإن عدم العقل منهما فإما أن يتصل التمييزان بالمركب أو يفصل ببين . فإن اتصل
فالحكم للسابق منهما فتقول : اشتريت ستة عشر جملاً وناقة وست عشرة ناقة وجملاً .
____________________
وإن فصلت بين فالحكم للمؤنث . تقول : اشتريت ست عشرة بين جمل وناقة وست عشرة بين
ناقة وجمل . انتهى . )
وقول الشارح المحقق : إذا أبهمت الليالي ولم تذكر جرى اللفظ على التأنيث إلخ لم
يجعله عند الإبهام من باب التغليب موافقةً لسيبويه إذ لا يصدق عليه تعريف التغليب
وهو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما إذ لم يذكر عند الإبهام شيءٌ من الليالي
والأيام حتى يغلب أحدهما على الآخر .
وإنما أراد الشارح أن الليالي مستلزمة الأيام والأيام تابعةٌ لها وداخلة فيها كما
قال سيبويه في : لخمسٍ بقين .
قال الزجاج في تفسير الآية المذكورة : معنى قوله عز وجل : وعشراً يدخل فيها الأيام
. زعم سيبويه أنك إذا قلت : لخمسٍ بقين قد علم المخاطب أن الأيام داخلة مع الليالي
. وزعم غيره أن لفظ التأنيث مغلب في هذا الباب . انتهى .
وأراد بغير سيبويه الفراء فإنه زعم في تفسيره عند هذه الآية أنه تغليب . قال : لم
يقل وعشرة لأن العرب إذا أبهمت العدد من الليالي والأيام غلبوا عليه الليالي حتى
إنهم ليقولون : صمنا خمساً من شهر رمضان لكثرة تغليبهم الليالي على الأيام .
فإذا أظهروا مع العدد تفسيره كانت الإناث بطرح الهاء والذكران بالهاء كما قال الله
تعالى : سبع ليالٍ وثمانية أيام . وإن جعلت العدد غير متصل بالأيام كما يتصل
الخافض بما بعده غلبت الليالي أيضاً على الأيام . فإذا اختلطا فكانت ليالي وأياماً
غلبت التأنيث فقلت : مضى له سبعٌ ثم تقول بعد أيام : فيها برد شديد .
وأما المختلط فقول الشاعر : أقامت ثلاثاً بين يومٍ وليلة
____________________
فقال : ثلاثاً وفيها أيام .
انتهى .
ويرد عليه ما ذكر من أنه ليس من التغليب قي شيء وهو أول من ذهب إليه . لا الزجاج
فإنه حاكٍ للمذهبين . ولا الزجاجي فإنه تلميذه .
قال ابن مالك في فصل التاريخ من شرح الكافية الشافية . أول الشهر ليلة طلوع هلاله
فلذلك أوثر في التاريخ قصد الليالي واستغني عن قصد الأيام لأن كل ليلة من أيام
الشهر يتبعها يومٌ فأغناهم قد المتبوع عن التابع .
وليس هذا من التغليب لأن التغليب هو أن تعم كلا الصنفين بلفظ أحدهما كقولك :
الزيدون )
والهندات خرجوا .
فالواو قد عمت الزيدين والهندات تغيباً للمذكر . وقولك : كتب لخمس خلون لا يتناول
إلا الليالي والأيام مستغنى عن ذكرها لكون المراد مفهوماً . انتهى .
وقال أبو حيان في الارتشاف : التأريخ عدد الليالي والأيام بالنسبة إلى ما مضى من
الشهر أو السنة وإلى ما بقي منهما . وفعله أرخ وورخ تأريخاً وتوريخاً لغتان .
فإن ذكرت الليالي والأيام بالنسبة إلى السنة أو الشهر وذكرت العدد كان على جنسه من
تذكير وتأنيث . فتقول : سرت من شهر كذا خمس ليال أو خمسة أيام . وإن لم تذكر المعدود
فالعرب تستغني بالليالي عن الأيام فتقول : كتب لثلاث خلون من شهر كذا وليس من
تغليب المؤنث على المذكر خلافاً لقوم منهم الزجاجي . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : قالوا : يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين : إحداهما :
ضبعان في تثنية ضبع للمؤنث وضبعان للمذكر إذ لم يقولوا : ضبعانان .
والثانية : التأريخ فإنهم أرخوا بالليالي دون الأيام . ذكر ذلك الزجاجي وجماعة .
وهو سهوٌ فإن حقيقة التغليب أن يجتمع شيئان فيجري حكم أحدهما على الآخر ولا يجتمع
الليل والنهار . ولا هنا تعبيرٌ عن شيئين بلفظ أحدهما وإنما
____________________
أرخت العرب بالليالي لسبقها
إذ كانت أشهرهم قمرية والقمر إنما يطلع ليلاً . وإنما المسألة الصحيحة قولك :
كتبته لثلاثٍ بين يوم وليلة .
وضابطه أن يكون معنا عددٌ مميز بمذكر كلاهما مما لا يعقل وفصلا من العدد بكلمة بين
.
فطافت ثلاثاً بين يومٍ وليلة انتهى .
قال الشهاب ابن قاسم العبادي فيما كتبه على هامش المغني : قد يكون الزجاجي عد
اعتبار أحد الأمرين في الاعتبار على الآخر فلا يحكم بالسهو عليه . فليتأمل . انتهى
.
وقول ابن هشام : قالوا : يغلب المؤنث على المذكر في مسألتين إلخ مأخوذ من درة
الغواص للحريري قال فيها : من أصول العربية أنه متى اجتمع المذكر والمؤنث غلب حكم
المذكر على المؤنث إلا في موضعين : أحدهما : أنك متى أردت تثنية المذكر والأنثى من
الضباع قلت : ضبعان فأجريت التثنية )
على لفظ المؤنث الذي هو ضبع لا على لفظ المذكر الذي هو ضبعان . وإنما فعل ذلك فراراً
مما كان يجتمع من الزوائد لو ثني على لفظ المذكر .
والموضع الثاني : أنهم في باب التاريخ أرخوا بالليالي دون الأيام . وإنما فعلوا
ذلك مراعاةً للأسبق والأسبق من الشهر ليلته . ومن كلامهم : سرنا عشراً من بين يوم
وليلة . انتهى .
وفي كل من المسألتين نظر .
أما الثانية فقد تقدم الكلام عليها ورد عليه بن بريٍّ فيما كتبه على الدرة وقال :
ليس باب التاريخ مما غلب فيه المؤنث كالضبع بل هو محمول على الليالي فقط كقولك :
كتبت لخمس خلون . فإن قلت : سرت خمسة عشر ما بين يومٍ وليلة فقد غلبت المؤنث على
المذكر . انتهى .
____________________
وأما الأولى فقد حكى الضبع في المذكر قلا تغليب في تثنيته . حكى الدميري في حياة
الحيوان عن ابن الأنباري أن الضبع يطلق على الذكر والأنثى .
وكذلك حكاه ابن هشام الخضراوي في كتاب الإفصاح في فوائد الإيضاح للفارسي عن أبي
العباس وغيره . انتهى .
وكذلك حكى الدماميني في الحاشية المصرية على المغني عن ابن الأنباري . ونقل
الصاغاني في العباب عن الوزير الصاحب بن عباد أنه يقال : ضبعة بالهاء وجمعه ضبع
فيكون اسم جنس جمعي يفرق بينه وبين واحده بالتاء . ويقال أيضاً : ضبعانةٌ مؤنث
ضبعان .
وقال الفيومي في المصباح : الضبع بضم الباء في لغة قيس وبسكونها في لغة تميم وهي
أنثى وقيل : يقع على الذكر والأنثى .
وربما قيل في الأنثى ضبعة بالهاء كما قيل سبع وسبعة بالسكون مع الهاء للتخفيف .
والذكر ضبعانٌ والجمع ضباعين مثل سرحان وسراحين . ويجمع الضبع بضم الباء على ضباع
وبسكونها على أضبع . انتهى .
وقوله صاحب المغني : ولا يجتمع الليل والنهار أي : لفظهما عند قصد الإبهام في
التاريخ نحو : كتب لخمسٍ خلون وسرنا خمساً وأربعة أشهر وعشراً فإنه لم يذكر واحداً
منهما فضلاً عن اجتماعهما كما بينا . فلا تعبير عن شيئين بلفظ أحدهما .
ونقل بعضهم كلام المغني في شرحه على الدرة وتعقبه بقوله : وفيه نظرٌ لا يخفى فإن
قوله : لا يجتمع الليل والنهار إن أراد في الوجود فمسلم لكنه لا يفيد لأن المراد
بالاجتماع في التغليب )
الاجتماع في الحكم وإرادة المتكلم لدلالة اللفظ الواقع فيه التغليب عليهما . انتهى
.
وهذه الإرادة واهية إذ لا يتوهم أحد اجتماعهما في الوجود وإنما المراد اجتماعهما
في اللفظ .
فإذا لم يوجدا فيه فلا تغليب . وهذا ظاهر .
____________________
وقول ابن هشام : وإنما المسألة الصحيحة أي : لتغليب المؤنث على المذكر في التاريخ
. إذ الكلام فيه وليس المعنى أنه لا يغلب المؤنث على المذكر إلا في التاريخ إذ ليس
الكلام على مطلق تغليب المؤنث على المذكر كما فهمه الدماميني في الحاشية الهندية .
وقال معترضاً عليه : أقول لا اختصاص لهذه المسألة بالتاريخ فإنه يقال في غيره :
اشتريت عشراً بين جملٍ وناقة .
ويريد بالمثال أنه يغلب المؤنث على المذكر في غير التاريخ كما هو مدلول سياق كلامه
. ومثاله جارٍ على مذهب الفراء وأبي حيان . وأما على ما ذكره الشارح المحقق فيجب
أن يقول : اشتريت عشرةً بالتأنيث لتغليب المذكر .
وقول ابن هشام : وضابطه أن يكون معنا إلخ أي : ضابط تغليب المؤنث على المذكر في
التاريخ .
ولا يريد اعتراض الدماميني بقوله : يقع التغليب بدون هذا الضابط كقوله تعالى :
أربعة أشهرٍ وعشراً فإن ابن هشام قد غلط من قال بالتغليب في نحوها فإن الآية ليست
من التغليب في شيء كما تقدم بيانه .
وحاصل كلام ابن هشام أن التاريخ يكون بلا تغليب كما في نحو الآية ويكون بتغليب إذا
كان داخلاً في الضابطة المذكورة . والتغليب يكون فيه وفي غيره كما ذكره الشارح
المحقق وغيره في تلك الأمثلة .
وهذا مما أنعم الله به علي من فهم كلام المغني فإن شراحه لم يهتدوا لمراده . ولله
الحمد على ذلك .
ولنرجع من هنا إلى شرح البيت فنقول : وصف النابغة الجعدي به بقرةً وحشية أكل السبع
ولدها فطافت .
____________________
وروي : أقمت ثلاثة أيام وثلاث ليال تطلبه ولا إنكار عندها ولا غناء إلا الإضافة
وهي الجزع والإشفاق والجؤار وهي الصياح . )
والنكير : الإنكار وهو من المصادر التي أتت على فعيل كالنذير والعذير . وأكثر ما
يأتي هذا النوع من المصادر في الأصوات كالهدير والهديل . أي : ما كان عندها حين
فقدته إلا الشفقة والصياح وتضيف مضارع أضاف إضافة .
وأورد البيت العسكري في موضعين من كتاب التصحيف قال في الموضع الأول : حدثنا أحمد
بن يحيى قال : سمعت سلمة بن عاصم يقول : صحف الكسائي في بيت النابغة الجعدي فقال :
هو تصيف بالصاد غير معجمة وتضيف أي : تشفق . والإضافة : الشفقة .
ويروى : أن تضيف بفتح التاء أي : تعدل ها هنا مرة وها هنا مرة . يقول : كان نكيرها
لما رأت الشلو أن تشفق وتجأر لا شيء عندها غير ذلك .
وقال في الموضع الثاني : يروى : تضيف مضموم التاء والضاد معجمة . ويروى : تضيف
مفتوح التاء فمن رواه بفتحها وهو الجيد أراد تشفق . ومنه قوله : الطويل ( وكنت إذا
جاري دعا لمضوفةٍ ** أشمر حتى ينصف الساق مئزري ) وفي الحديث : حتى إذا تضيفت
الشمس للغروب بضاد معجمة أي : مالت . ويقال : ضافت وأخبرني ابن الأنباري عن ثعلب
قال : سئل ابن الأعرابي عن قوله حين تضيفت
____________________
فقال : لا أعرفه ولكن إن كان
تصيفت بصاد غير معجمة فهو حين تميل كما قال أبو زبيد : الخفيف ( كل يومٍ ترميه منا
برشقٍ ** فمصيبٌ أو صاف غير بعيد ) يقال : صاف السهم وضاف حكيماً جميعاً أي : مال
. وحكى أبو بكر بن الخباز عن ثعلب عن ابن الأعرابي : يقال : صاف السهم بصاد غير
معجمة : إذا أخطأ لم يقل عربيٌّ قط ضاف منقوطة .
وأنشد غيره : فلما دخلناه أضفنا ظهورنا وضفت فلاناً إذا ملت عليه . وأضفته إذا
أملته إليك . ومنه قيل : للدعي مضاف لأنه مسندٌ إلى قومٍ ليس منهم . انتهى .
وبعده : ( وألفت بياناً عند آخر معهدٍ ** إهاباً ومعبوطاً من الجوف أحمرا )
____________________
وخداً كبرقوع الفتاة ملمعا
وروقين لما يعدوا أن تقشرا )
أراد أنها وجدت عند آخر معهدٍ عهدته فيه ما بين لها وحقق عندها أن السبع أكله . ثم
فسر و الروقان : القرنان . وشبه خده لما فيه من السواد وردع الدم والبياض ببرقوع
فتاةٍ لأن الفتيات يزين براقعهن وبقر الوحش بيض الألوان لا سواد فيها إلا في
قواثمها وخدودها وأكفالها .
وهذه الأبيات من قصيدةٍ طويلة نحو مائتي بيت للنابغة الجعدي الصحابي أنشد جميعها
للنبي صلى الله عليه وسلم . ومنها : ( أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ** ويتلو
كتاباً كالمجرة نيرا ) وهي من أحسن ما قيل في الفخر بالشجاعة وقد أوردنا منها
أبياتاً كثيرة في ترجمته في الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
ومن أواخرها : ( بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإنا لنرجو بعد ذلك مظهرا )
____________________
( ولا خير في حلمٍ إذا لم تكن
له ** بوادر تحمي صفوة أن يكدرا ) ( ولا خير في جهلٍ إذا لم يكن له ** حليمٌ إذا
ما أورد الأمر أصدرا ) والبيت الأول أورده شراح الألفية لإبدال مجدنا بدل اشتمال
من الضمير المرفوع في قوله : بلغنا .
وروي على غير هذه الرواية وتقدم هناك . ويروى بنصب مجدنا على أنه مفعول لأجله .
وأنشده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى : ورفعناه مكاناً علياً على أن الحسن
البصري فسر المكان بالجنة كما أن النابغة فسر المظهر بالجنة لما سمع النبي صلى
الله عليه وسلم هذا البيت وقال له : إلى أين المظهر يا أبا ليلى فقال له النبي صلى
الله عليه وسلم : أجل إن شاء الله .
ولما أنشده البيتين بعده قال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا يفضض الله فاك .
فكان من أحسن الناس ثغراً وكان إذا سقطت له ثنية نبتت وكان فوه كالبرد المتهلل
يتلألأ ويبرق .
____________________
( المذكر والمؤنث ) أنشد فيه
( الشاهد الخمسون بعد الخمسمائة ) الوافر ( فقلت لها : أصبت حصاة قلبي ** وربت
رميةٍ من غير رامي ) على أن تاء التأنيث قد تلحق الحرف ك رب إذا كان مجرورها
مؤنثاً ليدل من أول الأمر أن المجرور مؤنث . والمشهور أنها تزاد في بعض الحروف
للتأنيث اللفظي .
والبيت قبله : ( رمتني يوم ذات الغمر سلمى ** بسهمٍ مطعمٍ للصيد لام ) و ذات الغمر
: موضعٌ كذا ذكره ابن الأثير في المرصع .
وأنشد قول قيس الهذلي : الطويل ( سقى الله ذات الغمر وبلاً وديمةً ** وجادت عليها
البارقات اللوامع ) ولم أره في معجم البلدان ولا في معجم ما استعجم . و سلمى :
فاعل رمتني وهي اسم امرأة والباء متعلقة برمتني . و السهم : النشاب . و لأم : صفته
أي : عليه ريشٌ لؤام بضم اللام مهموز العين على وزن فعال .
قال صاحب الصحاح : واللؤام : القذذ الملتئمة وهي التي تلي بطن القذة منها ظهر
الأخرى وهو أجود ما يكون .
____________________
تقول منه : لأمت السهم لأماً . و مطعم : اسم فاعل من أطعم . و حصاة القلب : حبته .
والبيتان أنشدهما الزمخشري في المستقصى ولم يعزهما لأحد وقال : رب رميةٍ من غير
رامٍ : مثلٌ أول من قاله الحكم بن عبد يغوث المنقري وكان من أرمى الناس .
وذلك أنه نذر ليذبحن مهاةً على الغبغب فرام صيدها أياماً فلم يمكنه فكان يرجع
مخفقاً حتى هم بقتل نفسه مكانها فقال له ابنه مطعم : احملني أرفدك . فقال : ما
أحمل من رعشٍ رهلٍ جبان فشل فما زال به حتى حمله فرمى الحكم مهاتين فأخطأهما فلما
عرضت الثالثة رماها مطعمٌ فأصابها فعندها قال الحكم ذلك . يضرب في فتلة إحسانٍ من
المسيء . انتهى . )
وأنشد بعده الرجز يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن على أنه قد جاء مجرور ربت مذكراً على
خلاف الأول . ويجوز أن يريد ب الإنسان المؤنث فيوافق ما قبله . والإنسان من الناس
اسم جنسٍ يقع على الذكر والأنثى والواحد والجمع . كذا في المصباح .
____________________
وهذا الالتزام ليس بلازم . على أن بقية الرجز يمنع ما أوله كما سيأتي .
قال أبو علي في كتاب الشعر : ولحقت بعض الحروف تاء التأنيث وذلك رب وربت وثم وثمت
ولا ولات .
قال : الطويل ( ثمت لا تجزونني عند ذاكم ** ولكن سيجزيني الإله فيعقبا ) وأنشد أبو
زيد : ( يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن ** يسأل عنك اليوم أو يسأل عن ) وقياس من يسكن
التاء في ثمت و ربت أن يقف عليها بالتاء كما يقف على ضربت . وقياس من حرك أن يقف
بالهاء كما يقف على كيت وذيت . انتهى . ( يا صاحبا ربت إنسانٍ حسن ** يسأل عنك
اليوم أو يسأل عن ) ( إنا على طول الكلال والتون ** مما نقيم الميل من ذات الضغن )
( نسوقها سناً وبعض السوق سن ** حتى تراها وكأن وكأن ) أعناقها مشرباتٌ في قرن قال
أبو زيد : ليست التاء في ربت للتأنيث فلهذا جاز أن تقول ربت إنسان . انتهى .
____________________
وقوله : يا صاحبا أصله يا صاحبي فالألف أصلها ياء . و يسأل : جواب رب وهو العامل
في محل مجرورها .
وقوله : أو يسأل عن معطوف على يسأل عنك وكلاهما بياء الغيبة . أراد : يسأل عني
بياء المتكلم .
وقوله : إنا على إلخ بكسر الهمزة ابتداء كلام . و على بمعنى مع . و الكلال : مصدر
كل يكل )
من باب ضرب إذا تعب وأعيا . و التون بفتح التاء والواو وهو التواني . قال صاحب
الصحاح : وتوانى في حاجته أي : قصر .
وقول الأعشى : المتقارب ( ولا يدع الحمد بل يشتري ** بوشك الظنون ولا بالتون ) و
الضغن بكسر الضاد وفتح الغين المعجمتين : جمع ضغن بسكون الوسط . قال صاحب الصحاح :
إذا قيل في الناقة : هي ذات ضغن فإنما يراد نزاعها إلى وطنها . و السن بفتح السين
المهملة قال الرياشي : هو أسرع السير . و القرن بفتح القاف والراء : حبلٌ يقرن به
البعيران . و المشربات بفتح الراء المشددة قال أبو حاتم والرياشي والمازني : هي
المدخلات من قوله : وأشربوا في قلوبهم العجل .
وقال أبو الحسن الأخفش : ومن روى : مسربات بالسين المهملة فإنه يذهب إلى أنها تسرب
في القرن أي : تذهب فيه وتجيء . من قوله تعالى : وساربٌ بالنهار .
وقول الشارح المحقق : وتلحق أي : التاء ثم أيضاً إذا عطفت بها قصةً على قصة لا
مفرداً على مفرد . هذا هو المشهور .
____________________
وقد رأيت في شعر رؤبة بن العجاج عطف المفرد بها . قال : الرجز ( فإن تكن سوائق
الحمام ** ساقتهم للبلد الشآم ) فبالسلام ثمت السلام وكذلك استعملها ابن مالك في
جموع التكسير من الألفية قال : الرجز ( أفعلةٌ أفعل ثم فعله ** ثمت أفعالٌ جموع
قله ) ( الشاهد الثاني والخمسون بعد الخمسمائة ) الهزج ( لقد أغدو على أشق ** ر
يغتال الصحاريا ) على أنه جمع صحراء فلما قلبت الألف بعد الراء في الجمع ياءً قلبت
الهمزة التي أصلها ألف التأنيث أيضاً .
قال ابن جني في سر الصناعة : قد اطرد عنهم قلب ألف التأنيث همزة . والقول في ذلك
أن الهمزة في صحراء وبابها إنما هي بدلٌ من ألف التأنيث كالتي في نحو : حبلى وسكرى
.
إلا أنها في صفراء وقعت الألف بعد ألف قبلها زائدة فالتقى ألفان زائدتان ولم يجز
في واحدةٍ منهما الحذف .
____________________
أما الأولى : فلو حذفتها لانفردت الآخرة وهم قد بنوا الكلمة على اجتماع ألفين فيها
.
وأما الآخرة : فلو حذفتها لزالت سلامة التأنيث . وأما الحركة فقال سيبويه : إنه
لما انجزم الحرفان حركت الثانية فانقلبت همزة فصارت : صفراء وصحراء .
فإن قيل : ولم زعمت أن الثانية منقلبة وهلا زعمت أنها زيدت للتأنيث همزة في أول
أحوالها أحدهما : أنا لم نرهم في غير هذا الموضع أنثوا بالهمزة إنما يؤنثون بالتاء
أو بالألف فكان حمل همزة التأنيث في نحو : صحراء على أنها بدلٌ من ألف التأنيث لما
ذكرنا أحرى .
والوجه الآخر : أنا قد رأيناهم لما جمعوا بعض ما فيه همزة التأنيث أبدلوها في
الجمع ولم يحققوها البتة وذلك قولهم في جمع صحراء وصلفاء : صحارى وصلافى ولم
نسمعهم أظهروا الهمزة في شيءٍ من ذلك فقالوا : صحاريء وصلافيء . ولو كانت الهمزة
فيهن غير منقلبة لجاءت في الجمع .
ألا تراهم قالوا : كوكب دريءٌ وكواكب دراريء وقراء وقراريء ووضاء ووضائيء فجاؤوا
بالهمزة في الجمع لما كانت غير منقلبة بل موجودة في قرأت ودرأت ووضؤت . فهذه دلالة
قاطعة .
فإن قيل : فما الذي دعاهم إلى قلبها في الجمع ياءً وهلا تركوها ملفوظاً بها كما
كانت في الواحدة فقالوا : صحاريء وصلافيء فالجواب أنها إنما كانت انقلبت وأصلها
الألف لاجتماع الألفين وهذه صورتها صحراا وصلفاا فلما التقت ألفان اضطروا إلى
تحريك إحداهما )
فجعلوها الثانية لأنها حرف الإعراب فصارت صحراء وصلفاء .
وحال الجمع ما أذكره وذلك أنك إذا صرت إلى الجمع لزمك أن تقلب
____________________
الأولى ياء لانكسار الراء في
صحاري قبلها كما تنقلب ألف قرطاس ياء في قراطيس فكذلك تنقلب ألف صحراء الأولى ياء
فتصير في التقدير : صحاري ا وصلافي ا فتقع الياء الساكنة قبل الألف الأخيرة
الراجعة عن الهمزة لزوال الألف من قبلها فتنقلب الألف ياءً لوقوع الياء الساكنة
قبلها وتدغم الأولى المنقلبة عن الألف الزائدة في الياء الأخيرة المنقلبة عن ألف
التأنيث فيصير صحاري .
أنشد أبو العباس للوليد بن يزيد : ( لقد أغدو على أشق ** ر يغتال الصحاريا ) وقال
آخر : الوافر ( إذا جاشت حواليه ترامت ** ومدته البطاحي الرغاب ) جمع بطحاء .
وكذلك ما حكاه الأصمعي من قولهم : صلافي وخباري جمع صلفاء وخبراء .
فبهذا استدللنا على أن الهمزة في صحراء وبابها بدلٌ من ألف التأنيث . انتهى .
وهذا أصل كل جمعٍ لنحو صحراء ثم يخفف بحذف الياء الأولى فيصير صحاري بكسر الراء
وتخفيف الياء مثل مداري ثم يبدل من الكسرة فتحة فتنقلب الياء ألفاً لتحركها
وانفتاح ما قبلها كما فعلوا في مدارى . وهذان الوجهان هما المستعملان والأول أصلٌ
متروك يوجد في الشعر .
وقوله : لقد أغدو مضارع غدا غدواً من باب قعد إذا ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح
وطلوع الشمس . و الأشقر من الخيل : الذي حمرته صافية . والشقرة في الإنسان : حمرة
يعلوها بياض . و يغتال : يهلك يقال : اغتاله أي : أهلكه . وعين الفعل واوٌ .
استعار يغتال لقطع المسافة بسرعة شديدة فإن أصل اغتاله بمعنى قتله على غرة وغفلة .
و الصحراء : البرية . وقال الليث : الصحراء : الفضاء الواسع . وقال النضر :
الصحراء من الأرض : الملساء مثل ظهر الدابة الأجرد ليس بها شجرة ولا آكام ولا جبال
.
____________________
ولم أقف على تتمة هذا الشعر . وهو الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان . وتقدمت
ترجمته في الشاهد التاسع عشر بعد المائة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثالث والخمسون بعد الخمسمائة ) الوافر متى كنا لأمك
مقتوينا على أن مقتوينا جمع مقتوي بياء النسبة المشددة فلما جمع جمع تصحيحٍ حذفت
ياء النسبة . و المقتوي بفتح الميم : نسبة إلى المقتى بفتحها فقلبت الألف واواً في
النسبة كما تقول : معلويٌّ في النسبة إلى معلًى . والمقتى : مصدرٌ ميمي .
قال صاحب الصحاح : القتو : الخدمة وقد قتوت أقتو قتواً ومقتًى أي : خدمت مثل غزوت
أغزو غزواً ومغزًى .
قال : المنسرح ( إني امرؤٌ من بني فزارة لا ** أحسن قتو الملوك والخببا ) ويقال
للخادم : مقتويٌّ بفتح الميم وتشديد الياء كأنه منسوب إلى المقتى . ويجوز تخفيف
ياء النسبة كما قال عمرو بن كلثوم :
____________________
متى كنا لأمك مقتوينا انتهى .
قال ابن جني في الخصائص : كان قياسه إذا جمع أن يقال : مقتويون ومقتويين كما إذا
جمع بصريٌّ وكوفي قيل : كوفيون وبصريون إلا أنه جعل علم الجمع معاقباً لياء النسبة
فصحت اللام لنية الإضافة إلى النسبة ولولا ذلك لوجب حذفها لالتقاء الساكنين وأن
يقال : مقتون ومقتين كما يقال : هم الأعلون وهم المصطفون .
ثم قال صاحب الصحاح : قال أبو عبيدة : قال رجلٌ من بني الحرماز : هذا رجل مقتوينٌ
وهذان رجلان مقتوينٌ ورجال مقتوينٌ كله سواء . وكذلك المؤنث . وهم الذين يعملون
للناس بطعام بطونهم .
قال سيبويه : سألت الخليل عن مقتويٍّ ومقتوين فقال : هذا بمنزلة الأشعري والأشعرين
. انتهى .
والواو من مقتوين في رواية أبي عبيد مكسورة والنون منونة بالرفع .
وزاد عليه أبو زيد في نوادره فتح الواو قال : رجل مقتوينٌ ورجالٌ مقتوينٌ وكذلك
المرأة والنساء وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه . )
وقال عمرو بن كلثوم : ( تهددنا وأوعدنا رويداً ** متى كنا لأمك مقتوينا ) الواو
مفتوحة وبعضهم يكسرها أي : متى كنا خدماً لأمك . انتهى .
وقد تكلم أبو علي في كتاب الشعر على هذه اللفظة وبين وجوه استعمالها مع شرح كلام
أبي زيد وغيره فلا بأس بإيراد لاكمه وإن كان فيه طول . قال :
____________________
أنشد أبو زيد : متى كنا لأمك
مقتوينا قالوا : رجل مقتويٌّ وقالوا في الجمع مقتوون كما قالوا أشعريٌّ وأشعرون
فحذفوا ياءي النسب فأما تصحيحهم الواو فإن شئت قلت صححوها في الجمع الذي على حد
التثنية كما صححوها في جمع التكسير حيث قالوا مقاتوة كما أنهم لما حذفوا ياءي
النسب في الجمع على حد التثنية حذفوهما في التكسير فقالوا : المهالبة .
وإن شئت قلت : بنوا مقتوون على الجمع كما بنوا مذروان على حد التثنية .
ألا ترى أنهم لم يفردوا الواحد منه بغير حرف التثنية كما لم يفردوا واحد مذروان
وإنما استعمل واحد بحرف النسب مقتوي .
وفيه قول آخر وهو أو الواو صحت لما كانت النسبة مرادةً في الكلمة فصححت بالواو مع
الحذف كما صحت مع الإثبات ليكون تصحيحها دلالة على إرادة النسب كما صحت الواو
والياء في عور وصيد ليعلم أن الفعل لمعنى ما يلزم تصحيح الواو فيه . وكذلك ازدوجوا
واعتوروا .
ألا ترى أنك لو بنيت منه افتعلوا لا تريد فيه معنى تفاعلوا لأعللت . فأما النون
فقد فتحت كما فتحت في مسلمون وقد جعلت حرف الإعراب كما جعلت في سنين ونحوه حرف
الإعراب .
حكي ذلك عن أبي عبيدة وحكاه أبو زيد إلا أن أبا زيد حكى الفتح والكسر فيما قبل
الياء فيمن جعل النون حرف إعراب وحكيا جميعاً : رجلٌ مقتوين ورجلان مقتوين ورجال
مقتوين .
قال أبو زيد : وكذلك المرأة والنساء .
فأما ما انفرد أبو زيد بحكايته من كسر الواو التي قبل الياء وفتحها فالأصل فيه
الكسر ألا ترى أنك لو أثبت ياء النسب لقلت مقتويون فإذا حذفتها وأنت تريدها وجب
تقدير الكسرة )
كما كانت تقدر مع الياءين لو أثبتهما .
فالذي فتح إنما أبدل من كسرة الواو فتحة كما أبدل الكسرة من الفتحة في قوله :
الوافر
____________________
ولكني أريد به الذوينا فأبدل
من الفتحة في الواو الكسرة . يدلك على أن الأصل فيها الفتح قوله تعالى : ذواتا
أفنان .
وإنما جاز ذلك في الفتحة والكسرة لأنهما كالمثلين .
ألا ترى أنهم قد حركوا بالفتح مكان الكسر في جميع ما لا ينصرف وجعلوا النصب والجر
على لفظ واحد في التثنية وضربي الجمع المسلم في التأنيث والتذكير . فكما كانت كل
واحدة من الكسرة والفتحة في هذه المواضع بمنزلة الأخرى كذلك جاز أن تفتح الواو
وتكسر من مقتوين فيما رواه أبو زيد .
فأما إجراؤه الكلمة وهي جمعٌ على الواحد فيما اجتمع أبو زيد وأبو عبيدة في حكايته
فوجهه فكما أجرى الواحد على الجميع كذلك في مقتوين وصف الواحد بالجميع . وكأن الذي
حسن ذلك أنه في الأصل مصدر .
ألا ترى أنه مفعل من القتو والمصدر يكون للواحد والجميع على لفظ واحد فلما دخله
الواو والنون وكانا معاقبين لياء النسب صارتا كأنهما لغير معنى الجمع كما كانتا في
ثبة وبرة لما كانتا عوضاً من اللام المحذوفة لم يكونا على حالهما في غير ما هما
فيه عوض .
ألا ترى أن نحو طلحة لا يجمع بالواو والنون . فجرى مقتوون على الواحد والجميع كما
يجري المصدر عليهما . وهذا الاعتلال يستمر في قول من لم يجعل النون حرف إعراب وفي
قول من جعلها حرف إعراب .
ألا ترى أن من قال سنين فجعل النون حرف إعراب فهو في إرادته الجمع كالذي لم يجعلها
حرف إعراب .
____________________
ومن هذا الباب إنشاد من أنشد : الرجز قدني من نصر الخبيبين قدي من أنشده على الجمع
أراد الخبيبين ونسب إلى أبي خبيب يريده ويريد شيعته . وعلى هذا قراءة من قرأ :
سلامٌ على إل ياسين أراد النسب إلى الياس . وكما جمع هذا النحو على حد ومن هذا
الباب : الأعجمون في قوله تعالى : ولو نزلناه على بعض الأعجمين . ومن زعم أعجمين )
جمع أعجم فقد غلط لأن نحو أعجم لا يجمع بالواو والنون كما أن عجماء لا تجمع بالألف
والتاء إذا كانت صفة . فإنما أعجمون جمع أعجمي وحذف ياء النسب . وإنما أعجم وأعجمي
مثل أحمر وأحمري يراد بكل واحد منهما ما يراد بالآخر . إلا أن حكم اللفظ مختلف .
فأما الألف في قوله : مقتوينا فتحتمل ضربين : من قال مقتوينٌ فالألف بدلٌ من
التنوين كالتي في رأيت رجلاً .
ومن قال هؤلاء مقتوون ومقتوين فالألف للإطلاق كقوله : الوافر
____________________
أقلي اللوم عاذل والعتابا
انتهى .
وفيه لغة أخرى وهي ضم الميم ولم أر من ذكرها ومن شرحها غير أبي الحسن الأخفش فيما
كتبه على نوادر أبي زيد وغير أبي علي . قال في أواخر البغداديات : قد كتبنا في هذه
الأجزاء وفي غيرها شرح قوله : متى كنا لأمك مقتوينا ودللنا على صحة قول الخليل فيه
من أنه جمعٌ يراد به النسب على حد الأعجمين والأشعرين وهذا دليل بين على صحة قول
الخليل . فأما ما أنشدناه أبو الحسن الأخفش ليزيد بن الحكم قوله : الطويل ( تبدل
خليلاً بي كشكلك شكله ** فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي ) فإنه أنشدناه عن أحمد بن
يحيى مقتوي بضم الميم وهكذا صحته .
وحدثنا عن أحمد بن يحيى أنه قال : المقتوي من الخدمة . وهو عندنا كما قال . وشرحه
أنه مفعللٌ فالواو الصحيح في الكلمة لام الفعل والياء منقلبة عن اللام الزائدة
وأصله واو .
والدليل على ذلك أنه مثل احمررت فأما الواو فصحت كما صحت في ارعويت ونحوه إذ لا
يجوز أن يتوالى في الكلمة إعلال لامين ولا إعلال عين ولام
____________________
لم يوجد ذلك في شيء إلا فيما
حكم له بالقلة .
وفي هذه القصيدة حروف أخر مثلها وهو قوله : محجوي ومدحوي وهو من حجا ودحا .
ويدلك أيضاً على ما ذكرنا من أن مقتوي في البيت مفعللٌ وأن الميم ليس بمفتوح إنما
هو ميم مفعلل تعديه إلى قوله خليلاً . والمفتوحة الميم لا تتعدى إلى شيء لأنه ليس
باسم فاعل . )
فإن قلت : أرأيت مفعللٌ نحو مرعوٍ متعدياً في موضع فيجوز تعدي هذا الذي في البيت
أو ليس هذا الباب يجيء كله غير متعد فالقول فيه أن هذا الباب من اسم الفاعل كما
قلت غير متعدٍّ كما أن فعله كذلك إلا أن الشاعر للضرورة يجوز أن يكون حمل ذلك على
المعنى فعداه .
والمعنى : فإني خليلاً بك خادمٌ . فحمله على هذا المعنى وعداه . وإن شئت أضمرت
شيئاً دل عليه مقتوي فتنصبه به . انتهى .
وتبعه ابن جني في المحتسب قال قالوا : ارعوى افعل واقتوى أي : خدم وساس فمقتوٍ في
بيت يزيد مفعل من القتو وهو الخدمة . وخليلاً عندنا منصوب بفعل مضمر يدل عليه مقتو
وذلك أن افعل لا يتعدى إلى المفعول به فكأنه قال : فإني أخدم وأسوس أو أتعهد أو
أستبدل بك خليلاً . ودل مقتو على ذلك الفعل . انتهى .
وقد شرحنا قصيدة يزيد بن الحكم في أول باب المفعول معه في الشاهد الثمانين بعد
المائة .
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي تقدم سببها وشرح أبياتٍ منها مع ترجمته في
الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة .
____________________
وهذه أبياتٌ منها : ( بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ ** تطيع بنا الوشاة وتزدرينا ) (
بأي مشيئةٍ عمرو بن هندٍ ** نكون لقيلكم فيها قطينا ) ( تهددنا وأوعدنا رويداً **
متى كنا لأمك مقتوينا ) قوله : بأي مشيئة متعلق بتطيع . و عمرو منادى مبنيٌّ على
الضم . قال شراح المعلقة : هو منصوب على أنه إتباع لقوله : ابن هند كما قيل : منتن
فأتبعوا الميم التاء والقياس الضم .
وعمرو بن هندٍ هو ملك الحيرة في الجاهلية قتله صاحب هذه المعلقة وتقدم سبب قتله
هناك . و تزدرينا : تحتقرنا . والمعنى : أي شيءٍ دعاك إلى هذه المشيئة ولم يظهر
منا ضعف يطمع الملك فينا حتى يصغي إلى من يشي بنا عنده ويغريه بنا فيحقرنا وتقدير
تطيع بنا أي : في أمرنا . و القيل بفتح القاف : من هو دون الملك . وفيها أي : في
المشيئة . و القطين : جمع قاطن من قطن بالمكان إذا أقام فيه . )
يقول : كيف شئت يا عمرو أن نكون خدماً ورعايا لمن وليتموه أمرنا أي : ما دعاك إلى
هذه المشيئة ولم يظهر منا ضعفٌ يطمع الملك فينا .
وقوله : تهددنا وأوعدنا رويداً هذا استهزاءٌ به . وهو بالجزم على أنه أمر أي :
ترفق في تهددنا وإيعادنا ولا تبالغ فيهما متى كنا خدماً لأمك حتى نهتم بتهديدك
ووعيدك إيانا وروى : تهددنا وتوعدنا بالمضارع على الإخبار . ثم قال : رويداً أي :
دع الوعيد والتهديد
____________________
قال شراح المعلقة قالوا :
وعدته في الخير والشر فإذا لم تذكر الخير قلت : وعدته وإذا لم تذكر الشر قلت :
أوعدته .
وذكر ابن الأنباري أنه يقال : وعدت الرجل خيراً وشراً وأوعدته خيراً وشراً . فإذا
لم تذكر الخير قلت : وعدته . وإذا لم تذكر الشر قلت : أوعدته .
وقوله : فإن قناتنا إلخ قال الزوزني : العرب تستعير للعز اسم القناة . يقول : إنا
قناتنا أبت أن تلين لأعدائنا قبلك . يريد : أن عزهم أبى أن يزول بمحاربة أعدائهم
لأن عزهم منيعٌ لا يرام .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الخمسمائة ) الطويل كسامعتي شاةٍ بحومل
مفرد على أنه إذا كانت المؤنث اللفظي حقيقي التذكير جاز في ضميره التذكير والتأنيث
. و شاة هنا مؤنثة لفظاً ومعناها الثور الوحشي وقد رجع إليه ضميره في وصفه وهو
مفرد مذكر رعايةً لجهة المعنى .
قال ابن السكيت في كتاب المؤنث والمذكر : ما جاءك من الجمع مثل الشاء والبقر
والحصى فهذا اسمٌ موضوع فإذا أرادت العرب إفراد واحده قالوا : شاة للذكر والأنثى .
____________________
ولم يرد بالهاء التأنيث المحض إنما أرادوا الواحد فكرهوا أن يقولوا : عندي جراد
وهم يريدون الواحد من الجراد فلا يعرف جمعٌ من واحد فجعلت الهاء دليلاً على الواحد
. فهذا قياس مطرد .
وهذا عجزٌ وصدره : مؤللتان تعرف العتق فيهما )
وقبله : ( وصادقتا سمع التوجس للسرى ** لجرسٍ خفيٍّ أو لصوتٍ مندد ) وهما من معلقة
طرفة بن العبد المشهورة .
وصف ناقته بعدة أبيات إلى أن وصف أذنيها فقال : وصادقتا سمع إلخ يعني : أذنيها أي
: لا تكذبها إذا سمعت شيئاً . و التوجس : الخوف والحذر من شيءٍ يسمع .
وقوله : للسرى أي : في السرى . و الجرس بفتح الجيم : الصوت الخفي . و المندد بفتح
الدال وقوله : مؤللتان صفة صادقتا أي : محددتان كتحديد الألة بفتح الهمزة وتشديد
اللام وهي الحربة . ويريد أن أذنيها كالحربة في الانتصاب . و العتق : الكرم
والنجابة . أي : أنت تتبين الكرم فيهما إذا نظرت إليهما لتحديدهما وقلة وبرهما .
قال الخطيب التبريزي : العتق هنا في الأذنين : أن لا يكون في داخلهما وبر فهو أجود
لسمعهما .
والسامعتان : الأذنان .
____________________
قال شراح المعلقة : الشاة هنا : الثور الوحشي ولهذا قال : مفرد بلا هاءٍ . و حومل
: اسم رملة لا ينصرف .
وشبه أذني ناقته بأذني ثور وحشي لتحديدهما وصدق سمعهما . وأذن الوحشي أصدق من عينه
. وجعله مفرداً لأنه أشد توجساً وحذراً إذ ليس معه وحشٌ يلهيه ويشغله فانفراده أشد
لسمعه وارتياعه .
وترجمة طرفة بن العبد تقدمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده : المتقارب ( فلا مزنةٌ ودقت ودقها ** ولا أرض أبقل إبقالها ) وأنشد
بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الخمسمائة ) الطويل
____________________
( حلفت بهديٍ مشعرٍ بكراته **
يخب بصحراء الغبيط درادقه ) على أن تأنيث نحو الزينبات مجازي لا يجب له تأنيث
المسند بدليل البيت فإن البكرات كالزينبات ولم يؤنث له المسند وهو مشعر .
وهذا ظاهر .
وقد خطأ المبرد في كتاب الروضة قول أبي نواس : المديد ( كمن الشنآن منه لنا **
ككمون النار في حجره ) وقال : كان يجب أن يقول في حجرها لأن النار مؤنثة . وأجابوا
عنه بأن أبا نواس أراد : ككمون النار في حجر الكمون .
والبيت من قصيدة لعارق الطائي عدتها في رواية أبي تمام في الحماسة أحد عشر بيتاً
وفي رواية الأعلم : في حماسته أربعة عشر بيتاً . ( لئن لم تغير بعض ما قد صنعتم **
لأنتحين للعظم ذو أنا عارقه ) وبهذا البيت سمي عارقاً واسمه قيس كما يأتي .
خاطب بها عمرو بن هند ملك الحيرة وقيل : أخاه المنذر بن المنذر بن ماء السماء .
كان أحدهما بعث جيشاً للغزو فلم يصيبوا أحداً وأخفقوا فمروا بحيٍّ من طيىءٍ في حمى
الملك فاستاقهم وكان قد أرعاهم الحمى وكتب لهم بذلك
____________________
عهداً فلما قدموا بهم إلى الملك
شاور فيهم زرارة بن عدس الدارمي فأشار عليه بقتل المقاتلة منهم واستعباد ذراريهم
فقام رجلٌ منهم وقال : هذا كتابك لنا . فأجرى عليهم الملك رزقاً فارتجل عارق هذا
الشعر فلما سمعه الملك أحسن إليهم وخلى سبيلهم .
وقوله : حلفت بهديٍ إلخ الهدي : ما يهدى إلى الحرم من النعم . يقال : أهديت الهدي
إلى الحرم أي : سقته إليه . و مشعر : اسم مفعول من الإشعار وهو أن يطعن في السنام
فيسيل الدم عليه فيستدل بذلك على كونه هدياً . وجعل الهدي دالاً على الجنس . وما
بعده صفته وهو مشعرٍ وبكراته مرفوع بمشعر وهو جمع بكرة وهي الشابة من الإبل . )
وخب يخب خبباً كطلب يطلب طلباً . والخبب : ضربٌ من العدو وهو خطو فسيح . والباء و
الغبيط بفتح الغين المعجمة وكسر الموحدة : موضعٌ قريب من فلج في طريق البصرة إلى
مكة . و الدرادق : جمع دردق كجعفر وهو صغار الإبل . والضمير في بكراته ودرادقه
للهدي .
وقوله : لئن لم تغير إلخ هذه اللام هي اللام الموطئة وطأت الجواب الآتي للقسم الذي
قبل الشرط سواء كان القسم قبلها موجوداً كما هنا أو غير موجود كقوله تعالى : لئن
أخرجوا لا يخرجون . ولا يجوز أن تكون هذه اللام لام جواب القسم بأن يكون الجواب
للشرط ومجموع الشرط وجوابه جواب القسم إذ لو كانت كذلك لجاز جزم الفعل في قولك :
لئن أكرمتني أكرمك بالجزم والتالي باطل والمقدم مثله .
وقد أجمع النحاة على أن الفعل الثاني واجب الرفع . فإن قلت : فما جواب الشرط قلت :
محذوف دل عليه جواب القسم . و تغير بالخطاب .
____________________
وروي : بالغيبة على البناء للمفعول ورفع بعض .
وقوله : لأنتحين اللام لام جواب القسم و أنتحين مؤكد بالنون الخفيفة جواب للقسم في
البيت قبله وهو حلفت . والانتحاء للشيء : التعرض له والاعتماد والميل .
وروى : لأنتحين العظم بنون التوكيد الثقيلة وبلام التعريف بعدها . وذو صفة للعظم
وهو في لغة طيىء بمعنى الذي . وجملة : أنا عارقه صلته . و عارق : اسم فاعل من عرقت
العظم عرقاً من باب قتل : أكلت ما عليه من اللحم . جعل شكواه كالعرق وجعل ما بعده
إن لم يغير ما صنعه تأثيراً في العظم .
يقول : حلفت أيها الملك بقرابين الحرم وقد أعلمت بكراتها بعلامة الإهداء يخب
بصحراء ذلك الموضع صغارها إن لم تعير بعض ما صنعته ولم تتدارك ما فاتنا من عدلك
لأميلن على كسر العظم الذي أخذت ما عليه من اللحم .
جعل شكواه وتقبيحه لما أتاه كالعرق وجعل ما بعده إن لم يغير تأثيراً في العظم نفسه
. وقد أحسن في التوعد وفي الكناية عن فعله وعما يهم به بعده . ومعناه : أكسر عظمكم
بعد هذا التهديد إن لم ترجعوا عن هذا الظلم . و عارقٌ اسمه قيس بن جروة بن سيف بن
وائلة بن عمرو بن مالك بن أمان ويقال لأولاده : الأجئيون لإقامتهم بأجأ وهو أحد
جبلي طيىء . وأمان هو ابن ربيعة بن جرول بن ثعل )
الطائي . كذا في جمهرة الأنساب . ويقال له : الأجئي لما ذكرنا . وهو شاعرٌ جاهلي
أورد أبو تمام من شعره في عدة مواضع من الحماسة .
____________________
وأنشد بعده البسيط ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو اللقيطة من ذهل بن
شيبانا ) على أن بنون لتغير مفرده في الجمع أشبه جمع المسكر فجاز تأنيث الفعل
المسند إليه كما يجوز في الأبناء الذي هو جمع مكسر كما أسند في البيت لم تستبح
بتاء التأنيث في أوله إلى بنو .
وهذا ظاهر .
والبيت أول أبياتٍ ثمانية هي أول الحماسة لقريط بن أنيف العنبري وبعده : ( إذن لقام
بنصري معشرٌ خشنٌ ** عند الحفيظة إن ذو لوثةٍ لانا ) ( قومٌ إذا الشر أبدى ناجذيه
لهم ** طاروا إليه زرافاتٍ ووحدانا )
____________________
( لا يسألون أخاهم حين يندبهم
** في النائبات على ما قال برهانا ) ( لكن قومي وإن كانوا ذوي عددٍ ** ليسوا من
الشر في شيءٍ وإن هانا ) ( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً ** ومن إساءة أهل السوء
إحسانا ) ( كأن ربك لم يخلق لخشيته ** سواهم من جميع الناس إنسانا ) ( فليت لي بهم
قوماً إذا ركبوا ** شنوا الإغارة فرساناً وركبانا ) قال أبو عبيدة : أغار ناسٌ من
بني شيبان على رجل من بني العنبر يقال له : قريط بن أنيف فأخذوا له ثلاثين بعيراً
فاستنجد قومه فلم ينجدوه فأتى مازن تميم فركب معه نفرٌ فأطردوا لبني شيبان مائة
بعير فدفعوها إليه فقال هذه الأبيات . انتهى . و مازن : هنا هو ابن مالك بن عمرو
بن تميم أخي العنبر بن عمرو بن تميم . وإذا كان كذلك فمدح هذا الشاعر لهم يجري
مجرى الافتخار بهم .
قال المرزوقي : قصد الشاعر في هذه الأبيات إلى بعث قومه على الانتقام له من أعدائه
لا إلى ذمهم . وكيف يذمهم ووبال الذم راجعٌ إليه
____________________
لكنه سلك طريقة كبشة أخت عمرو
بن معديكرب في قولها : الطويل )
ودع عنك عمراً إن عمراً مسالمٌ وهل بطن عمرٍ و غير شبرٍ لمطعم فإنها لا تهجو أخاها
وعمرٌ و هو الذي كان يعد بألف فارس ولكن مرادها تهييجه . و الاستباحة : الإباحة .
وقيل الإباحة : التخلية بين الشيء وبين طالبه والاستباحة : اتخاذ الشيء مباحاً .
والأصل في الإباحة إظهار الشيء للناظر ليتناوله من شاء ومنه : باح بسره . و
اللقيطة إنما ألحق بها الهاء وإن كانت فعيلاً بمعنى مفعول لأنها جعلت اسماً ولم
تتبع موصوفاً كالذبيحة .
كذا في شروح الحماسة . ولا مناسبة للقيطة هنا لأنها فزارية لا اتصال لها بذهل بن
شيبان .
والصواب : بنو الشقيفة كما يأتي .
وأول من شرح على اللقيطة واتبعوه : أبو عبد الله النمري أول من شرح الحماسة . قال
: اللقيطة نبزٌ نبزهم الشاعر به وليس بنسبٍ لهم جعل أمهم ملقوطة وأخرجها مخرج
النطيحة والرمية .
هذا كلامه .
ورد عليه الأسود أبو محمد الأعرابي فيما كتبه على ذلك الشرح قال : هذا موضع المثل
: أول الدن درديٌّ .
هذا أول بيت من الحماسة جهل جهة الصواب في صحة متنه واستواء نظامه فاشتغل بوزن
اللقيطة وذكر النطيحة . والصواب إن شاء الله ما أنشدناه أبو الندى وذكر أنه لقريط
بن أنيف العنبري : ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو الشقيفة من ذهل بن
شيبانا ) قال : الشقيفة هي بنت عباد بن زيد بن عوف بن ذهل بن شيبان . وهي أم سيار
وسمير وعبد الله وعمرو أولاد سعد بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان . وهم سيارةٌ
مردة ليس يأتون على شيءٍ إلا أفسدوه .
____________________
قال : وأما اللقيطة وليس هذا موضعها فهي أم حصن بن حذيفة وإخوته وهم خمسة واسمها
نضيرة بنت عصيم بن مروان بن وهب بن بغيض بن مالك بن سعد بن عدي بن فزارة .
وإنما ألحق بها هذا الاسم لأن أباها لم يكن له ولد غيرها والعرب ذاك الدهر تئد
الجواري فلما رآها انتشرت نفسه عليها ورق لها وقال لأمها : استرضعيها وأخفيها من
الناس .
فكان أول من فطن لها حمل بن بدر فقال لأخيه حذيفة وتحته العذرية ليس له ولدٌ إلا
منها )
وهو مسهر وبه كان يكتنى : مالك لا تتزوج وتجمع النساء نرزق منك عضداً قال : ومن لي
بالنساء التي تشبهني وتلائمني قد علمت ما لقيت من العذرية وطلبها قال : قد التقطت
لك امرأة ترضاها وتشبهك . قال : من هي قال : بنتٌ لعصيم بن مروان بن وهب .
قال : وإن له لبنتاً قال : نعم . قال : فإني لم أسمع بها . قال : كانت مخفاة وقد
خبرت خبرها .
قال : فأنت رسولي إلى عصيم فيها . قال : فأتاه فزوجه إياها .
وبهذا سميت اللقيطة . وهي أم حصن ومالك ومعاوية وورد وشريك بني حذيفة .
وإياهم عنى زبان بن سيارٍ بقوله : الكامل ( أعددتها لبني اللقيطة فوقها ** رمحٌ
وسيفٌ صارم وشليل ) انتهى كلام الأسود .
وما أورده في تسمية اللقيطة خلاف ما قاله السكري في شرح ديوان حسان بن
____________________
ثابت قال : اللقيطة : أم حصن
بن حذيفة كانت سقطت منهم في نجعة وهي صغيرة فأخذت فسميت اللقيطة .
وكذا قال ياقوت في أنساب العرب قال : وحصن بن حذيفة هو ابن اللقيطة لأن قومها
انتجعوا فسقطت وهي طفل فالتقطها قومٌ فردوها عليهم . انتهى . والله أعلم .
وقوله : إذن لقام بنصري إلخ يأتي إن شاء الله الكلام على إعراب هذا البيت في إذن
من نواصب الفعل . وقام بالأمر : تكفل به . و خشن بضمتين : جمع خشن وقيل : جمع أخشن
وضمة الشين للإتباع . و الحفيظة : الغضب في الشيء الذي يجب عليك حفظه . و اللوثة
بضم اللام : الضعف وهي الرواية الصحيحة وبالفتح : القوة والشدة . والأول أسد لأن
مراده التعريض بقومه ليغضبوا أو يهتاجوا لنصرته .
وقوله : قوم إذا الشر إلخ الناجذ بالجيم والذال المعجمة : ضرس الحلم زائد .
والناجذ : مثل لاشتداد الشر كما يقال : كشر الحرب عن نابه كذا في شرح الطبرسي .
وقال غيره : الناجذ : أقصى الأضراس كنى بإبدائه عن كشف الحال ورفع المجاملة .
واستعمال و طاروا : أسرعوا إلى دفعه ولم يتثاقلوا و الزرافة بفتح الزاي قال ابن
جني في إعراب الحماسة : معناها الجماعة سميت بذلك للزيادة التي في الاجتماع
والتضام . ومنه التزريف )
للزيادة في الحديث يقال : زرف في كلامه أي : زاد فيه . ومنه الزرافة لطول عنقها
وزيادته على المعتاد المألوف فيما قده قدها . و وحدان : جمع واحد كصاحب وصحبان
بمعنى منفردين .
____________________
وقوله : لا يسألون أخاهم إلخ قال ابن جني : ليس يندبهم هنا من الندبة التي هي
التفجع وإنما هي بمعنى الاشتغاثة . غير أن أصلهما واحد وهو ما اجتمعا فيه من معنى
الخصوص والعناية . و البرهان : الدليل فعلالٌ لا فعلان لقولهم : برهنت عليه أي :
أقمت الدليل . وأخو القوم : الواحد منهم . واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى
: إذ قال لهم أخوهم نوحٌ ألا تتقون على أن الأخ يطلق ويراد به الواحد من القوم كما
في البيت . وفي البيت تعريضٌ بقومه .
وقوله : لكن قومي إلخ يعني إن قومي وإن كان فيهم كثرة عدد وعدةٍ ليسوا من فع الشر
في شيء وإن كان فيه خفة وقلة . وفيه مطابقةٌ حيث قابل الشرط بالشرط في الصدر
والعجز والعدد والكثرة بالهون والخفة . ويريد أنهم يؤثرون السلامة ما أمكن ولو
أرادوا الانتقام لقدروا بعددهم .
وقوله : يجزون من ظلم هذا البيت وما بعده استشهد بهما أهل البديع على النوع المسمى
: إخراج الذم مخرج المدح . ونبه بالبيتين على أن احتمالهم إنما هو لاحتساب الأجر
على زعمهم فكأن الله لم يخلق لخوفه غيرهم . وقوله : سواهم استثناء مقدم من إنسان .
وقوله : فليت لي بهم أورده ابن هشام في حرف الباء من المغني على أن الباء في بهم
للبدلية .
وقال ابن جني : ليست الإغارة هنا مفعولاً به بل هي منتصبة على المفعول لأجله أي :
شدوا للإغارة فرساناً وركباناً أي : في هذه الحال . و قريط بن أنيف بضم القاف وفتح
الراء . وأنيف بضم الهمزة وفتح النون . وهو شاعر إسلامي . قاله الخطيب التبريزي في
الحماسة .
وقد تتبعت كتب الشعراء وتراجمهم فلم أظفر له بترجمة .
____________________
وأنشد بعده : الطويل بحوران يعصرن السليط أقاربه وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد
السادس والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الخمسمائة ) مع الصبح ركبٌ من أحاظة مجفل
على أن اسم الجمع بعضه ك الركب يجوز تذكيره وتأنيثه وفي الشعر جاء مذكراً فإنه عاد
الضمير عليه من مجفل بالتذكير ولو أنث لقيل : مجفلة . و مجفل صفة ثانية لركب .
وهذا عجز بيتٍ وصدره : فعبت غشاشاً ثم مرت كأنها والبيت من القصيدة المشهورة
بلامية العرب للشنفرى . وهذه أبياتٌ منها متصلة به :
____________________
( وتشرب أسآري القطا الكدر
بعدما ** سرت قرباً أحناؤها تتصلصل ) ( هممت وهمت وابتدرنا وأسدلت ** وشمر مني
فارطٌ متمهل ) ( فوليت عنها وهي تكبو لعقره ** يباشره منها ذقونٌ وحوصل ) ( كأن
وغاها حجرتيه وحوله ** أضاميم من سفر القبائل نزل ) ( توافين من شتى إليه فضمها **
كما ضم أذواد الأصاريم منهل ) فعبت غشاشاً . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. البيت وقوله : وتشرب أسآري إلخ الأسآر بفتح الهمزة : جمع سؤر وهو بقية الماء .
يريد أنه يسبق القطا إذا سايرها في طلب الماء لسرعته فترد بعده وتشرب سؤره مع أن
القطا و أسآري : مفعول تشرب و القطا : فاعله والكدر : صفته .
والقطا ثلاثة أضرب : أحدها كدريٌّ وهي الغبر الألوان الرقش الظهور والبطون والصفر
الحلوق .
ثانيها : جونيٌّ بضم الجيم وهي سود الأجنحة والبطون وهي أكبر من الكدر وتعدل جونية
بكدريتين وهي منسوبة إلى الجونة وهي الدهمة . والكدري منسوبٌ إلى الكدرة وهي
الغبرة .
ثالثها : غطاطٌ وهي غبر البطون والظهور سود بطون الأجنحة طوال الأرجل والأعناق
لطاف الأجسام لا تجتمع أسراباً أكثر ما تكون ثلاثاً أو اثنين . كذا في شرح أدب
الكاتب لابن بري واللبلي .
وسريت إذا سرت في أول الليل وأرسيت إذا سرت في آخره . وقيل : بل هما لغتان .
____________________
و القرب بفتح القاف والراء
قال الخطيب التبريزي في شرح القصيدة : هو ورود الماء . يقال : )
قربت الماء أقربه إذا وردته . وليلة القرب : ليلة ورود الماء .
وقال الزمخشري في شرحها : قرباً : حال من ضمير سرت . والقرب : السير إلى الماء
بينك وبينه ليلة . قال الأصمعي : قلت لأعرابي : ما القرب فقال : سير الليل لورود
الغد . وقال الخليل : القارب : طالب الماء ليلاً ولا يقال لطالب الماء نهاراً .
انتهى .
قال الخطيب : وروايتي : أحشاؤها وهو أجود عندي . ويقال لليابس : سمعت صلصلة أي :
صوتاً من يبسه .
والصلصال : الفخار . يقول : تتصلصل أجوافها من العطش ليبسها .
وقوله : هممت وهمت إلخ هممت أنا وهمت القطا . و ابتدرنا : استبقنا . و أسدلت :
أرخت جناحها وكفت عن الطيران لتعبها .
قال الخطيب : وحفظي وابتدرنا وقصرت يريد أن القطا عجزت عن العدو وهو لم يكل . و
شمر : خف . و الفارط بالفاء : المتقدم . و المتمهل : المتأني . وفيه مبالغةٌ
وتجريد .
وقوله : فوليت عنها إلخ تكبو : تتساقط القطا إلى عقر الحوض أي : تقرب منه . و
العقر بضم العين المهملة وسكون القاف هو مقام الساقي من الحوض يكون فيه ما يتساقط
من الماء عند أخذه من الحوض . و الذقون : جمع ذقن في الكثرة وأذقانٌ في القلة . و
حوصل : جمع حوصلة . يقول : وردت وصدرت والقطا تكرع ثم تصدر وكنت أسرع منها .
وقوله : كأن وغاها حجرتيه إلخ وغاها : أصواتها . والوغى بالغين المعجمة والمهملة :
الصوت . و حجرتيه منصوب على الظرف والضمير
____________________
للعقر أي : مقام الساقي .
وحجرتاه : ناحيتاه مثنى و حوله : ظرف معطوف عليه والضمير للعقر أيضاً . وأضاميم :
خبر كأن على حذف مضاف أي : كأن وغاها وغى أضاميم لأن التشبيه إنما هو بين الصوتين
. وأضاميم : جمع إضمامة بالكسر وهو القوم ينضم بعضهم إلى بعض في السفر . و نزل :
جمع نازل صفة أضاميم . أي : يسمع لهذه القطا أصواتٌ كما يسمع أصوات هؤلاء عند
نزولهم .
وقوله : توافين من شتى إلخ توافين : اجتمعن والضمير للقطا . و من شتى أي : من طرق
مختلفة جمع شتيت بمعنى مختلف . وضمير إليه للعقر وكذلك فاعل ضمها ضمير العقر . )
وقال غيره : هو أبياتٌ مجتمعة من الأعراب . و المنهل : مورد الماء وهو فاعل ضم
وأذواد : مفعوله .
وقوله : فعبت غشاشاً إلخ عبت : شربت بلا مصٍّ . قال ثعلب : عب يعب إذا شرب الماء
فصبه في الحلق صباً . وقال الخطيب : عبت : تابعت الشرب كأنها تعبيه في أجوافها
فيكون من التعبية . و غشاشاً بكسر الغين المعجمة بعدها شينان معجمتان .
قال الخطيب : قال بعض أهل اللغة : معناه على عجلة . وقال غيره : قليلاً أو غير
مريء . و الركب : ركبان الإبل خاصة . يقول : وردت القطا على عجل ثم صدرت في بقايا
من الظلمة في الفجر . وهذا يدل على قوة سرعتها .
____________________
ومجفل بالجيم : مسرع صفة ثانية لركب ومن أحاظة صفة أولى . و أحاظة بضم الهمزة
بعدها مهملة وظاء مشالة معجمة قال الخطيب : أحاظة فيما ذكر ثعلب : قبيلة من الأزد
.
وقال غيره : هي قبيلة من اليمن . ولم يعرفها المبرد ولم أسمع باسمها إلا في هذا
الشعر . انتهى .
وقوله : وقال غيره إلخ غير جيد فإن الأزد من اليمن .
وقيل : أحاظة موضع لا قبيلة . قال البكري في معجم ما استعجم : أحاظة : بلد . وأنشد
هذا البيت ثم قال : وقد قيل : إن أحاظة قبيلة من ذي الكلاع من حمير وهو الصحيح .
انتهى .
وقد ذكره ابن الكلبي في جمهرة حمير قال : وأحاظة أخو ميتم بن سعد ابن عوف بن عدي
بن مالك بن زيد بن سهيل بن عمرو بن قيس بن معاوية بن جشم ابن عبد شمس بن وائل بن
الغوث بن قطن بن عريب بن زهير بن أيمن بن الهميسع بن حمير بن سبأ .
ثم ذكر أن قبائل ذي الكلاع ثلاثٌ وعشرون قبيلة منهم ميتم وأخوه أحاظة . ثم قال :
تكلع هؤلاء في الجاهلية على سميفع .
والشنفرى : شاعرٌ جاهليٌّ تقدمت ترجمته في الشاهد السادس والعشرين بعد المائتين .
____________________
( باب المثنى ) أنشد فيه ( الشاهد
الثامن والخمسون بعد الخمسمائة ) الرجز أحب منها الأنف والعينانا على أن لزوم
الألف المثنى في الأحوال الثلاثة لغة بني الحارث بن كعب فإنهم يقلبون الياء
الساكنة إذا انفتح ما قبلها ألفاً يقولون : أخذت الدرهمان واشتريت ثوبان والسلام
علاكم .
قال أبو حاتم والأخفش في شرح نوادر أبي زيد .
والبيت من رجز مسطورٍ في هذه النوادر قال : وأنشدني المفضل لرجل من بني ضبة هلك مذ
أكثر من مائة سنة : ( إن لسعدى عندنا ديوانا ** يخزي فلاناً وابنه فلانا ) ( كانت
عجوزاً عمرت زمانا ** وهي ترى سيئها إحسانا ) ( أعرف منها الأنف والعينانا **
ومنخرين أشبها ظبيانا ) أراد : منخري ظبيان فحذف كما قال عز وجل : واسأل القرية
يريد : أهل القرية . انتهى .
____________________
قال ابن جني في سر الصناعة : من العرب من لا يخاف اللبس ويجري الباب على أصل قياسه
فيدع الألف ثابتةً في الأحوال فيقول : قام الزيدان وضربت الزيدان ومررت بالزيدان
وهم بنو الحارث وبطنٌ من ربيعة .
وأنشدوا في ذلك : الطويل تزود منا بين أذناه ضربةً وقال آخر : الطويل ( فأطرق
إطراق الشجاع ولو يرى ** مساغاً لناباه الشجاع لصمما ) وقال آخر : ( أعرف منها
الجيد والعينانا ** ومنخرين أشبها ظبيانا ) يريد : العينين . ثم إنه جاء بمنخرين على
اللغة الفاشية . وروينا عن قطرب : خب الفؤاد مائل اليدان )
وقال آخر : الرجز ( إن أباها وأبا أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها )
____________________
وقوله : إن لسعدى عندنا
ديوانا سعدى بضم السين : اسم امرأة .
قال السكري : الديوان مكسور ولذلك قالوا : دواوين مثل قيراط ودينار . ولو كان
ديوان بالفتح لقالوا : دياوين ولأدغموا الواحد فقالوا : ديان كما قالوا : ديار .
انتهى .
قال ابن السيد : الديوان اصله فارسي معرب واستعملته العرب وجعلوا كل محصل من كلامٍ
أو شعر ديواناً . وفاعل يخزي ضمير الديوان .
وقوله : كانت عجوزاً أي : صارت عجوزاً . و عمرت بفتح العين وكسر الميم .
وقوله : ومنخرين أشبها ظبيانا تقدم عن أبي زيد أن ظبيان اسم رجل وأنه على تقدير
مضاف أي : منخري ظبيان .
وزعم بعضهم كما نقله العيني أنه مثنى ظبي على حذف مضاف والتقدير : أشبها منخري
ظبيين .
وهذا وإن كان في نفسه صحيحاً إلا أن نقل أبي زيد يدفعه .
والمنخر على وزن مسجد : خرق الأنف وأصله موضع النخير وهو الصوت من الأنف يقال :
والمنخر بكسر الميم للإتباع لغة . والمنخور كعصفور : لغة طيئ .
وعرف من نقل أبي زيد أن الرواية : أعرف منها الأنف لا : أحب منها كما هو في الشرح
.
____________________
وبنو الحارث بن كعب : قبيلةٌ عظيمة من قبائل العرب من قحطان .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الخمسمائة ) الرجز ( إنا أباها وأبا
أباها ** قد بلغا في المجد غايتاها ) لما تقدم قبله .
والشاهد في غايتاها وأبا أباها . فيجوز أن يكون جاء على لغة القصر يقال : هذا أباك
ومررت بأباك فتكون الحركة مقدرة على الألف .
والبيتان نسبهما ابن السيد في أبيات المعاني لرجل من بني الحارث .
وقال العيني وتبعه السيوطي في شرح أبيات المغني : نسبهما الجوهري إلى أبي النجم
وأنشد قبلهما :
____________________
( يا ليت عينيها لنا وفاها **
بثمنٍ نرضي به أباها ) إن أباها . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
. إلخ وقد رجعت إلى الصحاح فلم أر إلا البيتين الأولين ولم أر فيه ما أنشده الشارح
هنا .
وقال العيني أيضاً وتبعه السيوطي : أنشد أبو زيد في نوادره عن المفضل قال : أنشدني
أبو الغول لبعض أهل اليمن : ( أي قلوص راكبٍ تراها ** شالوا علاهن فشل علاها ) (
واشدد بمثنى حقبٍ حقواها ** ناجيةً وناجياً أباها ) إن أباها . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . إلخ وقد رجعت إلى النوادر أيضاً فلم أر فيها هذين
البيتين وإنما أورد عن المفضل الأبيات الأربعة من قوله : أي قلوص إلى قوله :
وناجياً أباها . أوردها في موضعين من النوادر ولم يزد على تلك الأربعة . وقد
شرحناها في الشاهد الثامن عشر بعد الخمسمائة من باب الظروف . و المجد : الشرف .
وكان الظاهر أن يقول : قد بلغا في المجد غايتيه بضمير المذكر الراجع إلى المجد
لكنه أنث الضمير لتأويل المجد بالأصالة . والمراد بالغايتين الطرفان من شرف
الأبوين كما يقال : أصيل الطرفين .
____________________
وهذا على ما ذكره الجوهري من أن قبل البيت : واهاً لريا . وأما على رواية أبي زيدٍ
فيكون ضمير أباها للقلوص . هذا كلامه . )
وأنشد بعده ( الشاهد الستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( يا رب خالٍ لك في عرينه **
فسوته لا تنقضي شهرينه ) شهري ربيعٍ وجماديينه على أن نون التثنية قد تفتح كما في
شهرينه و جماديينه وكما في البيت السابق .
أعرف منها الأنف والعينانا قال ابن جني في سر الصناعة : قرأت على أبي علي في نوادر
أبي زيد : أعرف منها الأنف والعينانا وروينا عن قطرب لامرأةٍ من فقعس ( يا رب خالٍ
لك من عرينه ** حج على قليصٍ جوينه ) وقد حكي أن منهم من ضم النون في نحو :
الزيدان والعمران . وهذان من الشذوذ بحيث لا يقاس غيرهما عليهما . انتهى .
وقيد ابن عصفور في كتاب ضرائر الشعر فتح النون بحالة النصب والخفض
____________________
وبحالة النصب فقط في لغة من
ألزم المثنى الألف في جميع الأحوال .
وقد وجه أبو علي في كتاب الشعر فتح النون على وجوه . قال : أنشد أبو زيد : أعرف
منها الأنف والعينانا تحريك النون بالفتح يحتمل غير وجه . منها : أن حركتها لما
كانت لالتقاء الساكنين ورأى التحريك في التقائهما في المنفصل والمتصل لا يحرك
بضربٍ واحد من الحركة جعل التثنية مثل ذلك .
ألا ترى أنهم قالوا : رد ورد ورد وقالوا : عوض وعوض ونحو ذلك فلم يلزموا في المتصل
ضرباً واحداً من التحريك فكذلك جعل نون التثنية بمنزلته .
ويجوز أن يكون شبه التثنية بالجمع لما رآهم يقولون : مضت سنون ويقولون : مضت سنين
فيجعلون النون في الجمع حرف الإعراب جعلها في التثنية كذلك .
ويجوز أن يكون شبه غير العلم بالعلم . ألا ترى أن النحويين قد أجازوا في رجل يسمى
بتثنيةٍ أن )
يجعلوا النون حرف الإعراب فيقولون : هذا زيدان وعمران وكان القياس أن لا يعرى من
شيءٍ يدل على التثنية كما أنه إذا سمي بجمعٍ بالألف والتاء لم يعروه مما يدل على
حكاية ذلك .
إلا أنهم لما قالوا السبعان في الاسم المخصوص فلم يبقوا شيئاً يدل على حكاية
التثنية جاز على ذلك تغيير ما سمي بتثنية .
وقد حكى البغداديون تحريك نون التثنية بالفتح إذا وقعت بعد ياء . وأنشدوا : الطويل
____________________
على أحوذيين ويشبه أن يكونوا
شبهوا التثنية بالجمع .
فكما فتحوا النون بعد الياء في الجمع كذلك فتحوا ما بعد الياء في التثنية وهذا مما
يقوي فتح النون في قوله : العينانا .
ألا ترى أنه ليس يلزمها على رأيهم وعلى ما أنشدوه حركةٌ واحدة . وما عليه الجمهور
أولى من جهة القياس أيضاً وهو الأكثر في الاستعمال . وذلك أن هذه الياء لا تلزم
الكلمة .
وقد وجدت من الحروف ما لا يقع به الاعتداد لما لم يلزم . فالياء في هذا الموضع
ليست بلازمة .
ألا ترى أن منهم من يجعلها في جميع الأحوال ألفاً . وقد حذفوا هذه النون في غير
الإضافة كما ( يا حب قد أمسينا ** ولم تنام العينا ) أراد : العينان فحذف النون .
وقوله : إن عمي اللذا أشبه شيئاً لأن الاسم قد طال بالصلة . انتهى .
____________________
وقوله : يا رب خالٍ إلخ يا : حرف تنبيه و رب والعامل في محل مجرورها حج . و عرينة
بضم العين وفتح الراء المهملتين : قبيلة باليمن .
وقوله : حج على قليص إلخ حذفه الشارح المحقق لعدم تعلق غرضه به . وإنما ذكر البيت
الأول وإن كان مثل الثاني ليعلم منه فتح النون في البيتين الآخرين إذ لولا ذكره
لربما ظن أن النون فيهما مكسورة كقول الراجز : الرجز ( قل لخليليك وتحسنانه ** هل
أنتما العيش ملبثانه ) ( في دار حيٍّ حيث تعلمانه ** إن لا تقولون فتحسنانه ) و
قليص : مصغر قلوص وهي الناقة الشابة . و جوينة : مصغر جون بفتح الجيم . والجون من
)
الخيل ومن الإبل : الأدهم الشديد السواد .
قوله : فسوته لا تنقضي إلخ الفسوة بالفتح : ريح يخرج بغير صوت يسمع . وهو على حذف
مضاف أي : نتن فسوته لا ينقضي في هذه المدة ففسوته تشبه فسوة الظربان .
والظربان بفتح الظاء المعجمة المشالة وكسر الراء بعدها موحدة وهي دويبة كالهرة
منتنة الريح تزعم العرب أنها تفسو في ثوب أحدهم إذا صادها فلا تذهب رائحته حتى
يبلى الثوب .
وقد ضرب بها الأمثال يقال : أنتن من ظربان و أفسى من ظربان و فسا بينهم الظربان
إذا تقاطع القوم وتهاجروا . و تنقضي : تذهب شيئاً فشيئاً . شهرين منصوب على الظرف
وعامله
____________________
تنقضي وهو مثنى شهر وفتح
النون شذوذاً والهاء بعدها للسكت أتي بها لبيان الفتحة فإنها قد يبين بها حركة نون
الاثنين مكسورة ومفتوحة ويبين بها حركة نون الجمع أيضاً كقوله : الرجز ( قد صبحت
بالأمس ماء لينه ** يحفها م القوم أربعونه ) حاليةً كاسيةً دهينه قوله : شهري ربيع
إلخ بدل من شهرينه . و جماديينه : معطوف على شهري لا على ربيع لوجهين : أحدهما :
أنه لا يقال شهر جمادى فإن لفظ شهر لا يضاف إلا لما في أوله راء كشهر ربيع وشهر
رجب وشهر رمضان كما هو المشهور .
ثانيهما : لئلا يفسد المعنى فإنه لو عطف على ربيع لاقتضى أن البدل أربعة أشهر
والمبدل منه شهران وهذا خلف من القول فعطفه على البدل يفيد أن عدم الانقضاء في
أربعة أشهر : شهري ربيع وجماديين وهو مثنى جمادى بضم الجيم وقصر آخره فلما ثني
قلبت الألف ياء كقولك : فتيان في تثنية الفتى .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( ليثٌ وليثٌ في محلٍّ
ضنك ** كلاهما ذو أشرٍ ومحك )
____________________
على أن أصل المثنى العطف
بالواو فلذلك يرجع إليه الشاعر في الضرورة كما هنا فإن القياس أن يقول : ليثان
لكنه أفردهما وعطف بالواو لضرورة الشعر .
قال ابن الشجري في أماليه : التثنية والجمع المستعملان أصلهما التثنية والجمع
بالعطف فقولك : جاء الرجلان ومررت بالزيدين أصله جاء الرجل والرجل ومررت بزيد وزيد
فحذفوا العاطف والمعطوف وأقاموا حرف التثنية مقامهما اختصاراً .
وصح ذلك لاتفاق الذاتين في التسمية بلفظ واحد . فإن اختلف لفظ الاسمين رجعوا إلى
التكرير بالعاطف كقولك : جاء الرجل والفرس غذ كان ما فعلوه من الحذف في المتفقين
يستحيل في المختلفين .
ولما التزموه في تثنية المتفقين ما ذكرنا من الحذف كان التزامه في الجمع مما لا بد
منه ولا مندوحة عنه لأن حرف الجمع ينوب عن ثلاثة فصاعداً إلى ما لا يدركه الحصر .
ويدلك على صحة ما ذكرته أنهم ربما رجعوا إلى الأصل في تثنية المتفقين وما فويق ذلك
من العدد فاستعملوا التكرير بالعاطف إما للضرورة وإما للتفخيم . فالضرورة كقول
القائل : الرجز كأن بين فكها والفك أراد أن يقول : بين فكيها فقاده تصحيح الوزن
والقافية إلى استعمال العطف .
ومثله فيما جاوز الاثنين قول أبي نواس :
____________________
( أقمنا بها يوماً ويوماً
وثالثاً ** ويوماً له يوم الترحل خامس ) فإن استعملت هذا في السعة فإنما تستعمله
لتفخيم الشيء الذي تقصد تعظيمه كقولك : لمن تعنفه بقبيحٍ تكرر منه وتنبهه على
تكرير عفوك : قد صفحت عن جرمٍ وجرمٍ وجرم وجرم كقولك : لمن يحقر أيادي أسديتها
إليه أو ينكر ما أنعمت به عليه : قد أعطيتك ألفاً وألفاً وألفاً .
فهذا أفخم في اللفظ وأوقع في النفس من قولك : قد صفحت لك عن أربعة أجرام وقد
أعطيتك ثلاثة آلاف . انتهى .
وهذا الشعر لواثلة بن الأسقع أورده له الكلاعي في السيرة النبوية في وقعة مرج
الروم قال : كان )
واثلة بن الأسقع في خيل قيس بن هبيرة في جيش خالد بن الوليد فخرج بطريق من كبارهم
فبرز له واثلة وهو يقول في حملته : ( ليثٌ وليثٌ في مجالٍ ضنك ** كلاهما ذو أنفٍ
ومحك ) ( أجول جول حازمٍ في العرك ** أو يكشف الله قناع الشك ) مع ظفري بحاجتي
ودركي ثم حمل على البطريق فقتله .
وأورد الجاحظ تتمته وقصته في كتاب المحاسن والمساوي لجحدر بن مالك الحنفي على غير
هذا الوجه قال : كان باليمامة رجلٌ من بني حنيفة يقال له : جحدر بن مالك وكان
لسناً فاتكاً شاعراً وكان قد أفحش على أهل هجر وناحيتها فبلغ ذلك الحجاج بن يوسف
فكتب إلى عامل اليمامة يوبخه في تلاعب جحدرٍ به ثم يأمره بالتجرد في طلبه حتى يظفر
به .
فبعث العامل إلى فتيةٍ من بني يربوع بن حنظلة فجعل لهم جعلاً عظيماً إن هم
____________________
قتلوا جحدراً أو أتوا به
ووعدهم أن يوفدهم إلى الحجاج ويسني فرائضهم فخرج الفتية في طلبه حتى إذا كانوا
قريباً منه بعثوا إليه رجلاً منهم يريه أنهم يريدون الانقطاع إليه . فوثق بهم
واطمأن إليهم .
فبيناهم على ذلك إذ شدوه وثاقاً وقدموا به إلى العامل فبعث به معهم إلى الحجاج
فلما قدموا به على الحجاج قال له : أنت جحدر قال : نعم . قال : ما حملك على ما
بلغني عنك قال : جرأة الجنان وجفوة السلطان وكلب الزمان قال : وما الذي بلغ من
أمرك فيجترئ جنانك ويصلك سلطانك ولا يكلب عليك زمانك قال : لو بلاني الأمير لوجدني
من صالحي الأعوان وبهم الفرسان ومن أوفى على أهل الزمان .
قال الحجاج : أنا قاذفك في قبة فيها أسد فإن قتلك كفانا مؤنتك وإن قتلته خليناك
ووصلناك .
قال : قد أعطيت أصلحك الله المنية وعظمت المنة وقربت المحنة . فأمر به فاستوثق منه
بالحديد وألقي في السجن وكتب إلى عامله بكسكر يأمره أن يصيد له أسداً ضارياً .
فلم يلبث العامل أن بعث له بأسد ضاريات قد أبزت على أهل تلك الناحية ومنعت عامة
مراعيهم ومسارح دوابهم فجعل منها واحداً في تابوت يجر على عجلة فلما قدموا به أمر
فألقي في حيزٍ وأجيع ثلاثاً ثم بعث إلى جحدر فأخرج وأعطي سيفاً ودلي عليه فمشى إلى
الأسد ) ( ليثٌ وليثٌ في مجال ضنك ** كلاهما ذو أنفٍ ومحك )
____________________
( وصولةٍ في بطشه وفتك ** إن
يكشف الله قناع الشك ) ( وظفراً بجؤجؤٍ وبرك ** فهو أحق منزلٍ بترك ) الذئب يعوي
والغراب يبكي حتى إذا كان منه على قدر رمح تمطى الأسد وزأر وحمل عليه فتلقاه جحدرٌ
بالسيف فضرب هامته ففلقها وسقط الأسد كأنه خيمةٌ قوضتها الريح .
ولم يلبث جحدرٌ لشدة حملة الأسد عليه مع كونه مكبلاً أن وقع على ظهره متلطخاً
بالدم .
وعلت أصوات الجماعة بالتكبير وقال له الحجاج لما رأى منه ما هاله : يا جحدر إن
أحببت أن ألحقك ببلادك وأحسن جائزتك فعلت ذلك بك وإن أحببت أن تقيم عندنا أقمت
فأسنينا فريضتك .
فقال : أختار صحبة الأمير . ففرض له ولجماعة أهل بيته وأنشأ جحدرٌ يقول : الكامل (
يا جمل إنك لو رأيت بسالتي ** في يوم هيجٍ مردفٍ وعجاج ) ( وتقدمي لليث أرسف نحوه
** حتى أكابره عن الأحراج ) ( جهمٌ كأن جبينه لما بدا ** طبق الرحا متفجر الأثباج
) ( شثنٍ براثنه كأن نيوبه ** زرق المعابل أو شذاة زجاج ) ( وكأنما خيطت عليه
عباءةٌ ** برقاء أو خلقٌ من الديباج )
____________________
( قرنان محتضران قد ربتهما **
أم المنية غير ذات نتاج ) ( وعلمت أني إن أبيت نزاله ** أني من الحجاج لست بناج )
( فمشيت أرسف في الحديد مكبلاً ** بالموت نفسي عند ذاك أناجي ) هذا ما أورده الجاحظ
.
وقد أورد ابن الشجري في أماليه هذه الحكاية مختصرة لجحدر المذكور مع أربعة أبيات
من الرجز ولم يذكر هذه الأبيات .
وأخرج السيوطي في بحث رب من شرح شواهد المغني هذه الحكاية بنحو ما ذكره ابن الشجري
عن المعافي بن زكريا وابن عساكر في تاريخه بسند متصل عن ابن الأعرابي وعن الزبير
بن بكار في الموفقيات . )
ولم يورد السكري في كتاب اللصوص شيئاً مما أورده الجاحظ مع أنه استوعب أحوال
اللصوص وأشعارهم في كتابه وأورد له أشعاراً كثيرة جيدة .
وقوله : ليثٌ وليثٌ إلخ الليث : الأسد . و الضنك : الضيق . و الأشر بفتحتين البطر .
وروى بدله : ذو أنف بفتح الهمزة والنون بمعنى الاستنكاف . و المحك بفتح الميم
وسكون الحاء المهملة : اللجاج . و الحازم من الحزم وهو التثبت والتيقظ . و العرك
بفتح العين وسكون الراء المهملتين : الحرب والمعركة موضعه .
وقوله : أو يكشف الله إلخ أو هنا بمعنى إلى . و الظفر : الغلبة . والدرك : الوصول
. و الجؤجؤ في شعر جحدر بجيمين وهمزتين على وزن قنفذٍ : الصدر . و البرك بفتح
الموحدة وسكون الراء : ما حول الصدر .
وقوله : كأنه خيمة قوضتها الريح رواه ابن الشجري : كأنه أطمٌ مقوض
____________________
وقال : الأطم بضمتين : الحصن
. و المقوض : من قوضت البناء إذا نقضته من غير هدم . والمكبل : المقيد والكبل بفتح
الكاف وكسرها مع سكون الموحدة : القيد الثقيل .
وقوله : يا جمل إنك لو رأيت بسالتي إلخ جمل بضم الجيم وسكون الميم : اسم امرأة . و
البسالة : الشجاعة . و أرسف : أمشي بالقيد يقال : رسف في قيده من باب ضرب وقتل . و
الجهم : العبوس . و الأثباج : جمع ثبج بفتح المثلثة والموحدة وهو ما بين الكاهل
إلى الظهر . و يرنو : ينظر . و شثن بمعنى خشن . والبراثن : جمع برثن كقنفذ وهو ظفر
السبع . و النيوب : جمع و زرق : جمع أزرق . و المعابل : جمع معبلة بكسر الميم وهو
نصل طويل عريض . و الشذاة بفتح الشين والذال المعجمتين : الطرف . و الزجاج بالكسر
: جمع زجٍّ بضم الزاي وهي الحديدة التي في أسفل الرمح . و القرنان : مثنى قرن
بالكسر وهو المساوي لصاحبه في الشجاعة وغيرها . و واثلة بن الأسقع بالمثلثة والقاف
هو من الصحابة قال ابن الأثير في أسد الغابة في أسماء الصحابة : واثلة بن الأسقع
بن عبد العزى الكناني الليثي وقيل : واثلة بن عبد الله بن الأسقع . أبو شداد وقيل
: أبو الأسقع وقيل : أبو قرصانة . أسلم وخدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين .
من أصحاب الصفة . وله رواية . مات سنة ثلاث وثمانين وهو ابن مائة وقيل : مات سنة )
خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة . وتوفي بالمقدس وقيل : بدمشق . وكان قد عمي
.
انتهى .
ووقعة مرج الروم كانت بعد سنة خمس عشرة من الهجرة بعد فتح الشام في خلافة عمر بن
الخطاب . فلا شك أن واثلة أقدم من جحدر ويكون جحدر قد أخذ الشعر من واثلة وزاده .
والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده الرجز ( كأن بين فكها والفك ** فارة مسكٍ ذبحت في سك ) لما تقدم قبله .
وكان القياس أن يقول : بين فكيها لكنه أتى بالمتعاطفين للضرورة .
قال ابن يعيش : الأصل في قولك الزيدان : زيد وزيد . والذي يدل على ذلك أن الشاعر
إذا اضطر عاود الأصل نحو قوله : كأن بين فكها والفك أراد : بين فكيها فلما لم يتزن
له رجع إلى العطف وهو كثيرٌ في الشعر . انتهى . و الفك بالفتح : اللحي بفتح اللام
وسكون المهملة وهو عظم الحنك وهو الذي عليه الأسنان . وهو من الإنسان حيث ينبت
الشعر وقال في البارع : الفكان : ملتقى الشدقين من الجانبين .
قال ابن السيرافي : وصف امرأةً بطيب الفم . يريد أن ريح المسك يخرج من فيها . و
فأرة : منصوب اسم كأن و بين خبرها . و السك : ضرب من الطيب . انتهى . و ذبحت :
بالبناء للمفعول . قال يعقوب في إصلاح المنطق : قال الأصمعي : الذبح : الشق .
وأنشد البيت . أي : شقت وفتقت .
وقال المفضل بن سلمة الضبي في كتاب الطيب : ومن الطيب المسك يقال : هو المسك
والأناب واللطيمة .
____________________
وقال أبو زيد : اللطيمة : المسك يقال : للعير التي تحمل المسك أيضاً لطيمة . ويقال
للتي فيها المسك : فارة ونافجة .
قال الأحوص : البسيط ) ( كأن فارة مسكٍ فض خاتمها ** صهباء ذاكيةً من مسك دارينا )
وقال آخر : الرجز ( كأن حشو المسك والدمالج ** نافجةٌ من أطيب النوافج ) ويقال :
فتقت الفارة وذبحت وفضت وشقت .
قال الراجز : ( كأن بين فكها والفك ** فارة مسكٍ ذبحت في سك ) و السك بضم السين :
نوعٌ من الطيب . وقال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات : الفار : جمع فارة وهي
فار المسك وهي نوافجه التي يكون المسك فيها شبهت بالفار وليست بفار إنما هي سرر
ظباء المسك . قال الشاعر : الطويل وقال آخر في وصف امرأة : البسيط كأن فارة مسكٍ
في مقبلها وهي مهموزة فأرة وفأر . وكذلك الفأر كله مهموز . وبنواحي الهند فأر يجلب
إلى أرض العرب أحياناً قد تأنست وألفت تدور في البيوت تدخل بين الثياب فلا تلابس
شيئاً ولا تدخل بيتاً ولا تخرأ على شيء ولا تبول عليه إلا فاح طيباً . ويجلب
التجار خرءها فيشتريه الناس ويجعلونه في صررٍ ويضعونها بين الثياب فتطيب . وأخبرني
من رآها أنها نحو بنات مقرض . وفارة الإبل مأخوذة من هذا
____________________
وهي الإبل التي ترعى أفواه
البقول الطيبة في العذوات العازبة ثم ترد الماء فتشرب فإذا رويت ثم صدرت فالتف
بعضها ببعض فاحت برائحة طيبة .
قال الأصمعي : قلت لأبي مهدية : كيف تقول : ليس الطيب إلا المسك . وهو يريد أن
يعلم كيف يعربه . فقال أبو مهدية له : فأين العنبر فقال الأصمعي : فقل : ليس الطيب
إلا المسك والعنبر . فقال : أين أدهان حجر فقال : فقل ليس الطيب إلا المسك والعنبر
وأدهان حجر . فقال : فأين فارة إبل صادرةٍ ومن هذا الجنس والضرب الذي ذكرنا
الدويبة التي تسمى الزباد وهي مثل السنورة الصغيرة فيما ذكر لي تجلب من تلك
النواحي وقد تأنس فتقتنى وتحتلب شيئاً شبيهاً بالزبد يظهر على حلمتها بالعصر كما
يظهر على آنف الغلمان المراهقين فيجمع وله رائحة طيبة البنة . وقد رأيته )
يقع في الطيب . وقد بلغني أن شحمه كذلك أيضاً .
وقد ذكر بعض الشعراء القدم بعض هذا وجعله أمعاء الدابة وظن أنه إنما طاب جوفه لأنه
يأكل الطيب فقال : البسيط ( تكسو المفارق واللبات ذا أرجٍ ** من قصب معتلف الكافور
دراج ) والأعراب لا يميزون هذا . وفي فارة الإبل يقول الراعي : الطويل ( لها فأرةٌ
ذفراء كل عشيةٍ ** كما فتق الكافور بالمسك فاتقه ) ظن أنه يفتق به . وكان الراعي
أعرابياً قحاً والمسك لا يفتق بالكافور . انتهى كلام الدينوري .
____________________
و البنة بالفتح للموحدة
وتشديد النون : الرائحة الطيبة وربما قيلت في غير الطيبة .
وقال أبو القاسم علي بن حمزة البصري اللغوي فيما كتبه على كتاب النبات من تبيين
أغلاط الدينوري : قد غلط في همز هذه الفارة لأن الفأر كله مهموز إلا فارة الإبل .
وقد اختلف في فارة المسك وفأرة الإنسان وهي عضله . والأعلى في فار المسك الهمز وفي
فار الإنسان ترك الهمز . ومن كلامهم : أبرز نارك وإن أهزلت فارك أي : أطعم الطعام
وإن فأما قوله : والمسك لا يفتق بالكافور فصحيح . ولم يقل لراعي : كما فتق المسك
بالكافور فاتقه إنما قال : كما فتق الكافور بالمسك وإن كان المسك لا يفتق بالكافور
فإن الكافور يفتق بالمسك .
وجعل الراعي أعرابياً قحاً ونسبه إلى الجفاء وأوهم أنه غلط وخطأه في شيء لم يقله
إلا أن يكون عند أبي حنيفة أن الكافور لا يفتق بالمسك ويكون هو قد غلط في العبارة
وعكسها فيكون في هذه الحال أسوأ حالاً منه في الأولى ويكون قليل الخبرة بالطيب
وعمله واستعماله . ولا رائحة أخم من الكافور إذا فتق بالمسك يشهد بذلك بنو النعمة
والعطارون قاطبة . انتهى .
والرجز الشاهد لمنظور بن مرثدٍ الأسدي . قال ابن بري في حاشيته على صحاح الجوهري :
وقبله : الرجز ( يا حبذا جاريةٌ منعك ** تعقد المرط على مدك ) مثل كثيب الرمل غير
رك و عكٌّ بفتح العين المهملة : أبو قبيلة من الأزد في قحطان . و المرط
____________________
بالكسر : كساء من صوفٍ أو خز
يؤتزر به وتتفلع به المرأة . وأراد بالمدك بكسر الميم : العجز . )
قاله الصغاني وأنشد البيت للمعنى الأول . وقال : وذكره بعض من صنف في اللغة بالزاي
في اللغة وفي الرجز وهو تصحيف . انتهى .
وأراد به الجوهري . وقد خطأه كذلك ابن بري في حاشيته على الصحاح وتبعه الصفدي
أيضاً .
ومنظور بن مرثد تقدم في الشاهد الثاني والأربعين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والستون بعد الخمسمائة ) البسيط ( لو عد قبرٌ وقبرٌ
كنت أكرمهم ** ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام ) على أن تعاطف المفردين فيه ليس من
قبيل ما تقدم من كونه للضرورة بل لقصد التكثير إذ المراد : لو عدت القبور قبراً
قبراً . ولم يرد قبرين فقط وإنما أراد الجنس متتابعاً واحداً بعد واحد . يعني :
إذا حصلت أنساب الموتى وجدتني أكرمهم نسباً وأبعدهم من الذم .
____________________
والبيت من أبيات أربعة أوردها أبو تمام والأعلم الشنتمري وصاحب الحماسة البصرية في
( أبلغ أبا مسمعٍ عني مغلغلةً ** وفي العتاب حياةٌ بين أقوام ) ( أدخلت قبلي قوماً
لم يكن لهم ** في الحق أن يلجوا الأبواب قدامي ) ( لو عد قبرٌ وقبرٌ كنت أكرمهم **
ميتاً وأبعدهم عن منزل الذام ) ( فقد جعلت إذا ما حاجتي نزلت ** بباب دارك أدلوها
بأقوام ) قوله : أبلغ أبا مسمع إلخ هو بكسر الميم الأولى وفتح الثانية .
والمغلغلة : الرسالة لأنها تغلغل إلى الإنسان حتى تصل إليه من بعد من قولهم :
تغلغل الماء إذا دخل بين الأشجار . وأصل الغلغلة دخول الشيء في الشيء .
وجملة : وفي العتاب حياة إلخ معترضة بين أبلغ وبين أدخلت . و العتاب : اللوم والتوقيف
على الذنب .
يعني ما دام القوم يلوم كلٌّ منهم صاحبه على ما صدر منهم من التقصير لصاحبه يرجى
صلاحهم وارتباط موداتهم . وإن لم يتعاتبوا انطوت ضمائرهم على الأحقاد . )
وقوله : أدخلت قبلي قوماً إلخ أي : قدمتهم علي في الإذن وإن لم يكن من حقهم أن
يتقدموا علي إذا وردنا الأبواب . و يلجوا : يدخلوا . وروي : أن يدخلوا . ودخل
يتعدى في الأصل بحرف جر ثم يحذف الجار
____________________
وقوله : لو عد قبر وقبرٌ إلخ
قال ابن جني في إعراب الحماسة : لم يرد لو عد قبران اثنان وإنما أراد لو عدت
القبور قبراً قبراً . ولو قال : عد قبر قبر فرفع لم يجز ذلك كما جاز لو عدت القبور
قبراً قبراً . وذلك أن هذا من مواضع العطف فحذف حرفه لضربٍ من الاتساع .
وهذا الاتساع خاصةً إنما جاء في الحال نحو : فصلت حسابه باباً باباً ودخلوا رجلاً
رجلاً أي : متتابعين . ولو رفعت فقلت : فصل حسابه بابٌ بابٌ وأدخلوا رجلٌ رجلٌ على
البدل لم يجز .
وعلى هذا قالوا : هو جاري بيت بيت ولقيته كفة كفة فاتسعوا بالبناء على الحال .
ونحوها في ذلك الظرف نحو قولك : كان يأتينا يوم يوم وليلة ليلة وأزمان أزمان وصباح
مساء .
فلو خرجت به عن الظرفية لم يجز فيه هذا البناء . ألا تراك تقول : هو يأتينا كل
صباح مساءٍ في ليلةٍ ليلةٍ فتعرب البتة . انتهى .
وقال الطبرسي : يريد لو عدت القبور قبراً قبراً إلا أنه اقتصر وحذف القبور وجعل
القبر فاعلاً وأزاله عن سنن الحال . وقيل : معناه : لو عد قبري وقبر الداخل قبلي
لكنت أكرم منه ميتاً . انتهى .
والذام : لغة في الذم بتشديد الميم .
وقوله : فقد جعلت إذا إلخ هو بالتكلم . قال الطبرسي : أي : طفقت وأقبلت إذا نزلت
حاجتي بباب دارك يريد إذا ألجأتني إليك حاجة أدلوها أي : أتنجرها بغيري واستشفعت
أقواماً في قضائها ولم أقربك بنفسي . انتهى .
____________________
قال أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات الدلو : الاستقاء بالدلو من العمق . يقال
أدلى الدلو : إذا حدرها للاستقاء يدليها إدلاء . ودلاها إذا اجتذبها إليه يدلوها
دلواً .
قال تعالى : فأرسلوا واردهم فأدلى دلوه فهذا من الإدلاء وهو إلقاؤها في البئر .
وقال الشاعر في دلوت : فقد جعلت إذا ما حاجةٌ عرضت . . . . . . . . . . . . . .
البيت )
أي : أبتغي شفعاء يستخرجون لي حاجتي . انتهى . و عصام بن عبيد : شاعر جاهلي .
وعبيد : مصغر عبد بالتذكير . وزمان بكسر الزاي وتشديد الميم : أحد أجداد الشاعر
وهو من بني حنيفة .
وأنشد بعده : الطويل ( هما نفثا في في من فمويهما ** على النابح العاوي أشد رجام )
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس والعشرين بعد الثلثمائة .
____________________
وضمير التثنية لإبليس وابن إبليس . و نفثا ألقيا على لساني . و النابح : هنا أراد
به من يتعرض للهجو والسب من الشعراء وأصله في الكلب . ومثله العاوي .
والرجام : مصدر راجمه بالحجارة أي : راماه . وراجم فلانٌ عن قومه إذا دافع عنهم .
جعل الهجاء في مقابلة الهجاء كالمراجمة لجعله الهاجي كالكلب النابح .
والبيت آخر قصيدة للفرزدق قالها في آخر عمره تائباً إلى الله تعالى مما فرط منه من
مهاجاته الناس وذم فيها إبليس لإغوائه إياه في شبابه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والستون بعد الخمسمائة ) الكامل يديان بيضاوان عند
محلمٍ هذا صدرٌ وعجزه : قد يمنعانك أن تضام وتضهدا على أنه مثنى يداً بالقصر فلما
ثني قلبت ألفه ياء كفتيان في مثنى فتى لأن أصلها الياء فإن وإنما قلبت في المفرد
ألفاً لانفتاح ما قبلها . وتقلب واواً في النسبة إليها عند الخليل وسيبويه فيقال :
يدويٌّ .
قال صاحب الصحاح : وبعض العرب يقول لليد : يداً مثل رحاً .
____________________
قال الشاعر : الرجز ( يا رب سارٍ بات ما توسدا ** إلا ذراع العنس أو كف اليدا )
يديان بيضاوان . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وكذا قال ابن يعيش .
وفيه ردٌّ على من زعم أن يديان مثنى يد ردت لامه شذوذاً كالزمخشري في المفصل .
قال ابن يعيش : متى كانت اللام الساقطة ترجع في الإضافة فإنها ترد إليه في التثنية
لا يكون إلا كذلك .
وإذا لم ترجع في الإضافة لم ترجع في التثنية كأب وأخ تقول : أخوان وأبوان لأنك
تقول في الإضافة : أبوك وأخوك فترى اللام رجعت في الإضافة فلذلك رددتها في التثنية
.
وذلك لأنا رأينا التثنية قد ترد الذاهب الذي لا يعود في الإضافة كقولك في يد :
يديان وفي دم : دموان . وأنت تقول في الإضافة يدك ودمك فلا ترد الذاهب .
فلما قويت التثنية على رد ما لم ترده الإضافة صارت أقوى من الإضافة . وحمل أصحابنا
يديان على القلة والشذوذ وجعلوه من قبيل الضرورة .
والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد : يداً في الأحوال كلها يجعله مقصوراً كرحاً
. إلى آخر ما ذكره الجوهري .
وكذا صنع ابن الشجري في أماليه قال : ويدٌ أصلها يديٌ لظهور الياء في تثنيتها
ولقولهم : )
يديت إليه يداً أي : أسديت إليه نعمة .
قال : الوافر
____________________
( يديت على ابن حسحاس بن بدرٍ
** بأسفل ذي الجذاة يد الكريم ) فيجوز أن تكون اليد التي هي النعمة مأخوذةً من
التي هي الجارحة لأن النعمة تسدى باليد .
ويجوز أن تكون الجارحة مأخوذةً من النعمة لأن اليد نعمةٌ من نعم الله على العبد
ويدل على سكون عينها جمعها على أيدٍ لأن قياس فعلٍ في جمع القلة أفعل كأكلبٍ وأكعب
وأبحر وأنسر في جمع نسر .
وفتح الدال في التثنية كقوله : يديان بيضاوان . . . البيت لا يدل على فتحها في
الواحد لما ذكرته من إجراء هذه المنقوصات على الحركة إذا أعيدت لاماتها وذلك
لاستمرار حركات الإعراب عليها في حال نقصها وكذلك إذا نسبت إليها أعدت المحذوف
وفتحت الدال وأبدلت من الياء واواً كما أبدلت من ياء قاض . فقلت : يدويٌّ . هذا
قول الخليل وسيبويه في النسب إلى هذا الضرب .
وأبو الحسن الأخفش ينسب إليه على زنته الأصلية فيقول : يدييٌّ وفي غدٍ : غدوي وحرٍ
: حرحي . والخليل وسيبويه يقولون : غدوي وحرحي . وجمع اليد التي هي الجارحة في
الأكثر على أيدٍ وقد جمعها على أياد في قوله : الرجز قطنٌ سخامٌ بأيادي غزل سخامٌ
: ناعم . واليد التي هي النعمة جمعها في الأكثر الأشهر على أيادٍ . وقد جمعوها على
الأيدي وإنما الأيادي جمع الجمع كقولهم في جمع أكلب :
____________________
أكالب . وقولهم في تثنيتها :
يدان أكثر من قولهم : يديان . فهذت مضادٌّ لقولهم : دمان ودميان .
انتهى .
وكذا قال ابن جني في شرح تصريف المازني قال : إذا قالوا في النسب إلى يدٍ يدوي
تركوا عين الفعل محركة بعد الرد لأنهم لو حذفوا الحركة عند رد اللام لكانت اللام
كأنها لم ترد لأنها قد وهذا قول أبي علي فيما أخذته عنه وهو يشهد لصحة قول سيبويه
فيما ذهب إليه في تبقية الحركة التي حدثت بعد الحذف إذا رد إلى الكلمة ما حذف منها
. )
وأبو الحسن يذهب إلى ما وجب بالحذف عند رد المحذوف والقول قول سيبويه .
ألا ترى أن الشاعر لما رد الحرف المحذوف بقى الحركة في قوله : يديان بيضاوان . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال أبو علي : فإن قيل : فما تصنع
بقوله : الرجز إن مع اليوم أخاه غدوا وقول الآخر : الطويل ( وما الناس إلا كالديار
وأهلها ** بها يوم حلوها وغدواً بلاقع )
____________________
ألا ترى أنه رد اللام وحذف
حركة العين . فهذا يشهد لصحة قول أبي الحسن الأخفش .
فالجواب : أن الذي قال غدواً ليس من لغته أن يقول : غد فيحذف بل الذي يقول : غد
غير الذي قال غدواً . انتهى .
قال ابن المستوفي : الذي قاله ابن جني غير ما ذكره الجوهري فتثنيته يدين على ما
ذكره ابن جني صناعية وعلى ما ذكره الجوهري لغوية .
وقد تكلم ابن السكيت على يد زيادة على ما ذكرنا في كتاب المؤنث والمذكر فأحببنا
إيراده تتميماً للفائدة . قال : اليد مؤنثة تصغيرها يدية يرد إليها في التصغير ما
نقص منها والناقص منها ياء . والدليل على ذلك أن الشاعر قال : الكامل ( يديان
بيضاوان عند محلم ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) وتجمع ثلاث أيد ثم جمعوها
الأيادي ولم يقولوا : يدي بالضم ولا أيداء وهو قياس . فاستغني بأيد وأيادٍ عنه .
قال الشاعر : الطويل ( فلن أذكر النعمان إلا بصالحٍ ** فإن له عندي يدياً وأنعما )
فإن شئت جعلت اليدي بالفتح على جهة عصي وعصي وتركت ضم أولها أو كسره لثقل الضم
والكسر في الياء . وإن شئت جعلته جمعاً مفتعلاً مثل عبد وعبيد وكلب وكليب ومعز
ومعيز . ويقال : قد يديته أي : أصبت يده وقد يدي من يده إذا شل منها .
وحدثني الأثرم عن أبي عبيدة قال : كنت مع أبي الخطاب عند أبي عمرٍ و في مسجد بني
عدي فقال أبو عمرو : لا تجمع أيدٍ بالأيادي إنما الأيادي للمعروف . قال : فلما
قمنا قال لي أبو الخطاب : )
أما إنها في علمه ولم تحضره وهو أروى لهذا البيت مني : الخفيف
____________________
انتهى .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : المحلم بكسر اللام يقال : إنه من ملوك
اليمن .
وصف اليد وهي النعمة بالبياض عبارةٌ عن كرم صاحبها .
وقوله : عند محلم أي : لمحلم . يقال : عند فلانٍ عطيةٌ أو مال أي : له ذلك . كذا
في المقتبس .
قلت : وجه التشبيه على ما ذكره غير ظاهر والأظهر أن يراد العضوان ويراد ببياضهما
نقاؤهما وطهارتهما عن تناول ما لا يحسن في الدين والمروءة . و ضامه : ظلمه وكذا
هضمه . و ضهده : قهره .
وقوله : أن تضام وتضهدا : مفعول ثان لقوله : تمنعانك يقال : منعه كذا ومنعه من كذا
.
وروى : قد تنفعانك وعليه فقوله : أن تضام في محل النصب على الظرف أي : وقت كونك
مظلوماً بالنصرة على من يظلمك والإعانة عليه . انتهى .
ورواه الجوهري : ( يديان بيضاوان عند محرق ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) و محرق
بكسر الراء المشددة قال صاحب العباب : كان عمرو بن هند ملك الحيرة يلقب بالمحرق
لأنه حرق مائة من بني تميم . ومحرق أيضاً : لقب الحارث ابن عمرو ملك الشام من آل
____________________
وروى ابن الشجري : ( . . . .
. عند محلم ** قد تمنعانك أن تذل وتقهرا ) وأنشده ابن الأعرابي وأبو عمر الزاهد :
( . . . . . . عند محلم ** قد تمنعانك بينهم أن تهضما ) وروي أيضاً على غير ما ذكر
.
ومع كثرة تداوله في كتب اللغة والنحو لم ينسبه أحدٌ إلى قائله ولا ذكر تتمة له .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والستون بعد الخمسمائة ) الوافر ( فلو أنا على جحرٍ
ذبحنا ** جرى الدميان بالخبر اليقين ) على أنه جاء دميان في تثنية دم .
وهو شاذٌّ عند الجوهري لأنه واوي . وما أورده الشارح المحقق هو كلام صاحب الصحاح
إلى قوله : فإن قيل إلخ .
وصدر كلامه : الدم أصله دموٌ بالتحريك وإنما قالوا : دمي يدمى لحال الكسرة
____________________
التي قبل الياء كما قالوا :
رضي يرضى وهو من الرضوان . وأنشد البيت .
وقال ابن السراج في الصول : وأما دمٌ فهو فعل بالتحريك لأنك تقول : دمي يدمى دماً
فهو دم .
فهذا مثل فرق يفرق فرقاً فهو فرق . فدمٌ مصدر مثل بطر وحذر . وهذا قول أبي العباس
المبرد .
وليس عندي في قولهم : دمي يدمى حجة لمن ادعى أن دماً فعل لأن قولهم : دمي يدمى
دماً إنما هو فعلٌ ومصدرٌ اشتقا من الدم كما اشتق ترب يترب ترباً من التراب .
فقولهم : دماً اسمٌ للحدث والدم : الشيء الذي هو جسم . ولكن قولهم : دميان دل على
أنه فعل .
قال الشاعر لما اضطر : فلو أنا على جحرٍ ذبحنا . . . . . . . . . . . . . . البيت
ثم قال : وأما دم فقد استبان أنه من الياء لقول بعض العرب دميان . وقال بعضهم :
دموان .
فمما دل على أنه من الواو أكثر لأنهم قد قالوا هنوان وأخوان وأبوان . انتهى كلامه
. وهذا مأخذ كلام الصحاح .
وقد رد ابن جني بعض هذا في شرح تصريف المازني وأيد مذهب سيبويه قال : وزن شاة فعلة
ساكنة العين . هذا هو الصواب .
وكلمت بعض الشيوخ من أصحابنا بمدينة السلام في العين منها هل هي ساكنة أم متحركة
فادعى أنها متحركة فسألته عن الدلالة على ذلك فقال : انقلابها ألفاً يدل على أنها
متحركة لأنها لو كانت ساكنة لوجب إثباتها كما ثبتت في حوض وثوب . فقلت له : أنا
وأنت مجمعان على )
أن سكون العين هو الأصل وأن الحركة زائدة وحكم الزيادة أن لا تثبت إلا بدليل .
فأما قولك انقلابها دليلٌ على الحركة فغير لازم لأن الحركة التي فيها إنما دخلتها
لمجاورتها تاء التأنيث وقد أجمعنا على أن تاء التأنيث يفتح ما قبلها وإن سكون
العين هو الأصل حتى تقوم دلالةٌ على الحركة .
____________________
وأما انقلاب العين فإنما هو لما حدث فيها من الفتح عند مجاورتها تاء التأنيث فوقف
الكلام هناك . وكأنها كانت شوهة فلما حذفت الهاء بقيت شوةٌ ففتحوا الواو لتاء
التأنيث فصار شوة فانقلبت الواو ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها .
فإن قيل : ما تنكر أن تكون فعلة لأن اللام لما ردت وأبدلت في شاء همزة بقيت الألف
بحالها .
ولو كانت إنما انفتحت العين لمجاورتها التاء لوجب إذا رجعت اللام وزالت التاء أن
تعود إلى سكونها فيقال : شوةٌ أو شوءٌ إذا أبدلت الهمزة قيل : هذا لا يلزم لأن
العين لما تحركت لمجاورتها التاء ثم ردت اللام بعد ذلك تركت الفتحة في العين
بحالها قبل الرد . وهذا مذهب سيبويه .
ألا ترى أنه لم يكن عنده في قول الشاعر : جرى الدميان بالخبر اليقين دلالةٌ على
تحرك العين من دم لأنها لما أجري عليها الإعراب في قولهم : دمٌ ودماً ودمٍ ثم رد
اللام في التثنية بقى الحركة في العين على ما كانت عليه قبل الرد كما قال الآخر :
يديان بيضاوان عند محلم وقد أجمعوا على سكون العين من يد . وقد تراه قال : يديان فحركها
عند الرد لأنها قد جرت محركة قبل الرد .
والقول فيه مثله في الدميان . وغيره من أصحابنا وهو أبو العباس يذهب إلى ترك العين
من دم لأنه مصدر دميت دماً مثل : هويت هوى . قال أبو بكر بن السراج : وليس ذلك
بشيء .
____________________
ثم أورد ما نقلناه من كلام ابن السراج . وحاصل كلامه أن دماً أصله سكون العين وأن
لامه ياء قال : إن الأخفش يختار أن يكون المحذوف من ابن الواو لأن أكثر ما يحذف
الواو لثقلها والياء تحذف أيضاً لأنها تثقل . والدليل على هذا أن يداً قد أجمعوا
أن المحذوف منه الياء ولهم دليل )
قاطع من الإجماع . يقال : يديت إليه يداً . ودم محذوف منه الياء يقال : دمٌ ودميان
.
قال الشاعر : جرى الدميان بالخبر اليقين والبنوة ليس بشاهدٍ قاطعٍ في الواو لأنهم
يقولون : الفتوة والتثنية فتيان فابنٌ يجوز أن يكون المحذوف منه الواو والياء وهما
عندي متساويان . اه .
وقد حكى الخلاف ابن الشجري في أماليه في كون العين محركة أو ساكنة وفي كون اللام
ياءً أو واواً ورجح كونها ياء قال : ودم عند بعض التصريفيين دميٌ ساكن العين قالوا
: لأن الأصل في هذه المنقوصات أن تكون أعينها سواكن حتى يقوم دليلٌ على الحركة من
حيث كان السكون هو الأصل والحركة طارئة .
قالوا : وليس ظهور الحركة في دميان دليلاً على أن العين متحركة في الأصل لأن الاسم
إذا حذفت لامه واستمرت حركات الإعراب على عينه ثم أعيدت اللام في بعض تصاريف
الكلمة ألزموا العين الحركة .
وقال من خالف أصحاب هذا القول : أصل دمٍ دميٌ بفتح العين لأن بعض العرب قلبوا لامه
ألفاً فألحقوه بباب رحاً فقالوا : هذا دمٌ ودماً كرحاً .
وقال بعض العرب في تثنيته دمان فلم يردوا اللام كما قالوا في تثنية يدٍ يدان .
والوجه أن يكون العمل على الأكثر . وكذلك حكى قومٌ دموان . والأعرف فيه الياء .
____________________
وعليه أنشدوا : جرى الدميان بالخبر اليقين قال بعض أهل اللغة : من العرب من يقول :
الدم بالتشديد كما تلفظ العامة وهي لغة ردية .
وأنشدوا لتأبط شراً : الرجز ( حيث التقت بكرٌ وفهمٌ كلها ** والدم يجري بينهم
كالجدول ) والعامة تفعل مثل هذا في الفم . ومن العرب من يشدد الفم أيضاً . وإنما
يكون ذلك في الشعر قال : يا ليتها قد خرجت من فمه انتهى . )
والجحر بضم الجيم وسكون الحاء المهملة : الشق في الأرض .
وقوله : جرى الدميان إلخ أراد بالخبر اليقين ما اشتهر عند العرب من أنه لا يمتزج
دم المتباغضين . وهذا تلميحٌ في غاية الحسن أي : لما امتزجا وعرف ما بيننا من
العداوة .
قال ابن الأعرابي : معناه لم يختلط دمي ودمه من بغضي له وبغضه لي بل يجري دمي
يمنةً ودمه يسرة . ويوضحه قول المتلمس من قصيدة : الطويل ( أحارث إنا لو تساط
دماؤنا ** تزايلن حتى لا يمس دمٌ دما ) وقال ابن قتيبة في ترجمة المتلمس من كتاب
الشعراء : هذا البيت من إفراطه . يقول : إن دماءهم تنماز من دماء غيرهم . وهذا
محالٌ لا يكون أبداً .
____________________
وكذا قال ابن عبد ربه في العقد الفريد . و تساط بالسين المهملة يعني : تخلط . ومنه
قول العامة : لو خلط دمي بدمه لما اختلط أي : لباينه من شدة العداوة ولم يمازجه .
وقال الأندلسي : معناه لو ذبحنا على جحرٍ واحد لامتزجت دماؤنا بدمائكم . يصف ما
بينهما من العداوة . وهذا خلاف المعنى والصواب : لما امتزجت دماؤنا .
ونقل بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن معنى البيت : لو ذبحنا على جحرٍ لعلم
من الشجاع منا من الجبان بجري دمه وجموده لأن من زعمهم أن دم الشجاع يجري ودم
الجبان ولا يخفى أن هذا المعنى غير صحيح هنا بدليل ما قبله وهو : الوافر ( لعمرك
إنني وأبا رياحٍ ** على حال التكاشر منذ حين ) ( ليبغضني وأبغضه وأيضاً ** يراني
دونه واراه دوني ) فلو أنا على جحرٍ ذبحنا . . . . . . . . . . . . . البيت هكذا
روى الأبيات الثلاثة ابن دريد في كتابه المجتبى عن عبد الرحمن عن عمه الأصمعي
ونسبها لعلي بن بدال بن سليم . و التكاشر : المباسطة من الكشر وهو التبسم . وروى
ابن دريد بدله في الجمهرة : على طول التجاور . وعلى بمعنى مع .
____________________
وقد أدخل هذه الأبيات الثلاثة صاحب الحماسة البصرية في قصيدة المثقب العبدي .
وأنشد بعدها : الوافر ) ( فإما أن تكون أخي بصدقٍ ** فأعرف منك غثي من سميني ) (
وإلا فاطر حني واتخذني ** عدواً أتقيك وتتقيني ) وتبعه ابن هشام في شرح شواهده
والعيني أيضاً في شرح شواهد شروح الألفية ولم يوردها أحد في هذه القصيدة .
وقد رجعت إلى ديوانه فلم أجدها في هذه القصيدة . ورواها المفضل في المفضليات عارية
عنها ولم ينبه عليها أحد من شراحهم كابن الأنباري وغيره .
وقال ابن المستوفي : رأيت هذه الأبيات في كتاب نحوٍ قديم منسوبةً للفرزدق .
ووجدتها أيضاً في نسخة قديمة ذكر كاتبها أنها زيادات الحماسة كتبها محمد بن أحمد
بن الحسن في ربيع الآخر سنة ثمان وتسعين وثلثمائة ونسبها لمرداس بن عمرٍ و . وقال
: وتروى للأخطل .
ووجدتها في نوادر اللحياني أبي الحسن علي بن حازم قد أنشدها لأوس . انتهى كلام ابن
المستوفي .
____________________
وابن دريد هو المرجع في هذا الأمر فينبغي أن يؤخذ بقوله . والله أعلم . و علي بن
بدال بفتح الموحدة وتشديد الدال وآخره لام .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الخمسمائة ) الطويل ( فلسنا على الأعقاب
تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا يقطر الدما ) على أن المبرد استدل به بأن الدم
أصله فعل بتحريك العين ولامه ياء محذوفة بدليل أن الشاعر لما اضطر أخرجه على أصله
وجاء به على الوضع الأول . فقوله الدما بفتح الدال فاعل يقطر والضمة مقدرة على الألف
لأنه اسمٌ مقصور وأصله دميٌ تحركت الياء وانفتح ما قبلها فقلبت ألفاً .
والدليل على أن اللام ياءٌ قولهم في التثنية : دميان وفي الفعل : دميت يده . هذا
محصل مدعاه وهو إنما يتم على أن فتح الميم قبل حذف اللام وعلى أن الدما بمعنى الدم
وعلى أن يقطر بالياء التحتية . وفي كل واحد بحث .
أما الأول فممنوع وإنما فتحة الميم حادثةٌ بعد حذف اللام وهو مذهب سيبويه وذلك أن
الحركة عنده إذا حدثت لحذف حرف ثم رد المحذوف ثبتت الحركة التي كانت قد جرت على
الساكن قبل دخولها عليه بحالها .
ويشهد له قولهم : يديان فإنهم أجمعوا على سكون العين من يد من غير خلاف . وقد
نراهم قالوا : يديان فحركوا عند الرد لأنها قد جرت محركة قبل رد اللام .
____________________
وأما الثاني فممنوعٌ أيضاً لاحتمال أنه مصدر دمي دماً كفرح يفرح فرحاً . قال ابن
جني في شرح تصريف المازني : دماً : مصدر دميت يده لا بمعنى الدم .
ولكن على أقدامنا يقطر الدما فالدما في موضع رفع وهو مصدر مقصور على فعل وتقديره
على حذف مضاف .
وكذا قول الشاعر : الرمل ( كأطومٍ فقدت برغزها ** أعقبتها الغبس منه عدما ) ( غفلت
ثم أتت ترقبه ** فإذا هي بعظامٍ ودما ) فإنه أوقع المصدر فيهما موقع الجوهر وتأويله
عندي على حذف المضاف كأنه قال : يقطر ذو الدمى وإذا هي بعظام وذي دمًى . انتهى . و
الأطوم بفتح الألف وضم الطاء : البقرة الوحشية . و البرغز بضم الموحدة فالغين
المعجمة )
وسكون الراء المهملة بينهما وآخره زاي هو ولدها . و الغبس : جمع أغبس وهي الذئاب
وقيل : هي الكلاب . والدما في الموضعين لا خفاء في كونه بمعنى الدم والتأويل خلاف
الظاهر .
وأما الثالث فقد روي أيضاً بالنون وبالتاء الفوقية .
أما الأول فقد قال العسكري في كتاب التصحيف : اختلفوا في نصب الدم ورواه أبو عبيدة
:
____________________
على أقدامنا تقطر الدما
بالنون أي : نقطر دماً من جراحنا . انتهى .
وأما الرواية بالتاء الفوقية فقد رواها شراح الحماسة وقالوا : قطر فعلٌ متعدٍّ
مسندٌ إلى ضمير الكلوم . فالدما على هاتين الروايتين مفعول به يحتمل أنه مقصور كما
قال المبرد ويحتمل أنه الدم منقوص وألفه للإطلاق . وحينئذ يسقط الاستدلال على أنه
مقصور .
وقال المرزوقي في شرح الحماسة وتبعه التبريزي وغيره : وإن شئت جعلت الدم منصوباً
على التمييز كأنه قال : تقطر دماً وأدخل الألف واللام ولم يعتد بهما .
وقال في شرح الفصيح : وبعضهم يجعل الدما تمييزاً ولا يعتد بالألف واللام أراد تقطر
كلومنا دماً أي : من الدم كما في قوله : الوافر ولا بفزارة الشعر الرقابا وما
أشبهه . ويجوز في هذا الوجه أن تنصبه على التشبيه بالمفعول به كما يفعل بقوله : هو
الحسن وجهاً . انتهى .
أقول : قد أخطأ أبو عليٍّ الوجه الأول في المسائل البصرية قال : وحمل الدما على
التمييز خطأ .
انتهى .
____________________
وأما الوجه الثاني : فليس على منوال ما مثل به . وزاد ابن جني في إعراب الحماسة
فقال : روي : تقطر الدما بفتح المثناة الفوقية وضمها . أما الأول فلأن قطر متعدٍّ
.
وقد جاء تقطر الدما متعدياً ناصباً للدم في قول العباس بن عبد المطلب لأبي طالب
حين قتل خداش بن علقمة بن عامر من أبيات عدتها ثلاثة عشر بيتاً أوردها أبو تمام في
آخر كتاب مختار أشعار القبائل وهو : الطويل ( أبى قومنا أن ينصفونا فأنصفت **
قواطع في أيماننا تقطر الدما ) وأورد السيوطي في الأشباه والنظائر مجلس ثعلب مع
جماعة من النحويين نقله من كتاب غرائب )
مجالس النحويين للزجاجي قال : حدثنا أبو الحسن علي بن سليمان قال : كنا عند أبي
العباس ثعلب فأنشدنا : ( فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا يقطر
الدما ) فسألنا : ما تقولون فيه فقلنا : الدم فاعلٌ جاء على الأصل . فقال : هكذا
رواية أبي عبيد .
وكان الأصمعي يقول : هذا غلط وإنما الرواية : تقطر الدما منقوطة من فوقها والمعنى
: ولكن على أقدامنا تقطر الكلوم الدما فيصير مفعولاً به . ويقال : قطر الماء
وقطرته أنا .
وأنشدنا : فإذا هي بعظام ودما البيتين وقال : كان الأصمعي يقول : إنما الرواية
بكسر الدال ثم قصر الممدود . انتهى .
____________________
وهو من أبيات ثلاثة أوردها أبو تمام في الحماسة للحصين بن الحمام المري وأوردها
الأعلم الشنتمري في حماسته أيضاً وهي : الطويل ( تأخرت أستبقي الحياة فلم أجد **
لنفسي حياة مثل أن أتقدما ) ( فلسنا على الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا
تقطر الدما ) ( نفلق هاماً من رجالٍ أعزةٍ ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما ) وقوله
: تأخرت أستبقي الحياة إلخ قال الطبرسي في شرحه : يقول : نكصت على عقبي رغبةً في
الحياة فرأيت الحياة في التقدم . وقال المرزوقي : يجوز أن يكون هذا مثل قولهم :
الشجاع موقى أي : تتهيبه الأقران فيتحامونه فيكون ذلك وقايةً له .
وفي طريقته قول الآخر : المتقارب ( يخاف الجبان يرى أنه ** سيقتل قبل انقضاء الأجل
) ( وقد تدرك الحادثان الجبان ** ويسلم منها الشجاع البطل ) ومثله قول الآخر :
المتقارب ( نهين النفوس وهون النفو ** س يوم الكريهة أوقى لها ) ويجوز أن يقول :
أحجمت مستبقياً لعيشي فلم أجد لنفسي عيشاً كما يكون في الإقدام وذلك ومن ذكر
بالجميل وتحدث عنه بالبلاء حي ذكره واسمه وإن ذهب أثره وجسمه . وقوله : حياةً مثل
أن أتقدما معناه حياة تشبه الحياة المكتسبة في التقدم وبالتقدم . )
____________________
وقوله : فلسنا على الأعقاب إلخ الأعقاب : جمع عقب بفتح فكسر هو مؤخر القدم . و
الكلوم : جمع كلم بفتح فسكون وهو الجرح .
قال المرزوقي : أراد : لسنا بدامية الكلوم على الأعقاب . ولو لم يجعل الإخبار على
أنفسهم لكان الكلام : ليست كلومنا بداميةٍ على الأعقاب . فيقول : نتوجه نحو
الأعداء في الحرب ولا نعرض عنهم فإذا جرحنا كانت الجراحات في مقدمنا لا في مؤخرنا
وسالت الدماء على أقدامنا لا على أعقابنا .
ومثله قول القطامي : البسيط ( ليست تجرح فراراً ظهورهم ** وفي النحور كلومٌ ذات
أبلاد ) انتهى .
وقد أورد ابن هشام صاحب السيرة هذا البيت في سيرته وتبعه الشامي فأورده في سيرته
أيضاً قالا : إن من جملة من فر يوم بدرٍ خالد بن الأعلم وهو القائل : ( ولسنا على
الأعقاب تدمى كلومنا ** ولكن على أقدامنا تقطر الدما ) فظاهره أنه قائل هذا البيت
. وليس كذلك وإنما قاله متمثلاً به .
وقوله : نفلق هاماً إلخ قال المرزوقي : يقول : نشقق هامات من رجالٍ يكرمون علينا
لأنهم منا وهم كانوا أسبق إلى العقوق وأوفر ظلماً لأنهم بدؤونا بالشر وألجؤونا إلى
القتال فنحن منتقمون ومجازون . انتهى .
وقال الخطيب التبريزي : أصل العقوق القطع يقال : عق الرحم كما يقال : قطعها . وجمع
العاق أعقةٌ وهو جمع نادر . انتهى .
____________________
وهذه الأبيات الثلاثة من قصيدة عدتها واحدٌ وأربعون بيتاً للحصين بن الحمام وهو
شاعر جاهلي أوردها المفضل في المفضليات وليس البيتان الأولان من الثلاثة موجودين
في رواية المفضل .
والبيت الثالث في روايته إنما هو : يفلقن بالنون لأنه ضمير السيوف في بيتٍ قبله
وهو : ( صبرنا وكان الصبر منا سجيةً ** بأسيافنا يقطعن كفاً ومعصما ) وقد تقدم
أبياتٌ كثيرة منها مشروحةٌ مع ترجمته في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائتين من
باب الاستثناء . )
وقد أورد ابن الأنباري في شرحه منشأ هذه القصيدة فقال : كانت بنو سعد بن ذبيان قد
أحلبت على بني سهم مع بني صرمة وأحلبت معهم محارب بن خصفة فساروا إليهم ورئيسهم
حميضة بن حرملة الصرمي ونكصت عن حصين ابن الحمام قبيلتان وهما عدوان بن وائلة بن
سهم فلم يكن معه إلا بنو وائلة بن سهم والحرقة فسار إليهم فلقيهم الحصين ومن معه
بدارة موضوع فظفر بهم وهزمهم وقتل منهم فأكثر .
فلذلك يقول الحصين بن الحمام : الطويل ( ولا غرو إلا يوم جاءت محاربٌ ** يقودون
ألفاً كلهم قد تكتبا ) ( موالي موالينا ليسبوا نساءنا ** أثعلب قد جئتم بنكراء
ثعلبا ) وإنما سارت إليهم محاربٌ للحلف الذي كان بينهم . فقال الحصين : الطويل (
أيا أخوينا من أبينا وأمنا ** إليكم وعند الله والرحم العذر ) انتهى .
____________________
و أحلب بالحاء المهملة قال في
الصحاح : يقال للقوم إذا جاؤوا من كل أوب للنصرة : قد أحلبوا . والمحلب : الناصر .
ويعجبني من آخر هذه القصيدة قوله : ( فلست بمبتاع الحياة بسبةٍ ** ولا مبتغٍ من
رهبة الموت سلما ) يقول : لا أشتري الحياة بما أسب عليه وأعير به ولا أطلب النجاة
من الموت لأني أعلم أن الموت لا بد منه . يعني : من طلب النجاة من الموت احتمل
الذل ومن علم أنه ميت لا محالة لم يحتمل المذلة . و الحصين بضم الحاء وفتح الصاد
المهملتين . والحمام بضم المهملة وتخفيف الميم . والمري نسبة إلى مرة وهو أبو
قبيلة وهو مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان . وسهم وصرمة أخوان وهما ابنا مرة . ووائلة
هو ابن سهم .
والحصين من بني وائلة وهو الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب بن حران بن وائلة .
وحميضة بالتصغير هو ابن حرملة بن الأشعر بن إياس بن مريطة بن ضرمة بن صرمة بن مرة
.
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الخمسمائة ) الرجز ( يا رب سارٍ بات ما
توسدا ** إلا ذراع العنس أو كف اليدا ) على أن السيرافي استدل به على أن يدا أصله
فعل بتحريك العين .
قال صاحب الصحاح : بعض العرب يقول : لليد يداً مثل رحًى . وأنشد الشعر . وتثنيتها
على
____________________
قال الشاعر : ( يديان بيضاوان
عند محرق ** قد تمنعانك منهما أن تهضما ) انتهى .
وتبعه ابن يعيش بقوله : والذي أراه أن بعض العرب يقول في اليد يدا . إلى آخر ما
ذكره صاحب الصحاح .
وقال ابن الأنباري في كتاب الأضداد : أنشد الفراء : يا رب سارٍ بات ما توسدا إلخ
أي : كان ذراع الناقة له بمنزلة الوسادة . وموضع اليد خفضٌ بإضافة الكف إليها
وثبتت الألف فيها وهي مخفوضة لأنها شبهت بالرحى والفتى والعصا .
وعلى هذا قالت جماعةٌ من العرب : قام أباك وجلس أخاك فشبهوهما بعصاك ورحاك . هذا
مذهب أصحابنا .
وقال غيرهم : موضع اليد نصبٌ بكف وكف فعلٌ ماض من قولك : قد كف فلان الأذى عنا .
انتهى كلامه . فتأمل كلامه . و يا : حرف تنبيه . و رب : حرف جر . و سار : اسم فاعل
من سرى في الليل . واسم بات ويجوز أن تكون بات تامة وجملة : ما توسدا حالٌ من ضمير
فاعلها . و توسد : بمعنى اتخذ وسادة . و العنس بفتح العين وسكون النون : الناقة الشديدة
.
ويروى : العيس بالكسر وبالمثناة التحتية وهي الإبل البيض التي يخالط بياضها شيءٌ
من الشقرة واحدها أعيس والأنثى عيساء .
يقول : أكثر من يسير الليل لم يتوسد للاستراحة إلا ذراع ناقته المعقولة أو كف يده
. وجواب رب محذوف تقديره : لقيته أو مذكورٌ في بيت بعده . )
____________________
ولا يصح أن يكون جوابها ما توسد . فتأمل .
وهذا الرجز لم أقف على قائله ولا تتمته . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والستون بعد الخمسمائة ) الطويل ( هما خطتا إما إسارٌ
ومنةٌ ** وإما دمٌ والقتل بالحر أجدر ) على أن نون التثنية قد تحذف للضرورة كما
هنا فإن الأصل : هما خطتان .
قال ابن هشام في المغني : في رفع إسار حذف نون المثنى من خطتان . وفي جره الفصل
بين المتضايفين بإما . فلم ينفك البيت عن ضرورة . انتهى .
وقد تكلم على الوجهين ابن جني في إعراب الحماسة بكلامٍ لا مزيد عليه في الحسن .
قال : أما الرفع فظريف المذهب وظاهر أمره أنه على لغة من حذف نون التثنية لغير
إضافة فقد حكي ذلك .
ومما يعزى إلى كلام البهائم قول الحجلة للقطاة : بيضك ثنتا وبيضي مائتا أي : ثنتان
ومائتان .
وقول الآخر : الطويل
____________________
( لنا أعنزٌ لبنٌ ثلاثٌ
فبعضها ** لأولادها ثنتا وما بيننا عنز ) وذهب الفراء في قوله : المتقارب ( لها
متنتان خظاتا كما ** أكب على ساعديه النمر ) إلى أنه أراد خظاتان فحذف النون
استخفافاً . واستدل على ذلك بقول الآخر : الهزج ( ومتنان خظاتان ** كزحلوفٍ من
الهضب ) وقد تقصيت القول على هذا الموضع في كتابي سر الصناعة . فعلى هذا يجيء قوله
: ( هما خطتا إما إسارٌ ومنةٌ ** وإما دمٌ . . . . . . . . . . . ) فإن قلت : فإذا
كان بالتثنية قد أثبت شيئين فكيف فسر بالواحد فقال : إما وإما وهما يثبتان الواحد
كما تثبته أو .
____________________
فالجواب : أنه تصور أمرين واعتقد أنه لا بد من أحدهما وعلم أن المحصول عليه أحدهما
لا كلاهما ففسر ما تصوره وهما شيئان بما يحصل عليه وهو الواحد كما يخص بعد العموم
في )
نحو قولك : ضربت زيداً رأسه ولقيت بني فلان ناساً منهم .
فإن قلت : فهلا حملته على حذف المضاف فكان أقرب مذهباً وأيسر متوهماً حتى كأنه قال
: هما إحدى خطتين قيل : يمنع من ذلك قوله : هما وهما لا يكون خبره مفرداً . ألا
ترى لا تقول : أخواك جالس ولا نحو ذلك . فلذلك انصرفنا عن هذا الوجه إلى الذي قبله
.
ويجوز عندي فيه وجهٌ أعلى من هذا الضعف حذف نون التثنية عندنا وهو أن يكون على وجه
الحكاية حتى كأنه قال : هما خطتا قولك : إما إسار ومنة وإما دم فتحذف النون على
هذا للإضافة البتة .
وأما من جر إما إسار ومنة وإما دم فأمره واضح . وذلك أنه حذف النون من خطتان
للإضافة ولم يعتد إما فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه . وعلى هذا تقول : هما غلاما
إما وأجود من هذا أن تقول : هما إما خطتا إسارٍ ومنة وإما دمٌ . وإن شئت : وإما
خطتا دم .
فإن قلت : إن إما مثل أو في أن كل واحدة منهما توجب أحد الشيئين فترجع بك الحال
إذن إلى أنك كأنك قلت : هما خطتا أحد هذين الأمرين .
وليس الأمر كذلك إنما المعنى هما خطتان إحداهما كذا والأخرى كذا . وليست أيضاً كل
واحدة من الخطتين للإسار والدم جميعاً إنما أحدهما لأحدهما على ما تقدم .
____________________
فالجواب : أن سبب جواز ذلك هو أن كل واحد من الإسار والدم لما كان معرضاً لكل
واحدةٍ من الخطتين يصلح أن يصير بصاحب الخطة إليه أطلقا جميعاً على كل واحدة منهما
بأن أضيفا إليه وجعل مفضًى له ومظنة منه .
ونحو منه قول الله تبارك وتعالى : ومن رحمته جعل لكم الليل والنهار لتسكنوا فيه
ولتبتغوا من فضله ولم يجعل كل واحد من الليل والنهار لكل واحدٍ من السكون
والابتغاء وإنما جعل الليل للسكون والنهار للابتغاء فخلط الكلام اكتفاءً بمعرفة
المخاطبين بوقت السكون من وقت الابتغاء . انتهى .
والبيت من أحد عشر بيتاً لتأبط شراً أوردها أبو تمام في الحماسة هكذا : الطويل (
إذا المرء لم يحتل وقد جد جده ** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ) ( فذاك قريع الدهر ما
عاش حولٌ ** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر ) ) ( أقول للحيان وقد صفرت لهم ** وطابي
ويومي ضيق الحجر معور ) ( هما خطتا إما إسارٍ ومنةٍ ** وإما دمٍ والقتل بالحر أجدر
) ( وأخرى أصادي النفس عنها وإنها ** لمورد حزمٍ إن فعلت ومصدر ) ( فرشت لها صدري فزل
عن الصفا ** به جؤجؤٌ عبلٌ ومتنٌ مخصر ) ( فخالط سهل الأرض لم يكدح الصفا ** به
كدحةً والموت خزيان ينظر )
____________________
( فأبت إلى فهمٍ وما كدت
آيباً ** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ) وأورد صاحب الأغاني أول الأبيات أقول
للحيان والأبيات الثلاثة قبله بعد قوله : فأبت إلى فهم . . . . . البيت .
وخبر هذه الأبيات أن تأبط شراً كان يشتار عسلاً في غارٍ من بلاد هذيل وكان يأتيه
كل عام وأن هذيلاً ذكر لها ذلك فرصدته لوقت حتى إذا هو جاء وأصحابه تدلى فدخل
الغار .
فأغارت هذيلٌ على أصحابه وأنفروهم ووقفوا على الغار فحركوا الحبل فأطلع رأسه
فقالوا : اصعد . قال : فعلام أصعد على الطلاقة والفداء قالوا : لا شرط لك . قال :
أفتراكم آخذي وقاتلي وآكلي جنائي . لا والله لا أفعل ثم جعل يسيل العسل على فم
الغار ثم عمد إلى زقٍّ فشده على صدره ثم لصق بالعسل ولم يزل يتزلق عليه حتى جاء سليماً
إلى أسفل الجبل فنهض وفاتهم وبين موضعه الذي وقع فيه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام .
وقوله : إذا المرء لم يحتل إلخ الحيلة من حال الشيء إذا انقلب عن جهته كأن صاحبها
يريد أن يستنبط ما تحول عند غيره ولذلك يقال : فلانٌ حولٌ قلب . و جد جده : ازداد
جده جداً .
والجد بالكسر : الاجتهاد .
وأضاع : وجد أمره ضائعاً أو بمعنى ضيع .
والمعنى عالج أمره مدبراً فيه غير مقبل . أي : إذا المرء لم يطلب رشده في إصلاح
أمره في الوقت الذي يجب أن يفعله آل به أمره إلى الضياع .
____________________
وقوله : ولكن أخو الحزم يقول : صاحب الحزم هو الذي يستعد للأمر قبل نزوله .
وقوله : فذاك قريع الدهر إلخ يجوز أن يكون في معنى مختار الدهر ويكون من قرعت أي :
اخترته بقرعتي . ويجوز أن يكون من قرعه الدهر بنوائبه حتى جرب وتبصر . وقوله : ما
عاش )
أي : مدة عيشه .
وقوله : إذا سد منه منخر إلخ مثلٌ للمكروب المضيق عليه . و جاش : تحرك واضطرب .
وقوله : أقول للحيان إلخ لحيان : بطنٌ من هذيل خاطبهم لما كانوا على رأس الغار
الذي اشتار منه العسل .
وقوله : صفرت وطابي الواو للحال . و الوطاب هنا : ظروف العسل وهي في الأصل جمع وطب
وهو سقاء اللبن . و صفرت : خلت . أشار إلى ظروف العسل التي صب العسل منها على
الجانب الآخر وركبه متزلقاً حتى لحق بالسهل . وقيل : معناه خلا قلبي من ودهم يريد
وطاب ودي .
وقيل : أشرفت نفسي على الهلاك . فأراد بالوطاب جسمه . و معور اسم فاعل من أعور لك
الشيء إذا بدت لك عورته وهي موضع المخافة . وكل ما طلبته فأمكنك فقد أعورك وأعور
لك .
وقوله : هما خطتا إلخ هذا مقول القول . و الخطة بالضم : الحالة والشأن . وكأنهم
كانوا يريدونه على الحالتين فأخذ يتهكم عليهم ويحكي مقالتهم .
والمعنى : ليس إلا واحدةٌ من خصلتين على زعمكم : إما استئسارٌ والتزام منتكم إن
رأيتم العفو . وإما قتلٌ وهو بالحر أجدر مما يكسبه الذل . فهاتان الخصلتان هما
____________________
اللتان أشار إليهما بقوله :
هما خطتا . وقد ثلثهما بخطةٍ أخرى ذكرها فيما بعد . وكله تهكم وهزءٌ .
وقوله : والقتل بالحر أجدر اعتراضٌ بين ما عده من الخصال . وقوله : وأخرى أصادي
النفس إلخ المصاداة : إدارة الرأي في تدبير الشيء أو الإتيان به . يقول : وها هنا
خطة أخرى أداري نفسي فيها وإنها هي الموضع الذي يرده الحزم ويصدر عنه إن فعلت .
وإنما قسم الكلام هذه الأقسام لأنه رآهم يبتون أمره عليها ولأنه نظر إلى جهتي
الجبل فعلم أنه إن رضي ما أراده بنو لحيان كان فيه إحدى الحالتين من الأسر والقتل
بزعمهم . وإن احتال للجهة الأخرى فالحزم فيها وخلاصه فيها وكان أمراً ثالثاً .
وقوله : وإنها لمورد حزم اعتراض أيضاً .
وهذه الأبيات الثلاثة من باب التقسيم الذي هو من محاسن الكلام وهو أن يقصد وصف شيء
تختلف أحواله فيقسم أقساماً محورة لا يمكن الزيادة عليها ولا النقصان كما قسم تأبط
)
شراً أحواله مع بني لحيان أقساماً ثلاثة لا رابع لها . ومنه قول بشر بن أبي خازم :
الوافر ( ولا ينجي من الغمرات إلا ** براكاء القتال أو الفرار ) وليس في أقسام
النجاة للمحارب قسمٌ ثالث .
ونحوه قول زهير : الطويل ( وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ** ولكنني عن علم ما في
غدٍ عمي ) وقوله : فرشت لها صدري إلخ بين بهذا كيفية مزاولته لنفسه . و الفرش :
____________________
البسط . وضمير لها : للخطة
التي عبر عنها بقوله : وأخرى أي : فرشت من أجل هذه الخطة صدري على الصفا . وهذا
حين صب العسل فتزلق به عن الصفا أي : بصدره . جؤجؤ عبل أي : ضخم .
ومتن مخصر أي : دقيق . والصدر والمتن : صدره ومتنه ولكنه أخرجه مخرج قولهم : لقيت
بزيدٍ الأسد وزيدٌ هو الأسد عندهم ووضع فرشت موضع ألقيت ووضعت . ويقال : فرشت
ساحتي بالأجر . وأفرشت الشاة للذبح إذا أضجعتها . كذا قال التبريزي .
وقوله : فخالط سهل الأرض إلخ الخلط أصله تداخل أجزاء الشيء في الشيء . والكدح
بالأسنان والحجر دون الكدم .
يقول : وصلت إلى السهل ولم يؤثر الصفا وهو الصخر في صدري أثراً ولا خدشاً والموت
كان قد طمع في فلما رآني وقد تخلصت بقي مستحياً . وخزيان من الخزاية وهي الاستحياء
ويجوز أن يكون من الخزي وهو الفضيحة والهوان . و ينظر : خبر ثان أو حال من ضمير
خزيان . وينظر : يتحير . وقد حمل قوله تعالى : وأنتم حينئذٍ تنظرون على أن معنى
تتحيرون .
وقوله : فأبت إلى فهم . إلى آخره أبت : رجعت . و فهم : قبيلة تأبط شراً .
وقوله : وكم مثلها إلخ أي : مثل هذه الخطة فارقتها بالخروج منها وهي مغلوبة تصفر
وأنا الغالب . وقيل معناه : كم مثل لحيان فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت .
وسيأتي إن شاء الله تعالى الكلام على هذا البيت في باب الفعل وفي أفعال المقاربة .
وقد تقدمت ترجمة تأبط شراً في الشاهد الخامس عشر من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد الخمسمائة ) الوافر ( متى ما تلقني فردين
ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا ) على أن يجوز اتفاقاً أن يقال : أليتان بتاء
التأنيث إلى آخر ما نقله عن أبي علي .
وقد نقل عنه ابن الشجري في المجلس الثالث من أماليه خلاف هذا قال : قال أبو علي
الحسن بن أحمد الفارسي : قد جاء من المؤنث بالتاء حرفان لم يلحق في تثنيتهما التاء
وذلك قولهم : خصيان وأليان فإذا أفردوا قالوا : خصية وألية .
وأنشد أبو زيد : الرجز وأنشد سيبويه : الرجز
____________________
( كأن خصييه من التدلدل **
ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) انتهى .
وقد جاءت في قوله : روانف أليتيك تاء التأنيث كما ترى فالعرب إذن مختلفةٌ في ذلك .
انتهى كلام ابن الشجري .
وهذا كلام الصحاح قال : الألية بالفتح : ألية الشاة . فإذا ثنيت قلت : أليان فلا
تلحقه التاء .
وأنشده الزمخشري في المفصل على أن الحال قد تجيء من الفاعل والمفعول معاً كفردين
فإنه حالٌ منهما في تلقني .
وكذا أنشده في الكشاف عند قوله تعالى : أن لا تكلم الناس ثلاثة أيامٍ إلا رمزاً في
قراءة من قرأ : رمزاً بضمتين وهو جمع رموز كرسل جمع رسول . و رمزاً بفتحتين وهو
جمع رامز كخدم جمع خادم . قال : هو حالٌ منه ومن الناس دفعة كما في البيت بمعنى
إلا مترامزين كما يكلم الناس الأخرس بالإشارة ويكلمهم . و متى : جازمة و تلقني :
شرطها و ترجف : جزاؤها . وروي : ترعد : بالبناء للمفعول . و روانف : فاعل ترجف .
قال أبو علي في المسائل البصرية : وتستطارا جزمٌ عطف على ترعد فحملته على الأليتين
أو على معنى الروانف لأنهما اثنان في الحقيقة . وهذا أحسن من أن تحمله على أن في
وتستطاروا ضمير الروانف وتجعل الألف بدلاً من النون الخفيفة لأن الجزاء واجب . )
وقد جاء : ومهما تشأ منه فزارة تمنعا
____________________
إلا أن هذا إن لم يضطر إليه
وزن كان بمنزلته في الكلام . انتهى .
وتبعه ابن السيد في أبيات المعاني قال : تستطارا جزمٌ بالعطف على ترعد بحمله على
الأليتين أو على معنى الروانف لأنهما اثنتان في الحقيقة وإنما جمعهما اتساعاً .
وقال قوم : تستطار محمولٌ على الروانف وفيه ضميرها وكان الوجه أن يقول : تستطر إلا
أنه أتى بالنون الخفيفة فانفتحت الراء فلم تسقط الألف التي هي عين الفعل وأبدل من
النون ألفاً .
ومثله قول الآخر : الطويل ومهما تشأ منه فزارة تمنعا يريد : تمنعن . والقول الأول
اختيار أبي علي لأنه اضطر في البيت الثاني ولم يضطر في تستطار لأنه له حمله على
معنى التثنية فهو بمنزلته في الكلام . انتهى .
وزاد ابن الشجري في أماليه وقال : معنى تستطار تستخف . ويحتمل وجهين من الإعراب
أحدهما : أن يكون مجزوماً معطوفاً على جواب الشرط وأصله تستطاران فسقطت نونه للجزم
.
فالألف على هذا ضميرٌ عائد على الروانف وعاد إليها وهي جمعٌ ضمير تثنية لأنها من
الجموع الواقعة في مواقع التثنية نحو قولك : وجوه الرجلين فعاد الضمير على معناها
دون لفظها إذ المعنى رانفتا أليتيك .
____________________
كما أن معنى الوجوه من قولك : حيا الله وجوهكما معنى الوجهين لأنه لا يكون لواحدٍ
أكثر من وجه كما أنه ليس للألية إلارانفة واحدة .
والجواب الثاني : أن يكون نصباً على الجواب بالواو بتقدير : وأن تستطار فالألف على
هذا لإطلاق القافية والتاء للخطاب وهي في الوجه الأول للتأنيث . ويجوز أن تجعل
التاء في هذا الوجه أيضاً لتأنيث الروانف وجاء الجواب بعد الشرط والجزاء كما يجيء
بعد الكلام الذي ليس بواجب كالنهي والنفي .
ومثله في انتصاب الجواب بالواو بعد الشرط والجزاء قوله عز وجل : إن يشأ يسكن الريح
فيظللن رواكد على ظهره ثم قال : أو يوبقهن بما كسبوا ويعف عن كثير ويعلم الذين
يجادلون . ومن ) ( فإن يهلك أبو قابوس يهلك ** ربيع الناس والشهر الحرام ) ( ونأخذ
بعده بذناب عيشٍ ** أجب الظهر ليس له سنام ) قد روي : ونأخذ جزماً بالعطف على جواب
الشرط وروي نصباً على الجواب وروي رفعاً أيضاً على الاستئناف . انتهى .
وقال ابن الحاجب في أماليه : يجوز أن يكون معطوفاً على ترجف وألحقت به نون التوكيد
الخفيفة فقلبت ألفاً في الوقف إلا أن إلحاق نون التوكيد في جواب الشرط ضعيف .
ويجوز أن يكون منصوباً على أحد الوجهين :
____________________
أحدهما : مذهب الكوفيين
بالواو التي يسمونها واو الصرف مثلها عندهم في قوله تعالى : ويعف عن كثيرٍ ويعلم
في قراءة الأكثرين .
والثاني : مذهب البصريين وهو أن يكون معطوفاً على مقدر مثلها عندهم في قوله ويعلم
أي : لينتقم ويعلم . إلا أنه لا يمكن التقدير لفعل منصوب لأنه في المعنى سبب ولو
قدر فعل منصوب لكان مسبباً فينبغي أن يكون التقدير لاسمٍ منصوب مفعول من أجله كأنه
قيل : ترجف روانف أليتيك خوفاً واستطارة .
فلما أتى بالفعل موضع استطارةً وعطف على المقدر وجب أن يكون منصوباً مثله في قولك
: و الروانف : أطراف الأليتين واحدته رانفة . وتستطار بمعنى يطلب منك أن تطير
خوفاً وجبناً . والعرب تقول لمن اشتد به الخوف : طارت نفسه خوفاً .
ومنه قوله : الوافر أقول لها وقد طارت شعاعاً وقال ها هنا : وتستطارا كأنه طلب منه
أن يطير من الخوف . والضمير في وتستطارا للمخاطب لا للروانف إذ لا تطلب من الروانف
استطارة وإنما المقصود طلبه من المخاطب .
انتهى .
وقوله : كأنه قيل ترجف روانف أليتيك خوفاً واستطارة هو أجود مما نقله العيني بأن
نصبه بأن في تقدير مصدر مرفوع بالعطف على مصدر ترجف تقديره : ليكن منك رجف الروانف
والاستطارة .
وقال ابن يعيش : قوله : وتستطارا يحتمل وجوهاً : )
____________________
أحدها : أن يكون مجزوماً بحذف النون فالضمير للروانف وعاد إليها الضمير بلفظ
التثنية لأنها تثنية في المعنى .
والثاني : أن يكون عائداً إلى الأليتين .
والآخر : أن يكون الضمير مفرداً عائداً إلى المخاطب والألف بدلٌ من نون التوكيد .
انتهى مختصراً .
ونقله العيني بحروفه ولم يعزه . ولا يخفى اختلاله فإنه قال : فيه وجوه . ولم يذكر
غير الجزم وكان يجب أن يقابله بالنصب كما فعله غيره ويقول بعده : والضمير للمخاطب
والألف للإطلاق ويدرج عود الضمير إلى الأليتين في صورة الجزم .
أو يقول : وتستطاروا مجزوم في مرجع ضميره أوجه ثلاثة . وجعله تعدد احتمال مرجع
الضمير وجوهاً مقابلة للجزم فاسد فإن الثلاثة محتملة في صورة الجزم . فتأمل .
وزاد العيني بعد هذا : ويقال الضمير المفرد عائد إلى الروانف تقديره : تستطاران هي
. انتهى .
وهذا هو الأول مما ذكره ابن يعيش بعينه فذكره تكرارٌ له .
والبيت من أبياتٍ عدتها ثلاثة عشر بيتاً لعنترة العبسي خاطب بها عمارة بن زيادٍ
العبسي .
قال الأعلم في شرح شعره في الأشعار الستة وابن الشجري في أماليه : كان عمارة يحسد
عنترة على شجاعته إلا أنه كان يظهر تحقيره ويقول لقومه : إنكم قد أكثرتم من ذكره
ولوددت أني لقيته خالياً حتى أريحكم منه وحتى أعلمكم أنه عبد .
وكان عمارة مع كثرة جوده كثير المال وكان عنترة لا يكاد يمسك إبلاً ولكن يعطيها
إخوته
____________________
وهذه أبياتٌ ستة منها ويأتي
إن شاء الله تعالى بقيتها في أفعل التفضيل : الوافر ( أحولي تنفض استك مذرويها **
لتقتلني فها أنا ذا عمارا ) ( متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا )
( وسيفي صارمٌ قبضت عليه ** أشاجع لا ترى فيها انتشارا ) ( حسامٌ كالعقيقة فهو
كمعي ** سلاحي لا أفل ولا فطارا ) ( وكالورق الخفاف وذات غربٍ ** ترى فيها عن
الشرع ازورارا ) ( ومطرد الكعوب أحص صدقٌ ** تخال سنانه بالليل نارا ) وقوله :
أحولي تنفض إلخ الهمزة للاستفهام الإنكاري التوبيخي . و حولي : ظرف لتنفض و )
استك : فاعل تنفض و مذرويها : مفعوله .
والمعنى : أتتوعدني وتهددني واستك تضيق عن ذلك . وتنفض مذرويها مثلٌ لخفته بالوعيد
وطيشه . يقال : جاء فلانٌ ينفض مذرويه إذا جاء يتهدد .
وقد شرح السيد المرتضى قدس الله روحه هذه الكلمة في أماليه أحسن شرح في كلامٍ نقله
للحسن البصري وقع فيه : ترى أحدهم يملخ في الباطل ملخاً ينفض مذرويه ويقول : ها
أنا ذا فاعرفوني .
قال : الملخ هو التثني والتكسر يقال : ملخ الفرس إذا لعب . والمذروان : فرعا
الأليتين . هذا قول أبي عبيدة وأنشد بيت عنترة .
وقال ابن قتيبة راداً عليه : ليس المذروان فرعي الأليتين بل هما الجانبان من كل
شيء تقول العرب : جاء فلانٌ يضرب أصدريه ويضرب عطفيه وينفض مذرويه وهما منكباه .
وذكر أنه سمع رجلاً من نصحاء العرب يقول : قنع مذرويه يريد جانبي رأسه وهما فوداه
. وإنما سميا بذلك لأنهما يذريان أي : يشيبان .
____________________
والذرى : الشيب . قال : وهذا أصل الحرف ثم استعير للمنكبين والأليتين والطرفين من
كل شيء .
وقال أمية بن أبي عائذٍ الهذلي يذكر قوساً : المتقارب ( على عجس هتافة المذروي **
ن زوراء مضجعةٍ في الشمال ) أراد : قوساً ينبض طرفاها . قال : فلا معنى لوصف الرجل
الذي كره الحسن بأن يحرك أليتيه ولا من شأن من يبذخ وينبه على نفسه يقول : ها أنا
ذا فاعرفوني أن يحرك أليتيه .
وإنما أراد أنه يضرب عطفيه وهذا مما يوصف به المرح المختال .
وربما قالوا : جاءنا ينفض مذرويه إذا تهدد وتوعد لأنه إذا تكلم وحرك رأسه نفض قرون
قال المرتضى قدس الله روحه : وليس الذي ذكره أبو عبيدة ببعيد لأن من شأن المختال
الذي يزهى بنفسه أن يهتز ويتثنى فتتحرك أعطافه وأعضاؤه . ومذرواه من جملة ما يهتز
ويتحرك لأنهما بارزان من جسمه فيظهر فيهما الاهتزاز . وإنما خص المذروان بالذكر مع
أن غيرهما يتحرك أيضاً على طريق التقبيح على هذا المختال والتهجين لفعله .
وقول ابن قتيبة : ليس من شأن من يبذخ أن يحرك أليتيه ليس بشيء لأن الأغلب من شأن )
البذاخ المختال الاهتزاز وتحريك الأعطاف . على أن هذا يلزمه فيما قاله لأنه ليس من
شأن كل متوعد أن يحرك رأسه وينفض مذرويه . فإذا قال إن ذلك في الأكثر قيل له مثله
.
هذا ما أورده السيد المرتضى رحمه الله .
____________________
وقوله : جاء فلانٌ يضرب أصدريه قال ابن السكيت في إصلاح المنطق بدله : جاء يضرب
أزدريه إذا جاء فارغاً .
قال شارحه ابن السيد : قوله : يضرب أزدريه إنما أصله أصدريه فأبدلوا مكان الصاد
حرفاً يطابق الدال في الجهر وعدم الإطباق وهي الزاي .
والأصدران : عرقان يضربان تحت الصدغين لا يفرد له واحد . ومعناه أنه جاء فارغاً
نادماً خائباً يلطم صدغيه ويضرب أعلاهما إلى أسفلهما ندماً وتحسراً خديه . انتهى .
واعلم أن لاكم ابن قتيبة مأخوذٌ من كلام أبي مالك نقله عنه أبو القاسم علي ابن
حمزة البصري فيما كتبه على الغريب المصنف لأبي عبيد القاسم بن سلام من تبيين
غلطاته فيه .
قال أبو القاسم : وروي عن أبي عبيدة : المذرى : طرف الألية . والرانفة : ناحيتها .
ثم قال إخباراً عن نفسه : يقال : المذروان أطراف الأليتين وليس لهما واحد وهذا
أجود القولين لأنه لو كان لهما واحدٌ فقيل : مذرًى لكان في التثنية مذريان بالياء
. وما كانت في التثنية بالواو .
قال أبو القاسم : كان يجب عليه إذ سمت به نفسه إلى الرد على أبي عبيدة معمرٍ ابن
المثنى أن يضبط ما يروي أولاً وإلا فهو كالذي لم يتم .
والمذروان والرانفان بمعنًى واحد وقد فرق بينهما فجعل المذروين الطرفين وعبر عنهما
بالأطراف وجعل الرانفة الناحية وليس كذلك قال أبو عبيدة وغيره . وكلام أبي مالك
أحكا لأنه أتم . المذروان : أعالي الأليتين وأعالي القرنين أيضاً
____________________
وكذلك أعالي المنكبين . وكذلك
الروانف الواحدة رانفة . وأنشد بيت عنترة . ففي هذا القول دليلٌ على أن المذروين
ليس باسمٍ لشيءٍ واحد .
ومع هذا فقد قال أبو يوسف بن السكيت في باب المثنى : جاء ينفض مذرويه إذا جاء
يتوعد . وجاء يضرب أزدريه إذا جاء فارغاً ويقال بالصاد أيضاً .
وهذا وإن كان غير ما قال أبو مالك فإليه يرجع لأن تحريك المنكبين من فعال المتوعد
فيريد أنه متوعدٌ هذا فعاله ومحركٌ منكبيه إنما تتحرك له فروعهما وأعاليهما كما
قال أبو مالك . وما )
حكاه في واحد المذروين كلام أبي عمرٍ و الشيباني فلم ينسبه إليه . انتهى كلامه .
قال ابن الشجري : وهذا الحرف مما شذ عن قياس نظائره وكان حقه أن تصير واوه إلى
الياء كما صارت إلى الياء في قولهم : ملهيان ومغزيان لأن الواو متى وقع في هذا
النحو طرفاً رابعاً فصاعداً استحق الانقلاب إلى الياء حملاً على انقلابه في الفعل
نحو : يلهي ويغزي .
وإنما انقلبت الواو ياء في قولك : ملهيان ومغزيان وإن لم تكن طرفاً لأنها في تقدير
الطرف من حيث كان حرف التثنية لا يحصن ما اتصل به لأن دخوله كخروجه .
وصحت الواو في المذروين لأنهم بنوه على التثنية فلم يفردوا فيقولوا : مذرًى كما
قالوا : ملهًى فصحت لذلك كما صحت الواو والياء في العلاوة والنهاية فلم يقلبا إلى
الهمزة لأنهم بنوا الاسمين على التأنيث .
وكما صحت الياء في الثنايين من قولهم : عقلته بثنايين إذا عقلت يديه جميعاً بطرفي
حبل لأنهم صاغوه مثنى . ولو أنهم تكلموا بواحده . لقالوا : ثناء مهموز كرداء
ولقالوا في تثنيته : ثناءين كردائين . انتهى .
وعمارة هو أحد بني زياد العبسي وهم : الربيع وعمارة وقيسٌ وأنس كل واحد منهم قد
رأس في الجاهلية وقاد جيشاً . وأمهم فاطمة بنت الخرشب
____________________
الأنمارية وكانت إحدى
المنجبات .
وهي التي سئلت : أي بنيك أفضل فقالت : الربيع بل عمارة بل قيس بل أنس .
ثم قالت : ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة لا يدرى أين طرفاها .
وكان لكل واحد منهم لقبٌ فكان عمارة يقال له : الوهاب وكان الربيع يقال له :
الكامل وقيسٌ يقال له : الجواد وأنس يقال له : أنس الحفاظ . وكان عمارة آلى على
نفسه أن لا يسمع صوت أسيرٍ ينادي في الليل إلا افتكه .
وقوله : متى ما تلقني فردين أي : منفردين أنا وأنت خاصة ليس معي معين وليس معك
معين . و ما : زائدة .
قال ابن الشجري : والرانفة : طرف الألية الذي يلي الأرض إذا كان الإنسان قائماً .
وروى بدل فردين : خلوين بالكسر أي : خاليين . وروى أيضاً : برزين بالكسر أي :
بارزين . و سيفي صارم إلخ الصارم : القاطع . و الأشاجع : عصب ظاهر الكف واحدها
أشجع .
قال ابن الشجري : هي عروق ظاهر الكف واحدها أشجع وبه سمي الرجل . وهو قبل )
التسمية مصروفٌ كما ينصرف أفكلٌ . ويقال : رجل عاري الأشاجع إذا كان قليل لحم الكف
.
وقوله : لا ترى فيها انتشارا قال الأعلم : يصف أنه سليم العصب شديد الخلق .
والانتشار : انتشار العصب وهو انتفاخها كانتشار الفرس في يديه .
وقوله : حسمٌ كالعقيقة إلخ يقول : هو صافٍ براق كالقطعة من البرق وهي العقيقة .
____________________
ويقال العقيقة : السحابة تنشق عن البرق . والكمع بكسر الكاف وسكون الميم الضجيج .
يقول : هو ملازمٌ لي وإن كنت مضطجعاً .
وقوله : لا أفل أراد سلاحي لا فل فيه ولا فطارا . والأفل : الذي فيه فلول .
والفطارا بضم الفاء : المشقق . يقول : هو حديد السلاح تامها .
وقال ابن الشجري : العقيقة الشقة من البرق وهي ما تنعق منه . وانعقاقه : تشققه .
والكمع والكميع : الضجيج وجاء في الحديث النهي عن المكامعة والمكاعمة . والمكامعة
: أن يضطجع الرجلان في ثوب واحد ليس بينهما حاجز . والمكاعمة : أن يقبل الرجل
الرجل على فيه .
وقوله : لا أفل ولا فطارا أي : لا فل فيه ولا فطر . والفل : الثلم . والفطر : الشق
. وموضع قوله : كالعقيقة وصفٌ لحسام ففي الكاف ضمير عائد على الموصوف . وانتصاب
أفل على الحال من المضمر في الكاف والعامل في الحال ما في الكاف من معنى التشبيه
والتقدير : حسامٌ يشبه العقيقة غير منفل ولا منفطر . انتهى .
وقوله : وكالورق الخفاف إلخ يعني سهاماً جعل نصالها بمنزلة الورق في خفتها . وأراد
: بعض سلاحي سهامٌ مثل الورق الخفاف بكسر الخاء جمع خفيف ضد الثقيل .
وقوله : وذات غرب يعني قوساً . وغربها : حدها بفتح الغين المعجمة وسكون المهملة .
و الشرع بكسر الشين المعجمة وفتح الراء المهملة : جمع شرعة بكسر فسكون وهي الأوتار
. و الازورار : الميلان .
يقول : هي محنية ففيها ميلٌ عن وترها . وكلما مالت عنه وبعدت كان أمضى لسهمها
وأنفذ .
وقوله : ومطرد الكعوب يعني رمحاً طويلاً . وكعوبه : رؤوس أنابيبه . و اطرادها :
تتابعها واستقامتها . و الأحص بمهملتين : الأملس الذي لا لحاء عليه ولا عقدة .
____________________
و الصدق بفتح الصاد وهو الصلب
المستقيم . وشبه سنانه بالنار لصفائه وحدته . يقول : إذا نظرت إليه ليلاً أضاء لك
الظلام فكأنه نار . )
وقد تقدمت ترجمة عنترة في الشاهد الثاني عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السبعون بعد الخمسمائة ) ( بلى أير الحمار وخصيتاه ** أحب إلى
فزارة من فزار ) لما تقدم قبله وسيأتي ما يتعلق به قريباً .
والبيت من أبياتٍ ثلاثة للكميت بن ثعلبة وهي : ( نشدتك يا فزار وأنت شيخٌ ** إذا
خيرت تخطئ في الخيار ) ( أصيحانيةٌ أدمت بسمنٍ ** أحب إليك أم أدير الحمار ) ( بلى
أير الحمار وخصيتاه ** أحب إلى فزارة من فزار ) وقوله : نشدتك أراد : نشدتك بالله
أي : ذكرتك به واستعطفتك به لتخبرني عما أسألك .
ويقال أيضاً : نشدتك الله من باب نصر . وجملة : تخطئ في محل رفعٍ صفة لشيخ من
الخطأ ضد الصواب . و إذا : ظرف له . والخيار : هو الاختيار .
وقوله : أصيحانية أدمت إلخ الهمزة للاستفهام و صيحانية : صفة لموصوف محذوف أي :
أتمرة صيحانية . والصيحاني : تمرٌ معروف بالمدينة . ويقال : كان كبشٌ اسمه صيحان
بمهملتين شد بنخلةٍ فنسبت إليه وقيل : صيحانية .
____________________
و أدمت : بالبناء للمفعول من
الإدام يقال : أدمت الخبز إذا أصلحت إساغته بالإدام وهو ما يؤتدم به مائعاً كان أو
جامداً .
وهذا يشكل على اتفاقهم بأنها لا يجاب بها الإيجاب . وقد وقع مثله في أحاديث من
صحيحي البخاري ومسلم نقلها ابن هشام في المغني . وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار
.
وقد بين مثله الجاحظ في مساوي البخل من كتاب المحاسن والمساوي قال : المثل السائر
: هو أبخل من مادرٍ وهو رجلٌ من بني هلال . وبلغ من بخله أنه كان يسقي أبله فبقي
في أسفل الحوض ماءٌ قليل فسلح فيه ومدر الحوض به فسمي مادراً .
وذكروا أن بني فزارة وبني هلال تنافروا إلى أنس بن مدرك وتراضوا به فقالت بنو هلال
: يا بني فزارة أكلتم أير الحمار . فقال بنو فزارة : لم نعرفه .
وكان سبب ذلك أن ثلاثة اصطحبوا : فزاريٌّ وتغلبيٌّ وكلابيٌّ فصادفوا حمار وحش ومضى
)
الفزاري في بعض حوائجه فطبخا وأكلا وخبئا للفزاري أير الحمار فلما رجع قالا له :
قد خبأنا لك حصتك فكل .
وأقبل يأكل ولا يسيغه فجعلا يضحكان ففطن وأخذ السيف وقام إليهما وقال : لتأكلان
منه وإلا قتلتكما فامتنعا فضرب أحدهما فقتله وتناوله الآخر فأكل منه فقالت بنو
فزارة : منكم يا بني هلال من سقى إبله فلما رويت سلح في الحوض ومدره بخلاً .
فنفرهم أنس بن مدرك على الهلاليين فأخذ الفزاريون منهم مائة بعير وكانوا تراهنوا
عليها .
____________________
( لقد جللت خزياً هلال بن
عامر ** بني عامرٍ طراً لسلحة مادر ) ( فأفٍّ لكم لا تذكروا الفخر بعدها ** بني
عامر أنتم شرار العشائر ) هذا ما أورده الجاحظ ونقله حمزة الأصفهاني والميداني
والزمخشري في أمثالهم . و الكميت بن ثعلبة : شاعر إسلاميٌّ فقعسي أسدي . ويقال له
: الكميت الأكبر . وهو ابن ثعلبة بن نوفل بن نضلة بن الأشتر بن حجوان بن فقعس
الأسدي . وه جد الكميت بن معروف بن الكميت الأكبر .
وهو القائل في قصة ابن دارة وقتله : الطويل ( فلا تكثروا فيها الضجاج فإنه ** محا
السيف ما قال ابن دارة أجمعا ) ومن شعر الكميت ابن ابنه وله ديوان مفرد ولم يذكر
الجمحي في طبقات الشعراء غيره ممن اسمه كميت : الطويل
____________________
( فقلت له تالله يدري مسافرٌ
** إذا أضمرته الأرض ما الله صانع ) أسلم في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ولم
يجتمع معه وقد أورده ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة عن أبي عبيدة والمرزباني
.
وأما الكميت بن زيد مادح آل البيت فقد تقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر من أوائل
وأما أنس بن مدركة الخثعمي فهو من الصحابة رضي الله عنهم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والسبعون بعد الخمسمائة ) الرجز يرتج ألياه ارتجاج
الوطب على أنه قيل : أليان في تثنية ألية من ضرورة الشعر والقياس أليتان .
قال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : ربما حذفت العرب هاء التأنيث من
ألية في الاثنين فقالوا : أليتان وأليان .
____________________
وأنشدونا : الرجز ( كأنما عطية بن كعب ** ظعينةٌ واقفةٌ في ركب ) يرتج ألياه
ارتجاج الوطب وأورد أبو زيد في نوادره هذه الأبيات الثلاثة ولم يزد عليها شيئاً .
قال الجواليقي في شرح أدب الكاتب : الظعينة : المرأة . والركب : أصحاب الإبل . و
الارتجاج : الاضطراب . والوطب : سقاء قال ابن السيد في شرحه أيضاً : وصفه بأن كفله
عظيم رخوٌ يرتج لعظمه ورخاوته ارتجاج الوطب وهو زق اللبن . وارتجاجه : اضطرابه .
وهذا كقول الآخر : الطويل ( فأما الصدور لا صدور لجعفرٍ ** ولكن أعجازاً شديداً
ضريرها ) يقول : قوتهم ليست في صدورهم إنما هي في أكفالهم فهم يلقون منها ضريراً
أي : ضرراً ومشقة . و الظعينة : المرأة سميت بذلك لأنه يظعن بها . وكان يجب أن
يقال : ظعين بغير هاء لأنها في تأويل مظعون بها . وفعيل إذا كان صفة للمؤنث في
تأويل مفعول كان بغير هاء نحو : امرأة قتيل وجريح ولكنها جرت مجرى الأسماء حتى
صارت غير جاريةٍ على موصوف كالذبيحة والنطيحة .
ووصفها بأنها واقفةٌ في ركب لأنها تتبختر إذا كانت كذلك وتعظم عجيزتها لتري حسنها
.
ألا ترى إلى قول الآخر : المتقارب ( تخطط حاجبها بالمداد ** وتربط في عجزها مرفقه
)
____________________
اه .
قوله : وفعيل إذا كان صفة للمؤنث في تأويل مفعول كان بغير هاء أقول : هذا إذا كان
جارياً )
فأما إذا كان لموصوف غير مذكور فيجب التأنيث لئلا يلتبس بالمذكر . فظعينة هنا
واردةٌ على القياس .
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعلم قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده : الرجز ( كأن خصييه من التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) لما تقدم
قبله .
ومثله قال سيبويه : من قال خصيان لم يثنه على الواحد المستعمل في الكلام يعني أن
خصيين تثنية خصي لا يستعمل في الكلام .
ومثله قول ثعلب قال في فصيحه : وتقول : هما الخصيان فإذا أفردت أدخلت الهاء فقلت :
خصية .
وهو في نوادر أبي زيد . ومن أبيات أدب الكاتب : الرجز ( قد حلفت بالله لا أحبه **
أن طال خصياه وقصر زبه ) أراد : قصر بضم الصاد فسكنه .
ونقل الإمام المرزوقي في شرح الفصيح عن الخليل أنه قال : الخصية تؤنث
____________________
ما دامت مفردة فإذا ونقل
اللبلي في شرحه أيضاً عن ابن خالويه قال : أجمعت العرب على إثبات الهاء في واحدها
فقالوا : خصية فإذا ثنوا فمنهم من يقول : الخصيان بغير هاء وهي المختارة . ومنهم
من يقول : خصيتان .
قال : فمن أثبت الهاء في الاثنين فلا سؤال معه في الفرع على الأصل . ومن قال : هما
الخصيان بناه على لفظ من قال : هما الأنثيان لأن الأنثيين لا واحد لهما من لفظهما
فلما لم تلحق العلامة في الأنثيين في ذلك أسقطها من هذه .
وقال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : وربما حذفت العرب هاء التأنيث
في الاثنين من الخصية فقالوا : خصيتان وخصيان . وأنشد هذين البيتين عن أبي زيد .
ثم قال : قال أبو زيد : لا يقال للواحد خصي بغير هاء .
وكذا قال أبو عثمان المازني في تصريف الملوكي قال : وأما الصلابة والعباية فلم
يجيئوا بهما على الصلاء والعباء كما أنهم حين قالوا : خصيان لم يجئ على الواحد ولو
جاء على الواحد )
لقالوا : خصيتان .
وقال ابن جني في شرحه : العباية والصلاية بنيت في أول أحوالها على التأنيث ولم تجئ
على المذكر ولو جاءت عليه لقالوا : عباءة وصلاءة كما أن خصيان لو جاء على خصية
لقيل : خصيتان ولكنه بني على التثنية في أول أحواله وإن كانت فرعاً كما بنيت
العباية على التأنيث في أول أحوالها وإن كانت فرعاً .
قال أبو العباس : يقال : خصية وخصيٌ . فمن قال : خصية قال : خصيتان . ومن قال :
خصيٌ قال : خصيان . ومثله ألية وألي . فمن قال : ألية قال : أليتان . ومن قال :
ألي قال : أليان .
قال الراجز : يرتج ألياه ارتجاج الوطب
____________________
وقال آخر : الطويل ( أخصيي
حمارٍ بات يكدم نجمةً ** أتؤخذ جاراتي وجارك سالم ) وقال آخر : الرجز يا بأبي
خصياك من خصًى وزب وقال آخر : كأن خصييه من التدلدل . . . . . . . . . . . . . .
البيت فتثنى الخصي على خصيين . اه .
وإلى هذا ذهب أبو القاسم علي بن حمزة البصري فيما كتبه على إصلاح المنطق .
قال الراجز : كأن خصييه من التدلدل الواحدة خصية .
____________________
وقالت امرأة من العرب : الرجز ( لست أبالي أن أكون محمقه ** إذا رأيت خصيةً معلقه
) وقال أبو القاسم المذكور : هذا قولٌ أصاب في بعضه وسها في بعضه . الواحدة من
الخصيتين خصية ومن الخصيين خصي .
قال الراجز : ) ( يا بأبي أنت ويا فوق البيب ** يا بأبي خصياك من خصًى وزب ) وقال
الفرزدق : الطويل ( أتاني على القعساء عادل وطبه ** بخصيي لئيمٍ واست عبدٍ تعادله
) والسابق إلى هذا المذهب أبو الحسن علي اللحياني في نوادره كما نقله عنه اللبلي
في شرح الفصيح قال : حكى اللحياني فيما جاء مثنى من كلام العرب : ألي وخصي وألية
وخصية وفي التثنية أليان وأليتان وخصيان وخصيتان قال : هما لغتان . اه .
ونقل ابن السكيت في إصلاح المنطق عن أبي عمرٍ و الشيباني أنه قال : الخصيتان :
البيضتان .
والخصيان : الجلدتان اللتان فيهما البيضتان . وأنشد البيت الشاهد .
قال شارح أبياته ابن السيرافي : التدلدل : تحرك الشيء المعلق واضطرابه . و ظرف
العجوز : الجراب الذي تجعل فيه خبزها وما تحتاج إليه . وظرف العجوز خلقٌ فيه تشنج
لقدمه .
شبه جلد الخصية به للغضون التي فيه وشبه الأنثيين في الصفن بحنظلتين في جراب . اه
.
____________________
وكذا قال المرزوقي : هذا البيت أن يكون شاهداً للصفن أولى لأنه شبه موضع البيضتين
بظرف جراب والبيضتين بالحنظلتين . اه .
وهذا التأويل وإن أمكن حمله في البيت هنا فلا يمكن حمله في الأبيات السابقة .
وقد تقدم في الشاهد الثامن والأربعين بعد الخمسمائة من با العدد أنهما من رجزٍ لخطامٍ
المجاشعي . ونسبهما أبو سهل الهروي في شرح الفصيح إلى جندل . وقيل قائلهما دكين .
وأنشد قبلهما : ( رخو يد اليمنى من الترسل ** من الرضا جنعدل التكتل ) ويقال : مر
فلان يتكتل إذا مر وهو يقارب الخطو ويحرك منكبيه . اه .
وقال اللبلبي في شرحه : قال السيرافي : هذان البيتان لشماء الهذلية . وأنشد الشعر
هكذا : ( إما بتطليقٍ وإلا فاقتل ** أو ارم في وجعائه بدمل ) ( كأن خصييه من
التدلدل ** ظرف عجوزٍ فيه ثنتا حنظل ) شبه خصييه في استرخاء صفنهما حين شاخ
واسترخت جلدة استه بظرف عجوزٍ فيه حنظلتان . وخص العجوز لأنها لا تستعمل الطيب ولا
تتزين للرجال فيكون في ظرفها ما تتزين به ولكنها تدخر الحنظل ونحوه من الأدوية . )
ويحتمل الشعر أن يكون مدحاً في وصف شجاع لا يجبن في الحرب فتتقلص خصيتاه .
قال : ويحتمل أن يكون هجواً . ووجهه أن يصف شيخاً قد كبر وأسن ولذلك قال : ظرف
عجوز لأن ظرفها خلقٌ منقبض فيه تشنج لقدمه فلذلك شبه جلد
____________________
الخصية به للغضون التي فيه .
والأولى أن يكون هجواً لذكره العجوز والحنظلتين مع تصريحه بذكر الخصيتين .
قال التدميري : ويروى : من التهدل وهو استرخاء جلدة الخصية . قال : وظرف العجوز :
مزودها الذي تخزن متاعها فيه . والحنظل : نباتٌ معروف ويقال : العلقم .
وروي عن أبي حاتم أنه قال : الحنظل ها هنا : الثوم . اه .
وتقدم ما فيه . وقوله إن الشعر لشماء الهذلية ينافيه أوله : وقوله : لست أبالي أن
أكون محمقه يقال : أحمقت المرأة إذا ولدت ولداً أحمق .
قال التدميري : معنى الشعر أن هذه المرأة كانت تلاعب ابناً لها صغيراً وترقصه
وتنظر في أثناء ذلك إلى خصيتيه فتفرح بكونه ذكراً فقالت : لست أبالي إذا ولدت
الذكور أن يكون أولادي حمقى وأن أكون أنا محمقة أي : ألد الحمقى . وذلك كله فراراً
من البنات وكراهيةً لهن .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الخمسمائة ) البسيط كأنه وجه تركيين إذ
غضبا على أنه إذا أضيف الجزءان لفظاً ومعنًى إلى متضمنيهما المتحدين بلفظ واحد
فلفظ الإفراد في المضاف أولى من لفظ التثنية كما في البيت فإن تركيين متضمنان
ولفظهما متحد لجزأيهما وهما الوجهان فإن وجه كل أحدٍ جزء منه فلما أضيف إليهما
أضيف بلفظ المفرد وهو الوجه . وهذا أولى من أن يقول : كأنه وجها تركيين .
وجمعه أولى من الإفراد . فلو قال : كأنه وجوه تركيين أولى من وجه تركيين . هذا
محصل كلامه .
وإيضاحه أن كل ما في الجسد منه شيءٌ واحد لا ينفصل كالرأس والأنف واللسان والظهر
والبطن والقلب فإنك إذا ضممت إليه مثله جاز فيه ثلاثة أوجه : أحدهما : الجمع وهو
الأكثر نحو قوله تعالى : فقد صغت قلوبكما . وإنما عبروا بالجمع والمراد التثنية
لأنها جمع . وهذا لا يلبس . وشبهوا هذا النوع بقولهم : نحن فعلنا .
قال سيبويه : وسألت الخليل عن : ما أحسن وجوههما فقال : لأن الاثنين جميع وهذا
بمنزلة قول الاثنين : نحن فعلنا ذاك ولكنهم أرادوا أن يفرقوا بين ما يكون منفرداً
وبين ما يكون شيئاً من شيء . اه .
يريد أنهم قد استعملوا في قولهم : ما أحسن وجوه الرجلين الجمع موضع الاثنين كما
يقول الاثنان : نحن فعلنا ونحن إنما هو ضميرٌ موضوعٌ للجماعة .
____________________
وإنما استحسنوا ذلك لما بين التثنية والجمع من التقارب من حيث كانت التثنية عدداً
تركب من ضم واحدٍ إلى واحد . وأول الجمع وهو الثلاثة تركب من ضم واحدٍ إلى اثنين
فلذلك قال : وقوله : ولكنهم أرادوا أن يفرقوا إلخ معناه أنهم أعطوا المفرد حقه من
لفظ التثنية فقالوا في رجل رجلان وفي وجهٍ وجهان ولم يفعل ذلك أهل اللغة العليا في
قولهم : ما أحسن وجوه الرجلين وذلك أن الوجه المضاف إلى صاحبه إنما هو شيءٌ من شيء
.
فإذا ثنيت الثاني منهما علم السامع ضرورةً أن الأول لا بد أن يكون وفقه في العدة
فجمعوا الأول كراهة أن يأتوا بتثنيتين متلاصقتين في مضاف ومضاف إليه . والمتضايفان
يجريان مجرى الاسم الواحد فلما كرهوا أن يقولوا : ما أحسن وجهي الرجلين فيكونوا
كأنهم قد جمعوا في اسم واحد )
بين تثنيتين غيروا لفظ التثنية الأولى بلفظ الجمع إذ العلم محيط بأنه لا يكون
للاثنين أكثر من وجهين فلما أمنوا اللبس في وضع الوجوه موضع الوجهين استعملوا أسهل
اللفظين . كذا في أمالي ابن الشجري .
وهذا علة البصريين .
وقال الفراء : إنما خص هذا النوع بالجمع لأن الشيء الواحد منه يقوم مقام الشيئين
حملاً على الأكثر فإذا ضم إلى ذلك شيءٌ مثله كان كأنه أربعة فأتى بلفظ الجمع .
وهذا معنًى حسنٌ من معاني الفراء .
قال ابن يعيش : وهذا من أصول الكوفيين . ويؤيده أن ما في الجسد منه شيء واحد ففيه
الدية وهذه عبارة الفراء نقلناها تبركاً . قال في تفسيره عند قوله تعالى : والسارق
____________________
والسارقة فاقطعوا أيديهما :
وفي قراءة عبد الله : والسارقون والسارقات فاقطعوا أيمانهما وإنما قال أيديهما لأن
كل شيءٍ موحد من خلق الإنسان إذا ذكر مضافاً إلى اثنين فصاعداً جمع فقيل : قد هشمت
رؤوسهما وملأت ظهورهما وبطونهما ضرباً . ومثله : فقد صغت قلوبكما .
وإنما اختير الجمع على التثنية لأن أكثر ما تكون عليه الجوارح اثنين في الإنسان :
اليدين والرجلين والعينين فلما جرى أكثره على هذا ذهب بالواحد منه مذهب التثنية .
وقد يجوز هذا فيما ليس من خلق الإنسان وذلك أن تقول للرجلين : خليتما نساءكما وأنت
تريد امرأتين وخرقتما قمصكما . وإنما ذكرت ذلك لأن من النحويين من كان لا يجيزه
إلا في خلق الإنسان . وكلٌّ سواء . اه .
وكذا قال ابن الشجري في هذا قال : وجروا على هذا السنن في المنفصل عن الجسد فقالوا
: مد الله في أعماركما ونسأ الله في آجالكما . ومثله في المنفصل فيما حكاه سيبويه
: ضع رحالهما . اه .
أقول : كذا في الشرح أيضاً .
وحكاه سيبويه في أوائل كتابه : وضعا رحالهما بالماضي لا بالأمر . قال : وقالوا :
وضعا وقال في أواخر كتابه : زعم يونس أنهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما وإنما
هما اثنان .
____________________
هذا حكم ما كان منه في الجسد شيءٌ واحد فإن كان اثنين كاليد والرجل فتثنيته إذا
ثنيت المضاف إليه واجبة لا يجوز غيرها . تقول : فقأت عينيهما وقطعت أذنيهما لأنك
لو قلت : )
أعينهما وآذانهما لالتبس بأنك أوقعت الفعل بالأربع .
فإن قيل : فقد جاء في القرآن : فاقطعوا أيديهما فجمع اليد وفي الجسد يدان فهذا
يوجب بظاهر اللفظ إيقاع القطع بالأربع . فالجواب أن المراد فاقطعوا أيمانهما .
وكذلك هي في مصحف عبد الله بن مسعود رضي الله عنه .
فلما علم بالدليل الشرعي أن القطع محله اليمين وليس في الجسد إلا يمينٌ واحدة جرت
مجرى آحاد الجسد فجمعت كما جمع الوجه والظهر والبطن .
الثاني من الوجوه الثلاثة : الإفراد . ولم يذكر سيبويه هذه المسألة وذلك نحو قولك
: ما أحسن رأسهما وضربت ظهر الزيدين وذلك لوضوح المعنى إذ لكل واحد شيءٌ واحد من
هذا النوع فلا يشكل فأتي بلفظ الإفراد إذ كان أخف .
قال الفراء في تفسير تلك الآية : وقد يجوز أن تقول في الكلام : السارق والسارقة
فاقطعوا يمينهما لأن المعنى اليمين من كل واحدٍ منهما كما قال الشاعر : الوافر
____________________
وقال الآخر : البسيط (
الواردون وتيمٌ في ذرا سبأٍ ** قد عض أعناقهم جلد الجواميس ) من قال : ذرا بالضم
جعل سبأ جبلاً ومنقال : ذرا بالفتح أراد موضعاً .
ويجوز في الكلام أن تقول : ائتني برأس شاتين ورأسي شاة .
فإذا قلت : رأسي شاة فإنما أردت رأس هذا الجنس . وإذا قلت : برأس شاتين فإنك تريد
به الرأس من كل شاة .
قال الشاعر في ذلك : ( كأنه وجه تركيين قد غضبا ** مستهدفٌ لطعانٍ غير تذبيب ) اه
.
وقوله : رأسي شاة هذه مسألة زائدة على ما ذكروا في هذا الباب استفيد جوازها منه .
قال ابن خلف : وقرأ بعض القراء : فبدت لهما سوءتهما بالإفراد . والعجب من ابن
الشجري في حمله الإفراد على ضرورة الشعر فإنه لم يقل أحدٌ إنه من قبيل الضرورة .
قال : ولا يكادون يستعملون هذا إلا في الشعر . وأنشدوا شاهداً عليه :
____________________
كأنه وجه تركيين قد غضبا . .
. . . . . . . . . . . البيت )
وتبعه ابن عصفور في كتاب ضرائر الشعر والصحيح أنه غير مختص بالشعر .
الثالث : التثنية . وهذا على الأصل وظاهر اللفظ . قال سيبويه : وقد يثنون ما يكون
بعضاً لشيء .
زعم يونس أن رؤبة كان يقول : ما أحسن رأسيهما .
وقال الراجز : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين قال الفراء في تفسير تلك الآية :
وقد يجوز تثنيتهما . قال أبو ذوئب الشاعر : الكامل ( فتخالسا نفسيهما بنوافذٍ **
كنوافذ العبط التي لا ترقع ) اه .
وقال ابن الشجري : ومن العرب من يعطي هذا حقه كله من التثنية فيقولون : ضربت
رأسيهما وشققت بطنيهما وعرفت ظهريكما وحيا الله وجهيكما .
____________________
فمما ورد بهذه اللغة قول الفرزدق : الطويل بما في فؤادينا من الشوق والهوى وقول
أبي ذؤيب : اراد : بطعناتٍ نوافذ كنوافذ العبط : جمع العبيط وهو البعير الذي ينحر
لغير داء . اه .
والجمع في هذا الباب هو الجيد المختار وبه نزل القرآن العظيم .
والبيت الشاهد قافيته رائية لا بائية .
وهو من قصيدة عدتها ستة عشر بيتاً للفرزدق هجا بها جريراً تهكم به وجعله امرأة .
وهذه عشرة أبيات بعد ستةٍ من أولها : ( مما تأمرون عباد الله أسألكم ** بشاعرٍ
حوله درجان مختمر ) ( لئن طلبتم به شأوي لقد علمت ** أني على العقب خراجٌ من القتر
) ( ولا يحامي على الأنساب منفلقٌ ** مقنعٌ حين يلقى فاتر النظر ) ( هدرت لما
تلقتني بجونتها ** وخشخشت أي حفيف الريح في العشر ) ( ثم اتقتني بجهمٍ لا سلاح له
** كمنخر الثور معكوساً من البقر ) ( معلنكس الكين مجلومٍ مشافره ** ذي ساعدين
يسمى دارة القمر )
____________________
( كأنه وجه تركيين قد غضبا **
مستهدفٌ لطعانٍ غير منجحر ) ( كأن رمانةً في جوفه انفلقت ** يكاد يوقد ناراً ليلة
القرر ) ( هل يغلبن بظرها أيري إذا اطعنا ** والطاعن الأول الماضي من الظفر ) قوله
: ما تأمرون عباد الله إلخ ما : استفهامية و عباد الله : منادًى والباء من قوله :
بشاعر متعلق بقوله : تأمرون أو هو بمعنى عن متعلق بأسألكم . وأراد بالشاعر جريراً
. و مختمر : صفة ثانية له اسم فاعل من اختمرت المرأة أي : لبست الخمار بالكسر وهو
ثوبٌ تغطي به المرأة رأسها . وجملة : حوله درجان صفةٌ أولى لشاعر . نسبه إلى أنه امرأة
: والدرج بالضم وهو وعاء الطيب كالحقة والعلبة .
وقوله : لئن طلبتم به شأوي إلخ به أي بهذا الشاعر . و الشأو بفتح الشين وسكون
الهمزة : الغاية والسبق . يقول : إن أردتم منه أن يبلغ غايتي أو يسبقني .
واللام في لئن موطئة للقسم وجملة : لقد علمت : جواب القسم وجواب الشرط محذوف يدل
عليه جواب القسم . وفاعل علمت ضمير شاعر والمراد به امرأة . وعلى بمعنى مع . و
العقب بفتح العين وسكون القاف : جري الفرس بعد جريه الأول . و الخراج : مبالغة
خارج . و القتر بفتح القاف والمثناة الفوقية : الغبار . يقول : لا يمكن أن تبلغ شأوي
فضلاً عن السبق فإنها تعلم أني كثيراً ما خرجت من الغبار أي : إذا كان أحدٌ سابقاً
شققت غباره فسبقته وخرجت من غباره . وهذا بعد التعب والجري الكثير فكيف أكون في
أول جريٍ .
وقوله : ولا يحامي على الأحساب أراد بالمنفلق : ذاتٌ لها انفلاق وهو كناية عن ذات
الفرج .
والانفلاق : الانشقاق . ومقنع : ذات قناع .
____________________
وحين متعلق بمقنع . و يلقى :
بالبناء للمفعول من اللقي .
وفاتر النظر أي : ضعيف النظر . وهذه الأوصاف الثلاثة من أوصاف النساء .
وقوله : هدرت لما تلقتني إلخ الجونة بضم الجيم : العلبة ودرج الطيب . والخشخشة :
صوت السلاح ونحوه . وحفيف مفعول مطلق أي : خشخشته كحفيف الريح . والحفيف بالحاء
المهملة وفاءين وهو صوت الريح إذا مرت على الأشجار . و العشر بضم ففتح : شجر عظيمٌ
له شوك . و الهدير : صوت شقشقة الجمل .
يقول : لما برزت لمحاربتي وكان سلاحها جونتها وكان صوتها مؤنثاً ضعيفاً كصوت الريح
المارة بالأشجار هدرت عليها كالفحل الهائج فأدهشتها . )
وقوله : ثم اتقتني بجهمٍ لا سلاح له إلخ الجهم : الغليظ الثخين وهو هنا كناية عن
فرجها .
وأراد بالسلاح الشعر النابت حوله وشبهه بمنخر الثور حالة كونه معكوساً . والعكس :
أن يشد حبلٌ في منخره إلى رسغ يديه ليذل وحينئذ يرى شقه أوسع . وأصله في البعير .
وقوله : معلنكس الكين المعلنكس : الكثيف المجتمع . وقال شارح ديوانه : هو الكثير
اللحم . و الكين بالفتح : لحم الفرج من داخل . و المشافر : جمع شفر بالضم على خلاف
القياس وشفر كل شيء : حرفه . و المجلوم : المقصوص شعره بالجلم بفتح الجيم واللام
وهو المقص ونحوه . ومعلنكس ومجلوم كلاهما بالجر صفتان لجهم وكذا قوله : ذي ساعدين
وجملة : يسمى إلخ . وأراد بالساعدين الأسكتين أي : حرفيه وسماهما ساعدين لغلظهما
وطولهما .
وقوله : كأنه وجه تركيين إلخ أي : كأن ذلك الجهم المراد به الفرج . شبه كل فلقه
منه بوجه تركي . والأتراك غلاظ الوجوه عراضها حمرها . وإذا : ظرفٌ عامله ما في كأن
من معنى التشبيه . وعند غضبهم تشتد وجوههم حمرةً .
____________________
وروى الفراء وغيره : قد غضبا فتكون الجملة حالاً من تركيين على طرز قوله تعالى :
أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً .
ومستهدف صفة لوجه وهو اسم فاعل من استهدف . قال صاحب العباب : واستهدف أي : انتصب
.
قال النابغة في صفة فرج : الكامل ( وإذا طعنت طعنت في مستهدفٍ ** رابي المجسة
بالعبير مقرمد ) وشيء مستهدفٍ أي : عريض . اه . و الطعان بالكسر : مصدر طعنه
بالرمح طعناً وطعاناً . وغير بالرفع صفة لمستهدف . و النجحر : اسم فاعل من انجحر
أي : دخل حجره بضم الجيم وسكون المهملة يقال : أجحرته أي : ألجأته إلى أن دخل جحره
فانجحر .
وقوله : كأن رمانة إلخ يريد أن داخل ذلك الفرج محمرٌّ شديد الحرارة . و يوقد :
يشعل . و القرر : جمع قرة بالضم : البرد كغرفة وغرف .
وقوله : هل يغلبن بظرها إلخ يغلبن مؤكد بالنون الخفيفة . و البظر : لحمة بين شفري
الفرج )
تقطعها الخاتنة . والمرأة التي لم يختن بظرها يقال لها : بظراء . ومنه قولهم في
الشتم : يا ابن البظراء واطعنا أصله تطاعنا والألف ضمير البظر والأير .
وقوله : والطاعن الأول إلخ أي : من يطعن أولاً هو الذي يذهب بالظفر ويغلب . ومعلوم
أن الذكر هو الذي يبدأ بالطعن للأنثى .
وقوله : إني لقومي سنانٌ إلخ يقول : إني لقومي كالسنان يطعنون بي نحور الأعداء .
ويطعنون بضم العين .
وقوله : وأنت أخت إلخ هذا التفاتٌ من الغيبة إلى الخطاب . وأنت : مبتدأ وعيبة :
خبره وأخت : منادًى . لما جعل جريراً امرأة قال له : يا أخت كليب أي : يا امرأةً
من قبيلة كليب .
____________________
والعيبة بالفتح : خرجٌ صغير توضع فيه الثياب . والكمر : جمع كمرةٍ بفتحتين كقصب
جمع وترجمة الفرزدق قد تقدمت في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز
ظهراهما مثل ظهور الترسين على أنه قد جمع بين اللغتين فإنه أتى بتثنية المضاف في
ظهراهما وبجمعه في ظهور الترسين .
واستشهد به سيبويه على تثنية المضاف على الأصل في موضعين من كتابه .
الموضع الأول : في الربع الأول في باب ما جرى من الأسماء التي من الأفعال وما
أشبهها من الصفات التي ليست بفعلٍ . وتقدم نقل كلامه في البيت الذي قبل هذا .
والموضع الثاني : أول الربع الرابع بين أبواب جموع التكسير في باب ترجمته : هذا
باب ما لفظ به مما هو مثنى كما لفظ بالجمع .
قال : وهو أن يكون كل واحدٍ منهما بعض شيءٍ مفرد من صاحبه وذلك قولك : ما أحسن
رؤوسهما وأحسن عواليهما .
____________________
قال الله تبارك وتعالى : إن
تتوبا إلى الله فقد صغت قلوبكما وقال الخليل : نظيره قولك : فعلنا وأنتما اثنان
فتكلم به كما تكلم به وأنتم ثلاثة . وقد قالت العرب في الشيئين اللذين كل واحدٍ
منهما اسمٌ على حدة وليس واحدٌ منهما بعض شيء كما قاولوا في ذا لأن التثنية جمعٌ
فقالوه كما قالوا : فعلنا . )
زعم يونس أنهم يقولون : ضع رحالهما وغلمانهما وإنما هما اثنان . إلى أن قال : وزعم
يونس أنهم يقولون : ضربت رأسيهما . وزعم أنه سمع ذلك من رؤبة أيضاً أجروه على
القياس .
قال هميان بن قحافة : الرجز ظهراهما مثل ظهور الترسين وقال الفرزدق : الطويل هما
نفثا في في من فمويهما وقال أيضاً : الطويل ( بما في فؤادينا من الشوق والهوى **
فيجبر منهاض الفؤاد المعذب )
____________________
انتهى كلامه .
قال الأعلم : الشاهد فيه تثنية الظهرين على الأصل والأكثر في كلامهم إخراج مثل هذا
إلى الجمع كراهةً لاجتماع تثنيتين في اسمٍ واحد لأن المضاف إليه من تمام المضاف مع
ما في التثنية قال الزجاج في تفسير آية السارق : قال بعض النحويين : إنما جعلت
تثنية ما كان في الإنسان منه واحدٌ جمعاً لأن أكثر أعضائه فيه منه اثنان فحمل ما
كان فيه الواحد على مثل ذلك .
قال : لأن للإنسان عينين فإذا تثنيت العينين قلت : عيونهما فجعلت : قلوبكما و
ظهوركما في القرآن كذلك وكذلك : أيديهما . وهذا خطأ إنما ينبغي أن يفصل بين ما في
الشيء منه واحد وبينما في الشيء منه اثنان .
وقال قوم : إنما فعلنا ذلك للفصل بين ما في الشيء منه واحدٌ وبين ما في الشيء منه
اثنان فجعل ما في الشيء منه واحدٌ تثنيته جمعاً كقول الله : فقد صغت قلوبكما .
قال أبو إسحاق : حقيقة هذا الباب أن ما كان في الشيء منه واحدٌ لم يثن ولفظ به على
لفظ الجمع لأن الإضافة تبينه .
فإذا قلت : أشبعت بطونهما علم أن للاثنين بطنين فقط . وأصل التثنية الجمع لأنك إذا
ثنيت الواحد فقد جمعت واحداً إلى واحد .
وكان الأصل أن يقال : اثنا رجال ولكن رجلان لا يدل على جنس الشيء وعدده فالتثنية
يحتاج إليها للاختصار فإذا لم يكن اختصارٌ رد الشيء إلى أصله وأصله الجمع فإذا قلت
: )
قلوبهما فالتثنية في هما قد أغنتك عن تثنية قلبٍ فصار الاختصار ها هنا ترك تثنية
قلب .
وإن ثني ما كان في الشيء منه واحدٌ فلك جائز عند النحويين .
____________________
قال الشاعر : ظهراهما مثل ظهور الترسين فجاء بالتثنية والجمع في بيتٍ واحد .
وحكى سيبويه أنه قد يجمع المفرد الذي ليس من شيءٍ إذا أردت به التثنية . وحكي عن
العرب : وضعا رحالهما يريد : رحلي راحلتيهما . انتهى .
وأنشد الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربه جنتان قال : ذكر
المفسرون أنهما بستانان من بساتين الجنة . وقد يكون في العربية جنة تثنيتها العرب
في أشعارها . أنشدني بعضهم : الرجز ( ومهمهين قذفين مرتين ** قطعته بالسمت لا
بالسمتين ) وأنشدني آخر : الرجز ( يسعى بكبداء ولهذمين ** قد جعل الأرطاة جنتين )
وذلك أن الشعر له قوافٍ تقيمها الزيادة والنقصان فيحتمل ما لا يحتمله الكلام .
والصحيح أن هذين البيتين من رجزٍ لخطامٍ المجاشعي وهو شاعرٌ إسلاميٌّ لا لهميان بن
قحافة . كما تقدم نقل أبياتٍ كثيرة من هذا الرجز في الشاهد الخامس والثلاثين
____________________
بعد المائة .
والرواية الصحيحة كذا : ( ومهمهين قذفين مرتين ** ظهراهما مثل ظهور الترسين ) (
جبتهما بالنعت لا بالنعتين ** على مطار القلب سامي العينين ) والواو في مهمهين واو
رب . و المهمه : القفر المخوف . و القذف بفتح القاف والذال المعجمة بعدها فاء :
البعيد من الأرض .
وقال العيني : هو المكان المرتفع الصلب . قال : ويروى : فدفدين . والفدفد : الأرض
المستوية .
قاله الجوهري . و المرت بفتح الميم وسكون الراء المهملة بعدها مثناة فوقية : الأرض
التي لا ماء فيها ولا نبات . و الظهر : ما ارتفع من الأرض . شبهه بظهر ترسٍ في
ارتفاعه وتعريه من النبت . )
كما قال الأعشى : الخفيف ( وفلاةٍ كأنها ظهر ترسٍ ** ليس إلا الرجيع فيها علاق )
وقال الأعلم : وصف فلاتين لا نبت فيهما ولا شخص يستدل به فشبههما بالترسين .
وقال العيني : مثل ظهري الترسين في الاستواء والاملاس وعدم المرافق فيهما من نبتٍ
للراعية أو علم هادٍ للناس . و جبتهما : قطعتهما وهو جواب رب المقدرة . يقال : جاب
الوادي يجوبه جوباً إذا قطعه بالسير فيه . وروى : قطعته بإفراد الضمير .
نقل العيني عن أبي علي أنه قال : أفرد الضمير وهو يريد المهمهين كما قال تعالى :
نسقيكم مما في بطونه . ويقال التقدير : قطعت ذلك . ويقال : إنما
____________________
أفرد الضمير لأنه أراد المهمة
وإنما ثناه تنبيهاً على طوله واتصال المشي لراكبه فيه كما قال رؤبة : الرجز ومهمهٍ
أطرافه في مهمه انتهى .
وهذا يؤيد ما قاله الفراء . وقوله : بالنعت لا بالنعتين أي : نعتا لي مرةً واحدة
فلم أحتج إلى أن ينعتا لي مرة ثانية . وصف نفسه بالحذق والمهارة . والعرب تفتخر
بمعرفة الطرق وتعير الجاهل بها .
وأما رواية : قطعته بالسمت لا بالسمتين فهو من رجزٍ لشاعر آخر أنشده الفارسي في
تذكرته وذكر قبله : الرجز قطعته بالسمت لا بالسمتين قال : كانت في هذا الموضع
بئران فعورت إحداها وبقيت الأخرى فلذلك قال : أعور إحدى العينين .
وقوله : وأصم الأذنين يعني : أنه ليس به جبل فيسمع صوت الصدى .
وقوله : بالسمت إلخ أي : قيل لي مرةً واحدة فاكتفيت . انتهى .
وقال : السمت : السير بالحدس . وقال ابن يسعون : يريد بالسمت إلخ بإشارةٍ واحدةٍ
ولم أحتج إلى تكرير النظر لحذقي ومعرفتي بالطريق .
وقوله : على مطار القلب متعلق بجبتهما . أراد : على فرسٍ جيدٍ هذه صفته . )
____________________
وترجمة خطام المجاشعي تقدمت
في الشاهد الخامس والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الخمسمائة ) الطويل وعيناي في روضٍ من
الحسن ترتع على أنه قريب من وقوع المفرد موقع المثنى فيما يصطحبان ولا يفترقان كقولك
: عيني لا تنام أي : عيناي وإنما قال : قريب منه لأن المثال وقع فيه المفرد في
موقع المثنى والبيت وقع فيه المثنى وهو عيناي في موضع المفرد لأن خبره ترتع وليس
فيه ضمير اثنين .
قال أبو حيان في تذكرته : قال أبو عمرو : وإذا كان الاثنان لا يكاد أحدهما ينفرد من
الآخر مثل اليدين والرجلين والخفين فإن تقدم مثناه جاز لك في الشعر والكلام أن
توحد صفته فتقول : خفان جديدٌ وجديدان وعينان ضخمةٌ وضخمتان لأن الواحد يدل على
صاحبه إذا كان لا يفارقه .
وأنشد الفراء : الطويل ( سأجزيك خذلاناً بتقطيعي الصفا ** إليك وخفا واحدٍ يقطر
الدما ) فقال : يقطر ولم يقل : يقطران . انتهى .
____________________
والمصراع عجزٌ وصدره : حشاي على جمرٍ ذكيٍّ من الغضا والبيت من قصيدةٍ لأبي الطيب
المتنبي مطلعها : ( حشاشة نفسٍ ودعت يوم ودعوا ** فلم أدر أي الظاعنين أشيع ) قال
الواحدي في شرحه : الحشا : ما في داخل الجوف ويريد به القلب ها هنا . يقول : قلبي
جمرٍ شديد التوقد من الهوى أي : لأجل توديعهم وفراقهم . وعيني ترتع في وجه الحبيب
في روضٍ من الحسن .
والبيت من قول أبي تمام : الطويل ( أفي الحق أن يضحى بقلبي مأتمٌ ** من الشوق
والبلوى وعيناي في عرس ) وإنما لم يقل ترتعان لأن حكم العينين حكم حاسةٍ واحدة ولا
تكاد تنفرد إحداهما برؤيةٍ دون )
الأخرى فاكتفى بضمير الواحدة كما قال الآخر : مجزوء الوافر بها العينان تنهل انتهى
.
قال صدر الأفاضل عند قول المعري : البسيط كأن أذنيه أعطت قلبه خبراً عن السماء بما
يلقى من الغير
____________________
فإن قلت : كيف لم يبرز الضمير
في أعطت مع إسناده إلى ضمير الاثنين قلت : إما لأنه قد نزل العضوين منزلة عضوٍ
واحد لأن المقصود بهما منفعةٌ واحدة . وعليه قول امرئ القيس : المتقارب ( وعينٌ
لها حدرةٌ بدرةٌ ** شقت مآقيهما من أخر ) ( وتكرمت ركباتها عن مبركٍ ** تقعان فيه
وليس مسكاً أذفرا ) لأنه جعل كل ركبتين كركبةٍ واحدة حتى قال : تقعان . وإما لأنه
قد عامل المثنى معاملة الجمع .
ومنه قول عنترة : الوافر ( متى ما تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا )
وقال آخر : البسيط أقراب أبلق ينفي الخيل رماح ألا ترى أنه قد سمى الرانفتين
والقربين روانف وأقراباً .
ومثله في احتمال الوجهين قوله : الكامل
____________________
( كأن في العينين حب قرنفلٍ
** أو سنبلاً كحلت به فانهلت ) وقول الفرزدق : الوافر ولو بخلت يداي بها وضنت هذا
وقول أبي الطيب : وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع مع تمكنه من أن يقول : وعيني دليلٌ
على أنه لا في مقام الضرورة . انتهى .
وقد تلكم ابن الشجري في أماليه على البيت وجعل المسألة رباعية فلا بأس بنقل كلامه
تتميماً للفائدة .
وقال بعد إنشاد البيت : الحشا : ما بين الضلع التي في آخر الجنب إلى الورك والجمع
أحشاء . )
وذكت النار تذكو : اتقدت وارتفع لهبها . والروضة : موضع يتسع ويجتمع فيه الماء
فيكثر نبته .
ولا يقال لموضع الشجر روضة . والرتوع في الأصل للماشية وهو ذهابها ومجيئها في
الرعي .
وكثر ذلك حتى استعمل للآدميين . وفي التنزيل : نرتع ونلعب .
ومن قرأ : نرتع بكسر العين فهو نفعل من الرعي . وأصل رتع : أكل ما شاء .
____________________
ومنه قول سويد بن أبي كاهل : الرمل ( ويحييني إذا لاقيته ** وإذا يخلو له لحمي رتع
) وإنما قال : عيناي فثنى ثم قال : ترتع فأخبر عن الاثنين بفعل واحدة لأن العضوين
لمشتركين في فعلٍ واحد مع اتفاقهما في التسمية يجري عليهما ما يجري على أحدهما .
ألا ترى أن كل واحدةٍ من العينين لا تكاد تنفرد بالرؤية دون الأخرى . فاشتراكهما
في النظر كاشتراك الأذنين في السمع والقدمين في السعي . ويجوز أن يعبر عنهما
بواحدةٍ تقول : رأيته بعيني وسمعته بأذني وما سعت في ذاك قدمي . فإن قلت : بعيني
وأذني وقدمي فثنيت فهو ولك في هذا الباب أربعة أوجهٍ من الاستعمال : أحدها : أن
تستعمل الحقيقة في الخبر والمخبر عنه وذلك قولك : عيناي رأتاه وأذناي سمعتاه
وقدماي سعتا فيه .
والثاني : أن تعبر عن العضوين بواحدٍ وتفرد الخبر حملاً على اللفظ تقول : عيني
رأته وأذني سمعته وقدمي سعت فيه .
وإنما استعملوا الإفراد في هذا تخفيفاً وللعلم بما يريدون . فاللفظ على الإفراد
والمعنى على التثنية .
فلو قيل على هذا : وعيني في روضٍ من الحسن ترتع كان جيداً .
____________________
والثالث : أن تثني العضو وتفرد الخبر لأن حكم العينين أو الأذنين أو القدمين حكم
واحدة لاشتراكهما في الفعل فتقول : أذناي سمعته وعيناي رأته وقدماي سعت فيه كما
قال : وعيناي في روضٍ من الحسن ترتع ومنه قوله سلمي بن ربيعة السيدي : الكامل )
ومنه قول امرئ القيس : مجزوء الوافر ( لمن زحلوقةٌ زل ** بها العينان تنهل )
وللفرزدق : ( ولو بخلت يداي بها وضنت ** لكان علي للقدر الخيار ) والرابع : أن
تعبر عن العضوين بواحد وتثني الخبر حملاً على المعنى كقولك : أذني سمعتاه وعيني
رأتاه .
ومنه قول امرئ القيس وهذا قليل : ( وعينٌ لها حدرةٌ بدرةٌ ** شقت مآقيهما من أخر )
وقول الآخر : الطويل ( إذا ذكرت عيني الزمان الذي مضى ** بصحراء فلجٍ ظلتا تكفان )
فأما ما أنشده ابن السكيت من قول الراجز : الرجز و
____________________
الساق مني باديات الرير فكان
الوجه أن يقول : باديةٌ جملاً على لفظ الساق أو باديتان لأن المراد بالساق الساقان
ولكنه جمع في موضعٍ التثنية . ويشبه ذلك قولك : ضربت رؤوسهما . ( وأنت من الغوائل
حين ترمى ** ومن ذم الرجال بمنتزاح ) أراد : بمنتزح فأشبع الفتحة فنشأت عنها الألف
ويقال : مخٌّ رارٌ وريرٌ للرقيق منه .
وقوله : من الغضى مفسر للجمر .
وكذلك قوله : من الحسن مفسر للروض ف من متعلقة بمحذوف وصفٌ للمفسر .
وقال : حشاي والمراد ما جاور الحشا وهو القلب . والعرب تعبر عن الشيء بمجاوره
فالمعنى : قلبي على جمرٍ من الغضى شديد التوقد لفراقهم وعيني ترتع من وجه الحبيب
في روضٍ من الحسن .
واستعار الرتوع للعين لتصويب النظر وتصعيده في محاسن المنظور إليه . واستعار لحسنه
روضاً تشبيهاً لعينيه بالنرجس ولخديه بالشقيق ولثغره بالأقحوان .
ومعنى البيت ناظرٌ إلى قول أبي تمام : ( أفي الحق أن يمسي بقلبي مأتمٌ ** من الشوق
والبلوى وعيناي في عرس )
____________________
)
وأنشدت للرضي : البسيط فالقلب في مأتمٍ والعين في عرس واستعمال المأتم لجماعة
النساء في المناحة خاصة مما لم ترده العرب ولكنه عندهم لجماعةٍ في قال أبو حية :
الطويل ( رمته أناةٌ من ربيعة عامرٍ ** نؤوم الضحى في مأتمٍ أي مأتم ) وقول امرئ
القيس فيما ذكرته شاهداً وصف به عين فرس . ومعنى حدرة : مكتنزة ضخمة . و بدرة :
تبدر النظر . و شقت مآقيهما من أخر أي : اتسعت من آخرهما .
والبيت من ثالث البحر المسمى بالمتقارب عروضه سالمة وضربه محذوف ووزنه فعل وقد
استعمل فيه الخرم الذي يسمى الثلم في أول النصف الثاني وقلما يوجد الخرم إلا في
أول البيت .
وقوله : لمن زحلوفة الزحلوفة : الزلاقة التي يتزلج فيها الصبيان فيزلقون .
ويروى : زحلوقة بالقاف . انتهى كلام ابن الشجري .
____________________
وترجمة المتنبي قد تقدمت في الشاهد الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والسبعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
كلوا في بعض بطنكم تعفوا ** فإن زمانكم زمنٌ خميص ) وظاهره أنه غير ضرورة . ونص
سيبويه على أنه ضرورة .
قال سيبويه في مسائل التمييز من باب الصفة المشبهة من أوائل الكتاب : قال بعضهم في
الشعر ما لا يستعمل في الكلام . قال علقمة بن عبدة : الطويل ( به جيف الحسرى فأما
عظامها ** فبيضٌ وأما جلدها فصليب ) وقال : الرجز
____________________
( لا تنكروا القتل وقد سبينا
** في حلقكم عظمٌ وقد شجينا ) إلى أن قال : ومما جاء في الشعر على لفظ الواحد يراد
به الجمع : كلوا في بعض بطنكم تعفوا . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : به
جيف الحسرى : إلخ هو جمع حسير وهي الناقة التي أعيت من الإعياء والكلال .
قال الأعلم : وصف طريقاً بعيداً شاقاً على من سلكه . و الصليب : اليابس وقيل : هو
الودك .
أي : قد سال ما فيه من رطوبةٍ لإحماء الشمس عليه .
يقول : أكلت السباع ما عليها من اللحم فتعرت وبدا وضح العظام .
وقوله : لا تنكروا القتل إلخ قال الأعلم : وصف أنهم قتلوا من قومٍ كانوا قد سبوا
من قومه فيقول : لا تنكروا قتلنا لكم وقد سبيتم منا ففي حلوقكم عظمٌ بقتلنا إياكم
وقد شجينا نحن وقوله : كلوا في بعض إلخ قال الأعلم : وصف أنهم قتلوا من شدة الزمان
وكلبه فيقول : كلوا في بعض بطونكم ولا تملؤوها حتى تعتادوا ذلك تعفوا عن كثرة
الأكل وتقنعوا باليسير فإن الزمان ذو مخمصة وجدب .
والشاهد أنه وضع الجلد موضع الجلود والحلق موضع الحلوق والبطن موضع البطون لضرورة
الشعر .
ونقل ابن السراج كلام سيبويه في باب التمييز وتبعهما ابن عصفور في كتاب ضرائر
الشعر .
وذهب الفراء في تفسيره إلى أنه جائزٌ في الكلام غير مختصٍّ بالشعر . وقد تقدم
النقل عنه قبل هذا ببيتين . )
____________________
وجاز التوحيد لأن أكثر الكلام
يواجه به الواحد فيقال : خذ عن يمينك وعن شمالك لأن المكلم واحد والمتكلم كذلك
فكأنه إذا وحد ذهب إلى واحدٍ من القوم . وإن جمع فهو الذي لا مسألة فيه . انتهى .
____________________
وتبعه جماعة منهم ابن جني في المحتسب قال في سورة المؤمنين : قرأ : عظماً واحداً
فكسونا العظام جماعةً : السلمي وقتادة والأعرج والأعمش واختلف عنهم .
وقرأ : عظاماً جماعةً فكسونا العظم واحداً : مجاهدٌ .
قال أبو الفتح : أما من وحد فإنه ذهب إلى لفظ إفراد الإنسان والنطفة والعلقة . ومن
جمع فإنه أراد أن هذا أمرٌ عامٌّ في جميع الناس .
كلوا في نصف بطنكم تعفوا وقال آخر : في حلقكم عظمٌ وقد شجينا وهو كثير وقد ذكرناه
. إلا أن من قدم الإفراد ثم عقب بالجمع أشبه لفظاً لأنه جاور بالواحد لفظ الواحد
الذي هو إنسان وسلالة ونطفة وعلقة ومضغة ثم عقب بالجماعة لأنها هي )
الغرض . ومن قدم الجماعة بادر إليها إذ كانت هي المقصود ثم عاد فعامل اللفظ المفرد
بمثله .
والأول أجرى على قوانينهم . ألا تراك تقول : من قام وقعدوا إخوتك فيحسن لانصرافه
عن اللفظ إلى المعنى .
وإذا قلت : من قاموا وقعد إخوتك ضعف لأنك قد انتحيت بالجمع على المعنى وانصرفت عن
اللفظ . فمعاودة اللفظ بعد الانصراف عنه تراجعٌ وانتكاث . فاعرفه وابن عليه فإنه
كثيرٌ جداً . انتهى .
____________________
ومنهم الزمخشري في كشافه قال عند قوله تعالى : ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم :
فإنه وحد السمع مع جمع القلوب كما وح الشاعر البطن مع جمع كلوا .
ومقتضى الظاهر أسماعهم وبطونكم لكن لما كان المراد سمع كل واحد منهم وبطنٍ كل
واحدٍ وقد أورد البيت في عدة مواضع من الكشاف وأورده أيضاً في المفصل في باب
التمييز ولم يقل شراحه كابن يعيش : إنه ضرورة .
ومنهم صاحب اللباب قال : وقد يقع الواحد موقع الجمع نحو قوله تعالى : فإن طبن لكم
عن شيءٍ منه نفساً .
ونظيره : كلوا في بعض بطنكم تعفوا وقوله : كلوا في بعض بطنكم قال صاحب الكشاف :
أكل في بعض بطنه إذا كان دون الشبع وأكل في بطنه إذا امتلأ وشبع . وأراد بعض
بطونكم . وقوله : تعفوا مجزوم بحذف النون في جواب الأمر .
قال ابن السيرافي : الخميص : الجائع . والخمص : الجوع . أراد بوصفه الزمن بخميص
أنه جائعٌ من فيه فالصفة للزمن والمعنى لأهله .
يقول لهم : اقتصروا على بعض ما يشبعكم ولا تملؤوا بطونكم من الطعام فينفد طعامكم
فإذا نفد احتجتم إلى أن تسألوا الناس أن يطعموكم شيئاً . وإن قدرتم لأنفسكم جزءاً
من الطعام عففتم عن مسألة الناس . انتهى .
____________________
ويروى : تعيشوا . كانوا يتلصصون ويتغاورون لأنهم في زمن قحط فقال لهم ذلك .
والمعنى : كلوا قليلاً تكونوا أعفاء لا يصدر منكم فعل قبيح كالإغارة والتلصص . أو
تعيشوا )
ولا تموتوا فإن زمانكم زمن قحط أهله جائعون . انتهى .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعلم قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والسبعون بعد الخمسمائة ) الطويل لنا إبلان فيهما ما
علمتم على أنه يجوز تثنية اسم الجمع على تأويل : فرقتين وجماعتين .
قال ابن يعيش في شرح المفصل : القياس يأبى تثنية الجمع . وذلك أن الغرض من الجمع
الدلالة على الكثرة والتثنية تدل على القلة فهما معنيان متدافعان ولا يجوز
اجتماعها في كلمةٍ واحدة .
وقد جاء شيء من ذلك عنهم على تأويل الإفراد قالوا : إبلان وغنمان وجمالان . وحكى
أقول : المراد من تثنية الجمع تضعيفه بجعله مثلين من نوعين فلا تدافع بين التثنية
والجمع إلا إذا توجها إلى مفرد .
____________________
وقد تقدم ما يتعلق به في الشاهد الثلاثين .
وأنشده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : فالتقى الماءان من سورة القمر في قراءة
التثنية على أن المراد نوعان : ماء السماء وماء الأرض كما يقال : تمران وإبلان .
وهذا المصراع وقع في شعرين : أحدهما ما أنشده أبو زيد في نوادره وهو المشهور في
كتب النحو والتفسير وتمامه : فعن أيةٍ ما شئتم فتنكبوا وهو بيت مفرد لم يذكر غيره
ولا قائله .
ونسبه الصاغاني في العباب لشعبة بن قمير وهو شاعر مخضرم أسلم في زمن النبي صلى
الله عليه وسلم ولم يره .
ذكره ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين وقال : الإبل لا واحد لها من لفظها وهي
مؤنثة لأن أسماء الجموع التي لا واحد لها من لفظها إذا كانت لغير الآدميين
فالتأنيث لها لازم والجمع آبال . وإذا صغرتها أدخلتها الهاء فقلت : أبيلة كما تقول
: غنيمة . وإذا قالوا : إبلان فإنما )
ومثله ما أنشده أبو تمام في الحماسة من شعرٍ للمساور بن هند وهو : الطويل
____________________
( إذا جارةٌ شلت لسعد بن
مالكٍ ** لها إبلٌ شلت لها إبلان ) أراد : إذا جارةٌ لسعد بن مالك شلت إبلٌ لها شل
من أجلها قطيعان من الإبل . والشل : الطرد .
قال ابن المستوفي : قالوا في نحوه : إبلان وغنمان ولقاحان . ونحوه أنهم أرادوا به
قطعتين : قطعة في جهة وقطعة في أخرى أو قطعتين من الإبل والغنم أو إبلاً موصوفة
بصفة غير الإبل الأخرى لتفيد التثنية معنًى ما .
وقوله : عن أيةٍ بالتنوين والأصل عن أيتهما فلما حذف المضاف إليه عوض عنه التنوين
.
والمشهور في الكتب فعن أيها بتأنيث الضمير على أنه راجع إلى فرقة وقطعة .
وروى : وعن أيهما بضمير التثنية مع تخفيف أي . وهذه الرواية واضحة . قال صاحب
العباب : وانتكب الرجل كنانته أو قوسه إذا ألقاها على منكبيه وكذلك تنكبها .
وتنكبه : تجنبه .
انتهى .
قال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : الإبلان : جماعتان من الإبل . ولفظ
الإبل في عرفهم عبارةٌ عن مائة بعير وإن جاز استعماله في أكثر منه .
وقوله : فيهما ما علمتم قال صاحب الكتاب يعني الزمخشري : أي ما علمتم من قرى
الأضياف وتحمل الغرامات والديات . و التنكب : التجنب . وتنكب القوس : ألقاها على
منكبه .
ولا يدري مما أخذ ما في البيت . نقله كله عن المقتبس .
قلت : أخذه من الثاني وضمنه معنى الأخذ . والمعنى : لنا قطيعان من الإبل فيهما ما
علمتم من قرى الأضياف وتحمل الغرامات فخذوا عن أيهما ما شئتم وأردتم فإنها مباحةٌ
غير ممنوعة . ولا يبعد أن يريد : فتجنبوا عن أيهما ما دام لكم
____________________
مشيئة أي : أبداً . فتجنبوا
فإنها محفوظة بنا . وفي هذا الوجه يكون البيت مشتملاً على السماحة والحماسة والقصد
إلى وصف أربابها بالعزة والقوة وأن أحداً لا يقدر على التعرض لإبلهم . هذا كلامه .
وقال خضر الموصلي في شرح شواهد التفسيرين : تنكبوا : اجعلوه في منكبكم . و عن
للمجاوزة لأن القطعة المتنكبة قد انفصلت عن الباقي من تنكب القوس : ألقاها على
منكبه أو من نكب عن الطريق : عدل عنه أي : اعدلوا عن أيها شئتم . )
والظاهر أن المعنى هو هذا الأخير . ويمنع المعنى الأول شيئان : و الثاني : معنوي
وهو أن الإبل لا يمكن حملها على المنكب عادةً . والله أعلم .
ثم رأيت في شرح أبيات إيضاح الفارسي لابن بري المصراع الثاني : فعن أيها بإفراد
الضمير وتأنيثه . وقال : قبله : ( غداة دعا الداعي فكان صريخه ** نجيحاً إذا كر
الدعاء المثوب ) ( بكل وآةٍ ذات جدٍّ وباطلٍ ** وطرفٍ عليه فارسٌ متلبب ) ( وجمعٍ
كرامٍ لم تمزر سراتهم ** حسى الذل لا دردٌ ولا متأشب )
____________________
الصريخ : الإجابة وهو في معنى
مصرخٍ الذي هو مصدر كالإصراخ . يقال : أصرخته إذا أغثته . و نجيحاً : منجحاً . و
المثوب : المنادي . و الوآة بفتح الواو وهمزة ممدودة فهاءٍ : الفرس السريعة
المقتدرة الخلق كأنها تضمن لحاق المطلوب وتعديه لسرعتها وقوتها . و الطرف : الحصان
الكريم . و المتلبب : المتحزم المشمر .
وقوله : فعن أيها أعاد الضمير على مجموع الإبلين لأنها جماعة . وأراد بقوله : ما
علمتم المنية ويجوز أن تكون الهاء تنبيهاً والتقدير : فعن أيها شئتم فتنكبوا .
وعدى تنكبوا بعن لأنه بمعنى اعدلوا ومعناه التحذير والإرشاد أي : تنكبوا ما شئتم
منذ لك فهو خيرٌ لكم . انتهى كلامه .
وقال شارحٌ آخر لأبيات الإيضاح : الهاء من أيها راجعة إلى الأصناف الثلاثة التي
ذكرها قبل وهي راكب كل وآة وراكب كل طرف والجمع الكرام . ومراده الإيعاد والتهديد
لا صريح الاستفهام كأنه قال : فعن أيها ما شئتم فتنكبوا هذه الإبل إن استطعتم أي :
إنكم لا تقدرون على ذلك . هذا كلامه .
والشعر الثاني هو شعر عوف بن عطية بن الخرع التيمي .
والمصراع أول قصيدةٍ عدتها سبعة عشر بيتاً . وهذه أربعة أبياتٍ من أولها : الطويل
( هما إبلان فيهما ما علمتم ** فأدوهما إن شئتم أن نسالما ) ( وإن شئتم ألقحتم
ونتجتم ** وإن شئتم عيناً بعينٍ كما هما ) ) ( وإن كان عقلاً فاعقلوا لأخيكما **
بنات المخاض والبكار المقاحما ) ( جزيت بني الأعشى مكان لبونهم ** كرام المخاض
واللقاح الروائما )
____________________
قال أبو سعيد الحسن بن الحسين
السكري في شرح ديوانه : أقبل أهل بيتٍ من ربيعة ب مالك بن زيد مناة وهم بنو الأعشى
حتى نزلوا وسط الرباب فأغار عليهم بنو عبد مناة بن بكر بد سعد بن ضبة فأخذوا إبلهم
فقال بنو الأعشى : انظروا رجلاً من الرباب له منعةٌ وعزٌّ فادعوا عليه جواركم لعله
يمنعكم وتلبسوا بين القوم شراً فأتوا عوف بن عطية بن الخرع فقالوا : يا عوف أنت
والله جارنا وقد أخبرنا قومنا أنا نريدك . فانطلق عوفٌ إلى عبد مناة فقال : أدوا
إلى هؤلاء إبلهم فأخذوا يضحكون به وقالوا : إن شئت جمعنا لك إبلاً وإن شئت عقلنا
لك . قال : أما عندكم غير هذا قالوا : لا .
فانصرف عنهم فقال لبني الأعشى : اتبعوا مصادر النعم . حتى إذا أوردوا قال : يا بني
الأعشى لا تقصروا خذوا مثل إبلكم . فأخذوا ثم انطلقوا حتى نزلوا معه على أهله
فجاءه بنو عبد مناة فقالوا : يا عوف ما حملك على ما صنعت قال : الذي صنعتم حملني .
فأخذ يلعب بهم وقال : إن شئتم جمعنا لكم وإن شئتم عقلنا لكم . فقال عوف في ذلك هذه
القصيدة .
وقوله : هما إبلان إلخ أي : إبل بني الأعشى وإبلكم . وأدى الأمانة إلى أهلها إذا
أوصلها .
والاسم الأداء والتأدية .
وقوله : وإن شئتم ألقحتم إلخ قال السكري : يقول : إن شئتم فردوها أو تلقحونها
وتنتجونها وتردونها بأولادها . و عين بعين أي : ردوها بأعيانها حتى نردها بأعيانها
. ويقال : قد نتجت الفرس والناقة فهي منتوجة . وفرس نتوجٌ : في بطنها ولد . انتهى
.
ويقال : ألقح الفحل الناقة إلقاحاً : أحبلها . والنتاج : اسمٌ يشمل وضع البهائم من
الغنم وغيرها .
وإذا ولي الإنسان ناقةً أو شاة ماخضاً حتى تضع قيل : نتجها
____________________
نتجاً من باب ضرب . فالإنسان
كالقابلة لأن يتلقى الولد ويصلح من شأنه فهو ناتج والبهيمة منتوجة والولد نتيجة .
وقوله : وإن كان عقلاً فاعقلوا إلخ يقال : عقلت عنه : غرمت عنه ما لزمه من دية وجناية
. و ابن مخاض : ولد الناقة يأخذ في السنة الثانية والأنثى بنت مخاض والجمع فيهما
بنات مخاض . )
قال السكري : يقول : إن صار الأمر إلى عقل أخيكم الذي أخذت إبله فاعقلوا بنات
المخاض والبكار المقاحم أي : اجمعوا له الرذالة فأدوها إليه . وهذا هزءٌ بهم .
وقوله : جزيت بني الأعشى إلخ يريد : أنه عوضهم إبلاً خيراً من إبلهم . قال اسكري :
والمخاض : الحوامل واحدتها خلفة . و اللقاح : ذوات الألبان واحدتها لقحة بكسر
فسكون . ويقال أيضاً : لقوح والجمع لقح بضمتين . و الروائم : جمع رائم وهي التي
أحبت ولدها وعطفت عليه . يقال : قد رئمته أمه رئماناً .
ورأمها : ما عطفت عليه من ولد غيرها أو بوٍّ . انتهى .
وعوف بن عطية بن الخرع تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والسبعين بعد الأربعمائة .
____________________
تتمة من أمثلة تثنية اسم الجمع : قومان . قال الفرزدق : الطويل وكل رفيقي كل رحلٍ
وإن هما تعاطى القنا قوماهما أخوان واستشهد به ابن عصفور في شرح الجمل الكبير على
تثنية قوم . وكذا ابن مالك في شرح التسهيل . ف قوماهما : فاعل تعاطى وحذف نون
التثنية للإضافة إلى هما .
وفيه شاهدٌ أيضاً على تثنية المضاف إلى اثنين المرجوحة فيكون من قبيل : الرجز
ظهراهما مثل ظهور الترسين ومعنى البيت أن كل رفيقين في السفر أخوان وإن تعادى
قوماهما وتعاطوا المطاعنة بالقنا .
ورحل الشخص : مأواه في الحضر ثم أطلق على أمتعة المسافر لأنها هناك مأواه .
وهذا البيت مع وضوح معناه قد حرفه أبو علي الفارسي في المسائل البغداديات بتنوين
قوم وزعم أنه مفرد منصوب فاختل عليه معنى البيت وإعرابه فاحتاج إلى أن صححه
بتعسفات وتمحلات كان غنياً عنها ومقامه أعلى وأجل من أن ينسب إليه مثل هذا التحريف
ولكن هو كما قيل : الطويل )
____________________
كفى المرء نبلاً أن تعد معايبه وقد تبعه على هذا التحريف والتخريج ابن هشام في
مغني اللبيب ولخص كلامه من غير أن يعزوه إليه . وأنقل لك كلامهما حتى لا تقضي
العجب منهما .
قال أبو علي في البغداديات : ينشد بيت الفرزدق وهو : وكل رفيقي كل رحل . . . . . .
. . . . . . . . البيت وفيه غير شيء من العربية . فمنه : قال : تعاطى وقد تقدمه
اثنان ولم يقل : تعاطيا . فإن قلت : إنه حذف لام الفعل من تعاطى لالتقاء الساكنين
ولم يرده إلى أصله للضرورة فيقول : تعاطيا فهو قولٌ .
وهذه الضرورة عكس ما في قول امرئ القيس : المتقارب لها متنتان خظاتا لأن هذا البيت
اللام في موضعٍ وجب حذفها مثل رمتا لأن الحركة للتاء في رمتا غير لازمة والفرزدق
حذفه في موضع وجب إثباته لأنك تقول : تعاطيا وتراميا .
وإن قلت : تعاطى تفاعل والألف لام الفعل ليست بضميره وفي الفعل ضمير واحدٍ لأن هما
وإن كان في اللفظ مثنى فهو في المعنى كناية عن كثرة وليس المراد بالتثنية هنا
اثنين فيحمل الكلام عليها ولكنه في المعنى يرجع إلى كل
____________________
فحملت الضمير على كل فهو قول
. ويقوي هذا : وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا .
ألا ترى أن الطائفتين لما كانتا في المعنى جمعاً لم يرجع الضمير إليهما مثنى لكنه
جمع على المعنى .
وكذلك تعاطى أفرد على المعنى إذ كان لكل ثم حمل بعد الكلام على المعنى فقال : هما
أخوان . فالقول في هما أنه مبتدأ في موضع خبر الابتداء الأول وهو كل وثناه وإن كان
في المعنى جمعاً للدلالة المتقدمة أن المراد بهذه التثنية الجمع .
ألا ترى أن قوله : كل رفيقي كل رحل جمع ونظيره قوله : بينهما بعد : وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا .
فإن قال قائل : إن هما يرجع إلى رفيقين على قياس قولهم في قوله تعالى : والذين
يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن فهو عندنا مخطئٌ لأن الاسم الأول يبقى متعلقاً
بغير شيء . )
وهذا القول ينتقض في قول من يقول به لأنه عندهم يرتفع بالثاني أو بالراجع إليه
فإذا لم يكن له والجملة التي هي هما أخوان رفعٌ خبر لكل . ولا أستحسن أن يكون هما
فصلاً لو كان المبتدأ والخبر معرفتين لأني وجدت علامة ضمير الاثنين يعنى به الجمع
في البيت والآية وفي قول الآخر : الكامل ( إن المنية والحتوف كلاهما ** يوفي
المخارم يرقبان سوادي )
____________________
وقوله تعالى : أن السموات
والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما ونحو هذا . ولم أجد الاثنين المظهرين يعنى بهما
الجمع والكثرة مكثرة علامة الضمير . فإن كان كذلك جعلت هما مبتدأ وجعلت أخوان خبره
وحملته على لفظ هما دون معناه .
ولو جعلت هما فصلاً وكان الاسمان معرفتين وما قرب منهما وجعلت أخوان خبر كل لم
يمتنع لأن الاثنين المظهرين قد عني بهما الكثرة أيضاً .
ألا ترى أن في نفس هذا البيت : وكل رفيقي كل رحل وليس الرفيقان باثنين فقط وإنما
يراد بهما الكثرة . فكذلك يراد بأخوان الكثرة .
إلا أن قوله : وكل رفيقي في الحمل على الجمع أحسن من حمل أخوان على الجمع لأن
المعنى في قوله : وكل رفيقي كل رحل كل الرفقاء إذا كانوا رفيقين رفيقين فهما أخوان
وإن تعاطى كل واحد مغالبة الآخر لاجتماعهما في السفرة والصحبة .
فالقول الأول في هذا هو الوجه ومثل هذا قولهم : هذان خير اثنين في الناس وهذان
أفضل اثنين في العلماء .
فيدلك على أن الاثنين في قولنا : هذان خير اثنين في الناس والرفيقين في هذا البيت
ما يذهب إليه سيبويه من أن المعنى : إذا كان الناس اثنين اثنين فهذا أفضلهم وإضافة
رفيقين في هذا البيت إلى كل رحل لو كان المراد بهما اثنين فقط لكانت هذه الإضافة
مستحيلة لأن رفيقين اثنين لا يكونان لكل رحل . ففي هذا البيت دليلٌ على أن رفيقين
يراد بهما الكثرة . وفيه أنه حملهما على معنى كل وفيه الوجهان اللذان حملناهما في
تعاطى .
فأما قوله : قوماً فيحتمل ثلاثة أوجه : أحدها : أن يكون بدلاً من القنا لأن قومهما
من سببهما وما يتعلق بهما . ويحتمل أن يكون مفعولاً له وكأنه قال : وإن هما تعاطيا
القنا للمقاومة أي : لمقاومة كل واحد منهما صاحبه )
ومغالبته . ويحتمل أن يكون مصدراً من باب صنع
____________________
الله و وعد الله لأن تعاطى
القنا يدل على مقاومة . فتحمل قوماً على هذا كما حملت وعد الله على ما تقدم في
الكلام مما فيه وعدٌ .
هذا آخر كلامه .
وقال ابن هشام في المغني : هذا البيت من المشكلات لفظاً وإعراباً ومعنًى . فلنشرحه
.
وتعاطى أصله تعاطيا فحذفت لامه للضرورة . وعكسه إثبات اللام للضرورة فيمن قال :
لها متنتان خظاتا إذا قيل : إن خظاتا فعل وفاعل أو ألف تعاطى لام الفعل ووحد
الضمير لأن الرفيقين ليسا باثنين معينين بل هما كثير كقوله تعالى : وإن طائفتان من
المؤمنين اقتتلوا ثم حمل على اللفظ إذ قال : هما أخوان كما قيل : فأصلحوا بينهما .
وجملة : هما أخوان خبر كل .
وقوله : قوماً إما بدل من القنا لأن قومهما من سببهما إذ معناه تقاومهما فحذفت
الزوائد فهو بدل اشتمال . وإما مفعول لأجله أي : تعاطيا القنا لمقاومة كل منهما
للآخر أو مفعول مطلق من باب صنع الله لأن تعاطي القنا يدل على تقاومهما .
ومعنى البيت : أن كل الرفقاء في السفر إذا استقروا رفيقين رفيقين فهما كالأخوين
لاجتماعهما في السفر والصحبة وإن تعاطى كلٌّ منهما مغالبة الآخر . انتهى كلامه .
____________________
وهذا كله كما ترى فاسدٌ لفساد أساسه . وقد تنبه له الدماميني في الحاشية الهندية
إلا أنه لم يقف على كلام أبي علي وقال : أطال المصنف يعني ابن هشام وفي تقريرٍ ما
يزيل الإشكال الذي ادعاه وكله مبنيٌّ على حرف واحد وهو ثبوت تنوين قوماً من جهة
الرواية ولعلها ليست كذلك . وإنما هي قوماهما تثنية قوم والمثنى مضافٌ إلى ضمير
الرفيقين . ولا إشكال حينئذٍ لا وقد رأيت في نسخة من ديوان الفرزدق هذا البيت
مضبوط الميم من قوماهما بفتحة واحدة وملكت هذه النسخة في جلدين . وضبط هذا البيت
هو الذي كان باعثاً على شرائها . ولله الحمد والمنة . انتهى .
وقد نقل العيني كلام ابن هشام بعينه في شرح شواهد الألفية من غير عزوٍ إليه .
والبيت من قصيدةٍ للفرزدق خاطب فيها ذئباً أتاه وهو نازلٌ في بعض أسفاره وكان قد
أوقد ناراً ثم رمى إليه من زاده .
وقال له : تعش وينبغي أن لا يخون أحدٌ منا صاحبه حتى نكون مثل الصاحبين . )
وقال أبو عبيدة في كتاب الضيفان : ضاف الفرزدق ذئبٌ ومعه مسلوخ فألقى إليه ربع
الشاة وأراد أصحابه طرده فنهاهم ثم ألقى إليه الربع الآخر فشبع فقال الفرزدق هذه
القصيدة .
وهذه أبياتٌ منها : الطويل ( وأطلس عسالٍ وما كان صاحباً ** دعوت لناري موهناً
فأتاني ) ( فلما أتاني قلت دونك إنني ** وإياك في زادي لمشتركان )
____________________
( فبت أقد الزاد بيني وبينه
** على ضوء نارٍ مرةً ودخان ) ( فقلت له لما تكشر ضاحكاً ** وقائم سيفي في دي
بمكان ) ( وأنت امرؤٌ يا ذئب والغدر كنتما ** أخيين كانا أرضعا بلبان ) ( ولو
غيرنا نبهت تلتمس القرى ** رماك بسهمٍ أو شباة سنان ) ( وكل رفيقي كل رحلٍ وإن هما
** تعاطى القنا قوماهما أخوان ) و الأطلس : الأغبر من الذئاب . والواو واو رب . و
عسال صفة مبالغة من العسلان وهو مشي الذئب باضطرابٍ وسرعة . و الموهن بفتح الميم
وكسر الهاء : ساعة تمضي من الليل . و أقد : أقطع طولاً . و التكشر : ظهور الأسنان
عند الضحك . و تعش : أمر من تعشى .
والبيت شاهد لإطلاق من على اثنين لقوله : يصطحبان . و أخيين : مصغر أخوين . و
اللبان بالكسر : لبن الآدمي . وشباة كل شيء : حده وهو بفتح الشين المعجمة والموحدة
.
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الخمسمائة ) البسيط
____________________
( لأصبح الحي أوباداً ولم
يجدوا ** عند التفرق في الهيجا جمالين ) على أنه يجوز تثنية الجمع المكسر فإن
جمالين مثنى جمال أي : قطيعين من الجمال .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : رب السموات والأرض وما بينهما على تثنية الضمير
مع أن المرجع السموات والأرض بإرادة ما بين الجنسين .
وقال في المفصل : وقد يثنى الجمع على تأويل الجماعتين والفريقين . أنشد أبو زيد :
لنا إبلان فيهما ما علمتم وفي الحديث : مثل المنافق كالشاة العائرة بين الغنمين .
وأنشد أبو عبيدٍ : لأصبح الحي أوباداً ولم يجدوا . . . . . . . . . . . . . البيت
وقالوا : لقاحان سوداوان .
وقال أبو النجم : الرجز
____________________
بين رماحي مالكٍ ونهشل انتهى
.
والحديث رواه نافعٌ عن ابن عمر والمروي فيه : مثل المنافق مثل الشاة العائرة بين
غنمين تعير إلى هذه مرةً وإلى هذه مرة لا يدرى أيهما تتبع .
والعائرة بالعين المهملة : المترددة من عار الفرس إذا ذهب هنا وهنا . شبه المنافق
في تردده وعدم ثباته على جانبٍ بالشاة المترددة بين قطيعين من الغنم لا تستقر في
قطيع . ويقال : سهم عائر وحجر عائر إذا لم يعلم من أين هو ولا من رماه .
ولم يقيد الجمع بالمكسر كما قيده الشارح المحقق به احترازاً من الجمع المصحح لئلا
يجتمع فيه إعرابان بالحروف وهو ممتنعٌ لوضوحه . و اللقاح : جمع لقوح وهي الناقة
ذات اللبن مثل قلاص وقلوص . وقال ثعلب : اللقاح جمع لقحة بالكسر وإن شئت لقوح وهي
التي نتجت فهي لقوحٌ شهرين أو ثلاثة ثم هي لبونٌ بعدذ لك .
وتقدم شرح قوله : )
بين رماحي مالكٍ ونهشل في باب الندبة .
وقوله : لأصبح الحي أوباداً البيت قبله : ( سعى عقالاً فلم يترك لنا سبداً ** فكيف
لو قد سعى عمرو عقالين ) أنشدهما أبو عبيد القاسم بن سلام البغدادي في أمثاله وقال
: استعمل معاوية
____________________
ابن أبي سفيان ابن أخيه عمرو
بن عتبة بن أبي سفيان على صدقات كلب فاعتدى عليهم فقال عمرو بن العداء الكلبي هذا
الشعر . و سعى في الموضعين من سعى الرجل على الصدقة أي : الزكاة يسعى سعياً : عمل
في أخذها من أربابها . وعقالاً وعقالين منصوبان على الظرف أراد : مدة عقال ومدة
عقالين . والعقال : صدقة عام .
قال الأصمعي : بعث فلانٌ على عقال بني فلان إذا بعث على صدقاتهم . قال أبو عبيد :
هذا كلام العرب المعروف عندهم .
فأما ما روي أن عمر كان يأخذ مع كل فريضة عقالاً ورواءً فإذا دخلت إلى المدينة باعها
ثم تصدق بتلك العقل والأروية فالعقال : الحبل الذي يعقل به البعير والرواء : الحبل
الذي يقرن به البعيران .
وقالوا في قول أبي بكر : لو منعوني عقالاً مما أدوا إلى رسول الله صلى الله عليه
وسلم لقاتلتهم عليه : يعني : بالعقال صدقة عام وقيل : أراد الحبل الذي كانت تعقل
به الفريضة المأخوذة في الصدقة . وهو بالحبل أولى في هذا الموضع لأن الإنسان إنما
يذكر في مثل هذا الموضع الأقل لا الأكثر بناء على قوة العزمة في الأدنى فكيف في
الأعلى . انتهى .
وقال المبرد في الكامل بعد نقل كلام أبي بكر رضي الله عنه : قوله : لو منعوني
عقالاً لجاهدتهم عليه على خلاف ما تتأوله العامة .
ولقول العامة وجهٌ قد يجوز فأما الصحيح فأن المصدق إذا أخذ من الصدقة ما فيها ولم
يأخذ ثمناً قيل : أخذ عقالاً . وإذا أخذ الثمن قيل : أخذ نقداً .
وقال الشاعر : الطويل
____________________
( أتانا أبو الخطاب يضرب طبله
** فرد ولم يأخذ عقالاً ولا نقدا ) )
والذي تقوله العامة تأويله : و منعوني ما يساوي عقالاً فضلاً عن غيره . وهو وجه .
والأول هو الصحيح لأن ليس له عليهم عقال يعقل به البعير فيطلبه فبمنعه ولكن مجازه
في قول العامة ما ذكرنا . وهو من كلام العرب : أتانا بجفنة يقعد عليها ثلاثة أي :
لو قعد عليها ثلاثة لصلح . انتهى .
وقال ثعلب في أماليه : العقال : صدقة سنةٍ في خير أبي بكر : لو منعوني عقالاً .
وأنشد البيتين .
والسبد بفتحتين الشعر والوبر .
وقال ابن السيد في شرح أدب الكاتب : إذا قيل : ما له سبد ولا لبد فمعناه : ما له
ذو سبد وهي الإبل والمعز ولا ذو لبد وهي الغنم . ثم كثر ذلك حتى صار مثلاً مضروباً
للفقر فقيل لكل من لا مال له أي شيء كان . ففيه مجازٌ من وجهين : أحدهما : إيقاعهم
النفي على السبد واللبد وهم يريدون نفي ما له السبد واللبد .
والثاني : استعمالهم ذلك في كل من لا مال له وأصله أن يكون في الإبل والمعز والغنم
خاصة .
انتهى .
وقوله : فكيف هو ظرف مع عامله المحذوف في محل الرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف أي :
كيف حالنا . وهذه الجملة دليل جواب لو .
يقول : تولى هذا الرجل علينا سنةً في أخذ الزكاة منا فلم يترك لنا شيئاً لظلمه
إيانا فلو تولى سنتين علينا على أي حال كنا نكون وقوله : لأصبح الحي إلخ اللام في
جواب قسمٍ مقدر . وزعم خضرٌ الموصلي في
____________________
شرح شواهد التفسرين أن اللام
في جواب لو المتقدمة . وهو ذهولٌ عما قبله . و الحي : القبيلة . و الأوباد : جمع
وبد بفتحتين قال الجوهري : الوبد بالتحريك : شدة العيش وسوء الحال مصدرٌ يوصف به
فيستوي فيه الواحد والجمع ثم يجمع فيقال : أوباد كما يقال : عدلٌ وعدول على توهم
النعت الصحيح . وأنشد البيت .
وقال ابن بريٍّ في شرح أبيات الإيضاح للفارسي : الوجه أن يكون جمع وبد وهو السيئ
الحال كفخذ وأفخاذ . انتهى . و الهيجاء : الحرب قال ابن ولاد في المقصور والممدود
: الهيجاء : تمد وتقصر .
يا رب هيجا هي خيرٌ من دعه )
وقال آخر :
____________________
إذا كانت الهيجاء وانشقت
العصا انتهى .
وهي مؤنثة كما في البيتين .
وهذه الكلمة مع شهرتها لم يوردها القالي في المقصور والممدود مع أنه استقصى
النوعين في كتابه .
وثنى الجمال لأنه جعلها صنفين : صنفاً لترحلهم يحملون عليها أثقالهم وصنفاً لحربهم
يركبونه إذا جنبوا خيلهم . ويؤيده رواية أبي الفرج : يوم الترحل والهيجا . و
أوباداً : خبر أصبح إن كانت ناقصة وحالٌ من القوم إن كانت تامة .
وروى أبو الفرج : لأصبح الحي أوقاصاً وهو جمع وقص بفتحتين وقد تسكن القاف : ما بين
الفريضتين من نصب الزكاة مما لا شيء فيه . فعلى هذه الرواية حذف مضاف أي : لأصبح
مال الحي أوقاصاً أي : لا يوجد عندهم في العام الثاني ما يجب فيه الصدقة . و عمرو
بن عداء الكلبي : شاعرٌ إسلامي .
____________________
( باب المجموع ) أنشد فيه ( الشاهد
الثامن والسبعون بعد الخمسمائة ) لنا جاملٌ لا يهدأ الليل سامره على أن جاملاً ليس
بجمع بدليل عود الضمير عليه من سامره مفرداً .
قال صاحب الكشاف في سورة الأعراف : الأناس اسم جمع غير مكسر بدليل عود الضمير
المفرد إليه وتصغيره على لفظه .
والسابق إلى هذا أبو علي قال في البغداديات فإن قال قائل : فهلا جاز تكسيره أي :
اسم الجمع كما جاء تحقيره فما حكاه سيبويه من قولهم : رجل ورجيل قيل له : لا ينبغي
أن يجوز .
وذلك أن هذا الاسم على بناء الآحاد والمراد به الكثرة فلو كسر كما صغر لكان في ذلك
إجراؤه مجرى الآحاد وإزالته عما وضع له من الدلالة على الكثرة
____________________
إذ كان يكون في ذلك مساواته
له من جهة البناء والتكسير والتحقير والحديث عنه كالحديث عن الآحاد نحو ما لهم
جاملٌ لا يهدأ الليل سامره وهذا كل جهاته أو عامته فيجب إذا صغر أن لا يكسر فيكون
بترك تكسيره منفصلاً مما يراد به الآحاد دون الكثرة . انتهى .
والمصراع من قصيدة للحطيئة هجا بها الزبرقان بن بدرٍ الصحابي التميمي ومدح فيها
ابن عمه بغيض بن شماس وفضله عليه .
وتقدم السبب في هذا مفصلاً في باب ما لا ينصرف . والرواية ذوو جامل بدل : لنا جامل
.
وهذه أبيات منها : ( فدع آل شماس بن لأيٍ فإنهم ** مواليك أو كاثر بهم من تكاثره )
( أتحصر أقواماً يجودوا بمالهم ** فلولا قبيل الهرمزان تحاصره ) ( فلا المال إن
جادوا به أنت مانعٌ ** ولا العز من بنيانهم أنت عاقره )
____________________
( فإن تك ذا عزٍّ حديثٍ فإنهم
** لهم إرث مجدٍ لم تخنه زوافره ) ( فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ فإنهم ** ذوو جاملٍ لا
يهدأ الليل سامره ) )
وقوله : مواليك أي : أبناء عمك . والمكاثرة : المفاخرة . أي : فاخر بهم إذا لم يكن
عندك من الفخر ما تفاخر به .
وقوله : أتحصر أقواماً إلخ أي : أتمنع وتحبس يقول : دع هؤلاء الذين يجودون بمالهم
. وعليك بالهرمزان فامنعه . أي : إنك لا تقدر إلا على العجم . ولولا : بمعنى هلا .
والهرمزان : كان والي مدينة تستر . فلما فتحت جاؤوا به إلى عمر بن الخطاب .
وقوله : فإن تك ذا عزٍّ إلخ الحديث : الحادث . يريد أن عزه حادث بتوليته النبي صلى
الله عليه وسلم صدقات بني تميم . والإرث : بالكسر : الأصل والمجد والشرف .
وزوافره : مواده وروافده يقال : هو زافرتهم عند السلطان أي : يقوم بأمرهم ويعينهم
. ويقال : هو في زافرة قومه أي : في عددهم وكثرتهم . ويقال : زوافره : معظمه .
وقوله : فإن تك ذا شاءٍ كثيرٍ إلخ الشاء : جمع شاة . قال صاب المصباح : الشاة من
الغنم يقع على الذكر والأنثى فيقال : هذا شاةٌ للمذكر وهذه شاة للأنثى وشاة ذكر
وشاة أنثى وتصغيرهما شويهة . والجمع شاءٌ وشاهٌ بالهاء رجوعاً إلى الأصل كما قيل :
شفة وشفاه .
ويقال : أصلها شاهة مثل عاهة . انتهى .
والجامل : اسم جمع بمعنى جماعة الإبل مع رعاتها . والهدء مهموز الآخر : السكون .
والليل : ظرف وسامره : فاعله والضمير للجامل . أي : لا يسكن ولا ينام الذي يحفظ
الإبل وهو السامر .
____________________
يعني أن الرعاة يسهرون ليلهم لحفظ إبلهم . قال صاحب الصحاح : السمر : المسامرة وهو
الحديث بالليل وقد سمر يسمر فهو سامر . والسامر أيضاً : السمار وهم القوم يسمرون .
انتهى .
وترجمة الحطيئة تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده : الطويل مع الصبح ركبٌ من أحاظة مجفل على أن ركباً ليس جمعاً بدليل
عود الضمير إليه من صفته بالإفراد ولو كان جمعاً لقيل : مجفلون .
والمصراع من لامية العرب للشنفرى تقدم الكلام عليه قبل باب المثنى في الشاهد
السابع )
والخمسين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والسبعون بعد الخمسمائة ) الوافر
____________________
على أن نون الجمع قد تكسر في
ضرورة الشعر كما في آخرين .
وقد يمكن أن تكون كسرة النون كسرة إعراب كما تقدم النقل عن أبي علي في باب التثنية
.
وسيأتي في آخر هذا الباب فلا ضرورة حينئذ .
قال الشارح المحقق فيما سيأتي : إذا كسرت النون فلا يكون ما قبلها إلا الياء .
وكذلك نص ابن عصفور في كتاب الضرائر أن كسر نون الجمع لا يكون إلا في حال النصب
والخفض كما أن فتح نون التثنية لا يكون إلا كذلك . فلكسرها شرطان : أحدهما : الشعر
وثانيهما : الياء .
وبهذا يعرف سقوط قول ابن هشام في شرح الشواهد : إن الشرط الثاني قد أهمله النحويون
وإن الشرط الأول أهمله ابن مالك في منظومته دون التسهيل .
قال ابن عصفور : ووجه كسر النون تحريكها على أصل التقاء الساكنين . وقال العيني :
ويقال إن كسر نون الجمع ليس بضرورة وإنما هو لغةٌ لقوم بنى الشاعر كلامه على هذه
اللغة .
والبيت آخر أبياتٍ أربعة لجرير خاطب بها فضالة العريني أوردها محمد بن حبيب في
المناقضات وهي : الوافر
____________________
( أتوعدني وراء بني رياحٍ **
كذبت لتقصرن يداك دوني ) ( عرينٌ من عرينة ليس منا ** برئت إلى عرينة من عرين ) (
عرفنا جعفراً وبني عبيدٍ ** وأنكرنا زعانف آخرين ) وزاد العيني في روايته بعد هذا
بيتاً وهو : ( قبيلةٌ أناخ اللؤم فيها ** فليس اللؤم تاركهم لحين ) وسبب هذا على
ما حكاه محمد بن حبيب : أن جريراً لما هجا غسان السليطي وهو سليط بن الحارث بن
يربوع . وكان خال فضالة أحد بني عرين بن ثعلبة بن يربوع قال فضالة لجريرٍ : أتهجو
خالي أما والله لأقتلنك فقال جريرٌ هذه الأبيات . )
وقوله : أتوعدني إلخ الهمزة للإنكار ووراء بمعنى خلف . ورياح بكسر الراء بعدها
مثناة تحتية هو رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم . وبنوه هم :
همام وهرمي وحميري وزيد وعبد الله ومنقذ وجابر .
وقوله : فنعم الوفد إلخ الوفد : الجماعة . والفزع : الخوف . وإنما وصفه باليقين
لأن المدح إنما يكون لمن يغيث عند الخوف المتيقن لا الخوف المتوهم أو المظنون .
وقوله : عرين من عرينة إلخ عرين بفتح العين وكسر الراء : هو عرين بن ثعلبة بن
يربوع وهو مبتدأ وخبره من عرينة . وهو بضم العين وفتح الراء
____________________
وهو بطن من بجيلة من قبائل
اليمن وهو وبجيلة هي أم عبقر وهي بجيلة بنت سعد العشيرة وهي أم جماعةٍ كل منهم بطن
بها يعرفون . وجملة : ليس منا خبر ثان أو مستأنفة . يريد : إن عريناً قحطاني لا
عدناني وإنما نفاه عن نسبه وجعله قحطانياً نكاية في فضالة فإنه من ولد عرين .
وقوله : برئت إلى عرينة إلخ قال ابن هشام في شرح الشواهد : الأصل برئت إليه منه
فأناب الظاهرين عن الضميرين لإيضاح المتبرأ منه من المتبرأ إليه ولأن إيقاع
البراءة على صريح اسم عرين أبلغ .
وقال العيني : يقال برىء إليه بمعنى برىء له لأن إلى تجيء مرادفة للام . ويجوز أن
تكون إلى للغاية . والمعنى برئت من عرين منتهياً إلى عرينة فيكون إلى عرينة حال .
هذا كلامه .
وقوله : عرفنا جعفراً وبني أبيه أي : إخوته وهم جعفر وجهور وعبيد . وكذا عرين
أخوهم لكنه نفاه منهم . وجميعهم أولاد ثعلبة بن يربوع . وثعلبة هو أخو كليب بن
يربوع . وجرير من أولاد كليب فرياح ثعلبة وكليب إخوة . وروى : عرفنا جعفراً وبني
عبيدٍ وقوله وأنكرنا زعانف إلخ نا : فاعل وزعانف : مفعوله . وهذا تعريض بفضالة من
بني عرين بأنه من الملحقين والأتباع لا من الصريح الخالص النسب . وزعانف : جمع
زعنفة بكسر الزاي قال محمد بن حبيب : الزعانف : الأتباع واحدة زعنفة وهو من زعانف
الثوب : أهدابه التي تنوس منه . وكذلك لئام الناس ورذالهم إنما هو من أطراف الأديم
وأخبثه .
____________________
وآخرين : صفة لموصوف محذوف أي : قوم آخرين كذا قال الشارح المحقق .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب . )
وأنشد بعده ( الشاهد الثمانون بعد الخمسمائة ) الخفيف ( نضر الله أعظماً دفنوها **
بسجستان طلحة الطلحات ) على أن السماع والاستعمال في نحو : طلحة وهو كل علم مذكر
مختوم بالهاء جمعه بالألف والتاء ولم يسمع جمعه بالواو والنون .
وقد بسط ابن الأنباري الكلام على هذه المسألة في مسائل الخلاف فلا بأس بإيراده قال
: ذهب الكوفيون إلى أن الاسم الذي آخره تاء التأنيث إذا سمي به رجلٌ يجوز أن يجمع
بالواو والنون نحو : طلحة وطلحون . وإليه ذهب ابن كيسان إلا أنه يفتح اللام فيقول
: طلحون بالفتح كما قالوا : أرضون حملاً على أرضات . واحتج الكوفيون بأنه في تقدير
جمع طلح لأن جمع قد تستعمله العرب على تقدير حذف حرفٍ من الكلمة قال الشاعر :
الرجز وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم
____________________
فكسره على ما لا هاء فيه .
وإذا كانت الهاء في تقدير الإسقاط جاز جمعه بالواو والنون .
ويدل لنا أنا أجمعنا على أنه لو سمي رجل بحمراء أو حبلى جمع بالواو والنون .
ولا خلاف أن ما في آخره ألف التأنيث أشد تمكناً في التأنيث مما في آخره تاء
التأنيث لأن ألف التأنيث صيغت الكلمة عليها ولم تخرج الكلمة من التذكير إلى
التأنيث وتاء التأنيث ما صيغت الكلمة عليها وأخرجت الكلمة من التذكير إلى التأنيث
.
ولهذا المعنى قام التأنيث بالألف في منع الصرف مقام شيئين بخلاف التأنيث بالتاء .
فإذا جاز أن يجمع بالواو والنون ما في آخره ألف التأنيث وهي أوكد من التاء فلأن
يجوز فيما آخره التاء كان ذلك من طريق الأولى .
وأما ابن كيسان فاحتج على ذلك بأنه إنما جوزنا جمعه بالواو والنون لأن التاء تسقط
في الطلحات فإذا سقطت وبقي الاسم بلا تاء جاز جمعه بالواو والنون كقولهم : أرض
وأرضون . وكما حركت العين في أرضون بالفتح حملاً على أرضات فكذلك حركت العين من
الطلحون حملاً على الطلحات لأنهم يجمعون ما كان على فعلة من الأسماء دون الصفات
على فعلات بالتحريك . )
وقال البصريون : لا يجوز هذا الجمع . والدليل على امتناعه أن نحو طلحة فيه علامة
التأنيث والواو والنون علامة التذكير فلو قلنا إنه يجوز الجمع بالواو والنون لأدى
إلى أن يجمع في اسم علامتان متضادتان وذلك لا يجوز . ولهذا إذا وصفوا المذكر
بالمؤنث فقالوا : رجل ربعة جمعوه ربعاتٍ بلا خلاف ولم يقولوا : ربعون .
والذي يدل على صحة هذا القياس أنه لم يسمع من العرب في جمع هذا الاسم إلا بالألف
والتاء كقولهم في طلحة : طلحات وهبيرة : هبيرات ولم يسمع عن أحدٍ من العرب أنهم
قالوا : الطلحون .
فإذا كان هذا الجمع مدفوعاً من جهة القياس معدوماً من جهة النقل وجب أن لا يجوز .
____________________
وأما قولهم إنه في التقدير جمع طلح ففاسد لأن الجمع إنما وقع على جميع حروف الاسم
وتاء التأنيث من جملته فلم ننزعها عنه قبل الجمع وإن كان اسماً لمذكر لئلا يكون
بمنزلة ما سمي به ولا علامة فيه . فالتاء في جمعه مكان التاء في واحده .
وأما ما استشهدوا به من قولهم : وعقبة الأعقاب في الشهر الأصم فهو مع شذوذه وقلته
لا تعلق له بما وقع الخلاف فيه لأن الجمع التصحيح ليس على قياس جمع التكسير ليحمل
عليه .
وأما قولهم : إنا أجمعنا على جمع نحو حمراء وحبلى علمين بالواو والنون .
قلنا : إنما جاز لأن ألف التأنيث يجب قلبها إلى بدل لأنها صيغت الكلمة عليها
فتنزلت منزلة بعضها فلم يفتقر لعلامة تأنيث الجمع بخلاف التاء فإنه يجب حذفها إلى
غير بدل لأنها ما صيغت عليها الكلمة وإنما هي بمنزلة اسمٍ ضم إلى اسم فجعلت علامة
تأنيث الجمع عوضاً منها .
وأما قول ابن كيسان : إن التاء تسقط في الطلحات فإذا سقطت جاز الجمع ففاسد لأن
التاء وإن كانت محذوفة لفظاً إلا أنها ثابتة تقديراً لأنهم لما أدخلوا تاء التأنيث
في الجمع حذفوا هذه التاء التي كانت في الواحد لأنهم كرهوا أن يجمعوا بين علامتي
تأنيث .
وكان حذف الأولى أولى لأن في الثانية زيادة معنى فإن الأولى تدل على التأنيث فقط
والثانية تدل على التأنيث والجمع وهي حرف إعراب فحذف الأولى بمنزلة ما حذف لالتقاء
الساكنين فإنه وإن كان محذوفاً لفظاً إلا أنه ثابت تقديراً . )
والذي يدل على فساد ما ذهب إليه من فتح العين من الطلحون أن هذا الجمع يسلم فيه
نظم
____________________
فأما قوله : إن العين حركت من
أرضون بالفتح حملاً على أرضات . قلنا : لا نسلم وإنما غير فيه لفظ الواحد لأنه
جمعٌ على خلاف الأصل لأن الأصل في هذا الجمع أن يكون لمن يعقل ولكنهم لما جمعوه
بالواو والنون غيروا فيه نظم الواحد تعويضاً عن حذف تاء التأنيث فيه تخصيصاً له
بشيء لا يكون في سائر أخواته مع أن هذا التعويض تعويض جواز لا تعويض وجوب .
ألا ترى أنهم لا يقولون في جمع شمس شمسون ولا في جمع قدر قدرون فلما كان هذا الجمع
في أرض على خلاف القياس أدخل فيه ضربٌ من التغيير فأما إذا جمع من يعقل بالواو
والنون فلا يجوز أن يجعل بهذه المثابة لأن جمعه بحكم الأصل فلا يجوز أن يدخله
تغيير .
ويخرج على هذا حذف التاء وفتح العين من طلحات . أما حذف التاء فلأن التاء الثانية
صارت عوضاً عنها لأنها للتأنيث . وأما أنتم فحذفتم من غير عوض فبان الفرق .
وأما فتح العين فلأجل الفصل بين الاسم والصفة فإن ما كان على فعلة من الأسماء فإنه
يفتح منه العين نحو : جفنان وقصعات . وما كان صفةً فإنه لا يحرك منه العين نحو :
صعبات .
وأما جمع التصحيح فلا يدخله شيءٌ من هذا التغيير . سواءٌ كان اسماً أو صفة . فبان
الفرق بينهما . والله أعلم .
انتهى كلام ابن الأنباري مختصراً .
واعلم أن فتح عين فعلة الاسمي في الجمع واجبٌ ويجوز تسكينه في الضرورة كما يأتي في
بابه .
ومنه قول البحتري : المتقارب ( وكيف يسوغ لكم جحده ** وطلحتكم بعض طلحاته )
____________________
خلافاً لأبي العلاء المعري في
شرحه فإنه زعم أنه غير ضرورة .
وقوله : طلحة الطلحات روي بالجر والنصب .
قال أبو حيان في تذكرته : حكى الكسائي والفراء عن العرب هذا البيت بخفض طلحة على
تكرير الأعظم أي : أعظم طلحة الطلحات .
وما اختلفوا في جواز نصب طلحة بالرد على الأعظم والحمل على إعرابها . انتهى .
وجعل ابن عصفور في كتاب الضرائر الجر من الضرورة . قال : ومنه حذف المضاف من غير
أن يقام المضاف إليه مقامه نحو قوله : )
بسجستان طلحة الطلحات في رواية من خفض طلحة يريد أعظم طلحة الطلحات فحذف المضاف
الذي هو أعظم لدلالة أعظم المتقدم الذكر عليه . ولم يقم المضاف إليه وهو طلحة
مقامه بل أبقاه على خفضه .
انتهى .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : والأشبه عندي أن تخفضه بإضافة سجستان إليه
لأنه كان أميرها . انتهى .
وقول ابن حيان : نصب طلحة بالرد على الأعظم يعني البدلية .
وزعم بعضهم أنه بدل كل من بعض . وزاد هذا القسم في الأبدال . والصحيح أنه بدل كل
من كل بجعل أعظم من قبيل ذكر البعض وإرادة الكل بدليل المعنى .
وقال ابن السيد البطليوسي في أبيات المعاني : من نصب طلحة فعلى إضمار أعني لأنه
نبه عليه بضرب من المدح لما تقدم من الترحم عليه .
وذهب آخرون في نصبه إلى حذف حرف الجر كأنه أراد رحم الله أعظماً دفنوها لطلحة فلما
حذف الجار نصب . وقد دفع قومٌ النصب وأنشدوه بالجر
____________________
على تقدير مضاف كأنه في
التقدير : أعظم طلحة الطلحات ثم حذف الثاني لدلالة الأول عليه . وهذا شاذٌّ يقل في
كلامهم حذف الجار مع بقاء عمله . انتهى .
وطلحة الطلحات هو أحد الأجواد المشهورين في الإسلام واسمه طلحة بن عبد الله بن خلف
الخزاعي . وأضيف إلى الطلحات لأنه فاق في الجود خمسة أجواد اسم كل واحدٍ منهم طلحة
وهم طلحة الخير وطلحة الفياض وطلحة الجود وطلحة الدراهم وطلحة الندى .
وقال إبراهيم الوطواط في كتاب الغرر والخصائص الواضحة : قيل سمي بذلك لأنه كان
أجودهم وقيل لأنه وهب في عامٍ واحدٍ ألف جارية فكانت كل جارية منهن إذا ولدت
غلاماً تسميه طلحة على اسم سيدها .
وذكر الطلحات الخمسة وهم طلحة بن عبيد الله التيمي وهو طلحة الفياض وطلحة بن عمر
بن عبيد الله بن معمر التيمي أيضاً وهو طلحة الجود .
وطلحة بن عبد الله بن عوف الزهري أخي عبد الرحمن بن عوف وهو طلحة الندى . وطلحة بن
الحسن بن علي بن أبي طالب وهو طلحة الخير . )
وطلحة بن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق ويسمى طلحة الدراهم . وطلحة ابن عبد الله
بن خلف الخزاعي وهو سادسهم المشهور بطلحة الطلحات . انتهى .
____________________
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : سمي طلحة الطلحات بسبب أمه وهي صفية بنت
الحارث بن طلحة بن أبي طلحة وأخوها طلحة بن الحارث فقد تكنفه الطلحات كما ترى ففصل
بهذه الإضافة من غيره من الطلحات . وكانوا ستة . انتهى .
وكان والي سجستان وبها مات .
قال الزمخشري في أمثاله : ( يا طلح أكرم من مشى ** حسباً وأعطاه لتالد ) ( منك
العطاء فأعطني ** وعلي حمدك في المشاهد ) فحكمه فقال : فرسك الورد وقصرك بزرنج
وغلامك الخباز وعشرة آلاف درهم . فقال طلحة : أفٍّ لك لم تسألني على قدري وإنما
سألتني على قدرك وقدر قبيلتك باهلة والله لو سألتني كل فرسٍ وقصرٍ وغلامٍ لي
لأعطيتك ثم أمر له بما سأل وقال : والله ما رأيت مسألة محكم ألأم منها .
قال ياقوت في معجم البلدان : سجستان : ناحيةٌ كبيرة وولاية واسعة . ذهب بعضهم إلى
أن سجستان اسمٌ للناحية وأن اسم مدينتها زرنج بتقديم
____________________
المعجمة على المهملة وبينها
وبين هراة عشرة أيام ثمانون فرسخاً وهي جنوبي هراة . وأرضها كلها رملة سبخة
والرياح فيها لا تسكن أبداً . ولا تزال شديدة تدير رحيهم وطحنهم كله على تلك الرحي
. وهي من الإقليم الثالث وفيها نخلٌ كثير وتمر .
ونضر بمعنى حسن . والمشهور : رحم الله أعظماً .
والبيت أول قصيدةٍ عدتها أربعة عشر بيتاً لقيس الرقيات رثى بها طلحة الطلحات وبعده
: ( كان لا يحرم الخليل ولا يع ** تل بالبخل طيب العذرات ) في الزاهر لابن الأنباري
قال الأصمعي : العذرة : فناء الدار . والعذرات : أفنية الدور . وكانوا فيما مضى
يطرحون النجاسات في أفنية دورهم فسموها باسم الموضع وكذلك الغائط هو عند العرب ما
اطمأن من الأرض وكانوا فيما مضى إذا أراد الرجل قضاء حاجته طلب الموضع المطمئن من
الأرض فكثر هذا حتى سموا الحدث باسم الموضع . )
وكذلك الكنيف في كلام العرب : الحظيرة التي تعمل للإبل فتكنفها من البرد فسموا ما
حظروه وجعلوه موضعاً للحدث بذلك الاسم تشبيهاً به . انتهى .
وقد تقدمت ترجمة قيس الرقيات في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة .
____________________
وأنشد بعده : الوافر ( فما وجدت بنات ابني نزارٍ ** حلائل أسودين وأحمرينا ) على
أن ابن كيسان استدل بهذا البيت على جواز جمع أحمر وأسود بالواو والنون وهو عند
غيره شاذ .
والبيت قد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الرابع والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل وقائلةٍ خولان فانكح فتاتهم على أن فانكح عند الأخفش خبر
المبتدأ الذي هو خولان والفاء زائدة في الخبر وعند سيبويه غير زائدة والأصل عنده :
هذه خولان فانكح فتاتهم .
والمصراع صدرٌ وعجزه : وأكرومة الحيين خلوٌ كما هيا وتقدم الكلام عليه مستوفًى في
الشاهد السابع والسبعين من باب المبتدأ .
____________________
وخولان : حيٌّ من أحياء اليمن .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الرجز إنك
إن يصرع أخوك تصرع على أن إلغاء الشرط المتوسط بين المبتدأ والخبر ضرورة فإن جملة
تصرع خبر إن والجملة دليل جزاء الشرط وجملة الشرط معترضةٌ بين المبتدأ والخبر .
ويأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في الجوازم : ( يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع **
إني أخوك فانظرن ما تصنع ) ( إنك إن يصرع أخوك تصرع ** إني أنا الداعي نزاراً
فاسمعوا ) ( في باذخٍ من عز مجدٍ يفرع ** به يضر قادرٌ وينفع ) ( وأدفع الضيم غداً
وأمنع ** عزٌّ ألد شامخٌ لا يقمع ) ( يتبعه الناس ولا يستتبع ** هل هو إلا ذنبٌ
وأكرع )
____________________
( وزمعٌ مؤتشب مجمع ** وحسبٌ
وغلٌ وأنفٌ أجدع ) قال ابن الأعرابي في نوادره : كان جرير بن عبد الله البجلي تنافر
هو وخالد ابن أرطاة الكلبي إلى الأقرع بن حابس وكان عالم العرب في زمانه .
والمنافرة : المحاكمة من النفر لأن العرب كانوا إذا تنازع وتفاخر الرجلان منهم
وادعى كل واحدٍ أنه أعز من صاحبه تحاكما إلى عالم فمن فضل منهما قدم نفره عليه أي
: فضل نفره على نفره .
فقال الأقرع : ما عندك يا خالد فقال : ننزل البراح ونطعن بالرماح ونحن فتيان
الصياح .
فقال : ما عندك يا جرير فقال : نحن أهل الذهب الأصفر والأحمر المعتصر نخيف ولا
نخاف ونطعم ولا نستطعم . ونحن حيٌّ لقاحٌ نطعم ما هبت الرياح . نطعم الدهر ونصوم
الشهر ونحن فقال الأقرع : واللات والعزى لو نافرت قيصر ملك الروم وكسرى عظيم الفرس
والنعمان ملك العرب لنفرت عليهم .
____________________
وروى : لنصرت عليهم .
فقال عمرو بن خثارم البجلي هذه الأرجوزة في تلك المنافرة .
وقوله : يا أقرع بن حابس هو من الصحابة رضي الله عنهم وكانت هذه المنافرة في
الجاهلية )
قبل إسلامه . والصرع : الهلاك .
ونزار هو أبو قبيلة وهو نزار بن معد بن عدنان .
والباذخ : العالي يقال : جبلٌ باذخ بمعجمتين . والمجد : العظمة والشرف . ويفرع :
أي : يعلو كل عزٍّ ومجد . يقال : فرعت قومي أي : علوتهم بالشرف ونحوه . وهو بالفاء
ومهملتين .
والألد : الأشد . ولده يلده : غلبه في الخصومة . والشامخ : المرتفع . ويقمع أي :
يقهر ويذل يقال : قمعه بالقاف والميم فانقمع .
وقوله : هل هو الضمير لخالد بن أرطاة الكلبي والأكرع : جمع كراع بالضم وهو مستدق
الساق استعاره لأسفل الناس كالذنب .
والزمع بفتح الزاي والميم هو رذال الناس . يقال : هو من زمع الناس . أي : مآخيرهم
.
والوغل بفتح الواو وسكون المعجمة . قال في الصحاح : والوغل : النذل من الرجال .
وأجدع بالجيم والدال المهملة : مقطوع الأنف .
وقوله : ننزل البراح بفتح الموحدة والحاء المهملة : المكان الذي لا سترة فيه من
شجر وغيره وهو منزل الكرماء .
وقوله : والأحمر المعتصر هو الخمر .
وقوله : حيٌّ لقاح بفتح اللام بعدها قاف قال في الصحاح : يقال : حيٌّ لقاح للذين
لا يدينون للملوك أو لم يصبهم في الجاهلية سباء .
____________________
وجرير بن عبد الله البجلي صحابي وكان جميلاً . قال عمر رضي الله عنه : هو يوسف هذه
الأمة . وقدمه عمر في حروب العراق على جميع بجيلة وكان لهم أثرٌ عظيم في فتح
القادسية .
ثم سكن جريرٌ الكوفة وأرسله علي رضي الله عنه رسولاً إلى معاوية ثم اعتزل الفريقين
وسكن قرقيساء حتى مات سنة إحدى وقيل أربع وخمسين .
وفي الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم بعثه إلى ذي الخلصة فهدمها .
وفيه قال : ما حجبني رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ أسلمت ولا رآني إلا تبسم .
كذا في الإصابة لابن حجر .
والأقرع بن حابس صحابيٌّ . قال ابن حجر في الإصابة : هو الأقرع ابن حابس بن عقال
بن محمد بن سفيان التميمي المجاشعي الدارمي . )
قال ابن إسحاق : وفد على النبي صلى الله عليه وسلم وشهد فتح مكة وحنيناً والطائف
وهو من المؤلفة قلوبهم . وقد حسن إسلامه .
وقال الزبير في النسب : كان الأقرع حكماً في الجاهلية وفيه يقول جرير وقيل غيره
لما تنافر إليه وهو والفرافصة أو خالد بن أرطاة : ( يا أقرع بن حابس يا أقرع **
إنك إن يصرع أخوك تصرع ) قال ابن دريد : اسم الأقرع بن حابس فراس وإنما قيل له
الأقرع لقرع كان برأسه . وكان شريفاً في الجاهلية والإسلام .
وروى ابن شاهين أنه لما أصاب عيينة بن حصن بني العنبر قدم وفدهم . فذكر القصة
وفيها : فكلم الأقرع بن حابس رسول الله صلى الله عليه وسلم في السبي . وكان
بالمدينة قبل قدوم السبي .
____________________
وفي ذلك يقول الفرزدق يفخر بعمه الأقرع : الطويل ( وعند رسول الله قام ابن حابسٍ
** بخطة سوارٍ إلى المجد حازم ) وأما عمرو بن خثارم البجلي فهو جاهلي والله أعلم .
هذا على وجه الاختصار وأما على وجه البسط فهو ما أورده أبو محمد الأعرابي في فرحة
الأديب قال : أملى علينا أبو الندى قال : كان سبب المنافرة بين جرير بن عبد الله
البجلي وبين خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث الكلبي أن كلباً أصابت في الجاهلية
رجلاً من بجيلة يقال له : مالك بن عتبة من بني عادية بن عامر بن قداد فوافوا به
عكاظ .
فمر العادي بابن عمٍّ له يقال له : القاسم بن عقيل بن أبي عمرو بن كعب بن عريج بن
الحويرث بن عبد الله بن مالك بن هلال بن عادية بن عامر بن قداد يأكل تمراً فتناول
من ذلك التمر شيئاً ليتحرم به فجذبه الكلبي فقال له القاسم : إنه رجلٌ من عشيرتي
فقال : لو كانت له عشيرةٌ منعته فانطلق القاسم إلى بني عمه بني زيد بن الغوث
فاستتبعهم
____________________
فقالوا : نحن منقطعون في
العرب وليست لنا جماعة نقوى بها . فانطلق إلى أحمس فاستتبعهم .
فقالوا : كلما طارت وبرة من بني زيد في أيدي العرب أردنا أن نتبعها فانطلق عند ذلك
إلى )
جرير بن عبد الله البجلي فكلمه فكان القاسم يقول : إن أول يوم أريت فيه الثياب
المصبغة والقباب الحمر اليوم الذي جئت فيه جريراً في قسر وكان سيد بني مالك بن سعد
بن زيد بن قسر وهم بنو أبيه .
فدعاهم في انتزاع العادي من كلب فتبعوه فخرج يمشي بهم حتى هجم على منازل كلبٍ
بعكاظ فانتزع منهم مالك بن عتبة العادي وقامت كلبٌ دونه فقال جرير : زعمتم أن قومه
لا يمنعونه . فقالت كلب : إن رجالنا خلوفٌ .
فقال جرير : لو كانوا لم يدفعوا عنكم شيئاً . فقالوا : كأنك تستطيل على قضاعة إن
شئت قايسناكم المجد وزعيم قضاعة يومئذ خالد بن أرطاة بن خشين بن شبث . قال :
ميعادنا من قابلٍ سوق عكاظ .
فجمعت كلبٌ وجمعت قسرٌ ووافوا عكاظ من قابل وصاحب أمر كلب خالد بن أرطاة فحكموا الأقرع
بن حابس بن عقال بن محمد بن سفيان بن مجاشع حكمه جميع الحيين ووضعوا الرهون على
يدي عتبة بن ربيعة بن عبد شمس في أشرافٍ من قريش .
وكان في الرهن من قسرٍ : الأصرم بن عوف بن عويف بن مالك بن ذبيان بن ثعلبة بن عمرو
بن يشكر بن علي بن مالك بن سعد بن نذير بن قسر .
ومن أحمس : حازم بن أبي حازم وصخر بن العلبة . ومن بني زيد بن الغوث ابن أنمار
رجلٌ .
ثم قام خالد بن أرطاة فقال لجرير : ما تجعل قال : الخطر في يدك . قال : ألف ناقة
حمراء في ألف ناقة حمراء .
فقال جرير : ألف قينة عذراء في ألف قينة عذراء وإن شئت فألف أوقية صفراء لألف
أوقية صفراء .
____________________
قال : من لي بالوفاء قال : كفيلك اللات والعزى وإسافٌ ونائلة وشمس ويعوق وذو
الخلصة ونسر فمن عليك بالوفاء قال : ودٌّ ومناة وفلس ورضا .
قال جرير : لك بالوفاء سبعون غلاماً معماً مخولاً يوضعون على أيدي الأكفاء من أهل
الله .
فوضعوا الرهن من بجيلة ومن كلب على أيدي من سمينا من قريش وحكموا الأقرع بن حابس
وكان عالم العرب في زمانه .
فقال الأقرع : ما عندك يا خالد فقال : ننزل البراح ونطعن بالرماح ونحن فتيان
الصباح )
فقال الأقرع : ما عندك يا جرير قال : نحن أهل الذهب الأصفر والأحمر المعتصر نخيف
ولا نخاف ونطعم ولا نستطعم . ونحن حيٌّ لقاح نطعم ما هبت الرياح نطعم الشهر ونضمن
الدهر ونحن ملوك القسر فقال الأقرع : واللات والعزى لو فاخرت قيصر ملك الروم وكسرى
عظيم فارس والنعمان ملك العرب لنفرتك عليهم وأقبل نعيم بن حجبة النمري وقد كانت
قسرٌ ولدته بفرسٍ إلى جرير فركبه جرير من قبل وحشيه فقيل : لم
____________________
يحسن أن يركب الفرس فقال جرير
: الخيل ميامن وإنا لا نركبها إلا من وجوهها .
وقد كان نادى عمرو بن خثارم أحد بني جشم بن عامر بن قداد فقال : الرجز ( لا يغلب
اليوم فتًى والاكما ** يا ابني نزارٍ انصرا أخاكما ) ( إن أبي وجدته أباكما ** ولم
أجد لي نسباً سواكما ) ( غيث ربيعٍ سبط نداكما ** حتى يحل الناس في مرعاكما ) (
أنتم سرور عين من رآكما ** قد ملئت فما ترى سواكما ) ( قد فاز يوم الفخر من دعاكما
** ولا يعد أحدٌ حصاكما ) ( وإن بنوا لم يدركوا بناكما ** مجداً بناه لكما أباكما
) ( ذاك ومن ينصره مثلاكما ** يوماً إذا ما سعرت ناراكما ) وقال أيضاً : الرجز (
يا لنزار قد نمى في الأخشب ** دعوة داعٍ دعوة المثوب ) ( يا لنزار ثم فاسعي واركبي
** يا لنزار ليس عنكم مذهبي ) ( يا لنزار إنني لم أكذب ** أحسابكم أخطرتها وحسبي )
____________________
( ومن تكونوا عزه لا يغلب **
ينمي إلى عزٍّ هجانٍ مصعب ) كأنه في البرج عند الكوكب وقال أيضاً : الرجز ( يا
أقرع بن حابسٍ يا أقرع ** إني أخوك فانظرن ما تصنع ) ( إنك إن يصرع أخوك تصرع **
إني أنا الداعي نزاراً فاسمعوا ) ( لي باذخٌ من عزه ومفزع ** به يضر قادرٌ وينفع )
) ( وأدفع الضيم غداً وأمنع ** عزٌّ ألد شامخٌ لا يقمع ) ( يتبعه الناس ولا يستتبع
** هل هو إلا ذنبٌ وأكرع ) ( وزمعٌ مؤتشبٌ مجمع ** وحسبٌ وغلٌ وأنفٌ أجدع ) وقال
أيضاً : ( يا أقرع بن حابسٍ يا أقرع ** إنك إن تصرع أخاك تصرع ) ( إني أنا الداعي
نزاراً فاسمع ** في باذخٍ من عزه ومفزع )
____________________
( قم قائماً ثمت قل في المجمع
** للمرء أرطاةٍ أيا ابن الأفدع ) فنفره الأقرع بمضر وربيعة ولولاهم نفر الكلبي .
وكانت القرابة بين بجيلة وولد نزار : أن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن
زيد بن كهلان بن سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان خرج حاجاً فتزوج سلامة بنت أنمار بن
نزار وأقام معها في الدار بغور تهامة فأولدها أنمار ابن إراشٍ ورجالاً .
فلما توفي إراش وقع بين أنمار بن إراش وإخوته اختلافٌ في القسمة فتنحى عن إخوته وأقام
إخوته في الدار مع أخوالهم . وتزوج أنمار بن إراش بهند بنت مالك ابن غافق بن
الشاهد فولدت أقيل وهو خثعم ثم توفيت .
فتزوج بجيلة بنت صعب بن سعد العشيرة فولدت له عبقر فسمته باسم جدها وهو سعد ولقب
بعبقر لأنه ولد على جبل يقال له : عبقر . وولدت أيضاً الغوث ووادعة وصهيبة وخزيمة
وأشهل وشهلاء وسنية وطريفاً وفهماً وجدعة والحارث . انتهى ما أورده أبو محمد
الأعرابي .
____________________
وظهر أنهما أرجوزتان على قافية العين أولاهما مرفوعة والثانية مجرورة .
والشاهد إنما يتأتى على الأولى .
وقد روى أيضاً : بالجمع يريد الأقرع وقومه . وعلى هذا لا شاهد فيه كالرجز الثاني .
وأنشد بعده : المنسرح ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا وكف ) على
أنه تحذف نون الجمع للضرورة كما هنا والأصل : الحافظون عورة العشيرة . )
وهذا على رواية نصب عورة . أما على رواية خفضها فالنون حذفت للإضافة .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
والوكف بفتح الواو والكاف وروى بدله : نطف بفتح النون والطاء المهملة وكلاهما
بمعنى العيب .
____________________
وأنشد بعده : الرجز وحاتم الطائي وهاب المئي على أنه حذف تنوين حاتم لالتقاء
الساكنين والمئي أصله المئين حذفت النون لضرورة الشعر كحذف التنوين .
وقد تقدم الكلام عليه مستوفًى في الشاهد الرابع والأربعين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده الكامل ( زعمت تماضر أنني إما أمت ** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي ) على
أن جمع أبينوها شاذ كما بينه الشارح المحقق .
وملخصه : أنه إما جمع أبينٍ مصغر أبنى كأعمى .
____________________
وأما جمع أبين مصغر أبنٍ بفتح الهمزة وهو جمع ابن بكسرها .
وإما جمع أبينٍ مصغر ابن بجعل همزة الوصل قطعاً .
وإما مصغر بنيين على غير قياس . فهذه أقوال أربعة .
قال أبو علي في باب من الجمع بالواو والنون من كتاب الشعر : قال الشاعر : السريع (
إن يك لا ساء فقد ساءني ** ترك أبينيك إلى غير راع ) لا يخلو قولهم أبينون في
تحقير أبناء من أن يكون مقصوراً من أفعال أو يكون تحقير أفعل أو يكون اسماً صيغ في
التحقير .
ولا يجوز أن يكون مقصوراً من أفعال لأن أفعالاً لم يقصر في موضعٍ غير هذا فلا
يستقيم أن يدعى فيه شيء ولا نظير له وقد خولف فيه . ولم يجىء في شيء كما جاء أسد
وأسد ونحوه .
فإن قلت : أوليس قد قالوا : صبيٌّ وصبية وغلام وغلمة وقالوا في التصغير : أصيببة
وأغيلمة )
وأفعلة من فعلة كأفعل من أفعال في أن كل واحدٍ جمع أدنى العدد جاء التكبير على
أحدهما ووقع التحقير على الآخر . وكذلك أبينون وإلى هذا يذهب بعض البغداديين .
فالجواب : لا يستقيم أن يكون هذا على أفعل وإن كان ما ذكرت من أدنى العدد يقوم
مقام الآخر لدخول الواو والنون وهماً في أنه للعدد القليل مثل البناء المبني له
فلا يستقيم إذ لم ينقل لحاق الواو والنون له كما لا يجتمع الحرفان لمعنًى واحد في
الكلمة .
____________________
ألا ترى أنك إذا جمعت اسماً فيه علامة التأنيث بالألف والتاء أزلتها بالحذف أو
القلب .
فكما أزلت العلامة فلم تجمع بينهما كذلك لا يستقيم أن تجمع بين الواو والنون وبين
بناء أدنى العدد لاجتماع شيئين لمعنًى واحد في الكلمة .
فإذا لم يستقم ذلك علمت أنه صيغ في التحقير كما قال كأنك حقرت أبنى مثل أعمى .
فإن قلت فمن أبيات الكتاب : الرجز ( قد شربت إلا دهيدهينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا )
فالقول في ذلك أنه ضرورة .
وكأن الذي استهواه أن أفعل جمعٌ من أبنية الجموع القليلة وقد جاء ضربان منه بالتاء
فهو أفعلة وفعلة فلما وافقتها أفعل في القلة وكان تأنيث الجمع قائماً فيه قدر أن
التاء فيه تلزم فقدر فيها التأنيث كما جاء في البناءين الآخرين .
فلما لم تثبت عوض منها كما عوض من العلامة التي ينبغي أن تثبت فيها فقال أبيكرين
كما قيل أرضون . فإذا كان كذلك لم تجتمع علامتان لمعنًى .
ألا ترى أن الياء كأنها عوض من علامة التأنيث كما أنها في أرضين كذلك . وأما
أبينون فإذا لم تكن فيه ضرورة وكان التصغير قد يصاغ فيه الأسماء التي لا تكون في
التكبير نحو : عشيشة وأنيسان كذلك تحمل أبنى على هذا النحو دون أفعل فيلزم فيه
اجتماع شيئين بمعنًى .
____________________
وأما الدهيدهينا فيشبه أن يكون لما حذف حرف اللين الذي كان يجب إثباته شبه ذلك
بعلامة التأنيث من حيث الحذف فجعل الواو والنون عوضاً من ذلك كما جعلها عوضاً من
علامة التأنيث . انتهى كلام أبي علي .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة ذهب سيبويه إلى أن الواحد المكبر من هذا الجمع أبنى
على وزن أفعل مفتوح العين بوزن أعمى ثم حقر أيضاً فصار أبين كأعيمٍ ثم جمع بالواو
والنون )
فصار أبينون ثم حذفت النون للإضافة فصارت أبينوها .
وذهب الفراء إلى أنه كسر ابناً على أفعل مضموم العين ككلب وأكلب .
ويذهب البغداديون في هذه المحذوفات إلى أنها كلها سواكن العين . فأبين عندهم
كأديلٍ كما أن أبنٍ ذلك المقدر عندهم كأدل . وكأن سيبويه إنما عدل إلى أن جعل
الواحد من ذلك أفعل اسماً واحداً مفرداً غير مكسر لأمرين : أحدهما : أن مذهبه في
ابنٍ أنه فعل بدلالة تكسيرهم إياها على أفعال وليس من باب فعل أو فعل .
والآخر : أنه لو كان أفعل لكان لمثال القلة ولو كان له لقبح جمعه بالواو والنون .
وذلك أن هذا الجمع موضوعٌ للقلة فلا يجمع بينه وبين مثال القلة لئلا يكون ذلك
كاجتماع شيئين لمعنًى واحد وذلك مرفوضٌ في كلامهم .
ورأى مع هذا أنه قد جاء في أسماء الجموع المفردة غير المكسرة ما هو على أفعل مفتوح
العين وهو ما أنشده أبو زيد من قوله : الطويل ( ثم رآني لا أكونن ذبيحةً ** وقد
كثرت بين الأعم المضائض )
____________________
كذا رواه الأعم بفتح العين
ومثله أثأبة وأثأب وأضحاة وأضحى . وهذه أسماءٌ مفردة غير مكسرة . وكذلك أروى وله
نظائر . واعتصم الفراء فيما ذهب إليه بقول الشاعر : ( قد رويت إلا دهيدهينا **
قليصاتٍ وأبيكرينا ) وكان يروى : الأعم بضم العين فهذا عنده كصكٍّ وأصك وضبٍّ وأضب
. وكيف تصرفت الحال فرواية أبي زيد في النفوس بحيث لا ريب .
وأما قوله : ( من يك لا ساء فقد ساءني ** ترك أبينيك إلى غير راع ) فيحتمل أمرين :
أحدهما : أن يكون الياء فيه علم الجمع كالواو في قوله : أبينوها .
والآخر : أنه واحد الأبنين على ما تقدم من الخلاف فيكون على قول صاحب الكتاب تحقير
ابنى كأعمى وعلى قياس قول الفراء تحقير أبنٍ كأدلٍ فيكون اللام ياء . انتهى .
واقتصر ابن الشجري في أماليه على مذهب سيبويه قال : وأشكل ما في هذا الاسم وهو
أبنٍ )
قولهم في جمع مصغره : أبينون في هذا البيت .
لا يجوز أن يكون أبينون جمعاً لمصغر ابن لأنه لو كان كذلك لقيل : بنيون . ولا يجوز
أن يكون جمعاً لمصغر أبناءٍ لأنه لو كان كذلك لقيل : أبيناؤون .
ولو أرادوا هذا لاستغنوا بقولهم : أبيناءٌ عن جمعه بالواو والنون . وإذا بطل الأول
____________________
والثاني فإن قولهم : أبينون
جمعٌ لتصغير اسم للجمع وليس بجمع ولكنه كنفرٍ ورهط وهو مما قدروه ولم ومثاله أبنى
مقصور بوزن أعشى ثم حقر فصار إلى أبينٍ مثل أعيش ثم جمع فقيل : أبينون وأصله
أبينيون ففعل به ما فعل في القاضون . انتهى .
وبقي مذهبٌ خامسٌ نقله الخطيب التبريزي في شرح هذا البيت من الحماسة عن أبي العلاء
المعري قال : زعم أبو العلاء أن أبينوها تصغير أبناءٍ .
ولما ذكر سيبويه هذا الجمع عبر بعبارةٍ توهم أنه جمع أبنى على أفعل ثم صغر كما
يقال : أعشى وأعيشٍ والجمع أعيشون .
وإنما أراد أن الألف التي في أبناءٍ وبعدها الهمزة تحذف فيصير تصغيره كتصغير أفعل
.
كأن أبا العلاء يريد أن مكبر هذا الجمع أبنى على وزن أفعل مفتوح العين بوزن أعمى
ثم حقر فصار أبينٍ كأعيمٍ ثم جمع بالواو والنون فصار أبينون ثم حذفت النون للإضافة
.
وكان الأصل أبناءً على أفعال فالهمزة لام الكلمة وهي منقلبةٌ من واو فلما حذفت
الألف من أفعال رجعت اللام إلى ما كانت فصارت ألفاً في آخر الكلمة فصار أبنى كأعمى
ثم صغر على ما تقدم .
وقال : ويحسن أن يقال : جمع ابناً على أفعل لأن أصله فعل كما يقال : زمنٌ وأزمن ثم
صغره وجمعه .
وقال قوم : إنما أراد بنيون وابن من ذوات الواو فنقلها إلى أول الاسم ثم همزها
للضمة كما قالوا : وجوه وأجوه .
____________________
فقوله : أبينوها على هذا تصغير أبنى مقصوراً عند البصريين وهو اسمٌ صيغ للجمع
كأروى وأضحى فهو على أفعل بفتح العين . انتهى .
والبيت من قصيدةٍ عدتها أحد عشر بيتاً لسلمي بن ربيعة من بني السيد بن ضبة أوردها
أبو تمام في الحماسة وهي : الكامل ) ( حلت تماضر غربةً فاحتلت ** فلجاً وأهلك
باللوى فالحلة ) ( وكأن في العينين حب قرنفلٍ ** أو سنبلاً كحلت به فانهلت ) (
زعمت تماضر أنني إما أمت ** يسدد أبينوها الأصاغر خلتي ) ( تربت يداك وهل رأيت
لقومه ** مثلي على يسري وحين تعلتي ) ( رجلاً إذا ما النائبات غشينه ** أكفى
لمعضلةٍ وإن هي جلت ) ( ومناخ نازلةٍ كفيت وفارسٍ ** نهلت قناتي من مطاه وعلت ) (
وإذا العذارى بالدخان تقنعت ** واستعجلت نصب القدور فملت ) ( دارت بأرزاق العفاة
مغالقٌ ** بيدي من قمع العشار الجلة )
____________________
( وصفحت عن ذي جهلها ورفدتها
** نضحي ولم تصب العشيرة زلتي ) ( وكفيت مولاي الأحم جريرتي ** وحبست سائمتي على
ذي الخلة ) وقد روى هذه القصيدة القالي في أماليه وأبو الحسن الأخفش في شرح نوادر
أبي زيد كما نقلناها .
قوله : حلت تماضر غربةً إلخ قال الإمام المرزوقي : تماضر : امرأته وكانت فارقته
عاتبةً عليه في استهلاكه المال وتعريضه النفس للمعاطب فلحقت بقومها فأخذ هو يتلهف
عليها ويتحسر في أثرها وأثر أولاده منها .
فيقول : نزلت هذه المرأة بعيدةً منك فاحتلت فلجاً وأهلك نازلون بين الموضعين .
وهذا الكلام توجعٌ .
وفلج : على طريق البصرة . والحلة : موضع من الحزن ببلاد ضبة . واللوى : رمل متصل
به رقيق .
وبين المواضع التي ذكرها تباعد .
فإن قيل : لم قال حلت ثم قال : احتلت قلت : نبه بالأول أنها اختارت البعد منه
والتغرب عنه وبالثاني الاستقرار فكأنه قال : نزلت في الغربة فاستوطنت فلجاً . وفلج
بفتح اللام : بلد وفلج بسكون اللام : ماء . انتهى .
وقال الأسود أبو محمد الأعرابي في شرح الحماسة : هذه المرأة فارقته إما بطلاق وإما
مغاضبة فأسف عليها .
والحلة بفتح المهملة وكسرها : موضعٌ حزن وصخورٌ ببلاد ضبة . واللوى هنا : موضعٌ
بعينه . )
____________________
والغربة بفتح الغين المعجمة : الأرض البعيدة . وفلج بالفتح والسكون : وادٍ بطريق
البصرة إلى مكة ببطنه منازل للحاج وبينه وبين فلج زعموا مسيرة عشرٍ . انتهى .
وقال التبريزي : قوله غربة أي : دار بعيدة . والحلة : موضعٌ في بلاد بني ضبة .
وقالوا : هي حزنٌ ببلاد ضبة . انتهى .
وتماضر من أسماء النساء . قال ابن جني في إعراب الحماسة : التاء في تماضر عندنا
فاءٌ وإنما لم يصرف عندنا هذا الاسم لما فيه من التعريف والتأنيث لا لأنه بوزن
تفاعل فتماضر إذاً كقراقر وعذافر . وكذا القياس في تاء جمل ترامز . انتهى .
والظاهر أن تماضر تفاعل والتاء زائدة لا أصلٌ إذ هو من مضر . وإليه ذهب أبو العلاء
المعري في شرح ديوان البحتري قال : تماضر بضم التاء وكسر الضاد وهو منقول من فعل
مضارع كما سميت المرأة تكتم وتكنى .
وكان في النسخة أي من ديوان البحتري قال : تماضر بفتح التاء وضم الضاد . وهذا غلط
وذكر ابن السراج عن قومٍ من النحويين أنهم جعلوا تماضر في الأبنية التي أغفلها
سيبويه . وهذا وهم لأن تماضر تفاعل من قولك : ماضرت تماضر . فإما أن يكون
____________________
مأخوذاً من اللبن الماضر وهو
الحامض وقيل : الأبيض فكأنه من ماضرت الرجل إذا سقيته وسقاك اللبن . وإما أن يكون
من مضر كأنه من ماضرته إذا ناسبته إلى مضر . انتهى .
وقد تبعه تلميذه الخطيب التبريزي هنا وقال : تماضر من أسماء النساء . وقد ذكرها
بعض الناس فيما أغفله سيبويه من الأبنية . وليس الأمر كذلك لأن تماضر مسماة بالفعل
المضارع الذي هو مأخوذ من اللبن الماضر وهو الحامض أو من قولهم : عيش مضر أي :
ناعم وقيل : المضر : الأبيض . انتهى .
وقوله : وكأن في العينين إلخ قال المرزوقي : يقول : ألفت البكاء لتباعدها فجادت
العينان بإسالة دمعهما غزيراً متحلباً منهما فكأن في عيني أحد هذين المهيجين
الحالبين للعيون .
وقوله : كحلت إخبارٌ عن إحدى العينين وساغ ذلك لما في العلم من أن حالتيهما لا
تفترقان ومتى اجتمع شيئان في أمر لا يفترقان فيه اجتزىء بذكر أحدهما عن الآخر .
انتهى .
والقرنفل والسنبل من أخلاط الأدوية التي تحرق العين وتسيل الدموع . وانهل واستهل
إذا سال . )
وقوله : زعمت تماضر أنني إلخ قال المرزوقي في زعمت : يتردد بين الشك واليقين . وها
هنا يريد بن الظن . وأنني مع معموليها نائب عن مفعوليه .
يقول : ظنت هذه المرأة أنه إن نزل بي حادث قضاء الله تعالى سد مكاني ورم ما يتشعث
من حالها بزوالي أبناؤها الأصاغر .
____________________
ويريد بهذا الكلام التوصل إلى الإبانة عن محله وأنه لا يغني غناءه من الناس إلا
القليل . يقال : سد فلانٌ مسد فلان وسد خلته وناب منابه وشغل مكانه بمعنًى واحد .
فإن قيل : كيف ساغ أن يقول يسدد خلتي وإذا مات لم تكن له خلةٌ قلت : أضافها إلى
نفسه لما كان يسدها أيام حياته فكأنه قال : الخلة التي كنت أسدها . وهذا من إضافة
الشيء إلى الشيء على المعتاد فيهما .
ومثله قولهم : شهاب القذف فأضيف الشهاب إلى القذف لما كان من رمي الرامي . ووجوه
الإضافات واسعةٌ كثيرة وكذلك متعلقاتها . انتهى .
وقال الأسود : أرته الاستغناء عنه بأطفالها . وهذا يدل على أنها غاضبةٌ وهي في
حباله .
والخلة بفتح المعجمة : الفرجة والثلمة التي يتركها بموته . والخلة : الضعف والوهن
والخلة : الفقر .
والخليل : الفقير والخلة : الخصلة .
قال المرزوقي في ترب : يستعمل في الفقر والخيبة لا غير . وأترب يستعمل في الغنى
والفقر جميعاً فإذا أريد به الغنى فالمعنى صار له من المال بعدد التراب وإذا أريد
به الفقر فالمعنى : صار في التراب كما يقال : أسهل إذا صار في السهل .
وقد يجوز أن يكون مثل أقل والمعنى صار مالك قليلاً من المال .
وقوله : حين تعلتي : المعنى : وحين اعتمدت على إقامة العلة لحصول الفقر .
وعلى هذا قوله : الطويل
____________________
قليل ادخار الزاد إلا تعلةً
أي : قدر ما يقام به العلة . أقبل عليها يوبخها ويخطىء رأيها ويكذب ظنها ويقبح
اختيارها في إفاتة نفسها الحظ منه ويدعو عليها بالفقر والخيبة في الرجاء فقال :
صار في يدك التراب وهل رأيت لقومه من يماثلني في حالتي السراء والضراء حتى تعلقي
مثل رجائك في بغيري إذا أخليت مكاني . انتهى . )
وقال الأسود : أي : خاب رجاؤك حين تعدلين بي أطفالاً وقد رأيت الرجال أعياهم مكاني
.
وتربت يداك معناه صار في يدك التراب أي : لك الخيبة مما أملت . وهي كلمةٌ تقال
للمخطىء وجه القصد .
وقال التبريزي : التعلة من عللت كأنه أراد حين أفتقر فأحتاج إلى العلل أي : الحجج
أو إلى أن أعلل نفسي كما يعلل العليل .
قال ابن جني : قوله : وحين تعلتي معطوف على موضع قوله : يسري أي : على وقت يسري
وحين تعلتي .
ومثلي يحتمل أمرين : أحدهما : أن يكون مفعول رأيت فينتصب رجلاً في البيت بعده على
التمييز كقولك : لي مثله عبداً أي : من العبيد فيكون تقديره : مثلي من الرجال
الذين إذا غشوا كفوا .
والآخر : أن يكون أراد هل رأيت رجلاً مثلي فلما قدم مثلي وهو وصفٌ نكرة نصبه على
الحال منها .
واللام في قوله : لقومه متعلقة بنفس رأيت كقولك : رأيت لبني فلان نعماً وعبيداً .
____________________
وإن جعلت مثلي مفعول رأيت كانت الهاء في قومه له . وإن جعلته حالاً مقدمة فالهاء
لرجل .
وقوله : رجلاً إذا ما النائبات إلخ قال المرزوقي : رجلاً بدل من مثلي كأنه قال :
هل رأيت لقومه رجلاً أكفى للشدائد وإن عظمت عند طروق النوائب وغشيان الحوادث مني
فحذف مني لأن المراد مفهوم .
والمعضلة : الداهية الشديدة . يقال : أعضل الأمر إذا اشتد . ويروى : لمضلعة وهي
التي تضم الأضلاع بالزفرات وتنفس الصعداء حتى تكاد تحطمها .
وقوله : ومناخٍ نازلةٍ إلخ . قال المرزوقي : أخذ يعدد ما كانت كفايته مقسومةً فيه
ومصروفةً إليه . ومناخ : مصدر أنخت .
وكفيت يتعدى إلى مفعولين وقد حذفهما كأنه قال : كفيته العشيرة .
يقول : رب نازلةٍ أناخت أنا دفعت شرها وكفيت قومي الاهتمام بها ورب فارسٍ سقيت
رمحي من دم ظهره العلل بعد النهل . وخص الظهر ليعلم أنه أدبر عنه وولى .
وقوله : وإذا العذارى بالدخان إلخ . قال المرزوقي : أقبل يعدد الخصال المجموعة فيه
من الخير بعد )
أن نبه على أنه لا يقوم مقامه أحد فكيف من طمعت في نيابته عنه .
يقول : وإذا أبكار النساء صبرت على دخان النار حتى صار كالقناع لوجهها لتأثير
البرد فيها ولم تصبر لإدراك القدور بعد تهيئتها ونصبها فشوت في الملة قدر ما تعلل
به نفسها من اللحم لتمكن الحاجة والضر منها ولإجداب الزمان واشتداد السنة على
أهلها أحسنت .
____________________
وجواب إذا في البيت بعده . وخص العذارى بالذكر لفرط حيائهن ولتصونهن عن كثيرٍ مما
يتبذل فيه غيرهن . وجعل نصب القدور مفعول استعجلت على المجاز والسعة . ويجوز أن
يكون وقال الأسود : ويروى : تلفعت . واللفاع : الملحفة . والقناع : المقنعة . أي :
غشين الدخان حتى صار لهن كاللفاع أو القناع من شدة البرد . واستعجلت نصب القدور
فملت أي : ألقت اللحم في الملة جوعاً وضراً لم تصبر إلى إدراك القدر .
قال التبريزي : وعلى هذا يكون وملت بالواو وغير أبي تمام يرويه : الكامل واستبطأت
نصب القدور فملت وقال ابن جني : ملت هنا من ملة النار لا من الملالة أي : بادرت
للضرورة الخبز قبل القدر .
وهذا البيت أورده البيضاوي عند قوله تعالى : ولهم فيهم أزواج مطهرة واستشهد به على
جواز جمع الصفة وإفرادها في مطهرة . وقرأ زيد بن علي : مطهراتٌ وهما لغتان فصيحتان
.
وقوله : دارت بأرزاق العفاة إلخ هو جمع عافٍ وهو كل طالب رزق من الناس وغيرهم .
ومغالقٌ : فاعل دارت وهي قداح الميسر جمع مغلق ومغلاق بكسرهما مأخوذ من غلق الرهن
لأنه من فاز سهمه غلق نصيبه فذهب به غير منازع فيه . قاله الأسود .
____________________
وقال المرزوقي : وإنما سميت القداح مغالق لأن الجزر تغلق عندها وتهلك بها . والقمع
بفتحتين : قطع السنام الواحدة قمعة .
والعشار : جمع عشراء وهي الناقة التي قد أتى عليها من حملها عشرة أشهر وتستصحب
والجلة بكسر الجيم : المسان الواحدة جليلة . ومنه : ما له دقيقةٌ ولا جليلة أي :
شاة ولا ناقة .
قال المرزوقي : قوله أرزاق العفاة كلامٌ شريف يقول : وإذا صار الزمان كذا دارت
القداح في الميسر بيدي لإقامة أرزاق الطلاب من أسنمة النوق المسان الكبار الحوامل
التي قرب عهدها بوضع الحمل . وكل ذلك يضن به ويتنافس فيه .
وقال الأسود : قوله بيدي فيه قولان : )
أحدهما : أن ذوات الأنصباء من القداح سبعة وعدد الأيسار سبعة فإذا نقص منهم واحدٌ
أخذ أحد الستة قدحه وأخرج من ثمن الجزور نصيبه ثم جعل إحدى يديه ضاربةً بقدح نفسه
والأخرى بقدح صاحبه .
وإنما أراد بذلك التمدح بأنه يضرب بقدحين لا أنه يفرد لهذا يداً ولهذا أخرى .
وإياه أراد متمم بن نويرة بقوله : الطويل ( بمثنى الأيادي ثم لم تلف مالكاً ** من
القوم ذا قاذورةٍ متزبعا )
____________________
والآخر : أنه أراد : يقرع بين
إبله أيها ينحر فقال : بيدي ليعلم أنه لم يرد مقارعة إنسان غيره .
انتهى .
وقال بعضهم : في البيت مبالغات : ثانيها : جمع الرزق والعافي .
ثالثها : الدلالة على أنه غارم لا فائز .
رابعها : قوله يدي بالتثنية .
خامسها : إيثار السنام الذي هو أطيب ما في الإبل .
سادسها : العشار وهي أنفس الإبل عند العرب .
سابعها : قمعها وتعريفها .
ثامنها : أن العفاة ما لهم موئل غيره . وفيه غير ذلك .
وقوله : ولقد رأبت ثأى العشيرة إلخ . قال الأسود : رأبت رأباً : أصلحت .
والثأى كالعصا : الصدع .
وقد ثأى الخرز إذا انخرمت خرزتان فصارتا واحدة أي : ما كان بينها من نائرة أطفأت
أو جناية غرمت وكفيت جانبها اللتيا والتي وهما من أسماء الدواهي واللتيا أصغر من
التي وهي في الأصل تصغيرها ثم هما من الأسماء الموصولة وحذفت صلتها .
وذلك في عظم الأمر وشدته كأنه قال : كفيته التي عظمت شدتها وتناهت بليتها . وكأنه
يريد باللتيا صغار المغارم . أي : غرمها في ماله . وبالتي عظامها كالدم يعقله عن
القاتل ونحوه .
____________________
وقال المرزوقي : يقول : وكما ظهر غنائي في تلك الأبواب فلقد سعيت في إصلاح ذات
البين من العشيرة وكفيت من جنى منها الجناية الصغيرة والكبيرة بالمال والنفس
والجاه والعز . )
وقوله : جانيها إن فتحت الياء كان واحداً وإن أدى معنى الجمع . وإن سكنت الياء جاز
أن يكون جمعاً سالماً وأن يكون واحداً حذف فتحتها .
وقال ابن جني : بينها متعلق بنفس الثأى أي : أصلحت الفساد بينها . والهاء في
جانيها ضمير العشيرة أي : كفيت جاني العشيرة الداهية التي جناها على نفسه .
ولا يجوز أن يكون ها ضمير اللتيا أي : جاني الداهية وذلك أن الجاني هو المفعول
الأول وهو مقدم في موضعه .
فلا يجوز أن يتعلق به ضمير المفعول الثاني لأنه إنما يتقدم ضمير الشيء عليه إذا
كان رتبته أن يكون بعده فأما أن يتقدم ضمير الشيء عليه متعلقاً بما رتبته التقديم
على صاحب الضمير فذلك تقديم الضمير على مظهره لفظاً ومعنًى وهذا عندنا غير جائز
البتة وإنما المتجوز من ذلك أن يتقدم الضمير على مظهره لفظاً على أن يكون متأخراً
عنه معنى . فأما تقدمه عليه لفظاً ومعنى فلا .
ألا ترى : لا تقول ضرب غلامها هنداً . ولكن تقول : ضربت غلامها هند . فكذلك لا
يكون ها كما لا تجيز أعطيت مالكه درهماً ولا كسوت صاحبها جبة ولكن تقول : أعطيت
درهمه زيداً وكسوت ثوبه عمراً .
وقد يجوز مع هذا كله أن تكون ها من جانيها ضميراً للتيا على حد ما يجيزه من : أعطي
الدرهم زيداً وأدخل القبر عمراً على القلب .
وعلى هذا أجازوا : مررت بالمكسوته جبةٌ ولقيت المعطاه درهمٌ . فكأن اللتيا والتي
على هذا هي المكفية جانيها كما أن الجبة هي المكسوة زيداً فهو على قولك : كفيت
اللتيا جانيها .
فاعرفه . انتهى ولنفاسته سقناه برمته .
____________________
وقوله : وصفحت عن ذي جهلها إلخ قال الأسود : أكمل مكرمة صلاح ذات البين بما أردفه
من الإغضاء على ما بدر من جاهلها . أي : من جهل منهم علي صفحت عنه ولم أجهل عليه .
وقوله : تضحي أراد تضحي وتمسي فاكتفى بذكر أحدهما من الآخر . ووجه آخر : خص الغداة
بالذكر لأن جناة الشر يتوخون به ظلام الليل إرادة أن يخفى ذلك . انتهى .
وقد صحف هذه الكلمة وحرفها وإنما هي نصحي بالصاد المهملة . قال المرزوقي : يصف
نفسه بالحلم معهم ومع سفهائهم يقول : عفوت عن جاهلها فلم أؤاخذه بما يدر منه من
هفوة أو )
زلة ثم بذلت نصحي لعشيرتي بمقدار جهدي ولم أجر عليه جريرتي .
وقوله : ولم تصب العشيرة زلتي أي : إن زل ولا عصمة كفى نفسه ولم يشتد عليه الأمر
فيفتقر إلى من يكفيه أو يعينه .
وقوله : وكفيت مولاي الأحم إلخ قال الأسود : الأحم بالمهملة هو الأخص الأدنى من
الحميم .
وهو تفسيرٌ لقوله : ولم تصب العشيرة زلتي وتأكيدٌ للإكمال .
يقول : إن جررت جريرةً أغنيت فيها نفسي عن ابن عمي الأدنى فضلاً عن الأبعد وحبست
سائمتي يريد السوام وهو المال الراعي .
وقد سامت الماشية : دخل بعضها في بعض في الرعي . وهذا إغراقٌ بعد التأكيد أي :
حبستها عن المرعى على ذي الخلة بالفتح أي : الفقر ليختار منها على عينه كما قال :
الطويل
____________________
يخير منها في البوازل والسدس
انتهى .
قال ابن جني : اعلم أن هذا الشاعر لزم اللام قبل هذه التاء في هذه الأبيات وليست
بواجبةٍ من حيث كان الروي إنما هو التاء .
ووجه ذلك فيما ذهب إليه قطرب : أن هذه التاء في الفعل نظيرة الهاء في الاسم . فكما
يلزم ما قبلها في نحو : قائمة وسائمة فكذلك التزم ما قبلها في نحو : ضنت وحنت .
نعم وقد يلتزم الشاعر المدل ما لا يجب عليه ثقةً بنفسه وشجاعةً في لفظه . وقد ذكرت
من هذا الطرز في كتاب المعرب ما يتجاوز قدر الكفاية .
وسلمي بن ربيعة روي بوجهين : أحدهما : بضم السين وتشديد الياء التحتية قال ابن جني
في المبهج : هو اسمٌ مرتجل .
وثانيهما : سلمى بفتح السين والقصر قال أبو الحسن الأخفش : وقع في نسختي من نوادر
أبي زيد بهذا الضبط وحفظي بالوجه الأول .
والسيد بكسر السين قال ابن جني : السيد : الذئب والأنثى سيدانة بزيادة الألف
والنون .
وضبة أيضاً : اسم منقول من ضبة الحديد ومن أنثى الضب ونحوه .
____________________
وسلمي شاعرٌ جاهلي وهذه نسبته من جمهرة ابن الكلبي : سلمي بن ربيعة بن زبان بفتح
الزاي وتشديد الموحدة ابن عامر بن ثعلبة بن ذئب بن السيد ابن مالك بن بكر بن سعد
بن ضبة )
بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار بن معد ابن عدنان .
ومن ولد سلمي في الإسلام : يعلى بن عامر بن سالم بن أبي سلمي بن ربيعة كان على
خراج الري وهمذان .
ومن ولده أيضاً : المفضل الراوية بن محمد بن يعلى بن عامر بن سالم المذكور . ( الشاهد
الثالث والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز ( قد شربت إلا
الدهيدهينا ** قليصاتٍ وأبيكرينا ) على أن جمع مصغر دهداه وجمع مصغر بكر على ما في
البيت . شاذٌّ .
أنشد سيبويه هذا الرجز وقال : والدهداه : حاشية الإبل فكأنه حقر دهاده فرده إلى
الواحد وهو دهداه وأدخل الياء والنون كما تدخل في أرضين وسنين وذلك حيث اضطر في
الكلام إلى أن يدخل ياء التصغير .
____________________
وأما أبيكرينا فإنه جمع الأبكر ولكنه أدخل الياء والنون كما أدخلها على الدهيدهين
. انتهى .
وقد تقدم عن أبي علي في البيت قبله ما يتعلق به .
وقال ابن جني في إعراب الحماسة : وأما أبيكرين فقد يمكن على قول سيبويه أن يقال إن
واحدها أبكر بفتح العين في هذا الموضع .
ألا ترى أنك لم تسمع العين في هذا البيت مفتوحة ولا مضمومة . فإن قلت : فقد سمعت
في غير هذا الموضع أبكر بضم العين قيل : أجل قد سمع هذا بضم عينه وغير منكر أن
يكون الخروج ألا تراهم قالوا : رجل ورجال فكسروه ثم قالوا رجلة فصاغوا للجمع اسماً
مفرداً . وكذلك الجمال والأجمال هذا مع قولهم الجامل .
فكذلك لا ينكر أن يكون أبكر بضم العين جمعاً مكسراً أو يكون واحد أبيكرين المكبر
أبكر بفتح العين وإن لم يسمع مكبراً لكن يدل عليه ما انحرف عند سيبويه من اعتقاد
جمع أمرين لمعنًى واحد . وهذا واضحٌ .
وكذلك ينبغي أن يقال في قول الآخر : الرجز ( أشكو إلى مولاي من مولاتي ** تربط
بالحبل أكيرعاتي ) وذلك أن الألف والتاء موضوعان للقلة وضع الواو والنون لها . فلا
يحسن أن يكون الواحد )
المكبر من أكيرعات أكرعة ولا أكرعاً بضم العين لأنهما مثالاً قلة . فعلى قياس قوله
في أبينون ما يجب أن يقال في الواحد المكبر من أكيرعات إنه أكرع . على وزن أفعل
بفتح العين الأعمى والأروى . انتهى .
____________________
وقال في سر الصناعة أيضاً عند سرد ما جمع بالواو والنون من كل مؤنث معنوي كأرض أو
مؤنث بالتاء محذوف اللام كثبة ما نصه : فإن قلت : فما بالهم قالوا : فجمعوا تصغير
دهداهٍ وهو الحاشية من الإبل وأبيكراً وهو جمع بكر بالواو والنون وليسا من جنس ما
ذكرت فالجواب : أن أبكراً جمع بكر وكل جمع فتأنيثه سائغٌ مستمر لأنه جماعةٌ في
المعنى .
وكأنه قد كان ينبغي أن يكون في أبكر وأكلب وأعبد هاء . فيكون تقديرها أكلبة وأبكرة
وأعبدة كما قالوا في غير هذا : فحالةٌ : جمع فحل وذكارة : جمع ذكر .
فكما جاز أن تأتي الهاء في هذه المجموع كذلك جاز أيضاً أن تقدر في أبكر الهاء
فيصير كأنه أبكرة .
وقد جاءت الهاء في أفعلٍ نفسها .
قال : الطويل ( بأجريةٍ بقعٍ عظام رؤوسها ** لهن إذا حركن في البطن أزمل ) فهذا
جمع جرو . وأجريةً أفعلة . فألحق الهاء في أفعل .
ويدلك على أنه أراد أفعل قول الآخر : مجزوء الكامل ( وتجر مجريةٌ لها ** لحمي إلى
أجرٍ حواشب )
____________________
وجاز أن تجمع فعلاً على أفعل
وأفعلة وأفعل لفعلٍ مفتوحة الفاء من حيث كان فعل وفعل ثلاثيين ساكني العينين وقد
اعتقبا أيضاً على المعنى الواحد نحو : حج وحج وفص وفصٍّ ونفط ونفط .
وإذا ثبت أن أفعل من أمثلة الجموع ويجوز في الاستعمال والقياس تأنيثه . لم ينكر أن
يعتقد في أن أبكراً قد كان ينبغي أن يكون فيها هاء تأنيث الجماعة فصار إذن جمعهم
إياها بالواو والنون في قوله : أبيكرونا إنما هو عوض من الهاء المقدرة في أبكر
فجرى ذلك مجرى أرض في جمعهم )
إياها بالواو والنون في قولهم : أرضون .
فأما دهيدهينا فإن واحده دهداه وهو القطعة من حاشية الإبل فهو نظير الصرمة والهجمة
فكأن الهاء فيها لتأنيث الفرقة والقطعة كما أن الهاء في عصبة وطائفة لتأنيث
الجماعة فكأنه كان في التقدير : دهداهة فلما حذفت الهاء فصار دهداهاً جمع تصغيره
بالواو والنون تعويضاً من الهاء المقدرة .
قال أبو علي : وحسن أيضاً جمعه بالواو والنون أنه قد حذفت ألف دهداه في التحقير
ولو جاء على أصله لقيل : دهيديه بوزن صلصال وصليصيلٍ فواحد دهيدهينا إنما هو دهيده
وقد حذفت الألف من مكبره فكان ذلك أيضاً مسهلاً للواو والنون وداعياً إلى التعويض
بهما . انتهى كلامه .
وإليه ذهب يوسف بن السيرافي في شرح شواهد الغريب المصنف قال : أبيكرينا جمع أبيكر
وأبيكر تصغير أبكر وأبكر جمع بكر وهو في الإبل بمنزلة
____________________
الشاب في الناس . وهذه
العلامة لا تكون إلا لجمع المذكر العاقل في الكلام وربما أدخلها الشاعر إذا احتاج
. وتدخل على كثير من الأسماء النواقص .
والبيتان من رجز أورده أبو عبيدٍ القاسم بن سلام في الغريب المصنف قال الحاشية
صغار الإبل والدهداه مثل ذلك .
قال الراجز : الرجز ( يا وهب فابدأ ببني أبينا ** ثمت ثن ببني أخينا ) ( وجيرة
البيت المجاورينا ** قد رويت إلا الدهيدهينا ) ( إلا ثلاثين وأربعينا ** قليصاتٍ
وأبيكرينا ) قال ابن السيرافي : نصب الدهيدهينا على الاستثناء .
وقوله : إلا ثلاثين بدلٌ من الدهيدهينا . وقليصات بدل من ثلاثين . انتهى .
وجعله قليصات بدلاً من البدل جائز مشهور ولم يجعله بدلاً من الدهيدهينا لأنه لم
يعرف تعدد البدل في غير بدل البداء كما قاله أبو حيان وابن هشام في بحث إذ من
المغني .
أحمد ربي الله خير مالك فجعل خير بدلاً من الجلالة لا من الرب قال : وأما دعوى
الدماميني الجواز أخذاً من كلام ابن )
الحاجب في الأمالي فاشتباه لأن ابن الحاجب قال في الكلام على آية غافر : الأحسن أن
ذي الطول بدل ثان من المبدل الأول . فقال الدماميني : فيه دليل بينٌ على جواز تعدد
المبدل منه .
انتهى .
وابن الحاجب لم يقل من المبدل منه بل قال من المبدل يعني البدل . انتهى .
____________________
وقوله : يا وهب هو اسم راعٍ يسقي الإبل . وأبينا وأخينا كلاهما جمع أب وأخ .
وقليصات بكسر الياء المشددة جمع مصغر قلوص وهي الناقة الشابة .
وقد روى بدل شربت : رويت ونهلت .
وهذا الرجز مع كثرة الاستشهاد به لم يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الخمسمائة ) الطويل على أن أهلاً وإن
كان غير علم لمذكر عاقل ولا صفةً له لكنه جمعه هذا الجمع لتنزيله هذه الوحوش
الثلاثة منزلة الأهل الحقيقي . وكذلك ما بعده وهو : ( هم الأهل لا مستودع السر
ذائعٌ ** لديهم ولا الجاني بما جر يخذل ) وقبلهما : ( لعمرك ما بالأرض ضيقٌ على
امرىءٍ ** سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل ) والأبيات من قصيدة الشنفرى المشهورة
بلامية العرب وقد تقدم شرح أبياتٍ منها .
____________________
وقوله : لعمرك إلخ اللام لام الابتداء للتأكيد . وعمرك بفتح العين مبتدأ مضاف إلى
الكاف وخبره محذوف تقديره : قسمي . والعمر : بضم العين وفتحها : مدة الحياة خص
المفتوح القسم .
وقوله : ما بالأرض ما : نافية وبالأرض : خبر مقدم . وضيق : مبتدأٌ مؤخر والجملة
جواب القسم .
وجملة : سرى إلخ صفة لامرىء . وراغباً : حال من ضمير سرى وجملة : وهو يعقل حال
ثانية .
يعني : أن من فارق أهله وسافر رغبةً في أمر يطلبه أو خوفاً من شيء يجتنبه يرى سعةً
في حاله إن كان ممن يعقل فإنه يدبر نفسه بعقله ولا يضيع في الغربة .
وقوله : ولي دونكم أهلون إلخ التفات من الغيبة إلى الخطاب خاطب به أهله . )
وأهلون : مبتدأ ودونكم : ظرف كان في الأصل صفة لأهلون فلما قدم عليه صار حالاً منه
.
ودون هنا : بمعنى غير ولي : خبر مقدم لأهلون .
وقوله : سيدٌ عملس خبر لمبتدأ محذوف أي : هم سيد وأرقط وعرفاء . يقول : اتخذت هذه
الوحوش أهلاً بدلاً منكم لأنها تحميني من الأعداء ولا تخذلني في حالة الضيق .
____________________
وهذا تعريضٌ بعشيرته في أنهم لا حماية لهم كهذه الحيوانات ولا غيرة لهم على من
جاورهم فضلاً عن الحميم القريب مثل هذه الوحوش .
والسيد بكسر السين المهملة : مشترك بين الأسد والذئب ومراده الثاني ولهذا عينه
بالوصف .
وكذلك فعل بأرقط وعرفاء .
والعملس بفتح العين المهملة والميم واللام المشددة القوي على السير السريع .
وأرقط : ما فيه نقط بياضٍ وسواد مشترك بين حيوانات منها النمر والحية . وأراد
الأول ولهذا وصفه بزهلول بضم الزاي وهو الأملس وقيل : الخفيف وهو من أوصاف النمر .
والعرفاء : مؤنث الأعراف . قال صاحب العباب : يقال للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها .
وأنشد هذا البيت .
وقال الخطيب التبريزي في شرح القصيدة : العرفاء : الضبع التي تكون طويلة العرف
ليست ها هنا بنعت ولكنها في الأصل نعت فغلب فصار بمنزلة الأسماء غير النعوت حتى
إنه يقال : جاءتكم العرفاء فيفهم من هذا القول أن الضبع جاءت . وجيأل بفتح الجيم
وسكون المثناة التحتية بعدها همزة مفتوحة بدل من عرفاء .
قال صاحب العباب : جيأل على وزن فيعل : اسمٌ للضبع وهي معرفة بلا ألف ولام . وأنشد
هذا البيت .
وقوله : هم الأهل إلخ لما نزل هذه الوحوش منزلة الأهل ذكرهم بضمير العقلاء وعرف
الخبر لإفادة الحصر أي : هم الأهل لا غيرهم .
وبين وجهه بقوله : لا مستودع السر إلخ يعني : أن السر المستودع عندهم غير ذائع بل
مصون .
ولا الجاني بما جر يخذل عندهم بل يحمي . والجاني : الذي فعل جناية من قتل أو نهب
ونحوهما . وجر أي فعل جريرة بفتح الجيم وهي
____________________
التبعة والذنب . ويخذل : يترك
نصره يقال : خذلته وخذلت عنه من باب قتل والاسم الخذلان إذا تركت نصره وإعانته
وتأخرت عنه . )
وقد تقدمت ترجمة الشنفرى وهو شاعرٌ لصٌّ جاهلي في الشاهد السادس والعشرين بعد
المائتين .
وأنشد بعده : الوافر تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب .
وأراد بالذوين ملوك اليمن . كذي نواسٍ وذي رعين وذي أصبح .
وهو عجزٌ وصدره : فلا أعني بذلك أسفليكم والمشار إليه بذلك هو الهجو .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الخمسمائة ) الطويل
____________________
( ذراني من نجدٍ فإن سنينه **
لعبن بنا شيباً وشيبننا مردا ) على أن نون الجمع الذي جاء على خلاف القياس قد يجعل
معتقب الإعراب أي : محل تعاقبه . أي : تجري عليها الحركات واحداً بعد واحدٍ ولا
تحذف للإضافة كما في قوله : سنينه .
فالنون لما جرى عليها الإعراب لم تحذف مع إضافة الكلمة إلى ضمير نجد .
وفي كلامه شيئان : أحدهما : أنه غير خاصٍّ بالضرورة .
والأول موافقٌ لكلام أبي علي في إيضاح الشعر دون الثاني . قال في باب ما جعلت فيه
النون المفتوحة اللاحقة بعد الواو والياء في الجمع حرف إعراب بعد أن أنشد جميع
الأبيات الآتية .
اعلم أن هذه النون إذا جعلت حرف الإعراب صارت ثابتة في الكلمة فلم تحذف في الإضافة
كما لا تحذف نون فرسن ورعشن ونحوه وإن كانت زائدة ويكون حرف اللين قبلها الياء ولا
يكون الواو لأن الواو تدل على إعراب بعينه فلم يجز ثباتها من حيث لم يجز ثبات
إعرابين في الكلمة .
فأما من أجاز ثبات الواو في هذا الضرب من الجمع وزعم أن ذلك يجوز فيه قياساً على
قولهم : زيتون فقوله : بعيد من جهة القياس مع أنا لا نعلمه جاء في شيء منهم .
وذلك أن هذه الواو لم تكن قط إعراباً كما في مسلمون . وعلى ما ذهب إليه جاء
التنزيل : في )
عليين . انتهى .
____________________
وما ذهب إليه الشارح المحقق هو ظاهر كلام الفراء عند تفسير قوله تعالى : الذين
جعلوا القرآن عضين .
قال : العضون في كلام العرب : السحر . ويقال : عضوه أي : فرقوه كما تعضى الشاة
والجزور وواحد العضون عضة ورفعها عضون ونصبها وخفضها عضين .
ومن العرب من يجعلها بالياء على كل حالٍ ويعرب نونها فيقال هذه عضينك ومررت بعضينك
وسنينك .
وهي كثيرةٌ في أسد وتميم وعامر أنشدني بعضهم من بني عامر : ذراني من نجدٍ فإن
سنينه . . . . . . . . . . . . البيت ثم قال بعد أبيات مثلها : وإنما جاز ذلك في
هذا المنقوص الذي كان على ثلاثة أحرف فنقصت لامه فلما جمعوه بالنون وتوهموا أنه
فعول إذ جاءت الواو وهي واو جمع فوقعت في موقع الناقص فتوهموا أنها الواو الأصلية
وأن الحرف على فعول .
ألا ترى أنهم لا يقولون ذلك في الصالحين والمسلمين وما أشبهه . وما كان من حرف نقص
من أوله مثل زنة ودية ولدة فإنه لا يقاس على هذا . فما كان منه مؤنثاً أو مذكراً
فاجره على التمام مثل الصالحين . انتهى كلامه .
وكذلك قال ابن الشجري في أماليه قال : ومنهم من جعل النون في جمع سنة حرف الإعراب
وألزمها صأالياء وأثبت النون في الإضافة . ورفعها وخفضها ونونها تشبيهاً لها بنون
غسلين فقالوا : أقمت عنده سنيناً وعجبت من سنين زيد وأعجبتني سنينك . وأنشد البيت
.
وهذا مخالف لصنيع ابن جني في سر الصناعة فإنه خصه بالضرورة وجوزه في الجمع الحقيقي
.
وتبعه ابن عصفور في كتاب الضرائر قال : ومن العرب من يجعل الإعراب في النون من جمع
المذكر السالم .
____________________
وذلك كله لا يحفظ إلا في الشعر نحو قول الفرزدق : البسيط ( ما سد حيٌّ ولا ميت
مسدهما ** إلا الخلائف من بعد النبيين ) وقوله : البسيط ( وإن أتم ثمانيناً رأيت
له ** شخصاً ضئيلاً وكل السمع والبصر ) )
وقوله : الوافر ( وأن لنا أبا حسنٍ علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) وقوله :
الوافر وماذا يدري الشعراء مني . . . . . . . . البيت ووجه ذلك إجراء جمع السلامة
وما يجري مجراه مجرى المفرد ولذلك ثبتت النون في حال الإضافة كقوله : الكامل (
ولقد ولدت بنين صدقٍ سادةً ** ولأنت بعد الله كنت السيدا )
____________________
وقول الآخر : الوافر وقوله :
ذراني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
ومن إعراب الجمع بالحركة قول الشاعر : الخفيف ( رب حيٍّ عرندس ذي طلالٍ ** لا
يزالون ضاربين القباب ) فضاربين منصوبٌ بالفتحة على أنه خبر يزالون وهو مضاف
للقباب . والحي : القبيلة .
والعرندس كسفرجل : الشديد . والطلال بفتح المهملة : الحالة الحسنة والهيئة الجميلة
.
ومثله قول الزمخشري في المفصل : وقد يجعل إعراب ما يجمع بالواو والنون في النون
وأكثر ما يجيء ذلك في الشعر ويلزم الياء إذ ذلك قالوا : أتت عليه سنين .
وقال الشاعر : دعاني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقال
سحيم : وماذا تدري الشعراء مني . . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
____________________
قال شارحه ابن يعيش : اعلم أن من العرب من يجعل إعراب هذا الجمع في النون بشرط أن
يلحقه نقصٌ كسنين .
والشيخ قد أطلق هنا والحق ما ذكرته . انتهى . )
والبيت من قصيدة للصمة بن عبد الله القشيري وبعده : الطويل ( لحا الله نجداً كيف
يترك ذا الندى ** بخيلاً وحر الناس تحسبه عبدا ) ( على أن نجداً قد كساني حلةً **
إذا ما رآني جاهلٌ ظنني عبدا ) ( سواداً وأخلاقاً من الصوف بعدما ** أراني بنجدٍ
ناعماً لابساً بردا ) ( على أنه قد كان للعين قرةً ** وللبيض والفتيان منزله حمدا
) ( سقى الله نجداً من ربيعٍ وصيفٍ ** وجودٍ وتسكابٍ سقى مزنه نجدا ) قال ابن هشام
في شرح الشواهد : وكان من خبره أي : الصمة أنه خطب ابنة عمه فاشتط عمه في المهر
عليه وبخل عليه أبوه بالجمال فزوجت من غيره فغضب من عمه وأبيه وخرج إلى طبرستان
وهي مقر الديلم فأقام بها مدة حياته إلى أن مات فيها . فلهذا تارةً يحن إلى نجد
وتارة يذمه . انتهى .
وقوله : ذراني من نجد ويروى أيضاً : دعاني من نجد وهما بمعنى أي : اتركاني من ذكر
نجدٍ .
ونجد من بلاد العرب وهو خلاف الغور والغور هو
____________________
تهامة . وكل ما ارتفع من
تهامة إلى أرض العراق فهو نجد . وهو مذكر . كذا في الصحاح .
والسنين : جمع سنة وهي هنا إما بمعنى العام وإما بمعنى القحط . ويقال : أرض بني
فلان سنة إذا كانت مجدبة .
وشيباً حال من نا في بنا وهو بالكسر جمع أشيب وهو الذي ابيض شعره . ومردا : حالٌ
أيضاً من نا في شيبننا وهو جمع أمرد وهو الذي لا شعر بعارضيه .
وقوله : لحا الله نجداً إلخ في الصحاح لحاه الله أي : قبحه ولعنه . والندى : الجود
.
وروى بدله : الغنى وحر : معطوف على ذا الندى وجملة : تحسبه في موضع المفعول الثاني
.
وهذا البيت تعريضٌ بأبيه وعمه .
ونقل ابن المستوفي عن ثعلب أن المراد من هذا البيت أن عيش نجدٍ عيشٌ شديد لا بد أن
يقوم بالمال فيه وإلا ضاع .
ونقل عن ابن الأعرابي أيضاً أنه ذم نجداً لشتائه وقيظه . وهذا إنما يصح مع قطع
النظر عن سبب الشعر . ونقل أيضاً عن أبي زيد البيتين المذكورين وأنه قال : ذم
نجداً لشدة شتائه وقيظه . )
ولم أر في ديوان أبي زيد إلا البيت الشاهد غير مشروح بهذا الشرح ونقله أبو علي عن
أبي زيد في التذكرة القصرية ثم قال : قال ابن الهيصم هذا الشيخ الكوفي الذي يجلس
إلى أبي حاتم قال : أنشدني أعرابيٌّ بالشام هذا البيت وقبله بيتاً آخر وهو : ( لحا
الله نجداً كيف يترك ذا الغنى ** فقيراً وحر القوم تحسبه عبدا ) وهذا إنشاد طريف .
وسمعت أيضاً هذا البيت بقصر ابن هبيرة من أعرابي . انتهى .
____________________
وكأنه لم يقف على هذه القصيدة ولا على شيء من خبرها .
وقوله : على أن نجداً إلخ على هنا للاستدراك والإضراب وكذلك على الآتية . يريد أنه
لما تغرب وفارق نجداً افتقر ولبس الثياب الأخلاق السود من الصوف . وناعماً :
متنعماً مترفهاً .
وقوله : وللبيض والفتيان الجار والمجرور خبر مقدم ومنزله : مبتدأ مؤخر وهو مضاف
لضمير نجد .
والبيض : النساء الحسان . والفتيان : جمع الفتى وهو الشاب . والحمد هنا بمعنى
المحمود . وهذا تشوق منه إلى وطنه وتحزن على مفارقته منه .
ثم دعا له على طريقة العرب بقوله : سقى الله نجداً وقوله : من ربيع أي : من مطر
ربيع وجود معطوف عليه وهو بفتح الجيم : المطر الغزير . والمزن : السحاب .
والصمة شاعرٌ إسلامي في الدولة المروانية وهو بدوي ولجده مرة بن هبيرة صحبة مع
النبي صلى الله عليه وسلم .
وتقدم الكلام عليه وعلى نسبه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف فقال : هو الصمة بن عبد الله إلى آخر نسبه ثم
أورد له ثلاثة أبيات من شعره وأورد صمتين من الشعراء لبني جشم : أحدهما : صمة
الأكبر وهو مالك بن الحارث .
وثانيهما : صمة الأصغر وهو معاوية بن الحارث أخو مالك بن الحارث الصمة الأكبر .
وهذا الأصغر هو أبو دريد بن الصمة وكلاهما شاعرٌ فارسٌ جاهلي .
____________________
والصمة بالكسر للصاد المهملة وتشديد الميم .
وقد أورد ابن الأعرابي في نوادره البيت الشاهد فقط ونسبه إلى محجن بن مزاحم الغنوي
.
والله أعلم . )
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد الخمسمائة ) ( وماذا يدري الشعراء مني
** وقد جاوزت حد الأربعين ) لما تقدم قبله من أنه معرب بالحركة على النون .
قال المبرد في الكامل عند قول الفرزدق : المنسرح ( إني لباكٍ على ابني يوسفٍ جزعاً
** ومثل فقدهما للدين يبكيني ) ( ما سد حيٌّ ولا ميتٌ مسدهما ** إلا الخلائف من
بعد النبيين ) وابنا يوسف هما محمد أخو الحجاج السفاك ومحمد ابنه فإنه جاءه نعي
أخيه يوم مات ابنه .
____________________
قال : أما قوله : من بعد النبين فخفض هذه النون وهي نون الجمع وإنما فعل ذلك لأنه
جعل الإعراب فيها لا فيما قبلها وجعل هذا الجمع كسائر الجمع نحو : أفلس ومساجد
وكلاب فإن إعراب هذا كإعراب الواحد .
وإنما جاز ذلك لأن الجمع يكون على أبنيةٍ شتى وإنما يلحق منه منهاج التثنية ما كان
على حد التثنية لا يكسر الواحد عن بنائه وإلا فلا فإن الجمع كالواحد لاختلاف
معانيه كما تختلف معاني الواحد والتثنية ليست كذلك لأنها ضرب واحد لا يكون اثنان
أكثر من اثنين عدداً كما يكون الجمع أكثر من الجمع .
فمما جاء على هذا المذهب قولهم : هذه سنينٌ فاعلم وهذه عشرينٌ فاعلم . ( إني أبيٌّ
أبيٌّ ذو محافظةٍ ** وابن أبيٍّ أبيٍّ من أبيين ) ( وأنتم معشر زيدٌ على مائةٍ **
فأجمعوا كيدكم كلا فكيدوني ) وقال سحيم بن وثيل :
____________________
( وماذا يدري الشعراء مني **
وقد جاوزت رأس الأربعين ) ( أخو خمسين مجتمعٌ أشدي ** ونجذني مداورة الشؤون ) وفي
كتاب الله عز وجل : إلا من غسلين . فإن قال قائل : فإن غسلين واحد .
فجوابه أن كل ما كان على بناء الجمع من الواحد فإعرابه إعراب الجمع . ألا ترى أن
عشرين ليس لها واحدٌ من لفظها فإعرابها كإعراب مسلمين وواحدهم مسلم . وكذلك جميع
الإعراب .
ويقولون : هذه فلسطون يا فتى ورأيت فلسطين يا فتى وهذا القول الأجود . وكذلك :
يبرين )
وفي الرفع : يبرون يا فتى . وكل ما أشبه هذا فهو بمنزلته تقول : هذه قنسرون ورأيت
قنسرين .
والأجود في هذا البيت : المتقارب ( وشاهدنا الجل والياسمو ** ن والمسمعات بقصابها
) وفي القرآن ما يصدق ذلك قول الله عز وجل : كلا إن كتاب الأبرار لفي عليين . وما
أدراك ما عليون . انتهى .
فأما قول سحيم بن وثيل : وقد جاوزت حد الأربعين .
____________________
فليست النون حرف إعراب ولا الكسرة فيها علامة جر الاسم وإنما هي حركة التقاء
الساكنين وهما الياء والنون وكسرت على أصل حركة التقاء الساكنين ولم يفتح كما يفتح
نون الجمع لأن الشاعر اضطر إلى ذلك لئلا تختلف حركة الروي في سائر الأبيات .
ويدلك على أن الحركة التي هي الكسرة ليست جراً قول الشاعر : وابن أبيٍّ أبيٍّ من
أبيين فأبيون جمع أبي مثل ظريفون من ظريف .
فكما لا شك أن كسر نون أبيين إنما هي لالتقاء الساكنين لأنه جمع تصحيح فكذلك ينبغي
أن تكون كسرة نون الأربعين .
وكذلك قول الفرزدق : إلا الخلائف من بعد النبيين وهذا أيضاً جمع نبي على الصحة لا
محالة فكسرة نون الجمع في هذه الأشياء ضرورة وأجريت في ذلك مجرى نون التثنية . انتهى
. ( أقول لما أرى كعباً ولحيته ** لا بارك الله في بضعٍ وستين ) ( من السنين
تملاها بلا حسب ** ولا حياءٍ ولا عقلٍ ولا دين ) قال : كان أبو العباس يذهب في قول
سحيم : وقد جاوزت حد الأربعين إلى أن أخرجه على أصل التقاء الساكنين وهو الكسرة
ضرورة
____________________
.
ويؤكد ذلك ها هنا أيضاً قوله بعده من السنين فجاء بمن المرادة في جميع التفاسير من
أحد )
عشر إلى تسعة وتسعين .
ألا ترى أن أصل حركة عشرين درهماً إنما هو عشرون من الدراهم فمجيئه بالتمييز على
أصله يؤنسك بأن كسر نون السنين من قبلها هو أيضاً خروجٌ فيها عن الأصل غير أن
النون في السنين الثانية مفتوح على الاستعمال ولم يضطر إلى كسرها كما يضطر في
القافية قبلها . انتهى .
وأراد بأبي العباس المبرد وقد نقلنا كلامه وليس فيه ما نقله عنه وكلامه بعده غير
واضح .
انتهى أيضاً فتأمله .
وسحيم بن وثيل شاعرٌ إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل
الكتاب مع شرح عدة أبياتٍ من هذه القصيدة . ( عذرت البزل إن هي خاطرتني ** فما
بالي وبال ابني لبون ) البزل : جمع بازل وهو المسن من الإبل . وضربه مثلاً . يقول
: عذرت المسان من الشعراء إذا تعرضوا لي وهاجوني فكيف بغلامين حديثين يعني الأبيرد
____________________
والأخوص وكانا تعرضا له .
وقوله : وماذا يدري الشعراء إلخ يدري بالدال المهملة يقال : ادراه يدريه إذا ختله
وخدعه .
يقول : كيف يطمع الشعراء في خديعتي وقد جاوزت أربعين سنة وقاربت الخمسين وقد اجتمع
أشدي وجربت وعرفت الخديعة والمكر فلا يتم علي شيءٌ .
والشؤون : جمع شأن . ومداورتها : التقلب فيها والتصرف .
ونجذ بالذال المعجمة أي أحكم يقال : رجل منجذٌ إذا كان قد جرب الأمور ونجذته
الأمور إذا أحكمته كما يقال : حنكته التجارب .
والناجذ : آخر الأضراس ويقال له : ضرس الحلم . ومن ذلك قولهم : ضحك حتى بدت نواجذه
.
واجتماع الأشد عبارةٌ عن كمال القوى وتمام العقل .
وأنشد بعده الوافر غراث الوشح صامتة البرين لما تقدم قبله من أنه معرب بالحركة على
النون .
____________________
وهو جمع برة بضم الباء قال في الصحاح : كل حلقةٍ من سوار وقرط وخلخال وما أشبهها )
برة .
قال : الوافر وقعقعن الخلاخل والبرينا والبرة أيضاً : حلقة من صفر تجعل في لحم أنف
البعير .
وقال الأصمعي : تجعل في أحد جانبي المنخرين . قال : وربما كانت البرة من شعر فهي
الخزامة .
قال أبو علي : أصل البرة بروة لأنها جمعت على برًى مثل قرية وقرًى ويجمع براتٍ
وبرين .
انتهى .
والصواب أن أصلها بروة بضم الباء لا بفتحها نحو : غرفة وغرف وخصلةٍ وخصل .
وهذا المصراع عجزٌ وصدره : حسان مواضع النقب الأعالي وقد أورده أبو علي في كتاب
الشعر مع أبياتٍ أخر على طرز البرين من قصيدة هذا البيت وغيرها ثم قال : وقد ذكر
هذا الضرب من الجمع حتى لو جعل قياساً مستمراً كان مذهباً .
انتهى .
والبيت من قصيدة للطرماح عدتها سبعون بيتاً كلها غزلٌ ونسيب .
وقبله : ( ظعائن كنت أعهدهن قدماً ** وهن لدى الأمانة غير خون ) وبعده :
____________________
( طوالٌ مثل أعناق الهوادي **
نواعم بين أبكار وعون ) والظعائن : جميع ظعينة وهي المرأة ما دامت في الهودج .
والعهد : الحفظ بالبال . وقدماً بكسر القاف وسكون الدال قال في الصحاح : يقال
قدماً كان كذا وكذا وهو اسم من القدم جعل اسماً من أسماء الزمان .
وخون : جمع خائنة . وجملة : وهن لدى الأمانة إلخ حال من مفعول أعهدهن .
وقوله : حسان مواضع إلخ جمع امرأة حسنة بمعنى حسناء . والنقب بضم ففتح : جمع نقبة
بسكون الثاني هو اللون والوجه . كذا في الصحاح .
وأراد بالأعالي ما يظهر للشمس من الوجه والعنق وأطرافه فإنها مع ظهورها للشمس
والهواء )
والحر والبرد إذ كانت في غاية الحسن والصفاء ونهاية اللطف فغيرها يكون أحسن .
وغراث : جمع غرثان بمعنى الجوعان وأراد لازمه وهو الهزيل اللازم من الجوع .
والوشح بالضم : جمع وشاح بالكسر والضم وهو شيءٌ ينسج عريضاً من أديم ويرصع
بالجواهر وتشده المرأة بين عاتقيها وكشحيها .
____________________
قال في الصحاح : وامرأة غرثى الوشاح أي : دقيقة الخصر لا يملأ وشاحها فكأنه غرثان
.
وصامته أي : ساكتة . وسكوت البرة كناية عن امتلاء ساقيها لحماً بحيث لا يتحرك
ليسمع له صوت . والبرة هنا : الخلخال .
وقوله : طوال مثل إلخ هو جمع طويل وطويلة .
والمثل : الشبه . أراد تشبيه أعناقهن بأعناق الظباء .
ورواه المولى خسرو في حاشيته على البيضاوي بفتح الميم والشين المعجمة وتشديد اللام
على إضافة طوال إليه . قال : والمشل : مفعل من شللت الثوب أي : خطته والمراد به ما
يستر الأعناق . هذا كلامه .
وتبعه خضرٌ الموصلي في شرح شواهد التفسيرين ولا يخفى أن هذا تعسفٌ من تصحيف .
والعون : جمع عوان قال الجوهري : العوان : النصف في سنها من كل شيءٍ أي : المتوسطة
.
وقد أورد هذا البيت في التفسيرين شاهداً على أن العوان في قوله تعالى : عوانٌ بين
ذلك بمعنى النصف بين الحديثة والمسنة .
____________________
قال خضرٌ الموصلي : وتوقف بعضهم في الاستشهاد لأن بين يوصف بها الوسط وتضاف إلى
متعددٍ هما الطرفان لذلك الوسط .
وفي البيت الموصوف ببين هو النواعم والمتعدد الذي أضيفت هي إليه الأبكار والعون
فلزم أن يكون طرفاً والنواعم وسطاً فلم يدل على أن العوان النصف بل على ضده وهو
الطرف .
وأجاب عنه بعض الفضلاء بأن بين هنا مستعملةٌ للتنويع كما يقال : مركوب فلانٍ ما
بين البغل والفرس أي : مركوبه نوعان : بغل وفرسٍ فيكون المعنى أن الممدوحات نواعم
بعضها أبكارٌ وبعضها عونٌ . ولا شك أنها هي المتوسطات في السن وأما الصغار اللاتي
في سن الطفولية فلا يميل الطبع إليهن وكذا المسنات . فالتوسط معلومٌ من المقام .
أقول : إنما يتم الجواب أن لو استعمل بين التي للتنويع بغير ما والاستعمال يشهد
أنه لا بد منها )
فيقال : مركوب فلان ما بين بغل وفرس وثيابه ما بين خز وحرير ولا يقال بين كما صرح
به النحاس . انتهى .
والطرماح هو الطرماح بن حكيم الطائي شاعر إسلامي في الدولة المروانية ومولده
ومنشؤه بالشام ثم انتقل إلى الكوفة مع من وردها من جيوش أهل الشام فاعتقد مذهب
الشراة الأزارقة وذلك إنه لما قدمها نزل على تيم اللات بن ثعلبة وفيهم شيخٌ من
الشراة له سمةٌ وهيئة فكان يجالسه ويسمع منه فدعاه إلى مذهبه فقبله منه واعتقده
أشد اعتقادٍ حتى مات عليه .
قال ابن قتيبة : كان الكميت بن زيد صديقاً للطرماح لا يتفارقان في حال من الأحوال
فقيل للكميت : لا شيء أعجب من صفاء ما بينكما على تباعد ما بينكما من النسب
والمذهب والبلاد وهو شاميٌّ قحطانيٌّ خارجي وأنت كوفي نزاري
____________________
شيعي فكيف اتفقتما مع تباين
المذهب وشدة العصبية فقال : اتفقنا على بغض العامة .
والطرماح بكسر الطاء والراء المهملتين وتشديد الميم وآخره حاءٌ مهملة ووزنه فعمال
فالميم زائدة .
ولم نذكر بقية نسبه لأن في ألفاظها غرابة وغموضاً يحتاج إلى ضبط يطول به الكلام
ولا فائدة فيه .
والشراة : بضم الشين : الخوارج الواحد شارٍ كقضاة جمع قاض .
سموا بذلك لقولهم : إنا شرينا أنفسنا في طاعة الله أي : بعناها بالجنة حين فارقنا
الأئمة الجائرة . يقال : منه تشرى الرجل . كذا في الصحاح .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد الخمسمائة ) الوافر ( وأن لنا أبا حسنٍ
علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) لما تقدم قبله فإنه رفع بنين بالضمة على النون
مع لزوم الياء .
____________________
وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : إنه ضرورةٌ لا يحفظ إلا في الشعر .
وجعله خطأ أبو العباس المبرد في كتاب الروضة وخطأ قول أبي نواس : الطويل ( شمولٌ
تخطاها المنون فقد أتت ** سنينٌ لها في دنها وسنين ) ولحنه في قوله بعد هذا :
تخيرها بعد البنين بنون لأنه جمع في الكلمة إعرابين : إعراباً بالحرف وإعراباً
بالحركة . وهو غير مسموع في كلام العرب .
ذراني من نجدٍ فإن سنينه . . . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : وأن لنا بفتح
الهمزة لأنه معطوف على قوله : بأنا لا نزال لكم عدوا في بيت قبله كما سيأتي .
ورواه ابن عقيل وابن هشام في شرح الألفية : ( وكان لنا أبو حسنٍ عليٌّ ** أباً
براً ونحن له بنين ) ولنا كان في الأصل نعتاً لقوله : أب فلما قدم عليه صار حالاً
منه . ونحن : مبتدأ وبنين : خبره وصفته محذوفة بدليل ما قبله والتقدير : ونحن له
بنين أبرار
____________________
ولولا هذا التقدير لخلا الحمل
من فائدة . وروى أيضاً : ألم تر أن والينا علياً أبٌ بر . . . . . . . . . . . . .
إلخ والوالي من ولي الأمر يليه ولاية بكسر اللام فيهما وكسر الواو والبر بالفتح
قال صاحب المصباح : بر الرجل يبر براً وزان علم يعلم علماً فهو بر بالفتح وبارٌّ
أيضاً أي : صادق أو تقيٌّ وهو خلاف الفاجر وجمع الأول أبرار وجمع الثاني بررة مثل
كافر وكفرة .
وبررت والدي أبره براً وبروراً : أحسنت الطاعة إليه ورفقت به وتحريت محابه وتوقيت
مكارهه . وبر الحج واليمين والقول براً أيضاً فهو برٌّ وبارٌّ أيضاً . ويستعمل
متعدياً أيضاً بنفسه في )
الحج وبالحرف في اليمين والقول فيقال : بر الله الحج يبره بروراً أي : قبله .
وبررت في القول واليمين أبر فيهما بروراً أيضاً إذا صدقت فيهما فأنا برٌّ وبارٌّ .
وفي لغة يتعدى بالهمزة فيقال : أبر الله الحج وأبررت القول واليمين . والبر بالكسر
: الخير والفضل والمبرة مثله .
انتهى .
والبيت من أبيات لسعيد بن قيس الهمداني قالها في أحد أيام صفين وذلك أن معاوية دعا
أهل الشام فقال : إن علياً يخرج في سرعان الخيل فمن ينتدب له فقام عبد الرحمن بن
خالد فقال : أنا له .
فقال له معاوية : اقعد فلم أعهدك خفيفاً . فقال عبد الرحمن العكي : أنا له . فقال
له معاوية : أنت له لولا عجلتك في الحرب . فقال عمرو بن الحصين السكوني : أنا له .
فقال : أنت له حقاً فخرج في عك والصدف وخرج عليٌّ رضي الله عنه كعادته فترقبه
السكوني وحمل عليه من خلفه فلما كاد أن يطعنه اعترضه سعيد بن قيسٍ الهمداني فطعنه
طعنة
____________________
قصم بها صلبه فالتفت علي رضي
الله عنه فرأى السكوني صريعاً . ثم قتل سعيد بن قيس رجلاً من ذي رعين فجزع عليهما
معاوية جزعاً شديداً فقال سعيد بن قيس هذه الأبيات : الوافر ( غداة أتى أبا حسنٍ
علياً ** وأم النقع مشبلةٌ طحون ) ( ليطعنه فقلت له خذنها ** مسومةً يخف لها
القطين ) ( أقول له ورمحي في صلاه ** وقد قرت بمصرعه العيون ) ( ألا يا عمرو عمرو
بني حصين ** وكل فتًى ستدركه المنون ) ( أترجو أن تنال إمام صدقٍ ** أبا حسنٍ وذا
ما لا يكون ) ( لقد بكت السكون عليك حتى ** وهت منها النواظر والجفون ) ( ألا أبلغ
معاوية بن حربٍ ** ورجم الغيب يكشفه اليقين ) ( بأنا لا نزال لكم عدواً ** طوال
الدهر ما سمع الحنين ) ( ألم تر أن والينا علياً ** أبٌ برٌّ ونحن له بنين ) (
وأنا لا نريد سواه يوماً ** وذاك الرشد والحق المبين ) ( وأن له العراق وكل كبشٍ
** حديد القرن ترهبه القرون ) والعكي : نسبة إلى عكٍّ بفتح المهملة : أو قبيلة من
اليمن وهو عك بن عدنان بن عبد الله بن )
الأزد .
والسكوني : نسبة إلى السكون بفتح السين المهملة أبو قبيلة عظيمة من اليمن وهو
السكون بن والصدف بفتح المهملة وكسر الدال : بطنٌ من كندة ينسبون اليوم إلى حضرموت
. وإذا نسبت إليه فقلت : صدفيٌّ فتحت الدال .
وهمدان بسكون الميم : أبو قبيلة عظيمة باليمن .
____________________
وذو رعين بالتصغير : بطن من حمير وهو ذو رعين بن سهل بن زيد . كذا في الجمهرة .
وقد تجوز الشاعر في حذف ذي منه .
وفجعت في الموضعين بالبناء للمفعول من فجعه في ماله وأهله أي : أصابه بالرزية
والفجيعة : الرزية وفعله من باب نفع . وأم النقع أراد بها الحرب . والنقع بالنون
والقاف : الغبار .
ومشبلة : اسم فاعل من أشبل عليه أي : عطف . وأشبلت المرأة بعد بعلها : صبرت على
أولادها فلم تتزوج . ولبوةٌ مشبلٌ إذا مشى معها أولادها . والشبل بالكسر : ولد
الأسد .
وطحون : مبالغة طاحنة أي : مهلكة . والضمير في خذنها راجعٌ إلى الطعنة المفهومة من
قوله ليطعنه . والمسومة : المرسلة من قولهم : سوم فيها الخيل إذا أرسلها . ومنه
السائمة . ويخف : يرحل ويسافر . والقطين : جمع قاطن وهو المقيم .
والصلا بفتح الصاد والقصر العجز وفي الأصل هو مغرس الذنب من الفرس ومنه قيل : أخذت
الصلاة . والمصرع : المهلك . ووهت : ضعفت .
وقوله : بأنا متعلق بأبلغ . والعدو : خلاف الصديق يقع على الواحد المذكر والمؤنث
والمجموع .
وطوال الدهر بفتح الطاء أي : طوله . والحنين هنا : حنين الناقة وهو صوتها في
نزاعها إلى ولدها .
____________________
والقرن في الموضعين بفتح القاف . وجملة : ترهبه حالية .
وسعيد بن قيس الهمداني من أصحاب علي رضي الله عنه ولم أر له ذكراً في كتب الصحابة
وإنما هو تابعي .
قال ابن الكلبي : السبيع : بطنٌ من همدان .
ومن السبيع : سعيد بن قيس بن زيد بن مرب بن معديكرب بن أسيف بن عمرو بن سبع بن
السبيع . انتهى . )
وهمدان بسكون الميم : قبيلةٌ عظمية باليمن وهو لقب واسمه أوسلة .
والسبيع بفتح السين المهملة وكسر الموحدة .
ومرب بفتح الميم وكسر الراء المهملة بعدها موحدة .
ولما لم يقف العيني على ما قبل البيت الشاهد ولا على ما بعده ظن أن البيت لأحد
أولاد علي رضي الله عنه .
____________________
متى كنا لأمك مقتوينا على أنه حكي عن أبي عبيدة وأبي زيد جعل نون مقتوينا محل
تعاقب الإعراب بالحركة .
فالألف هنا بدل من التنوين .
وهذه عبارة أبي زيد في نوادره : رجل مقتوينٌ ورجلان مقتوين ورجال مقتوينٌ . وكذلك
المرأة والنساء وهو الذي يخدم القوم بطعام بطنه .
وقال عمرو بن كلثوم : ( تهددنا وأوعدنا رويداً ** متى كنا لأمك مقتوينا ) الواو
مفتوحة وبعضهم يكسرها أي : متى كنا خدماً لأمك . هذا كلامه .
وقد شرحه أبو علي في كتاب الشعر وقال : النون حرف الإعراب .
ونقله عنه وعن أبي عبيدة . وضبط الميم بالفتح والضم وتقدم كلامه منقولاً بتمامه في
الشاهد الثالث والخمسين بعد الخمسمائة من باب المذكر والمؤنث .
وقال أبو الحسن الأخفش في شرحه لها : هذا القياس وهو مسموع من العرب أيضاً فتح
الواو من مقتوين فتقول مقتوين فيكون الواحد مقتوًى فاعلم مثل مصطفى فاعلم ومصطفين
إذا جمعت .
____________________
ومن قال مقتوين فكسر الواو فإنه يفرده في الواحد والتثنية والجمع والمؤنث لأنه
عنده مصدر فيصير بمنزلة قولهم : رجل عدلٌ وفطر وصوم ورضاً وما أشبهه .
ويقال : مقت الرجل إذا خدم . فهذا بين في هذا الحرف . انتهى .
وهذا مبنيٌّ على أن الميم مضمومة إلا أن قوله مقت الرجل فجعل الميم أصلية لا وجه
له .
فتأمل .
وأنشد بعده ) ( الشاهد التاسع والثمانون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل إذا ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا على أن الأخفش حكى : بنو عرس وبنو نعش
اعتباراً للفظ ابن وإن كان غير عاقل كما في البيت . كأنه جعلها جمعاً لابن نعش وإن
لم يستعمل .
قال سيبويه : وأما كلٌّ في فلكٍ يسبحون رأيتهم لي ساجدين
____________________
و يا أيها النمل ادخلوا
مساكنكم فزعم الخليل أنه جعلهم بمنزلة من يعقل ويسمع لما ذكرهم بالسجود وصار النمل
وكذلك في فلكٍ يسبحون لأنها جعلت في طاعتها وفي أنه لا ينبغي لأحدٍ أن يقول :
مطرنا بنوء كذا ولا ينبغي لأحدٍ أن يعبد شيئاً منها بمنزلة ما يعقل من المخلوقين
ويبصر الأمور .
قال النابغة الجعدي : ( شربت بها والديك يدعو صباحه ** إذا ما بنو نعشٍ دنوا
فتصوبوا ) فجاز هذا حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد
بمنزلة الآدميين . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في تذكير بنات نعش لإخباره عنها بالدنو والتصوب كما يخبر عن
الآدميين على ما بينه سيبويه .
وصف خمراً باكرها بالشرب عند صياح الديك . وتصوب بنات نعشٍ : دنوها من الأفق
للغروب .
والباء في قوله : بها زائدة مؤكدة . وكثيراً ما تزيدها العرب في مثل هذا . قال
تعالى : عيناً يشرب بها المقربون . انتهى .
أقول : الباء في البيت والآية للتبعيض .
وقال ابن خلف : الشاهد أنه جمع ابناً من غير ما يعقل جمع العقلاء المذكرين فقال :
بنو وكان ينبغي أن يقول : بنات نعش وواحدها ابن
____________________
نعش . لأن ما لا يعقل من
المذكر والمؤنث يجمع جمع السلامة والتكسير : كحمام وحمامات وحمل بنو نعش على ما
يعقل لما كان دورها على مقدار لا يتغير فكأنها تقدر ذلك الدور وتعقله . فجاز هذا
حيث صارت هذه الأشياء عندهم تؤمر وتطيع وتفهم الكلام وتعبد بمنزلة الآدميين وقال :
دنوا فتصوبوا وكان ينبغي أن يقال : دنون )
فتصوبن . انتهى .
وقال ابن هشام في المغني : والذي جرأه على استعمال الواو في غير العقلاء قوله :
بنو لا بنات .
والذي سوغ ذلك أن ما فيه من تغيير نظم الواحد شبهه بجمع التكسير فسهل مجيئه لغير
العاقل . ولهذا جاز تأنيث فعله نحو : إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل مع امتناع قامت
الزيدون . انتهى .
وبنات نعش من منازل القمر الثمانية والعشرين قال صاحب الصحاح : اتفق سيبويه
والفراء على تلك صرف نعشٍ للمعرفة والتأنيث .
قال الدماميني في الحاشية الهندية : الظاهر أنه جائز لا واجب لأنه ساكن الوسط .
وقال صاحب العباب : بنات نعش الكبرى : سبعة كواكب أربعة منها نعش وثلاث بنات .
وكذلك بنات نعشٍ الصغرى .
وذكر أبو عمر الزاهد في فائت الجمهرة عن الفراء أنه يقال : بنات نعش في ميزان عمر
لا ينصرف في المعرفة وينصرف في النكرة . قال : وليس بينهم خلاف تقول : هذه بنات
نعشٍ مقبلةً ومعها بنات نعشٍ أخرى مقبلة .
وقد جاء في الشعر بنو نعش وأنشد أبو عبيدة للنابغة الجعدي : ( وصهباء لا تخفي
القذى وهي دونه ** تصفق في راووقها ثم تقطب ) ( تمززتها والديك يدعو صباحه ** إذا
ما بنو نعشٍ دنوا فتصوبوا )
____________________
وقال ابن دريد : سميت بنات
نعش تشبيهاً بحملة النعش في تربيعها .
وقال الليث : يقال للواحد منها ابن نعش لأن الكواكب مذكرة فيذكرونه على تذكيره .
وإذا قالوا : ثلاث وأربع ذهبوا إلى مذهب التأنيث لأن البنين إنما يقال للآدميين .
وعلى هذا القياس يقولون : ابن آوى وابن عرس فإذا جمعوا قالوا : بنات آوى وبنات عرس
قال الخليل : هذا شيء لم يسم بالابن لحال الأب والأم كما قيل : بنون وبنات . وإذا
ذكروا ابن لبون وابن مخاض قالوا : هذا ابن لبون وابن مخاض .
وإذا ثنوا قالوا : ابنا لبون وابنا مخاض . وإذا جمعوا تركوا القياس ولم يقولوا
بنون ولكنهم يقولون بنات مخاض ذكوراً . هذا كلام العرب .
ولو حمله النحوي على القياس فذكر المذكر وأنث المؤنث لكان صواباً . وبعضهم يقول :
لا يجوز )
لما كان من غير الآدميين أن يقال في جمعه إلا التأنيث إلا أن يضطر شاعر فيخرجه
مخرج الآدميين إذا حمل على غير الآدميين على مثال ما يجمعون عليه .
قال تعالى : والشمس والقمر رأيتهم لي ساجدين . لما فعلوا فعل الآدميين جمعهم كما
يجمعون .
وخاطبهم بما يخاطبون . انتهى كلام العباب .
وقال القالي في المقصور والممدود : قال أبو حاتم : يقال ابن آوى لهذا السبع
وللاثنين : ابنا آوى وللجمع : بنات آوى وإن كن ذكوراً ولا يصرف آوى . ويجمعون كل
جماعة من غير الإنس على بنات كما قالوا : بنات نعش لهذه الكواكب ولم يقولوا : بنو
نعش فإن اضطر شاعرٌ قاله مستكرهاً .
قال الشاعر :
____________________
فباكرتها والديك يدعو صباحه .
. . . . . . . . . . . . . . . البيت والصواب : بنات نعش دنت فتصوبت أو دنون
فتصوبن . فهذا على الاضطرار . وأما ما لا يعرف ذكوره من إناثه فمحمولٌ على اللفظ
يقال للذكر والأنثى ابن عرس وابن قترة لضربٍ من الحيات وابن دأية غير معروف للغراب
.
فإذا جمعت على هذا النحو قلت : بنات آوى وبنات عرس وبنات قترة وبنات دأية للذكور
والإناث . وكل جمع من غير الإنس والجن والشياطين والملائكة فيقال فيه بنات . انتهى
.
والبيتان من قصيدة للنابغة الجعدي أورد أبياتاً منها السيوطي في شرح شواهد المغني
.
وقوله : وصهباء إلخ أي : رب صهباء وهي الخمر . لا تخفي : لا تستر .
والقذى : ما يقع في الماء والشراب والعين إذا هبت الريح . ودون هنا بمعنى قدام .
يقول : إن القذى إذا حصل في أسفل الزجاجة رآه الرائي في الموضع الذي هو فيه
لصفائها . والخمر أقرب إلى الرائي من القذى وهي فيما بين الرائي وبين القذى يريد
أنها يرى ما وراءها لصفائها .
وتصفق : بالبناء للمفعول . والتصفيق : إدارتها من إناءٍ إلى إناءٍ لتصفو .
والراووق : المصفاة . وتقطب : تمزج .
وقوله : شربت بها إلخ روى أيضاً : تمززتها والديك . والتمزز : تمصص الشراب قليلاً
قليلا .
ومزه يمزه أي : مصه .
وقوله : يدعو صباحه أي : في وقت صباحه . ) =
8.
مجلد 8.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب
عبد القادر بن عمر البغدادي
= قال ابن رشيق في باب السرقات الشعرية من العمدة .
قد اجتلب الفرزدق هذا البيت واستلحقه بشعره فقال : الطويل تمززتها والديك يدعو
صباحه . . . . . . . . . . . . البيت والنابغة الجعدي شاعر صحابي تقدمت ترجمته في
الشاهد السادس والثمانين بعد المائة .
____________________
( جمع المؤنث السالم ) أنشد
فيه الشاهد التسعون بعد الخمسمائة الطويل ( أتت ذكرٌ عودن أحشاء قلبه ** خفوقاً
ورفضات الهوى في المفاصل ) على أن رفضات كان يستحق أن يفتح فاؤه فسكن للضرورة لأن
رفضات جمع رفضة وفعلة بفتح الفاء وسكون العين إذا كان اسماً لا صفة كصعبة يجب
فتحها إذا جمعت بالألف والتاء .
ورفضة هنا اسمٌ لأنه مصدر محض ليس فيه من معنى الوصفية شيء ولو كان مؤولاً بالوصف
كرجل عدل لكان للتسكين وجه .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : حكم لرفضات وهو اسمٌ بحكم الصفة .
ألا ترى أن رفضات جمع رفضة ورفضة اسم والاسم إذا كان على وزن فعلة وكان صحيح العين
فإنه إذا جمع بالألف والتاء لم يكن بدٌّ من تحريك عينه إتباعاً لحركة فائه نحو :
جفنة وجفنات .
وإن كان صفةً بقيت العين على سكونها نحو : ضخمة وضخمات . وإنما فعلوا ذلك فرقاً
بين الاسم والصفة وكان الاسم أولى بالتحريك لخفته فاحتمل لذلك ثقل الحركة فكان
ينبغي أن يقول : رفضات بالتحريك إلا أنه لما اضطر إلى التسكين حكم لها بحكم الصفة
فسكن .
____________________
ومما يبين لك صحة ما ذكرته من الحمل على الصفة أن أكثر ما جاء من ذلك في الشعر
إنما هو مصدر لقوة شبه المصدر باسم الفاعل الذي هو صفة .
ألا ترى أن كل واحد منهما يقع موقع صاحبه . والمعتل اللام من فعلة بمنزلة الصحيح
اللام في أن العين لا تسكن في جمع الاسم منه إلا في ضرورة حكى أبو الفتح عن بعض
قيس : ثلاث ظبيات بإسكان الباء . وروى أيضاً : عن أبي زيد عنهم : شرية وشريات .
انتهى باختصار . )
وقد تكلم ابن جني في موضعين من المحتسب على هذا الجمع في أول سورة البقرة وفي سورة
لقمان . ولما كان الأول أجمع للفوائد اقتصرنا عليه .
قال : وقد سكنوا المفتوح وهو ضرورة . قال لبيد : الوافر ( رحلن لشقةٍ ونصبن نصباً
** لوغرات الهواجر والسموم ) وقال ذو الرمة : أبت ذكر عودن أحشاء قلبه . . . . . .
. . . . . . . البيت وروينا أيضاً أن بعض قيس قال : ثلاث ظبيات فأسكن موضع العين .
وروينا عن أبي زيد أيضاً عنهم شرية وشريات وهو الحنظل .
والتسكين عندي في هذا أسوغ منه في نحو : رفضات ووغرات من قبل أن قبل الألف ياءً
محركة مفتوحاً ما قبلها . وهذا شرط اعتلالها بانقلابها ألفاً .
ويحتاج أن نعتذر من ذلك فنقول : لو قلبت ألفاً لوجب حذفها لسكونها وسكون الألف
بعدها وليس في نحو : رفضات ما يوجب الاعتذار من الحركة . وكان رفضات أقرب مأخذاً
من تمرات من قبل أن رفضة حدثٌ ومصدر والمصدر قوي الشبه باسم الفاعل الذي هو صفة
والصفة لا تحرك في نحو هذا .
____________________
ويدلك على قوة شبه المصدر بالصفة وقوع كل واحدٍ منهما موقع صاحبه . فكذلك سهل
شيئاً إسكان نحو : رفضة ووغرة لسكونهما حدثين ومصدرين لشبههما بالصفة .
ويزيد في أنسك تسكين عين ما لامه حرف علة لما يعقب من الاعتذار من تحريك عينه
امتناعهم من تحريك العين في فعلة إذا كانت حرف علة وذلك نحو جوزات ألا ترى لو حرك
لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقولوا : لو أعلت لوجب
القلب فيلتبس بما عينه في الواحد ألفٌ منقلبة نحو : قارة وقارات .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة كلها غزلٌ ونسيب . وقبله : ( إذا قلت ودع وصل
خرقاء واجتنب ** زيارتها تخلق حبال الوسائل ) يخاطب نفسه . ويقول : إذا قلت : ودع
يا ذا الرمة وصل خرقاء وخرقاء : لقب محبوبته مية وتخلق : مجزوم في جواب أحد
الأمرين المتقدمين وفاعله ضمير المخاطب وهو من أخلقت الثوب إذا أبليته . )
والحبال : جمع حبل بمعنى السبب استعير لكل شيء يتوصل به إلى أمر من الأمور .
والوسائل : جمع وسيلة . قال شارح ديوانه : الوسيلة القربة والمنزلة .
وقوله : أبت ذكر إلخ هذا جواب إذا في البيت قبله . وأبت بمعنى امتنعت .
____________________
وفي بعض نسخ الشرح أتت بالمثناة على أنه من الإتيان . ولم أره في نسخ الديوان
وعندي منه ولله الحمد أربع نسخ بكسر الذال وفتح الكاف : جمع ذكر والذكر بالكسر
والضم : اسمٌ لذكرته بلساني وبقلبي ذكرى بالكسر والقصر نص عليه جماعةٌ منهم أبو
عبيدة وابن قتيبة .
وأنكر الفراء الكسر في القلب وقال : اجعلني على ذكر منك بالضم لا غير . ولهذا
اقتصر عليه جماعة . والنون من عودن ضمير الذكر . وعودته كذا فاعتاده وتعوده أي :
صيرته له عادة .
والأحشاء : جمع حشًى بالقصر وهو ما في البطن من معًى وكرش وغيرهما .
والخفوق مفعول ثان لعود وهو مصدر خفق وخفقاناً أيضاً إذا اضطرب . ورفضات : بالرفع
معطوف على ذكر .
قال شارح ديوانه : رفضاته : تفرقه وتفتحه في المفاصل وهو بالفاء والضاد المعجمة .
وهذا من قولهم : رفضت الإبل ترفض كضرب يضرب رفوضاً إذا تبددت في المرعى حيث أحبت .
ورفضات الهوى من إضافة المصدر إلى فاعله .
وقال ابن بري : يقول : إن تجتنب زيارتها تخلق حبال الوسائل لبعد العهد بها وتقادم
الوصل الذي يشوق إليها . يريد أن يهون على نفسه السلو عنها ثم أجاب نفسه فقال :
أبت ذكر جمع ذكرة .
وأحشاء قلبه : جمع حشًى كأنه أراد ما بين الجنبين لاشتمال الخفقان على جميع ذلك .
ورفضات : جمع رفضة يعني الكسر والحطم . انتهى .
وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن .
وأنشد بعده
____________________
الشاهد الحادي والتسعون بعد الخمسمائة الطويل على أن أهلاً الوصف يؤنث بالتاء كما
في البيت .
وقوله : وأهلة ودٍّ صفة لموصوف محذوف أي : جماعة مستأهلة للود أي : مستحقة له .
وفي البيت ردٌّ على الخليل في زعمه أنه لا يقال : أهلة . قال سيبويه : قلت للخليل
: هلا قالوا أرضون أي : بسكون الراء كما قالوا : أهلون قال : إنها لما كانت تدخلها
التاء أرادوا أن يجمعوها بالواو والنون كما جمعوها بالتاء . وأهل مذكر لا تدخله
التاء ولا تغيره الواو والنون كما لا تغير غيره من المذكر نحو : صعب . انتهى .
وقد أنكر بعضهم استأهل بمعنى استحق . نقل صاحب العباب عن تهذيب الأزهري أنه قال : خطأ
بعضهم قول من يقول : فلان يستأهل أن يكرم أو يهان بمعنى يستحق .
قال : ولا يكون الاستئهال إلا من الإهالة وهو أخذ الإهالة أو أكلها وهي الألية
المذابة .
قال الأزهري : وأما أنا فلا أنكره ولا أخطىء من قاله لأني سمعت أعرابياً فصيحاً من
بني أسد يقول لرجلٍ شكر عنده يداً أوليها : تستأهل يا أبا حازم ما أوليت وحضر ذلك
جماعةً من الأعراب فما أنكروا قوله . قال : ويحقق ذلك قوله تعالى : هو أهل التقوى
وأهل المغفرة . انتهى .
____________________
وقول الشارح المحقق : وأهلٌ في الأصل اسمٌ دخله معنى الوصف قال الراغب في مفردات
القرآن : أهل الرجل : من يجمعه وإياهم نسبٌ أو دين أو نحو ذلك من صناعةٍ وبيتٍ
وبلد .
فأهل الرجل في الأصل : من جمعه وإياهم مسكن واحد ثم تجوز به فقيل أهل بيته من
يجمعه وإياهم نسبٌ أو ما ذكر .
وعبر عن أهله بامرأته . وفلانٌ أهلٌ لكذا أي : خليقٌ به . والآل قيل : مقلوبٌ منه
لكن خص بالإضافة إلى أعلام الناطقين دون النكرات والأزمنة والأمكنة فيقال : آل
فلان ولا يقال آل رجل ولا آل زمن كذا ولا آل موضع كذا كما يقال أهل بلد كذا وموضع
كذا . انتهى .
وقال صاحب العباب : الأهل : أهل الرجل وأهل الدار وكذلك الأهلة .
قال أبو الطمحان القيني : ( وأهلة ودٍّ قد تبريت ودهم ** وأبليتهم في الجهد بذلي
ونائلي ) أي : رب من هو أهلٌ للود وقد تعرضت له وبذلت له في ذلك طاقيت من نائل .
والجمع )
أهلات وأهلات وأهلون .
وكذلك الأهالي زادوا فيه الياء على غير قياس كما جمعوا ليلاً على ليالٍ . وقد جاء
في الشعر آهال مثل فرخ وأفراخ .
وأنشد الأخفش : الرجز وبلدةٍ ما الإنس من آهالها
____________________
والواو في وأهلة واو رب وصفة
مجرورها محذوف أي : رب أهل ودٍّ ملتبس ومبهم . وتبريت جوابها العامل في محل
مجرورها .
قال ابن السكيت في إصلاح المنطق : قد تبريت لمعروفه تبرياً إذا تعرضت له .
أنشد الفراء : وأهلة ودٍّ . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . .
البيت يقال : أهل وأهلة . انتهى .
ورواية البيت للشارح المحقق هي رواية ابن السكيت في إصلاح المنطق وفي كتاب المذكر
والمؤنث .
وكذا رواه السخاوي في سفر السعادة وقال : ومعنى تبريت تعرضت له ولوده وبذلت له في
ذلك طاقتي .
وقال ابن السيرافي في شرح أبيات الإصلاح : ويروى : في الجهد بذلي ونائلي أي : رب
أهل ودٍّ قد تعرضت لأن يعلموا أني أودهم وبذلت لهم مالي في العسر واليسر ولم أبخل
عليهم بشيء .
يصف نفسه بالوفاء والبذل . وتفسير تبريت : كشفت وفتشت . يريد أنه فتش عن صحة ودهم
له ليعلمه فيجيزهم به .
وأبليتهم : أوصلتهم ومنحتهم . والبلية بمعنى المنحة تارة والمحنة أخرى . ومنح
يتعدى إلى مفعولين .
قال زهير : الطويل
____________________
( جزى الله بالإحسان ما فعلا
بكم ** وأبلاهما خير البلاء الذي يبلو ) أي : خير الصنيع الذي يختبر به عباده .
والجهد بالضم في لغة الحجاز وبالفتح عند غيرهم : الوسع والطاقة . والنائل : النوال
كلاهما بمعنى العطاء . )
والبيت نسبه ابن السيرافي وصاحب العباب إلى أبي الطمحان القيني وهو شاعرٌ إسلامي .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو حنظلة بن الشرقي . وكان فاسقاً وقيل له : ما
كان أدنى ذنوبك قال : ليلة الدير قيل له : وما ليلة الدير قال : نزلت بدير نصرانية
فأكلت عندها طفيشلاً بلحم خنزير وشربت من خمرها وزنيت بها وسرقت كأسها ومضيت وكان
نازلاً على الزبير بن عبد المطلب وكان ينزل عليه الخلعاء .
وهو القائل لقوم أغاروا على إبله وكانوا شربوا من ألبانها : الطويل
____________________
( وإني لأرجو ملحها في بطونكم
** وما بسطت من جلد أشعث أغبرا ) يقول : أرجو أن يعطفكم علي ذلك اللبن أن تردوها .
والملح : اللبن . انتهى .
وقال أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي : إنه كان نديماً للزبير بن عبد المطلب
في الجاهلية ثم أدرك الإسلام .
وقال الآمدي في المؤتلف والمختلف : أبو الطمحان القيني اسمه حنظلة ابن الشرقي .
كذا وجدته في كتاب بني القين بن جسر .
ووجدت نسبه في ديوانه المفرد : أبو الطمحان ربيعة بن عوف بن غنم بن كنانة بن القين
بن جسر .
شاعر محسنٌ مشهور وهو القائل : الطويل ( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل
حتى نظم الجزع ثاقبه ) ثم أورد اثنين من الشعراء يقال لهما أبو الطمحان : أحدهما :
أبو الطمحان النهشلي .
ثانيهما : أبو الطمحان الأسدي .
وقال أبو حاتم في كتاب المعمرين : هو من بني كنانة بن القين بن جسر ابن شيع الله
بن الأسد بن وبرة بن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة . عاش مائتي سنة .
____________________
وقال في ذلك : الوافر ( حنتني حانيات الدهر حتى ** كأني خاتلٌ يدنو لصيد ) انتهى .
وأورده ابن حجر في الإصابة في قسم المخضرمين الذين أدركوا زمن النبي صلى الله عليه
وسلم وأسلموا ولم يروه . )
وذكره المرزباني فقال : هو أحد المعمرين وهو القائل : ( وإني من القوم الذين هم هم
** إذا مات منهم سيدٌ قام صاحبه ) ( أضاءت لهم أحسابهم ووجوههم ** دجى الليل حتى
نظم الجزع ثاقبه ) ويقال هو أمدح بيتٍ قيل في الجاهلية .
والطمحان بفتح الطاء والميم بعدها حاء مهملة .
وأنشد بعده الشاهد الثاني والتسعون بعد الخمسمائة وهو من شواهد س : الطويل ( وهم
أهلاتٌ حول قيس بن عاصمٍ ** إذا أدلجوا يدعون بالليل كوثرا ) على أنه جمع أهلة جمع
باعتبار اسميته ولهذا فتح عينه .
وفيه رد على سيبويه في زعمه أنه جمع أهل . قال : وقد يجمعون المؤنث الذي
____________________
ليست فيه هاء التأنيث بالتاء
كما يجمعون ما فيه الهاء لأنه مؤنث مثله وذلك قولهم : عرسات وأرضات وعير وعيرات
حركوا الياء وأجمعوا فيها على لغة هذيل لأنهم يقولون : بيضات وجوزات .
وقد قالوا : عيرات وقالوا : أهلات فخففوا شبهوه بصعبات حيث كان أهل مذكراً تدخله
الواو والنون فلما جاء مؤنثاً كمؤنث صعب فعل به كما فعل بمؤنث صعب .
وقد قالوا : أهلات كما قالوا : أرضات .
قال المخبل : وهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصمٍ . . . . . . . . . . . البيت انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه جمع أهل على أهلات وتحريك الثاني . ووجه دخول الألف
والتاء فيه حمل أهل على معنى الجماعة لأنه يؤدي عن معناها وإن لم تكن فيه الهاء
فجمع بالألف والتاء كما تجمع الجماعة .
ووجه تحريك الثاني تشبيهه بأرضات لأنه في الجمع مؤنث مثلها ولأن حكم ما يجمع
بالألف والتاء من باب فعلة وكان من الأسماء تحريك ثانيه كجفنة وجفنات . انتهى .
وقد تبع الزمخشري في مفصله سيبويه فقال : وحكم المؤنث الذي لا تاء فيه كحكم الذي
فيه )
قال شارحه ابن يعيش : أهلات : جمع أهلة وليس بجمع أهل كما ظنه المصنف .
____________________
ألا ترى أن أهلاً مذكر بالواو والنون لأنهم لما وصفوا به أجروه مجرى الصفات في
دخول تاء التأنيث للفرق فقالوا : رجل أهلٌ وامرأة أهلة كما يقولون : ضارب وضاربة .
قال الشاعر : وأهلة ودٍّ قد تبريت ودهم ولما قالوا في المذكر أهل وأهلون وفي
المؤنث أهلة وأهلات أشبه فعلة من الصفات فجمعوه بالألف والتاء وأسكنوا الثاني منه
كما فعلوا ذلك بسائر الصفات .
ومن العرب من يقول : أهلاتٌ فيفتح الثاني كما فتحوا في أرضات لأنه اسم مثله وإن كان
أشبه الصفة .
قال المخبل : فهم أهلاتٌ حول قيس بن عاصم انتهى .
والبيت من قصيدة للمخبل السعدي . قال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل وقبله : (
ألم تعلمي يا أم عمرة أنني ** تخاطأني ريب الزمان لأكبرا ) فهم أهلاتٌ حول قيس بن
عاصم . . . . . . . . . . . . البيت وقوله : ألم تعلمي إلخ قال أبو محمد الأسود
الأعرابي : معناه أنه كره أن يعيش ويعمر حتى يرى الزبرقان من الجلالة والعظمة بحيث
يحج بنو سعد عصابته . انتهى .
____________________
وتخاطأني بمعنى تخطاني وفاتني . وريب الزمان : حوادثه . وكبر في السن من باب فرح .
وقوله : وأشهد بالنصب عطف على لأكبر . وعوف : أبو قبيلة وهو عوف بن كعب بن سعد بن
زيد مناة بن تميم .
والحلول : القوم النزول من حل بالمكان إذا نزل فيه .
ويحجون : يقصدون . قال ابن دريد في الجمهرة : الحج : القصد . وأنشد هذا البيت .
والسب بكسر السين المهملة : العمامة قال ابن دريد في الجمهرة : السب بالكسر :
الشقة البيضاء من الثياب وهي السبيبة أيضاً . وأنشد هذا البيت .
وقال : يريد العمامة ها هنا . وكانت سادات العرب تصبغ العمائم بالزعفران . وقد فسر
قومٌ )
هذا البيت بما لا يذكر . انتهى .
أقول : من جملة من فسره بالقبيح الأصمعي قال في كتاب الفرق بين ما للإنسان والوحوش
قالوا في الدبر من الإنسان دون البهائم : استٌ وستٌ وسهٌ بالهاء ويسمى أيضاً السبة
بالضم والسبة قال المخبل : يحجون سب الزبرقان المزعفرا قال ابن السيرافي في شرح
أبيات الإصلاح : قال بعض الناس : إن الشاعر قصد بهذا البيت معنى قبيحاً وكنى بهذا
اللفظ عنه . وإنما أراد أن الزبرقان كان به داء الأبنة يؤتى من أجله . انتهى .
ويدفعه قوله : يزورون فإن الزيارة لا تستعمل في مثل هذا إلا أن يدعي التهكم .
وقال أبو محمد الأسود : من زعم أن المخبل كنى ها هنا عن قبيح فقد أخطأ وإنما قصد
بسب الزبرقان أن بني سعد بن زيد مناة كانوا يحجون عصابته إذا
____________________
استهلوا رجباً في الجاهلية
إجلالاً له وإعظاماً لقدره . وذكر ذلك ربيعة بن سعد النمري يمدح الزبرقان : البسيط
( كانت تحج بنو سعدٍ عصابته ** إذا استهلوا على أنصابه رجبا ) ( سبٌّ يزعفره سعدٌ
ويعبده ** في الجاهلية ينتابونه عصبا ) والعصابة : ما يعصب به الرأس . انتهى .
والزبرقان هو ابن بدر الصحابي ولاه النبي صلى الله عليه وسلم صدقات بني تميم .
قال صاحب زهر الآداب : سمي الزبرقان لجماله . والزبرقان : القمر قبل تمامه وقيل :
لأنه كان يزبرق عمته في الحرب أي : يصفرها . انتهى . ( تمنى حصينٌ أن يسود جذاعه
** فأمسى حصينٌ قد أذل وأقهرا ) والجذاع بكسر الجيم بعدها ذال معجمة : أولاد
السعفاء .
قال صاحب جمهرة الأنساب : ولد عوف بن كعب بن سعد عطارداً وبهدلة
____________________
وجشم وبرنيقاً .
وأمهم السعفاء بنت غنم من بني باهلة ويقال لبنيها : الجذاع . وأنشد هذا البيت .
وقال السخاوي في سفر السعادة : وإنما سمي الزبرقان لصفرة عمامته . وزبرقت الثوب أي
: صفرته . وقال : المزعفر لأن السب مذكر وإن كان المراد به العمامة .
وقوله : وهم أهلات إلخ الظاهر أن هذا البيت غير متصل بما قبله لسقوط أبياتٍ بينهما
.
يقول : هم أهلات وأقارب حول قيس بن عاصم . يعني أنه سيدهم وهم قد أحاطوا به .
وأدلج )
القوم إدلاجاً كأكرام إكراماً : ساروا الليل كله . فإن ساروا من آخر الليل قيل
ادلجوا ادلاجاً بتشديد الدال .
قال الأعلم : وصف اجتماع أحياء سعد من بني منقر وغيرهم إلى قيس بن عاصم المنقري
سيدهم وتعويلهم عليه في أمورهم .
والكوثر : الجواد الكثير العطاء . أي : إن أدلجوا حدوا الإبل بمدحه وذكره . انتهى
.
وقيل إن كوثراً كان شعاراً لهم عند نداء بعضهم بعضاً في الليل وفي الحرب .
وقيس بن عاصم صحابي وهو قيس بن عاصم بن سنان بن خالد بن منقر بكسر الميم ابن عبيد
بن مقاعس بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
وفد قيس بن عاصم على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : هذا سيد أهل الوبر
____________________
وترجمة المخبل السعدي تقدمت
في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده الشاهد الثالث والتسعون بعد الخمسمائة الطويل أخو بيضاتٍ رائحٌ متأوب
على أن هذيلاً تفتح عين فعلة الاسمي في الجمع بالألف والتاء كبيضات بفتحات .
صرح به ابن جني في الخصائص بأن فتح حرف العلة في بيضات وجوزات لغة هذيل فلا يكون
من قبيل ضرورة الشعر .
ولهذا لم يورده ابن عصفور في كتاب الضرائر .
قال أبو عمر محمد بن عبد الواحد الزاهد في كتاب اليواقيت : قال أبو العباس :
وأخبرني سلمة عن الفراء قال : أنشدني بعض بني هذيل أخو بيضات البيت .
وكذا قال الزمخشري في المفصل : إذا اعتلت عين فعلة سكنت إلا في لغة هذيل . فعند
غير هذيل يكون الفتح ضرورة .
وقد أطلق ابن جني في شرح تصريف المازني فقال : وقد جاء في الشعر
____________________
تحريك مثل هذا .
قال الشاعر : أخو بيضات البيت .
وهذا ليس بجيد ولا بد من التقييد . )
قال في المحتسب : امتنعوا من تحريك العين في فعلةٍ إذا كانت حرف علة كجوزات وبيضات
.
ولو حرك لوجب أن يعتذر من صحة العين مع حركتها وانفتاح ما قبلها بأن يقال : لو
أعلت لوجب القلب فيصير جازات وباضات فيلتبس ذلك بما عينه في الواحد ألفٌ منقبلة
نحو : قارة وقارات وجارة وجارات . وإذا جاز إسكان العين الصحيحة نحو : تمرات
وشفرات صار المعتل أحرى بالصحة .
وربما جاء الفتح في العين كما قال الهذلي : أخو بيضاتٍ رائحٌ متأوب وعذره في ذلك
أن هذه الحركة إنما وجبت في الجمع وقد سبق العلم بكونها في الواحد ساكنة فصارت
الحركة في الجمع عارضة فلم تحفل . وفي هذا بعد هذا ضعفٌ .
ألا ترى أن هذه الألف والتاء تبنى الكلمة عليهما وليستا في حكم المنفصل . يدلك على
ذلك صحة الواو في خطوات .
ولو كانت الألف والتاء في حكم المنفصل لوجب إعلال الواو لأنها لام وقبلها ضمة .
قال أبو علي : يدلك على أن الكلمة مبنية على الألف والتاء اطراد إتباع الكسر للكسر
في سدرات وكسرات مع عزة فعل في الواحد بكسرتين . إلا أن مما يؤنس بكون حركة العين
غير لازمة قول يونس في جروة إذا قلت : جروات . فصحة الواو وهي لامٌ بعد كسرة تدلك
على قلة الاعتداد بها .
أو يقال : إن هذا شاذ يدل على شذوذه امتناعهم أن يحركوا عين كليةٍ ومدية في هذا
الجمع لما كان يعقب ذلك من وجوب قلب الياء إلى الواو . فدلنا ذلك
____________________
على أن نحو جروات شاذ . فهذه
أشياءٌ تراها متكافئة . وعلى كل حال فالاختيار خطوات بالإسكان . انتهى .
والمصراع صدرٌ وعجزه : رفيقٌ بمسح المنكبين سبوح والبيت مع كثرة وجوده في كتب
النحو والصرف لم أطلع على قائله ولا على تتمته .
قال شارح اللباب : يصف ذكراً من النعام أي : هو أخو بيضات يرجع ويسرع إلى بيضاته .
والمتأوب : الذي يسير نهاراً يصف ظليماً وهو ذكر النعام شبه به ناقته فيقول : ناقتي
في سرعة سيرها كظليم له بيضات يسير ليلاً ونهاراً ليصل إلى بيضاته . رفيق بمسح
المنكبين عالم )
بتحريكهما في السير .
سبوح : حسن الجري . وإنما جعله أخا بيضات ليدل على زيادة سرعته في السير لأنه
موصوفٌ بالسرعة . وإذا قصد بيضاته يكون أسرع . انتهى .
وقال الكرماني في شرح أبيات الموشح : رائح من الرواح أي : راجع . والسبوح من السبح
وهو شدة الجري .
والمراد برفيق بمسح المنكبين : التحرك يميناً وشمالاً وذلك من عادة الطير .
والمنكب : مجتمع ما بين العضد والكتف .
وقد خطأ العيني فخر الدين الجاربردي في قوله : البيت في صفة النعامة بأن البيت في
مدح جمله شبهه بالظليم . والتخطئة لا وجه لها وكونه في وصف نعامة أو ظليم أمرٌ سهل
مع أنه متوقف على الوقوف على ما قبل هذا البيت .
____________________
قال صاحب المصباح : يتوهم بعض الناس أن الرواح لا يكون إلا في آخر النهار وليس
كذلك بل الرواح والغدو عند العرب يستعملان في المسير أي وقتٍ كان من ليل أو نهار .
قاله الأزهري وغيره . وعليه قوله عليه الصلاة والسلام : من راح إلى الجمعة في أول
النهار فله كذا أي : من ذهب .
والتأوب : تفعل من الأوب وهو الرجوع من السفر . والرفيق من الرفق وهو ضد العنف .
____________________
( جمع التكسير ) أنشد فيه
الشاهد الرابع والتسعون بعد الخمسمائة وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( لنا الجفنات
الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما ) على أنه إن ثبت اعتراض
النابغة على حسان بقوله : قللت حفانك وسيوفك لكان فيه دليلٌ على أن المجموع بالألف
والتاء جمع قلة . وهذا طعنٌ منه على هذه الحكاية .
ثم استظهر أن جمعي السلامة لمطلق الجمع من غير نظر إلى القلة والكثرة فيصلحان لهما
.
انتهى .
وقد نظمه أبو الحسن الدباج من نحاه إشبيلية ذيلاً لجموع القلة من التكسير في بيتٍ
من المتقدمين وهما : ( بأفعل وبأفعال وأفعلة ** وفعلةٍ يعرف الأدنى من العدد ) (
وسالم الجمع أيضاً داخلٌ معها ** فهذه الخمس فاحفظها ولا تزد )
____________________
وقد صرح سيبويه بأن الجمع
بالألف والتاء للقلة . وأول بيت حسان على أنه للكثرة وهذا نصه : وأما ما كان على فعلة
فإنك إذا أردت أدنى العدد جمعتها بالتاء وفتحت العين وذلك قولك : قصعة وقصعات فإذا
جاوزت أدنى العدد كسرت الاسم على فعال وذلك قصعة وقصاع .
ثم قال : وقد يجمعون بالتاء وهم يريدون الكثير قال حسان : لنا الجفنات الغر . . .
. . . . . . . . . . . . البيت فلم يرد أدنى العدد . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في وضع الجفنات وهي لما قل من العدد في الأصل لجريها مجرى
الثلاثة موضع الجفان التي هي الكثير . والغر : البيض يريد بياض الشحم .
والأسياف : جمع لأدنى العدد فوضعه موضع الكثير . وصف قومه بالندى والبأس يقول :
جفاننا معدة للأضياف ومساكين الحي بالغداة وسيوفنا يقطرن دماً لنجدتنا وكثرة
حروبنا .
انتهى . )
وإلى مذهب سيبويه ذهب الزجاج قال في تفسيره عند قوله تعالى : واذكروا الله في أيام
معدوداتٍ قالوا : هي أيام التشريق . ومعدودات يستعمل كثيراً في اللغة للشيء القليل
.
وكل عدد قل أو كثر فهو معدود ولكن معدودات أول على القلة لأن كل قليل يجمع بالألف
والتاء نحو : دريهمات وحمامات . وقد يجوز وهو حسن كثير أن يقع الألف والتاء
للتكثير .
وقد روى أنه عيب على القائل : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . البيت فقيل
له : قللت الجفنات ولم تقل الجفنان وهذا الخبر عندي مصنوع لأن
____________________
الألف والتاء قد تأتي للكثرة
قال الله عز وجل : إن المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات وقال : في جنات .
وقال : وهم في الغرفات آمنون فالمسلمون ليسوا في غرفات قليلة ولكن إذا خص القليل
في الجمع بالألف والتاء دل عليه لأنه يلي التثنية .
وجائز حسن أن يراد به الكثير ويدل المعنى الشاهد على الإرادة كما أن قولك جمع يدل
على القليل والكثير . انتهى .
وكذلك قول ابن جني في المحتسب عند قراءة طلحة من سورة النساء : صوالح قوانت حوافظ
للغيب . قال أبو الفتح : التكسير هنا أشبه لفظاً بالمعنى وذلك أنه إنما يراد هنا
معنى الكثرة لا صالحات من الثلاث إلى العشر . ولفظ الكثرة أشبه بمعنى الكثرة من
لفظ القلة بمعنى الكثرة والألف والتاء موضوعتان للقلة فهما على حد التثنية بمنزلة
الزيدون من الواحد إذا كانوا على هذا موجب اللغة على أوضاعها غير أنه قد جاء لفظ
الصحة والمعنى الكثرة كقوله تعالى : إن المسلمين والمسلمات . إلى قوله : والذاكرين
الله كثيراً والذاكرات والغرض في جميعه الكثرة لا ما هو لما بين الثلاثة إلى
العشرة وكان أبو علي ينكر الحكاية المروية عن النابغة وقد عرض عليه حسان شعره وأنه
لما صار إلى قوله : لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . . . البيت قال له النابغة
: لقد قللت جفانك وسيوفك قال أبو علي : هذا خبر مجهول لا أصل له لأن الله تعالى
يقول : وهم في الغرفات آمنون ولا يجوز أن تكون
____________________
الغرف كلها التي في الجنة من
الثلاث إلى العشر .
وعذر ذلك عندي أنه قد كثر عنهم وقوع الواحد على معنى الجمع جنساً كقولنا : أهلك
الناس )
الدينار والدرهم وذهب الناس بالشاة والبعير فلما كثر ذلك جاؤوا في موضعه بلفظ
الجمع الذي هو أدنى إلى الواحد أيضاً أعني جمعي السالم وعلم أيضاً أنه إذا جيء في
هذا الموضع بلفظ الكثرة لا يتدارك معنى الجنسية فلهوا عنه وأقاموا على لفظ الواحد
تارة ولفظ الجمع المقارب للواحد تارة أخرى إراحة لأنفسهم من طلب ما لا يدرك ويأساً
منه .
فيكون هذا كقوله : المتقارب ومثل هذين الجمعين مجيئهم في هذا الموضع بتكسير القلة
كقوله تعالى : وأعينهم تفيض من الدمع وقول حسان : وأسيافنا يقطرن ولم يقل : عيونهم
ولا سيوفنا . وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتاب الخصائص . انتهى .
قال شيخنا ياسين الحمصي في شرح ألفية ابن مالك : اعلم أنهم قالوا : إذا قرن جمع
القلة بأل التي للاستغراق أو أضيف إلى ما يدل على الكثرة انصرف بذلك إلى الكثرة .
وعلى هذا الإيراد ما قاله النابغة على حسان ويقال إن حسان أجاب بذلك لكن قوله :
أسيافنا لم يضف إلى ما يدل على الكثرة .
وعليك بحفظ هذه القاعدة فكثيراً ما يغفل عنها . وممن غفل عنها العلامة والقاضي
وصاحب المغني في تفسير قوله تعالى : ما نفدت كلمات الله .
____________________
حيث وجهوا التعبير بجمع القلة
بما ذكروه . ورد عليهم الكوراني بأن الجمع في الآية مضاف .
واعلم أيضاً أن أبا حيان استشكل انصراف جمع القلة إلى الكثرة بما حاصله أنه وضع
للقلة وهي من ثلاثة إلى عشرة فإذا دخل أداة الاستغراق ينبغي أن يكون الاستغراق
فيما وضع له لا فيما زاد لأنه ليس مما وضع له . ثم أجاب بما حاصله أنه وضع بوضع
آخر مع أداة الاستغراق للكثرة . انتهى .
وقال أيضاً في حاشيته على التصريح للشيخ خالد : اعلم أن ما ذكره النحاة من أن جموع
القلة للعشرة فما دونها لا ينافي تصريح أئمة الأصول بأنها من صيغ العموم لأن كلام
النحاة كما قال إمام الحرمين محمولٌ على حالة التجرد عن التعريف . انتهى .
وهذا الجواب فيه نظر فإن غالب ما وقع فيه النزاع معرف بأل .
وقد نقل جماعةٌ اعتراض النابغة على حسان في هذا البيت منهم أبو عبد الله المرزباني
في كتاب الموشح من عدة طرق قال : كتب إلي أحمد بن عبد العزيز أخبرنا عمر بن شبة
قال : )
حدثني أبو بكر العليمي قال : حدثنا عبد الملك ابن قريب قال : كان النابغة الذبياني
تضرب له قبةٌ حمراء من أدم بسوق عكاظ فتأتيه الشعراء فتعوض عليه أشعارها .
قال : فأول من أنشده الأعشى : ميمون بن قيس أبو بصير ثم أنشده حسان بن ثابتٍ
الأنصاري : ( لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدةٍ دما ) (
ولدنا بني العنقاء وابن محرقٍ ** فأكرم بنا خالاً وأكرم بنا ابنما )
____________________
فقال له النابغة : أنت شاعر
ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك .
وحدثني علي بن يحيى قال : حدثنا أحمد بن سعيد قال : حدثنا الزبير بن بكار قال :
حدثني لنا الجفنات الغر فقال له : ما صنعت شيئاً قللت أمركم فقلت : جفنات وأسياف .
وأخبرني الصولي قال : حدثني محمد بن سعيد ومحمد بن العباس الرياشي عن الرياشي عن
الأصمعي عن أبي عمرو بن العلاء قال : كان النابغة الذبياني تضرب له قبةٌ بسوق عكاظ
من أدم فتأتيه الشعراء فتعرض عليه أشعارها فأتاه الأعشى فكان أول من أنشده ثم
أنشده حسان بن ثابت قصيدته التي منها : لنا الجفنات الغر وذكر البيتين فقال له
النابغة : أنت شاعرٌ ولكنك أقللت جفانك وأسيافك وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك
.
قال الصولي : فانظر إلى هذا النقد الجليل الذي يدل عليه نقاء كلام النابغة وديباجة
شعره : قال له : أقللت أسيافك لأنه قال : وأسيافنا وأسياف جمع لأدنى العدد والكثير
سيوف . والجفنات لأدنى العدد والكثير جفان وقال : فخرت بمن ولدت لأنه قال : ولدنا
بني العنقاء وابني محرق .
فترك الفخر بآبائه وفخر بمن ولد نساؤه .
قال : ويروى أن النابغة قال له : أقللت أسيافك ولمعت جفانك . يريد قوله : لنا
الجفنات الغر والغرة : لمعة بياضٍ في الجفنة . فكأن النابغة عاب هذه
____________________
الجفان وذهب إلى أنه لو قال
لنا الجفنات البيض فجعلها بيضاً كان أحسن . فلعمري إنه حسنٌ في الجفان إلا أن الغر
أجل لفظاً من البيض . )
قال أبو عبد الله المرزباني : وقال قومٌ ممن أنكر هذا البيت : في قوله : يلمعن
بالضحى ولم يقل بالدجى . وفي قوله : وأسيافنا يقطرن ولم يقل يجرين لأن الجري أكثر
من القطر .
وقد رد هذا القول واحتج فيه قومٌ لحسان بما لا وجه لذكره في هذا الموضع .
فأما قوله : فخرت بمن ولدت ولم تفخر بمن ولدك فلا عذر عندي لحسان فيه على مذهب
نقاد الشعر .
وقد احترس من مثل هذا الزلل رجل من كلب فقال يذكر ولادتهم لمصعب بن الزبير وغيره
ممن ولده نساؤهم : الطويل ( وعبد العزيز قد ولدنا ومصعباً ** وكلبٌ أبٌ للصالحين
ولود ) فإنه لما فخر بمن ولده نساؤهم فضل رجالهم وأخبر أنهم يلدون الفاضلين وجمع
ذلك في بيت واحد فأحسن وأجاد . انتهى ما أورده المرزباني .
وممن نقلها أيضاً أبو الفرج الأصهباني في الأغاني قال بعد إيراد سنده : إن النابغة
كانت تضرب له قبةٌ في سوق عكاظ وتنشده الشعراء أشعارها فأنشده الأعشى شعراً
فاستحسنه ثم أنشدته الخنساء قصيدةً حتى انتهت إلى قولها : البسيط ( وإن صخراً
لوالينا وسيدنا ** وإن صخراً إذا نشتو لنحار ) ( وإن صخراً لتأتم الهداة به **
كأنه علمٌ في رأسه نار )
____________________
فقال : والله لولا أن أبا
بصير الأعشى أنشدني قبلك لقلت إنك أشعر الناس : أنت والله أشعر من كل ذات مثانة .
فقالت : إي والله ومن كل ذي خصيين .
فقال حسان : أنا والله أشعر منك ومنها ومن أبيك . قال : حيث تقول ماذا قال : حيث
أقول : لنا الجفنات الغر . . . . . . البيتين فقال : إنك شاعر لولا أنك قللت عدد
جفانك وفخرت بمن ولدته .
وفي رواية أخرى : قال له : إنك قلت الجفنات فقللت العدد ولو قلت الجفان لكان أكثر
وقلت : يلمعن بالضحى ولو قلت يبرقن بالدجى لكان أبلغ في المديح لأن الضيف في الليل
أكثر . وقلت : يقطرن من نجدة دماً فدللت على قلة القتل ولو قلت يجرين لكان أكثر
لانصباب الدم .
وفخرت بمن ولدت ولم تفتخر بمن ولدك . فقام حسان منكسراً منقطعاً . انتهى ما رواه .
وقال أسامة بن منقذ في باب التفريط من كتاب البديع : اعلم أن التفريط هو أن يقدم
على شيء )
فيأتي بدونه فيكون تفريطاً منه إذا لم يكمل اللفظ أو يبالغ في المعنى . وهو بابٌ
واسع يعتمد عليه النقاد من الشعراء مثل قول حسان بن ثابت الأنصاري : لنا الجفنات
الغر . . . . . البيت وفرط في قوله : الجفنات لأنها دون العشرة وهو يقدر أن يقول :
لدينا الجفان لأن العدد القليل لا يفتخر به .
وكذلك قوله : وأسيافنا لأنها دون العشرة وهو قادرٌ أن يقول : وبيضٌ لنا .
____________________
وفرط في قوله : الغر لأن السود أمدح من البيض لأجل الدهن وكثرة القرى فيهن .
وفرط في قوله : بالضحى وهو قادر على أن يقول في الدجى لأن كل شيءٍ يلمع في الضحى .
وفرط في قوله : يقطرن وهو قادرٌ على أن يقول : يجرين لأن القطر قطرة بعد قطرة .
وقال قدامة : أراد بقوله الغر المشهورات .
وقال بالضحى لأنه لا يلمع فيه إلا عظيمٌ ساطع الضوء والدجى يلمع فيه يسير النور .
وأما أسياف وجفنات فإنه قد يوضع القليل موضع الكثير كما قال سبحانه : لهم جناتٌ و
درجات .
وقوله : يقطرن دماً هو المعروف والمألوف فلو قال يجرين لخرج عن العادة . وينوب قطر
عن وقال ابن أبي الإصبع في كتابه تحرير التحبير : في باب الإفراط في الصفة وهو
الذي سماه قدامة المبالغة وسماه من بعده التبليغ : وحد قدامة المبالغة بأن قال :
هي أن يذكر المتكلم حالاً من الأحوال لو وقف عندها لأجزأت فلا يقف حتى يزيد في
معنى ما ذكره ما يكون أبلغ في معنى قصده كقوله : الوافر ( ونكرم جارنا ما دام فينا
** ونتبعه الكرامة حيث مالا ) وأنا أقول : قد اختلف في المبالغة فقوم يرون أجود
الشعر أكذبه وخير الكلام ما بولغ فيه ويحتجون بما جرى بين النابغة الذبياني وبين
حسان في استدراك النابغة عليه تلك المواضع في قوله : لنا الجفنات الغر . . . . . .
. . . . . البيت فإن النابغة إنما عاب على حسان ترك المبالغة . والقصة مشهورة وإن
روي عن انقطاعه في يد النابغة . وقومٌ يرون المبالغة من عيوب الكلام . والقولان
مردودان . )
____________________
وقد بين وجه الرد فيهما .
ونقل العيني عن ابن يسعون نقد هذا البيت من جهة اللفظ ساقطٌ لأن الجمع في الجفنات
نظير قوله تعالى : وهم في الغرفات آمنون وأما الغر هنا فليس جمع غرة بل البيض
المشرفات من كثرة ويجوز أن يريد بها المشهورة المنصوبة للقرى . وكذلك : يلمعن هو
المستعمل في هذا النحو الذي يدل به على البياض كما تقول : لمع السراب ولمع البرق
وكذلك الضحى والضحاء لأنهما بمعنًى . على أن الضحى أدل على تعجيلهم القرى .
وأما القول : بأن يبرقن في الدجى أبلغ فساقط لأنه إنما أراد أن إطعامهم موصول
وقراهم في كل وقت مبذول لأنه قد وصف قبل هذا قراهم بالليل حيث قال : ( وإنا لنقري الضيف
إن جاء طارقاً ** من الشحم ما أضحى صحيحاً مسلما ) ويروى : ما أمسى .
وأما قوله : يقطرن فهو المستعمل في مثل هذا يقال : سيفه يقطر دماً . ولم يجر
العادة بأن يقال : يجري دماً مع أن يقطر أمدح لأنه يدل على مضاء السيف وسرعة خروجه
عن الضريبة حتى لا يكاد يعلق به دم . اه .
والبيت من قصيدةٍ افتخارية لحسان بن ثابت الصحابي عدتها خمسة وثلاثون بيتاً . وهذه
أبيات منها بعد أن ذكر منازل حبيبته : ( لنا حاضرٌ فعمٌ وبادٍ كأنه ** شماريخ رضوى
عزةً وتكرما ) ( متى ما تزنا من معدٍّ بعصبةٍ ** وغسان نمنع حوضنا أن يهدما )
____________________
( إذا استدبرتنا الشمس درت
متوننا ** كأن عروق الجوف ينضحن عندما ) ( ولدنا بني العنقاء وابني محرقٍ ** فأكرم
بنا خالاً وأكرم بنا ابنما ) ( نسود ذا المال القليل إذا بدت ** مروءته فينا وإن
كان مكرما ) ( وإنا لنقري الضيف إن جاء طارقاً ** من الشحم ما أمسى صحيحاً مسلما )
( ألسنا نرد الكبش عن طية الهوى ** ونقلب مران الوشيج محطما ) ( وكائن ترى من سيدٍ
ذي مهابةٍ ** أبوه أبونا وابن أخت ومحرما ) لنا الجفنات الغر . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . البيت ( أبى فعلنا المعروف أن ننطق الخنا ** وقائلنا
بالعرف إلا تكلما ) ) ( فكل معدٍّ قد جزينا بصنعه ** فبؤسى ببؤساها وبالنعم أنعما
) وهذه آخر القصيدة .
وقوله : لنا حاضر فعم إلخ قال في الصحاح : الحاضر : الحي العظيم . وأنشد البيت .
والفعم : الكثير الممتلىء . والبادي : النازل بالبادية يقال : بدا بداوة بالفتح
والكسر وهي الإقامة بالبادية . والشمراخ بالكسر : رأس الجبل . ورضوى بالفتح : جبلٌ
بالمدينة .
وقوله : متى ما تزنا إلخ تزنا : بالخطاب من الوزن . ومعد : أبو قبيلة .
وقوله : بكل فتًى إلخ متعلق بنمنع . والأشاجع : أصول الأصابع التي تتصل بعصب ظاهر
الكف الواحد أشجع .
وأراد بعريها كونها عاريةً من اللحم غير غليظة . ولاحه بالمهملة بمعنى غيره .
____________________
وقراع : مصدر قارعة . ومقارعة الأبطال : قرع بعضهم بعضاً . والكماة : الشجعان .
وقوله : يرشح المسك إلخ أراد أنهم ملوك فإذا جرح أحدهم سال دمه برائحة المسك .
وقوله : إذا استدبرتنا الشمس إلخ . المتون : الظهور . والعندم : البقم وقيل دم
الأخوين . قال شارح ديوانه : يريد أنهم إذا عرقوا عرقوا برائحة الطيب .
وقوله : ولدنا بني العنقاء إلخ العنقاء : ثعلبة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء
السماء .
وقوله : فأكرم بنا هو تعجب . أي : ما أكرمنا خالاً وما أكرمنا ابناً وما : زائدة .
____________________
وقوله : وإنا لنقري إلخ . نقري : نضيف . والطروق : المجيء ليلاً . وما : مفعول
نقري لتضمنه معنى نطعم . يريد أنهم يذبحون للضيف الإبل السالمة من علة ومرض .
وقوله : ألسنا نرد الكبش إلخ . الكبش : سيد القوم . والطية بالكسر : النية .
والهوى : هوى النفس . والمران بالضم : جمع مارن وهو الرمح اللين المهز . أي :
نقاتل بها حتى تنكسر .
وترجمة حسان تقدمت في الشاهد الحادي والثلاثين من أوائل الكتاب .
____________________
( المصدر ) أنشد فيه وهو ( الشاهد
الخامس والتسعون بعد الخمسمائة ) الطويل ( وما الحرب إلا ما علمتم وذقتم ** وما هو
عنها بالحديث المرجم ) على أن الظرف والجار والمجرور يعمل فيهما ما هو في غاية
البعد من العمل كحرف النفي والضمير كما في البيت فإن قوله : عنها متعلق بهو . أي :
ما حديثي عنها .
والبيت من معلقة زهير بن أبي سلمى الجاهلي . قال الصاغاني في العباب : الحرب مؤنث
يقال : وقعت بينهم حرب .
قال الخليل : تصغيرها حريب بلا هاء روايةً عن العرب . قال المازني : لأنه في الأصل
مصدر .
وقال المبرد : الحرب قد تذكر .
وأنشد : الرجز ( وهو إذا الحرب هفا عقابه ** مرجم حربٍ تلتقي حرابه ) وقد جعل
الشارح المحقق الضمير كنايةً عن الحديث الذي هو قولٌ وفاقاً لأبي الحسين الزوزني
شارح المعلقات يقال : الضمير كناية القول لا العلم لأن العلم لا يكون قولاً . وفيه
رد على سائر شراح المعلقات في أن الضمير راجع إلى العلم .
____________________
قال أبو جعفر النحاس وتبعه التبريزي واللفظ له : قوله : وما هو عنها أي : ما العلم
عنها بالحديث أي : ما الخبر عنها بحديث يرجم فيه بالظن فقوله هو كناية عن العلم
لأنه لما قال : إلا ما علمتم دل على العلم .
قال الله تعالى : ولا تحسبن الذين يبخلون بما آتاهم الله من فضله هو خيراً المعنى
: أنه لما قال يبخلون دل على البخل كقولهم : من كذب كان شراً له أي : كان الكذب
شراً له . اه .
وقال الأعلم الشنتمري : هو كناية عن العلم يريد : وما علمكم بالحرب . وعن بدل من
الباء .
هذا كلامه .
وقال صعودا في شرح ديوانه : هو ضميرٌ راجع على ما وكأنه قال : وما الذي علمتم . ثم
كنى عن الذي . اه . )
والمرجم : الذي يرجم بالظنون والترجيم والرجم : الظن ومنه قول الله عز وجل : رجماً
بالغيب أي : ظناً . والذوق أصله في المطعوم واستعير هنا للتجربة .
يقول : ليست الحرب إلا ما عهدتموها وجربتموها ومارستم كراهتها وما هذا الذي أقوله
بحديث مظنون .
وهذا ما شهدت به الشواهد الصادقة من التجارب وليس من أحكام الظنون .
خاطب زهيرٌ بهذا الكلام قبيلة ذبيان وأحلافهم وهم أسد وغطفان ويحرضهم على الصلح مع
بني عمهم بني عبس ويخوفهم من الحرب فإنهم قد علموا شدائدها في حرب داحس .
وقد تقدم شرح القصة مع شرح أبيات كثيرة من هذه المعلقة مع ترجمة زهير في
____________________
الشاهد الثامن والثلاثين بعد
المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والتسعون بعد الخمسمائة ) الطويل ( أمن رسم دارٍ مربعٌ
ومصيف ** لعينيك من ماء الشؤون وكيف ) على أن رسم دار مصدر مضاف إلى مفعوله :
ومربع : فاعله .
ورسم هنا : مصدر رسم المطر الدار أي : صيرها رسماً بأن عفاها . ولا يراد بالرسم
هنا ما شخص من آثار الدار لأن ذلك عينٌ لا معنًى والذي يعمل معنًى لا غير . كذا في
شرح الإيضاح لأبي البقاء العكبري .
وقال شارح أبياته ابن بري : ومعنى رسم أثر ولم يبق منها إلا رسوماً وآثاراً . وقيل
: معناه غير أثرها بشدة الاختلاف عليها ومنه قيل : رسمت الناقة رسيماً إذا أثرت في
الأرض بشدة وطئها . وقيل الرسم بمعنى المرسوم فعلى هذا يكون اسماً لا مصدراً فلا
يجوز أن يعمل .
والتقدير : ألعينيك من ماء الشؤون وكيفٌ من أجل مرسوم دارٍ هو موضع الحلول في
الربيع والصيف . انتهى كلامه .
والبيت مطلع قصيدة للحطيئة عدتها ثمانية عشر بيتاً مدح بها سعيد بن العاص الأموي
لما كان والياً بالكوفة لعثمان بن عفان .
____________________
وبعده بيتان : ) ( تذكرت فيها الجهل حتى تبادرت ** دموعي وأصحابي علي وقوف ) ومنها
: ( إليك سعيد الخير جبت مهامهاً ** يقابلني آلٌ بها وتنوف ) وقوله : أمن رسم دار
إلخ الهمزة للاستفهام التقريري ومن تعليلية متعلقة بوكيف وهو مصدر قال شارح ديوانه
: التأويل : أمن أن رسم داراً مربعٌ أي : أثر فيها آثاراً . والرسم : الأثر بلا
شخص . والشؤون : مجاري الدمع من الرأس إلى العين واحدها شأن .
وقوله : لعينيك : جار ومجرور متعلق بمحذوف خبر مقدم على المبتدأ وهو وكيف يروى
بالتثنية ويروى بالإفراد .
ومربع : فاعل المصدر وهو رسم وهو على حذف مضاف والتقدير : مطره ونحوه . وهو وما
بعده اسمان لزمن الربيع والصيف ويأتيان اسمي مكان أيضاً ومصدرين أيضاً .
وهذه الصيغة يشترك فيها هذه المعاني الثلاثة وهي صيغة قياسية يذكرها الصرفيون .
والمذكور في كتب اللغة إنما هو المربع بمعنى منزل القوم في الربيع خاصة .
وقد استعمل الحريري في المقامة الأولى المربع بمعنى الربع وهو المنزل حيث كان في
قوله : ويسرب من يتبعه لكن يجهل مربعه . ولم يصب ابن الخشاب في
____________________
تخطئة الحريري فيما كتبه على
المقامات في قوله : ما أصاب فيه لأن الربع منزل القوم في الربيع خاصة وقد استعمله
بمعنى الأول وهو خطأ لأنه كالمصيف والمشتى وتلك منازلهم في هذه الأزمنة خاصة .
وقد أجاد ابن بري في الرد عليه فقال : يقال : ربع بالمكان أي : أقام به الربيع
ويقال أيضاً ربع بالمكان : أقام به حيثما كان . واسم المكان منهما مربعٌ قياساً
مطرداً عند النحويين كالمصنع والشاهد على قولهم : ربع بالمكان إذا أقام به حيثما
كان قول الحادرة : الطويل ( بكرت سمية غدوةً فتمتع ** وغدت غدو مفارقٍ لم يربع )
فسره المفضل في المفضليات فقال : يقال ربع بالمكان إذا أقام به . ولم يشترط ربيعاً
ولا غيره .
فعلى هذا يصح أن يكون المربع لمنزل الإنسان . من بيته وداره ونحو ذلك وعليه يصح
قول يزيد بن الصعق : الطويل يشن عليكم بالقنا كل مربع أي : كل مكان تقيمون فيه .
وأما قول أهل اللغة إن المربع اسمٌ للمنزل في الربيع خاصة فإنما )
يريدون به الأكثر وهو الأصل ثم اتسع فيه فجعل لكل مكان أقام به الرجل .
ألا ترى أنهم لا يكادون يذكرون المربع في اسم الزمان وهو أيضاً قياس مطرد مثل اسم
المكان .
وشاهده قول الحطيئة :
____________________
أمن رسم دارٍ مربعٌ ومصيف
فالمربع والمصيف على هذا : اسمٌ لزمان الربيع والصيف وكذلك قول جرير : الكامل (
ردوا الجمال بذي طلوحٍ بعدما ** هاج المصيف وقد تولى المربع ) أي : ردوا الجمال من
موضع رعيها إلى الحي حين أرادوا التحمل وقد أتى المصيف . وتولى وكذلك المربع قد
يكون اسماً للمصدر في نحو قولهم : ربعت بالمكان مربعاً . ولا يكاد يذكرون المربع
إلا في اسم المنزل بالربيع وإنما يذكر هذا مبنياً أهل النحو ويجعلون له باباً
مفرداً وقياساً مطرداً . وما خرج عن القياس في بناءٍ ذكروه . انتهى كلامه .
وقوله : تذكرت فيها الجهل أي : جهل الشباب والصبا .
وقوله : إليك سعيد الخير إلخ إليك : متعلق بجبت قدم عليه لإفادة الحصر .
وجبت : قطعت يقال : جاب الوادي يجوبه إذا قطعه وسعيد : منادًى مضاف إلى الصفة التي
اشتهر بها . ويجوز أن يكون أصله خير بالتشديد فخفف . والمهمه : القفر . والآل :
السراب .
وتنوف : جمع تنوفة وهي الفلاة .
روى الأصبهاني في الأغاني بسنده إلى خالد بن سعيد قال : لقيني إياس ابن الحطيئة
فقال لي : يا أبا عثمان مات أبي وفي كسر بيته عشرون ألفاً أعطاه إياها
____________________
أبوك وقال فيه خمس قصائد فذهب
والله ما أعطيتمونا وبقي ما أعطيناكم فقلت : صدقت والله .
وروى أيضاً بسندٍ متصل إلى خالد بن سعيد قال : كان سعيد بن العاص بالمدينة زمن
معاوية وكان يعشي الناس فإذا فرغ من العشاء قال الآذن : ليذهب إلا من كان من أهل
سمره . قال : فدخل الحطيئة فتعشى مع الناس ثم لم ينصرف فلما ألح عليه الآذن قال
سعيد : دعه وأخذ في الشعر والحطيئة مطرقٌ لا ينطق فقال الحطيئة : والله ما أصبتم
جيد الشعر ولا شاعر الشعراء .
قال سعيد : من أشعر العرب يا هذا قال : الذي يقول : الخفيف ( لا أعد الإقتار عدماً
ولكن ** فقد من قد رزئته الإعدام ) ( من رجالٍ من الأقارب بانوا ** من جذامٍ هم
الرؤوس الكرام ) ) ( سلط الموت والمنون عليهم ** فلهم في صدى المقابر هام ) (
وكذاكم سبيل كل أناسٍ ** سوف حقاً تبليهم الأيام )
____________________
قال : ويحك من يقول هذا الشعر
قال : أبو دوادٍ الإيادي . قال : ومن الثاني قال : الذي يقول : مخلع البسيط ( أفلح
بما شئت فقد يبلغ بال ** ضعف وقد يخدع الأريب ) قال : ومن يقول هذا الشعر قال :
عبيد . قال : ثم من قال : والله لحسبك بي عند رهبةٍ أو رغبة إذا وضعت إحدى رجلي
على الأخرى ثم رفعت صوتي بالشعر ثم عويت على إثر القوافي عواء الفصيل الصادر عن
الماء قال : ومن أنت قال : الحطيئة . قال : ويحك قد علمت تشوقنا إلى مجلسك وأنت
تكتمنا نفسك منذ الليلة فأنشدني . ( سعيدٌ فلا يغررك قلة لحمه ** تخدد عنه اللحم
وهو صليب ) ( إذا غبت عنا غاب عنا ربيعنا ** ونسقى الغمام الغر حين يؤوب ) ( فنعم
الفتى تعشو إلى ضوء ناره ** إذا الريح هبت والمكان جديب ) فقال له : أنت لعمر الله
أشعر عندي منهم . فأمر له بعشرة آلاف درهم .
____________________
ثم عاد فأنشده : أمن رسم دارٍ مربعٌ ومصيف إلى آخر القصيدة فأعطاه عشرة آلاف أخرى
.
وروي أيضاً هذا الخبر عن أبي عبيدة وقال : قال أبو عبيدة في هذا الخبر : وأخبرني
رجلٌ من بني كنانة قال : أقبل الحطيئة في ركب من بني عبس حتى قدم المدينة فقالوا
له : إنا قد أرذينا وأخلينا فلو تقدمت إلى رجل شريف من أهل المدينة فقرانا وحملنا
.
فأتى خالد بن سعيد بن العاص فسأله فاعتذر إليه وقال : ما عندي شيءٌ . فلم يعد عليه
الكلام وخرج من عنده فارتاب به خالد فبعث يسأل عنه فأخبر أنه الحطيئة فرده واعتذر
إليه فأراد خالد أن يستفتحه الكلام فقال : من أشعر الناس فقال : الذي يقول :
الطويل ( ومن يجعل المعروف من دون عرضه ** يفره ومن لا يتق الشتم يشتم ) فقال خالد
لبعض جلسائه : هذه بعض عقاربه وأمر له بكسوة وحملان فخرج بذلك من )
عنده . اه .
وترجمة الحطيئة قد تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والتسعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
المتقارب ( ضعيف النكاية أعداءه ** يخال الفرار يراخي الأجل ) على أن سيبويه
والخليل جوزا إعمال المصدر المعرف باللام مطلقاً كما في البيت .
قال سيبويه : وتقول : عجبت من الضرب زيداً كما تقول : عجبت من الضارب زيداً يكون
الألف واللام بمنزلة التنوين قال الشاعر : ضعيف النكاية أعداءه . . . . . . . . .
. . البيت وقال المرار : لقد علمت أولى المغيرة . . . . . . . . . . البيت وقال
الأعلم : الشاهد فيه نصب الأعداء بالنكاية لمنع الألف واللام الإضافة ومعاقبتهما
للتنوين الموجب للنصب .
ومن النحويين من ينكر عمل المصدر وفيه الألف واللام لخروجه عن شبه الفعل فينصب ما
بعده بإضمار مصدر منكور فيقدره : ضعيف النكاية نكاية أعداءه . وهذا يلزمه مع تنوين
المصدر لأن الفعل لا ينون فقد خرج المصدر عن شبه الفعل بالتنوين فينبغي على مذهبه
أن لا يعمل .
____________________
يقول : هو ضعيف عن أن ينكي عدوه وجبانٌ أن يثبت ولكنه يلتجي إلى الفرار ويخاله
مؤخراً لأجله . اه .
وأراد ببعض النحويين أبا العباس المبرد .
وجعل السيرافي نصب أعداءه على حذف الخافض أي : ضعيف الكناية في أعدائه .
وقوله : يخال بمعنى يظن . ويراخي : يباعد وفاعله ضمير الفرار وفاعل يخال ضمير
المهجو .
وجملة : يراخي في موضع المفعول الثاني ليخال . وضعيف : خبر مبتدأ محذوف أي : هو
ضعيف . )
والنكاية : مصدر نكيت في العدو إذا أثرت فيه . وجاء معدى بنفسه .
ينكى العدى ويكرم الأضيافا وقال عدي بن زيد : الطويل ( إذا أنت لم تنفع بودك أهله
** ولم تنك بالبؤسى عدوك فابعد ) من بعد من باب فرح إذا هلك .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والتسعون بعد الخمسمائة ) وهو من شواهد س : الطويل
____________________
( لقد علمت أولى المغيرة أنني
** كررت فلم أنكل عن الضرب مسمعا ) لما تقدم قبله . ويروى : لحقت فلم أنكل .
قال الأعلم : الشاهد في نصب مسمع بالضرب على نحو ما تقدم . ويجوز أن يكون بلحقت
والأول أولى لقرب الجوار ولذلك اقتصر عليه سيبويه . يقول : قد علم أولى من لقيت من
المغيرين أني صرفتهم عن وجههم هازماً لهم ولحقت سيدهم مسمعاً فلم أنكل عن ضربه
بسيفي .
وقال ابن خلف : وكان بعض البصريين المتأخرين لا ينصب بالمصدر إذا كان فيه الألف
واللام وينصب مسمعاً بلحقت لا بالضرب وحجته أن أل تبعد المصدر عن شبه الفعل .
قال أبو الحجاج : ومن أعمل الضرب فيه فهو عندي على قول من أعمل الثاني وهو أحسن
عند أصحابنا .
ألا ترى أن المعنى لحقت مسمعاً فلم أنكل عن ضربه فحذف المفعول من الأول لدلالة
الثاني عليه .
ومن أعمل لحقت أراد : لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه أو عن ضربيه إلا أنه حذف
لأن المصادر يحذف معها الفاعل والمفعول .
____________________
ولا يجوز على هذا القياس ضربت وشتمت زيداً حتى تأتي بعلامة الضمير في شتمت . يعني
إذا أعملت ضربت . قال : لأن الفعل لا يحذف معه هذا المفعول كما يحذف مع المصدر .
وقد أجاز السيرافي حذف الضمير في هذا النحو مع الفعل أيضاً لأن المفعول كالفضلة
المستغنى )
عنها .
قال أبو علي : ومن أنشد كررت كان مسمع مفعول الضرب لا غير لأن كررت يتعدى بالحرف
وهو على ولا حرف ها هنا .
فإن جعلت على مرادةً كما جاء في قوله : لأقعدن لهم صراطك المستقيم وقول الشاعر :
الطويل ( تحن فتبدي ما بها من صبابةٍ ** وأخفي الذي لولا الأسى لقضاني ) فلما حذف
أوصلت الفعل فهو وجه . قال أبو الحجاج : وهذا خلاف لما في الإيضاح لأنه قال هنالك
: إن ذلك لا يعمل عليه ما وجد مندوحة عنه . وليس ينكر على العالم أن يرجع عن قول
إلى ما هو خيرٌ منه . اه .
قال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : وأجاز السيرافي هذا الذي منعه أبو علي وكذلك
أجاز أبو علي في غير الإيضاح نصب مسمع . بكررت على
____________________
إسقاط حرف الجر كالآية . اه .
ولو عمل كررت لكان التقدير : كررت فلم أنكل عن الضرب إياه على مسمع فحذف على وأوصل
الفعل .
وقال ابن السيرافي : لا يحسن أن ينصب بكررت على تقدير كررت على مسمع فلم أنكل عن
الضرب . وعلى الرواية الثانية ينتصب أيضاً بالضرب إلا أنه على إعمال الثاني الأقرب
إليه .
ولو أعمل الأول لأضمر وكان التقدير : لحقت مسمعاً فلم أنكل عن الضرب إياه مسمعاً .
وقد أورده ابن قاسم المرادي في باب التنازع من شرح الألفية بلفظ لقيت ولم أنكل عن
الضرب وأورده ابن الناظم وابن هشام في شرح الألفية في باب إعمال المصدر كالشارح
المحقق .
والبيت من قصيدة لمالك بن زغبة الباهلي وبعده : ( ولو أن رمحي لم يخني انكساره **
لغادرت طيراً تعتفيه وأضبعا ) ( وفر ابن كدراء السدوسي بعدما ** تناول مني في
المكرة منزعا ) ( وما كنت إلا السيف لاقى ضريبةً ** فقطعها ثم انثنى فتقطعا ) (
وإني لأعدي الخيل تعثر بالقنا ** حفاظاً على المولى الحريد ليمنعا )
____________________
( ونحن جنبنا الخيل من سرو
حميرٍ ** إلى أن وطئنا أرض خثعم نزعا ) ( أجئتم لكيما تستبيحوا حريمنا ** فصادفتم
ضرباً وطعناً مجدعا ) ) ( فأبتم خزايا صاغرين أذلةً ** شريجة أرماح لأكتافكم معا )
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب : مسمع بن شيبان : أحد بني قيس بن ثعلبة كان
خرج هو وابن كدراء الذهلي يطلبان بدماء من قتلته باهلة من بني بكر بن وائل يوم قتل
أبو الأعشى قيس بن جندل فبلغ ذلك باهلة فلقوهم فقاتلوا قتالاً شديداً فانهزمت بنو
قيس ومن كان معهما من بني ذهل وضرب مسمعٌ وأفلت جريحاً . اه .
وقوله : لقد علمت أولى المغيرة إلخ يعني أولها . والمغيرة : الخيل يريد مقدمة
العسكر .
لقد علمت أولى المغيرة . . . . . . . البيت فقال : أولى كل شيء : أوله .
وقال ابن السيرافي : المغيرة يجوز أن تكون وصفاً للخيل المحذوفة وهو أجود لأن استعمالها
معه أكثر .
ويجوز أن يكون وصفاً للجماعة المغيرة أو نحوها . وعلى أي الحالين فهو اسم فاعل من
أغار على العدو إغارة . اه .
وذكر ابن السيد في شرح أبيات الجمل : أنه يقال : المغيرة بضم الميم وكسرها .
وتبعه ابن خلف وتعقبه اللخمي بأنه يقال في اسم الرجل المغيرة بكسر الميم
____________________
لأنهم إنما يغيرون الأسماء
الأعلام ولا يكادون يغيرون الصفات الجارية على الأفعال لئلا يخرجوها عن الباب .
والنكول : الرجوع جبناً . قال ابن خلف : من ضم الكاف في المضارع فتحها في الماضي
ومن كسرها في الأول فتحها في الثاني . ومسمع بكسر الميم الأولى وفتح الثانية .
وقوله : لغادرت طيراً إلخ . غادرت : تركت . وفلان تعتفيه الأضياف أي : تأتيه .
وأضبع : جمع ضبع . يريد أنه لو لم يخنه رمحه لقتله . وكانت تأتيه الطيور والسباع
تأكله .
وسدوس بالفتح : أبو قبيلة . والمكرة بالفتح : موضع الحرب . والمنزع بكسر الميم
وسكون النون وقوله : أجئتم لكيما الهمزة للاستفهام التوبيخي . والاستباحة : النهب
والأسر .
والمجدع بكسر الدال المشددة : مبالغة جادع من جدع أنفه وأذنه وشفته من باب نفع إذا
قطعها .
وقوله : فأبتم خزايا إلخ . أي : رجعتم من الأوب وهو الرجوع . وخزايا : جمع خزيان
وصف من خزي خزياً من باب علم أي : ذل وهان . وأخزاه الله : أذله وأهانه . وصاغرين
من صغر )
صغراً من باب تعب إذا ذل وهان .
ومالك بن زغبة بضم الزاي وسكون الغين المعجمتين بعدها موحدةٌ شاعرٌ جاهلي .
____________________
وأنشد بعده : طلب المعقب حقه المظلوم على أن المظلوم ارتفع بقوله : حقه أي : غلبه
المظلوم بالحق .
وهذا غير ما وجهه به في باب المنادى فإنه قال هناك : إن فاعل المصدر وإن كان
مجروراً بإضافة المصدر إليه محله الرفع فالمعقب فاعل المصدر وهو طلب وقد جر
بإضافته إليه ومحله الرفع بدليل رفع وصفه وهو المظلوم .
وهذا التخريج هو المشهور .
والمعقب : اسم فاعل من التعقيب وهو الذي يطلب حقه مرةً بعد مرة . يقال : عقب في
الأمر تعقيباً إذا تردد في طلبه مجداً . وطلب بالرفع فاعل لهاجه في المصراع قبله
وهو : حتى تهجو في الرواح وهاجه أي : حتى سار الحمار في الهاجرة وحثه على المسير
طلبٌ كطلب المعقب المظلوم حقه فحقه مفعول المصدر .
وما ذكره الشارح هنا هو تخريج ابن جني في المحتسب إلا أنه فسر حقه المظلوم بغير
هذا قال : أي عازه ومنعه المظلوم . فحقه على هذا فعلٌ حقه يحقه أي : لواه حقه .
انتهى .
ولم أر في كتب اللغة حقه يحقه بهذا المعنى .
ونقل ابن المستوفي عن الخوارزمي أنه قال : إن رفعت طلب فحقه حينئذ فعل يقال : حقه
يحقه : لواه حقه وصده . والمظلوم نعت المعقب وفاعل حقه مضمرٌ . هذا كلامه .
____________________
والذي ذكره الأندلسي أن حاقه بمعنى خاصمه وادعى كل واحد منهما الحق فإذا غلبه قيل
حقه . انتهى ما أورده ابن المستوفي .
فظهر من هذا أن مأخذ الشارح المحقق كلام الأندلسي .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً على هذا البيت مع جملة أبيات من القصيدة وهي للبيدٍ
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والتسعون بعد الخمسمائة ) الوافر ( أكفرا بعد رد الموت
عني ** وبعد عطائك المائة الرتاعا ) على أن العطاء هنا بمعنى الإعطاء ولهذا عمل
عمله . والمفعول الثاني محذوف أي : بعد إعطائك المائة الرتاع إياي . وردّ : مصدر
مضاف إلى المفعول وفاعله محذوف أي : بعد ردك الموت عني . وأورده شراح الألفية على
أن العطاء اسم مصدر . والبيت من قصيدة للقطامي تقدم شرح أبيات من أولها مع ترجمته
في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائة .
____________________
وهذه أبيات منها : ( ومن يكن استلام إلى ثوي ** فقد أكرمت يا زفر المتاعا ) أكفرا
بعد رد الموت عني . . . . . . . . البيت ( فلو بيدي سواك غداة زلت ** بي القدمان
لم أرج اطلاعا ) ( إذا لهلكت لو كانت صغار ** من الأخلاق تبتدع ابتداعا ) ( من
البيض الوجوه بني نفيل ** أبت أخلاقهم إلا اتساعا ) وهي قصيدة طويلة مدح بها زفر
بن الحارث الكلابي وحض قيسا وتغلب على الصلح . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء :
كان القطامي أسره زفر في الحرب التي كانت بين قيس وتغلب فأرادت بين قيس قتله فحال
زفر بينهم وبينه ومن عليه وأعطاه مائة من العطاه مائة من الإبل وأطلقه فقال :
أكفرا بعد رد الموت عني إلى آخر الأبيات التي أوردناها .
قوله : ومن يكن استلام إلخ .
____________________
قال شارح ديوانه : أي من أتى
إلى ضيفه ما يلام عليه فأنت أتيت إلى ضيفك أمرا تستوجب فيه الثناء والمدح والذكر
الحسن . والثوي : الضيف وهو فعيل من الثواء قال : وهو الإقامة . والمتاع : والزاد
. ومتعته : زودته . أخبر أنه زوده وأعطاه . وقوله : أكفرا بعد رد الموت إلخ الهمزة
للاستفهام الإنكاري وكفرا : مفعول مطلق عامله محذوف أي : أأكفرا كفرا . والرتاع :
جمع راتعة .
قال شارح ديوانه : الرتاع : الراعية . يقول : أخونك بعد هذا وقد مننت علي وأطلقتني
ويقال : )
كان زفر اشتراه من قيس بن وهب ووهب له مائة من الإبل .
وقوله : فلو بيدي إلخ الباء متعلقة بمحذوف كما أشار إليه شارح ديوانه بقوله : يقول
له كنت في يدي غيرك لم أرج اطلاعاً أي : نجاة وارتفاعاً من صرعتي ولم أرجع إلى
أهلي .
وقوله : إذن لهلكت إلخ . قال شارح ديوانه : تبتدع : تستحدث يقال : شيءٌ بدع وبديع
إذا كان بديعاً قال : لو ابتدعت صغار لهلكت أنا . انتهى .
وصغار بالرفع وتبتدع بالبناء للمفعول . قال العيني : معناه لو ابتدعت في أموراً
صعاباً لهلكت . هذا كلامه .
وقوله : فلم أر منعمين إلخ . قال شارح ديوانه : يقول : لم أر مثلهم لا يمنون بما
صنعوا . يريد الذين أنعموا عليه .
وقوله : من البيض الوجوه . قال شارح ديوانه : نفيل بن عمرو بن كلاب ابن ربيعة بن
عامر بن صعصعة رهط زفر .
وأنشد بعده : الرجز دارٌ لسعدى إذه من هواكا على أن المصدر يجوز استعماله بمعنى
اسم المفعول كما هنا فإن هوى مصدر هويته من باب تعب إذا أحببته وعلقت به . والمراد
به هنا اسم المفعول أي : من مهويك .
____________________
وبهذا الوجه أورده سابقاً في باب المفعول المطلق في الشاهد الثالث والثمانين .
وتقدم الكلام عليه هناك مفصلاً .
وقوله : إذه أصله إذ هي فحذفت الياء ضرورة وبقيت الهاء من هي .
وبهذا الوجه أورده أيضاً في باب الضمير بعد الشاهد الثمانين بعد الثلثمائة وتقدم
الكلام عليه أيضاً مستوفًى هناك .
____________________
( اسم الفاعل ) أنشد فيه :
ليبك يزيد ضارعٌ لخصومةٍ على أن قوله : ضارع فاعل لفعل محذوف أي : يبكيه ضارع .
وهذا على رواية ليبك بالبناء للمفعول ويزيد نائب الفاعل .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً مشروحاً في الشاهد الخامس والأربعين من أوائل الكتاب
.
وأنشد بعده ( الشاهد الموفي للستمائة ) البسيط ( فبت والهم تغشاني طوارقه ** من
خوف رحلة بين الظاعنين غدا )
____________________
** على أن غدا يحتمل أن يكون
منصوباً بأحد عوامل ثلاثة وهي رحلة وبين والظاعنين فلا يتم ما ادعاه المبرد من
جواز عمل اسم الفاعل الماضي . مع أن الكلام في اسم الفاعل الذي ينصب مفعولاً به لا
ظرفاً .
وأورد أبو علي في إيضاح الشعر هذا البيت وقال : فيه حذف والتقدير من خوف الارتحال
وخوف الفراق . ونسب البيت لجرير .
وقوله : فبت والهم إلخ . بات هنا تامة قال ابن الأثير في النهاية : كل من أدركه
الليل فقد بات يبيت نام أو لم ينم . والواو هي واو الحال والهم : مبتدأ وجملة
تغشاني طوارقه : خبره والجملة في محل نصب حال من التاء في بت .
قال ابن الأثير : غشيه يغشاه غشياناً إذا جاءه . وغشاه تغشيةً إذا غطاه . وغشي
الشيء إذا لابسه . والطوارق هنا : الدواهي .
قال ابن الأثير : كل آت بالليل طارق . وقيل أصل الطروق من الطرق وهو الدق . وسمي
الآتي بالليل طارقاً لحاجته إلى دق الباب . وجمع الطارقة طوارق . ومنه الحديث :
أعوذ بالله من طوارق الليل إلا طارقاً يطرق بخير . ومن : متعلقة بقوله : تغشاني
ورحلة مضاف إلى بين وكذلك بين مضاف إلى ما بعده فهما مجروران بالكسرة .
والرحلة بالكسر : اسم مصدر بمعنى الارتحال . والبين هنا مصدر بان يبين بيناً أي :
فارق )
وبعد . والظاعنين من ظعن يظعن بفتح عينهما ظعناً بفتح العين وسكونها أي : سار وذهب
.
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب .
____________________
( الشاهد الواحد بعد الستمائة
) الطويل ( فيالرزام رشحوا بي مقدماً ** على الحرب خواضاً إليها الكرائبا ) على أن
خواضاً صيغة مبالغة حول من اسم الفاعل الثلاثي وهو خائض .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : في هذا البيت شاهدٌ على جواز إعمال اسم الفاعل .
ألا تراه كيف نصب الكرائب بخواض .
وهو من أبياتٍ تسعة لسعد بن ناشبٍ المازني أوردها أبو تمام في أوائل الحماسة وهي :
( سأغسل عني العار بالسيف جالباً ** علي قضاء الله ما كان جالبا ) ( وأذهل عن داري
وأجعل هدمها ** لعرضي من باقي المذمة حاجبا ) ( ويصغر في عيني تلادي إذا انثنت **
يميني بإدراك الذي كنت طالبا ) ( فإن تهدموا بالغدر داري فإنها ** تراث كريمٍ لا
يبالي العواقبا ) ( أخو غمراتٍ لا يريد على الذي ** يهم به من مفظع الأمر صاحبا )
( إذا هم لم تردع عزيمة همه ** ولم يأت ما يأتي من الأمر هائبا ) ( إذا هم ألقى
بين عينيه عزمه ** ونكب عن ذكر العواقب جانبا )
____________________
( ولم يستشر في أمره غير نفسه
** ولم يرض إلا قائم السيف صاحبا ) قال شراح الحماسة : سبب هذه الأبيات أنه كان
أصاب دماً فهدم بلال بن أبي بردة داره بالبصرة وحرقها . وقيل : إن الحجاج هو الذي
هدم داره .
وقال ابن هشام في شرح الشواهد : ويقال إنه قتل له حميم وإنه أوعده بهدم داره إن
طالب بثأره .
وقوله : سأغسل عني العار إلخ . قال التبريزي : أصل القضاء الحتم ثم يتوسع فيه
فيقال : قضي قضاؤك أي : فرغ من أمرك . فاستعمل في معنى الفراغ من الشيء .
ويروى : قضاء الله بالرفع والنصب . فإذا رفعته يكون فاعلاً لجالباً علي وما كان
جالباً في موضع المفعول ويكون القضاء بمعنى الحكم . )
والتقدير : سأغسل العار عن نفسي باستعمال السيف في الأعداء في حال جلب حكم الله
علي الشيء الذي يجلبه . وإذا نصبت القضاء فإنه يكون مفعولاً لجالباً وفاعله ما كان
جالباً .
ويكون القضاء الموت المحتوم كما يقال للمصيد الصيد وللمخلوق الخلق . والمعنى :
جالباً الموت علي جالبه . وقيل : إن كان في قوله : ما كان في معنى صار . انتهى .
وقال ابن جني : أراد جالبه أي : جالباً إياه فحذف الضمير مع اسم الفاعل كما يحذف
مع الفعل نفسه .
ومثله ما أراناه أبو علي من قول الله تعالى : فاقض ما أنت قاضٍ أي : قاضيه في معنى
قاضٍ إياه .
وعليه البيت الآخر فيه وهو : بإدراك الذي كنت طالبا
____________________
أي : إياه أو طالبه أو طالباً
له . وأن يكون المحذوف ضميراً متصلاً أولى من أن يكون ضميراً منفصلاً .
وقوله : وأذهل عن داري إلخ . الذهول : ترك الشيء متناسياً له . يقول : إذا نبا
المنزل بي حتى يصير دار الهوان انتقلت عنه وأجعل خرابه وقايةً لنفسي من العار
الباقي .
وهذا قريبٌ من قوله : الكامل وإذا نبا بك منزلٌ فتحول وقوله : ويصغر في عيني إلخ .
أراد بقوله : يصغر صغر القدر . وخص التلاد وهو المال القديم لأن النفس به أضن .
ونبه بهذا الكلام على أنه كما يخف على قلبه ترك الدار والوطن خوفاً من التزام
العار الباقي كذلك يقل في عينه إنفاق المال عند إدراك المطلوب . وانثنت : انعطفت
ومالت .
وهذا البيت أورده ابن الناظم في شرح الألفية شاهداً على جواز حذف العائد المجرور
بالإضافة إن كان المضاف وصفاً بمعنى الحال أو الاستقبال فإن الأصل كنت طالبه فحذف
الضمير .
وقوله : فإن تهدموا بالغدر إلخ . الغدر : ترك الوفاء . يقول : إن تخربوا داري
بالغدر منكم فإنها تراث كريم . يعني نفسه . وسمى ملكه ميراثاً وهو حيٌّ باعتبار ما
يؤول إليه . والكرم : التنزه عن )
الأقذار .
وقوله : أخو غمرات إلخ بفتحتين هي الشدائد . ويروى : أخو عزمات . والعزم : عقد
القلب على ما يرى فعله . ومفظع من أفظع الأمر
____________________
إفظاعاً . وكذلك فظع فظاعةً
أي : عظم . أو من أفظعني الأمر ففظعت به أي : أعياني فضقت به ذرعاً . يصف نفسه
بأنه صاحب همم وأخو عزمات مستبدٌّ برأيه فيها غير متخذ رفيقاً .
وقوله : فيالرزام رشحوا إلخ . هو فعل أمر من الترشيح وهو التربية . ومنه رشحت
المرأة ولدها إذا درجته في اللبن ثم قيل : رشح فلان لكذا توسعاً . أي : رشحوا به
بترشيحكم إياي قال التبريزي : قوله : فيالرزام النية بالفاء استئناف ما بعدها وإن
نسق بها جملةً على جملة .
واللام من يالرزام لام الاستغاثة ورزام مجرور بها وهو قبيلة وهم المدعوون وأصل
حركة اللام مع الظاهر الكسر وفتحت مع المستغاث لكونه في موقع الضمير ومقدماً بكسر
الدال بمعنى متقدماً كما يقال وجه وتوجه ونبه بمعنى تنبه . ونكب بمعنى تنكب .
والكرائب : جمع كريبة وهي الشدة من شدائد الدهر . والأصل في الكرب الغم الذي يأخذ
بالنفس . ويروى بدل : الكتائبا جمع كتيبة وهي الجيش .
وقوله : إذا هم ألقى إلخ أي : جعله بمرأى منه لا يغفل عنه . وقد طابق فيه لما
قابله بقوله : ونكب عن ذكر العواقب جانبا . وسمى المعزوم عليه عزماً . ونكب إن كان
بمعنى حرف فجانباً مفعول به له وإن كان بمعنى انحرف فجانباً ظرف له .
قال ابن جني : لك في جانباً وجهان : أحدهما : أن يكون مفعولاً به أي : نكب جانباً
منه عن ذكر العواقب .
____________________
والآخر : أن يكون ظرفاً أي : نكب عن ذكر العواقب في جانب . ويؤكد هذا رواية من
رواه : وأعرض عن ذكر العواقب وقوله : ولم يستشر إلخ نبه على الرأي به وعلى الفعل
بقوله : ولم يرض . وقائم السيف : مقبضه .
وقال ابن جني : إن شئت نصبت صاحباً على أنه مفعول به ونصبت قائم السيف على
الاستثناء أي : لم يرض صاحباً إلا قائم السيف . وإن شئت نصبت قائم السيف نصب
المفعول به وجعلت صاحباً بدلاً منه كقولك : لم أضرب إلا زيداً قائماً أي : لم أضرب
أحداً إلا زيداً في حال قيامه . )
ومن نصب زيداً في قولك : ما رأيت أحداً إلا زيداً على البدل لم ينصب قائم السيف في
القول الأول إلا على الاستثناء المقدم دون البدل وذلك لتقدمه على صاحبه والبدل لا
يجوز تقدمه على المبدل منه . انتهى .
وزاد ابن هشام في شرح الشواهد بيتين بعد هذه الأبيات وهما : ( فلا توعدني بالأمير
فإن لي ** جناناً لأكناف المخاوف راكبا ) ( وقلباً أبياً لا يروع جأشه ** إذا الشر
أبدى بالنهار كواكبا ) وسعد بن ناشب شاعرٌ إسلاميٌّ في الدولة المروانية . قال
شراح الحماسة : هو من بني مازن بن مالك بن عمرو بن تميم .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو من بني العنبر وكان أبوه ناشب أعور وكان من
شياطين العرب .
____________________
وفيه يقول الشاعر : الطويل ( وكيف يفيق الدهر سعد بن ناشبٍ ** وشيطانه عند الأهلة
يصرع ) وسعد بفتح السين وسكون العين وناشب بكسر الشين المعجمة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( ضروبٌ
بنصل السيف سوق سمانها ** إذا عدموا زاداً فإنك عاقر ) على أن ضروباً صيغة مبالغة
اسم الفاعل محول عن ضارب ولهذا عمل عمله . وسوق نصب به على المفعولية .
ولهذا أورده سيبويه .
والبيت من أبيات لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم رثى بها أبا أمية
____________________
ابن المغيرة بن عبد الله بن
عمر بن مخزوم وكان أبو أمية زوج أخته عاتكة بنت عبد المطلب فخرج تاجراً إلى الشام
فمات بموضع يقال له : سرو سحيم فقال أبو طالب هذه الأبيات يرثيه : ( بسرو سحيم
عارفٌ ومناكرٌ ** وفارس غارات خطيبٌ وياسر ) ( تنادوا بأن لا سيد الحي فيهم ** وقد
فجع الحيان كعبٌ وعامر ) ( فكان ذا يأتي من الشام قافلاً ** بمقدمه تسعى إلينا
البشائر ) ( فيصبح أهل الله بيضاً كأنما ** كستهم حبيراً ريدةٌ ومعافر ) ( ترى
داره لا يبرح الدهر عندها ** مجعجعةٌ كومٌ سمانٌ وباقر ) ( إذا أكلت يوماً أتى
الدهر مثلها ** زواهق زهمٌ أو مخاضٌ بهازر ) ضروبٌ بنصل السيف سوق سماتها . . . .
. . . . . . . . . . . . البيت ( وإلا يكن لحمٌ غريضٌ فإنه ** تكب على أفواههن
الغرائر ) ( فيا لك من ناعٍ حبيت بألةٍ ** شراعية تصفر منها الأظافر ) قوله : ألا
إن زاد الركب قال ابن بكار في أنساب قريش : كان أزواد الركب من قريش ثلاثة : الأول
: مسافر بن أبي عمرو بن أمية بن عبد شمس .
الثاني : زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزى .
الثالث : أبو أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . وإنما قيل لهم أزواد
الركب أنهم كانوا إذا سافروا لم يتزود معهم أحدٌ .
____________________
وكان عند أبي أمية بن المغيرة أربع عواتك : عاتكة بنت عبد المطلب وهي أم زهير وعبد
الله وهو الذي قال للنبي صلى الله عليه وسلم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض )
ينبوعاً . وعاتكة بنت جذل الطعان وهي أم أم سلمة والمهاجر . وعاتكة بنت عتبة بن
ربيعة .
وعاتكة بنت قيس من بني نهشل بن دارم التميمية . انتهى .
وقوله : غير مدافعٍ بالنصب . وجملة : غيبته المقابر خبر إن .
والباء من قوله : بسرو سحيم متعلق به . وسحيم بضم السين وفتح الحاء المهملتين :
موضعٌ في طريق الشام من مكة .
وسرو على لفظ الشجر بمعنى أعلى . فسرو سحيم : أعلاه .
وقوله : بسرو سحيم تأكيد للأول . وقوله : عارفٌ خبر مبتدأ محذوف أي : هو ذو معرفة
بالأمور . ومناكر اسم فاعل من ناكره بمعنى قاتله .
والياسر : اللاعب بالميسر وهو قمار العرب بالأزلام وهو مما يفتخر به عندهم كانوا
يقامرون بها في أيام الغلاء والقحط ويفرق الغالب لحم الجزور على الفقراء .
وقوله : تنادوا أي : تنادى جماعة الركب . وأن مخففة من الثقيلة وجملة : لا سيد
الحي فيهم من المبتدأ والخبر خبر أن المخففة . وفجع بمعنى أصيب بالرزية . والقافل
: الراجع من السفر .
وعنى بأهل الله قريشاً . وكانت العرب تسميهم أهل الله لكونهم أرباب مكة . والحبير
بفتح الحاء المهملة وكسر الموحدة : ثيابٌ ناعمة كانت تصنع باليمن .
وريدة بفتح الراء المهملة وسكون المثناة التحتية : بلدةٌ من بلاد اليمن وأراد أهل
ريدة . ومعافر بفتح الميم بعدها عين مهملة وكسر الفاء : قبيلةٌ من قبائل اليمن .
____________________
ومعجعجة : اسم فاعل من جعجعت الإبل إذا صوتت وإنما تصوت لذبح أولادها وكان في
الأصل صفة لكوم وقد قدم عليه صار حالاً منه . والكوم : جمع كوماء وهي الناقة
العظيمة السنام . والباقر : اسم جمعٍ بمعنى البقر .
وقوله : إذا أكلت أي : إذا أكلها الأضياف . يريد أنه يدني من موضعه الذي ينزله
قطعةً من الإبل للنحر والقرى فكلما فنيت قطعةٌ أحضر قطعة أخرى . والزواهق : جمع
زاهقة وهي السمينة المفرطة السمن .
والزهم : جمع زهمة بفتح فكسر وهي الكثيرة الشحم . والمخاض : الحوامل من الإبل
واحدها خلفة من غير لفظها .
والبهازر : جمع بهزرة بتقديم المعجمة على وزن حيدرة وهي الناقة الجسيمة . )
وقوله : ضروبٌ بنصل السيف أي : هو ضروبٌ . ونصل السيف : شفرته فلذلك أضافه إلى
السيف . وقد يسمى السيف كله نصلاً . مدحه بأنه كان يعرقب الإبل للضيفان عند عدم
الأزواد . وكانوا إذا أردوا نحر الناقة ضربوا ساقها بالسيف فخرت ثم نحروها .
وقوله : إذا عدموا زاداً إلخ الجملة الشرطية التفاتٌ إلى الخطاب من الغيبة .
والسوق : جمع ساق .
وقوله : وإلا يكن لحمٌ غريض بفتح الغين المعجمة وكسر الراء وآخره ضاد معجمة هو
الطري من اللحم .
وتكب : تصب . والغرائر : الأعدال جمع غرارة بالكسر وهي وعاءٌ يجعل فيه الدقيق وغير
ذلك .
وقوله : فيا لك من ناع مجرور من : تمييزٌ للكاف . والناعي : المخبر بموت إنسانٍ
دعا عليه لكونه أخبر بموت المرثي . وحبيت : خصصت .
____________________
والألة بفتح الهمزة وتشديد اللام : الحربة . والشراعية : بكسر الشين المعجمة :
الطويلة وقيل التي قد أشرعت للطعن أي : مدت نحوه . وصفرة الأظفار كنايةٌ عن الموت
فإن الميت تصفر أظافره .
وترجمة أبي طالب تقدمت في الشاهد الواحد والتسعين . ( الشاهد الثالث بعد الستمائة
) وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( شمٍّ مهاوين أبدان الجزور مخا ** ميص العشيات لا
خورٍ ولا قزم ) على أن مهاوين جمع مهوان من أهان وبناء مفعال من أفعل قليلٌ نادر
والكثير من فعل .
وقد أورده الزمخشري في المفصل على أن ما جمع من اسم الفاعل يعمل عمل المفرد .
والأوصاف جميعها مجرورة في البيت : لأن قبله : ( يأوي إلى مجلسٍ بادٍ مكارمهم **
لا مطعمي ظالمٍ فيهم ولا ظلم ) والبيت إنما ورد في كتاب سيبويه والمفصل وغيرهما
على إعمال مفعال عمل فعله وليس فيهما ما يدل على أن الأوصاف مرفوعة أو مجرورة .
____________________
ولا وجه لقول ابن خلف : البيت في الكتاب رويه مرفوع وهو مخفوضٌ كما يدل عليه ما
قبله .
وكذا قول ابن المستوفي : قد أنشده سيبويه في كتابه كما أنشده الزمخشري بالرفع وهو
مجرور .
انتهى .
ولم يقف ابن الحاجب في أماليه على المفصل على البيت الأول فظنه مرفوعاً وقال : شم
خبر وقوله : يأوي إلى مجلس إلخ فاعل يأوي ضمير مستتر . يقال : أوى إلى منزله يأوي
من باب ضرب أوياً على وزن فعول إذا أقام فيه .
والمجلس : موضع الجلوس وقد أطلق هنا على أهله تسميةً للحال باسم المحل يقال : انفض
المجلس بدليل الأوصاف الآتية ولهذا عاد الضمير إليه من مكارمهم بجمع العقلاء كما
يطلق المقامة بالفتح على محل القيام وعلى الجماعة من الناس .
وبادٍ : اسم فاعل من بدا يبدو بدواً إذا ظهر . والمكارم : جمع مكرمة بفتح الميم
وضم الراء قال صاحب المصباح : المكرمة بضم الراء : اسمٌ من الكرم وفعل الخير مكرمة
أي : سببٌ للكرم أو التكريم . وباد صفة سببية لمجلس .
وقوله : لا مطمعي ظالم صفة ثانية لمجلس وأصله مطمعين حذفت نونه للإضافة .
وقوله : ولا ظلم بضمتين : جمع ظلوم صفة ثالثة لمجلس . يريد أن الناس قد عرفوا أنه
من ظلمهم انتصفوا منه فليس أحدٌ يطمع في ظلمهم ولا هم يظلمون أحداً .
وقوله : شمٍّ صفة رابعة لمجلس وهو جمع أشم وصفٌ من الشمم وهو ارتفاع في قصبة الأنف
)
مع استواء أعلاه فإن كان فيها احديدابٌ فهو القنى يقال : أقنى الأنف .
جعل الشمم كنايةً عن العزة والأنفة . يقال للعزيز شامخ الأنف وللذليل خاشع الأنف .
____________________
وقال ابن الحاجب : وصفهم بالارتفاع إما في النسب والكرم أو القدر أو العزة وهو
مأخوذ من الشمم المذكور . وهذا كلامه ولا حاجة إليه .
وقوله : مهاوين صفة خامسة لمجلس وهو مجرور بالفتحة لأنه على صيغة منتهى الجموع وهو
جمع مهوان وهو مبالغة مهين من أهانه أي : أذله .
قال الأعلم : الشاهد فيه نصب أبدان الجزور بقوله : مهاوين لأنه جمع مهوان ومهوان
تكثير مهين كما كان منحار ومضراب تكثير ناحر وضارب فعمل الجمع على واحده .
يريد أنهم يهينون للأضياف والمساكين أبدان الجزور وهو جمع بدنة وهي الناقة المتخذة
للنحر المسمنة . وكذلك الجزور .
هذا كلامه .
وتبعه ابن يعيش وقال : الأبدان جمع بدانة وهي الناقة المتخذة للنحر . يريد أنهم
يسمنون الإبل فينحرونها للأضياف . وعليه يقتضي أن يكون من إضافة أحد المترادفين
إلى الآخر مع أنه لم يسمع جمع بدنة على أبدان وإنما ورد جمعها على بدنات وبدن
بضمتين وإسكان الدال تخفيفاً .
والصواب أنه جمع بدن وهو من الجسد ما سوى الرأس واليدين والرجلين . وإنما آثر ذكره
على غير لإفادة زيادة وصفهم بالكرم فإنهم إذا فرقوا أفضل لحم الجزور فتفريق ما
سواه يكون بالطريق الأولى والإضافة حينئذٍ من إضافة البعض إلى الكل . والبدنة :
ناقة أو بقرةٌ زاد الأزهري : أو بعير . قالوا : ولا تقع على الشاة .
والجزور بفتح الجيم من الإبل خاصة يقع على الذكر والأنثى والجمع جزر بضمتين وتجمع
أيضاً على جزرات ثم على جزائر . ولفظ الجزور أنثى فيقال : رعت الجزور . قاله ابن
الأنباري .
____________________
وزاد الصغاني : وقيل الجزور الناقة التي تنحر وجزرت الجزور وغيرها من باب قتل إذا
نحرتها . كذا في المصباح .
واللام في الجزور لاستغراق الأفراد . وقال ابن خلف : أراد أن يقول الجزر فاكتفى
بالواحد عن الجمع . )
وروى : مهاوية أبداء الجزور وهو جمع بدء بفتح الموحدة وسكون الدال بعدها همزة قيل
هو بمعنى النصيب وقيل بمعنى المفصل .
وقال الأعلم : أبداء الجزور أفضل أعضائها واحدها بدء ومنه السيد بدءٌ لفضله .
وقوله : مخاميص العشيات صفة سادسة لمجلس وهو مجرور بالكسرة لأنه مضاف وهو جمع
مخماص مبالغة حميص من خمص الشخص خمصاً فهو حميص إذا جاع مثل قرب قرباً فهو وقال
بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : هو جمع مخموص من حمصه الجوع حمصاً أي :
جعله ضامر البطن .
والعشيات : جمع عشي والعشي والعشاء بالكسر : من صلاة المغرب إلى العتمة . والعشي
قيل بمعنى العشية وقيل جمعها . ومخاميص العشيات كقولهم : نهاره صائم .
وقال ابن الحاجب : هذه الإضافة اتساع والأصل : في العشيات .
قال الأعلم : يريد أنهم يؤخرون العشاء لأجل ضيفٍ يطرق فبطونهم حميصة في عشياتهم
لتأخر الطعام عنهم .
وليس المعنى على قول ابن خلف : المخاميص : الذين ليسوا بعظام البطون . يعني أنهم
لا يأكلون حتى تعظم بطونهم وإنما يكتفون بأخذ ما يحتاجون إليه من الطعام ليس فيهم
نهمٌ .
هذا كلامه وفيه أنه يبقي العشيات لغواً .
____________________
وقوله : لا خور بالجر صفة سابعة لمجلس والخور : الضعفاء عند الشدة .
قال صاحب الصحاح : الخور بفتحتين : الضعف رجلٌ خوار ورمح خوار وأرض خوارة والجمع
خور بتخفيف الواو . وقال العيني : هو جمع أخور وهو الضعيف . وقوله هو القياس .
وقوله : ولا قزم بالجر صفة ثامنة لمجلس وهو بفتح القاف والزاي . قال صاحب الصحاح :
القزم بالتحريك : الدناءة والقماءة . والقزم : رذال الناس وسفلتهم يقال : رجل قزم
والذكر والأنثى والواحد والجمع فيه سواءٌ لأنه في الأصل مصدر .
والشعر نسبه سيبويه إلى الكميت بن زيد الأسدي وتقدمت ترجمته في الشاهد السادس عشر
.
وقال ابن المستوفي كابن خلف : رواه سيبويه للكميت . ولم أره في ديوانه .
وأنشده ابن السيرافي لتميم بن أبي بن مقبل ولم أره فيما كتبه من شعره . والله أعلم
. )
وترجمة تميم بن أبي بن مقبل تقدمت أيضاً في الشاهد الثاني والثلاثين . وكلاهما
شاعر إسلامي .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط
____________________
( حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ
** باتت طراباً وبات الليل لم ينم ) على أن سيبويه قال : إذا حول فاعل إلى فعيل أو
فعل عمل أيضاً . وأنشد هذا البيت فإن كليلاً قد عمل في قوله : موهناً . ورد بأن
موهناً ظرف لشآها ولو كان لكليل أيضاً فلا استدلال فيه لأنه ظرف يكفيه رائحة الفعل
.
واعتذر لسيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل فموهناً مفعوله على المجاز كما يقال : أتعبت
يومك ففعيل مبالغة مفعل لا فاعل . وفيه أنه قليل نادر ولا يصح الاستدلال بالمحتمل
مع أن الاعتذار بعيد . هذا كلامه .
قال التبريزي في شرح الكافية : أنشد سيبويه هذا البيت على إعمال فعيل فإن كليلاً
بمعنى مكل وموهناً منصوب على أنه مفعول به أي : يكل أوقات الليل من كثرة العمل .
وطعنوا في هذا البيت من جهة استشهاده .
وقيل : كليل بمعنى كال من كل يكل فإنه لازم وموهناً منصوب على الظرف . وهذا
التأويل ليس بقوي لأن صدر البيت وعجزه ينافيه فإنه قال : وبات الليل لم ينم فلا يمكن
أن يوصف بأنه قال في بعض أوقات الليل وقال عمل وهو يدل على كثرة العمل .
وقال ابن مالك : إنما أنشد سيبوبه هذا البيت ليعلم جواز العدول من فاعل إلى فعيل
لأن أصله كال . ولم يتعرض للإعمال .
وهذا أيضاً ضعيفٌ بما نقل السيرافي أنه قال سيبويه : كليل في معنى مكل مثل أليم
وداءٌ وقال ابن هشام في المغني : رد على سيبويه في استدلاله على إعمال فعيل بهذا
البيت .
____________________
وذلك أن موهناً ظرف زمان والظرف يعمل فيه روائح الفعل بخلاف المفعول به .
ويوضح كون الموهن ليس مفعولاً به أن كليلاً من كل وفعله لا يتعدى . واعتذر عن
سيبويه بأن كليلاً بمعنى مكل وكأن البرق يكل الوقت بدوامه فيه كما يقال : أتعبت
يومك . أو بأنه إنما )
استشهد به على أن فاعلاً يعدل عنه إلى فعيل للمبالغة ولم يستدل به على الإعمال .
وهذا أقرب فإن في الأول حمل الكلام على المجاز مع إمكان حمله على الحقيقة . اه .
ونحن ننقل لك كلام سيبويه هنا ليظهر لك حقيقة الحال قال في باب ما جرى في
الاستفهام من أسماء الفاعلين من أوائل الكتاب : وأجروا اسم الفاعل إذا أرادوا أن
يبالغوا في الأمر مجراه إذا كان على بناء فاعل لأنه لا يريد به ما أريد بفاعل من
إيقاع الفعل إلا أنه يريد أن يحدث عن المبالغة .
فمما هو الأصل الذي عليه أكثر هذا المعنى : فعول وفعال ومفعال وفعل . وقد جاء فعيل
كرحيم وقدير وسميع وبصير يجوز فيهن ما جاز في فاعل من التقديم والتأخير والإضمار
والإظهار . لو قلت : هذا ضروب رؤوس الرجال وسوق الإبل على : ضروب سوق الإبل جاز
كما تقول : ضارب زيدٍ وعمراً تضمر : وضاربٌ عمراً . ( هجومٌ عليها نفسه غير أنه **
متى يرم في عينيه بالشبح ينهض ) وقال الفلاخ : الطويل
____________________
أخا الحرب لباساً إليها
جلالها وقال أبو طالب : الطويل ضروبٌ بنصل السيف سوق سمانها وقد جاء في فعلٍ وليس
في كثرة ذلك قال : الكامل أو مسحلٌ شنج عضادة سمحج ومما جاء في فعلٍ قوله : الكامل
حذرٌ أموراً لا تخاف وآمنٌ ومن هذا الباب قول رؤبة : الرجز برأس دماغٍ رؤوس العز
ومنه قول ساعدة :
____________________
حتى شأها كليلٌ موهناً عمل .
. . . . . . . . البيت وقال الكميت : ومنه : قدير وعليم ورحيم لأنه يريد المبالغة
وليس بمنزلة قولك حسنٌ وجه الأخ لأن هذا لا )
يقلب ولا يضمر وإنما حده أن يتكلم به في الألف واللام ولا تعني أنك أوقعت فعلاً
سلف منك إلى أحد . ولا يحسن أن تفصل بينهما فتقول : هو كريمٌ فيها حسب الأب .
هذا نصه بحروفه مع حذف بعض أمثلة .
قال الأعلم : الشاهد في نصب الموهن بكليل لأنه مغير عن بنائه للتكثير . وقد رد هذا
التأويل على سيبويه لما قدمنا : أن فعيلاً وفعلاً بناءان لما لا يتعدى في الأصل .
وجعل الراد نصب موهن على الظرف والمعنى عنده أن البرق ضعيف الهبوب كليلٌ في نفسه .
وهذا الرد غير صحيح إذ لو كان كليلاً كما قال : لم يقل عملٌ وهو الكثير العمل ولا
صفة بقوله : وبات الليل لم ينم .
والمعنى على مذهب سيبويه أنه وصف حماراً وأتناً نظرت إلى برق مستمطر دال على الغيث
يكل الموهن بدؤوبه وتوالي لمعانه كما يقال أتعبت ليلك أي : سرت فيه سيراً حثيثاً
متعباً متوالياً .
والموهن : وقتٌ من الليل . فشآها البرق أي : ساقها وأزعجها إلى مهبه فباتت طربةً
إليه منتقلة نحوه . وفعيل في معنى مفعل موجودٌ كثير . يقال : بصير في معنى مبصر .
وعذاب أليم بمعنى مؤلم وسميع بمعنى مسمع . وكذلك كليل في معنى مكل . وإذا كان
بمعناه عمل عمله لأنه مغير منه للتكثير كما تقدم . اه .
وقال ابن خلف أيضاً : الشاهد نصب موهناً بكليل نصب المفعول به لأنه
____________________
بمعنى مكل فيعمل عمله .
وقال المبرد : موهناً ظرف وليس بمفعول . ولا حجة له فيه . وجعل كليلاً من كل يكل
وكل لا يتعدى إلى مفعول به فكيف يتعدى كليل .
قال أبو جعفر : لا يجوز عند الجرمي والمازني والمبرد أن يعملوا فعيلاً . قال : وما
علمت إلا أن النحويين مجمعون على ذلك . ولا يجيزون هو رحيمٌ زيداً ولا عليم الفقه
.
والعلة فيه أن فعيلاً في الأصل من فعل فهو فعيل وهذا لا ينصب بإجماعهم وهو معهم
على ذلك . وفعيل هذا بمنزلة ذلك لأنه إنما يخبر به عما في الهيئة فهو ملحق به لا
يعمل كما لا يعمل . وفعل عند المبرد بمنزلته . واحتج بقولهم : رجل طبٌّ وطبيب .
قال أبو إسحاق في الحجة في إعمالٍ فعيل : إن الأصل كان أن لا يعمل إلا ما جرى على
الفعل )
فلما أعربوا ضروباً لأنه بمعنى ضارب وجب أن يكون فعيل مثله . قال : ومنه قدير .
وسيبويه أورد هذا على أنه للمبالغة في كال وكال يتعدى إلى مفعول على تقديره . وكأن
الذي عند سيبويه أن كللت يتعدى ويكون معناه أن كلل الموهن أي : جعل يبرق فيه برقاً
ضعيفاً .
وزعم أن كليلاً بمعنى مكل .
وليس هذا من مذهب سيبويه في شيء لأن سيبويه غرضه ذكر فعيل الذي هو مبالغة فاعل وما
عرض لفعلٍ الذي بمعنى مفعل .
وقد روى أبو الحسن اللحياني في نوادره أن بعض العرب يقول في صفة الله عز وجل : هو
سميع قولك وقول غيرك بتنويع سميع ونصب قولك .
وهذا يشهد لصحة مذهب سيبويه .
____________________
وقال أبو نصر هارون بن موسى : زعم الرادّ على سيبويه أن موهناً ظرف . وهو على ما
ذكرنا من فساد المعنى . والكليل ها هنا : البرق والموهن : وقت من الليل ولو كان
ظرفاً لوصف البرق بالضعف في لمعانه وإذا كان بهذه الصفة فكيف يسوقها وهو لا يدل
على المطر ولكن البرق إذا تكرر في لمعانه واشتد ودام دل على المطر وشاق وأتعب
الموهن في ظلمته لأنه كلما هب ذهبت الظلمة ثم يرجع إذا فتر البرق ثم يذهب إذا لمع
. فلذلك عدى الشاعر الكليل إلى الموهن .
وقوله : شآها أي : شأى الإبل أي : ساقها . قال الأخفش : تبعها . يقال : شاءني
الأمر وشآني أي : ساقني . ويقال أيضاً شآني : حزنني . وكليل أي : برق ضعيف . وإنما
ضعفه لأنه ظهر من بعيد . والموهن بفتح الميم وكسر الهاء : قطعة من الليل . والعمل
: الدائب المجتهد في أمره الذي لا يفتر .
وباتت طراباً يعني البقر الوحشية طراباً إلى السير إلى الموضع الذي فيه البرق وبات
البرق الليل أجمع لا يفتر . فعبر عن البرق بأنه لم ينم لاتصاله من أول الليل إلى
آخره . انتهى ما أورده ابن خلف .
وقال النحاس : شآها يعني الإبل . وكليل : برق خفي . طراباً : طربت للبرق وشاقها .
وبات البرق لم ينم لشدة دوامه .
قال ابن حبيب : طراباً من الطرب تحن إلى أولادها . قال الجمحي : تنزع إلى أوطانها
. )
والصحيح أنه عنى بها البقر لا الإبل خلافاً للشارح المحقق وغيره . قال السكري في
شرح أشعار الهذليين : حتى شآها يعني شأى البقر يقال : شؤته فكان ينبغي أن يقول
شاءها فقلب فقدم الهمزة . ومعنى شؤته شقته وهيجته وسررته .
____________________
يقول : حتى شاء البقر كليلٌ وهو البرق الضعيف موهناً : بعد هدء من الليل . عملٌ أي
: ذو عمل لا يفتر البرق .
وباتت طراباً يعني البقر . وبات الليل يعني البرق . وعمل : دائب يقال للرجل إذا
دأب : قد عمل يعمل . انتهى .
والبيت من قصيدة طويلة لساعدة بن جؤية رثى بها من أصيب يوم معيط وهو أرض منهم
سراقة بن جعشم من بني مدلج كان يرسل إليهم الأخبار . وهذا مطلعها : البسيط ( يا
ليت شعري ولا منجى من الهرم ** أم هل على العيش بعد الشيب من ندم ) قال السكري :
ويروى : يا للرجال ألا منجى من الهرم يقول : هل يندم أحدٌ على أن لا يعيش بعد أن
يشيب .
وقوله : على العيش . أي : على فوت العيش . ومثله : المال يزري بأقوام
____________________
يريد فقد المال . اه .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن زيادة أم فيه ظاهرة . إلى أن قال : (
تالله يبقى على الأيام ذو حيدٍ ** أدفى صلودٌ من الأوعال ذو خدم ) يريد : تالله لا
يبقى فحذف لا النافية في جواب القسم . وروى لله يبقى واللام للقسم والتعجب معاً .
والحيد بكسر ففتح : جمع حيد بفتح الحاء المهملة وسكون المثناة التحتية وهي العقد
في قرن الوعل .
والأدفى بالقصر : الذي يميل قرنه إلى نحو ذنبه . وصلود : صفة أدفى . والصلود :
الذي يقرع بظلفه الجبل .
والخدم بفتح الخاء المعجمة والدال : جمع خدمة وهي الخلخال ويجمع على خدام أيضاً
بالكسر . والخدم : خطوطٌ بيضٌ في قوائمه تشبه الخلاخيل . )
ثم وصف تحصنه في رؤوس الجبال في ثمانية أبيات فلما جاءه أجله لم يسلم من الصياد
فهلك على يديه وقال : ( فكان حتفاً بمقدارٍ وأدركه ** طول النهار وليلٌ غير منصرم
) أراد : أدركه طول النهار وليلٌ غير منقطع . يقول : لم يفلت من طول الأيام
والليالي .
____________________
وبعده : ( ولا صوارٌ مذراةٌ مناسجها ** مثل الفريد الذي يجري من النظم ) هذا معطوف
على ذو حيد في جواب القسم السابق . أي : تالله لا يبقى على الأيام ذو حيد ولا
صوارٌ وهو بكسر الصاد المعجمة : جماعة البقر .
يقال : نعجة مذراة وكبش مذرى بالذال المعجمة إذا جز وترك بين كتفيه صوف لم يجز .
فهي الذروة بكسر الذال وضمها .
والنظم بضمتين : جمع نظام وهو الخيط الذي فيه اللؤلؤ . يقول : الصوار مثل اللؤلؤ
في الحسن والبياض . ( ظلت صوافن بالأرزان صاويةً ** في ماحقٍ من نهار الصيف محتدم
) أي : قد رفعن إحدى قوائمهن . والصوافن : التي تفرج بين رجليها . والأرزان : جمع
رزن بكسر الراء المهملة وسكون الزاي وهو الموضع الغليظ الذي فيه الماء .
وصاوية بالصاد المهملة : اليابسة من العطش . والماحق : شدة الحر . والمحتدم :
المحترق بالحاء والدال المهملتين . أي : كان ذلك اليوم محترقاً من شدة الحر .
____________________
( قد أوبيت كل ماء فهي صاويةٌ
** مهما تصب أفقاً من بارق تشم ) ( حتى شآها كليلٌ موهناً عملٌ ** باتت طراباً
وبات الليل لم ينم ) ( كأنما يتجلى عن غواربه ** بعد الرقاد تمشي النار في الضرم )
( حيران يركب أعلاه أسافله ** يخفي تراب جديد الأرض منهزم ) ( فأسأدت دلجاً تحيي
لموقعه ** لم تنشب بوعوث الأرض والظلم ) ( فافتنها في فضاء الأرض يأفرها ** وأصحرت
في قفافٍ ذات معتصم ) ( أنحى عليها شراعياً فغادرها ** لدى المزاحف تلى في نضوح دم
) وبعد هذا شرع في الرثاء . )
قوله : قد أوبيت كل ماء البيت إلخ أورده أبو حنيفة في كتاب النبات مع أبيات أربعة
بعده .
وقال : وصف بها ساعدة بن جؤية حميراً . وقال : أوبيت : منعت .
____________________
وقال السكري : يقول : منعت كل ماء أي : قطع عنها يقال : طعام وشراب لا يؤبى : لا
ينقطع .
وقال شارح اللباب : أي : جعلت تأبى كل ماء وتكرهه . وصاوية بالصاد المهملة . قال
أبو حنيفة : الصاوي : اليابس أي : يبست من العطش .
وقوله : مهما تصب أفقاً قال السكري أي : ناحية من بارق أي : من سحاب فيه برق .
وتشم : تنظر إليه والضمير في الجميع ضمير الصوار .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على أن يسعون استدل به على مجيء مهما حرف شرط
كإن . قال : واستدل ابن يسعون تبعاً للسهيلي على أن مهما تأتي حرفاً بقوله : قد
أوبيت كل ماءٍ البيت .
قال : إذ لا تكون مبتدأ لعدم الربط من الخبر وهو فعل الشرط ولا مفعولاً لاستيفاء
فعل الشرط مفعوله ولا سبيل إلى غيرهما فتعين أنها لا موضع لها . والجواب أنها
مفعول تصب وأفقاً ظرف ومن بارق تفسير لمهما أو متعلق بتصب فمعناها التبعيض .
والمعنى : أي شيءٍ تصب في أفق من البوارق تشم . وقال بعضهم : مهما ظرف زمان
والمعنى أي وقت تصب بارقاً من أفق . فقلب الكلام . أو في أفق بارقاً فزاد من
واستعمل أفقاً ظرفاً .
اه .
ثم ذكر أنها لا تأتي ظرفاً خلافاً لابن مالك .
وإلى الظرفية ذهب صاحب اللباب . قال : وقد تستعمل مهما للظرف نحو : مهما تصب أفقاً
من بارقٍ تشم قال شارحه : أي : مهما تصب بارقاً في جهة في أفق وناحيةٍ من الجهات
تشم الناقة ذلك البارق . من شمت البرق أي : نظرت إلى سحابه أين يمطر . والبارق :
السحاب ذو البرق .
ومهما في البيت ظرف لأن الفعل بعده تسلط على مفعوله فلا يتسلط عليه تسلط المفعول
به لأنه لا يتعدى إلا إلى واحد فهو ظرف أي : في أي جهة تصب . اه .
____________________
وقال أبو حيان في تذكرته : قال الفارسي : هذا على القلب والمعنى : مهما تصب بارقاً
من أفق . فإن جعلت أفقاً ظرفاً كانت من زائدة لأنها غير واجبة فهي مثل إن تصب عندي
من )
وأجاز أن تكون من غير زائدة ومن بارق في موضع نصب بتشم ومفعول تصب محذوف وهو ضمير
منصوب يعود على أفق أو على بارق . قلت : الذي ذكره الفارسي من إعمال الفعلين
والمعمول متوسط غريب قلما يذكره النحويون .
وقد ذكرنا في باب كونه تقدم على الفعلين نحو : أي رجل ضربت أو شتمت ويجب أن يكون
الأول أولى بالعمل بلا خلاف كما كان ذلك في قولك : أي رجل ضربت أو شتمت لأنه في
هذه المسألة أقرب .
وفي مسألة أبي علي وإن لم يكن أقرب الفعلين فليس بأبعد الفعلين لأن النسبة في
التلاصق واحدة إلا أن عمل الفعل مقدماً أولى من عمله مؤخراً بلا خلاف .
وابن يسعون : يجوز أن يقدر إنارة أفق فلا قلب . ويحتمل أن يكون مهما مفعولاً بتصب
أي : أي شيء تجد في أفق من البرق تشم .
وفي رواية الجمحي : مهما يصب بارقٌ آفاقها تشم وهذا سهل الإعراب ومهما ظرف العامل
فيه يصب ولا يحتاج فيه إلى ضمير .
والظرف في مهما قليل ويتصور أن يكون بمعنى إن على ما ذكروا إلا أن هذا أولى . انتهى
ما وقوله : حتى شآها إلخ ضمير المؤنث للصوار وهي البقر لا للحمير الوحشية خلافاً
لأبي حنيفة ولا للإبل خلافاً للشارح وغيره ولا الناقة خلافاً لشارح الباب .
____________________
قال أبو حنيفة : شآها : شاقها بالشين المعجمة . قال : قدم همزة شاء يقال : شاءني يشوؤني
ويشيئني أيضاً أي : شاقني .
قال الشاعر : الكامل ( مر الحمول فما شأونك نقرةً ** ولقد أراك تشاء بالأظعان ) أي
: تشاق فجاء باللغتين . والكليل : البرق الضعيف وقد يستحب أن يكون قليلاً . والعمل
: الدائب لا يفتر .
والطرب : التي قد استخفها الفرح . والموهن : بعد ساعةٍ من نصف الليل وضمير بات
للبرق الكليل .
وقوله : كأنما يتجلى إلخ أي : البرق الكليل . والغوارب : أعالي السحاب . والضرم :
ما دق من )
الحطب فالنار تسرع فيه .
وقوله : حيران يركب أعلاه إلخ قال السكري : يعني هذا السحاب لا يمضي على جهته قد
حار فهو يتردد .
وقوله : يخفي تراب الأرض أي : يظهره من خفاه : أظهره يعني المطر يظهر التراب .
وجديد الأرض بالجيم : أرضٌ صلبة لم تحفر .
وقوله : منهزم يقول : هذا السحاب قد انخرق بالماء يقال : انشق سحاب الماء . هذا
مثلٌ . ويقال للدابة : انشق سقاؤه بالعدو . اه .
وقال أبو حنيفة : قوله : حيران أي : لا جهة له فهو ماكث .
وخفاه : أظهره . يعني : أن سيله يشق الأرض فيظهر باطنها . ومنهزم : منشق بالماء .
____________________
وقوله : فأسأدت دلجاً إلخ قال أبو حنيفة : الإسآد : سير الليل كله . وكذلك الدلج .
وتحيي لموقعه يريد : تحيي الليل لموقع هذا الغيث تسير إليه . لم تنتشب : لم تتحبس
أي : لم يعقها وعوث الأرض .
وقال السكري : قوله تحيي لموقعه يعني هذه البقرة تحيي ليلتها جمعاء لموقع ذلك
السحاب لتبلغه . والوعث : اللين : وهو يحبس .
وقوله : حتى إذا ما تجلى ليلها إلخ قال السكري : يعني بحليف الغرب رمحاً حديد
السنان . وغرب كل شيءٍ : حده . وملتئم : يشبه بعضه بعضاً لا يكون كعبٌ منه رقيقاً
والآخر غليظاً . وقيل : يعني وقوله : فافتنها يريد انشق بها في ناحية من فنن
بالفاء والمثناة فوق والنون . وقيل افتتنها .
طرحها . ويأفرها : يسوقها من الأفر بالفاء والراء المهملة وهو عدوٌ فيه قفز .
وقوله : وأصحرت أي : صارت في صحار وقوله : في قفاف القف بالضم : ما غلظ من الأرض
وارتفع ولم يبلغ أن يكون جبلاً . والمعتصم بفتح الصاد : الملجأ .
وقوله : أنحى عليها إلخ أي : أهوى إليها الفارس بالرمح . والشراعي بضم الشين المعجمة
: الرمح الطويل . وغادرها : تركها وخلفها . وتلى : صرعى .
____________________
ولدى المزاحف : جمع مزحف أي : حيث زاحفها فيه أي : قاتلها . والنضج : بمعجمتين ما
أصاب الشيء على غير عمد يقال : أصابه نضجٌ من الدم والزعفران والبول ما لم تتعمد
به )
فإذا أنت تعمدته قلت : نضجته بالماء . بالحاء المهملة . يقال : نضج ينضج إذا ما
رشح .
وترجمة ساعدة بن جؤية الهذلي قد تقدمت في الشاهد التاسع والستين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الكامل على أن
سيبويه استدل به على عمل فعل بهذا البيت ومنعه غيره وقال : إن البيت مصنوع .
يروى عن اللاحقي أن سيبويه سألني عن شاهدٍ في تعدي فعلٍ فعملت له هذا البيت .
أقول : إن طعن على سيبويه بهذا البيت فقد استشهد ببيت آخر لا مطعن عليه
____________________
فيه : وهو قول لبيد الصحابي :
الكامل ( أو مسحلٌ شنجٌ عضادة سمحجٍ ** بسراته ندبٌ لها وكلوم ) وقال الأعلم :
وتبعه ابن السيد في شرح أبيات الجمل : قد وجدنا في شعر زيد الخيل الطائي الصحابي
بيتاً آخر لا مطعن فيه وهو : الوافر ( ألم أخبركما خبراً أتاني ** أبو الكساح جد
به الوعيد ) ( أتاني أنهم مزقون عرضي ** جحاش الكرملين لها فديد ) أما البيت الأول
فقد قال ابن خلف : الشاهد فيه أنه نصب عضادة بشنج نصب المفعول به لأنه تكثير شانج
وشانج في معنى ملازم وفعله شنجته كلزمته على ما حكاه البصريون .
وذلك غير مشهور .
قال أبو نصر هارون بن موسى : ورد عليه هذا القول بعض النحويين وزعن أن عضادة ظرف .
وهذا من الذين يتهاونون بالخلف إذا عرفوا الإعراب وهذا إذا جعله ظرفاً كان المعنى
فاسداً فلشدته وصلابته قد لازمها وقبض الناحية التي بينها وبينه ولم يحجزه عن ذلك
رمحها وعضها اللذان بسراته منها ندبٌ وكلوم .
ولو كان ظرفاً لكان المعنى أن المسحل شنجٌ متقبض في ناحية السمحج مهينٌ . قد شعفه
عضها ورمحها فكيف يشبه أحدٌ ناقته بمسحل هذه صفته .
____________________
والذي يحتج لسيبويه أيضاً أن العضادة ليست من الظروف لأنه يريد بالعضادة جنبها
وأعضادها . )
ألا ترى أنه لا يجوز أن يقول : قد شنج رجل سمحجٍ ولا يد سمحج . ومسحل معطوف على
مسدم قبله وهو : الكامل ( حرفٌ أضر بها السفار كأنها ** بعد الكلال مسدمٌ محجوم )
وصف لبيد ناقته . والحرف : الظامر . وأضر بها السفار : أنضاها وهزلها . والكلال :
التعب .
والمسدم : الفحل من الإبل الذي قد حبس عن الضراب .
والمحجوم : المشدود الفم . والمسحل : حمار الوحش . والسمحج : الأتان الطويلة .
وسراتها : أعلاها . والندب : الأثر . والكلوم : الجراحات .
يريد أن هذه الأتان بها آثارٌ من عض الحمار كأنها جراحات . وعضادة : جنب . والشنج
: المتقبض في الأصل ويراد به في البيت الملازم كأنه قال : أو مسحل ملازم جنب أتان
لا يفارقها . يقول : كأن هذه الناقة بعدما كلت بعيرٌ مسدم أو مسحلٌ موصوف بما ذكر
.
وأما البيت الثاني فمزقون : جمع مزق مبالغة مازق من المزق وهو شق الشيء . وعرض
الرجل بالكسر : جانبه الذي يصونه من نفسه وحسبه . وجحاش أي : هم جحاش فهو تشبيه
بليغ كما حققه السعد لا استعارة كما زعمه العيني . وهو جمع جحش وهو ولد الحمار .
والكرملين بكسر الكاف وفتح اللام : اسم ماءٍ في جبل طيىءٍ .
____________________
والفديد : الصوت يريد أنهم عندي بمنزلة الجحاش التي تنهق عند ذلك الماء فلا أعبأ
بهم .
وتخصيص الجحاش مبالغة في التحقير .
والبيت استشهد به شراح الألفية .
وأما ما روي عن اللاحقي في البيت الأول فقد حكاه المازني قال : أخبرني أبو يحيى
اللاحقي قال : سألني سيبويه عن فعلٍ يتعدى فوضعت له وهذا البيت .
وإذا حكى أبو يحيى مثل هذا عن نفسه ورضي بأن يخبر أنه قليل الأمانة وأنه ائتمن على
الرواية الصحيحة فخان لم يكن مثله يقبل قوله ويعترض به على ما قد أثبته سيبويه .
وهذا الرجل أحب أن يتجمل بأن سيبويه سأله عن شيءٍ فخبر عن نفسه بأنه فعل ما يبطل
وقال أبو نصر هارون بن موسى : وهذا ضعيفٌ في التأويل وكيف يصلح أن ينسب اللاحقي
إلى نفسه ما يضع منه ولا يحل أو كيف يجوز هذا على سيبويه وهو المشهور في دينه
وعلمه وعقله وأخذه عن الثقات الذين لا اختلاف في عملهم وصحة نقلهم . )
وإنما أراد اللاحقي بقوله : فوضعت له هذا البيت : فرويته . والحذر : مبالغة حاذر
من الحذر وهو التحرز . وجملة : لا تخاف بالبناء للمفعول صفة قوله أموراً .
وروى بدله : لا تضير بمعنى لا تضر يقال : ضاره يضيره وضره يضره بمعنًى واحد كما
يقال ذامه يذيمه وذمه يذمه بمعنًى .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : معنى البيت يحتمل أمرين .
أحدهما : أنه يصف إنساناً بالجهل وقلة المعرفة وأنه يضع الأمور في غير موضعها
فيأمن من لا ينبغي أن يؤمن ويحذر من لا ينبغي أن يحذر .
والوجه الثاني وهو الأشبه عندي : أن يكون أراد أن الإنسان جاهلٌ بعواقب
____________________
الأمور يدبر فيخونه القياس
والتدبير .
ونحوه قول أبي العتاهية : الطويل ( وقد يهلك الإنسان من باب أمنه ** وينجو بإذن
الله من حيث يحذر ) وقال ابن هشام اللخمي : الظاهر من البيت أنه ذمٌّ . ويحتمل أن
يكون مدحاً يمدحه بكثرة الحذر فيخرج هذا المعنى إني لأعد للأمر عسى أن يكون أبداً
. وحذر وآمنٌ بمعنى الاستقبال لأن الحذر والأمن إنما يكونان فيما يأتي وأما ما مضى
فقد علم .
والهاء في منجية عائدة على الضمير الذي في ليس . ومنجية بمعنى المضارع لا الماضي
والدليل عليه وقوعه خبر ليس والنفي إنما يقع على الأخبار وليس إنما تنفي المضارع .
انتهى كلامه .
وقال العيني : إن منجيه اسم فاعل مضاف إلى الهاء والهاء في موضع نصب لأن اسم
الفاعل إذا كان بمعنى الحال أو الاستقبال وأضيف كانت إضافته غير محضة وكانت النية
بها الانفصال .
هذا كلامه .
واللاحقي هو أبان بن عبد الحميد اللاحقي . هو من شعراء هارون الرشيد .
وهو شاعرٌ مطبوع بصري لكنه مطعون في دينه .
قال صاحب الأغاني : هو أبان بن عبد الحميد بن لاحق بن عفير مولى بني رقاش .
قال أبو عبيدة : بنو رقاش ثلاثة نفر ينسبون إلى أمهم واسمها رقاش وهم مالك وزيد
مناة وعامر بنو شيبان بن ذهل بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي ابن بكر بن وائل .
____________________
أخبرني الصولي قال : حدثني محمد بن سعيد قال : حدثنا يحيى بن إسماعيل قال : جلس
أبان )
فبلغ ذلك أبا عبيدة فقال في مجلسه : لقد أغفل السلطان كل شيء حتى أغفل أخذ الجزية
من أبان اللاحقي هو وأهله يهود وهذه منازلهم فيها أسفار التوارة وليس فيها مصحف
وأوضح الأدلة على تهودهم أن أكثرهم يدعي حفظ التوارة ولا يحفظ من القرآن ما يصلى
به .
فبلغ ذلك أباناً فقال : الخفيف ( لا تنمن عن صديقٍ حديثاً ** واستعذ من تشرر
النمام ) ( واخفض الصوت إن نطقت بليلٍ ** والتفت بالنهار قبل الكلام ) وكان المعذل
بن غيلان صديقاً لأبان وكانا مع صداقتهما يتعابثان بالهجاء ويهجوه المعذل بالكفر
وينسبه إلى الثنوية ويهجوه أبانٌ بالفساء الذي يهجى به عبد القيس والقصر وكان
المعذل قصيراً ومن هجوه : الطويل ( رأيت أباناً يوم فطرٍ مصلياً ** فقسم فكري
واستفرني الطرب ) ( وكيف يصلي مظلم القلب دينه ** على دين ماني إن هذا من العجب )
وهجاه أبو نواس بقوله : المجتث
____________________
( جالساً يوماً أباناً ** لا
در در أبان ) ( حتى إذا ما صلاة ال ** أولى دنت لأوان ) ( فكلما قال قلنا ** إلى
انقضاء الأذان ) ( فقال كيف شهدتم ** بذا بغير عيان ) ( لا أشهد الدهر حتى **
تعاين العينان ) ( فقلت : سبحان ربي ** فقال : سبحان ماني ) وأخبرني الصولي قال :
حدثنا أبو العيناء قال : حدثني الحرمازي قال : خرج أبان بن عبد الحميد اللاحقي من
البصرة طالباً للاتصال بالبرامكة وكان الفضل ابن يحيى غائباً فأقام ببابه لما قصده
مدة مديدةً لا يصل إليه فتوسل بمن أوصل له شعراً إليه .
وقيل إنه توسل إلى بعض بني هشام ممن شخص مع الفضل فقال له : الخفيف ( يا غزير
الندى ويا جوهر الجو ** هر من آل هاشمٍ بالبطاح ) ( إن ظني وليس يخلف ظني ** بان
في حاجتي سبيل النجاح ) ( إن من دونها لمصمت بابٍ ** أنت من دون قفله مفتاحي ) ) (
تاقت النفس يا جليل السماح ** نحو بحر الندى مجاري الرياح ) ( ثم فكرت كيف لي
واستخرت ال ** له عند الإمساء والإصباح ) ( فامتدحت الأمير أصلحه الل ** هـ بشعرٍ
مشهر الأوضاح )
____________________
( أنا من بغية الأمير وكنزٌ
** من كنوز الأمير ذو أرباح ) ( كاتبٌ حاسبٌ خطيبٌ أديبٌ ** ناصحٌ زائدٌ على
النصاح ) ( شاعرٌ مفلقٌ أخف من الري ** شة فيما يكون تحت الجناح ) وهي طويلة ومنها
: ( إن دعاني الأمير عاين مني ** شمرياً كالبلبل الصياح ) قال : فدعا به ووصله ثم
خص بالفضل وقدم معه فقرب من قلب يحيى ابن خالد وكان صاحب الجماعة وذا أمرهم .
أخبرني حبيب بن نصرٍ المهلبي : قال : حدثنا علي بن محمد النوفلي : أن أبان بن عبد
الحميد عاتب البرامكة على تركهم إيصاله إلى الرشيد وإيصال مدحه إليه فقالوا له :
وما تريد بذلك فقال : أريد أن أحظى منه بمثل ما حظي به مروان بن أبي حفصة .
فقالوا له : إن لمروان مذهباً في هجاء آل أبي طالب وذمهم به يحظى وعليه يعطى
فاسلكه حتى نفعل قال : لا أستحل ذلك . قالوا : فما تصنع . لا تجيء أمور الدنيا إلا
بفعل ما لا يحل .
فقال أبان : الطويل ( أعم رسول الله أقرب زلفةً ** لديه أم ابن العم في رتبة النسب
) ( وأيهما أولى به وبعهده ** ومن ذا له حق التراث بما وجب ) ( فإن كان عباس أحق
بتلكم ** وكان علي بعد ذاك على سبب )
____________________
( فأبناء عباسٍ هم يرثونه **
كما العم لابن العم في الإرث قد حجب ) وهي طويلة قد تركت ذكرها لما فيه من تنقيص .
فقال له الفضل : ما يرد على أمير المؤمنين اليوم شيءٌ أعجب إليه من أبياتك .
فركب فأنشدها الرشيد فأمر لأبان بعشرين ألف درهم ثم اتصلت بعد ذلك خدمته للرشيد
وخص به . انتهى ما نقلته من الأغاني . )
وأما ابن المقفع فاسمه عبد الله وهو كاتبٌ بليغ لكنه زنديق .
قال السيد المرتضى قدس سره في أماليه : قال جعفر بن سليمان : روي عن المهدي أنه
قال : ما وجدت كتاب زندقة قط إلا أصله ابن المقفع .
وروى ابن شبة قال : حدثني من سمع ابن المقفع وقد مر ببيت نار المجوس بعد أن أسلم
فلمحه وتمثل : الكامل ( يا بيت عاتكة الذي أتعزل ** حذر العدى وبه الفؤاد موكل )
وكان الخليل بن أحمد يحب أن يرى عبد الله بن المقفع وكان ابن المقفع يحب ذلك
فجمعهم عباد بن عباد المهلبي فتحادثا ثلاثة أيام ولياليهن فقيل للخليل : كيف رأيت
عبد الله قال : ما رأيت مثله وعلمه أكثر من عقله وقيل لابن المقفع : كيف رأيت
الخليل قال : ما رأيت مثله وعقله أكثر من علمه .
____________________
قال المغيرة : صدقا أدى عقل الخليل إلى أن مات وهو أزهد الناس وجهل ابن المقفع
أداه إلى أن كتب أماناً عن المنصور لعبد الله بن علي فقال فيه : ومتى غدر أمير
المؤمنين بعمه عبد الله فنساؤه طوالق ودوابه حبس وعبيده أحرار والمسلمون في حل من
بيعته .
فاشتد على المنصور جداً وخاصة أمر البيعة وكتب إلى سفيان بن معاوية المهلبي وهو
أمير البصرة من قبله بقتله فقتله .
وكان ابن المقفع مع قلة دينه جيد الكلام فصيح العبارة له حكمٌ وأمثال .
ثم أورد السيد المرتضى نتفاً من حكمه وأمثاله .
قال الصغاني في العباب : عبد الله بن المقفع كان فصيحاً بليغاً وكان اسمه روزبة
وكان قبل إسلامه يكتنى بأبى عمر فلما أسلم تسمى بعبد الله وتكنى بأبى محمد .
والمقفع اسمه المبارك ولقب بالمقفع لأن الحجاج بن يوسف ضربه ضرباً فتقفعت يده .
ورجل مقفع اليدين . أي : وقيل هو المقفع بكسر الفاء لعمله القفعة بفتح القاف وسكون
الفاء . والقفعة : شيءٌ شبيه بالزنبيل بلا عروة وتعمل من خوص ليست بالكبيرة . وقال
الليث : القفعة تتخذ من خوص مستديرةٌ يجتنى فيها الرطب ونحوه .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس بعد الستمائة ) الوافر
____________________
( أمن ريحانة الداعي السميع
** يؤرقني وأصحابي هجوع ) على أن فعيلاً قد جاء لمبالغة مفعلٍ على رأي .
وهو رأي الجمهور منهم ابن الأعرابي في نوادره أنشد لنغبة الغنوي : البسيط ( إني
تودكم نفسي وأمنحكم ** حبي ورب حبيبٍ غير محبوب ) حبيب في معنى محب مثل أليم في معنى
مؤلم وسميع في معنى مسمع . وأنشد هذا البيت .
ومنهم أبو العباس المبرد قال في الكامل : قيل خصيب وأنت تريد مخصب وجديب وأنت تريد
مجدب كقولك : عذابٌ أليم وأنت تريد مؤلم . ويقال : رجل سميعٌ أي : مسمع قال عمرو
بن أمن ريحانة الداعي السميع . . . . . . . البيت ومنهم أبو إسحاق الزجاج قال في
تفسيره من البقرة عند قوله تعالى : ولهم عذابٌ أليم معنى أليم : موجع يصل وجعه إلى
قلوبهم . وتأويل أليم في اللغة مؤلم . قال الشاعر : وأنشد هذا البيت .
ومنهم البيضاوي في تفسير قوله تعالى : بديع السموات والأرض قال : أي مبدعهما .
ونظيره السميع في قوله : أمن ريحانة الداعي السميع ويقابل قول الجمهور قول صاحب
الكشاف عند قوله : بديع السموات
____________________
والأرض : هو من إضافة الصفة
المشبهة إلى فاعلها أي : بديع سمواته وأرضه . وقيل البديع بمعنى المبدع كما أن
السميع قول عمرو : أمن ريحانة الداعي السميع بمعنى المسمع . وفيه نظر . انتهى .
قال السعد في حاشيته : اعترض المصنف بأنه لم يثبت فعيل بمعنى مفعل ولا استشهاد في
البيت لأن داعي الشوق لما دعا القائل صار سميعاً لدعوته فتسبب لكونه سميعاً فأوقع
على الداعي اسم السميع لكونه سبباً فيه . على أن الشاذ لا يصح القياس عليه إن ثبت
. انتهى .
وقال السفاقسي في إعرابه بعدما نقل كلام السعد : قال ابن عطية : بديع مصروف من
مبدع كبصير من مبصر ومثله سميع بمعنى مسمع في البيت . )
وعلى هذا يكون من إضافة اسم الفاعل لمفعوله . إلا أن الزمخشري ذكر هذا الوجه .
وقال : إن فيه نظراً . ولم يبينه فلعله يريد أن فعيلاً بمعنى مفعل لا ينقاس مع أن
بيت عمرو محتملٌ للتأويل .
انتهى .
وما تأوله السعد يدفعه البيت الذي بعده وهو : الوافر ( ينادي من براقش أو معينٍ **
فأسمع واتلأب بنا مليع ) فإن فاعل ينادي وأسمع وهو فعل ماض : ضمير الداعي فيكون
الداعي مسمعاً لا سامعاً .
وبراقش ومعين بفتح أولهما : بلدتان كانتا متقابلتين باليمن . كذا في معجم ما
استعجم .
واتلأب بمعنى استقام . والمليع : بفتح الميم : الأرض الواسعة .
____________________
والبيتان أولا قصيدة لعمرو بن معديكرب الزبيدي الصحابي . قال جامع ديوانه أبو عبد
الله بن الأعرابي : قالها عمرو في أخته ريحانه بنت معديكربٍ وهي أم دريد بن الصمة
وكان الصمة غزا بني زبيد فسباها فغزا عمروٌ مراراً فلم يقدر عليها .
وقوله : أمن ريحانة إلخ الهمزة : للاستفهام ومن : للتعليل متعلق بقوله يؤرقني .
وريحانة : اسم والسميع : صفة الداعي وجملة يؤرقني : خبر المبتدأ وجملة : وأصحابي
هجوع : حالٌ من الياء .
وهجوع : جمع هاجع أي : نائم كقعود جمع قاعد .
ولصاحب الأغاني في ريحانة روايتان : إحداهما أنها أخته . قال : إن هذه القصيدة
قالها عمرو في أخته ريحانة لما سباها الصمة بن بكر وكان أغار على بني زبيد في قيس
فاستاق أموالهم وسبى ريحانة وانهزمت زبيد بين يديه وتبعه عمرو وأخوه عبد الله ابنا
معديكرب ثم رجع عبد الله واتبعه عمرو .
فأخبرنا أبو خليفة عن محمد بن سلام أن عمراً اتبعه يناشده أن يخلي عنها فلم يفعل
فلما يئس منه ولى وهي تناديه بأعلى صوتها : يا عمرو فلم يقدر على انتزاعها وقال :
أمن ريحانة الداعي السميع وعلى هذه الرواية فالداعي فاعل الظرف وهو بمعنى الذي
يدعة وينادي لا بمعنى الشوق الداعي والسميع بمعنى المسمع . أو الداعي مبتدأ والظرف
قبله خبره
____________________
ومن عليهما للابتداء لا
للتعليل والجملتان في المصراع الثاني حالان متداخلتان .
والرواية الثانية : أن ريحانة امرأته المطلقة قال : أخبرني الحسين بن يحيى قال :
قال حماد : قرأت )
على أبي : وأما قصة ريحانة فإن عمرو بن معديكرب تزوج امرأةً من مراد وذهب مغيراً
قبل أن يدخل بها فلما قدم أخبر أنه قد ظهر بها وضح وهو داءٌ تحذره العرب فطلقها
وتزوجها رجلٌ آخر من بني مازن بن ربيعة .
وبلغ ذلك عمراً وأن الذي قيل فيها باطل فأخذ يشبب بها فقال قصيدته وهي طويلة : أمن
ريحانة الداعي السميع انتهى .
فإعرابه على هذا هو الإعراب الأول . وهذه الرواية هي القريبة إلى الصواب والقصيدة
تدل عليها .
وقال الطيبي : ريحانة امرأة وقيل موضع .
وقد رجعت إلى كتب البلدان والأماكن فلم أجد هذا الاسم فيها .
وقال صاحب الكشف : علم حبيبة عمرو وهي أخت دريد بن الصمة تعلق بها عمرو وأغار
عليها ثم التمس من دريد أن يتزوجها فأجاب .
وهذه الرواية لا أصل لها .
ثم نقل صاحب الكشف عن ابن قتيبة أنها أخت عمرو وكانت تحت الصمة فولدت له دريد
____________________
واعترضه بأن دريداً قتل يوم
هوازن وهو شيخ همٌّ ينيف على المائة لا ينتفع إلا برأيه . وعمروٌ أسلم في زمن عمر
وهو على جلده . هذا كلامه .
والأول حقٌّ لا شبهة فيه ولهذا صوبنا أنها امرأته لا أخته . وأما عمروٌ فقد أسلم
على يدي النبي صلى الله عليه وسلم وهو من الصحابة كما يشهد به كتب الصحابة . تتمة
وأما فعيل بمعنى مفعل بالفتح اسم مفعول ففيه خلافٌ أيضاً . فأخذه من المزيد
المتعدي لم يرتضه الزمخشري .
وقال ابن مالك في التسهيل : وربما استغني عن فاعل بمفعل أو مفعل .
قال ابن عقيل في شرحه قالوا : عم الرجل بمعروفة . ولم متاع البيت فهو معمٌّ ومعمذٌ
وملمٌّ وملمٌّ . ولم يقل بهذا المعنى عامٌّ ولا لام ولا نظير لهما حكاه ابن سيده .
)
وقال ابن بري في حاشية صحاح الجوهري : قد جاء ذلك كثيراً نحو : مسخن وسخين ومقعد
وقعيد ومقنع وقنيع ومحب وحبيب ومطردٌ وطريد ومقصًى وقصي ومهدًى وهدي وموصًى ووصي
ومبرم وبريم ومحكم وحكيم ومبدع وبديع ومفرد وفريد ومسمع وسميع ومونق وأنيق ومؤلم
وأليم في أخواتٍ له . انتهى .
وبعد البيتين الأولين :
____________________
( ورب محرشٍ في جنب سلمى **
يعل بعينها عندي شفيع ) ( كأن الإثمد الحاري منها ** يسف بحيث تبتدر الدموع ) (
وأبكارٍ لهوت بهن حيناً ** نواعم في أسرتها الردوع ) ( أمشي حولها وأطوف فيها **
وتعجبني المحاجر والفروع ) ( إذا يضحكن أو يبسمن يوماً ** بدا بردٌ ألح به الصقيع
) ( كأن على عوارضهن راحاً ** يفض عليه رمانٌ ينيع ) ( تراها الدهر مقترةً كباءً
** ومقدح صفحة فيها نقيع ) ( وصبغ ثيابها في زعفرانٍ ** بجدتها كما احمر النجيع )
( وقد عجبت أمامة أن رأتني ** تفرع لمتي شيبٌ فظيع ) وهذا آخر الغزل . ومن أبيات
الحماسة : ( أشاب الرأس أيامٌ طوالٌ ** وهمٌّ ما تبلغه الضلوع ) ( وزحف كتيبةٍ
للقاء أخرى ** كأن زهاءها رأسٌ صليع ) ( دنت واستأخر الأوغال عنها ** وخلى بينهم
إلا الوريع )
____________________
( وإسناد الأسنة نحو نحري **
وهز المشرفية والوقوع ) ( فإن تنب النوائب آل عصمٍ ** تجد حكماتهم فيها رفوع ) (
إذا لم تستطع شيئاً فدعه ** وجاوزه إلى ما تستطيع ) ( وصله بالزماع فكل شيءٍ **
سما لك أو سموت له ولوع ) ( وكم من غائطٍ من دون سلمى ** قليل الأنس ليس به كتيع )
( به السرحان مفترشاً يديه ** كأن بياض لبته الصديع ) وقوله : ورب محرش إلخ .
التحريش : الإغراء بين القوم . ويعل : من العلل مرة بعد مرة . والحاري : )
نسبة إلى الحيرة . ويسف : يذر . والأسرة : جمع سرارة بالكسر وهو الخطوط في الكف .
والردوع : جمع ردع يقال : به ردعٌ من زعفرانٍ أو دم أي : لطخٌ وأثر . يريد أنهن
يصبغن ثيابهن بالزعفران .
وقوله : أمشي حولها هو جواب رب المقدرة في وأبكار . والمحاجر : جمع محجر العين
كمجلس وهو ما يبدو من النقاب . والفروع : جمع فرع وهو الشعر التام .
والبرد بفتحتين : حب الغمام . والصقيع : الجليد . والعارض : الناب والضرس الذي
يليه .
____________________
والراح : الخمر . وينيع : يانع أي : بالغ . ومقترة : اسم فاعل من القتار بضم القاف
وهو هنا الدخنة . والكباء بالكسر والمد : العود . والمقدح بكسر الميم : المغرفة .
والنقيع يبرد لها فتشربه .
والنجيع : الدم . وتفرع : علا . واللمة : بالكسر : شعر الرأس الذي يلم بالمنكب .
وقوله : أشاب الرأس إلخ . وتبلغه أي : تسعه .
وزهاءها بالضم والمد أي : مقدارها . والرأس الصليع : الذي انحسر شعر مقدمه .
والأوغال : جمع وغل وهو النذل من الرجال . والوريع : بالراء المهملة وكذلك الورع
بفتحتين وهو الصغير الضعيف الذي لا غناء عنده .
والوقوع : المواقعة والقتال .
وآل عصم مفعول تنب أي : تصب من النائبة . والحكمات بالتحريك : جمع حكمة بفتحتين
وهي ما أحاط بالحنك من اللجام . والرفوع بالضم : مصدرٌ بمعنى الارتفاع .
وقوله : إذا لم تستطع إلخ . هذا من شواهد تلخيص المفتاح فيه الإرصاد وقوله : وصله
أي : وصل الشيء الذي لم تستطعه . والزماع بالفتح : العزم والتصميم . والولوع
بالفتح : مصدر ولعت بالشيء إذا لزمته .
والغائط : المطمئن من الأرض الواسع . وكتيع أي أحد ملازمٌ للنفي .
وما أثبتناه هو رواية ابن الأعرابي في ديوان عمرو بن معديكرب .
____________________
وروى صاحب الأغاني الشعر على غير ما ذكرنا وتبعه الناس عليه وهو : ( أمن ريحانة
الداعي السميع ** يؤرقني وأصحابي هجوع ) ( سباها الصمة الجشمي غصباً ** كأن بياض
غرتها صديع ) ) ( وحالت دونها فرسان قيسٍ ** تكشف عن سواعدها الدروع ) إذا لم
تستطع شيئاً فدعه . . . . . . . . . . . . . . . البيت وزاد الناس في هذا الشعر
وغني فيه : ( وكيف أحب من لا أستطيع ** ومن هو للذي أهوى منوع ) ( ومن قد لامني
فيع صديقي ** وأهلي ثم كلاًّ لا أطيع ) ( ومن لو أظهر البغضاء نحوي ** أتاني قابض
الموت السريع ) ( فدًى لهم معاً عمي وخالي ** وشرخ شبابهم إن لم يطيعوا ) لهذا ما
رواه وليس في الديوان بعض هذه الأبيات والله أعلم .
وترجمة عمرو بن معديكرب تقدمت في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : الرمل
____________________
( ثم زادوا أنهم في قومهم **
غفرٌ ذنبهم غير فخر ) على أن مثنى المبالغة ومجموعها يعمل كما في البيت فإن ذنبهم
مفعول لغفر وهو جمع غفور مبالغة غافرٍ وفخر بضمتين أيضاً : جمع فخور .
والبيت من قصيدة طويلة عدتها أربعة وسبعون بيتاً لطرفة بن العبد وهو شاعرٌ جاهلي
تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وقبله : ( ولي الأصل الذي في مثله ** يصلح الآبر زرع المؤتب ) ( طيبو الباءة سهلٌ
ولهم ** سبل إن شئت في وحشٍ وعر ) ( وهم ما هم إذا ما لبسوا ** نسج داود لبأسٍ
محتضر ) ( وتساقى القوم كأساً مرةً ** وعلا الخيل دماءٌ كالشقر ) ثم زادوا أنهم في
قومهم . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الأعلم في شرحه : وقوله : ولي الأصل
إلخ يقول : لي الأصل الذي في مثله يتم المعروف والاصطناع .
____________________
والآبر : المصلح للشيء القائم عليه . المؤتبر : المستدعي إلى الإصلاح وأكثر ما يستعمل
الإبار في )
النخل ثم هو عام في كل شيء . وضربه هنا مثلاً لإتمام الصنيعة .
والباءة : الساحة والفناء أي : ساحتهم طيبة سهلة لمن أراد معروفهم وهي وعرة خشنة
لمن أرادهم بسوء . وهذا مثل . والوحش : المتوحش وهو كناية عن خشونة الجانب وشدته .
وقوله : وهم ما هم إلخ هذا تفخيم وتعجب كأنه قال : أي رجال هم وقوله : نسج داود
يعني الدروع . والنسج : عملها وسردها وأول من عملها داود عليه السلام فلذلك تنسب
إليه .
والبأس : شدة الأمر . والمحتضر : المحضور المجتمع إليه .
يقول : إذا لبسوا الدروع وتسلحوا للقتال فأي رجال هم ويروى : محتضر بالكسر أي :
حاضر .
وقوله : تساقى القوم إلخ هذا مثل ضربه أي : سقى بعضهم بعضاً كأس الحتوف أي : قتل
بعضهم بعضاً .
والكأس : الإناء فيه الشراب والشراب في الإناء يقال له : كأسٌ أيضاً . والشقر :
شقائق النعمان .
وقال الأصمعي : هو شجرٌ له ثمر أحمر .
وقوله : ثم زادوا أنهم إلخ لما وصفهم بالإقدام والجرأة والصبر في الحرب وغير ذلك
من أفعال البر بين أن لهم مزيداً على ذلك وهو أخذهم بالعفو والصفح عن الذنب وترك
الفخر بذلك لأن الفخر إعجابٌ وخفة . انتهى .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : قوله : ثم زادوا أنهم أراد : بأنهم فحذف الباء .
وقوله : في قومهم في بمعنى عند والظرف متعلق بزادوا والتقدير : ثم زادوا عند قومهم
بأنهم غفر ذنبهم غير فخر . وغير فخر : خبر بعد خبر .
ويروى : غير فجر بالجيم يعني أنهم لا يكذبون . والفجور : الكذب . والمشهور رواية
الخاء وهي أوجه . انتهى .
____________________
وقال ابن خلف : يريد زادوا على الفضائل التي ذكرها فيهم أنهم إذا جنى عليهم بعض
قومهم غفروا لهم ذنبهم مع قدرتهم على الانتصاف . وقد يكون زادهم بمعنى شرفهم
ورفعهم فتكون أن على هذا فاعلة زاد أي : زادهم المجد شرفاً ورفعة . هذا كلامه .
وهو سبق قلم منه فإن فاعل زاد هو الواو . وقوله : والمراد زادوا على الفضائل إلخ
هو تقدير ابن السيرافي في شرح أبيات الكتاب . )
قال ابن الحاجب في أماليه على المفصل : للفتح في أن وجهان : أحدهما : أن يكون في
موضع المفعول والآخر : أن يكون المعنى ثم زادوا على ما تقدم من وللكسر وجهان :
أحدهما : التعليل على ما ذكر في الوجه الثاني . والثاني : أن يكون على الحكاية وهو
ضعيف لأنه ليس موضع الحكاية . اه .
وبعد هذه الأبيات بقليل : ( نحن في المشتاة ندعو الجفلى ** لا ترى الآدب فينا
ينتقر ) ( حين قال الناس في مجلسهم ** أقتارٌ ذاك أم ريح قطر ) ( بجفانٍ تعتري
نادينا ** من سديفٍ حين هاج الصنبر )
____________________
قال الأعلم : قوله : نحن في
المشتاة يريد في الشتاء والبرد وذلك أشد الزمان . والجفلى : أن يعم بدعوته إلى
الطعام ولا يخص أحداً . والآدب : الذي يدعو إلى المأدبة وهي كل طعام يدعى إليه .
والانتقار : أن يدعو النقرى وهو أن يخصهم ولا يعمهم .
يقول : لا يخصون الأغنياء ومن يطعمون في مكافأته ولكنهم يعمون طلباً للحمد
ولاكتساب المجد . والقتار بالضم : رائحة اللحم إذا شوي .
والقطر بضمتين : العود الذي يتبخر به . يقول : نحن نطعم في شدة الزمان إذا كان ريح
القتار عند القوم بمنزلة رائحة العود لما هم فيه من الجهد والحاجة إلى الطعام .
والنادي : مجلس القوم ومتحدثهم . والسديف : قطع السنام .
والصنبر : أشد ما يكون من البرد . اه .
قال صاحب الصحاح : صنابر الشتاء : شدة برده وكذلك الصنبر بتشديد النون وكسر الباء
وأنشد البيت ثم قال : والصنبر بتسكين الباء : يومٌ من أيام العجوز ويحتمل أن يكونا
بمعنًى وإنما حركت الباء للضرورة . انتهى .
وجزم ابن جني في الخصائص بأن الباء ساكنة وقال : كان حق هذا إذا نقلت الحركة أن
تكون الباء مضمومة لأن الراء مرفوعة لكنه قدر الإضافة إلى الفعل يعني المصدر .
كأنه قال : حين هيج الصنبر يعني أنه نقل الكسرة من الراء إلى الباء الساكنة وسكنت
الراء .
وهذا من الغرائب فإن الصنبر فاعل بهاج لكنه أعربه بالكسر نظراً إلى أن الفعل في
معنى )
المصدر المضاف إلى هذا الفاعل ثم نقل الكسر .
____________________
قال الدماميني في الجملة المضاف إليها من الحاشية الهندية على المغني : وعلى ذلك
يتنزل اللغز الذي نظمته قريباً وهو : الطويل ( أيا علماء الهند إني سائلٌ ** فمنوا
بتحقيق به يظهر السر ) ( أرى فاعلاً بالفعل أعرب لفظه ** بجرٍّ ولا حرفٌ يكون به الجر
) ( فهل من جوابٍ عندكم نستفيده ** فمن بحركم ما زال يستخرج الدر ) قال الشمني :
سبقه إلى هذا اللغز أبو سعيد فرج بن قاسم المعروف بابن لب النحوي الأندلسي في
منظومته النونية في الألغاز النحوية فقال : ( ما فاعلٌ بالفعل لكن جره ** مع
السكون فيه ثابتان ) وفي شرحها : يعني الصنبر من قول طرفة . انتهى .
وأنشد فيه ( الشاهد الثامن بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الكامل ( ممن
حملن به وهم عواقدٌ ** حبك النطاق فشب غير مهبل )
____________________
على أن حبك النطاق : مفعول
لعواقد . وهو جمع عاقدة .
قال سيبويه : ومما يجري مجرى فاعل من أسماء الفاعلين فواعل أجروه مجرى فاعلة حيث
كان جمعه وكسروه عليه كما فعلوا ذلك بفاعلين وفاعلات . فمن ذلك قولهم : هن حواج
بيت الله .
قال أبو كبير : قال الأعلم : الشاهد في نصب حبك النطاق بعواقد لأنه جمع عاقدة
وعاقدة تعمل عمل الفعل المضارع لأنها في معناه فجرى جمعها في العمل مجراها . ونون
عواقد للضرورة .
وصف رجلاً شهم الفؤاد ماضياً في الرجال فذكر أنه ممن حملت به النساء مكرهاتٍ فغلب
عليه شبه الآباء وخرج مذكراً .
وكانت العرب تفعل ذلك : يغضب الرجل منهم امرأته ويعجلها حل نطاقها ويقع عليها
فيغلب ماؤه على مائها فينزع الوليد إليه في الشبه .
وحبك النطاق : مشده واحدها حباك وهو من حبكت الشيء إذا شددته وأحكمته . )
والنطاق : إزار تحتبك به المرأة في وسطها وترسل أعلاه على أسفله تقيمه مقام
السراويل .
والمهبل : الثقيل ويقال : هو الذي يدعى عليه بالهبل فيقال : هبلته أمه أي : فقدته
. انتهى .
والبيت من قصيدة لأبي كبير الهذلي عدتها سبعة وأربعون بيتاً أوردها السكري في
أشعار الهذليين واقتصر منها أبو تمام على أبيات أوردها في أوائل الحماسة .
____________________
وكذلك اقتصر عليها ابن قتيبة في كتاب الشعراء فلنقتصر على ما أورده وهو : ( ولقد
سريت على الظلام بمغشم ** جلدٍ من الفتيان غير مثقل ) ( ممن حملن به وهن عواقدٌ **
حبك النطاق فشب غير مهبل ) ( فأتت به حوش الفؤاد مبطناً ** سهداً إذا ما نام ليل
الهوجل ) ( ومبرأً من كل غبر حيضةٍ ** وفساد مرضعةٍ وداءٍ مغيل ) ( وإذا نبذت له
الحصاة رأيته ** ينزو لوقعتها طمور الأخيل ) ( وإذا يهب من المنام رأيته ** كرتوب
كعب الساق ليس بزمل ) ( ما إن يمس الأرض إلا منكبٌ ** منه وحرف الساق طي المحمل )
( وإذا رميت به الفجاج رأيته ** يهوي مخارمها هوي الأجدل ) ( وإذا نظرت إلى أسرة
وجهه ** برقت كبرق العارض المتهلل ) ( يحمي الصحاب إذا تكون كريهةٌ ** وإذا هم
نزلوا فمأوى العيل ) قال التبريزي في شرح الحماسة : كان السبب في هذه الأبيات أن
أبا كبير تزوج أم تأبط شراً وكان غلاماً صغيراً فلما رآه يكثر الدخول على أمه تنكر
له وعرف ذلك أبو كبير في وجهه إلى أن ترعرع الغلام فقال أبو كبير لأمه : ويحك قد
والله رابني أمر هذا الغلام ولا آمنه فلا أقربك قالت : فاحتل عليه حتى تقتله .
فقال له ذات يوم : هل لك أن تغزو فقال : ذلك من أمري . قال : فامض بنا .
فخرجا غازيين ولا زاد معهما فسارا ليلتهما ويومهما من الغد حتى ظن أبو كبير أن
الغلام قد جاع فلما أمسى قصد به أبو كبيرٍ قوماً كانوا له أعداءً فلما رأيا
____________________
نارهم من بعد قال له أبو كبير
: ويحك قد جعنا فلو ذهبت إلى تلك النار فالتمست منها لنا شيئاً قال : ويحك وأي وقت
جوعٍ هذا .
قال : أنا قد جعت فاطلب لي فمضى تأبط شراً فوجد على النار رجلين من ألص من يكون )
من العرب وإنما أرسله إليهما أبو كبير ليقتلاه فلما رأياه قد غشي نارهما وثبا عليه
فرمى أحدهما وكر على الآخر فرماه فقتلهما ثم جاء إلى نارهما فأخذ الخبز منها فجاء
به إلي أبي كبير فقال : كل لا أشبع الله بطنك ولم يأكل هو فقال : ويحك أخبرني قصتك
. قال وما سؤالك عن هذا كل ودع المسألة .
فدخلت أبا كبير منه خيفة وأهمته نفسه ثم سأله بالصحبة إلا حدثه كيف عمل فأخبره
فازداد خوفاً منه .
ثم مضيا في غزاتهما فأصابا إبلاً وكان يقول له أبو كبير ثلاث ليالٍ : اختر أي نصفي
الليل شئت تحرس فيه وأنام وتنام النصف الآخر وأحرس . فقال : ذلك إليك اختر أيهما
شئت .
فكان أبو كبير ينام إلى نصف الليل ويحرسه تأبط شراً فإذا نام تأبط شراً نام أو
كبير أيضاً لا يحرس شيئاً حتى استوفى الثلاث .
فلما كان في الليلة الرابعة ظن أن النعاس قد غلب على الغلام فنام أول الليل إلى
نصفه وحرسه تأبط شراً فلما نام الغلام قال أبو كبير : الآن يستثقل نوماً وتمكنني
فيه الفرصة .
فلما ظن أنه قد استثقل أخذ حصاةً فحذف بها فقام الغلام كأنه كعب
____________________
ٌ فقال : ما هذه الوجبة قال :
لا أدري . قال : والله صوتٌ سمعته في عرض الإبل .
فقام فعس وطاف فلم ير شيئاً فعاد فنام فلما ظن أنه استثقل أخذ حصيةً صغيرة فحذف
بها فقام كقيامه الأول فقال : ما هذا الذي أسمع قال : والله ما أدري قد سمعت كما
سمعت وما أدري ما هو ولعل بعض الإبل تحرك . فقام وطاف وعس فلم ير شيئاً فعاد فنام
فأخذ حصيةً أصغر من تلك فرمى بها فوثب كما وثب أولاً فطاف وعس فلم ير شيئاً ورجع
إليه فقال : يا هذا إني قد أنكرت أمرك والله لئن عدت أسمع شيئاً من هذا لأقتلنك
قال أبو كبير : فبت والله أحرسه خوفاً أن يتحرك شيءٌ من الإبل فيقتلني . قال :
فلما رجعا إلى حيهما قال أبو كبير : إن أم هذا الغلام لامرأة لا أقربها أبداً .
وقال هذه الأبيات . انتهى .
وزعم بعض الرواة أن هذه القصيدة لتأبط شراً قالها في ابن الزرقاء .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : وبعض الرواة ينحل هذا الشعر تأبط شراً ويذكر أنه
كان يتبع امرأةً من فهم وكان ابنٌ لها من هذيل وكان يدخل عليها تأبط فلما قارب
الغلام الحلم قال فلما رجع تأبط أخبرته وقالت : هذا الغلام مفرقٌ بيني وبينك
فاقتله قال : سأفعل ذلك . )
فمر به وهو يلعب مع الصبيان فقال له : هلم أهب لك نبلاً . فمضى معه فتذمم من قتله
ووهب له نبلاً فلما رجع تأبط إلى أم الغلام أخبرها فقالت : إنه والله شيطانٌ من
الشياطين والله ما رأيته مستثقلاً نوماً قط ولا ممتلئاً ضحكاً قط ولا هم بشيءٍ منذ
كان صغيراً إلا فعله .
____________________
ولقد حملته فما رأيت عليه دماً حتى وضعته . ولقد وقع علي أبوه في ليلة هربٍ وإني
لمتوسدةٌ سرجاً وإن نطاقي لمشدود وإن على أبيه لدرعاً فاقتله فأنت والله أحب إلي
منه .
قال : سأغزو به فأقتله . فمر فقال له : هل لك في الغزو قال : إذا شئت . فخرج به
غازياً فلم يجد منه غرة حتى مر في بعض الليالي بنار لابني قترة الفزاريين وكانا في
نجعة فلما رأى تأبط النار عرفها وعرف أهلها فأكب على رجله ينادي : نهشت نهشت أبغني
ناراً فخرج الغلام يهوي نحو النار فصادف عندها الرجلين فواثباه فقتلهما وأخذ جذوةً
من النار واطرد إبل القوم وأقبل نحو تأبط فلما رأى تأبط النار تهوي نحوه ظن أن
الغلام قتل وأنه دل عليه فمر يسعى .
قال : فما كان إلا أن أدركني ومعه جذوة من النار يطرد إبل القوم فلما وصل إلي قال
: ويلك قال : قلت : إني والله ظننت أنك قد قتلت قال : بل قتلت الرجلين عاديت
بينهما فقلت : الهرب الآن فإن الطلب من ورائنا . فأخذت به على غير الطريق فما سرنا
إلا قليلاً حتى قال : أخطأت والله الطريق وما تستقيم الريح فيه فما لبث أن استقبل
الطريق وما كان والله سلكها قط .
قال : فسرت به ثلاثاً حتى نظرت إلى عينيه كأنهما خيطان ممدودان وأدرك الليل فقلت :
أنخ فقد أمنا . فأنخنا فنام في طرفٍ منها ونمت في الطرف الآخر فما زلت أرمقه حتى
ظننت أنه قد نام فقمت أريده فإذا هو قد استوى وقال : ما شأنك فقلت : سمعت حساً في
الإبل .
فطاف معي بها فلم ير شيئاً فقال : أتخاف شيئاً قلت : لا . قال : فنم ولا
____________________
تعد فإني قد ارتبت بك . فنمت
وأمهلته حتى لم أشك في نومه فقذفت له بحصاةٍ نحو رأسه فإذا هو قد وثب وتناومت
فأقبل نحوي حتى ركضني برجله وقال : أنائم أنت قلت : نعم . قال : أسمعت ما سمعت قلت
: لا .
فطاف في الإبل وطفت معه فلم نر شيئاً فأقبل علي تتوقد عيناه قال : قد أرى ما تصنع
منذ )
الليلة والله لئن أنبهني شيءٌ لأقتلنك قال : فلبئت والله أكلؤه مخافة أن ينبهه
شيءٌ فيقتلني . فلما أصبح قلت : ألا تنحر جزوراً قال : بلى . قال : فنحرنا ناقة .
فأكل . ثم احتلب أخرى فشر ثم خرج يريد المذهب وكان إذا أراد ذلك أبعد وأبطأ علي
فاتبعته فإذا أنا به مضطجعاً على مذهبه وإذا يده داخلة في جحر أفعًى فانتزعها فإذا
هو قابض على رأس أفعًى وقد قتلها وقتلة . فذلك قولي : ( ولقد غدوت على الظلام
بمغشمٍ ** جلدٍ من الفتيان غير مثقل ) انتهى ما أورده ابن قتيبة .
والمشهور : ولقد سريت على الظلام أي : في الظلام . والمغشم بالكسر : الغشوم من
الغشم وهو الظلم . والجلد بالفتح وهو من له الجلادة وهي قوة القلب .
وقوله : غير مثقل قال التبريزي : أي كان حسن القبول محبباً إلى القلوب .
وقوله : ممن حملن به النون ضمير النساء ولم يجر لهن ذكر ولما كان المراد مفهوماً
جاز إضمارها . وقال : به فرد الضمير على لفظ من ولو رد على المعنى لقال بهم .
وروى السكري وغيره : مما حملن به قال التبريزي تبعاً لشارح الهذليين : أي هو من
الحمل الذي حملن به .
قال ابن الشجري في أماليه : عدى حمل في البيت بالباء وحقه أن يصل إلى
____________________
المفعول بنفسه كما جاء في
التنزيل : حملته أمه كرهاً . ولكنه عدى بالباء لأنه في معنى حبلت .
وقوله : وهن عواقدٌ حبك إلخ بتنوين عواقد . واستشهد به ابن الأنباري على أن الأصل
في الأسماء عند البصريين الصرف وإنما يمنع بعضها من الصرف لأسباب عارضة فإذا اضطر
الشاعر ردها إلى الأصل ولم يعتبر تلك الأسباب العارضة كما صرف عواقد في البيت وهو
جمع عاقدة وأعمله في حبك حكايةً للحال وإن كان ذلك فيما مضى كقوله تعالى : وكلبهم
باسطٌ ذراعيه بالوصيد .
وحبك بضمتين : قال ابن قتيبة في أبيات المعاني وأورد فيها بعض هذه الأبيات : هو
جمع حباك والحباك بالكسر : ما يشد به النطاق مثل التكة .
والنطاق : شقة تلبسها المرأة وتشد وسطها ثم ترسل الأعلى على الأسفل إلى الركبة
والأسفل ينجر على الأرض ليس له حجزة ولا نيفق ولا ساقان والجمع نطق . والحجزة
بالضم : موضع )
التكة . والنيفق : الموضع المتسع من السراويل والعامة تكسر النون .
وقال ابن خلف : قال أبو جعفر : وسألت عن هذا البيت علي بن سليمان فقال : حملن به
من الحبل أي : إنهن حملن به وهن يخدمن .
وكانت العرب تستحب أن تطأ النساء وهن متعبات أو فزعات ليغلب ماء الرجل فيخرج الولد
مذكراً .
فوصف أنها حبلت به وهي عاقدةٌ حبك النطاق . والحبك : الطرائق وقيل : الحبك :
الإزار الذي تأتزر به المرأة وقيل الحبكة : حجزة الإزار . والنطاق : المنطقة .
انتهى .
____________________
وقال ابن المستوفي : الحبك من قولهم : حبك الثوب يحبكه بالكسر حبكاً إذا أجاد نسجه
كأنه جمع المصدر على حباك وجمع حباكاً حبكاً . وقيل الحبك : جمع الحبيك والحبيكة
وهو ما تكسر من ثوبٍ وماء . وقيل جمع الحباك وهو الإزار . والأول بعيد لأن الحبيكة
جمعها حبائك وإذا صح إن الحباك الإزار فهو جمعه مثل كتاب وكتب . انتهى . وما نقله
هو كلام التبريزي .
وروى السكري : حبك الثياب . وقال شارحه القاري : حبك الإزار : طرائقه . وحبكة
الإزار : استدارته وشده .
والنطاق : الإزار يعني حملت به وعليها منطقها وأراد أنها متحزمة . يقول : لم تمكن
من نفسها .
انتهى .
وقال التبريزي وتبعه العيني : الرواية : حبك الثياب لأن النطاق لا يكون له حبك وهو
الطرائق .
هذا كلامه .
والمهبل قال القاري : المثقل باللحم يقال هبله اللحم : كثر عليه وغلظ . وكذلك قال
أبو جعفر : المهبل : الكثير اللحم يقال : هبلت المرأة وعبلت .
وفي حديث الإفك حرفٌ ربما صحفه أصحاب الحديث وهو : والنساء إذ ذاك لم يهبلن أي :
لم يحملن الشحم . وقيل المهبل : الذي يدعى عليه بقولهم : هبلته أمه كما يقال لمن
يسترذل أي : ثكلته .
وقول العيني : أو هو الذي حملت به أمه وهي مكرمة فاسدٌ فتأمل .
وقال التبريزي : ذكر بعضهم أن المهبل : المعتوه الذي لا يتماسك . فإن صح ذلك فكأنه
من الإسراع يقال : حمل هبلٌ . ومعنى البيت : إنه من الفتيان الذين حملتهم أمهم وهن
غير )
مستعدات للفراش فنشأ محموداً مرضياً لم يدع عليه بالهبل والثكل .
وحكي عن بعضهم : إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها عند الجماع . ولذلك يقال في ولد
المذعورة : إنه لا يطاق .
قال : الطويل
____________________
( تسنمتها غضبى فجاء مسهداً
** وأنفع أولاد الرجال المسهد ) وقال المبرد في الكامل : يقال : أنجب الأولاد ولد
الفارك وذلك لأنها تبغض زوجها فيسبقها بمائة فيخرج الشبه إليه فيخرج الولد ذكراً .
وقال بعض الحكماء : إذا أردت أن تنجب المرأة فأغضبها ثم قع عليها فإنك تسبقها
بالماء .
وقوله : حملت به في ليلة مزؤودة هي مفعولة من زأدته أزأده زأداً أي : أفزعته وزئد
فهو مزؤودٌ أي : مذعور وهو بالزاي والهمزة والدال .
قال المبرد في الكامل : مزؤودة ذات زؤد وهو الفزع . فمن نصب مزؤودة فإنما أراد
المرأة ومن خفض أراد الليلة . وجعل الليلة ذات فزعٍ لأنه يفزع فيها قال الله تعالى
: بل مكر الليل والنهار والمعنى بل مكركم في الليل والنهار .
وقال جرير : الطويل ونمت وما ليل المطي بنائم وقال آخر : الرجز
____________________
فنام ليلي وتجلى همي وقال ابن
جني في إعراب الحماسة بعد ما قال مثل كلام المبرد : هذا ونحوه إنما يتسع فيه بأن
يسند الفعل إلى الوقت الذي وقع فيه ومجيئة مجيء الفاعل .
ألا ترى إلى قوله : فنام ليلي وإلى نفيه وهو قوله : وما ليل المطي بنائم . وبيت
أبي كبير إنما جعل الوقت الذي هو الليل بلفظ اسم المفعول وهو قوله : مزؤودة .
فأكثر ما يقولون إذا اتسعوا في نحو هذا : يومٌ ضارب أي : كثر فيه الضرب ولا يقولون
يوم ويوم شهدناه سليماً وعامراً فلما كانوا يأخذونه في هذا الشق جاؤوا به أيضاً
مسنداً إليه الفعل إسناده إلى ما لم يسم فاعله .
تقول : رب يوم مقوم ورب ساعةٍ مضروبة على قولك : قمت يوماً وضربت ساعة وأنت )
تنصب اليوم والساعة نصب المفعول به .
فكذلك قوله في ليلة مزؤودة على حد قولك : زئدت الليلة وعلى قولك قبل إسناد الفعل
إليها هذه ليلة زئدها زيد كقولك : هذه جبة كسيها عمرو ثم تقول :
____________________
هذه ليلة مزؤودة كقولك : جبة
مكسوة . هذا على رواية الجر .
وأما من نصب فعلى الحال ومزؤودة للمرأة الحامل . وفائدة ذكر الليلة في هذه الرواية
أن تكون بدأت بحمله ليلاً وهو أنجب له وصاحبه يوصف بالشجاعة . وقد دعاهم ذلك إلى
أن وصلوا أنسابهم بالليل تحققاً به . قال : الرجز ( أنا ابن عم الليل وابن خاله **
إذا دجا دخلت في سرباله ) لست كمن يفرق من خياله انتهى .
وبه يدفع قول ابن هشام في المغني : مزؤودة مذعورة ويروى بالجر صفة لليلة وبالنصب
حالاً من وقال ابن قتيبة في أبيات المعاني : مزؤودة : فيها زؤد وذعر كذلك قال
الأصمعي . ويرويه بعضهم بالنصب ويجعله حالاً من المرأة . ويقال : إن المرأة إذا
حملت وهي مذعورة فأذكرت جاءت به لا يطاق . انتهى .
ومثله قول ابن جني : الغرض من ذكر الزؤد في الروايتين جميعاً أن المرأة إذا حملت
بولدها وهي مذعورة كان أنجب له .
ألا ترى إلى قوله : فأتت به حوش الجنان مبطناً . . . . . . . البيت وقال التبريزي
: ويجوز أن يكون جر مزؤودة على الجوار وهو في الحقيقة للمرأة كما قيل : هذا جحر
ضبٍّ خربٍ .
وهذا لميلهم إلى الحمل على الأقرب ولأمنهم الالتباس . ومزؤودة بالنصف على الحال من
المرأة ومزؤودة بالرفع صفة أقيمت مقام الموصوفة . وانتصب كرهاً على أنه مصدر في
موضع الحال أي : كارهة .
____________________
وكذلك جملة : وعقد نطاقها لم يحلل ابتداء وخبر والواو للحال وأظهر التضعيف في قوله
: لم يحلل وهو لغة تميم ووجه الكلام لم يحلل . والنطاق : ما تنطق به المرأة تشد
وسطها للعمل . والمنطقة )
وقوله : فأتت به حوش الفؤاد إلخ حوش الفؤاد : حالٌ من الضمير في به والإضافة لم
تفد شيئاً من التعريف .
وبه استشهد ابن هشام في شرح الألفية عليه . وأيضاً استشهد به صاحب الكشاف في سورة
المزمل لشيءٍ آخر . وكذلك مبطناً وسهداً حالان منه .
قال ابن السيد في شرح الكامل : حوش الفؤاد أي : مجتمع الذهن جيد الفهم .
وقال القاري وابن قتيبة : يعني وحشي الفؤاد .
وقال التبريزي : حوش الفؤاد وحوشي الفؤاد : وحشيه لحدته وتوقده . ورجلٌ حوشي : لا
يخالط الناس . وليلٌ حوشيٌّ : مظلم هائل كما يقال ليلٌ سخام وسخامي للأسود . وكذلك
إبل حوشٌ وحوشيةٌ أي : وحشية . وقيل : الحوشية بلاد الجن .
وفي الأساس : رجلٌ حوش الفؤاد : ذكيٌّ كيس وأصله من الإبل الحوشية وهي التي يزعمون
أن فحول نعم الجن قد ضربت فيها . ومبطناً : ضامر البطن .
والسهد بضمتين : قليل النوم . وإذا : ظرف لسهداً . قال التبريزي :
____________________
قوله : نام ليلٍ الهوجل جعل
الفعل لليل لوقوعه فيه أي : نام الهوجل في ليله . والهوجل : الثقيل الكسلان وقيل :
الأحمق لا مسكة به . وبه سميت الفلاة التي لا أعلام بها ولا يهتدي فيها : الهوجل .
أي : أتت الأم بهذا قال العيني : ما : زائدة وبحتمل أن تكون مصدرية أي : حين نوم
ليل الهوجل . انتهى .
والصواب الأول لأن إذا لا تضاف إلى مفرد .
وقوله : ومبرأ من كل إلخ هو معطوف على حوش الفؤاد وقد وقع في الحماسة قبل البيتين
قبله .
وقال التبريزي : ويروى بالنصب والجر فالنصب عطفٌ على غير مهبل كأنه قال : شب في
هاتين الحالتين . وإذا جررته كان عطفاً على قوله : جلدٍ من الفتيان .
وغبر الحيض بضم المعجمة وتشديد الموحدة المفتوحة : بقاياه وكذلك غبره بسكون
الموحدة وكذلك غبر اللبن : باقيه في الضرع . والحيضة بالكسر : الاسم وبالفتح المرة
.
وكل للتأكيد كأنه نفى قليل ذلك وكثيره . وأضاف الفساد إلى المرضعة لأنه أراد
الفساد الذي يكون من قبلها . وهم يضيفون الشيء إلى الشيء لأدنى ملابسة .
والمغيل بضم الميم وكسر الياء من الغيل وهو أن تغشى المرأة وهي ترضع فذلك اللبن
الغبل .
يقال : أغالت المرأة إذا أرضعته على حبل . )
ويروى بدله : معضل وهو الذي لا دواء له كأنه أعضل الأطباء وأعياهم . وأصل العضل
المنع .
____________________
يقول : إنها حملت به وهي طاهرٌ ليس بها بقية حيض ووضعته ولا داء به استصحبه من
بطنها فلا يقبل علاجاً لأن داء البطن لا يفارق . ولم ترضعه أمه غيلاً وهو أن تسقيه
غيلاً وهي حبلى بعد ذلك .
وقوله : وإذا نبذت له إلخ نبذت الشيء من يدي إذا طرحته .
وروى السكري : وإذا قذفت يعني أنك إذا رميته بحصاةٍ وهو نائمٌ وجدته ينتبه انتباه
من سمع بوقعتها هدةً عظيمة فيمطمر طمور الأخيل وهو الشقراق .
وانتصاب طمور بما دل عليه قوله : فزعاً لوقعتها كأنه قال : رأيته يطمر طموره لأن
الخائف المتيقظ يفعل ذلك . والطمور : الوثب .
وقال بعضهم : الأخيل : الشاهين ومنه قيل تخيل الرجل إذا جبن عند القتال فلم يثبت .
والتخيل : المضي والسرعة والتلون .
وقوله : وإذا يهب من المنام أي : يستيقظ . ورأيته أي : رأيت رتوبه فحذف المضاف .
ورتوب الكعب : انتصابه وقيامه .
يقول : إذا استيقظ من منامه انتصب انتصاب كعب الساق . وكعب الساق منتصبٌ أبداً في
موضعه . والزمل بضم الزاي : الضعيف النؤوم .
وقوله : ما إن يمس الأرض إلخ . أن : زائدة . قال القاري : يقول إذا اضطجع لم يندلق
بطنه إنما يمس منكبه الأرض وهو حميص البطن . ولما قال لا يمس الأرض إلا منكبٌ علم
أنه حميص البطن فاكتفى بمعناه عن ذكره .
يقول : من ضمر بطنه وخمصه إذا اضطجع لا يمس الأرض منه شيءٌ إلا منكبه . ثم جعله
لطيفاً مثل محملٍ في طيه .
وقوله : طي المحمل يريد حمائل السيف بكسر الميم الأولى . أراد أنه مدمج الخلق
لطيفاً مثل محملٍ في طيه .
وقال التبريزي : انتصب على المصدر بما دل عليه ما قبله لأنه لما قال : يمس الأرض
منه إذا نام جانبه وحرف الساق علم أنه مطويٌّ غير سمين . )
____________________
والمعنى إذا نام لا ينبسط على الأرض ولا يتمكن منها بأعضائه كلها حتى لا يكاد
يتشمر عند الانتباه بسرعة .
وهذا البيت أورده ابن هشام في شرح الألفية على أن طي المحمل نصب بتقدير : يطوي طي
المحمل .
وقوله : وإذا رميت به الفجاج إلخ . قال القاري : أي حملته عليها . والفج : الطريق
الواسع في قبل جبل ونحوه . قال التبريزي : الهوي بضم الهاء هو القصد إلى أعلى
وبفتح الهاء إلى أسفل .
هوي الدلو أسلمها الرشاء فلا تختر في رواية البيت على الضم وإن كان قد قيل غير ذلك
. انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : تهوي إليهم من سورة إبراهيم على أن تهوي
بمعنى تسرع إليهم وتطير شوقاً كما في البيت .
والمخارم : جمع مخرم كجعفر وهو منقطع أنف الجبل . والخرم : أنف الجبل . والأجدل :
الصقر .
وقوله : وإذا نظرت إلى أسرة وجهه قال التبريزي : الخطوط التي في الجبهة الأغلب
عليها سرار وتجمع على الأسرة . والتي في الكف الأغلب عليها سررٌ
____________________
وسرٌّ وتجمع على الأسرار .
وقد قيل الأسرة الطرائق . والعارض من السحاب : ما يعرض في جانب من السماء .
وتهلل الرجل مرحاً واهتل إذا افتر عن أسنانه في التبسم . يقول : إذا نظرت في وجهه
رأيت أسارير وجهه تشرق إشراق السحاب المتشقق بالبرق . يصفه بحسن البشر وطلاقة
الوجه .
قال السيوطي في شرح أبيات المغني : أخرج أبو نعيم في الدلائل والخطيب وابن عساكر
بسندٍ حسن عن عائشة قالت : كنت قاعدةً أغزل والنبي صلى الله عليه وسلم يخصف نعله
فجعل جبينه يعرق وجعل عرقه يتولد نوراً فبهت فقال : ما لك بهت فقالت : جعل جبينك
يعرق وجعل عرقك يتولد نوراً ولو رآك أبو كبير الهذلي لعلم أنك أحق بشعره حيث يقول
: ومبرأ أمن كل غبر حيضةٍ . . . . . البيت وإذا نظرت إلى أسرة وجهه . . . . .
البيت وقوله : يحمي الصحاب إلخ العيل بضم العين وتشديد المثناة التحتية : جمع عائل
وهو الفقير . )
وأبو كبير الهذلي : شاعرٌ صحابي . اشتهر بكنيته . واسمه عامر بن الحليس أحد بني
سهل بن هذيل . كذا قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء وغيره .
والحليس : مصغر الحلس بكسر الحاء المهملة وسكون اللام وآخره سين مهملة . والحلس
للبعير : كساءٌ رقيق يكون تحت البرذعة .
وأبو كبير بفتح الكاف وكسر الموحدة على وزن خلاف الصغير .
____________________
وقد أورده ابن حجر في القسم الأول من الإصابة ولم يذكر اسمه فقال : أبو كبير
بالموحدة الهذلي ذكره أبو موسى وقال : ذكر عن أبي اليقظان أنه أسلم ثم أتى النبي
صلى الله عليه وسلم فقال له : أحل لي الزنى . فقال : أتحب أن يؤتى إليك مثل ذلك
قال : لا . قال : فارض لأخيك ما ترضى لنفسك . قال : فادع الله لي أن يذهب عني .
انتهى . ( الحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائهم وكف ) على أن الأصل :
الحافظون عورة العشيرة فحذفت النون تخفيفاً .
وهذا على رواية نصب عورة . وأما على رواية جرها فالنون حذفت للإضافة .
وقد تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد المائتين .
والوكف بفتح الواو والكاف : العيب والعار .
وأنشد بعده : الكامل
____________________
أبني كليبٍ إن عمي اللذا قتلا
الملوك وفككا الأغلالا على أن أصله اللذان قتلا الملوك فحذفت النون من الموصول
تخفيفاً .
وتقدم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الثالث والعشرين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : الطويل ( وإن الذي حانت بفلجٍ دماؤهم ** هم القوم كل القوم يا أم
خالد ) على أن أصله إن الذين حانت فحذفت النون منه تخفيفاً .
وحانت : هلكت من الحين وهو الهلاك . وفلج بفتح الفاء وسكون اللام وآخره جيم :
موضعٌ في طريق البصرة .
____________________
( الشاهد التاسع بعد الستمائة
) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وكرار خلف المجحرين جواده ** إذا لم يحام دون
أنثى حليلها ) على أنه قد فصل اسم الفاعل المضاف إلى مفعوله عنه بظرفٍ والأصل :
وكرار جواده خلف المجحرين .
وهذه رواية الفراء قال في تفسيره : إذا اعترضت صفةٌ بين خافض وما خفض جاز إضافته
مثل قولك : هذا ضارب في الدار أخيه ولا يجوز إلا في شعر مثل قوله : الطويل ( مؤخر
عن أنيابه جلد رأسه ** فهن كأشباه الزجاج خروج ) بخفض جلد .
وقال الآخر : وكرار دون المحجرين جواده . . . . . . البيت بخفض جواده .
وزعم الكسائي أنهم يؤثرون النصب إذا حالوا بين الفعل والمضاف بصفة فيقولون : هو
ضارب والصفة عند الكوفيين : الجار والمجرور والظرف .
____________________
وتقدم نقل كلام الفراء برمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائتين .
وأما عند سيبويه فهو مضافٌ إلى خلف وجواده منصور . وهذا نصه : ولا يجوز : يا سارق
الليلة أهل الدار إلا في الشعر أي : بنصب الليلة وجر أهل كراهية أن يفصلوا بين
الجار والمجرور . وإذا كان منوناً . فهو بمنزلة الفعل الناصب تكون الأسماء فيه
منفصلة .
قال الشماخ : الرجز ( رب ابن عمٍّ لسليمى مشمعل ** طباخ ساعات الكرى زاد الكسل )
وقال الأخطل : وكرار خلف المجحرين جواده . . . . . . . . البيت قال الأعلم في
البيت الأول : الشاهد فيه إضافة طباخ إلى ساعات ونصب زاد على التعدي والتقدير :
طباخ ساعات الكرى على تشبيه الساعات بالمفعول به لا على الظرف . )
ولا يجوز الإضافة إليها وهي مقدرة على أصلها من الظرف لأن الظرف يقدر فيه حرف
الوعاء وهو في والإضافة إلى الحرف غير جائزة وإنما يضاف إلى الاسم .
ولما أضاف الطباخ إلى الساعات على هذا التأويل اتساعاً ومجازاً عداه . إلى الزاد
لأنه المفعول به في الحقيقة . انتهى .
وتقدم شرحه في الشاهد المذكور .
____________________
وقال في البيت الثاني : الشاهد فيه إضافة كرار إلى خلف ونصف الجواد والقول فيه
كالبيت الذي قبله إلا أن الإضافة إلى خلف أضعف لقلة تمكنها في الأسماء . ويجوز فيه
من الفصل ما جاز في الأول والأول أجود . انتهى .
وقال ابن خلف : الشاهد إضافة كرار إلى خلف وهو ظرف فإذا نصب نصب المفعول به على
السعة جاز أن يضاف إليه كما يضاف إلى المفعول به وهذا هو الوجه .
وقد أنشد بعضهم بجر جواده فهذا مثل التفسير الذي في : طباخ ساعات الكرى زاد الكسل
وهو في كرار خلف أحسن لأن خلف أقل تمكناً وأضعف من ساعات . انتهى .
وكرار بالرفع معطوف على عروفٌ في بيت قبله كما يأتي . وهو فعال من كر الفارس كراً
من باب قتل إذا فر للجولان ثم عاد للقتال . وضمنه معنى العطف والدفع ولهذا تعدى
إلى المفعول .
والمجحرين اسم مفعول من أجحره بتقديم الجيم على الحاء المهملة أي : ألجأه إلى أن
دخل جحره فانجحر : أي : يكر كراً كثيراً جواده خلف المجحرين وهم الملجؤون المغشيون
ليحامى عنهم ويقاتل في أدبارهم .
والجواد : الفرس الكريم . ولم يحام : لم يدافع بإشباع كسرة الميم للوزن . ودون
بمعنى أمام وقدام .
وأراد بالأنثى أعم من الزوجة والبنت والأخت والأم .
والحليل : الزوج . والحليلة : الزوجة سميا بذلك لأن كل واحد منهما يحل للآخر دون
غيره أو لأنه يحل من صاحبه محلاً لا يحله غيره . وصفه بالشجاعة والإقدام .
يقول : إذا فر الرجال عن نسائهم وأسلموهن للعدو قاتل عنهم وحماهم .
____________________
ورواية البيت في ديوان الأخطل كذا : ) ( وكرار خلف المرهقين جواده ** حفاظاً إذا
لم يحم أنثى حليلها ) والمرهق : اسم مفعول من أرهقته إذا أعسرته وضيقت عليه . وقال
: السكري في شرح ديوانه : المرهق : الذي قد غشيه السلاح . والحفاظ : الحماية علة
لقوله : كرار . وإذا : ظرف لكرار .
والبيت من قصيدة للأخطل النصراني مدح بها همام بن مطرف التغلبي . وهذه أبيات منها
: ( رأيت قروم ابني نزارٍ كليهما ** إذا خطرت عند الإمام فحولها ) ( فتى الناس
همامٌ وموضع بيته ** برابيةٍ يعلو الروابي طولها ) ( فلو كان همامٌ من الجن أصبحت
** سجوداً له جن البلاد وغولها ) إلى أن قال : ( جوادٌ إذا ما أمحل الناس ممرعٌ **
كريمٌ لجوعات الشتاء قتولها ) ( إذا نائبات الدهر شقت عليهم ** كفاهم أذاها واستخف
ثقيلها )
____________________
( عروفٌ لإضعاف المرازىء ماله
** إذا عج منحوت الصفاة بخيلها ) وكرار خلف المرهقين جواده . . . . . . . . البيت
القروم : الأشراف والسادة . وابنا نزار هما ربيعة ومضر . وأمحل الناس : أقحطوا .
وممرع : ذو خصب ونعمة .
وشقت من المشقة . والعروف : الصبور هنا ومبالغة العارف . وإضعاف مصدر أضعف يضعف
وهو من الضعف ضد القوة .
والمرازىء : جمع المرزأ بفتح الميم فيهما مصدرٌ بمعنى المصيبة وهو حدوث أمرٍ يذهب
به المال .
قال في المصباح : الرزية : المصيبة وأصلها الهمز يقال : رزأته ترزؤه مهموز بفتحتين
والاسم وماله فاعل عروف أي : هو عروفٌ ماله . وعج : صاح . والصفاة بالفتح : الصخرة
.
قال السكري : ومنحوت الصفاة : الذي إذا سئل لم يعط كما لا يبض الحجر إذا نحت .
وقال ابن خلف : المنحوت الذي يؤخذ منه شيءٌ بعد شيءٍ بشدة . يقول : هذا الرجل يعطي
إذا ضج من السؤال الرجل الذي يعطي اليسير بعد شدة ويكون ما يؤخذ منه بمنزلة ما
ينحت من الصخر . وبخيلها : يريد بخيل النفس فأضمر .
____________________
وترجمة الأخطل تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين . )
وأنشد بعده ( الشاهد العاشر بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( هل أنت
باعث دينارٍ لحاجتنا ** أو عبد ربٍّ أخا عون بن مخراق ) على أن سيبويه أنشده بنصب
عبد رب ونصبه بتقدير اسم الفاعل أولى من تقدير الفعل ليوافق المقدر الظاهر .
وفيه أن الأولى عند سيبويه تقدير الفعل فإنه قبل أن قال : وزعم عيسى أنهم ينشدون
هذا وتقول في هذا الباب : هذا ضارب زيدٍ وعمروٍ إذا أشركت بين الآخر والأول في
الجار لأنه ليس في العربية شيءٌ يعمل في حرف فيمتنع أن يشرك بينه وبين مثله .
وإن شئت نصبت على المعنى تضمر له ناصباً فتقول : هذا ضارب زيدٍ وعمراً كأنه قال :
ويضرب عمراً أو وضاربٌ عمراً . انتهى .
وقال ابن خلف : الشاهد فيه نصب عبد رب بإضمار فعل كأنه قال : أو تبعث عبد رب .
ولا يجوز أن يضمر إلا الفعل المستقبل لأنه مستفهم عنه بدليل
____________________
قوله : هل . ويجوز أن ينتصب
عبد رب بالعطف على موضع دينار لأنه مجرورٌ في اللفظ منصوب في المعنى . انتهى .
ولم يصب الأعلم في قوله : الشاهد فيه نصب عبد رب حملاً على موضع دينار لأن المعنى
هل أنت باعثٌ ديناراً أو عبد رب . انتهى .
وإلى تقدير الوصف ذهب ابن السراج في الأصول قال : أراد بباعث التنوين ونصب الثاني
لأنه أعمل فيه الأول كأنه قال : أو باعث عبد رب .
ولو جره على ما قبله كان عربياً إلا أن الثاني كلما تباعد من الأول قوي النصب .
انتهى .
وإلى تقدير الفعل لا غير ذهب الزجاجي في الجمل .
قال ابن هشام اللخمي : الشاهد فيه نصب عبد رب بفعل مضمر وهو مذهب سيبويه .
وقد خطأ بعضهم الزجاجي في قوله : تنصبه بإضمار فعل وقال : لا يحتاج هنا إلى
الإضمار لأن اسم الفاعل بمعنى الاستقبال وموضع دينار نصب فهو معطوفٌ على الموضع
ولا يحتاج إلى تكلف إضمار وإنما يحتاج إلى تكلف الإضمار إذا كان اسم الفاعل بمعنى
المضي لأن إضافته إضافة محضة لا ينوى بها الانفصال . )
والذي قال الزجاجي هو الذي قال سيبويه : وتمثيله يشهد لما قلناه وإن كان جائزاً أن
يعطف عبد رب على موضع دينار ولكن ما قدمنا هو الذي نص عليه سيبويه .
والدليل على أن المراد بباعث في البيت الاستقبال دخول هل لأن الاستفهام أكثر ما
يقع عما يكون في الاستقبال وإن كان قد يستفهم عما مضى كقولك : هل قام زيد لكنه لا
يكون إلا بدليل . والأصل ما قدمنا . انتهى .
وقد نقل العيني كلام اللخمي برمته ولم يعزه إليه .
والبيت أورده الزمخشري عند قوله تعالى : هل أنتم مجتمعون قال : هو
____________________
استبطاء لهم في الاجتماع وحث
على مبادرتهم إليه كما يقول الرجل لغلامه إذا أراد أن يحثه على الانطلاق : هل أنت
منطلق وهل أنت باعثٌ ديناراً أي : ابعثه سريعاً ولا تبطىْ به .
قال ابن خلف : ومعنى باعث موقظ كأنه قال : أوقظ ديناراً أو عبد رب . وهما رجلان .
وقال اللخمي : باعث هنا بمعنى مرسل كما قال تعالى : فابعثوا أحدكم بورقكم هذه إلى
المدينة . وقد يكون بمعنى الإيقاظ : كقوله تعالى : من بعثنا من مرقدنا .
غير أن الأحسن هنا أن يكون بمعنى الإرسال إذا لا دليل على النوم في البيت .
قال الأعلم : يحتمل دينار هنا وجهين : أحدهما : أن يكون أراد أحد الدنانير وأن
يكون أراد رجلاً يقال له : دينار .
وكذا قال اللخمي : دينار وعبد رب : رجلان وقيل : أراد بدينار واحد الدنانير كما
قال بعض الشعراء : المتقارب ( إذا كنت في حاجةٍ مرسلاً ** وأنت بها كلفٌ مغرم ) (
فأرسل حكيماً ولا توصه ** وذاك الحكيم هو الدرهم ) وقال ابن خلف : عبد رب الاسم
إنما هو ربه لكنه ترك الإضافة وهو يريدها . وأخا عون : وصف لعبد رب . ويجوز : أو عبد
ربٍّ أخي بالجر .
____________________
وزعم عيسى بن عمر أنه سمع العرب تنشده منصوباً .
وقال العيني : أخا عون بدل من عبد رب بدل الشيء من الشيء وهما لعين واحدة .
وقال خضر الموصلي : أخا عون إما عطف بيان لعبد ربه أو نعتٌ له على رواية النصب
وعلى النداء يكون أخا عون هو المخاطب في قوله : هل أنت . وكأن هذا الوجه لبعض من )
شرح الكشاف . ولم أر لخضرٍ الموصلي في تأليفه بنت فكر . والله أعلم .
ومخراق بكسر الميم وسكون الخاء المعجمة : اسم .
والبيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف قائلها . وقال ابن خلف : وقيل هو
لجابر بن رألان السنبسي . وسنبس : أبو حي من طيىءٍ .
ونسبه غير خدمة سيبويه إلى جرير وإلى تأبط شراً وإلى أنه مصنوع . والله أعلم
بالحال .
____________________
( اسم المفعول ) أنشد فيه :
أدنو فأنظور هو قطعة بيتٍ تقدم شرحه في باب الإعراب من أول الكتاب وهو : ( وأنني
حيثما يثني الهوى بصري ** من حيثما سلكوا أدنو فأنظور )
____________________
( الصفة المشبهة ) أنشد فيها
: ( أقامت على ربعيهما جارتا صفاً ** كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما ) تقدم شرحه
بما لا مزيد عليه في الشاهد الموفي الثلثمائة .
وأنشد بعده : روانف أليتيك وتستطارا هذا عجز وصدره : متى ما تلقني فردين ترجف
والروانف : جمع رانفة وهي طرف الألية فالأليتان لهما رانفتان . وإنما
____________________
قال : روانف باعتبار ما حول
كل رانفة فتكون الألف في تستطارا ضمير الروانف لأنها بمعنى رانفتين .
وهذا قول أبي علي في المسائل البصرية .
وقد تقدم شرح هذا البيت أيضاً متسوفى مفصلاً في الشاهد التاسع والستين بعد
الخمسمائة من شواهد باب المثنى . ( الشاهد الحادي عشر بعد الستمائة ) الرجز (
أنعتها إني من نعاتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) على أن وادقة صفة مشبهة
وفاعلها ضمير مستتر فيها . وسراتها : منصوب بالكسرة على التشبيه بالمفعول للصفة
المشبهة .
قال أبو علي في المسائل البصرية : أنشد الفراء عن الكسائي وقد رويناه عن ثعلب عنه
في نوادر ابن الأعرابي : الرجز ( أنعتها إني من نعاتها ** مدارة الأخفاف مجمراتها
) ( غلب الذفارى وعفرنياتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) قال أبو علي : هذا على :
هند حسنةٌ وجهها . ففي وادقة ذكرٌ من الإبل وليست للسرات .
فافهم . انتهى .
____________________
وعد ابن عصفور هذا من ضرورة الشعر قال في كتاب الضرائر : ومنه نصب معمول الصفة
المشبهة باسم الفاعل في حال إضافته إلى ضمير موصوفها نحو قولك : مررت برجل حسنٍ
وجهه ( أنعتها إني من نعاتها ** كوم الذرى وادقةً سراتها ) ألا ترى أنه قد نون
وادقة ونصب معمولها وهي مضافة إلى ضمير موصوفها وكان الوجه أن ترفع السرات إلا أنه
اضطر إلى استعمال النصب بدل الرفع فحمل الصفة ضميراً مرفوعاً عائداً على صاحب
الصفة ونصب معمول الصفة إجراءً له في حال إضافته إلى ضمير الموصوف مجراه إذا لم
يكن مضافاً إليه .
وكذلك أيضاً لا يجوز خفض معمولها في حال إضافته إلى ضمير الموصوف إلا عند الاضطرار
لأن الخفض لا يكون إلا من نصب .
ومن ذلك قول الأعشى : المتقارب ( فقلت له هذه هاتها ** إلينا بأدماء مقتادها ) ألا
ترى أنه أضاف الصفة وهي أدماء إلى معمولها وهو مقتاد في حال إضافته إلى ضمير
موصوفه .
وقول الآخر في الصحيح من القولين : ) ( أقامت على ربعيهما جارتا صفاً ** كميتا
الأعالي جونتا مصطلاهما ) ألا ترى أنه أضاف الصفة وهي جونتا إلى معمولها وهو
مصطلًى في حال إضافته إلى ضمير ونقل ابن الناظم في شرح الألفيه عن سيبويه أن الجر
في هذا النحو من الضرورات وأن النصب من القسم الضعيف . وأنشد البيت . ولم يصب
العيني في
____________________
قوله : الاستشهاد عند ابن
الناظم في نصب سراتها لأن فيه شاهداً على جواز زيد حسنٌ وجهه بالنصب . انتهى .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : قوله وادقة سراتها نظير حسن وجهه .
وسراتها بالكسر في موضع النصب على التمييز . انتهى .
وهذا إنما هو على مذهب المقتبس أن عبد القاهر قال : الأصل وادقة السرات فنابت
الإضافة عن اللام كما تنوب اللام عن الإضافة . انتهى .
ولا يخفى أن المعهود عند النحاة هو الثاني لا الأول .
قال : والرجز المذكور أنشد ابن الأعرابي في نوادره على ذلك الترتيب .
وبعد البيت الشاهد : حملت أثقالي مصمماتها ثم سبعة أبيات أخر لا حاجة لنا بإيرادها
. وإنما جمعوا في الاستشهاد بين البيت الأول والبيت الرابع للاختصار ولظهور المعنى
إجمالاً .
وقوله : أنعتها إلخ الضمير للإبل فإن النعوت الآتية إنما هي لها . نعته نعتاً من
باب نفع : وصفه .
وقوله : مدارة الأخفاف منصوب بتقدير أعني ونحوه على المدح وكذا الحال في الأوصاف
الآتية .
والمعنى أن أخفافها مدورة . مجمراتها أي : مجمرات الأخفاف . والمجمر
____________________
بضم الميم وسكون الجيم وفتح
الميم الثانية قال صاحب الصحاح : حافر مجمر أي : صلب .
وقوله : غلب إلخ والغلب بفتح الغين المعجمة واللام : غلظ الرقبة والوصف أغلب
والجمع غلب .
والذفارى بفتح الذال المعجمة بعدها فاء آخره ألف مقصورةٌ : جمع ذفرى بكسر الأول
وسكون الثاني والقصر قال صاحب الصحاح : الذفرى من القفا هو الموضع الذي يعرق من
البعي خلف الأذن والألف للتأنيث وقيل للإلحاق بدرهم . )
وأراد بالذفرى العنق من قبيل المجاز المرسل . وعفرنياتها : جمع عفرناة بفتح العين
المهملة والفاء وسكون الراء والنون والألف للإلحاق بسفرجل والتاء للتأنيث قال صاحب
الصحاح : وناقة عفرناة أي : قوية . وأنشد هذا البيت .
وقوله : كوم الذرى منصوب على المدح كالذي قبله كما تقدم . وهو بضم الكاف : جمع
كوماء بفتحها وبالمد وهي الناقة العظيمة السنام . والذرى بضم الذال : جمع ذروة
بكسرها وهي ووادقة منصوب أيضاً من ودق إذا دنا لأنها إذا سمنت دنت إلى الأرض من
سمنها . ويقال : بعيرٌ وديق السرة أي : سمينها .
ووادقة صفة مشبهة لأنه أريد به ثبات معناه ودوامه وإن كان بزنة اسم الفاعل الموازن
يفعل لأنه لا يراد به تجدد معناه وانقطاعه .
وقال الخوارزمي : ودق : دنا والمراد به السمن ها هنا لأنها متى سمنت خرجت من السمن
سرتها ودنت إليك .
وسراتها بضم السين وتشديد الراء : جمع سرة وهي موضع ما تقطعه القابلة من الولد .
قال التبريزي في شرح الكافية الحاجبية بعد إيراد هذا البيت : ولا يجوز تقديم
المنصوب على العامل لأنه مرفوع في المعنى .
____________________
ويجوز في هذه المسألة وفي مررت بزيد الحسن وجهه بنصب وجهه أن تثنى الصفة فيهما
وتجمع وتؤنث وتذكر بحسب المعنى . انتهى .
وقوله : حملت إلخ هو بتشديد الميم يتعدى إلى مفعولين الأول أثقالي وهو جمع ثقل
بفتحتين وهو المتاع كسبب وأسباب والثاني : مصمماتها جمع مصممة بكسر الميم المشددة
من صمم الأمر إذا مضى فيه .
والزمخشري إنما أورد البيت الشاهد . وزعم بعض شراح أبياته من فضلاء العجم أنه عجز
وصدره : الرجز رعت كما شاءت على غراتها وقال : الغرة بالكسر : الغفلة . وكوم الذرى
بالرفع : فاعل رعت . وهذا من عدم تمييزه بين الرجز والشعر مع أن الذي ضمه ليس من
الرجز .
وهذا الرجز لم ينسبه ابن الأعرابي إلى أحد وإنما قال : هو لبعض الأسديين يصف إبلاً
. وقال )
العيني : قائله عمير بن لحا بالحاء المهملة التيمي .
ولم أعرف شاعراً كذا وإنما المعروف عمر بن لجأ التيمي . وعمر مكبر لا مصغر . ولجأ
بفتح اللام والجيم مهموز الآخر . والله أعلم بحقيقة الأمر .
والبيت الذي أنشده ابن عصفور لأعشى بكر إنما الرواية فيه :
____________________
( فقلت له هذه هاتها **
بأدماء في حبل مقتادها ) فلا ضرورة فيه .
وقبله : المتقارب ( فقمنا ولما يصح ديكنا ** إلى جونةٍ عند حدادها ) ويعني بالحداد
الخمار لأنه يمنع من الخمر ويحفظها . وكل من حفظ شيئاً ومنع منه فهو حداد .
وهذه إشارة إلى الجونة المذكورة وهي الخابية جعلها جونة لاسودادها من القار .
والمعنى : هات هذه الجابية وخذ هذه الناقة الأدماء أي : البيضاء بحبل قائدها .
والأدمة في الإبل : البياض وفي الناس : السمرة وفي الظباء : سمرةٌ في ظهورها
وبياضٌ في بطونها . وضمير له للحداد . وبأدماء حال كأنه قال : مشتراة بأدماء . وفي
حبل صفة لأدماء كأنه قال : بأدماء مشدودة في حبل قائدها أو خبر لمبتدأ محذوف أي :
وهي في حبل قائدها . والجملة حال .
والجونة بفتح الجيم معناه السوداء .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني عشر بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الرجز الحزن
باباً والعقور كلبا على أنه كناية عن البخل كما أن جبان الكلب كناية عن الجود .
وأنشده سيبويه على أن نصب باب وكلب على حد الحسن وجهاً .
____________________
فذاك وخمٌ لا يبالي السبا والوخم : الثقيل . يقول : ذاك من الرجال وخمٌ ثقيل لا
يرتاح لفعل المكارم ولا يهش للجود ولا يبالي أن يسب ويروى المال أحب إليه من عرضه
.
والحزن بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي : صفة مشبهة وهو خلاف السهل . وكذلك العقور
صفة مشبهة .
قال الأزهري : الكلب العقور : هو كل كلب يعقر من الأسد والفهد والنمر والذئب .
يقال : عقر الناس عقراً من باب ضرب أي : جرحهم فهو عقور والجمع عقرٌ مثل رسول ورسل
. وباباً وكلباً تمييزان .
وصف رؤبة رجلاً بشدة الحجاب ومنع الضيف فجعل بابه حزناً وثيقاً لا يستطاع فتحه
وكلبه عقوراً لمن حل بفنائه طالباً لمعروفه .
يقول : إن من أتاه لقي قبل الوصول إليه ما يكره من حاجب أو بوابٍ أو صاحب . وجعل
له كلباً على طريق الاستعارة كما يكون في البادية .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
على أن اللام في قوله :
والبرد بدل من الضمير والتقدير : وبردي برده . وهذا صدرٌ وعجزه : ولم يلهني عنه
غزالٌ مقنع وقد تقدم شرحه في الشاهد الثالث والتسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده : الطويل رحيب قطاب الجيب منها تمامه : ) ( . . . . . . . . . . . . .
. رفيقةٌ ** بجس الندامى بضة المتجرد ) على أن رحيب مضاف إلى قطاب وقطاب مضاف إلى
الجيب .
وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي بعد الثلثمائة من باب الإضافة .
والرواية الصحيحة تنوين رحيب ورفع قطاب على الفاعلية . وضمير منها لقينة في بيت
قبله .
والرحيب : الواسع . وقطاب الجيب : مجتمعه حيث قطب أي : جمع وهو مخرج الرأس من
الثوب . وإنما وصف قطاب جيبها بالسعة لأنها كانت توسعه ليبدو صدرها فينظر إليه
ويتلذذ به .
ورفيقة بالفاء ثم القاف : الملائمة واللينة . والجس بفتح الجيم : اللمس .
____________________
والمراد بالمتجرد حيث يتجرد من بدنها أي : يعرى من الثوب وهو الأطراف . وخصه
بالذكر مبالغةً في نعومتها لأنه إذا كان ما تصيبه الريح والشمس والبرد من اليدين
والرجلين بضاً ناعماً رقيقاً كان المستتر بالثياب أشد بضاضة ونعومة .
وهذا هو معنى الجيد بخلاف ما أسلفناه هناك تبعاً لشراح المعلقات وهو قولنا المتجرد
: ما ستره الثياب من الجسد أي : هي بضة الجسم عند التجريد من ثيابها . ولا يخفى
ضعفه وركاكته . وهذا المعنى لاح لنا ولله الحمد .
والبيت من معلقة طرفة بن العبد وتقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والخمسين بعد
المائة .
____________________
( أفعل التفضيل ) أنشد فيه ( الشاهد
الثالث عشر بعد الستمائة ) الرجز أبيض من أخت بني أباض على أن الكوفيين أجازوا
بناء أفعل التفضيل من لفظي السواد والبياض كما هنا وهو شاذٌ عند البصريين .
قال شارح اللباب : أجاز الكوفيون التعجب من السواد والبياض لأنهما أصول الألوان .
وأنشدوا : البسيط ( إذا الرجال شتوا واشتد أكلهم ** فأنت أبيضهم سربال طباخ )
وأنشدوا أيضاً : ( جاريةٌ في درعها الفضفاض ** أبيض من أخت بني أباض ) وجاء في شعر
المتنبي : البسيط
____________________
وقالوا : لما جاء منهما أفعل
التفضيل جاء بناء التعجب . والاستشهادات ضعيفة لأنها من ضرورة الشعر لا في سعة
الكلام فيكون نادراً .
وقولهم : إنهما أصلان للألوان ممنوع وبعد تسليمه فدليل المنع قائمٌ فيهما وإن كانا
من أصول الألوان .
وقال أيضاً في آخر الكتاب : هذه الأبيات بحجة للشذوذ مع أنه يحتمل أن يكون أبيض في
البيتين أفعل الذي مؤنثه فعلاء فلا يكن للتفضيل فكأنه قال : أنت مبيضهم . وانتصب
سربال على التمييز .
وكذا البيت الآخر لا يكون بالتفضيل أيضاً بل معناه مبيضة هي من أخت بني أباض .
انتهى .
وهذا محصل كلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف وقال : الأبيات ضرورة أو أبيض فيهما
أفعل الذي مؤنثه فعلاء لا الذي يراد به المفاضلة فكأنه قيل في الأول : مبيضهم .
وفي الثاني : جسدٌ مبيض من أخت بني أباض ويكون من أخت في موضع الصفة .
وقال ابن يعيش في باب التعجب : فإن قيل : لو كان الأمر كما قلتم لقيل : بيضاء لأنه
من صفة )
الجارية .
قيل : إنما قال أبيض لأنه أراد في درعها الفضفاض جسدٌ أبيض فارتفاعه بالابتداء
والجار وكذا صنيع الشريف المرتضى في أماليه الغرر والدرر وزاد في البيت الأول أن
أبيض وإن كان في الظاهر عبارةً عن اللون فهو في المعنى كناية عن اللؤم والبخل فحمل
لفظ التعجب على المعنى دون اللفظ .
____________________
ولو أنه أراد بأبيضهم بياض الثوب ونقاءه على الحقيقة لما جاز أن يتعجب بلفظ أفعل .
فالذي جوز تعجبه بهذه اللفظة ما ذكرناه .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن البياض لم يستعمل قط في اللؤم والبخل وإنما استعمله في المدح وإنما
كان هنا ذماً بالنسبة إلى الطباخ . والكلمة في البيت أفعل تفضيل لا تعجب . وهذا
ظاهر .
ولما كان الظاهر باقتضاء المعنى أن أفعل في الأبيات الثلاثة للتفضيل لم يتعسف
الشارح المحقق في تأويلها بإخراجها عن التفضيل بل أجاب بأنها من قبيل الشذوذ
وضرورة الشعر . فلله دره ما أبعده مرماه وما أحكم مغزاه وأغرب ما رأيته قول بعضهم
: شبه كثرة أولادها لغير رشدةٍ بالبيض . وأبيض بمعنى كثير البيض جائز . هذا كلامه
ولا وجه له .
وقال ابن يعيش في باب أفعل التفضيل : من اعتل بأن المانع من التعجب من الألوان
أنها معان ومن علل بأن المانع من التعجب كون أفعالها زائدة فهما شاذان عند سيبويه
وأصحابه من جهة القياس والاستعمال .
أما القياس فإن أفعالها ليست ثلاثية على فعل ولا على أفعل إنما هو افعل وافعال .
وأما الاستعمال فأمره ظاهر .
وأما عند أبي الحسن الأخفش والمبرد فإنهما ونحوهما شاذان من جهة الاستعمال صحيحان
من جهة القياس لأن أفعالهما بزيادة فجاز تقدير حذف الزوائد . انتهى .
قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : البيت الشاهد من رجز لرؤبة بن العجاج .
وقبله : الرجز
____________________
( لقد أتى في رمضان الماضي **
جاريةٌ في درعها الفضفاض ) ) ( تقطع الحديث بالإيماض ** أبيض من أخت بني أباض )
قال : كذا أنشده ابن جني . انتهى .
ولم أره في ديوانه . ورأيت في نوادر ابن الأعرابي ولم ينسبه إلى أحد : الرجز ( يا
ليتني مثلك في البياض ** أبيض من أخت بني أباض ) ( جاريةٌ في رمضان الماضي ** تقطع
الحديث بالإيماض ) وزاد غير ابن الأعرابي على هذا : ( مثل الغزال زين بالخضاض **
قباء ذات كفلٍ رضراض ) قال ابن الأعرابي بعد الإنشاد : إذا أومضت تركوا حديثهم
ونظروا إليها من حسنها . وقوله : في رمضان الماضي كان الربيع جمعهم في ذلك الوقت .
وأورده الفراء في كتاب الأيام والليالي شاهداً على أنه يقال : رمضان بدون شهر كما
يقال معه .
وقال أبو عمر الزاهد المطرزي الشهير بغلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة بعد إنشاد
الأبيات عن ابن الأعرابي وعن الفراء قالا : يقال هذا شهر رمضان وهذا رمضان بلا شهر
.
وأنشد فيمن قال بلا شهر :
____________________
جاريةٌ في رمضان الماضي
وأخبرنا ثعلب بن سلمة عن الفراء عن الكسائي قال : كان الرؤاسي يكره أن يجمع رمضان
ويقول : بلغني أنه اسمٌ من أسماء الله تعالى . انتهى .
وقال اللخمي : قال أبو عمرو : والعرب تركوا الشهور كلها مجردةً إلا شهر ربيع وشهر
رمضان .
ويرد عليه أن رؤبة أتى برمضان هنا مجرداً من الشهر وهو من فصحاء العرب .
وجاء في الحديث الصحيح : من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه .
والدرع : القميص . والفضفاض : الواسع . وأخت بني أباض بفتح الهمزة بعدها موحدة قال
اللخمي : معروفة بالبياض .
وقال ابن السيد : وبنو أباض : قوم . والخضاض بكسر المعجمة : اليسير من الحلي وقيل
هو نوعٌ منه .
قال الشاعر : الطويل ( ولو أشرفت من كفة الستر عاطلاً ** لقلت : غزالٌ ما عليه
خضاض ) )
والقباء : الضامرة البطن فعلاء من القبب وهو دقة الخصر . والرضراض بالفتح : الكثير
اللحم .
____________________
وقوله : تقطع الحديث إلخ أورده ابن هشام في المغني مع قوله : جارية في رمضان الماضي
وقال إن تقطع حكايةٌ للحال الماضية . وقال الفراء : إنها إذا تبسمت وكان الناس على
حديثٍ قطعوا حديثهم ونظروا إلى حسن ثغرها .
وكذلك قال ابن السيد : الإيماض : ما يبدو من بياض أسنانها عند الضحك والابتسام .
وشبهه بوميض البرق . ( وتبسم لمح البرق عن متوضحٍ ** كلون الأقاحي شاف ألوانه
القطر ) وقال آخر : الطويل ( كأن وميض البرق بيني وبينها ** إذا حان من بعض البيوت
ابتسامها ) وقال اللخمي : معنى الإيماض أنهم إذا تحدثوا فأومضت إليهم أي : نظرت
شغلهم حسن عينيها فقطعو حديثهم وقيل : الإيماض هنا التبسم .
شبه ابتسامها بوميض البرق في لمعانه فيكون معناه كمعنى القول الأول .
ويحتمل أن تكون هي المحدثة وأنها تقطع حديثها بالتبسم . يصفها بطلاقة الوجه وسماحة
الخلق .
كما قال ذو الرمة : الطويل ( يقطع موضوع الحديث ابتسامها ** تقطع ماء النون في نزف
الخمر ) واقتصر الدماميني في الحاشية الهندية في تفسير الإيماض على قول اللخمي
أولاً
____________________
ولكن قوله : يجوز رفع جارية
على أنها خبر مبتدأ محذوف أي : محبوبتي جارية ويجوز جرها برب محذوفة . انتهى غير
جيد .
قال اللخمي : جارية فاعل يأتي الواقع في البيت الذي قبل هذا والفضفاض نعتٌ للدرع
والعجب من غلام ثعلب حيث قال بعدما نقل تفسير الفراء للإيماض : هذا خطأ لأن
الإيماض لا يكون في الفم إنما يكون في العينين وذلك أنهم كانوا يتحدثون فنظرت
إليهم واشتغلوا بحسن نظرها عن الحديث ومضت . انتهى . )
ويرد عليه ما تقدم وقول المبرد في الكامل عند قول الشاعر : الخفيف ( لا أحب النديم
يومض بالعي ** ن إذا ما انتشى لعرس النديم ) قال : الإيماض تفتح البرق ولمحه يقال
: أومضت المرأة إذا ابتسمت . وإنما ذلك تشبيهٌ للمع ثناياها بتبسم البرق . فأراد
أنه فتح عينه ثم غمضها بغمزٍ . انتهى .
وأما قوله : إذا الرجال شتوا إلخ فهو من أبياتٍ لطرفة بن العبد هجا بها ملك الحيرة
عمرو بن هند .
ويروى كذا : ( أنت ابن هندٍ فأخبر من أبوك إذن ** لا يصلح الملك إلا كل بذاخ ) (
إن قلت نصرٌ فنصرٌ كان شرفني ** قدماً وأبيضهم سربال طباخ )
____________________
( ما في المعالي لكم ظلٌّ ولا
ورقٌ ** وفي المخازي لكم أسناخ أسناخ ) مع أبيات أخر .
وقوله : واشتد أكلهم أراد بالأكل القوت وهو مضموم الهمزة أي : غلت أسعارهم .
ومن روى : أكلهم بفتح الهمزة جعل الأكل بمعنى المأكول وقد يكون معناه أنهم إذا
شتوا لا يجدون الطعام إلا بعد جهد وشدة وجوع فإذا وجدوه بالغوا في الأكل .
ومن روى : أكلهم بضم الهمزة وتشديد الكاف فهو جمع آكل هو راجعٌ إلى المعنى الذي
قدمت آنفاً . والسربال : القميص .
يقول : إذا دخل فصل الشتاء الذي يمنع من التصرف وانقطعت الميرة وغلت الأسعار واشتد
القوت فسربال طباخك نقي للؤمك . ولو كنت كريماً لاسود لكثرة طبخه على ما عهد من
سربال الطباخين .
وهذا ضد قول مسكين الدرامي : الوافر ( كأن قدور قومي كل يومٍ ** قباب الترك ملبسة
الجلال ) ( كأن الموقدين لها جمالٌ ** طلاها الزفت والقطران طالي ) ( بأيديهم
مغارف من حديدٍ ** أشبهها مقيرة الدوالي ) وأنشد ابن السكيت في أبيات المعاني بيت
طرفة .
ومثله قول الآخر : المتقارب )
____________________
( وقدرك لم يعرها طارقٌ **
وكلبك منجحرٌ أخرس ) قال : كلبه ينجحر لأنه لا يأتيه طارق ولا يكون في مكان يأتيه
فيه .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع عشر بعد الستمائة ) البسيط لأنت أسود في عيني من الظلم
لما تقدم قبله من أن أسود أفعل تفضيل من السواد جاء على الشذوذ .
والمعنى عليه لأن الغرض كون بياض الشيب في نظره أشد من سواد الظلم مبالغةً في
كراهة الشيب .
وهو عجز وصدره : ابعد بعدت بياضاً لا بياض له والبيت ثاني بيتٍ من قصيدةٍ لأبي
الطيب المتنبي قالها في صباه . وقبله وهو مطلعها : ( ضيفٌ ألم برأسي غير محتشم **
والسيف أحسن فعلاً منه باللمم ) قال الإمام الواحدي في شرح ديوان المتنبي : جميع
من فسر هذا الشعر قال في قوله : لأنت أسود في عيني من الظلم
____________________
إن هذا من الشاذ الذي أجازه الكوفيون
من نحو قوله : أبيض من أخت بني أباض وسمعت العروضي يقول : أسود ها هنا : واحد
السود . والظلم : الليالي الثلاث في آخر الشهر التي يقال لها : ثلاثٌ ظلمٌ . يقول
لبياض شيبه : أنت عندي واحدٌ من تلك الليالي الظلم .
على أن أبا الفتح قد قال ما يقارب هذا . وقد يمكن أن يكون لأنت أسود في عيني
كلاماً تاماً ثم ابتدأ يصفه فقال : من الظلم كما يقال هو كريمٌ من أحرار .
وهذا يقارب ما ذكره العروضي غير أنه لم يجعل الظلم الليالي في آخر الشهر . انتهى .
وهذا التأويل محصل للمبالغة المذكورة بجعل الأسود من أفراد الليالي الحنادس مع
تفصيه من الشذوذ .
وقد مشى على هذا التأويل جماعة منهم الشريف المرتضى في أماليه قال : لأنت أسود في
)
عيني كلام تام ثم قال من الظلم أي : من جملة الظلم كما يقال حرٌّ من أحرار ولئيم
من لئام أي : من جملتهم . ( وأبيض من ماء الحديد كأنه ** شهابٌ بدا والليل داجٍ
عساكره ) كأنه قال : وأبيض كائن من ماء الحديد . فقوله : من ماء الحديد وصف
____________________
لأبيض وليس يتصل به كاتصال من
بأفضل في قولك : هو أفضل من زيد وكذلك من الظلم في بيت المتنبي .
ومنهم الحريري في درة الغواص قال : وقد عيب على المتنبي هذا البيت . ومن تأويل له
فيه جعل أسود هنا من قبيل الوصف المحض الذي تأنيثه سوداء وأخرجه عن حيز أفعل
التقضيل ويكون على هذا التأويل قد تم الكلام وكملت الحجة في قوله : لأنت أسود في
عيني وتكون من التي في قوله من الظلم لتبيين جنس السواد لأنها صلة أسود .
ومنهم ابن هشام في المغني قال : علق بعضهم من بأسود وهذا يقتضي كونه اسم تفضيل
وذلك ممتنعٌ في الألوان . والصحيح أن من الظلم صفة لأسود أي : أسود كائن من جملة
الظلم .
وكذلك قوله أيضاً : الكامل ( يلقاك مرتدياً بأحمر من دمٍ ** ذهبت بخضرته الطلى
والأكبد ) من دم إما تعليل أي : أحمر من أجل التباسه بالدم أو صفة . كأن السيف
لكثرة التباسه بالدم صار دماً .
وقوله : ابعد هو بكسر الهمزة وفتح العين : أمرٌ من بعد يبعد من باب فرح بمعنى هلك
وذل .
قال الواحدي : وعنى بالبياض الأول الشيب . يقول : يا بياضاً ليس له بياض يعني به
معنى قول أبي تمام : الطويل
____________________
( له منظرٌ في العين أبيض
ناصعٌ ** ولكنه في القلب أسود أسفع ) وقال الشريف المرتضى قدس سره : المعنى ظاهر
للناس فيه أنه أراد لا ضياء له ولا نور ولا إشراق من حيث كان حلوله محزناً مؤذناً
بتقضي الأجل .
وهذا لعمري معنًى ظاهر إلا أنه يمكن فيه معنًى آخر وهو يريد : إنك بياضٌ لا لون
بعده لأن البياض آخر ألوان الشعر فجعل قوله : لا بياض له بمنزلة قوله لا لون بعده
.
وإنما سوغ ذلك له أن البياض هو الآتي بعد السواد فلما نفى أن يكون للشيب بياضٌ كما
نفياً لأن يكون بعده لون . انتهى . )
وبياضاً : تمييز محول عن الفاعل والعرب تكنى بالبياض عن الحسن ومنه يد بيضاء . أي
: أهلك الله من لا بياض له .
والظلم : جمع ظلمة بمعنى الظلام ويكون اسماً لثلاث ليالٍ من آخر الشهر .
وقوله : ضيفٌ ألم برأسي إلخ قال الواحدي : عنى بالضيف الشيب كما قال الآخر :
السريع ( أهلاً وسهلاً بمضيفٍ نزل ** أستودع الله أليفاً رحل ) يريد الشيب والشباب
. والمحتشم : المتقبض والمستحي . يريد أن الشيب ظهر في رأسه شائعاً دفعةً من غير
أن يظهر في تراخ ومهلة . وهذا معنى قوله : غير محتشم .
ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب لأن الشيب يبيضه وذاك أقبح ألوان الشعر
ولذلك سن تغييره بالحمرة والسيف يكسبه حمرة .
على أن ظاهر قوله : أحسن فعلاً منه باللمم يوجب أن الشعر المقطوع بالسيف أحسن من
الشعر الأبيض بالشيب لأن السيف إذا صادف الشيب قطعه وإنما يكسبه حمرةً إذا قطع
اللحم .
وقد قال البحتري : الطويل
____________________
( وددت بياض السيف يوم لقينني
** مكان بياض الشيب حل بمفرقي ) فجعل نزول السيف برأسه أحب إليه من نزول الشيب .
انتهى .
وقد ضمن البوصيري صاحب البردة مطلع المتنبي فقال : وأجاد : البسيط ( ولا أعدت من
الفعل الجميل قرى ** ضيفٍ ألم برأسي غير محتشم ) وقد تقدمت ترجمة المتنبي في
الشاهد الواحد والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده الكامل ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول ) على
أنه يجوز أن يكون حذف منه المفضول أي : أعز من دعائم كل بيت أو من دعائم بيتك .
وعليه اقتصر صاحب المفصل واللباب .
وقدره بعضهم : أعز من سائر الدعائم . وقال ابن المستوفي : قالوا أعز وأطول من
السماء على مبالغة الشعراء .
ونقل التبريزي في شرح الكافية عن الطرماح أنه قال للفرزدق : يا أبا فراس أعز مم
وأطول مم )
فأذن مؤذن . وقال : الله أكب فقال الفرزدق : يا لكع ألم تسمع ما يقول المؤذن أكبر
مم ذا فقال : من كل شيء . فقال : أعز من كل عزيز وأطول من كل طويل . انتهى .
____________________
ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه أي : أعز دعامةٍ وأطولها .
وبقي احتمالٌ ثالث وهو أن يكون أفعل فيه بمعنى فاعل . قال المبرد في الكامل : وجائز
أن يكون التقدير : دعائمه عزيزة وطويلة .
وبه أورده ابن الناظم وابن عقيل في شرح الألفية .
قال العيني : الاستشهاد فيه أنهما على وزن أفعل التفضيل ولكن لم يقصد بهما تفضيل
فإنهما وعمم الخلخالي في شرح تلخيص المفتاح فقال : أي من كل شيء أو من بيتك يا
جرير أو من السماء أو غزيزٍ طويل .
ونقل أبو حيان في تذكرته عن أبي عبيدة أنه قال : يكون أفعل بمعنى فعيل وفاعل غير
موجب تفضيل شيء على شيء كقوله تعالى : وهو أهون عليه . وبقول الأحوص : الكامل
قسماً إليك مع الصدود لأميل وبقول الفرزدق : بيتاً دعائمه أعز وأطول وبقول الآخر :
الطويل
____________________
( تمنى رجالٌ أن أموت وإن أمت
** فتلك سبيلٌ ليست فيها بأوحد ) قال أبو حيان : وزرى النحويون عليه هذا القول ولم
يسلموا له هذا الاختيار وقالوا : لا يخلو أفعل من التفضيل . وعارضوا حججه بالإبطال
وتأولوا ما استدل به . انتهى .
ونقل الخلاف ابن الأنباري في الزاهر قال : قولهم الله أكبر سمعت أبا العباس يقول :
اختلف أهل العربية فقالوا : معناه كبير .
واحتجوا بقول الفرزدق : أراد : دعائمه عزيزة طويلة .
واحتجوا بقول الآخر : لست فيها بأوحد وبقول معن : الطويل )
لعمرك ما أدري وإني لأوجل أراد : لوجلٌ .
____________________
وبقول الأحوص : قسماً إليك مع الصدود لأميل أراد : المائل . واحتجوا بقوله تعالى :
وهو أهون عليه قالوا : معناه هين عليه . وقال الكسائي والفراء وهشام : الله أكبر
معناه أكبر من كل شيء فحذفت من لأن أفعل خبر .
واحتجوا بقول الشاعر : الطويل ( إذا ما ستور البيت أرخين لم يكن ** سراجٌ لنا إلا
ووجهك أنور ) أراد : أنور من غيره .
وقال معن : الطويل أراد : أفضل من قولهم . انتهى .
وقال المبرد في الكامل في تفسير قوله تعالى : يعلم السر وأخفى تقديره في العربية :
وأخفى منه .
والعرب تحذف مثل هذا فيقول القائل : مررت بالفيل أو أعظم وإنه كالبقة أو أصغر .
فأما قوله تعالى : وهو أهون عليه ففيه قولان : أحدهما : وهو المرضي عندنا إنما هو
: وهو عليه هين لأن الله جل وعز لا يكون شيءٌ أهون عليه من شيء آخر .
____________________
وقال معن بن أوس : لعمرك ما أدري وإني لأوجل أراد : وإني لوجلٌ . وكذلك يكون ما في
الأذان : الله أكبر الله أكبر أي : الله كبير لأنه إنما يفاضل بين الشيئين إذا
كانا من جنس واحد فيقال : هذا أكبر من هذا إذا شاكله في بابٍ .
فأما : الله أجود من فلان والله أعلم بذلك منه فوجهٌ بين لأنه من طريق العلم
والمعرفة والبذل والإعطاء . وقوم يقولون : الله أكبر من كل شيء . وليس يقع هذا على
محض الرؤية لأنه تبارك وتعالى ليس كمثله شيء .
وكذلك قول الفرزدق : جائز أن يكون قال للذي يخاطبه : من بيتك فاستغنى عن ذكر ذلك
بما جرى من المخاطبة )
والمفاخرة .
وجائز أن تكون دعائمه عزيزة طويلة كما قال الآخر : الرجز ( قبحتم يا آل زيدٍ نفرا
** ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا ) يريد صغاراً وكباراً . فأما قول مالك بن نويرة في
ذؤاب بن ربيعة حيث قتل
____________________
عتيبة بن الحارث بن شهاب وفخر
ببني أسد بذلك مع كثرة من قتل بنو يربوع منهم : الكامل ( فخرت بنو أسدٍ بمقتل مالك
** صدقت بنو أسدٍ عتيبة أفضل ) فإنما معناه أفضل ممن قتلوا . على ذلك يدل الكلام .
وقد أبان ما قلنا في بيته الثاني بقوله : ( فخروا بمقتله ولا يوفي به ** مثنى
سراتهم الذين نقتل ) والقول الثاني في الآية : وهو أهون عليه عندكم لأن إعادة
الشيء عند الناس أهون من ابتدائه حتى يجعل شيءٌ من غير شيء . انتهى .
وقوله : سمك السماء إلخ سمك بمعنى رفع وأراد بالبيت بيت العز والشرف .
وقال الخلخالي : المراد بالبيت هو الكعبة وقيل : هو العزة . وتبعه العيني والعباسي
في المعاهد .
قال ابن يعيش : وأطول ها هنا من الطول بالفتح الذي هو في الفضل لا من الطول بالضم
الذي وهذا البيت أورده علماء المعاني على أن فيه جعل الإيماء إلى وجه الخبر وسيلةً
إلى التعريض بالتعظيم لشأنه . وذلك في قوله : إن الذي سمك ففيه إيماءٌ إلى أن
الخبر المبني عليه أمر من جنس الرفعة بخلاف ما لو قيل إن الله ونحوه .
ثم فيه تعريض بتعظيم بنائه لكونه فعل من رفع السماء التي لا أرفع من بنائها ولا
أعظم . قال الخلخالي : وإدراك مثل ذلك يحتاج إلى لطف طبع .
والبيت مطلع قصيدةٍ عدتها تسعةٌ وتسعون بيتاً للفرزدق يفخ بها على جرير ويهجوه .
وبعده :
____________________
( بيتاً بناه لنا المليك وما
بنى ** حكم السماء فإنه لا ينقل ) ( بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه ** ومجاشعٌ وأبو
الفوارس نهشل ) ( يلجون بيت مجاشع وإذا احتبوا ** برزوا كأنهم الجبال المثل ) ( لا
يحتبي بفناء بيتك مثلهم ** أبداً إذا عد الفعال الأفضل ) وتقدم بعض أبيات منها في
باب الظروف في الشاهد السابع والتسعين بعد الأربعمائة .
وبيتاً في البيتين بالتنوين بدل من الأول . وزرارة بالضم هو زرارة بن عدس بالضم
أيضاً ابن )
زيد بن عبد الله بن دارم . ومجاشع : ابن درام . ونهشل : ابن دارم . ومحتبٍ : اسم فاعل
من الاحتباء .
روى صاحب الأغاني بسنده عن سلمة بن عياش قال : دخلت على الفرزدق السجن وهو محبوسٌ
فيه وقد قال قصيدته : إن الذي سمك السماء بنى لنا . . . . . . . . . . البيت وقد
أفحم وأجبل فقلت له : ألا أرفدك فقال : وهل ذلك عندك فقلت : نعم .
ثم قلت : بيتاً زرارة محتبٍ بفنائه . . . . . . . . . البيت فاستجاده وغاظه قولي
فقال لي : ممن أنت قلت : من بني عامر بن لؤي . فقال : لئامٌ والله جاورتهم
بالمدينة فما أحمدتهم . فقلت : ألأم والله منهم قومك جاءك رسول مالك بن المنذر
وأنت سيدهم وشاعرهم فأخذ بأذنك يقودك حتى
____________________
حبسك فما اعترضه أحد ولا نصرك
.
فقال : قاتلك الله ما أمكرك وأخذ البيت فأدخله في قصيدته . انتهى .
ويلجون من الولوج وهو الدخول . والمثل : جمع ماثل كركع جمع راكع . والفعال بالفتح
: الجميل .
وقد عارضه جريرٌ بقصيدةٍ مثلها عدتها اثنان وستون بيتاً منها : الكامل ( أخزى الذي
سمك السماء مجاشعاً ** وبنى بناءك بالحضيض الأسفل ) ( وقضت لنا مضرٌ عليك بفضلنا
** وقضت ربيعة بالقضاء الفيصل ) ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** عزاً علاك فما له
من منقل ) وترجمة الفرزدق وجرير قد تقدمت في أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس عشر بعد الستمائة ) الوافر ( ستعلم أينا للموت أدنى **
إذا دانيت لي الأسل الحرارا ) على أن المفضول محذوف والتقدير أدنى من صاحبه .
ويجوز أن يكون أفعل
____________________
بمعنى اسم الفاعل . أي : قريب
. ويجوز أن يكون المحذوف مضافاً إليه والتقدير أقربنا وأدنانا أو أقرب رجلين منا .
والبيت من قصيدة لعنترة العبسي خاطب بها عمارة بن زياد العبسي وتقدم شرح أبيات
منها قبل البيت في الشاهد التاسع والستين بعد الخمسمائة من باب المثنى . وما بعده
من الأبيات لا تعلق لها به فلذا تركناها .
وأدنى ودانيت فاعلت كلاهما من الدنو وهو القرب . قال ابن الشجري في أماليه : أراد
إلى الموت أدنى . وإذا دانيت إلي الأسل . فوضع اللام في موضع إلى لأن الدنو وما
تصرف منه أصله التعدي بإلى . ومثله في إقامة اللام مقام إلى قول الله سبحانه : بأن
ربك أوحى لها أي : أوحى إليها . اه .
والأسل بفتحتين : أطراف الرماح وقيل : هي الأسنة الواحد أسلة بزيادة الهاء .
والحرار بكسر المهملة : جمع حرى كعطاش جمع عطشى وزناً ومعنى .
يقول لعمارة العبسي : ستعلم إذا تقابلنا ودانيت الرماح بيننا أينا أقرب إلى الموت
. أي : إنك زعمت أنك تقتلني إذا لقيتني وأنت أقرب إلى الموت عند ذلك مني .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع عشر بعد الستمائة ) السريع
____________________
( ولست بالأكثر منهم حصاً **
وإنما العزة للكاثر ) على أن من فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي : ليست من بينهم
بالأكثر حصاً إلى آخر ما والبيت من قصيدةٍ للأعشى ميمون فضل فيها عامر بن الطفيل
عدو الله على علقمة بن علاثة الصحابي قبل إسلامه .
وتقدم شرح أوائل هذه القصيدة وسبب تفضيله على علقمة في الشاهد الخامس والثلاثين
بعد المائتين .
وهذه أبيات منها : ( إن ترجع الحق إلى أهله ** فلست بالمسدي ولا النائر ) ( ولست
في السلم بذي نائلٍ ** ولست في الهيجاء بالجاسر ) ( ولست بالأكثر منهم حصاً **
وإنما العزة للكاثر ) ( ولست في الأثرين من مالكٍ ** ولا أبي بكر أولي الناصر ) (
هم هامة الحي إذا ما دعوا ** ومالك في السودد القاهر ) ( سدت بني الأحوص لم تعدهم
** وعامرٌ ساد بني عامر )
____________________
( ساد وألفى قومه سادةً **
وكابراً سادوك عن كابر ) ( فاصبر على حظك مما ترى ** فإنما الفلج مع الصابر )
المسدي من السدى بالفتح والقصر وهو ما مد من الثوب . يقال : أسدى الثوب وسداه
والنائر : اسم فاعل من نرت الثوب نيراً بالفتح ونيرته وأنرته : جعلت له نيراً
بالكسر وهو علمٌ للثوب وهدبه ولحمته .
وهذا هو المراد هنا . وهذا مثلٌ يضرب في التبري من الشيء كقولهم : لا في العير ولا
في النفير .
وهذا خطابٌ مع علقمة بن علاثة .
والسلم بالكسر : خلاف الحرب . والنائل بمعنى النوال وهو العطاء . والهيجاء : الحرب
.
والجاسر بالجيم من الجسارة وهي الجراءة والشجاعة .
والحصا : العدد والمراد به هنا عدد الأعوان والأنصار وإنما أطلق الحصا على العدد
لأن العرب )
أميون لا يعرفون الحساب بالقلم وإنما كانوا يعدون بالحصا وبه يحسبون المعدود .
واشتقوا منه فعلاً فقالوا : أحصيت .
والعزة : القوة والغلبة . قال الدماميني : بهذا المعنى فسرها الجوهري في البيت ولا
مانع من جعلها بمعنى خلاف الذلة .
أقول : الجوهري لم يذكر البيت هنا والمعنى الذي ذكره لازمٌ للقوة والغلبة .
والكاثر بمعنى الكثير كذا في الصحاح .
ويجوز أن يكون اسم فاعل من كثرتهم إذا غلبتهم في الكثرة . قال صاحب القاموس :
____________________
وعليه اقتصر بعض شراح شواهد
المفصل قال : الكاثر : الغالب من كاثرته فكثرته .
والأثرين جمع أثرى جمع تصحيح بمعنى ذي ثروة وذي ثراءٍ أي : ذي عدد وكثرة مال . قال
الأصمعي : ثرا القوم يثرون إذا كثروا ونموا .
ومالك : هو جد عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب بن ربيعة ابن عامر بن صعصعة
.
وأبو بكر : عم جده واسمه عبيد بالتصغير بن كلاب بن ربيعة المذكور . فأبو بكر أخو
جعفر بن كلاب .
والأحوص هو جد والد علقمة ابن علاثة لأن علقمة هو علقمة بن عوف ابن الأحوص بن جعفر
المذكور . فالأحوص ومالكٌ أخوان والطفيل وعوف ابنا عم .
والفلج بضم الفاء : اسمٌ من فلج الرجل على خصمه يفلج فلجاً من باب نصر وهو الظفر
والفوز . وهذا من قبيل التهكم .
وقوله : ولست بالأكثر منهم حصاً ظاهره الجمع بين أل وبين من في أفعل التفضيل . وجوزه
أبو عمر الجرمي في الشعر .
رأيت في نوادر أبي زيد عند الكلام على هذا البيت قال أبو عمر : هذا يجوز في الشعر
يقال : أنت أكثر منه مالاً وأنت الأفضل إذا لم تأت بمن فإذا اضطر الشاعر قال : أنت
الأفضل ولا يجوز إلا في اضطرا . ولو قال : أنت الأكبر من هؤلاء وهو منهم لكان
معناه أنت أكبر منهم .
انتهى .
ونسب ابن جني جواز الجمع بينهما إلى الجاحظ في موضعين من الخصائص قال في أوائله في
باب الرد على من اعتقد فساد علل النحويين : يحكى عن الجاحظ أنه قال : قال النحويون
إن أفعل )
الذي مؤنثه فعلى لا تجتمع فيه الألف واللام ومن وإنما هو بمن أو بالألف واللام .
____________________
ثم قال : وقد قال الأعشى : ولست بالأكثر منهم حصاً . . . . . . . . . . . البيت
رحم الله أبا عثمان أما إنه لو علم أن من في هذا البيت ليست التي تصحب أفعل
للمبالغة لضرب عن هذا القول إلى غيره مما يعلو فيه قوله ويعنو لسداده وصحته خصمه .
وكذلك نسب ابن هشام في المغني هذا القول إلى الجاحظ ووهمه . ومنع النحاة الجمع
بينهما .
وبين ابن جني وجه المنع في أواخر الخصائص في باب الامتناع من نقض الفرض ومثل له
أمثلة ثم قال : ومن ذلك امتناعهم أي : امتناع العرب من إلحاق من بأفعل إذا عرفته
باللام نحو الأحسن منه .
وذلك أن من تكسب ما يتصل به من أفعل هذا تخصيصاً ما .
ألا تراك لو قلت دخلت البصرة فرأيت أفضل من ابن سيرين لم يسبق الوهم إلا إلى الحسن
. وإذا قلت الأحسن أو الأفضل أو نحو ذلك فقد استوعبت اللام من التعريف أكثر مما
تفيده من حصتها من التخصيص .
وكرهوا أن يتراجعوا بعدما حكموا به من قوة التعريف إلى الاعتراف بضعفه إذا هم
أتبعوه من الدالة على حاجته إليها وإلى قدر ما تفيده من التخصيص المفاد منه .
فأما ما ظن أبو عثمان الجاحظ من أنه يدخل على أصحابنا في هذا من قول الشاعر : ولست
بالأكثر منهم حصاً . . . . . . . . . البيت فساقط . وذلك أن من هذه ليست هي التي
تصحب أفعل هذا لتخصيصه . انتهى .
____________________
ووجه الشارح المحقق تبعاً لغيره ما في هذا البيت من ظاهر الإشكال بثلاثة أجوبة :
أحدها : أن من فيه ليست تفضيلية بل للتبعيض أي : لست من بينهم بالأكثر حصاً .
يحتمل من هذا التقدير أن يكون مراده أن الظرف حالٌ من التاء في لست كما قال ابن
جني في الموضع الثاني من الخصائص وعبارته : ومن إنما هي حالٌ من تاء لست كقولك :
لست فيهم بالكثير مالاً أي : لست من بينهم وفي جملتهم بهذه الصفة كقولك : أنت
والله من بين الناس حرٌّ وزيد من جملة رهطه كريم . هذا كلامه .
أحدهما : أن ليس لا تدل على الحدث فلا تعمل في الظرف . )
وثانيهما : لزوم الفصل بين أفعل وتمييزه بالأجنبي .
وأجاب ابن هشام في المغني عن الأول بأن الظرف يجوز تعلقه بما فيه رائحة الفعل وفي
ليس رائحة النفي . وعن الثاني بأن الفصل قد جاء للضرورة في قوله : المتقارب ثلاثون
للهجر حولاً كميلاً
____________________
وأفعل أقوى في العمل من
ثلاثون . انتهى .
وزاد ابن يعيش في شرح المفصل قال : ويجوز أن يكون متعلقاً بالأكثر على حد ما يتعلق
به الظرف لا على حد : هو أفضل من زيد كأنه قال : ولست بالأكثر فيهم لأن أفعل بمعنى
الفعل أظهر منه في ليس يدل على ذلك نصب الظرف في قوله : الطويل ( فإنا رأينا العرض
أحوج ساعةً ** إلى الصون من ريطٍ يمانٍ مسهم ) ألا ترى أن الظرف هنا لا يتعلق إلا
بأحوج وتعليق الظرف بليس ليس بالسهل لجريه مجرى الحروف . انتهى .
ولو جعل الظرف حالاً من الضمير في أكثر لاستغنى عن هذا .
والأكثرون على أن من هنا للبيان . قال أبو حيان : من في البيت للبيان . لا للتفضيل
والمفضل عليه معلومٌ من العهد . وبيان ذلك : أنك تقول لمخاطبك : زيد أفضل من عمرو
ثم تقول له بعد ذلك : زيد الأفضل من تميم فمن هنا للبيان أي : إن زيداً الذي هو
أفضل من عمرو هو من تميم . ولك أن تجمع بينهما فتقول : زيد أفضل من عمرو من تميم .
انتهى .
وعلى هذا فالظرف حالٌ لا غير .
وقال بعضهم : من هنا بمعنى في . ويتعلق بالأكثر . نقله شارح أبيات الموشح .
وهذا كله جوابٌ واحد لإخراج من من التفضيل لا أجوبةٌ متعددة كما زعم العيني . غاية
ما في الباب الذاهبون إلى إخراجها من التفضيل اختلفوا في معناها .
الجواب الثاني : أن اللام زائدة ومن تفضيلية . وهذا الجواب لأبي زيد في نوادره .
____________________
الثالث : أن من تفضيلية لكنها متعلقة بأفعل آخر عارياً من اللام أي : بالأكثر أكثر
منهم . فأكثر المنكر المحذوف بدلٌ من الأكثر المعرف المذكور .
وإنما ضعفه بقوله : على ما قيل لما ذكره في باب البدل من أن النكرة إذا كانت بدل
كل من معرفة يجب وصفها وليس هنا وصف . )
هذا والرواية الصحيحة في هذا البيت كما رواه أبو زيد في نوادره وهي ثابتة في
ديوانه ويدل عليها سياق الأبيات إنما هي : ولست بالأكثر منه أي : من عامر .
ولما وصلت إلى هنا رأيت شرح المنافرة التي بين علقمة وبين عامر بأبسط مما مر في
أول شرح المقامات الحريرية للشريشي فلا بأس بإيراد قال : نافر : حاكم في النسب .
وكانوا في الجاهلية إذا تنازع الرجلان في الشرف تنافرا إلى حكمائهم فيفضلون الأشرف
. وسميت منافرة لأنهم كانوا يقولون عند المفاخرة : أنا أعز نفراً .
وأشهر منافرة في الجاهلية منافرة عامر بن الطفيل بن مالك بن جعفر بن كلاب مع علقمة
بن علاثة بن عوف بن الأحوص بن جعفر حين قال له علقمة : الرياسة لجدي الأحوص وإنما
صارت إلى عمك أبي براء من أجله وقد استسن عمك وقعد عنها فأنا أولى بها منك وإن شئت
نافرتك .
فقال له عامر : قد شئت والله لأنا أشرف منك حسباً وأثبت نسباً وأطول قصباً .
فقال علقمة : أنافرك وإني لبرٌّ وإنك لفاجر وإني لولود وإنك لعاقر وإني لوافٍ وإنك
لغادر .
____________________
فقال عامر : أنافرك إني أسمى منك سمة وأطول قمة وأحسن لمة وأجعد جمة وأبعد همة .
فقال علقمة : أنا جميل وأنت قبيح ولكن أنافرك إني أولى بالخيرات منك .
فخرجت أم عامر فقالت : نافره أيكما أولى بالخيرات . ففعلوا على أن جعلوا مائةً من
الإبل يعطيها الحكم الذي ينفر عليه صاحبه . فخرج علقمة ببني خالد بن جعفر وبني
الأحوص وخرج عامرٌ ببني مالك وقال : إنها المقارعة عن أحسابكم : فاشخصوا بمثل ما
شخصوا به .
وقال لعمه أبي براء : فقال : سبني . فقال : كيف أسبك وأنت عمي فقال : وأنا لا أسب
الأحوص وهو عمي ولم ينهض معه .
فجعلا منافرتهما إلى أبي سفيان بن حرب بن أمية ثم إلى أبي جهل بن هشام فلم يقولا
بينهما شيئاً .
ثم رجعا إلى هرم بن قطبة بن سيار الفزاري فقال : نعم لأحكمن بينكما فأعطياني
موثقاً أطمئن به أن ترضيا بحكمي وتسلما لما قضيت بينكما .
ففعلا فأقاما عنده أياماً . ثم أرسل إلى عامر فأتاه سراً فقال : قد كنت أحسب
____________________
أن لك رأياً وأن فيك خيراً
وما حبستك هذه المدة إلا لتنصرف عن صاحبك . أتنافر رجلاً لا تفخر أنت )
ولا قومك إلا بآبائه فما الذي أنت به خيرٌ منه فقال عامر : نشدتك الله والرحم أن
لا تفضل علي علقمة فوالله لئن فعلت لا أفلح بعدها أبداً .
هذه ناصيتي فاجززها واحتكم في مالي فإن كنت لا بد فاعلاً فسو بيني وبينه . فقال :
انصرف فسوف أرى من آرائي .
فانصرف عامر وهو لا يشك أنه ينفره عليه . ثم أرسل إلى علقمة سراً فقال له ما قال
لعامر : وقال : أتفاخر رجلاً هو ابن عمك في النسب وأبوه أبوك وهو مع ذلك أعظم منك
غناءً وأحمد لقاءٍ وأسمح سماحاً فما الذي أنت به خيرٌ منه . فرد عليه علقمة ما رد
به عامر وانصرف وهو لا يشك أن ينف عامراً عليه .
فأرسل هرمٌ إلى بنيه وبني أخيه وقال لهم : إني قائلٌ فيهم غداً مقالةً فإذا فرغت
فليطرد بعضكم عشر جزائر فلينحرها عن علقمة وليطرد بعضكم مثلها فلينحرها عن عامر
وفرقوا بين الناس لا يكونوا بينهم جماعة .
ثم أصبح هرمٌ فجلس مجلسه وأقبل عامر وعلقمة حتى جلسا فقال هرم : إنكما يا ابني
جعفر قد تحاكمتما عندي وأنتما كركبتي البعير الآدم الفحل تقعان الأرض وليس فيكما
واحدٌ إلا وفيه ما ليس في صاحبه وكلاكما سيد كريم . ولم يفضل واحداً منهما على
صاحبه لكيلا يجلب بذلك شراً بين الحيين . ونحر الجزر وفرق الناس .
وعاش هرمٌ حتى أدرك خلافة عمر فقال : يا هرم أي الرجلين كنت مفضلاً لو فعلت قال :
لو قلت ذلك اليوم عادت جذعةً ولبلغت شعفات هجر فقال
____________________
عمر : نعم مستودع السر أنت يا
هرم مثلك فليستودع العشيرة أسرارهم والحكاية طويلة قد اختصرناها . ( حكمتموه فقضى
بينكم ** أبلج مثل القمر الباهر ) ( لا يأخذ الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن
الخاسر ) انتهى كلام الشريشي .
وقد شرحها بأكثر من هذا مرتين أو ثلاثاً الأصبهاني في الأغاني ومن أراد بسط الكلام
فلينظره في المجلد الخامس عشر من تجزئة عشرين .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثامن عشر بعد الستمائة ) الوافر ( ورثت مهلهلاً والخير
منه ** زهيراً نعم ذخر الذاخرينا ) على أن اللام في الخير زائدة ومن في منه
تفضيلية . ويجوز أن يقدر أفعل آخر عارياً من اللام يتعلق به منه والتقدير : والخير
خيراً منه .
وقال الإمام البيضاوي في لب اللباب : ولا يستعمل أي : اسم التفضيل
____________________
إلا بمن أو اللام أو الإضافة
. والخير منه قليل . وهذه إشارةٌ إلى البيت .
ولم يقل إن من ليس فيه تفضيلية كما قال في البيت الذي قبله لأنه لم يتأت ذلك هنا .
والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي وتقدم سبب نظمها مع شرح أبيات منها في
الشاهد الثامن والثمانين بعد المائة وبعده : ( وعتاباً وكلثوماً جميعاً ** بهم
نلنا تراث الأكرمينا ) وقوله : ورثت مهلهلاً إلخ هو بالتكلم . ومهلهل : اسم جد
الشاعر من قبل أمه . وهو أخو كليب بن وائل وصاحب حرب البسوس أربعين سنة .
وتقدمت ترجمته مع سبب تسميته بمهلهل في الشاهد العاشر بعد المائة .
وقوله : والخير منه أي : ورثت خيراً من مهلهل . وزهيراً عطف بيان للخير وإنما كان
زهير خيراً من مهلهل لأنه جده من قبل أبيه فإن صاحب المعلقة كما تقدمت ترجمته هو
عمرو بن كلثوم بن عتاب بن مالك بن ربيعة بن زهير بن جشم بن بكر بن حبيب بن عمرو بن
غنم بن تغلب بن وائل .
والمخصوص بالمدح في نعم ذخر الذاخرينا زهير على حذف مضاف يريد : ورثت مجد مهلهل
ومجد زهير فنعم ذخر الذاخرين زهير أي : مجده وشرفه للافتخار به .
وقوله : وعتاباً وكلثوماً إلخ عتاب : جد الشاعر . وكلثوم : أبوه .
____________________
يقول : ورثنا مجد عتابٍ وكلثوم وبهم بلغنا ميراث الأكارم أي : حزنا مآثرهم
ومفاخرهم فشرفنا بها وكرمنا .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع عشر بعد الستمائة ) وهو من أبيات الإيضاح للفارسي :
الطويل ( فإنا رأينا العرض أحوج ساعةً ** إلى الصون من ريط يمانٍ مسهم ) على أنه
يجب أن يلي أفعل التفضيل إما من التفضيلية كما في قولهم : زيد أفضل من عمرو وإما
معموله كما في البيت فإن ساعةً ظرف لأحوج .
ومثله قوله تعالى : النبي أولى بالمؤمنين من أنفسهم وقال تعالى : قال رب السجن أحب
إلي مما يدعونني إليه .
وقد يفصل بالنداء أيضاً . قال جرير : الكامل ( لم ألق أخبث يا فرزدق منكم ** ليلاً
وأخبث بالنهار نهارا ) قال أبو البقاء في شرح الإيضاح : رأينا هنا بمعنى علمنا .
وأحوج اسم يراد به التفضيل وهو
____________________
وجاز أن يتعلق حرفا الجر
بأفعل لأن معناهما مختلف ومن هي التي يقتضيها أفعل .
والأقوى أن يقدم من على إلى لأن تعلق من بأفعل يوجب معنًى في أفعل وهو التخصيص
فإذا فصلت بينهما ضعفت علقته به ومع هذا فهو جائز ورد القرآن به . قال تعالى :
ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . وقال تعالى : ونحن أقرب إليه منكم .
وهو أكثر من أن أحصيه . وإنما ذكره أبو علي ليبين لك أن عمل أحوج في ساعة ليس على
حد عمله في من التي للمفاضلة كما أن قوله بالأكثر منهم لا يتعلق من بالأكثر على
هذا الحد بل على حد تعلق ساعةً بأحوج .
وأما إلى ومن ريط فيتعلقان بأحوج لا محالة . فإن قيل : لم لا تعلق ساعة برأينا قيل
: يمتنع من وجهين : أحدهما : أن المعنى ليس على هذا بل المعنى على شدة حاجة العرض
إلى الصون في أي ساعةٍ كانت .
والثاني : أنك لو نصبتها برأينا لفصلت بها بين أحوج وما يتعلق به وهو أجنبي فلم
يجز . انتهى كلام أبي البقاء .
والبيت من قصيدة طويلة جداً لأوس بن حجر وقبله : فإنا وجدنا العرض . . . . . . . .
. . . . . . البيت )
____________________
( أرى حرب أقوامٍ تدق وحربنا
** تجل فنعروري بها كل معظم ) ( ترى الأرض منا بالفضاء مريضةً ** معضلةً منا بجمعٍ
عرمرم ) وقوله : ومستعجبٍ مما إلخ الواو واو رب ومستعجب : اسم فاعل . قال صاحب
العباب : واستعجبت منه : تعجبت منه . وأنشد هذا البيت .
والأناة بالفتح : اسم للتأني يقال : تأنى في الأمر : تمكث ولم يعجل . وزبنته :
دفعته يقال زبنت الناقة حالبها زبناً من باب ضرب : دفعته برجلها فهي زبونٌ . وحربٌ
زبونٌ أيضاً لأنها تدفع الأبطال عن الإقدام خوف الموت . ومنه الزبانية لأنهم
يدفعون أهل النار إليها .
قال صاحب الصحاح : وترمرم إذا حرك فاه للكلام . وأنشد هذا البيت .
وقوله : فإنا وجدنا العرض إلخ العرض : بالكسر قال الشريف في أماليه : هو موضع
المدح والذم من الإنسان . فإذا قيل ذكر عرض فلانٍ فمعناه ذكر ما يرتفع به أو ما
يسقط بذكره ويمدح أو يذم به .
وقد يدخل بذلك ذكر الرجل نفسه وذكر آبائه وأسلافه لأن كل ذلك مما يمدح به ويذم .
والذي يدل على هذا أن أهل اللغة لا يفرقون في قولهم : شتم فلانٌ عرض فلان بين أن
يكون ويدل عليه قول مسكينٍ الدارمي : الرمل ( رب مهزولٍ سمينٍ عرضه ** وسمين الجسم
مهزول الحسب ) فلو كان العرض نفس الإنسان لكان الكلام متناقضاً لأن السمن والهزال
____________________
يرجعان إلى شيءٍ واحد . إلى
آخر ما فصله .
ورد على ابن قتيبة في زعمه أن العرض هو النفس ونقض ما استدل به .
وقد أحكم الكلام على معنى العرض ابن السيد البطليوسي أيضاً في أوائل شرح أدب
الكاتب لابن قتيبة .
وكذلك حقق المراد من العرض ابن الأنباري في كتابه الزاهر ولولا خوف الإطالة لأوردت
كلامهما .
ويؤيد كلام الشريف المرتضى قول ابن السكيت في شرح هذا البيت من شرح ديوان أوس يقول
: العرض يحتاج سويعةً إلى أن يصان . فإن سفه الرجل عليه قطع عرضه ومزقه إن لم
يحتمل فيصونه . انتهى . )
وقوله : أحوج قال ابن جني في إعراب الحماسة : هذا خلاف القياس لأنه أفعل تفضيلٍ من
المزيد قالوا : ما أحوجه إلى كذا وقياسه : ما أشد حاجته أو ما أشد احتياجه . وأنشد
هذا وفيه نظر فإن الثلاثي المجرد منقول ثابت . قال صاحب الصحاح وغيره : وحاج يحوج
حوجاً أي : احتاج قال الكميت : الطويل ( غنيت فلم أرددكم عند بغيةٍ ** وحجت فلم
أكددكم بالأصابع ) وروى بدله : أفقر ساعةً وهذا عند الجوهري شاذ . قال : وقولهم :
فلانٌ ما أفقره وما أغناه شاذ لأنه يقال في فعلهما افتقر واستغنى فلا يصح التعجب
منه . انتهى .
وفيه نظر أيضاً فإن ثلاثيه مسموعٌ أيضاً . قال صاحب الصحاح : الفقير فعيل
____________________
بمعنى فاعل يقال : فقر يفقر
من باب تعب إذا قل ماله . قال ابن السراج : ولم يقولوا فقر أي : بالضم استغنوا عنه
بافتقر . انتهى .
وتنوين ساعةً للتنكير والتقليل كما فهم من كلام ابن السكيت . وقال ابن بري : قال
أبو الفتح بن جني : قوله ساعة يريد ساعة الغضب فاستغنى عن الإضافة لدلالة اللفظ
عليه . انتهى .
والمعنى أن العرض يصان عند ترك السفه في أقل من ساعة إذا ملك نفسه فكيف لا يصان
إذا داوم عليه . والعرض أكثر احتياجاً إلى الصون من الثياب النفيسة فإن عرض الرجل
أحوج إلى الصيانة عن الدنس والرين من الثوب الموشى المزين . وعنى بالساعة ساعة
الغضب والأنفة فإنه كثيراً ما أهلك الحلم وأتلفه . وفي المثل السائر : الغضب غول
الحلم .
والريط واحده ريطة قال صاحب المصباح : الريطة بالفتح : كل ملاءة ليست لفقين أي :
قطعتين والجمع رياط وريطٌ أيضا . مثل تمرة وتمر . وقد يسمى كل ثوبٍ رقيق ريطة .
انتهى .
والمعنى الأخير هو المراد هنا . قال ابن السكيت : ومسهم : فيه وشيٌ مثل أفواق
السهام . وقال الجوهري : المسهم . البرد المخطط .
وقوله : أرى حرب أقوام إلخ قال صاحب المصباح : الدقيق : خلاف الجليل . ودق يدق من
باب ضرب دقةً : خلاف غلظ فهو دقيقٌ .
ودق الأمر دقةً أيضاً إذا غمض وخفي معناه فلا يكاد يفهمه إلا الأذكياء . وجل الشيء
يجل بالكسر : عظم فهو جليل .
قال ابن السكيت : يقول : نحن نسرع إلى هذه الحرب كما يعجل الرجل إلى فرسه فيعروريه
أي : )
يركبه عرياناً . ويقال : قد اعرورى فرسه إذا ركبه عرياً بالضم . انتهى .
____________________
وقوله : ترى الأرض منا إلخ في الصحاح : وعضلت الشاة تعضيلاً إذا نشب الولد فلم
يسهل مخرجه وكذلك المرأة وهي شاةٌ معضلة ومعضل أيضاً بلا هاء . وعضلت الأرض بأهلها
: غصت بهم . وأنشد هذا البيت .
والعرمرم : الجيش الكثير . قال ابن السكيت : هذا مثلٌ ضربه شبه الأرض بالحبلى التي
تتمخض وأوس بن حجر شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع عشر بعد الثلثمائة .
وحجر بفتح الحاء والجيم .
وأنشد بعده ( الشاهد الموفي للعشرين بعد الستمائة ) الرجز ( واستنزل الزباء قسراً
وهي من ** عقاب لوح الجو أعلى منتمى ) على أن تقدم من على أفعل التفضيل إذا لم يكن
مجرورها اسم استفهام خاص بالشعر .
وهذا مذهب الجمهور وهو قليل عند ابن مالك لا ضرورة . وأما تقدمها على المبتدأ نحو
: من زيد أنت أفضل فضرورةٌ اتفاقاً .
وقال ابن هشام اللخمي في شرح هذا البيت : من عقاب متعلق بأعلى وإنما قدمه ضرورة
لأن أفعل لا يقوى قوة الفعل فيعمل عمله فيما قبله فلا يجوز . من زيد أنت أفضل
فتقدم الجار عليه لضعفه إلا أنه جاز هنا للضرورة .
____________________
كما قال الفرزدق : الطويل انتهى .
ولا يخفى أن المثال مخالفٌ للبيتين فإنه مما تقدمت من فيه على المبتدأ والخبر
والبيتان مما تقدمت من فيه على الخبر فقط .
والبيت من مقصورة ابن دريد المشهورة . وقبله : ( وقد سما عمروٌ إلى أوتاره **
فاحتط منها كل عالي المستمى ) سما يسمو سمواً : ارتفع . والأوتار : جمع وتر بكسر
الواو وفتحها وهو طلب الإنسان بجناية .
واحتط : افتعل من الحط بالمهملتين : أنزل . )
وعال : مرتفع . ومستمى : مفتعل من سما يسمو .
وعمروٌ هو عمرو بن عدي بن نصر بن ربيعة بن عبد الحارث بن معاوية بن مالك بن غنم بن
نمارة بن لخم ملك الحيرة ملك بعد خاله جذيمة مائة وثماني عشرة سنة . وهو أول من
ملك من ملوك لخم . وكان مدة ملك لخمٍ بالحيرة خمسمائة سنة .
وكان من حديث عدي أن جذيمة قال ذات يوم لندمائه : لقد ذكر لي غلامٌ من لخم في
أخواله من بني إياد له ظرفٌ وأدب فلو بعثت إليه ووليته كأسي والقيام على رأسي لكان
الرأي .
فقالوا : الرأي ما رآه الملك فليبعث إليه . ففعل فلما قدم عليه قال : من أنت قال :
أنا عدي بن نصر . فولاه مجلسه فعشقته رقاش بنت مالك أخت جذيمة
____________________
فقالت له : يا عدي إذا سقيت
القوم فامزج لهم وعرق للملك أي : امزج له قليلاً كالعرق فإذا أخذت الخمر منه
فاخطبني إليه فإنه يزوجك فأشهد القوم إن فعل .
ففعل الغلام وخطبها فزوجه وأشهد عليه وانصرف إليها فعرفها فقالت : عرس بأهلك .
فلما أصبح غدا متضمخاً بالخلوق فقال له جذيمة : ما هذه الآثار يا عدي قال : آثار
العرس .
قال : وأي عرس قال : عرس رقاش . فنخر وأكب على الأرض ورفع عدي جراميزه فأسرع جذيمة
في طلبه فلم يجده وقيل : بل قتله وبعث إليها : الخفيف ( حدثيني وأنت لا تكذبيني **
أبحرٍّ زنيت أم بهجين ) ( أم بعبدٍ فأنت أهلٌ لعبدٍ ** أم بدونٍ فأنت أهلٌ لدون )
فأجابته رقاش : الخفيف ( أنت زوجتني وما كنت أدري ** وأتاني النساء للتزيين ) (
ذاك من شربك المدامة صرفاً ** وتماديك في الصبا والمجون ) فنقلها جذيمة إليه
وحصنها في قصره فاشتملت على حمل وولدت غلاماً فسمته عمراً حتى إذا ترعرع حلته
وعطرته ثم أزارته خاله فأعجب به وألقيت عليه محبةٌ منه .
ثم إن جذيمة نزل منزلاً وأمر الناس أن يجتنبوا له الكمأة فكان بعضهم إذا وجد شيئاً
منها يعجبه آثر به نفسه على جذيمة وكان عمرو بن عدي يأتيه بخير ما يجد
____________________
فعندها يقول عمرو : الرجز (
هذا جناي وخياره فيه ** إذ كل جانٍ يده إلى فيه ) )
ثم إن الجن استهوته فطلبه جذيمة في آفاق الأرض فلم يسمع له خبراً إذ أقبل رجلان من
بني القين يقال لأحدهما مالك وللآخر عقيل ابنا فالج ويروى فارج من الشام وهما
يريدان الملك بهدية فنزلا على ماء ومعهما قينة يقال لها : أم عمرو فنصبت لهما
قدراً وهيأت لهما طعاماً فبينما هما يأكلان إذ أقبل رجلٌ أشعث الرأس قد طالت
أظفاره وساءت حاله ومد يده فناولته القينة طعاماً فأكله ثم مد يده فقالت القينة :
أعطي العبد كراعاً فطلب ذراعاً فأرسلتها مثلاً . ثم ناولت صاحبيها من شرابها وأوكت
سقاءها .
فقال عمرو بن عدي : الوافر ( صددت الكأس عنا أم عمروٍ ** وكان الكأس مجراها
اليمينا ) ( وما شر الثلاثة أم عمروٍ ** بصاحبك الذي لا تصبحينا )
____________________
ويروى هذا الشعر لعمرو بن
كلثوم التغلبي . ويقال إن عمرو بن كلثوم أدخله في معلقته . والله وهما من شواهد
سيبويه . ومجراها : بدل من الكأس واليمين : خبر كان . وإن شئت جعلت مجراها مبتدأ
واليمين : ظرفاً كأنه قال : ناحية اليمين وهو خبر عن مجراها والجملة خبر كان .
فقال له الرجلان : من أنت قال : أنا عمرو بن عدي . فقاما إليه ويسلما عليه وقلما
أظفاره وقصرا من شعره وألبساه من طرائف ثيابهما وقالا : ما كنا نهدي إلى الملك
هديةً هي أنف عنده ولا هو عليها أحسن عطاءً من ابن أخته قد رده الله عليه .
فلما وقفا بباب الملك بشراه فسر به وصرفه إلى أمه وقال : لكما حكمكما . فقالا :
حكمنا منادمتك ما بقيت وبقينا . قال : ذلك لكما .
فهما ندمانا جذيمة المعروفان . وإياهما عني متمم بن نويرة بقوله في مرثيته لأخيه
مالك بن نويرة : الطويل ( وكنا كندماني جذيمة حقبةً ** من الدهر حتى قيل لن يتصدعا
) ( فلما تفرقنا كأني ومالكاً ** لطول اجتماعٍ لم نبت ليلةً معا ) وقال أبو خراش
الهذلي يرثي أخاه عروة : الطويل
____________________
( ألم تعلمي أن قد تفرق قبلنا
** نديما صفاءٍ مالكٌ وعقيل ) وروى أن جذيمة كان لا ينادم أحداً كبراً وزهواً .
وكان يقول : أنا أعظم من أن أنادم إلا الفرقدين . فكان يشرب كأساً ويصب لكل واحدٍ
منهما كأساً فلما أتى مالك وعقيل نادماه )
أربعين سنة ما أعادا عليه حديثاً .
ثم إن أم عمرو جعلت في عنقه طوقاً من ذهب لنذرٍ كان عليها ثم أمرته بزيارة خاله
فلما رأى لحيته والطوق في عنقه قال : شب عمروٌ عن الطوق . فذهبت مثلاً .
وأقام عمرو مع خاله جذيمة قد حمل عنه عامة أمره إلى أن قتل .
وقوله : فاستنزل الزباء قسراً البيت أي : أنزل الزباء . وفاعله ضمير عمروٍ المذكور
في البيت قبله والزباء مفعوله .
والزباء ملكة اسمها نائلة وقيل : فارعة وقيل : ميسون . وكانت زرقاء . ومن النساء
الموصوفات بالرزق زرقاء اليمامة . وكانت البسوس أيضاً زرقاء .
والزباء تمد وتقصر . فمن مد جعل مذكرها أزب ومن قصر جعل مذكرها زبان .
وكان لها شعرٌ وإذا مشت سحبته وراءها وإذا نشرته جللها فسميت الزباء . والأزب :
الكثير الشعر .
واختلف في نسبها فقيل كانت رومية وكانت تتكلم بالعربية ومدائنها على شاطىء الفرات
من الجانب الشرقي والغربي .
وقيل : إنها بنت عمرو بن ظرب بن حسان من أهل بيت عاملة من العماليق ملكت الشام
والجزيرة .
____________________
وقيل إن الزباء بنت مليح بن البراء كان أبوها ملكاً على الحضر وهو الذي ذكره عدي
بن زيد بقوله : الخفيف ( وأخو الحضر إذ بناه وإذ دج ** لة تجبى إليه والخابور )
قتله جذيمة وطرد الزباء إلى الشام فلحقت بالروم . وكانت عربية اللسان ما رئي في
نساء زمانها أجمل منها . وكانت كبيرة الهمة وبلغت من همتها أن جمعت الرجال وبذلت
الأموال وعادت إلى مملكة أبيها فأزالت جذيمة عنها وبنت على الفرات مدينتين
متقابلتين وجعلت بينهما أنفاقاً تحت الأرض وتحصنت وهادنت جذيمة مدة ثم خاطبها
فاستدعته وقتلته كما تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الخمسمائة من باب
العلم .
وقوله : من عقاب لوح إلخ العقاب بالضم : طائر معروف .
واللوح بالضم : الهواء والجو ما بين السماء والأرض . )
ونظم ابن دريد قول عمرو بن عدي لقصير : كيف أقدر على الزباء وهي أمنع من عقاب لوح
الجو كما يأتي .
ويروى : أعلى منتهى أي : أعلى ما ينتهى إليه . قيل : قد غلط فيه لأن العرب لا تقف
بالتنوين ومنتمى : هنا منصوب على التمييز والوقف فيه عند سيبويه على الألف المبدلة
من التنوين .
وقد حقق الشارح المحقق في باب الوقف من شرح الشافية أن هذا ليس مذهب سيبويه وأن
هذه اللام لام الكلمة لا الألف المبدلة من نون التنوين .
وقسراً : قهراً إما مفعول مطلق وإما حال . أي : فاستنزل الزباء كارهةً .
____________________
يريد أن عمراً أخذ ثأره منها فقتلها وإنما قدر عليها بإعانة قصير بن سعد من أصحاب
جذيمة فإنه قال لعمرو بن عدي بعد قتل جذيمة : ألا تطلب بثأر خالك فقال : وكيف أقدر
على الزباء وهي أمنع من عقاب لوح الجو فأرسلها مثلاً . فقال له قصير : اطلب الأمر
وخلاك ذمٌّ فذهبت مثلاً أيضاً .
ثم إن قصيراً جدع أنفه وقطع أذنه بنفسه وفيه قيل : لأمر ما جدع قصيرٌ أنفه . ثم
لحق بالزباء زاعماً أن عمرو بن عدي صنع به ذلك وأنه لجأ إليها هارباً منه ولم يزل
يتلطف بها بطريق التجارة وكسب الأموال إلى أن وثقت به وعلم خفايا قصرها وأنفاقه .
فلما كان في السفرة الثالثة اتخذ جوالقاتٍ كجوالق المال وجعل ربطها من داخل
الجوالق في أسفله وأدخل فيها الرجال بالأسلحة وأخذ عمرو بن عدي معه وقد كان قصيرٌ
وصف لعمرو شأن النفق ووصف له الزباء فلما دخلت الجمال المدينة جاء عمرو بن عدي على
فرسه فدخل الحصن بعقب الإبل وبركت الإبل وحل الرجال الجوالقات ومثلوا بالمدينة
ووقف عمرو على باب النفق فلما جاءت الزباء هاربة جللها بالسيف واستباح بلادها .
وقد تقدم شرح هذه القصة بأبسط من هذا في شرح الشاهد المذكور .
وترجمة ابن دريد تقدمت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد والعشرون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
( قبحتم يا آل زيدٍ نفرا **
ألأم قومٍ أصغراً وأكبرا ) على أن أفعل قد يأتي بمعنى اسم الفاعل أو الصفة المشبهة
قياساً عند المبرد سماعاً عند غيره . وهو الأصح كما في البيت فإنهما بمعنى صغير
وكبير .
وهذا البيت أورده المبرد في الكامل عند شرح قول الفرزدق : ( إن الذي سمك السماء
بنى لنا ** بيتاً دعائمه أعز وأطول ) قبحتم يا آل زيدٍ نفرا . . . . . . . . البيت
قال : يريد صغاراً وكباراً .
وفي التسهيل وشرحه لابن عقيل : واستعماله عارياً دون من مجرداً عن معنى التفضيل
مؤولاً باسم الفاعل : هو أعلم بكم أي : عالمٌ أو صفة مشبهة : وهو أهون عليه أي :
هين مطرد عند المبرد . وعليه المتأخرون .
وحكى ابن الأنباري الجواز عن أبي عبيدة والمنع عن النحويين . والأصح قصره على
السماع .
قيل لقلة ما ورد من ذلك . وفيه نظر ظاهر ولعل وجهه أن الوارد قابلٌ للتأويل إلا أن
في بعض التأويل تكلفاً وموضع التكلف قليل ومنه : بناتي هن أطهر لكم أي : طاهرات لا
يصلاها إلا الأشقى أي : الشقي . والوجه أن ذلك مطرد ولزوم الإفراد والتذكير فيما
ورد كذلك أكثر من المطابقة .
____________________
فالإفراد : خيرٌ مستقراً وأحسن مقيلاً ونحن أعلم بما يستمعون والمطابقة : الطويل (
إذا غاب عنكم أسود العين كنتم ** كراماً وأنتم ما أقام ألائم ) فألائم جمع ألأم
بمعنى لئيم . وإذا صح جمع أفعل العاري المجرد عن معنى التفضيل إذا جرى على جمعٍ
جاز تأنيثه إذا جرى على مؤنث . وعلى هذا يكون قول الحسن بن هانىء : البسيط صحيحاً
لأنه تأنيث أصغر وأكبر بمعنى صغير وكبير لا بمعنى التفضيل . انتهى .
وقال الشاطبي عند قول ابن مالك : ( وأفعل التفضيل صله أبدا ** تقديراً أو لفظاً
بمن إن جردا ) قوله : أبدا فيه تنكيت وتنبيه على أن المجرد لا يأتي بمعنى اسم
الفاعل
____________________
مجرداً من معنى من )
قياساً أصلاً خلافاً للمبرد القائل بأنه جائز قياساً فيجوز عنده أن تقول : زيد
أفضل غير مقصودٍ به التفضيل على شيءٍ بل بمعنى فاضل .
وزعم أن معنى قولهم في الأذان وغيره : الله أكبر : الله الكبير لأن المفاضلة تقتضي
المشاركة في المعنى الواقع فيه التفضيل والمفاضلة في الكبرياء هنا تقتضي المشاركة
إن قدر فيه من كل شيء .
ومشاركة المخلوق للخالق في ذلك أو في غيره من أوصاف الرب محالٌ بل كل كبير
بالإضافة إلى كبريائه لا نسبة له بل هو كلا شيء .
وكذلك قول في قوله : وهو أهون عليه تقديره معنًى : وهو هينٌ عليه لأن جميع
المقدورات متساويةٌ بالنسبة إلى قدرة الله فلا يصح في مقدور مفاضلة الهون فيه على
مقدورٍ آخر . ومنه قوله تعالى : هو أعلم بكم إذ لا مشاركة لأحدٍ بين علمه وعلم
الله تعالى . ( إن الذي سمك السماء بنى لنا ** بيتاً . . . . . . . . . البيت ) أي
: عزيزة وطويلة . فهذه مواضع لا يصح فيها معنى المفاضلة فثبت أنها صفات مجردة عن
ذلك مساويةٌ لسائر الصفات . ومثل ذلك كثير .
فقاس المبرد على ذلك ما في معناه . فالناظم نكت عليه وارتضى مذهب سيبويه ومن وافقه
وأن أفعل التفضيل لا يتجرد من معنى من إذا كان مجرداً أصلاً . وما جاء مما ظاهره
خلاف ذلك فهو راجعٌ إلى تقدير معنى من أو إلى بابٍ آخر .
فأما المفاضلة فيما يرجع إلى الله تعالى فهي بالنسبة إلى عادة المخلوقين في
التخاطب وعلى حسب توهمهم العادي .
فقوله : الله أكبر معنى ذلك أكبر من كل شيءٍ يتوهم له كبر أو على حسب ما اعتادوه
في المفاضلة بين المخلوقين وإن كان كبرياء الله تعالى لا نسبة لها إلى كبر المخلوق
.
____________________
وكذلك قوله : وهو أهون عليه . يريد على ما جرت به عادتكم أن إعادة ما تقدم اختراعه
أسهل من اختراعه ابتداءً .
وقوله : هو أعلم بكم أي : منكم حيث تتوهمون أن لكم علماً ولله تعالى علماً أو على
حد ما تقولون : هذا أعلم من هذا .
وهي طريقة العرب في كلامها وبها نزل القرآن . خوطبوا بمقتضى كلامهم وبما يعتادون
فيما )
بينهم .
وقد بين هذا سيبويه في كتابه حيث احتاج إليه .
ألا ترى أنه حين تكلم على لعل في قوله تعالى : لعله يتذكر أو يخشى صرف مقتضاها من
الطمع إلى المخلوقين فقال : والعلم قد أتى من وراء ما يكون ولكن اذهبا على طمعكما
ورجائكما ومبلغكا من العلم . قال : وليس لهما إلا ذاك ما لم يعلما .
وهذا من سيبويه غاية التحقيق . وكثيراً ما يذكر أمثال هذا في كتابه .
وأما بيت الفرزدق فغير خارج عن تقدير من فقد روي عن رؤبة بن العجاج أن رجلاً قال
له : يا أبا الجحاف أخبرني عن قول الفرزدق : أطول من كل شيء فقال له : رويداً إن
العرب تجتزىء بهذا .
قال : وقال المؤذن : الله أكبر فقال رؤبة : أما تسمع إلى قوله : الله أكبر اجتزأ
بها من أن يقول من كل شيء . هذا ما قال وهو ظاهرٌ في صحة التقدير وأنه مراد العرب
.
ثم إن الذي يدل على أن المراد معنى من أن أفعل في هذه المواضع ونحوها لا يثنى ولا
يجمع ولا يؤنث وما ذاك إلا لمانع تقدير من كقوله تعالى : أصحاب الجنة يومئذٍ خيرٌ
مستقراً
____________________
وقوله : والذي جاء من ذلك على
الجمع شاذ نحو ما أنشده الفارسي من قول الشاعر : إذا غاب عنكم أسود العين . . . .
. . . . . البيت أنشده المؤلف في الشرح على أنه جمع ألأم مجرداً عن تقدير من . وحمله
الفارسي على أنه جمع لئيم كقطيع وأقاطيع وحديث وأحاديث وحذف الزيادة . انتهى كلام
الشاطبي .
ولم يذكر البيت الذي أنشده الشارح المحقق .
والتفضيل فيه غير مراد فإن أصغر حالٌ من الضمير في ألأم والمعنى نسبتهم إلى أشد
اللؤم في حال صغرهم وفي حال كبرهم والتفضيل لا وجه له إلا بتكلف وهو أن يكون
التقدير : أصغر من غيره وأكبر منه . وهذا معنى سخيف . ويجوز أن يكون أصغر صفة
لألأم للتعميم فيرجع إلى معنى الحالية . ولا وجه لجعله صفة لقوم . فتأمل .
وألأم منصوب على الذم ويجوز أن يكون صفةً لقوله : نفرا ويجوز أيضاً رفعه على أنه
خبر لمبتدأ محذوف والتقدير : أنتم ألأم قومٍ والقطع للذم أيضاً . واللؤم بالهمز :
ضد الكرم يقال : لؤم على وزن كرم فهو لئيم وهو الشحيح والدنيء النفس والمهين . )
وقوله : قبحتم هو بالبناء للمفعول وتشديد الباء . يقال : قبحه الله يقبحه بفتح
الباءين المخفقتين .
أي : نحاه عن الخير . وفي التنزيل : هم من المقبوحين أي : المبعدين عن الفوز .
وقبحه الله ونفراً : تمييز محول عن الفاعل والتقدير : قبح نفركم يا آل زيد .
والنفر بفتحتين : جماعة الرجال من ثلاثة إلى عشرة وقيل إلى سبعة . ولا يقال : نفر
فيما زاد على العشرة . قاله صاحب المصباح . وفي ذكر النفر ذم أيضاً .
والبيت لم أقف له على خبر . والله أعلم .
____________________
وأنشده بعده ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الستمائة ) الطويل ملوكٌ عظامٌ من ملوكٍ
أعاظم على أن أعاظم بمعنى عظام وهو جمع أعظم بمعنى عظيم غير مراد به التفضيل . ولو
كان مراداً للزم الإفراد والتذكير .
ويأتي فيه ما نقله الشاطبي عن الفارسي من أنه جمع عظيم مع حذف الزيادة .
والمصراع من أبياتٍ لأعرابيٍّ . والرواية كذا : ( توسمته لما رأيت مهابةً ** عليه
وقلت المرء من آل هاشم ) ( فقمت إلى عنزٍ بقية أعنزٍ ** لأذبحها فعل امرىءٍ غير
نادم ) ( فعوضني عنها غناي ولم تكن ** تساوي عنزي غير خمس دراهم ) ( فقلت لأهلي في
الخلاء وصبيتي ** أحقاً أرى أم تلك أحلام نائم ) ( فقالوا جميعاً لا بل الحق هذه
** تخب بها الركبان وسط المواسم ) ( بخمس مئينٍ من دنانير عوضت ** من العنز ما
جادت به كف حاتم ) روي أن عبيد الله بن العباس رضي الله عنهما خرج مرةً من المدينة
يريد معاوية في الشام فأصابته سماء فنظر إلى نويرةٍ عن يمينه فقال لغلامه : مل بنا
إليها .
فلما أتياها إذا شيخ ذو هيئة رثة فقال له : أنخ انزل حييت ودخل إلى منزله فقال
لامرأته : هيئي شاتك أقضي بها ذمام هذا الرجل فقد توسمت فيه الخير فإن يكن من مضر
فهو من بني عبد المطلب وإن يكن من اليمن فهو من بني آكل المرار . )
____________________
فقالت له : قد عرفت حال صبيتي وأن معيشهم منها وأخاف الموت عليهم إن فقدوها .
فقال : موتهم أحب إلي من اللؤم .
ثم قبض على الشاة فأخذ الشفرة وأنشد : الرجز ( قريبتي لا توقظي بنيه ** إن يوقظوا
ينسحبوا عليه ) ثم ذبحها وكشط جلدها وقطعها أرباعاً وقذفها في القدر حتى إذا استوت
اثرد في جفنةٍ فعشاهم ثم غداهم فأراد عبيد الله الرحيل : فقال لغلامه : ارم للشيخ
ما معك من نفقة .
فقال : ذبح لك الشاة فكافأته بمثل عشرة أمثالها وهو لا يعرفك فقال : ويحك إن هذا
لم يكن يملك من الدنيا غير هذه الشاة فجاد لنا بها وإن كان لا يعرفنا فأنا أعرف
نفسي ارم بها إليه . فرماها إليه فكانت خمسمائة دينار .
فارتحل عبيد الله فأتى معاوية فقضى حاجته ثم أقبل راجعاً إلى المدينة حتى إذا قرب
من ذلك الشيخ قال لغلامه : مل بنا إليه ننظره في أي حالة هو فانتهيا إليه فإذا
برجلٍ سري عنده دخانٌ عالٍ ورماد كثير وإبل وغنم ففرح بذلك وقال له الشيخ : انزل
بالرحب والسعة . وقال : أتعرفني فقال : لا والله فمن أنت فقال : أنا نزيلك ليلة
كذا وكذا .
فقام إليه فقبل رأسه ويديه ورجليه وقال : قد قلت أبياتاً أتسمعها مني فقال : هات .
فأنشد هذه الأبيات فضحك عبيد الله وقال : أعطيتنا أكثر مما أخذت منا يا غلام أعطه
مثلها فبلغت فعلته معاوية فقال : لله در عبيد الله من أي بيضةٍ خرج وفي أي عش درج
وهي لعمري من فعلاته وقوله : توسمته بمعنى تفرسته من التوسم يقال : توسمت فيه
الخير أي : طلبت سمته .
____________________
وقوله : وإلا فمن آل المرار أي : إن لم يكن من آل هاشم فهو من آل المرار على حذف
مضاف أي : آل آكل المرار وهم ملوك اليمن .
قال صاحب القاموس : والمرار بالضم : شجرٌ من أفضل العشب وأضخمه إذا أكلته الإبل
قلصت مشافرها فبدت أسنانها ولذلك قيل لجد امرىء القيس : آكل المرار لكشرٍ كان به .
وقال الشريف الجواني : إن في آكل المرار خلافاً هل هو الحارث بن عمرو بن حجر بن
عمرو بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع أم هو حجر بن عمرو بن معاوية )
وإن الحارث إنما سمي آكل المرار لأن عمرو بن الهبولة الغساني أغار عليهم وكان
الحارث غائباً فغنم وسبى وكان فيمن سبى أم أناسٍ بنت عوف بن محلم الشيباني امرأة
الحارث فقالت لعمرو بن الهبولة في مسيره : لكأني برجلٍ أدلم أسود كأن مشافره مشافر
بعيرٍ آكل المرار قد أخذ برقبتك تعني الحارث . فسمي آكل المرار .
والمرار كغراب : شجر مرٌّ إذا أكلت منها الإبل تقلصت مشافرها . ثم تبعه الحارث في
بكر بن وائل فلحقه فقتله واستنفذ امرأته وما كان أصاب .
وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق : إن آكل المرار الحارث جد امرىء القيس الشاعر ابن
وقوله : ملوكٌ عظامٌ إلخ بتنوين ملوك وعظام : وصفه وكذلك ما بعده .
وقوله : فعوضني إلخ فاعله ضمير المرء من آل هاشم المراد به عبيد الله ابن عباس .
وغناي المفعول الثاني لعوض . والغنى : ضد الفقر وضمير عنها للعنز .
____________________
وقوله : تساوي بضم الياء للضرورة أورده ابن عصفور في كتاب الضرائر وقال : أجرى حرف
العلة مجرى الحرف الصحيح فأظهر الضمة عليه .
وكذا أورده المرادي في شرح الألفية .
وقوله : فقلت لأهلي إلخ الخلاء بالفتح والمد : الفضاء . وصبية : جمع صبي أي : قلت
لزوجتي وأولادي .
وقوله : أحقاً أرى إلخ يقول : من شدة سروري بالدنانير دهشت فقلت لهم مستفهماً :
أما أراه حقاً أم تلك الدنانير أضغاث أحلام .
وقوله : تخب بها أي : بذكرها أي : بذكر الدنانير . وتخب تسرع من الخبب وهو ضربٌ من
العدو وفعله من باب نصر وركبان جمع راكب . والمواسم : جمع موسم الحج .
وقوله : بخمس مئين إلخ هو بدلٌ من قولها بها . ومئين بالكسر والتنوين لغة أو ضرورة
جمع مائة . وعوضت : جعلت عوضاً من العنز .
وقوله : ما جادت إلخ . ما : نافية أي : لم تجد كف حاتم بهذا الجود . ويحتمل أن
تكون ما موصولة خبر مبتدأ محذوف أي : هي ما جادت به كف حاتم .
المراد به عبيد الله بن العباس بالتصغير وهو أخو عبد الله بن العباس رضي الله عنهم
حبر هذه الأمة . )
والأول مشهورٌ بالجود معدودٌ من الأجواد والثاني مشهور بالعلم وإن كانا في العلم
والجود مشتركين .
وقد أورد ابن عبد ربه في العقد الفريد بعض ما يتعلق بجود عبيد الله .
____________________
منها : أنه أول من فطر جيرانه في رمضان وأول من وضع الموائد على الطرق وأول من حيا
على طعامه وأول من أنهبه .
ومن جوده : أنه أتاه وهو بفناء داره فقام بين يديه فقال : يا ابن عباس إن لي عندك يداً
وقد احتجت إليها . فصعد فيه بصره وصوبه فلم يعرفه ثم قال له : ما يدك عندنا قال :
رأيتك واقفاً بباب زمزم وغلامك يمتح لك من مائها والشمس قد صهرتك فظلتك بطرف كسائي
حتى شربت . قال : إني لأذكر ذلك وإنه يتردد بين خاطري وفكري .
ثم قال لقيمه : ما عندك قال : مائتا دينار وعشرة آلاف درهم . قال : ادفعها إليه
وما أراها قال له الرجل : والله لو لم يكن لإسماعيل ولدٌ غيرك لكان فيه ما كفاه
فكيف وقد ولد سيد الأولين والآخرين محمداً صلى الله عليه وسلم ثم شفع بأبيك وبك .
ومن جوده أيضاً : أن معاوية حبس عن الحسين بن علي صلاته حتى ضاقت حاله عليه فقيل :
لو وجهت إلى ابن عمك عبيد الله فإنه قدم بنحو ألف ألف درهم .
فقال الحسين : وأين تقع ألف ألفٍ من عبيد الله فوالله لهو أجود من الريح إذا عصفت
وأسخى من البحر إذا زخر .
ثم وجه إليه مع رسوله بكتابٍ ذكر فيه حبس معاوية عند صلاته وضيق حاله وأنه يحتاج
إلى مائة ألف درهم .
فلما قرأ عبيد الله كتابه وكان من أرق الناس قلباً انهملت عيناه ثم قال : ويلك يا
معاوية ما اجترحت يداك من الإثم حين أصبحت لين المهاد رفيع العماد والحسين يشكو
ضيق الحال وكثرة العيال
____________________
ثم قال لقهرمانه : احمل إلى
الحسين نصف ما أملكه من فضة وذهب وثوبٍ ودابة وأخبره أني شاطرته مالي فإن أقنعه
ذلك وإلا فارجع واحمل إليه الشطر الآخر .
فقال له القيم : فهذه المؤن التي عليك من أين تقوم بها قال : إذا بلغنا ذلك دللتك
على أمرٍ يقيم فلما أتى الرسول برسالته إلى الحسين قال : إنا لله حملت والله على
ابن عمي وما حسبته يتسع )
لنا بهذا كله . فأخذ الشطر من ماله . وهو أول من فعل ذلك في الإسلام .
ومن جوده : أن معاوية أهدى إليه وهو عنده بالشام من هدايا النيروز حللاً كثيرة
ومسكاً وآنيةً من ذهبٍ وفضة ووجهها مع حاجبه فلما وضعها بين يديه نظر إلى الحاجب
وهو ينظر إليها فقال : هل في نفسك منها شيءٌ فقال : نعم والله إن في نفسي منها ما
كان في نفس يعقوب من يوسف عليهما السلام فضحك عبيد الله وقال : فشأنك بها فهي لك .
قال : جعلت فداك أخاف أن يبلغ ذلك معاوية فيجد علي . قال : فاختمها بخاتمك وارفعها
إلى الخازن فإذا حان خروجنا حملها إليك ليلاً .
فقال الحاجب : والله لهذه الحيلة في الكرم أكثر من الكرم ولوددت أني لا أموت حتى
أراك مكانه يعني معاوية فظن عبيد الله أنها مكيدة منه . قال : دع عنك هذا الكلام
فإنا قومٌ نفي بما وعدنا ولا ننقض ما أكدنا .
ومن جوده أيضاً : أنه أتاه سائلٌ وهو لا يعرفه فقال له : تصدق فإني نبئت أن عبيد
الله بن العباس أعطى سائلاً ألف درهم واعتذر إليه .
فقال له : وأين أنا من عبيد الله قال : أين أنت منه في الحسب أم كثرة المال قال :
فيهما . قال : أما الحسب في الرجل فمروءته وفعله وإذا شئت فعلت وإذا فعلت كنت
حسيباً .
فأعطاه ألفي درهم واعتذر إليه من ضيق الحال فقال له السائل : إن لم تكن عبيد الله
بن عباس فأنت خيرٌ منه وإن كنته فأنت اليوم خيرٌ منك أمس فأعطاه ألفاً أخرى فقال
السائل : هذه هزة كريم حسيبٍ والله لقد نقرت حبة قلبي فأفرغتها في
____________________
قلبك فما أخطأت إلا باعتراض
الشد من جوانحي .
ومن جوده أيضاً : أنه جاءه رجلٌ من الأنصار فقال : يا ابن عم رسول الله ولد لي في
هذه الليلة مولودٌ وإني سميته باسمك تبركاً مني به وإن أمه ماتت . فقال عبيد الله
: بارك الله لك في الهبة وأجزل لك الأجر على المصيبة . ثم دعا بوكيله فقال : انطلق
الساعة فاشتر للمولود جاريةً تحضنه وادفع إليه مائتي دينارٍ للنفقة على تربيته .
ثم قال للأنصاري : عد إلينا بعد أيام فإنك جئتنا وفي العيش يبس وفي المال قلة قال
الأنصاري : لو سبقت حاتماً بيومٍ واحد ما ذكرته العرب أبداً ولكنه سبقك فصرت له )
تالياً وأنا أشهد أن عفوك أكثر من مجهوده وطل كرمك أكثر من وابله .
هذا ما اخترناه من العقد وفيه كفاية وقصدنا بتسطيره الثواب وإن كان أطلنا به
الكتاب . ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
( لعمرك ما أدري وإني لأوجل
** على أينا تعدو المنية أول ) على أن أول بني على الضم لحذف المضاف إليه ونية
معناه . والأصل : أول أوقات عدوها .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : إنما بنيت أول هنا لأن الإضافة مردةٌ فيها فلما
اقتطعت منها وهي مرادة فيها بنيت كقبل وبعد فكأنه قال : تعدو المنية أول الوقت .
وأصلها قبل الإضافة أن تكون معها من ليتم بها قبل الظرفية صفة فتكون كقديم وحديث
لم تنقل عن الوصف إلا إلى الظرفية .
فإذا صح فيها مذهب الصفة فلا بد فيها من معنى من قبل الإضافة فإذا تصورت صفة قبل
ذلك أمكن حينئذ نقلها إلى الظرف كسائر ما نقل إلى الظروف من الصفات نحو قديم وحديث
وملي وطويل . وأوجل مما جاء على الصفات على أفعل لا فعلاء له . ألا تراهم لا
يقولون وجلاء استغنوا عنها بوجلة . اه .
وظنه العيني فعلاً مضارعاً فقال : قوله : لأوجل أي : لأخاف من وجل يوجل .
والمصراع الثاني في محل نصب على أنه سادٌّ مسد مفعولي درى معلق عن العمل في لفظه
بسبب الاستفهام وعلى متعلقة بتعدو .
وأخطأ العيني في قوله : مفعول أدري محذوف تقديره : ما أدري ما يفعل بنا أو ما يكون
ونحو ذلك . ولم يتعرض لجملة على أينا تعدو إلخ . وهو بالعين المهملة من عدا عليه
يعدو عدواً بمعنى ظلم وتجاوز الحد .
____________________
وروي بالغين المعجمة من غدا غدواً أي : ذهب غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع
الشمس . هذا أصله ثم كثر حتى استعمل في الذهاب والانطلاق أي وقتٍ كان .
والمنية : الموت . وأول : ظرفٌ مبني وموضعه النصب بتعدو وجملة : وإني لأوجل جملة
معترضة بين أدري وبين الساد عن مفعوليها . وأوجل معناه خائف .
والمعنى : أقسم ببقائك ما أعلم أينا يكون المقدم في عدو الموت عليه . وهذا كما قال
الآخر : )
الطويل ( فأكرم أخاك الدهر ما دمتما معاً ** كفى بالممات فرقةً وتنائيا ) والبيت
مطلع قصيدةٍ لمعن بن أوسٍ المزني أورد بعضها أبو تمام في الحماسة . ونحن نقتصر
عليه .
قال شراحها : وسبب هذا الشعر أنه كان لمعن بن أوس صديقٌ وكان معنٌ متزوجاً بأخته
فاتفق أنه طلقها وتزوج بأخرى فحلف صديقه أن لا يكلمه أبداً . فقال معن هذه القصيدة
يستعطف بها قلبه ويسترقه له . وفيها ما يدل على القصة وهو قوله : ( فلا تغضبن أن
تستعار ظعينةٌ ** وترسل أخرى كل ذلك يفعل ) والأبيات التي أوردها أبو تمام بعد
المطلع هي هذه : ( وإني أخوك الدائم العهد لم أحل ** إن ابزاك خصمٌ أو نبا بك منزل
) ( أحارب من حاربت من ذي عداوةٍ ** وأحبس مالي إن غرمت فأعقل ) ( كأنك تشفي منك
داء مساءتي ** وسخطي وما في ريثتي ما تعجل )
____________________
( وإن سؤتني يوماً صبرت إلى
غدٍ ** ليعقب يوماً منك آخر مقبل ) ( وإني على أشياء منك تريبني ** قديماً لذو
صفحٍ على ذاك مجمل ) ( ستقطع في الدنيا إذا ما قطعتني ** يمينك فانظر أي كفٍّ تبدل
) ( وفي الناس إن رثت حبالك واصلٌ ** وفي الأرض عن دار القلى متحول ) ( إذا أنت لم
تنصف أخاك وجدته ** على طرف الهجران إن كان يعقل ) ( ويركب حد السيف من أن تضيمه
** إذا لم يكن عن شفرة السيف مزحل ) ( قلبت له ظهر المجن ولم أدم ** على ذاك إلا ريثما
أتحول ) ( إذا انصرفت نفسي عن الشيء لم تكد ** إليه بوجهٍ آخر الدهر تقبل ) وقوله
: وإني أخوك إلخ . يقول : إني أخوك الذي يدوم عهده ولا يزول ولا يحول إن أبزاك خصم
أي : غلبك وقهرك . يقال : بزوت الخصم بزواً وأبزيته إبزاءً بالباء الموحدة والزاي
.
ويجوز أن يكون أبزاك من بزي يبزى بزًى فهو أبزى وهو دخول الظهر وخروج البطن .
ويكون المعنى : إن حملك خصم من الثقل ما يبزى له ظهرك فلا تطيق الثبات تحته
والنهوض به . )
وقوله : أحارب من حاربت إلخ هذا تفسير دوام عهده أي : تجدني ذاباً عنك وإن أصابك
غرم حبست مالي عليك . وأعقل عنك يقال : علقت عنه إذا غرمت ما لزمه في ديته .
وعقلته إذا أعطيت ديته .
ويجوز أن يكون معنى فأعقل : أشدها بعقلها بفنائك لتدفعها في غرامتك . والمال إذا
أطلق يراد به الإبل .
وقوله : كأنك تشفي إلخ يريد : إساءتك إلي وسخطك علي فأضافهما إلى المفعول .
والمعنى : إنك تستمر في إساءتك إلي حتى كأن بك داءً ذاك شفاؤه .
____________________
والريثة : ضد العجلة . يقول : ليس في أناتي وتركي مكافأتك ما يجب أن يتعجل علي بما
يسوؤني .
وقوله : وإن سؤتني يوماً إلخ أي : إن فعلت ما يسوؤني تجاوزت إلى غدٍ ليجيء يومٌ
آخر مقبلٌ منك بيومٍ يسرني .
وقوله : ستقطع في الدنيا إلخ يقول : أنا لك بمنزلة يدك اليمنى فإذا قطعتني فإنما
تقطع يمينك .
وقوله : وفي الناس إن رثت إلخ يقول : إذا انقطعت حبالٌ الود بيني وبينك ففي الناس
واصلٌ غيرك . وإذا نبا بي جوارك ففي جوانب الأرض متحولٌ عن دار البغض .
وقوله : إذا أنت لم تنصف إلخ أي : إذا لم تنصف أخاك ولم توفه حقوق إخائه وجدته
هاجراً لك مستبدلاً بك إن كان له عقل ثم لا يبالي أن يركب من الأمور ما يقطعه
تقطيع السيف ويؤثر فيه تأثيره مخافة أن يصيبه ضيمٌ متى لم يجد عن ركوبه معدلاً .
وقوله : من أن أي : بدلاً من أن . وشفرة السيف بالفتح : حده .
ومزحل بالزاي والحاء المهملة : مصدر زحل عن مكانه إذا تنحى عنه وتباعد .
وقوله : وكنت إذا ما صاحبٌ إلخ رام ظنتي بالكسر : عرضني لاتهام عقده والارتياب
بوده بأن عد إحساني إليه إساءة . ومعناه : رام إيقاع التهمة علي .
وقوله : قلبت له ظهر إلخ أي : اتخذته عدواً وقلبت له ظهر الترس متقياً منه ولم أدم
على الحال المذكورة معه إلا قدر ما أتحول وبطء ما أتنقل .
قال المبرد في الكامل : دخل عبد الله بن الزبير يوماً على معاوية فقال : اسمع
أبياتاً قلتها . وكان واجداً عليه . فقال )
معاوية : هات .
____________________
فأنشده : الطويل ( إذا أنت لم تنصف أخاك وجدته ** على طرف الهجران إن كان يعقل )
مع البيت الذي بعده . فقال له معاوية : قد شعرت بعدنا يا أبا بكر ثم لم ينشب
معاوية أن دخل عليه معن بن أوسٍ المزني فقال : أقلت بعدنا شيئاً فقال : نعم .
فأنشده : ( لعمرك ما أدري وإني لأوجل ** على أينا تعدو المنية أول ) حتى صار إلى
الأبيات التي أنشدها ابن الزبير فقال له معاوية : يا أبا بكر أما ذكرت آنفاً أن
هذا الشعر لك قال أصلحت المعاني وهو ألف الشعر وهو بعد ظئري فما قال من شيء فهو لي
. وكان عبد الله مسترضعاً في مزينة . انتهى .
والظئر بكسر الظاء المعجمة بعدها همزة ساكنة : المرأة الأجنبية تحضن ولد غيرها .
ويقال للرجل الحاضن ظئر أيضاً . وهذا هو مراد ابن الزبير .
وقال الحصري في زهر الآداب بعد إيراد هذه الحكاية : أراد ابن الزبير معاتبة معاوية
بشعر معن وليس ادعاؤه على حقيقةٍ منه .
وهذان البيتان قد أوردهما صاحب تلخيص المفتاح في السرقات الشعرية .
وترجمة معن بن أوس المزني تقدمت في الشاهد الثلاثين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها
هو عجزٌ وصدره : مشائيم ليسوا مصلحين عشيرةً على أن ناعباً عطفٌ بالجر على مصلحين
المنصوب على خبر ليسوا لتوهم الباء فإنها تزاد في خبر ليس .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين .
ومشائيم : جمع مشؤوم من شئم عليهم بالبناء للمفعول فهو مشؤوم إذا صار شؤماً .
يقول : لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخيرٍ فغرابهم لا ينعب
إلا )
بالتشتيت والفراق . وهذا مثلٌ للتطير منهم والتشاؤم بهم .
والنعيب : صوت الغراب ومد عنقه عند ذلك .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
في سعي دنيا طالما قد مدت على
أن دنيا قد جردت من اللام والإضافة لكونها بمعنى العاجلة .
يريد أن الاسمية غلبت عليها لكثرة استعمالها ولهذا لم تجر على موصوف غالباً كما
غلبت الاسمية على نحو الأجرع والأبطح .
قال ابن يعيش : القياس في دنيا أن يكون بالأف واللام لأنه صفة في الأصل على أنه
فعلى ومذكره الأدنى مثل الأكبر والكبرى . وهو من دنوت فقلبت الواو في الأدنى ألفاً
لتحركها وانفتاح ما قبلها وذلك بعد أن قلبت ياءً لوقوعها رابعة .
وقد تقدم أن الألف واللام تلزم هذه الصفة إلا أنهم استعملوا دنيا استعمال الأسماء
فلا يكادون يذكرون معه الموصوف ولذلك قلبوا اللام منه ياءً لضربٍ من التعادل
والعوض كأنهم أرادوا بذلك الفرق بين الاسم والصفة فلما غلب عليها حكم الأسماء
أجروها مجرى الأسماء .
وكانت الألف واللام لا تلزم الأسماء فاستعملوها بغير ألف ولام كسائر الأسماء .
انتهى .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : إنما صنعوا كيد ساحرٍ من سورة طه . قال : إن
تنكير ساحر مع كونه معلوماً معيناً لأجل تنكير المضاف وهو كيد كما نكر الشاعر دنيا
لأجل تنكير سعي .
والمراد كيدٌ سحريٌّ وسعيٌ دنيويٌّ . ولو عرف السحر والدنيا لصار الكيد والسعي
معرفتين والمراد تنكيرهما إذ الغرض كيدٌ ما وسعيٌ ما .
وقال أبو حيان : البيت محمولٌ الضرورة إذ دنيا تأنيث الأدنى لا يستعمل إلا بالألف
واللام أو بالإضافة .
____________________
وأما قول عمر : إني لأكره أن أرى الرجل فارغاً لا في عمل دنيا ولا في عمل آخرة
فيحتمل أن يكون من تحريف الرواة . انتهى . )
ولا يخفى أنه ورد في الحديث الصحيح : فإن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها . ولم يقل
غيره إن وقال ابن جني في إعراب الحماسة عند قول المثلم بن رياح المري : الكامل (
إني مقسم ما ملكت فجاعلٌ ** أجراً لآخرةٍ ودنيا تنفع ) قد استعملت العرب في غير
هذا دنيا نكرة كما ترى قال العجاج : في سعي دنيا طالما قد مدت وروى ابن الأعرابي
دنيا بالصرف وقال أيضاً في ذلك : إنهم شبهوها بفعلل فنونوها .
وهذا نادرٌ غريب ولم نعلم شيئاً مما في آخره ألف التأنيث مفرداً مصروفاً غير هذا
الحرف .
ولو قال قائل إن دنيا هذه المصروفة تكون ملحقة في قول أبي الحسن بجخدبٍ وكالألف في
بهماةٍ لم أر بأساً .
____________________
فإن قلت : فلو كانت ألف دنيا للإلحاق لوجب فيها دنواً . وذلك أن اللام في نحو هذا
إذا كانت واواً فإنها إنما تبدل ياءً في فعلى التي ألفها للتأنيث .
وجاءت هذه للإلحاق فالجواب : أن هذا النحو لما غلب عليه مثال فعلى التي ألفها
للتأنيث .
وجاءت هذه للإلحاق أجروها على المعتاد من القلب فيها . وأيضاً فإن ألف الإلحاق قد
تجري مجرى ألف التأنيث .
ألا تراها زائدةً مثلها وذات معنًى مثلها . نعم وإذا جعلت ما فيه ألف الإلحاق
علماً لم فإن قلت : فأجز أيضاً أن يكون دنيا فعلل كسودد قيل : يمنع من هذا أن حرف
الإلحاق من حيث ذكرنا أشبه بحرف التأنيث من لام الفعل فإذا كان إنما لتشبيه الملحق
بحرف التأنيث على ضعف وضرب من التأويل لم يتجاوز ذلك إلى تشبيه الأصلي بحرف
التأنيث لإفراط تباعدهما . فلو كانت دنيا على هذا فعللاً لكانت دنوا .
ولو قال قائل : إن دنيا فيمن صرف فعيل بمنزلة عليب لكان له وجهٌ من التصريف ولكنه
يبقى عليه شيئان : أحدهما : قلة عيب فلا يقاس عليه . والآخر : أن دنيا تأنيث
الأدنى . وهذا أشد شيءٍ تبايناً من حديث فعيل وفعلل وهو أيضاً أحد ما يضعف كونها
ألف إلحاق . فاعرف ذلك . انتهى .
والبيت من الرجز للعجاج : أوله : ( الحمد لله الذي استقلت ** بإذنه السماء واطمأنت
) ) ( بإذنه الأرض فما تعنت ** وحى لها القرار فاستقرت )
____________________
( وشدها بالراسيات الثبت **
والجاعل الغيث غياث المسنت ) ( والجامع الناس ليوم الموقت ** بعد الممات وهو محيي
الموت ) ( يوم ترى النفوس ما أعدت ** من نزلٍ إذا الأمور غبت ) قال أبو القاسم
الزجاجي في أماليه الوسطى والصغرى : أخبرنا أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيدي
قال : أخبرنا أبو الفضل الرياشي عن الأصمعي عن عبد الله بن رؤبة بن العجاج عن أبيه
عن جده قال : أنشدت أبا هريرة قصيدتي التي أولها : الحمد لله الذي استقلت حتى أتيت
على آخرها فقال : أشهد إنك لمؤمن . انتهى .
وقوله : استقلت أي : ارتفعت . والسماء فاعله . واطمأنت أي : سكنت والأرض فاعله .
وتعنت بالنون : تعبت . في الصحاح : وعني بالكسر عناءً أي : تعب ونصب وعنيته تعنية
فتعنى . والوحي : الإشارة والإلهام .
قال صاحب الصحاح : والكلام الخفي وكل ما ألقيته إلى غيرك . يقال : وحيت إليه
الكلام وأوحيت وهو أن تكلمه بكلام تخفيه . وأنشد هذا البيت .
والراسيات هي الجبال الثوابت والرواسخ . والثبت : جمع ثابت . والغيث : المطر . وفي
المصباح : أغاثه : أعانه ونصره . وأغاثنا الله بالمطر والاسم الغياث .
____________________
والمسنت : اسم فاعل من أسنت القوم أي : أجدبوا وأصله من السنة وهو القحط .
والموت : جمع مائت . وأعدت أي : هيأت وجعلته عدة . ومن نزل بالضم بيانٌ لما .
والنزل : ما يهيأ للنزيل أي : الضيف . وغبت بالغين المعجمة والموحدة أي : بلغت
غبها وعاقبتها .
وفي الصحاح : وقد غبت الأمور إذا صارت إلى أواخرها . وفي سعي متعلق بغبت .
ومدت بالبناء للمفعول أي : امتدت وتطاولت . وأدت بتشديد الدال . يقال : أدت فلاناً
داهية تؤده أداً بالفتح من الإد والإدة بكسر أولهما وهي الداهية والأمر الفظيع .
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الستمائة ) البسيط ( وإن دعوت إلى جلى
ومكرمةٍ ** يوماً سراة كرام الناس فادعينا ) على أن الجلى قد تجرد من اللام
والإضافة لكونها بمعنى الخطة العظيمة .
____________________
والخطة بالضم : الشأن والحالة والخصلة فتكون الجلى إسماً للشأن والحال كما قال
الزمخشري في المفصل .
الجيد أن تكون مصدراً كالرجعى بمعنى الرجوع والبشرى بمعنى البشارة . وليس بتأنيث
الأجل على حد الأكبر والكبرى لأنه إذا كان مصدراً جاز تعريفه وتنكيره .
وإلى هذا ذهب الحريري في درة الغواص قال : وأما طوبى في قولهم : طوبى لك .
وجلى في قول بشامة النهشلي : وإن دعوت إلى جلى ومكرمة . . . . . . . . . . . البيت
فإنهما مصدران كالرجعى وفعلى المصدرية لا يلزم تعريفها .
والبيت وقع في شعرين : أحدهما للمرقش الأكبر رواه المفضل بن محمد الضبي له وكذلك
ابن الأعرابي في نوادره وأبو محمد الأعرابي فيما كتبه على شرح الحماسة للنمري وهو
: ( يا دار أجوارنا قومي فحيينا ** وإن سقيت كرام الناس فاسقينا ) ( وإن دعوت إلى
جلى ومكرمةٍ ** يوماً سراة خيار الناس فادعينا )
____________________
( شعثٌ مقادمنا نهبى مراجلنا
** نأسو بأموالنا آثار أيدينا ) ( المطعمون إذا هبت شآميةٌ ** وخير نادٍ رآه الناس
نادينا ) قوله : يا دار أجوارنا إلخ قال في العباب : الجار يجمع على جيران وجيرة
وأجوار .
وأنشد الليث : وروى : يا ذات أجوارنا روي أيضاً : بيضٌ مفارقنا تغلي مراجلنا قال
أبو محمد الأعرابي : سألت أبا الندى عن هذه الرواية قال : هذه روايةٌ ضعيفة فإن
بيض )
المفارق قرع ومرجل الحائك يغلي كما يغلي مرجل الملك . قال : والرواية الصحيحة
الأولى ومعناها إننا أصحاب حروب وقرًى . انتهى .
والشعر الثاني لبشامة بن حزنٍ النهشلي رواه المبرد في الكامل وأبو تمام في الحماسة
وهو : ( إنا محيوك يا سلمى فحيينا ** وإن سقيت كرام الناس فاسقينا ) ( وإن دعوت
إلى جلى ومكرمةٍ ** يوماً سراة كرام الناس فادعينا )
____________________
( إنا بني نهشلٍ لا ندعي لأبٍ
** عنه ولا هو بالأبناء يشرينا ) ( إن تبتدر غايةٌ يوماً لمكرمةٍ ** تلق السوابق
منا والمصلينا ) ( وليس يهلك منا سيدٌ أبداً ** إلا افتلينا غلاماً سيداً فينا ) (
نكفيه إن نحن متنا أن يسب بنا ** وهو إذا ذكر الآباء يكفينا ) ( بيضٌ مفارقنا تغلي
مراجلنا ** نأسو بأموالنا آثار أيدينا ) ( إنا لمن معشرٍ أفنى أوائلهم ** قول
الكماة ألا أين المحامونا ) ( لو كان في الألف منا واحدٌ فدعوا ** من فارسٌ خالهم
إياه يعنونا ) ( إذا الكماة تنحوا أن يصيبهم ** حد الظبات وصلناها بأيدينا ) ( ولا
تراهم وإن جلت مصيبتهم ** مع البكاة على من مات يبكونا ) ( ونركب الكره أحياناً
فيفرجه ** عنا الحفاظ وأسيافٌ تواتينا ) قوله : إنا محيوك يا سلمى إلخ قال
التبريزي : أي إنا مسلمون عليك أيتها
____________________
المرأة فقابلينا بمثله وإن
سقيت الكرام فأجرينا مجراهم فإنا منهم .
والأصل في التحية أن يقال عند اللقاء حياك الله ثم استعمل في غيره من الدعاء .
وقيل في سقيت معناه : إن دعوت لأماثل الناس بالسقيا فادعي لنا أيضاً . والأشهر في
الدعاء أن يقال فيه سقيت فلاناً بالتشديد والحجة بالتخفيف قول أبي ذؤيب الهذلي :
المتقارب سقيت به دارها إذ دنت وقوله : وإن دعوت إلى جلى إلخ جلى : فعلى أجراها
مجرى الأسماء ويراد بها جليلة كما يراد بأفعل فاعل وفعيل .
يقول : إن أشدت بذكر خيار الناس بجليلةٍ نابت أو مكرمةٍ عرضت فأشيدي بذكرنا أيضاً
.
ولهذا الكلام ظاهره استعطاف لها والقصد به التوصل إلى بيان شرفه واستحقاقه ما
يستحقه )
الأشراف . ولا سقي ثم ولا تحية . قاله التبريزي .
والمكرمة بفتح الميم وضم الراء : اسم من الكرم . وفعل الخير مكرمة أي : سبب للكرم
أو التكريم . قاله صاحب المصباح .
والسراة بالفتح : اسمٌ مفرد بمعنى الرئيس وقيل اسم جمع وقيل جمع سري وهو الشريف .
وقد تقدم الكلام عليه مشروحاً في الشاهد السبعين بعد الأربعمائة .
____________________
ولم يتكلم ابن جني في إعراب الحماسة على هذا البيت إلا من جهة القافية . قال :
يروى : فادعينا بإشمام الضم في كسرة العين . ويروى بإخلاص الكسرة .
فأما من أخلص الكسرة فلا سؤال في إنشاده من جهة الردف . وأما من رواه بإشمام الضم
ففيه السؤال . وذلك أن الحركة قبل الردف وهي التي يقال لها : الحذو لم تأت عنهم
مشمةً ولا مشوبة وإنما هي إحدى الحركات مخلصة البتة .
ولم يذكر الخليل ولا أبو الحسن ولا أبو عمرو ولا أحد من أصحابنا حال هذه الحركة
المشوبة كيف اجتماعها مع غيرها . فدل ذاك على أن الحركة في نحو هذا ينبغي أن تكون
مخلصة .
ومذهب سيبويه في هذا النحو مثل : ادعي واغزي الإمالة وإشمام الكسرة شيئاً من الضمة
.
ولم يستثن ردفاً من غيره . ووجه جواز هذه الحركة المشوبة مع الكسرة والضمة
الصريحتين : أن ما فيها من الإشمام لا يعتد به ولا ينظر إلى قدره وإنما هو كإمالة
الفتحة إلى الكسرة في نحو : سالم وحاتم . وأنت تجيزهما في شعر واحد مع قادم وغانم
ولا تحفل بما بين الحركتين بل إذا جاز سالم مع قادم وسلاح مع صباح وقنا مع فتى كان
اجتماع ادعينا مع يشرينا ونحو ذلك أسهل وأسوغ .
وإنما كان أسهل من قبل أن الفتحة إذا نحي بها قبل الألف نحو الكسرة انتحيت أيضاً
بالألف بعدها نحو الياء لا بد من ذلك من حيث كانت الألف ناشئة عن الحركة قبلها على
احتذاء وموازنة اتباع . فإذا أملت الفتحة والألف فهناك عملان في الحركة والحرف
جميعاً كما ترى .
وأما الياء في ادعينا وقيل وبيع فإنها وإن شيبت الحركة قبلها خالصة البتة وغير
مشوبة شوب ما قبلها وجاز ذلك فيها من حيث كانت الطاقة حاملة والقدرة ناهضةً بالنطق
بالياء الساكنة بعد الضمة الناصعة فكيف بها بعد الكسرة التي إنما اعتلت بأن انتحي
بها نحو الضمة . والعمل في ذلك خلس خفيٌّ . )
____________________
وأما الألف الخالصة فليس في الطوق أن ينطق بها بعد غير الفتحة الخالصة ففي سالم
إذن فإذا جاز اجتماع ما فيه تغييران نحو سالم وسلاح مع قادم وصباح كان اجتماع ما
فيه تغيير واحدٌ مع ما لا تغيير فيه نحو : قيل واغزي وادعي مع قيل وبيع وحيينا
واسقينا أحجى بالجواز فاعرف ذلك .
وإذا جاز اجتماع هذا الخلاف في المجرى وهو أغلظ حرمة وأمس مذمة من الحذو أعني
اجتماع فتى مع عتا والروي التاء كان ذلك في الحذو أسهل . وأخف وأدون .
وقد كان يجب أن نودع هذا الموضع كتابنا في تفسير قوافي أبي الحسن لامتزاجه به
ومماسته إياه لكنه لم يحضرنا حينئذٍ والخاطر أجول مما نذهب إليه وأشد ارتكاضاً
وذهاباً في جهات النظر من أن يقف بك على انتهائه أو يمطيك ذروة أجواله وأقصائه .
انتهى .
وقوله : إنا بني نهشل إلخ قال المبرد في الكامل : من قال : إنا بنو نهشل فقد خبرك
وجعل بنو خبر إن . ومن قال : بني فإنما جعل الخبر إن تبتدر غاية إلخ . ونصب بني
على فعلٍ مضمرٍ للاختصاص وهو أمدح .
وأكثر العرب ينشد : البسيط ( إنا بني منقر قومٌ ذوو حسبٍ ** فينا سراة بني سعدٍ
وناديها ) وكتب أبو الوليد الوقشي فيما كتبه على الكامل بعد بيت إنا بني منقر إلخ
هذا وإن وافق الأول بوجهٍ فإنه يخالفه بوجهٍ أخص منه وأليق به في قانون النحو لأن
هذا نصب على المدح والأول نصب على الاختصاص والمسمى مضارع النداء .
____________________
ألا ترى أنه يرفع هنا ما يرفع في النداء كقولهم : الله اغفر لنا أيتها العصابة .
اه .
وقال التبريزي : بني نصب على الاختصاص والمدح وخبر إن لا ندعي ولو رفع وقال بنو
كان خبراً ولا ندعي في موضع الحال .
والفرق بين أن يكون اختصاصاً وبين أن يكون خبراً صراحاً : هو أنه لو جعله خبراً
لكان قصده إلى تعريف نفسه عند المخاطب وكان لا يخلو فعله لذلك من خمولٍ فيهم أو
جهل بشأنهم . فإذا جعل اختصاصاً فقد أمن من الأمرين جميعاً .
وإنما قلت خبراً صراحاً لأن لفظ الخبر قد يستعار لمعنى الاختصاص لكنه يستدل على
المراد منه بقرائنه . )
وعلى هذا قوله : الرجز أنا أبو النجم وشعري شعري وقوله : لا ندعي لأبٍ عنه ندعي :
نفتعل وعنه تعلق به . يقال : ادعى فلانٌ في بني فلان إذا انتسب إليهم . وادعى عنهم
إذا عدل بنسبه عنهم . وهذا كقولهم : رغبت في كذا ورغبت وقوله : لأبٍ أي : من أجل أب
. ومعناه إنا لا نرغب عن أبينا فننتسب إلى غيره وهو لا يرغب عنا قد رضي كلٌّ منا
بصاحبه .
____________________
وقوله : يشرينا قال المبرد : يريد يبيعنا . يقال شراه يشريه إذا باعه . فهذه اللغة
المعروفة قال الله عز وجل : وشروه بثمنٍ بخس ويكون شريت في معنى اشتريت وهو من
الأضداد .
وقوله : إن تبتدر غايةٌ إلخ يقال : بادرت مكان كذا وكذا وإلى مكان كذا وكذلك
ابتدرنا الغاية وإلى الغاية .
وقوله : لمكرمة أي : لاكتساب مكرمة . ويجوز أن تكون اللام مضيفة للغاية إلى
المكرمة كأنه يريد تسابقهم إلى أقصاها . وإنما قال المصلين ولم يقل المصليات مع
السوابق لأن قصده إلى الآدميين وإن كان استعارهما من صفات الخيل .
ويجوز أن يكون أخرج السابق لانقطاعه عن الموصوف في أكثر الأحوال . ولنيابته عن
المجلي وهو اسم الأول من خيل الحلبة إلى باب الأسماء فجمعه على السوابق كما يقال
كاهل وكواهل وغارب وغوارب .
والمصلي : الذي يتلو السابق فيكون رأسه عند صلاه . والصلوان : العظمان الناتئان من
جانبي العجز .
وقال ابن دريد : هو العظم الذي فيه مغرز عجب الذنب . وقال بعض أهل اللغة : هما
عرقان في موضع الردف .
وأسماء خيل الحلبة عشرة لأنهم كانوا يرسلونها عشرةً عشرة . وسمي كل واحد منها
باسمٍ .
فالأول : المجلي والثاني : المصلي والثالث : المسلي والرابع :
____________________
التالي والخامس : المرتاح
والسادس : العاطف والسابع : المؤمل والثامن : الحظي والتاسع : اللطيم والعاشر :
السكيت بالتصغير ويقال : سكيت بالتشديد .
وقوله : إلا افتلينا الافتلاء : الافتطام والأخذ عن الأم ومنه الفلو . قال المبرد
: مأخوذ من قولهم )
فلوت الفلو يا فتى إذا أخذته عن أمه . وأخذ هذا المعنى من قول أبي الطمحان :
الطويل إذا مات منا سيدٌ قام صاحبه وقوله : إنا لنرخص إلخ قال المبرد : أخذه من
قول الهمداني وهو الأجدع أبو مسروق بن الأجدع الفقيه : الطويل ( لقد علمت نسوان
همدان أنني ** لهن غداة الروع غير خذول ) ( وأبذل في الهيجاء وجهي وإنني ** له في
سوى الهيجاء غير بذول ) ومن القتال الكلابي حيث يقول : الوافر
____________________
( نعرض للسيوف إذا التقينا **
نفوساً لا تعرض للسباب ) وقوله : ولو نسام بها أي : نحمل على أن نسام بها . ويقال
: سام بسلعته كذا وأسمته أنا أي : حملته على أن يسام . ويحتمل أن يكون من سمته
خسفاً . وأغلينا الألف للإطلاق والنون ضمير الأنفس ومعنى أغلين وجدت غالية .
وقوله : بيضٌ مفارقنا إلخ قال التبريزي : ويروى : بيضٌ معارفنا وهي الوجوه والمراد
به نقاء العرض وانتفاء الذم جمع معرفٍ بفتح الراء وكسرها سمي الوجه به لأن معرفة
الأجسام وتمييزها به . والأشهر : مفارقنا .
والمراد ابيضت مفارقنا من كثرة ما نقاسي الشدائد كما يقال أمرٌ يشيب الذوائب .
وتغلي مراجلنا أي : حروبنا كقول الآخر : الطويل ( تفور علينا قدرهم فنديمها **
ونفثؤها عنا إذا حميها غلا ) ويجوز : ابيضت مفارقنا من كثرة استعمال الطيب كقول
الآخر : الطويل جلا الأذفر الأحوى من المسك فرقه
____________________
فقوله : تغلي مراجلنا أي :
قدورنا للضيافة . ويجوز أن يريد : مشينا مشيب الكرام لا مشيب اللئام كقوله :
الطويل فالمراجل : قدور الضيافة . وقوله : نأسو بأموالنا يريد ترفعهم عن القود
ودفع أطماع الناس عن مقاصتهم . والأسو : المداواة أي : نقتل وندي . وقوله : لو كان
في الألف إلخ قال المبرد : أخذه من قول طرفة : الطويل ( إذا القوم قالوا من فتى
خلت أنني ** عنيت فلم أكسل ولم أتبلد ) )
ومن قول متمم : الطويل ( إذا القوم قالوا من فتى لعظيمةٍ ** فما كلهم يدعي ولكنه
الفتى ) وقوله : إذا الكماة تنحوا إلخ قال المبرد : الظبة : الحد بعينه يقال :
أصابته ظبة السيف وظبة النصل . وأراد بالنصل هنا موضع الضرب وأخذ هذا من قول كعب
بن مالك : الكامل
____________________
( نصل السيوف إذا قصرن بخطونا
** قدما ونلحقها إذا لم تلحق ) وقوله : ولا تراهم وإن جلت إلخ يعني أنهم لا يموتون
إلا بالقتل فقد صار لهم عادة وإن كل من يولد منهم يكون سيدا فلا يجزعون على من مات
منهم . وقوله : ونركب الكرة إلخ يكشفه .
وقوله : أسياف تواتينا يجوز أن يكون كقوله : الطويل فحالفنا السيوف على الدهر
ويجوز أن يكون أراد بالسيوف رجالا كأنهم السيوف مضاء . والأول أولى . قاله
التبريزي .
وهذه الأبيات قد اختلف في قائلها والصحيح أنها لبشامة بن حزن النهشلي . وعليه
الآمدي في كتابه المؤتلف والمختلف ونسبها المبرد في الكامل لأبي مخزوم النهشلي .
وقال ابن السيد البطليوسي فيما كتبه على الكامل : هذه الأبيات لبسامة بن حزن
النهشلي .
وقال السكري : هو بشامة بن حري . والأول قول أبي رياش . ويقال : بشامة بن جزء .
وقال ابن الأعرابي : هو لحجر بن خالد بن محمود القيسي . وزعم ابن قتيبة
____________________
أنها لابن غلفاء التميمي .
انتهى .
أقول : الذي قاله ابن قتيبة في كتاب الشعراء أن الأبيات لنهشل بن حري .
وقال النمري : هي لرجل من بني قيس ثعلبة .
قال أبو أحمد الأعرابي : لم يفرق النمري بين بني نهشل الذين هم مضربة . وبين بني
قيس ثعلبة الذين هم ربيعة فلزهما في قرن .
والبيت الذي فبه إنا بني نهشل لبشامة بن حزن النهشلي .
والأبيات الأخر الأربعة للمرقش الأكبر وهو عمرو بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن
ثعلبة . انتهى . وتقدمت الأبيات الأربعة أولا .
قال التبريزي : من قال إن الشعر للقيسي روى : إنا بني مالك .
____________________
( الدار وحش والرسوم كما **
رقش في ظهر الأديم قلم ) )
وهو أحد من قال شعراً فلقب به واسمه فيما ذكر أبو عمرو الشيباني عمرو .
وقال غيره : عوف بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة الحصن ابن عكابة بن صعب
بن علي بن بكر بن وائل .
وهو أحد المتيمين كان يهوى ابنه عمه أسماء بنت عوف بن مالك بن ضبيعة ويقال له
المرقش الأكبر لأنه عم المرقش الأصغر . والمرقش الأصغر عم طرفة بن العبد .
وكان للمرقشين معاً موقعٌ من بكر بن وائل في حروبها مع بني تغلب وبأسٌ وشجاعة
ونجدة وتقدم في الحروب ونكايةٌ في العدو .
وأما ابن غلفاء بالغين المعجمة والفاء فهو أوس بن غلفاء من بني الهجيم بن عمرو بن
تميم وهو شاعر جاهلي وهو القائل : الوافر ( ألا قالت أمامة يوم غولٍ ** تقطع يا
ابن غلفاء الحبال )
____________________
( ذريني إنما خطإي وصوبي **
علي وإن ما أنفقت مال ) يقول : إن الذي أهلكت مالٌ ولم أتلف عرضاً . والمال يستخلف
. كذا في كتاب الشعراء لابن قتيبة .
قال ابن جني في المبهج : معناه عود شجر يستاك به .
قال جرير : الوافر ( أتنسى إذ تودعنا سليمى ** بعود بشامةٍ سقي البشام ) والحزن
بفتح الحاء المهملة وسكون الزاي بعدها نون ومعناه الموضع الغليظ .
وذكره الآمدي في المؤتلف والمختلف ولم يزد في نسبه على قوله : بشامة بن حزن
النهشلي نهشل بن دارم .
ولم أر له ترجمة وليس له ذكر في ترجمة الأنساب والظاهر أنه إسلامي .
وكذا أبو مخزوم النهشلي كما يظهر من شرح المبرد لأبياته .
وذكر الآمدي شاعراً آخر اسمه بشامة . قال : بشامة بن الغدير والغدير اسمه عمرو بن
هلال بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان .
____________________
شاعر محسن مقدم وهو خال زهير بن أبي سلمى المزني . وله أشعارٌ جياد طوال . انتهى .
وأنشد بعده ) ( الشاهد السادس والعشرون بعد الستمائة ) ( ولا يجزون من حسنٍ بسوءى
** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) على أن سوءى مصدر كالرجعى والبشرى وليس مؤنث أسوأ .
والبيت من أبياتٍ لأبي الغول مذكورة في أوائل الحماسة وتقدم شرحها في الشاهد
الثالث والثمانين بعد الأربعمائة .
قال شراح الحماسة : وقد روى سوءى في البيت روايتين أخريين : إحداهما : بسيءٍ بفتح
السين وسكون المثناة التحتية بعدها همزة وهو مخفف سيءٍ بتشديد الياء كما يخفف هين
ولين فيكون وصفاً .
والثانية : بسيءٍّ بكسر السين وتشديد الياء بلا همزة . والسي : المثل . ومعناه
أنهم يزيدون في الجزاء على قدر الابتداء .
قال الطبرسي : وهذا ليس بشيءٍ لأنه إخلالٌ بالمطابقة التي حسن البيت بها لأنه جعل
سيئاً في مقابلة حسن واللين في مقابلة الغلظ . وهذا من المطابقة الصحيحة
____________________
لأنه قابل الاسم بالاسم
والمصدر بالمصدر . انتهى .
وروى شراح المفصل رواية أخرى وهي : بسوءٍ وهو مصدر أيضاً كالرواية الأولى .
قال ابن المستوفي : الذي استشهد به الزمخشري هو بعض الروايات لكنه اختاره لمكان
حاجته وضده قول قريط بن أنيف العنبري : البسيط ( يجزون من ظلم أهل الظلم مغفرةً **
ومن إساءةً أهل السوء إحسانا ) وروى ابن قتيبة في كتاب الشعراء البيت هكذا : . (
ولا يجزون من خيرٍ بشرٍّ ** ولا يجزون من غلظٍ بلين ) تتمة خطأ الزمخشري في المفصل
أبا نواس في قوله : البسيط ( كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ** حصباء درٍّ على أرضٍ من
الذهب ) لكونه استعمل صغرى وكبرى نكرة . وهذا الضرب من الصفات لا يستعمل إلا
معرفاً وإنما يجوز التنكير في فعلى التي لا أفعل لها : نحو : حبلى .
قال الأندلسي : لم يقل إنه ضرورة لأن المولد لا يسوغ لا استعمال شيءٍ على خلاف
الأصل )
للضرورة إلا أن يرد به سماع فيتوقف فيه على محل السماع ولا يقاس عليه . وصغرى ما
ورد فيه سماع وقد حاولوا له أجوبة :
____________________
أحدها : أن الصغرى قد غلبت
عليها الاسمية كما تقدم في قوله : في سعي دنيا طالما قد مدت قال ابن يعيش : والاعتذار
عنه : أنه استعمله استعمال الأسماء لكثرة ما يجيء منه بغير موصوف نحو : صغيرة
وكبير فصار كصاحبٍ والأبطح فاستعمله نكرة لذلك .
ثانيها : أن فعلى فيه ليست مؤنث أفعل بل بمعنى فاعلة . كأن قال : صغيرة وكبيرة من
فقاقعها على حد قوله تعالى : وهو أهون عليه . قاله ابن يعيش أيضاً .
وإليه ذهب ابن هشام في المغني قال فيه : ربما استعمل أفعل التفضيل الذي لم يرد به
المفاضلة مطابقاً . مع كونه مجرداً كقوله : وأنتم ما أقام ألائم . . . . . البيت
أي : لئام . فعلى هذا تخرج بيت أبي نواس وقول النحويين : جملة صغرى وجملة كبرى
وكذلك قول العروضيين : فاصلة صغرى وفاصلة كبرى . انتهى .
ثالثها : قال الأندلسي : قيل إن من المذكورة زائدة وكبرى مضافة
____________________
وحذف مضاف الأول كما في قوله
: البسيط يا تيم تيم عدي لكن حذف من في الواجب لا يجوز إلا عند الأخفش . والأجود
أن يقال حذف المفضل الداخل عليه من اكتفاءً بذكره مرة أي : كأن صغرى من فقاقعها
وكبرى منها . انتهى .
ولا يخفى أنه كان يجب أن يقول : وزيادة من في الواجب لا تجوز إلا عند الأخفش بدل
قوله : لكن حذف من في الواجب إلخ .
وقد رد ابن هشام في المغني هذا الجواب فقال : وقول بعضهم إن من زائدة وإنهما
متضايفان يرده أن الصحيح لا تقحم من في الإيجاب ولا من تعريف المجرور . انتهى .
والبيت في صفة الخمر . والفقاقع : جمع فقاعة . ويروى : من فواقعها جمع فاقعة
ومعناهما النفاخات التي تكون على وجه الماء .
وصف الخمر وما يعلوها من الحباب فشبه الحباب بالدر وهو اللؤلؤ الكبير والخمر التي
تحته )
بأرض من ذهب .
____________________
والبيت أورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : حسبتهم لؤلؤا منثوراً في ضمن حكاية
حكاها عن المأمون أنه زفت إليه بوران بنت الحسن بن سهل وهو على بساطٍ منسوج من ذهب
وقد نثرت عليه نساء دارٍ الخلافة اللؤلؤ فنظر إليه منثوراً على ذلك البساط فاستحسن
النظر إليه وقال : لله در أبي نواس كأنه أبصر هذا حيث يقول : كأن صغرى وكبرى من
فقاقعها . . . . . . . . . البيت وهو من أبيات أولها : ( قامت تريني وستر الليل
منسدلٌ ** صبحاً تولد بين الماء والعنب ) ( كأن صغرى وكبرى من فقاقعها ** حصباء
درٍّ على أرضٍ من الذهب ) ( كأن تركاً صفوفاً في جوانبها ** تواتر الرمي بالنشاب
من كثب ) ( في كف ساقيةٍ ناهيك ساقيةً ** في حسن قدٍّ وفي ظرفٍ وفي أدب ) وبعد هذا
ستة أبيات في وصفها .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والعشرون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
وأضرب منا بالسيوف القوانسا
على أن القوانس منصوب بفعل محذوف لا بأضرب .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : القوانس منصوب عندنا بفعل مضمر يدل عليه أضرب أي :
ضربنا أو نضرب القوانس . فلا يجوز أن يتناوله أضرب هذه في البيت لأن أفعل هذه التي
للمبالغة تجري مجرى فعل التعجب . وأنت لا تقول : ما أضرب زيداً عمراً حتى تقول
لعمروٍ وذلك لضعف هذا الفعل وقلة تصرفه . فإن تجسمت ما أضرب زيداً عمراً فإنما
نصبت عمراً بفعل آخر على ما تقدم . انتهى .
وقال ابن الحاجب في أماليه على المفصل : القوانس منصوب بفعل مقدر كأنه سئل عما
يضربون . فقال : نضرب القوانس . انتهى .
واستشهد به صاحب الكشاف عند قوله تعالى : أي الحزبين أحصى لما لبثوا أمداً . على
أن أمداً منصوب بفعل دل عليه أحصى الذي هو أفعل تفضيل كما نصب القوانس بما دل عليه
أضرب .
وقال بعض من شرح أبيات المفصل : المراد بالبيت أضرب منا بالسيوف للقوانس فحذف
اللام لضرورة الشعر . فمن لابتداء الغاية متعلق بأضرب تعلق الظرف وبالسيوف تعلق
الآلة واللام تعلق المفعول به . وهذا التقدير أولى من الأول لوجهين : الأول أن
إضمار : نضرب يفسد معنى البيت إذ مراد الشاعر أنهم ضاربون ونحن أضرب منهم فيحصل
التفضيل . ولو قال : نضرب القوانس لم يكن فيه تفضيل .
والثاني : أن أضرب لا ينصب المفعول به فكيف يدل عليه والدال على عامل هو الذي يصح
أن يعمل في معموله . وإذا لم يصح عمله فيه لم يدل عليه . انتهى .
____________________
أما الأول فلأن التفضيل إنما يفوت لو لزم تقدير فعل ناصبٍ للمفعول إذ لا يكون لاسم
التفضيل تعلق معنوي بذلك المنصوب لكنه ممنوع لجواز أن يكون أضرب متعلقاً بالقوانس
من حيث المعنى مع أن يكون انتصابها بفعل مقدر . وإذن تعلق به معنى يحصل مراد
الشاعر وهو التفضيل . )
وقال المصنف في أماليه في قولنا مررت بزيد قائماً : إن العامل في زيد في اللفظ هو
الباء ومن حيث المعنى هو مررت وفي قائماً بالعكس . يعني أن الفاعل فيه من حيث
المعنى هو الباء ومن حيث اللفظ هو مررت . هذا كلامه .
فأقول : لا يبعد فيما نحن فيه أيضاً أن يكون نضرب عاملاً لفظاً في القوانس ويكون
لأضرب تعلقٌ بها من حيث المعنى فحينئذ يتم ما ذكرنا .
وأما الوجه الثاني فلأن الدال على عامل مقدر لا يلزم أن يكون مما يعمل عمل ذلك
العامل .
ألا ترى أن الدال على العامل المقدر في قولنا : زيد مررت به هو مررت مع أنه لا
ينصب زيداً . ونظائره كثيرة .
فإن قلت : مررت مع الباء يصح أن ينصب زيداً فلذلك يدل على الناصب المقدر . قلت :
فكذا أضرب فيما نحن فيه مع اللام المقدرة يصح أن تنصب القوانس لأنكم ذهبتم إلى أن
القوانس تعلق بأضرب تعلق المضروب به وإذا صح أن يكون ناصباً لها مع اللام صح أن
يكون دالاً على عاملها .
وإذا ثبت فساد الوجهين فلا يكون التقدير الثاني أولى من التقدير الأول بل الأمر
بالعكس لأن تقدير الفعل أكثر من تقدير حرف الجر .
وأيضاً التفصيل الذي ذكره للخوافض الثلاث مخالفٌ لما يفهم من كلام المحققين على ما
لا يخفى على الأذكياء . انتهى كلام الجاربردي .
وأقول : لم يبين الفساد الذي ادعاه على وجهين من تقدير اللام وغاية ما أورده تصحيح
تقدير الفعل على زعمه . فتأمل وأنصف . والله تعالى أعلم .
____________________
والمصراع من قصيدةٍ للعباس بن مرداس الصحابي قالها في الجاهلية قبل إسلامه ومطلعها
: ( لأسماء رسمٌ أصبح اليوم دارساً ** وأقفر إلا رحرحان فراكسا ) واختار منها أبو
تمام في الحماسة أربعة أبيات وهي : ( فلم أر مثل الحي حياً مصبحاً ** ولا مثلنا
يوم التقينا فوارسا ) ( أكر وأحمى للحقيقة منهم ** وأضرب منا بالسيوف القوانسا ) (
إذا ما حملنا حملةً نصبوا لنا ** صدور المذاكي والرماح المداعسا ) قال أبو عبيدة
في كتاب أيام العرب : )
غزت بنو سليم ورئيسهم عباس بن مرداسٍ مراداً فجمع لهم عمرو بن معديكرب فالتقوا
بتثليث من أرض اليمن بعد تسع وعشرين ليلة فاقتتلوا قتالاً شديداً فقتل من كبار
مرادٍ ستة وقتل من بني سليم رجلان وصبر الفريقان حتى كره كل واحدٍ منهما صاحبه
فقال عباس بن مرداس قصيدته التي على السين وهي إحدى المنصفات . انتهى .
وقوله : فلم أر مثل الحي إلخ أراد بالحي المصبح بني زبيد بن مراد . قال
____________________
المرزوقي : لم أر مغاراً عليه
كالذين صبحناهم ولا مغيراً مثلنا يوم لقيناهم فقسم الشهادة قسم السواء بين أصحابه
وأصحابهم وتناول بالمدح كل فرقة منهم . وانتصب حياً مصبحاً على التمييز وكذلك
فوارساً تمييز وتبيين ويجوز أن يكونا في موضع الحال .
فإن قيل : لم قال فوارس والتمييز يؤتى به مفرد اللفظ قلت : إذا لم يتبين كثرة العدد
واختلاف الجنس من المميز يؤتى بالتمييز مجموع اللفظ متى أريد التنبيه على ذلك .
وعلى هذا قول الله تعالى : هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا كأنه لما كانت أعمالهم
مختلفة كثيرة نبه على ذلك بقوله : أعمالا . ولو قال عملاً كان السامع لا يبعد في
وهمه أن خسرهم كان لجنسٍ واحد من أجناس المعصية أو لعمل واحد من الأعمال الذميمة .
وقال ابن الحاجب في الأمالي : إن أريد بالرؤية العلم فحيا منصوب بها مفعول أول
ومثل : مفعول ثان . وإن أريد رؤية العين فيحتمل أن يكون حياً مصبحاً هو المفعول
ومثل الحي صفة قدمت فانتصب على الحال .
ويجوز أن يكون مثل الحي هو المفعول وحياً مصبحاً إما عطف بيان لقوله مثل الحي وإما
حالٌ من الحي كأنه قال : مثل الحي مصبحاً وأتى بحي للتوطئة للصفة المعنوية كقولهم
: جاءني الرجل الذي تعلم رجلاً صالحاً .
وصح الحال من المضاف إليه لأنه هنا في معنى المفعول أي : لم أر مماثلا للحي في حال
كونهم مصبحين .
والمضاف إليه إذا كان في معنى فاعل أو مفعول صح منه الحال كغيره . ويجوز أن يكون
تمييزاً كقولك : عندي مثله تمراً أو قمحاً لما في مثل من إبهام الذات فصح تمييزها
كتمييز ما أشبهها وكل ما ذكر في ذلك فهو جارٍ في قوله : مثلنا فوارساً ففوارساً
مثل قوله مصبحاً ومثلنا مثل قوله : مثل الحي . انتهى كلام ابن الحاجب . )
____________________
ونقله الجاربردي في تلك الرسالة وقال : على تقدير أن يراد بالرؤية العلم يجوز أن
يجعل مثل الحي مفعولاً أول وحياً مصبحاً مفعولاً ثانياً . فإن قلت : لا يجوز أن
يكون مثل الحي مفعولاً أول لأنه في أفعال القلوب حكمه حكم المبتدأ فيجب أن يكون
معرفة أو نكرة مخصصة بوجهٍ ما .
وهنا ليس كذلك لأن المثل كما لا يتعرف بالإضافة فلا يتخصص أيضاً فلا يصلح لأن يكون
مفعولاً أول .
فالجواب بعد تسليم ذلك أن يقال : المثل هنا إما تخصص بالإضافة أو لا بل بقي على ما
كان يصلح لأن يكون مفعولاً أول .
أما على التقدير الأول فظاهر وأما على التقدير الثاني فلأنه إذا كان نكرةً وقد وقع
في سياق النفي فيعم ولا شك أنه يصح الابتداء به فيصح أن يكون مفعولاً أول . انتهى
.
وقوله : أكر وأحمى إلخ قال المرزوقي : المصراع الأول ينصرف إلى أعدائه وهم بنو
زبيدٍ والثاني : إلى عشيرته وأصحابه . والمراد لم أر أحسن كراً وأبلغ حماية
للحقائق منهم ولا أضرب للقوانس بالسيوف منا . وانتصب القوانس من فعلٍ دل عليه قوله
: وأضرب منا .
ولا يجوز أن يكون انتصابه عن أضرب لأن أفعل الذي يتم بمن لا يعمل إلا في النكرات
كقولك : هو أحسن منك وجهاً . وأفعل هذا يجري مجرى فعل التعجب ولذلك تعدى إلى
المفعول الثاني باللام فقلت : ما أضرب زيداً لعمرو .
قال الدريدي : القونس هو أعلى البيضة . وقال غيره : قونس الفرس : ما بين أذنيه إلى
الرأس .
____________________
وقال ابن الحاجب : قوله : أكر وأحمى إلخ تبيين لما ادعاه فيما تقدم فيجوز أن ينتصب
بفعل مقدر لا صفة لما تقدم لئلا يفصل بين الصفة والموصوف بما هو كالأجنبي إذا جعل
تمييزاً .
ويجوز أن يكون صفةً لما تقدم كأنها صفة واحدة . وإذ جعلا غير تمييز كأنه قال :
جاءني زيدٌ وعمرو العاقل والعالم . وذلك جائز . فأكر وأحمى صفة لحياً مصبحاً وأضرب
منا صفةٌ لفوارساً . انتهى .
ونقله الجاربردي في تلك الرسالة وقال : كلامه مشعرٌ بأنه على تقدير كون ما تقدم
على أكر وأحمى تمييزاً لو جعل أكر وأحمى صفةً يلزم الفصل بين الصفة والموصوف بما
هو كالأجنبي وأما على تقدير كون المتقدم غير تمييز لو جعل أكر وأحمى صفةً لا يلزم
ذلك . والفرق مشكلٌ جداً .
انتهى . )
وأكر : من كر عليه إذا صال عليه . وأحمى : من الحماية . وحقيقة الرجل : ما يحق
عليه حفظه من الأهل والأولاد والجار .
وقوله : إذا ما حملنا حملة إلخ قال الفرزدق : يروى إذا ما شددنا شدة .
يقول : إذا حملنا عليهم ثبتوا في وجوهنا ونصبوا صدور الخيل القرح والرماح المعدة
للدفع .
والدعس : الدفع في الأصل ثم يستعمل في الطعن وشدة الوطء والجماع .
وفي المثل : جري المذكيات غلابٌ . ويقال : غلاء . ويقال : فتاء فلانٍ كذكاء فلان
وكتذكية فلان أي : حزامته على نقصان سنه كحزامة ذاك مع استكماله .
____________________
قال زهير : الوافر ( يفضله إذا اجتهدا عليه ** تمام السن منه والذكاء ) انتهى .
وقال بعض شراح الحماسة : المذاكي : المسنات من الخيل . والمذكي من الخيل بمنزلة
المخلف من الإبل .
وقوله : إذا الخيل جالت قال المرزوقي : أي إذا الخيل دارت عن مصروع منا كررنا
عليهم لنصرع مثل ما صرعوا منا .
ويجوز أن يريد : إذا جالت الخيل عن صريع منهم لا يقنعنا ذلك فيهم بل نكرها عليهم
لمثله وإن كرهت الكر لشدة البأس فلم ترجع إلا كوالح . والعامل في إذا الخيل :
نكرها وهو جوابه .
وعوابس حال والخيل فاعل فعل يفسره ما بعده . انتهى .
وقال شارحٌ آخر : جالت : انكشفت . جال القوم جولة : انكشفوا ثم كروا . ولم ترجع
الخيل إلا عابسةً لما وجدت من مس السلاح .
وقد رد على العباس عمرو بن معديكرب واعتذر بأن خيلهم لم تكن سماناً وأنه لولا ذلك
لم تنالوا الذي نلتم في قصيدة يقول فيها : الطويل ( أعباسٌ لو كانت شياراً جيادنا
** بتثليث ما ناصيت بعدي الأحامسا )
____________________
( لدسانكم بالخيل من كل جانبٍ
** كما داس طباخ القدور الكرادسا ) يقال : ناصيت الرجل إذا أخذت بناصيته .
والكردوس : كل ملتقى عظمين كالمنكبين والركبتين والوركين . ودسناكم : وطئناكم .
انتهى . )
قال الطبرسي في شرحه أبيات العباس من باب المنصفات : وهو من باب التناصف . وللعرب
قصائد قد أنصف قائلوها أعداءهم فيها وصدقوا عنهم وعن أنفسهم فيما اصطلوه من حر
اللقاء وفيما وصفوه من أحوالهم في إمخاض الإخاء قد سموها المنصفات . ويروى أن أول
من أنصف في شعره مهلهل بن ربيعة حيث قال : الوافر ( كأنا غدوةً وبني أبينا ** بجنب
عنيزةٍ رحيا مدير ) ومن التناصف في الإخاء قول الفضل بن العباس رضي الله عنهما في
أبي لهب : البسيط ( لا تطمعوا أن تهينونا ونكرمكم ** وأن نكف الأذى عنكم وتؤذونا )
انتهى .
والعباس وعمرو بن معديكرب صحابيان تقدمت ترجمة الأول في الشاهد السابع عشر وترجمة
الثاني في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
( مررت على وادي السباع ولا أرى ** كوادي السباع حين يظلم واديا ) ( أقل به ركبٌ
أتوه تئية ** وأخوف إلا ما وقى الله ساريا ) على أن أفعل فيه من قبيل : ما رأيت
كعين زيدٍ أحسن فيها الكحل .
قال سيبويه : إنما أراد أقل به الركب تئية منهم . ولكنه حذف استخفافاً كما تقول :
أنت أفضل ولا تقول من أحد . وتقول : الله أكبر ومعناه الله أكبر من كل شيء . انتهى
.
قال ابن خلف : حذف منهم وبه اختصاراً لعلم السامع . والهاء في به الأولى ضمير
واديا والهاء في به التي بعد منهم ضمير وادي السباع .
وقال الجاربردي في رسالة ألفها لمسألة الكحل على عبارة الكافية : ولوقوع التغيير
الكثير في العبارة الثالثة من الحذف والتقديم والتأخير ربما يتوهم أنها غير جائزة
فلذلك احتاج إلى إيراد نظيرٍ لها جاء في كلام العرب وقد أنشده سيبويه وهو قوله :
مررت على وادي السباع . . . . . . . . . . . . . البيت والاستشهاد إنما يحصل من
البيتين بقوله : ولا أرى كوادي السباع أقل به ركب أتوه تئية في وادي )
السباع . فأفعل ها هنا وهو أقل جرى لشيءٍ وهو في المعنى لمسببٍ هو الركب مفضل
باعتبار من هو له وهو قوله به على نفسه باعتبار وادي السباع . انتهى .
وقد شرح الشارح المحقق البيتين بما لم يسبق به .
____________________
وقوله : الواو في ولا أرى اعتراضية هذا بالنظر إلى ما يأتي بعد البيت الثاني .
وجعل العيني جملة : ولا أرى حالية .
وقوله : وهو بمعنى المفعول يعني أن أخوف في البيت مأخوذ من الفعل المبني للمجهول
أي : أشد مخوفية كما أخذ أشهر وأحمد من المبني للمجهول أي : أشد مشهورية ومحمودية
.
وقوله : وهو منصوب على التمييز من أقل هذا هو الظاهر وعليه اقتصر شارح اللباب قال
: التئية : التوقف والتثبت . وتئية تمييز من قوله : أقل أي : أقل توقفاً . فأقل :
أفعل من القلة منصوب لأنه صفة لمفعول أرى .
وقال الجاربردي : تئية إما مصدر على أصله لأن الإتيان قد يكون تئية أي : بتوقف وقد
يكون بغيره . وإما مصدرٌ في تأويل المشتق أي : متوقفين فيكون حالاً . وأخوف عطف
على أقل أو على تئية إن جعلت حالاً . وإلا ما وقى الله : استثناءٌ مفرغ أي : في كل
وقت إلا وقت وقاية الله الساري . انتهى .
ومحصل المعنى أن ثبوت الركب في وادي السباع أقل من ثبوته في غيره .
والشعر لسحيم بن وثيل وهو شاعر عصري الفرزدق وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن
والثلاثين .
وادي السباع : اسم موضع بطريق البصرة . قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم :
وادي السباع جمع سبع بالبصرة معروف وهو الذي قتل فيه الزبير بن العوام سمي بذلك
لأن أسماء بنت عمران بن الحاف بن قضاعة .
وقال الكلبي : هي أسماء بنت دريم بن القين بن أهود بن بهراء كانت تنزله . ويقال
لها أم الأسبع لأن ولدها أسد وكلب والذئب والدب والفهد والسرحان . وأقبل وائل بن
قاسط فلما نظر إليها رآها امرأةً ذات جمال
____________________
فطمع فيها ففطنت له فقالت :
لو هممت بي لأتاك أسبعي فقال : ما أرى حولك أسبعاً . فدعت بنيها فأتوا بالسيوف من
كل ناحية . فقال : والله وقال ياقوت في معجم البلدان : وادي السباع جمع سبع .
والسبع : يقال : على ما له نابٌ ويعدو )
على الناس والدواب فيفترسها مثل الأسد والذئب والنمر والفهد . فأما الثعلب فإنه
وإن كان له ناب فإنه ليس بسبعٍ لأنه لا عدوان له . وكذلك الضبع .
ووادي السباع هو الذي قتل فيه الزبير بن العوام بن البصرة ومكة بينه وبين البصرة
خمسة أميال . كذا ذكره أبو عبيدة .
ووادي السباع من نواحي الكوفة سمي بذلك لما أذكره لك وهو : أن أسماء بنت دريم بن
القين بن أهود بن بهراء كان يقال لها : أم الأسبع .
وولدها بنو وبرة ابن تغلب بن حلوان بن عمران بن الحاف بن قضاعة يقال لهم السباع
وهم : كلب وأسد والذئب والفهد والثعلب وسرحان . ونزكٌ بفتح النون وسكون الزاي وهو
الحريش ويقال له : الكركدن له قرن واحد يحمل الفيل على قرنه على ما قيل . وجعثم
وهو الضبع .
والفزر وهو الببر : نوع من الضباع دون جرم الفهد إلا أنه أشد وأجرأ منه . وعنزة
وهي دابةٌ طويلة الخطم يعد من رؤوس السباع يأتي الناقة فيدخل خطمه في حيائها ويأكل
ما في بطنها ويأتي البعير فيمتلخ عينيه . وهر وضبع .
____________________
والسمع بالكسر وهو ولد الذئب من الضبع . وديسم وهو الثعلب وقيل : ولد الذئب .
ونمس وهو دويبة فوق ابن عرس يأكل اللحم وهو أسود ملمع ببياض .
والعفر : جنس من الببر . وسيد . والدلدل . والظربان : دويبةٌ منتنة الفساء . ووعوع
وهو ابن آوى الضخم . وكانت تنزل مع أولادها بهذا الوادي فسمي وادي السباع بأولادها
.
قال ابن حبيب : مر وائل بن قاسط بأسماء هذه أم ولد وبرة وكانت امرأة جميلة وبنوها
يرعون حولها فهم بها فقالت له : لعلك أسررت في نفسك مني شيئاً فقال : أجل . فقالت
: لئن لم تنته لأستصرخن عليك فقال : والله ما أرى بالوادي أحداً فقالت : لو دعوت
سباعه لمنعتني منك وأعانتني عليك . فقال : أو تفهم السباع عنك قالت : نعم .
ثم رفعت صوتها : يا كلب يا ذئب يا فهد يا دب يا سرحان يا أسد . فجاؤوا يتعادون
ويقولون : ما خبرك يا أماه قالت : ضيفكم هذا أحسنوا قراه . ولم تر أن تفضح نفسها
عند بنيها فذبحوا له وأطعموه فقال وائل : ما هذا إلا وادي السباع فسمي ذلك . انتهى
.
____________________
( الفعل الماضي ) أنشد فيه ( الشاهد
التاسع والعشرون بعد الستمائة ) البسيط والله لا عذبتهم بعدها سقر على أن الماضي
النفي بلا في جواب القسم ينصرف إلى الاستقبال كما في البيت .
وهو عجز وصدره : حسب المحبين في الدنيا عذابهم والبيت من قصيدةٍ للمؤمل بن أميل
المحاربي قالها في امرأةٍ كان يهواها من أهل الحيرة يقال لها : هند وهي قصيدة
مشهورة .
ومنها : ( شف المؤمل يوم الحيرة النظر ** ليت المؤمل لم يخلق له بصر ) ومنها :
____________________
روى الأصبهاني بسنده في
الأغاني عن علي بن الحسن الشيباني قال : رأى المؤمل في نومه قائلاً يقول : أنت
المتألي على الله أنه لا يعذب المحبين حيث تقول : ( يكفي المحبين في الدنيا عذابهم
** والله لا عذبتهم بعدها سقر ) فقال : نعم . فقال : كذبت يا عدو الله ثم أدخل
إصبعيه في عينيه وقال له : أنت القائل : شف المؤمل يوم الحيرة النظر . . . . . . .
. . . . البيت هذا ما تمنيت فانتبه فزعاً فإذا هو قد عمي .
وروي بسنده أيضاً عن مصعب الزبيري أنه قال : أنشد المهدي : قتلت شاعر هذا الحي من
مضرٍ . . . . . . . . . . البيت فضحك وقال : لو علمنا أنها فعلت لما رضينا ولغضبنا
له وأنكرنا . انتهى .
وشفه : بالشين المعجمة والفاء بمعنى أرقه وأهزله ونقصه . والمتألي بمعنى الحالف :
اسم فاعل من تألى من الألية وهي اليمين . ويقال منها آل إيلاءً وائتلى أيضاً :
افتعل من الألية . )
والمؤمل : ابن أميل بن أسيد المحاربي . والمؤمل بصيغة اسم المفعول والثاني :
بالتصغير وكلاهما مأخوذان من الأمل والثالث : بفتح الهمزة وكسر السين المهملة .
____________________
وهذه ترجمته من الأغاني قال : هو المؤمل بن أميل بن أسيد المحاربي من محارب بن
خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر . شاعرٌ كوفيٌّ من مخضرمي شعراء الدولتين الأموية
والعباسية .
وكانت شهرته في العباسية أكثر لأنه كان من الجند المرتزقة معهم ومن يخصهم ويخدمهم
من أوليائهم .
وانقطع إلى المهدي في حياة أبيه وبعده . وهو صالح المذهب في شعره ليس من المبرزين
الفحول ولا المرذولين . وفي شعره لين . وله طبعٌ صالح .
وروي عنه بالسند أنه قال : قدمت على المهدي وهو بالري وهو إذ ذاك ولي عهد فامتدحته
بأبياتٍ فأمر لي بعشرين ألف درهم فكتب بذلك صاحب البريد إلى أبي جعفر المنصور وهو
بمدينة السلام يخبره أن الأمير المهدي أمر لشاعر بعشرين ألف درهم فكتب إليه يعذله
ويلومه ويقول له : إنما كان ينبغي لك أن تعطيه بعد أن يقيم ببابك سنة أربعة ألاف
درهم .
وكتب إلى كاتب المهدي أن يوجه إليه بالشاعر . فطلب فلم يقدر عليه وكتب إلى أبي
جعفر : إنه قد توجه إلى مدينة السلام . فأجلس قائداً من قواده على جسر النهروان
وأمره أن يتصفح الناس رجلاً رجلاً .
فجعل لا تمر به قافلة إلا تصفح من فيها حتى مرت القافلة التي فيها المؤمل فتصفحهم
فلما سأله من أنت قال : أنا المؤمل بن أميل المحاربي الشاعر أحد زوار الأمير
المهدي . فقال : إياك طلبت . قال المؤمل : فكاد قلبي ينصدع خوفاً من أبي جعفر
المنصور .
____________________
فقبض علي وأسلمني إلى الربيع فأدخلني إلى أبي جعفر وقال له : هذا الشاعر الذي أخذ
من المهدي عشرين ألف درهم قد ظفرنا به . فقال : أدخلوه إلي .
فأدخلت عليه فسلمت تسليم مذعور مروع فرد علي السلام وقال : ليس لك ها هنا إلا خيرٌ
أنت المؤمل بن أميل . قلت : نعم يا أمير المؤمنين . قال : أتيت غلاماً غراً كريماً
فخدعته فانخدع . قلت : نعم أصلح الله أمير المؤمنين أتيت غلاماً غراً كريماً
فخدعته فانخدع . قال : فكأن ذلك أعجبه فقال : أنشدني ما قلت له .
فأنشدته : الوافر ) ( هو المهدي إلا أن فيه ** مشابهةً من القمر المنير ) ( تشابه
ذا وذا فهما إذا ما ** أنارا مشكلان على البصير ) ( فهذا في الظلام سراج ليلٍ **
وهذا في النهار ضياء نور ) ( ولكن فضل الرحمن هذا ** على ذا بالمنابر والسرير ) (
وبالملك العزيز فذا أميرٌ ** وماذا بالأمير ولا الوزير ) ( فيا ابن خليفة الله
المصفى ** به تعلو مفاخرة الفخور ) ( لئن فت الملوك وقد توافوا ** إليك من السهولة
والوعور ) ( لقد سبق الملوك أبوك حتى ** بقوا من بين كابٍ أو حسير ) ( وجئت مصلياً
تجري حثيثاً ** وما بك حين تجري من فتور ) ( فقال الناس : ما هذان إلا ** كما بين
الخليق إلى الجدير ) ( لئن سبق الكبير فأهل سبقٍ ** له فضل الكبير على الصغير ) (
وإن بلغ الصغير مدى كبيرٍ ** فقد خلق الصغير من الكبير )
____________________
فقال : والله لقد أحسنت ولكن
هذا لا يساوي عشرين ألف درهم فأين المال ها هو هذا .
قال : يا ربيع امض معه فأعطه أربعة آلاف درهم وخذ منه الباقي .
قال المؤمل : فخرج معي الربيع فحط ثقلي ووزن لي من المال أربعة آلاف درهم وأخذ
الباقي .
فلما ولي المهدي الخلافة ولى ابن ثوبان المظالم فكان يجلس للناس بالرصافة فإذا ملأ
كساءه رقاعاً رفعها إلى المهدي فرفعت إليه رقعةٌ فلما دخل بها ابن ثوبان جعل المهدي
ينظر في الرقاع حتى إذا وصل إلى رقعتي ضحك .
فقال له ابن ثوبان : أصلح الله أمير المؤمنين ما رأيتك ضحكت من شيءٍ من هذه الرقاع
إلا من هذه الرقعة . فقال : هذه رقعة أعرف سببها ردوا إليه عشرين ألف درهم .
فردوها إلي وانصرفت .
وروى بسنده أيضاً عن أبي محمد اليزيدي عن المؤمل بن أميل قال : صرت إلى المهدي
بجرجان فمدحته بقولي : المتقارب ( تعز ودع عنك سلمى وسر ** حثيثاً على سائرات
البغال ) ( وكل جوادٍ له ميعةٌ ** يخب بسرجك بعد الكلال ) ) ( إلى الشمس شمس بني
هاشمٍ ** وما الشمس كالبدر أو كالهلال ) ( ويضحكه أن يدون السؤال ** ويتلف من ضحكه
كل مال ) فاستحسنها المهدي وأمر لي بعشرة آلاف درهم .
وشاع الشعر وكان في عسكره رجلٌ يعرف بأبي الهوسات يغني فغنى
____________________
في الشعر لرفقائه وبلغ ذلك
المهدي فبعث إليه سراً فدخل عليه فغناه فأمر له بخمسة آلاف درهم وأمر لي بعشرة
آلاف درهم أخرى وكتب بذلك صاحب البريد إلى المنصور .
ثم ذكر باقي الخبر نحو ما تقدم قبله وزاد فيه أن المنصور قال له : جئت إلى غلام
غرٍّ فخدعته حتى أعطاك من مال الله عشرين ألف درهم لشعرٍ قلته فيه غير جيد وأعطاك
من رقيق المسلمين مالاً يملكه وأعطاك من الكراع والأثاث ما أسرف فيه يا ربيع خذ
منه ثمانية عشر ألف درهم وأعطه ألفين ولا تعرض لشيءٍ من الأثاث والدواب والرقيق
ففي ذلك غناه .
فأخذت مني والله بخواتمها .
فلما ولي المهدي دخلت عليه في المتظلمين فلما رآني ضحك وقال : مظلمةٌ أعرفها ولا
أحتاج إلى بينةٍ عليها . وجعل يضحك وأمر بالمال فرد عليه بعينه وزادني فيه عشرة
آلاف درهم .
انتهى .
ومن شعره : الطويل ( حلمت بكم في نومتي فغضبتم ** ولا ذنب لي إن كنت في النوم أحلم
) ( سأطرد عني النوم كيلا أراكم ** إذا ما أتاني النوم والناس نوم ) ( تصارمني
والله يعلم أنني ** أبر بها من والديها وأرحم ) ( وقد زعموا لي أنها نذرت دمي **
وما لي بحمد الله لحمٌ ولا دم ) ( برى حبها لحمي ولم يبق لي دماً ** وإن زعموا أني
صحيحٌ مسلم ) ( فلم أر مثل الحب صح سقيمه ** ولا مثل من لا يعرف الحب يسقم ) (
ستقتل جلداً بالياً فوق أعظمٍ ** وليس يبالي القتل جلدٌ وأعظم ) روى صاحب الأغاني
بسنده إلى حذيفة بن محمد الطائي قال : حدثني أبي قال : رأيت المؤمل شيخاً كبيراً
نحيفاً أعمى فقلت له لقد صدقت في قولك :
____________________
وقد زعموا لي أنها نذرت دمي .
. . . . . . . . البيت )
فقال : نعم فديتك لا أقول إلا حقاً
____________________
( الفعل المضارع ) أنشد فيه (
الشاهد الثلاثون بعد الستمائة ) الرجز ( أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** جلدك بالعنبر
والمسك الذكي ) على أن النون من الأفعال الخمسة قد يندر حذفها لا للأشياء المذكورة
نظماً ونثراً . والأصل تبيتين تدلكين .
قال ابن جني في باب ما يرد عن العربي مخالفاً لما عليه الجمهور من كتاب الخصائص :
سألت أبا علي رحمه الله عن قوله : ( أبيت أسري وتبيتي تدلكي ** وجهك بالعنبر
والمسك الذكي ) فخضنا فيه واستقر الأمر فيه على أنه حذف النون من تبيتين كما حذف
الحركة للضرورة في قوله : السريع
____________________
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ كذا
وجهته معه فقال لي : فكيف تصنع بقوله : تدلكي قلت : نجعله بدلاً من تبيتي أو حالاً
فنحذف النون كما حذفها من الأول في الموضعين . فاطمأن الأمر على هذا .
وقد يجوز أن يكون تبيتي في موضع النصب بإضمار أن في غير الجواب كما جاء بيت الأعشى
: الطويل ( لنا هضبةٌ لا ينزل الذل وسطها ** ويأوي إليها المستجير فيعصما ) انتهى
.
وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر قال : ومنه حذف النون الذي هو علامة للرفع
في الفعل المضارع لغير ناصبٍ ولا جازم تشبيهاً لها بالضمة من حيث كانتا علامتي رفع
نحو قول أيمن بن خريم : المتقارب ( وإذ يغصبوا الناس أموالهم ** إذا ملكوهم ولم
يغصبوا ) وقول الآخر : )
أبيت أسري . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت وقول الآخر أنشده
الفارسي : الرجز ( والأرض أورثت بني آداما ** ما يغرسوها شجراً أياما ) ألا ترى أن
النون قد حذفت من يغصبون وتبيتين وتدلكين ويغرسون لغير ناصب ولا جازم كما فعل
بالحركة في أشرب من قوله : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
____________________
ولا يحفظ شيءٌ من ذلك في
الكلام إلا ما جاء في حديث خرجه مسلم في قتلى بدر حين قام عليهم رسول الله صلى الله
عليه وسلم فناداهم . . . . . . الحديث .
فسمع عمر قول النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يسمعوا وأني
يجيبوا وقد جيفوا فحذف النون من يسمعون ويجيبون . انتهى .
وهذا البيت لم أقف على قائله : وقوله : أبيت أسري إلخ أبيت : مضارع بات بيتوتة
ومبيتاً ومباتاً ومعناه اختصاص الفعل بالليل كما اختص الفعل في ظل بالنهار . فإذا
قلت : بات يسري فمعناه فعل السرى بالليل ولا يكون إلا مع سهر الليل .
وأسري : مضارع سريت الليل وسريت به سرياً والاسم السراية إذا قطعته بالسير . وجملة
: أسرى خبر بات .
وتدلكي : دلكت الشيء دلكاً من باب قتل إذا مرسته بيدك . ودلكت النعل بالأرض : وروى
: وجهك بدل جلدك . والذكي : الشديد الرائحة .
قال أبو القاسم البصري في كتاب أغلاط الدينوري في كتاب النبات : يستعمل الذكاء
أيضاً في حدة الرائحة فيقال : مسكٌ ذكيٌّ بين الذكاء . ويستعمل أيضاً فيما أنتن
فيقال منهما : رائحة ذكية وقد ذكت الرائحة تذكو ذكواً وذكاءً وهي في الطيب أشهر
وهم لها أكثر استعمالاً . انتهى .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والثلاثون بعد الستمائة ) الكامل كجواريٍ يلعبن
بالصحراء على أن ظهور الجر والتنوين على الياء ضرورة .
وقال في شرح الشافية : وقومٌ من العرب يجرون الياء والواو مجرى الحرف الصحيح في
الاختيار فيحركون ياء الرامي رفعاً وجراً وياء يرمي رفعاً وكذا واو يغزو رفعاً .
وأنشد هذه الأبيات وغيرها . والمشهور ما هنا .
إحداهما : إثبات الياء وتحريكها وكان حقه أن يحذفها فيقول : كجوارٍ .
والثانية : أنه صرف ما لا ينصرف وكان الوجه لما أثبت الياء إجراءً لها مجرى الحرف
الصحيح أن يمنع الصرف فيقول كجواري . انتهى .
وهذا المصراع عجزٌ وصدره : ما إن رأيت ولا أرى في مدتي وإن : زائدة مؤكدة لما
النافية وجملة : ولا أرى في مدتي أي : في عمري معترضة بين أرى البصرية وبين
مفعولها وهو الكاف من قوله : كجوارٍ فإنها اسميةٌ ولا يصح جعلها حرفية فإن التقدير
حينئذ : ما رأيت نساءً كجواري .
وحذف الموصوف من مثل هذا لا ينطبق عليه ضابطه فإن الصفة إذا كانت جاراً ومجروراً
فلا بد لجواز حذف الموصوف أن يكون بعضاً من مجرور بمن أو في كما هو المعروف .
____________________
ومفعول لا أرى محذوف أي : مثلهن . والجواري : جمع جارية وهي الشابة .
قال صاحب المصباح : الجارية السفينة سميت بذلك لجريها في البحر ومنه قيل للأمة
جارية على التشبيه لجريها مستسخرة في أشغال مواليها . والأصل فيها الشابة لخفتها .
ثم توسعوا حتى سموا كل أمةٍ جارية وإن كانت عجوزاً لا تقدر على السعي تسميةً بما
كانت وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : والعامل في في والكاف على الاختلاف
في توجيه العاملين رأيت الواقع دون أرى المتوقع . وإن جاز إعمال كل واحدٍ منهما
على الخلاف فيه لكن الأولى ما ذكرته لوجود الرؤية متحققة مع إعمال الأول وعدمها
متوهمة مع إعمال الثاني .
ويقوي ذلك زيادة إن مع ما . وموضع الكاف نصب وكذا موضع في أيضاً . هذا كلامه . )
والبيت مع كثرة تداوله في كتب النحو واللغة لم أقف على قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثلاثون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
أبى الله أن أسموا بأم ولا أب
على أن النصب على الواو يقدر كثيراً لأجل الضرورة .
وأورده أبو الحسن سعيد بن مسعدة المجاشعي الأخفش في كتاب المعاياة وقال : إنما جاز
ذلك للشاعر لأن الحركات مستثقلة في حروف المد واللين فلما جاز إسكانها في الاسم في
موضع الجر والرفع أجري عليه في موضع النصب أيضاً لما أخبرتك به . انتهى .
وأورده ابن عصفور أيضاً في كتاب الضرائر وقال : حذف الفتحة من آخر أسمو إجراءً
للنصب مجرى الرفع .
والمصراع من أربعة أبياتٍ لعدو الله عامر بن الطفيل على ما في ديوانه . وكانت
كنيته في السلم أبو علي وفي الحرب أبو عقيل وهي : ( وما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ **
أبى الله أن أسمو بأم ولا أب ) ( ولا شرفتني كنيةٌ عربيةٌ ** ولا خالفت نفسي مكارم
منصبي ) ( ولكنني أحمي حماها وأتقي ** أذاها وأرمي من رماها بمنكب ) ( وأتركها
تسمو إلى كل غايةٍ ** وتفخر حيي مشرق بعد مغرب ) قال جامع ديوانه : أراد تغلب حي
المشرق وحي المغرب .
وقوله : وما سودتني عامر أي : جعلتني سيد قبيلة بني عامر بالإرث عن آبائهم بل
سدتهم بأفعالي .
وقوله : أبى الله إلخ أبى له معنيان : أحدهما : بمعنى كره وهو المراد هنا .
والثاني : بمعنى امتنع .
وأن أسمو مفعوله . والسمو : العلو .
____________________
وهذا المصراع أورده ابن هشام في الباب الثامن من المغني قال في القاعدة الأولى :
قد يعطى إلى أن قال منها : العطف ب ولا بعد الإيجاب في نحو قوله : أبى الله أن
أسمو بأمٍّ ولا أب )
لما كان معناه قال الله لي : لا تسمو بأمٍّ ولا أب . انتهى .
وقال العيني : الإباء : شدة الامتناع وأن أسمو مفعوله والتقدير : أبى الله سموي
وسيادتي بأمٍّ ولا أب .
وقوله : ولا أب عطفٌ على قوله : بأمٍّ . وزاد كلمة لا تأكيداً للنفي . هذا كلامه
فتأمله .
وأورده جامع ديوانه كذا : أبى الله أن أسمو بأمي والأب فلا شاهد فيه على ما ذكره
ابن هشام . واللام في الأب عوض عن المضاف إليه أي : بأمي وأبي .
وأورد المصراع أبو العباس المبرد في الكامل في أبيات ثلاثة كذا : ( إني وإن كنت
ابن فارس عامرٍ ** وفي السر منها والصريح المهذب ) ( فما سودتني عامرٌ عن وراثةٍ
** أبى الله أن أسمو بأمٍّ ولا أب ) ( ولكنني أحمي حماها وأتقي ** أذاها وأرمي من
رماها بمقنب )
____________________
( تقول ابنة العمري ما لك
بعدما ** أراك صحيحاً كالسليم المعذب ) ( فقلت لها : همي الذي تعلمينه ** من الثأر
في حيي زبيدٍ وأرحب ) ( إن اغزو زبيداً أغز قوماً أعزةً ** مركبهم في الحي خير
مركب ) ( وإن أغز حيي خثعمٍ فدماؤهم ** شفاءٌ وخير الثأر للمتأوب ) ( فما أدرك
الأوتار مثل محققٍ ** بأجرد طاوٍ كالعسيب المشذب ) ( وأسمر خطي وأبيض باترٍ **
وزغفٍ دلاصٍ كالغدير المثوب ) ( سلاح امرىءٍ قد يعلم الناس أنه ** طلوبٌ لثارات
الرجال مطلب ) فإني وإن كنت . . . . . . . . . . . . . . . . . . . إلى آخر
الأبيات الثلاثة .
قال الأخفش : السليم : الملدوغ وقيل له : سليمٌ تفاؤلاً له بالسلامة . وزبيد وأرحب
: قبيلتان من اليمن . والثأر : ما يكون لك عند من أصاب حميمك من الترة .
والمتأوب : الذي يأتيك لطلب ثأره عندك يقال : آب يؤوب إذا رجع . والتأوب في غير
هذا : السير بالنهار بلا توقف . والأوتار والأحقاد واحدهما وتر وحقد . والأجرد :
الفرس المتحسر الشعر والضامر أيضاً . )
والعسيب : السعفة . والمشذب : الذي قد أخذ ما عليه من العقد والسلاء والخوص . ومنه
قيل وخطيٌّ : رمحٌ نسب إلى الخط وهي جزيرة بالبحرين يقال : إنها تنبت الرماح .
____________________
وقال الأصمعي : ليست بها رماح ولكن سفينةً كانت وقعت إليها فيها رماحٌ وأرفئت بها
في بعض السنين المتقدمة فقيل لتلك الرماح الخطية ثم عم كل رمح هذا النسب إلى اليوم
.
والزغف : الدروع الرقيقة الدقيقة النسج . والمثوب : الذي تصفقه الرياح فيذهب ويجيء
. وهو من ثاب يثوب . إذا رجع . وإنما سمي الغدير غديراً لأن السيل غادره أي : تركه
. اه .
وقد أورد العيني رواية الأخفش وفسر جميع الأبيات وقال : الأوتار جمع وتر بالكسر :
الجناية .
والطاوي : ضامر البطن . والأسمر : الرمح . والأبيض : السيف . والباتر : القاطع .
والزغف بفتح الزاي وسكون الغين المعجمة : جمع زغف بفتحتين وهي الدرع الواسعة .
ومنكب بفتح الميم وكسر الكاف : أعوان العرفان وقيل : رأس العرفاء من النكابة وهي
العرافة والنقابة .
وروى بدله : بمنقب بكسر الميم وفتح النون : جماعة الخيل والفرسان . انتهى المراد
منه .
وترجمة عامر بن الطفيل تقدمت في الشاهد الثامن والستين بعد المائة .
وأنشد بعده الرجز
____________________
( كأن أيديهن بالقاع القرق **
أيدي جوارٍ يتعاطين الورق ) على أن تسكين الياء من أيديهن ضرورة والقياس فتحها .
قال ابن جني في المحتسب عند قراءة الحسن : أو يعفو الذي . ساكنة اللام : وسكون
الواو من المضارع في موضع النصب قليل وسكون الياء فيه أكثر . وأصل السكون في هذا
إنما هو للألف لأنها لا تحرك أبداً ثم شبهت الياء بالألف لقربها منها فجاء عنهم
مجيئاً كالمستمر نحو قوله : الرجز ( كأن أيديهن بالموماة ** أيدي جوارٍ بتن ناعمات
) وقال الآخر : كأن أيديهم بالقاع القرق وقال الآخر : البسيط )
يا دار هندٍ عفت إلا أثافيها وكان أبو العباس المبرد يذهب إلى أن إسكان هذه الياء
في موضع النصب من أحسن الضرورات وذلك لأن الألف ساكنةٌ في الأحوال كلها فكذلك جعلت
هذه ثم شبهت الواو في
____________________
( إذا شئت أن تلهو ببعض
حديثها ** رفعن وأنزلن القطين المولدا ) وقال الآخر : الطويل أبى الله أن أسمو
بأمٍّ ولا أب فعلى ذاك ينبغي أن تحمل قراءة الحسن : أو يعفو الذي فقال ابن مجاهد :
وهذا إنما يكون في الوقف . فأما في الوصل فلا يكون . وقد ذكرنا ما فيه . وعلى كل
حال فالفتح أعرف . اه وقال ابن الشجري في أماليه : قال المبرد : هذا من أحسن
الضرورات لأنهم ألحقوا حالة بحالتين يعني أنهم جعلوا المنصوب كالمجرور والمرفوع مع
أن السكون أخف الحركات . ولذلك اعترضوا على إسكان الياء في ذوات الياء من المركبات
نحو معديكرب وقالي قلا . اه .
والبيتان من الرجز نسبهما ابن رشيق في العمدة إلى رؤبة بن العجاج ولم أرهما في
ديوانه .
وضمير أيديهن للإبل . والقاع هو المكان المستوي . والقرق بفتح القاف الأولى وكسر
الراء : الأملس . وجوار بفتح الجيم : جمع جارية .
ويتعاطين أي : يناول بعضهن بعضاً . والورق : الدراهم . وفي التنزيل : فابعثوا أحدكم
بورقكم هذه . كذا في أمالي ابن الشجري .
وقال الشريف المرتضى رحمه الله تعالى في أماليه : القرق : الخشن الذي فيه الحصى .
وشبه
____________________
وقال آخرون : القرق هنا
المستوى من الأرض الواسع . وإنما خص بالوصف لأن أيدي الإبل إذا أسرعت في المستوي
فهو أحمد لها وإذا أبطأت في غيره فهو أجهد لها . تتمة أورد الشارح المحقق بعد هذا
الشعر المثل المشهور : أعط القوس باريها وقال : قد يقدر نصب الياء في السعة أيضاً
. وذكر المثل فإن باريها مفعول أعط وهو ساكن الياء . وهو في هذا تابعٌ للزمخشري في
المفصل . قال الميداني في أمثاله : أي استعن على عملك بأهل المعرفة والحذق فيه .
وينشد : البسيط ) ( يا باري القوس برياً لست تحسنها ** لا تفسدنها وأعط القوس
باريها ) قال شارح أبياته ابن المستوفي : قرأته على شيخنا أبي الحرم مكي بن ريان
في الأمثال لأبي الفضل أحمد بن محمد الميداني : أعط القوس باريها بفتح وكان في
الأصل : ليس يحسنه فأصلحه وجعله برياً لست تحسنها وهو كذلك في نسخ كتاب الميداني .
ولعل الزمخشري إنما أراد بالمثل آخر هذا البيت المذكور فأورده على ما قاله الشاعر
لا على ما ورد من المثل في النثر فإنه ليس بمحل ضرورة .
____________________
( يا باري القوس برياً ليس
يصلحه ** لا تظلم القوس واعط القوس باريها ) والأول أصح . ويجوز أن يسكن ياء
باريها وإن كان مثلاً برأسه على ما تقدم تعليله . اه .
والمشهور تسكين يائه .
وقد أورده الزمخشري في أمثاله وقال : قيل إن الرواية عن العرب : باريها بسكون
الياء لا غير .
يضرب في وجوب تفويض الأمر إلى من يحسنه ويتمهر فيه . انتهى .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : السريع (
فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ** إثماً من الله ولا واغل ) على أنه يقدر في الضرورة رفع
الحرف الصحيح كما في أشرب فإن الباء حرفٌ صحيح وقد حذف الضمة منه للضرورة .
قال سيبويه : وقد يسكن بعضهم في الشعر ويشم وذلك قول امرىء القيس : فاليوم أشرب
غير مستحقبٍ . . . . . . . . . . البيت
____________________
وقال ابن جني في المحتسب :
اعتراض أبي العباس المبرد هنا على الكتاب إنما هو على العرب لا على صاحب الكتاب
لأنه حكاه كما سمعه ولا يمكن في الوزن أيضاً غيره .
وقول أبي العباس : إنما الرواية : فاليوم فاشرب فكأنه قال لسيبويه : كذبت على
العرب ولم تسمع ما حكيته عنهم . وإذا بلغ الأمر هذا الحد من السرف فقد سقطت كلفة
القول معه .
وكذلك إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر : السريع وقد بدا هنك من المئزر )
فقال : إنما الرواية : وقد بدا ذاك من المئزر وما أطيب العرس لولا النفقة . ولو
كان إلى الناس تخير ما يحتمله الموضع لكان الرجل أقوم من الجماعة به وأوصل إلى
المراد منه . اه .
ووقع في نسخ الكامل للمبرد : فاليوم أسقى غير مستحقبٍ فلا شاهد فيه على هذا .
ورواه أبو زيد في نوادره كرواية المبرد : فاليوم فاشرب . قال أبو الحسن الأخفش
فيما كتبه على نوادره : الرواية الجيدة
____________________
فاليوم فاشرب واليوم أسقى .
وأما رواية من روى فاليوم أشرب فلا يجوز عندنا إلا على ضرورة قبيحة وإن كان جماعةٌ
من رؤساء النحويين قد أجازوا . اه .
وهو في هذا تابعٌ للمبرد .
وأورده ابن عصفور في كتاب الضرائر مع أبياتٍ مثله وقال : ومن الضرورة حذف علامتي
الإعراب : الضمة والكسرة من الحرف الصحيح تخفيفاً أجراءً للوصل مجرى الوقف أو
تشبيهاً للضمة بالضمة من عضد وللكسرة بالكسرة من فخذ وإبل نحو قول امرىء القيس في
إحدى الروايتين : فاليوم أشرب غير مستحقبٍ إلى أن قال : وأنكر المبرد والزجاج
التسكين في جميع ذلك لما فيه من إذهاب حركة الإعراب وهي لمعنًى ورويا موضع فاليوم
أشرب : فاليوم فاشرب . والصحيح أن ذلك جائزٌ سماعاً وقياساً .
أما القياس فإن النحويين اتفقوا على جواز ذهاب حركة الإعراب للإدغام لا يخالف في
ذلك أحدٌ منهم .
وقد قرأت القراء : ما لك لا تأمنا بالإدغام وخط في المصحف بنون واحدة فلم ينكر ذلك
وأما السماع فثبوت التخفيف في الأبيات التي تقدمت وروايتهما بعض تلك الأبيات على
خلاف التخفيف لا يقدح في رواية غيرهما .
وأيضاً فإن ابن محارب قرأ : وبعولتهن أحق بردهن بإسكان التاء . وكذلك
____________________
قرأ الحسن : وما )
يعدهم الشيطان . بإسكان الدال . وقرأ أيضاً مسلمة ومحارب : وإذ يعدكم بإسكان الدال
.
وكأن الذي حسن مجيء هذا التخفيف في حال السعة شدة اتصال الضمير بما قبل من حيث كان
غير مستقل بنفسه فصار التخفيف لذلك كأنه قد وقع في كلمة واحدة . والتخفيف الواقع
في الكلمة نحو : عضد في عضد سائغٌ في حال السعة لأنه لغةٌ لقبائل ربيعة بخلاف ما
شبه به من المفصل فإنه لا يجوز إلا في الشعر .
فإن كانت الضمة والكسرة اللتان في آخر الكلمة علامتي بناء اتفق النحويون على جواز
حذفهما في الشعر تخفيفاً . انتهى ما أردنا منه .
وما نقله عن الزجاج مذكورٌ في تفسيره عند قوله تعالى : فتوبوا إلى بارئكم من سورة
البقرة قال : والاختيار ما روي عن أبي عمرو أنه قرأ : إلى بارئكم بإسكان الهمزة .
وهذا رواه سيبويه باختلاس الكسر وأحسب أن الرواية الصحيحة ما روى سيبويه فإنه أضبط
لما روي عن أبي عمرو .
والإعراب أشبه بالرواية عن أبي عمرو ولأن حذف الكسر في مثل هذا وحذف الضم إنما
يأتي باضطرارٍ من الشعر . وأنشد سيبويه وزعم أنه مما يجوز في الشعر خاصة : الرجز
إذا اعوججن قلت صاحب قوم بإسكان الباء
____________________
وأنشد أيضاً : فاليوم أشرب
غير مستحقبٍ فالكلام الصحيح أن يقول : يا صاحب أقبل أو يا صاحب أقبل ولا وجه
للإسكان . وكذلك : اليوم أشرب يا هذا .
وروى غير سيبويه هذه الأبيات على الإستقامة وما ينبغي أن يجوز في الكلام والشعر .
رووا هذا البيت على ضربين : فاليوم أسقى غير مستحقبٍ ورووا : إذا اعوججن قلت صاح
قومِ ولم يكن سيبويه ليروي إلا ما سمع إلا أن الذي سمعه هؤلاء هو الثابت في اللغة
. وقد ذكر )
والبيت في قصيدة لامرىء القيس . قال عبد الرحمن السعدي في كتاب مساوي الخمر : غزا
امرؤ القيس بني أسد ثائراً بأبيه وقد جمع جموعاً من حمير وغيرهم من ذؤبان العرب
وصعاليكها وهرب بنو أسدٍ من بين يديه حتى أنضوا الإبل وحسروا الخيل ولحقهم فظفر
بهم وقتل بهم مقتلة عظيمة وأبار حلمة بن أسد ومثل في عمروٍ وكاهل ابني أسد .
____________________
وذكر الكلبي عن شيوخ كندة أنه جعل يسمل أعينهم ويحمي الدروع فيلبسهم إياها .
وروى أبو سعيد السكري مثل ذلك وأنه ذبحهم على الجبل ومزج الماء بدمائهم إلى أن بلغ
الحضيض وأصاب قوماً من جذامٍ كانوا في بني أسد . وفي ظفره ببني أسد يقول : السريع
( قولا لدودان عبيد العصا ** ما غركم بالأسد الباسل ) ( لا تسقيني الخمر إن لم
يروا ** قتلى فئاماً بأبي الفاضل ) ( حتى أبير الحي من مالكٍ ** قتلاً ومن يشرف من
كاهل ) ( ومن بني غنم بن دودان إذ ** يقذف أعلاهم على السافل ) ( نعلوهم بالبيض مسنونةً
** حتى يروا كالخشب الشائل ) ( حلت لي الخمر وكنت امرأ ** من شربها في شغلٍ شاغل )
( فاليوم أشرب غير مستحقبٍ ** إثماً من الله ولا واغل ) وكان أبو امرىء القيس إذا
غضب على أحد منهم ضربوه بالعصا فسموا عبيد العصا أي : يعطون على الضرب والهوان .
وأراد بالأسد الباسل أباه . والفئام بكسر الفاء بعدها همزة ممدودة : الجماعة .
وأبير : أفني . ومالك هو ابن أسد . وأراد بمن يشرف من كاهل علباء بن
____________________
الحارث من بني كاهل بن أسد .
وقوله : يقذف أي : يرمى بعضهم على بعض إذا قتلوا . والمسنونة : المحددة . والشائل
: الساقط .
وقوله : حلت لي الخمر إلخ قال السعدي في مساوي الخمر . إنما قال هذا لأنه لم يكن
حضر قتل أبيه وكان أبوه أقصاه لأنه كره منه قول الشعر وإنما جاءه الأعور العجلي
بخبره وهو يشرب فقال : ضيعني صغيراً وحملني ثقل الثأر كبيراً . اليوم خمرٌ وغداً
أمر . لا صحو اليوم ولا سكر غداً .
ثم شرب سبعاً ثم لما صحا حلف أن لا يغسل رأسه ولا يشرب خمراً حتى يدرك ثأره . )
فذلك قوله : حلت لي الخمر . وهذا معنًى ما زالت العرب تطرقه .
قال الشنفرى يرثي خاله تأبط شراً ويذكر إدراكه ثأره من قصيدةٍ له : المديد (
فادركنا الثأر فيهم ولما ** ينج من لحيان إلا الأقل ) وافهم أنهم إنما حرموا الخمر
على أنفسهم في مدة طلبهم لأنها مشغلة لهم عن كريم الأخلاق والإقبال على الشهرة .
اه .
قال إسماعيل بن هبة الله الموصلي في كتاب الأوائل أول من اخترع هذا المعنى امرؤ
القيس في هذا الشعر .
____________________
وأما قول أبي نواس : الكامل ( في مجلسٍ ضحك السرور به ** عن ناجذيه وحلت الخمر )
فكان نذر لا يشرب حتى يظفر بمن يهوى فلما ظفر به وشرب قال هذا البيت .
وكذا أيضاً قول البحتري : البسيط ( حتى نحل وقد حل الشراب لنا ** جنات عدنٍ على
الساجور ألفافا ) فإنه نذر أن لا يشرب خمراً حتى يصير إلى بلده فلما صار إليه حل
له الشراب . اه .
وبيت أبي نواس قبله : الكامل ( ظلت حميا الكاس تبسطنا ** حتى تهتك بيننا الستر )
قال السيد المرتضى قدس الله روحه في أماليه : قوله : وحلت الخمر يحتمل أن ما وصف
به من طيب الموضع وتكامل السرور به وحضور المأمول فيه صار مقتضياً لشرب الخمر .
وملجئاً وتكون فائدة وصفها بأنها حلت المبالغة في وصف الحال بالحسن والطيب .
ويحتمل أيضاً أن يكون عقد على نفسه وآلى أن لا يتناول الخمر إلا بعد الاجتماع مع
محبوبه فكان الاجتماع معه مخرجاً عن يمينه على مذهب العرب في تحريم الخمر على
نفوسهم إلى أن يأخذوا بثأرهم .
ويحتمل أيضاً أن يريد بحلت : نزلت وأقامت من الحلول الذي هو المقام لا من الحلال
فكأنه وصف بلوغ جميع آرابه وحضور فنون لذاته وأنها تكاملت
____________________
بحلول الخمر التي فيها جماع
اللذات .
وهذا الوجه وإن لم يشر إليه فالقول يحتمله : ولا مانع من أن يكون مراداً . وقد قيل
إنه أراد : إذا استحللنا الخمر سكرنا وفقدنا العقول التي كنا نمتنع لها من الحرام
. والوجوه المقتدمة أشبه )
وأقرب إلى الصواب . اه .
وقوله : فاليوم أشرب إلخ غير : حالٌ من ضمير أشرب . والمستحقب : المكتسب وأصله من
استحقب : أي وضع في الحقيبة وهي خرجٌ يربط بالسرج خلف الراكب .
وإثماً : مفعول مستحقب . كأن شربها بعد وفاء النذر لا إثم فيه بزعمه . وواغل معطوف
على مستحقب والواغل : الذي يأتي شراب القوم من غير أن يدعى إليه وهو مأخوذٌ من
الوغول وهو الدخول . ومعناه أنه وغلٌ في القوم وليس منهم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثلاثون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
ولا ترضاها ولا تملق على أن
حرف العلة قد لا يحذف للجازم في الضرورة .
قال أبو علي في إيضاح الشعر في باب : ما كان لامه من الأفعال حرف علة : قال الشاعر
: البسيط ( هجوت زبان ثم جئت معتذراً ** من هجو زبان لم تهجو ولم تدع ) وقال : ألم
يأتيك والأنباء تنمي وقال آخر : الكامل ما أنس لا أنساه آخر عيشتي هذه الحروف قد
تحذف في موضع الجزم في الاختيار كما تحذف النون في التثنية والجمع وفعل فقدر الشاعر
في الواو والياء الحركة كالأبيات التي قدمناها فتشبه الألف بالياء في نحو : لا
أنساه في البيت ونحو قوله :
____________________
( إذا العجوز غضبت فطلق **
ولا ترضاها ولا تملق ) ويدل على تقدير الشاعر الحركة في الياء والواو وحذفها في
الضرورة أن سيبويه زعم أن أعرابياً أفصح الناس من كليب أنشد لجرير : الطويل (
فيوماً يوافين الهوى غير ماضي ** ويوماً ترى منهن غولاً تغول ) )
اه .
وكذا قال ابن جني في سر الصناعة وفي الخصائص وشرحه شرحاً واضحاً في شرح تصريف
المازني . وزاد في سر الصناعة أن بعضهم رواه على الوجه الأعرف : ولا ترضها ولا
تملق قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ينبغي أن تجعل لا في قوله : ولا ترضها نافية
والواو فيه للحال مثلها في قمت وأصك وجهه فيكون المعنى إذا ذاك : فطلقها غير
مترضٍّ لها ويكون قوله : ولا تملق جملة نهي معطوفةً على جملة الأمر التي هي طلق .
ولا ينبغي أن تجعل لا حرف نهي لأنها لو كانت للنهي لوجب حذف الألف من ترضاها . اه
.
والبيتان من رجز لرؤبة بن العجاج .
وبعده :
____________________
( واعمد لأخرى ذات دلٍّ مونق
** لينة المس كمس الخرنق ) هكذا أورده أبو محمد الأعرابي في ضالة الأديب .
وقوله : إذا العجوز غضبت روى أيضاً : كبرت بدل غضبت . والترضي والاسترضاء بمعنًى .
قال الجوهري : يقال تملقه وتملق له تملقاً وتملاقاً أي : تودد إليه وتلطف له .
واعمد بمعنى اقصد . والدل بفتح الدال بمعنى الدلال والغنج .
ومونق : اسم فاعل من أنق الشيء أنقاً من باب تعب أي : راع حسنه وأعجب . والخرنق
بكسر الخاء المعجمة والنون وسكون الراء بينهما : ولد الأرنب .
وترجمة رؤبة تقدمت في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الوافر
____________________
لما تقدم في البيت قبله .
وأورده سيبويه في موضعين من كتابه على أنه أثبت الياء في حال الجزم ضرورة لأنه إذا
اضطر ضمها في حال الرفع تشبيهاً بالصحيح .
قال الأعلم : وهي لغةٌ ضعيفة فاستعملها عند الضرورة . اه .
وهذا قول الزجاجي في الجمل وتبعه الأعلم .
قال ابن السيد في شرح أبياته : وقوله : إنه لغةٌ خطأٌ .
ومثله للصفار في شرح الكتاب : قال : إثباب حرف العلة في المجزوم ضرورة نحو : ألم
يأتيك .
وقيل : إنه لغة يعرب بحركات مقدرة .
والصحيح أنه ليس لغة ولا علم من قاله غير الزجاجي ولا سند له فيه . ومما يدل على
أنه غير معرب بحركات مقدرة أنهم لا يقولون لم أخشى لأنه لا يظهر فيه حركة بوجهٍ
بخلاف الياء .
فإن قلت : إنه سمع في قوله تعالى : لا تخف دركاً ولا تخشى . وقوله : إذا العجوز
غضبت فطلق . . . . . . . . . البيت قلت : لا دليل فيه كما زعمت لأن الأول مقطوع أي
: وأنت لا تخشى أي : في هذه الحال .
وكذا ولا ترضاها أي : طلقها وأنت لا تترضاها ثم قال : ولا تملق فلا دليل فيه . اه
.
____________________
وقال ابن خلف : هذا البيت أنشده سيبويه في باب الضرورات وليس يجب أن يكون من باب
الضرورات لأنه لو أنشد بحذف الياء لم ينكسر وإنما موضع الضرورة ما لا يجد الشاعر
منه بداً في إثباته ولا يقدر على حذفه لئلا ينكسر الشعر وهذا يسمى في عروض الوافر
المنقوص أعني : إذا حذف الياء من قوله : ألم يأتيك .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن ما فسر به الضرورة مذهبٌ مرجوح مردود . والتحقيق عند المحققين : أنها
ما وقع في الشعر سواءٌ كان للشاعر عنه مندوحةٌ أم لا .
وقال ابن جني : في فصل الهمزة من سر الصناعة : رواه بعض أصحابنا : ألم يأتك على
ظاهر الجزم وأنشده أبو العباس عن أبي عثمان عن )
الأصمعي : ألا هل اتاك والأنباء تنمي اه .
فالأول فيه الكف والثاني فيه نقل حركة الهمزة من أتاك إلى لام هل وحذفها .
ورواه بعضهم : فلا شاهد فيه على الروايات الثلاث .
____________________
والبيت أورده ابن هشام في موضعين من المغني : أحدهما : في الباء قال : الباء في
قوله : بما زائدة في الضرورة . وقال ابن الضائع : الباء متعلقة بتنمي وإن فاعل
يأتي مضمر والمسألة من باب الإعمال .
وثانيهما : في الجملة المعترضة من الباب الثاني قال : جملة والأنباء تنمي معترضة
بين الفعل والفاعل على أن الباء زائدة في الفاعل .
ويحتمل أن يأتي وتنمي تنازعا فأعمل الثاني وأضمر الفاعل في الأول فلا اعتراض ولا
زيادة .
ولكن المعنى على الأول أوجه إذ الأنباء من شأنها أن تنمي بهذا وبغيره . اه .
يريد أن يأتي وتنمي تنازعا قوله : بما والأول يطلبه للفاعلية والثاني يطلبه
للمفعولية فأعمل الثاني على المختار وأضمر الفاعل في الأول وهو ضمير ما لاقت .
وقال الأعلم وابن الشجري في أماليه : الباء زائدة بمنزلتها في كفى بالله شهيداً .
وحسن دخولها في ما أنها مبهمة مبنية كالحرف فأدخل عليها حرف الجر إشعاراً بأنها
اسم والتقدير : ألم يأتيك ما لاقت .
ويجوز أن تكون متصلة بيأتيك على إضمار الفاعل فيكون التقدير : ألم يأتيك النبأ بما
لاقت .
ودل على النبأ قوله : والأنباء تنمي أي : تشيع وأصله من نمى الشيء ينمي إذا ارتفع
وزاد .
اه .
____________________
وعلى هذا لا تنازع . وفيه الاعتراض بالجملة . وقول ابن هشام إن زيادة الباء هنا
ضرورة هو قول ابن عصفور قال في كتاب الضرائر : ومنها زيادة حرف الجر في المواضع
التي لا تزاد فيها في سعة الكلام نحو : ألم يأتيك . . . . . . . البيت )
فزاد الباء في فاعل يأتي . وزيادتها لا تنقاس في سعة الكلام إلا في خبر ما وخبر
ليس وفاعل : كفى ومفعوله وفاعل أفعل بمعنى : ما أفعله . وما عدا هذه المواضع لا
تزاد فيه الباء إلا في ضرورةٍ أو شاذ من الكلام يحفظ ولا يقاس عليه . اه .
وقال ابن جني في المحتسب : زاد الباء في بما لاقت لما كان معناه : ألم تسمع ما
لاقت لبونهم .
هذا كلامه .
وكأنه على التضمين . وفيه بعدٌ .
وقال ابن المستوفي : وابن خلف : ويجوز أن يكون لبون فاعل يأتي على تقدير مضاف أي :
ألم يأتيك خبر لبونهم ويكون في لاقت ضميرٌ يعود إلى لبون ويكون لبون في نية
التقديم . وعلى هذا تكون الباء متعلقة بيأتي وفيه التنازع على إعمال الأول على
خلاف المختار وفيه تعسف لتقدير المضاف في الأول وعدمه في الثاني .
والكاف في يأتيك لمخاطب غير معين أي : يا من يصلح للخطاب . والأنباء : جمع نبأ وهو
خبرٌ له شأن .
واللبون قال أبو زيد : هي من الشاء والإبل : ذات اللبن غزيرةً كانت أم بكيئة فإذا
قصدوا قصد الغزيرة قالوا : لبنة وقال ابن السيد وتبعه ابن خلف :
____________________
اللبون : الإبل ذوات اللبن
وهو اسمٌ مفرد أراد به الجنس .
وبنو زياد : هم الكملة الربيع وعمارة وقيس وأنس بنو زياد بن سفيان بن عبد الله
العبسي . وأمهم فاطمة بنت الخرشب الأنمارية . والمراد لبون الربيع بن زياد فإن
القصة معه فقط كما يأتي بيانها . كما يقال : بنو فلان فعلوا كذا إذا كان الفاعل
بعضهم وأسند الفعل إلى الجميع لرضاهم بفعل البعض .
ومثل هذا البيت قول عفيف بن المنذر : الوافر ( ألم يأتيك والأنباء تنمي ** بما
لاقت سراة بني تميم ) ( تداعى من سراتهم رجالٌ ** وكانوا في النوائر والصميم )
والبيت أول أبياتٍ لقيس بن زهير بن جذيمة بن رواحة العبسي وكان سيد قومه ونشأت
بينه وبين الربيع بن زياد العبسي شحناء في شأن درعٍ ساومه فيها ولما نظر إليها وهو
على ظهر فرسه وضعها على القربوس ثم ركض بها فلم يردها عليه فاعترض قيس بن زهير أم
الربيع : )
فاطمة بنت الخرشب المذكورة في ظعائن من بني عبس فاقتاد جملها يريد أن يرتهنها
بدرعه .
فقالت له : ما رأيت كاليوم قط فعل رجل أين ضل حلمك يا قيس أترجو أن تصطلح أنت وبنو
زياد أبداً وقد أخذت أمهم فذهبت بها يميناً وشمالاً فقال الناس في ذلك ما شاؤوا أن
يقولوا : وحسبك من شر سماعه فأرسلتها مثلاً . فعرف قيسٌ ما قالت فخلى سبيلها ثم
أطرد إبلاً له وقيل : إبله وإبل إخوته فقدم بها مكة فباعها من عبد الله بن جدعان
____________________
التيمي معاوضةً بأدراعٍ وسيوف
. ثم جاور ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير وهو ربيعة الخير ويكنى أبا هلال .
وفاطمة الأنمارية هي إحدى المنجبات . وسئلت عن بنيها : أيهم أفضل فقالت : الربيع
لا بل عمارة لا بل قيس لا بل أنس ثكلتهم إن كنت أدري أيهم أفضل هم كالحلقة المفرغة
لا يدري أين طرفاها وكانت امرأةً لها ضيافةٌ وسودد . والأبيات هذه بعد الأول : (
كما لاقيت من حمل بن بدر ** وإخوته على ذات الإصاد ) ( هم فخروا علي بغير فخرٍ **
وردوا دون غايته جوادي ) ( وكنت إذا منيت بخصم سوءٍ ** دلفت له بداهيةٍ نآد ) (
بداهيةٍ تدق الصلب منهم ** بقصمٍ أو تجوب عن الفؤاد ) ( أطوف ما أطوف ثم آوي **
إلى جارٍ كجار أبي دواد ) ( منيع وسط عكرمة بن قيسٍ ** وهوبٍ للطريف وللتلاد ) (
تظل جياده يعسلن حولي ** بذات الرمث كالحدإ العوادي ) ( كفاني ما أخاف أبو هلالٍ
** ربيعة فانتهت عني الأعادي ) ( كأني إذ أنخت إلى ابن قرطٍ ** أنخت إلى يلملم أو
نضاد ) وقوله : ومحبسها بالرفع معطوف على فاعل يأتيك وهو ما لاقت أو لبون وبالجر
عطفاً على مدخول الباء إن كان الفاعل ضمير النبأ . والمحبس : مصدر ميمي .
____________________
والقرشي هنا هو عبد الله بن جدعان بضم الجيم ابن عمرو بن كعب ابن سعد بن تيم بن
مرة القرشي . وعبد الله من أجواد قريش في الجاهلية .
وشذ ابن السيد في قوله : إن قيساً لما قدم مكة بإبل الربيع باعها لحرب بن أمية
وهشام بن )
وتشرى بالبناء للمفعول الجملة : حال من ضمير المؤنث في محبسها . وقالوا : هو بمعنى
تباع .
ويجوز أن يكون المعنى : يشتريها القرشي فالجملة حالٌ من القرشي .
وفي هذا البيت بيانٌ لما لاقته لبون بني زياد وافتخارٌ وتبجج بما فعله من أخذ إبله
وبيعها بمكة .
وقوله : كما لاقيت قال ابن الشجري : العامل فيه محذوف تقديره : لاقيت منهم كما
لاقيت من حمل بن بدر .
ومثله في حذف الفعل منه للدلالة عليه قول يزيد بن مفرغ الحميري : الخفيف ( لا ذعرت
السوام في وضح الصب ** ح مغيراً ولا دعيت يزيدا ) ( يوم أعطى من المخافة ضيماً **
والمنايا يرصدنني أن أحيدا ) ( طالعاتٍ أخذن كل سبيلٍ ** لا شقياً ولا يدعن سعيدا
) أراد : لا يدعن شقياً فحذف . انتهى .
وذات الإصاد بكسر الهمزة . موضع .
وهذا البيت وما بعده إشارةٌ إلى حرب داحسٍ والغبراء وهذا إجمالها من
____________________
كتاب الفاخر للمفضل بن سلمة
قال : داحس : فرس قيس بن زهير العبسي والغبراء : فرس حذيفة بن بدرٍ وكان من
حديثهما أن رجلاً من بني عبس يقال له : قرواش بن هني مارى حمل بن بدرٍ أخا حذيفة
في داحس والغبراء فقال حمل : الغبراء أجود . وقال قرواش : داحسٌ أجود . فتراهنا
عليهما عشرةً في عشرة .
فأتى قرواشٌ إلى قيس بن زهير فأخبره فقال له قيس : راهن من أحببت وجنبني بني بدر
فإنهم يظلمون لقدرتهم على الناس في أنفسهم وأنا نكدٌ أباءٌ فقال قرواش : فإني قد
أوجبت الرهان . فقال قيس : ويلك ما أردت إلى أشأم أهل بيت والله لتنفلن علينا شراً
.
ثم إن قيساً أتى حمل بن بدر فقال : إني أتيتك لأواضعك الرهان عن صاحبي . قال حمل :
لا أواضعك أو تجيء بالعشر فإن أخذتها أخذت سبقي وإن تركتها تركت حقاً قد عرفته لي
وعرفته لنفسي . فأحفظ قيساً فقال : هي عشرون . قال حملٌ : ثلاثون .
فتزايدا حتى بلغ به قيس مائة وجعل الغاية مائة غلوة والغلوة بفتح المعجمة : مقدار
رمية سهم . فضمروهما أربعين يوماً ثم استقبل الذي ذرع الغاية من ذات الإصاد وهي
ردهة في )
ديار عبس وسط هضب القليب قال الأصمعي : هضب القليب بنجد جبالٌ صغار والقليب في وسط
هذا الموضع يقال له ذات الإصاد وهو اسم من أسمائها . والردهة : نقيرة في حجر يجتمع
فيها الماء فانتهى الذرع إلى مكان ليس له اسم . فقادوا الفرسين إلى الغاية وقد ولم
يكن ثم قصبةٌ . ووضع حملٌ حيساً في دلاء وجعله في شعب من شعاب هضب القليب على طريق
الفرسين وكمن معه فتياناً وأمرهم إن جاء داحسٌ سابقاً
____________________
أن يردوا وجهه عن الغاية
وأرسلوهما من منتهى الذرع فلما دنوا وقد برز داحسٌ وثب الفتيان فلطموا وجه داحس
فردوه عن الغاية . فقال قيس : يا حذيفة أعطني سبقي .
وقال الذي وضع عنده السبق : إن قيساً قد سبق وإنما أردت أن يقال : سبق حذيفة وقد
قيل فأمره أن يدفعه لقيس .
ثم إن حذيفة ندمه الناس فبعث ابنه يأخذ السبق من قيس فقتله قيس فاجتمع الناس
فاحتملوا ديته مائة عشراء فقبضها حذيفة وسكن الناس . ثم إن حذيفة استفرد أخا قيس
وهو مالك بن زهير فقتله .
وكان الربيع بن زياد يومئذٍ مجاور بني فزارة عند امرأته وكان مشاحناً لقيس بن زهير
في درعه التي اغتصبها من قيس كما تقدم ذكرها فلما قتل مالك بن زهير ارتحل الربيع
بن زياد ولحق بقومه وأتاه قيس بن زهير فصالحه ونزل معه ثم دس قيسٌ أمة له إلى
الربيع تنظر ما يعمل فأتته امرأته تعرض له وهي على طهر فزجرها وقال : الكامل ( منع
الرقاد فما أغمض حار ** جللٌ من النبأ المهم الساري ) ( يجد النساء حواسراً يندبنه
** يندبن بين عوانس وعذاري ) ( أفبعد مقتل مالك بن زهيرٍ ** ترجو النساء عواقب
الأطهار ) فأخبرت الأمة قيساً بهذا فأعتقها .
ثم إن بني عبس تجمعوا ورئيسهم الربيع بن زياد وتجمع بنو ذبيان ورئيسهم
____________________
حذيفة بن بدر وتحاربوا مراراً
.
ثم إن الربيع بن زياد أظفره الله في جعفر الهباءة على حذيفة بن بدر وأخويه : حمل
بن بدر ومالك بن بدر فقتلهم ومثلوا بحذيفة فقطعوا ذكره فجعلوه في فيه وجعلوا لسانه
في دبره .
وقال الربيع بن زياد يرثي حمل بن بدر : الوافر ) ( تعمل أن خير الناس طراً ** على
جفر الهباءة ما يريم ) ( ولولا ظلمه ما زلت أبكي ** عليه الدهر ما طلع النجوم ) (
ولكن الفتى حمل بن بدرٍ ** بغى والبغي مرتعه وخيم ) ( أظن الحلم دل علي قومي **
وقد يستجهل الرجل الحليم ) ( ألاقي من رجالٍ منكراتٍ ** فأنكرها وما أنا بالظلوم )
( ومارست الرجال ومارسوني ** فمعوجٌّ علي ومستقيم ) ودامت الحرب بينهم أربعين سنة
إلى أن ضعف قيس بن زهير فحالف ربيعة بن قرط بن سلمة بن قشير وهو ربيعة الخير ويكنى
أبا هلال .
وقيل : هو ربيعة بن قرط بن عبد بن أبي بكر بن كلاب . فنزل قيسٌ مع بني عبس عنده
وقال : ( أحاول ما أحاول ثم آوي ** إلى جارٍ كجار أبي دواد ) إلى آخر الأبيات
المذكورة .
وقوله : وكنت إذا منيت إلخ أي : بليت . ودلفت : أسرعت . والنآد بهمزة ممدودة قبلها
نون وبعدها دال : الشديدة من الدواهي . وتقصم : تكسر . وتجوب : تشق .
وقوله : كجار أبي داود الجار هنا : الناصر والحليف .
____________________
كان أبو دواد الإيادي في الجاهلية جاور الحارث بن همام بن مرة بن ذهل بن شيبان
فخرج صبيان الحي يلعبون في غدير فغمسوا ابن أبي دوادٍ فقتلوه فقال الحارث بن همام
: لا يبق في الحي صبيٌّ إلا غرق في الغدير فودي ابن أبي دواد تسع دياتٍ أو عشراً .
ويعسلن من العسلان وهو اهتزاز الذي يعدو . والحدأ : جمع حدأة كعنب جمع عنبة : طائر
معروف . ويلملم ونضاد : جبلان .
وقول الربيع بن زياد : يقول : من شمت من الأعداء بمقتل مالك فليعلم أنا قد أدركنا
ثأره . وكانت العرب لا تندب قتلاها حتى تدرك ثأرها . وكان قيس قتل ابن حذيفة كما
تقدم فقتل حذيفة مالكاً أخا قيس .
والمراد : فليحضر ساحتنا في أول النهار ليعلم أن ما كان محرماً من البكاء قد حل
ويجد النساء مكشوفات الرؤوس يندبنه . )
وروي : ( يجد النساء حواسراً يندبنه ** يلطمن أوجههن بالأسحار ) وروي أيضاً : قد
قمن قبل تبلج الأسحار وروي أيضاً : بالصبح قبل تبلج الأسحار قال ابن نباتة في سرح
العيون في شرح رسالة ابن زيدون : لبعض الأدباء
____________________
اعتراضٌ في قوله : بالصبح قبل
تبلج الأسحار فإن الصبح لا يكون إلا بعد تبلج الأسحار .
أجيب بأقوالٍ منها : أن الصبح هنا الحق الواضح من وصفه الذي هو كالصبح لأنها تندبه
بخلاله الحسنة الواضحة . انتهى .
وقيس بن زهير : جاهليٌّ وهو صاحب الحروب بين عبس وذبيان بسبب الفرسين : داحس
والغبراء كما تقدم . وكان فارساً شاعراً داهية يضرب به المثل فيقال : أدهى من قيس
.
ولما طال الحرب ومل أشار على قومه بالرجوع إلى قومهم ومصالحتهم فقالوا : سر نسر
معك .
فقال : لا ولله لا نظرت في وجهي ذبيانيةٌ قتلت أباها أو أخاها أو زوجها أو ولدها .
وتقدم ذكر الصلح في شرح معلقة زهير بن أبي سلمى .
ثم خرج على وجهه حتى لحق بالنمر بن قاسط وتزوج منهم وأقام عندهم مدة ثم رحل إلى
عمان فأقام بها حتى مات .
وقيل : إنه خرج هو وصاحبٌ له من بني أسد عليهما المسوح يسيحان في الأرض ويتقوتان
مما تنبت إلى أن دفعا في ليلةٍ باردة إلى أخبيةٍ لقومٍ وقد اشتد بهما الجوع فوجدا
رائحة شواءٍ فسعيا يريدانه فلما قاربا أدركت قيساً شهامة النفس
____________________
والأنفة فرجع وقال لصاحبه :
دونك وما تريد فإن لي لبثاً على هذه الأجارع أترقب داهية القرون الماضية . فمضى
صاحبه ورجع من الغد فوجده قد لجأ إلى شجرةٍ بأسفل وادٍ فنال من ورقها شيئاً ثم مات
.
فأنظور هو قطعةٌ من بيت وهو : ) ( وأنني حيثما يثني الهوى بصري ** من حوثما سلكوا
أدنو فأنظور ) أي : فأنظر . وتقدم الكلام عليه في الشاهد الحادي عشر من أوائل
الكتاب .
وأنشد بعده : ينباع وهذا أيضاً قطعةٌ من بيت تقدم في الشاهد الثاني عشر بعد بيت
فأنظور وهو : الكامل ( ينباع من ذفرى غضوبٍ جسرةٍ ** زيافةٍ مثل الفنيق المقرم )
أي : ينبع . والذفرى : الموضع الذي يعرق من الإبل خلف الأذن . والغضوب : الناقة
العبوس الصعبة الشديدة الرأس . والجسرة : الجاسرة في السير .
____________________
والزيافة : المتبخترة . والفنيق : الفحل المكرم لا يركب لكرامته عند أهله .
والمقرم بضم الميم وفتح الراء : البعير الذي لا يحمل عليه ولا يذلل وإنما هو
للفحلة .
وتقدم الكلام هناك مفصلاً عليه .
وأنشد بعده الطويل وما كدت آيباً هو قطعة من بيت هو : ( فأبت إلى فهمٍ وما كدت
آيباً ** وكم مثلها فارقتها وهي تصفر ) على أن أصل خبر كاد الاسم المفرد كما في
البيت .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : استعمل الاسم الذي هو الأصل المرفوض الاستعمال
موضع الفعل الذي هو فرعٌ وذلك أن قولك : كدت أقوم أصله كدت قائماً ولذلك ارتفع
المضارع أي : لوقوعه موقع الاسم فأخرجه على أصله المرفوض كما يضطر الشاعر إلى مراجعة
الأصول عن مستعمل الفروع نحو صرف ما لا ينصرف وإظهار التضعيف وتصحيح المعتل وما
جرى مجرى ذلك .
ونحوٌ من ذلك ما جاء عنهم من استعمال خبر عسى على أصله : الرجز
____________________
( أكثرت في العذل ملحاً دائما
** لا تكثرن إني عسيت صائما ) وهذه هي الرواية الصحيحة في هذا البيت أعني قوله وما
كدت آيباً . وكذلك وجدتها في )
شعر هذا الرجل بالخط القديم وهو عتيدٌ عندي إلى الآن . والمعني عليه البتة .
ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب كقولك : سلمت وما كدت أسلم . وكذلك كل ما يلي
هذا الحرف من قبله ومن بعده يدل على ما قلنا .
وأكثر الناس يروي : ولم أك آئباً ومنهم من يروي : وما كنت آئبا . والصواب الرواية
الأولى إذ لا معنى هنا لقولك : وما كنت ولا للم أك . وهذا واضحٌ . انتهى .
وقال مثله في الخصائص في باب امتناع العرب من الكلام بما يجوز في القياس قال :
وإنما يقع ذلك في كلامهم إذا استغنت بلفظ عن لفظ كاستغنائهم بقولهم : ما أجود
جوابه عن قولهم : ما أجوبه . أو لأن قياساً آخر عارضه فعاق عن استعمالهم إياه
كاستغنائهم بكاد زيد يقوم عن قولهم : كاد زيد قائماً أو قياماً . وربما خرج ذلك في
كلامهم .
قال تأبط شراً : فأبت إلى فهم وما كدت آئباً هكذا صحة رواية هذا البيت . وكذلك هو
في شعره . فأما رواية من لا يضبطه : وما كنت آئباً ولم أك آئباً فلبعده عن ضبطه .
ويؤكد ما رويناه نحن مع وجوده في الديوان أن المعنى عليه .
____________________
ألا ترى أن معناه فأبت وما كدت أؤوب . فأما ما كنت فلا وجه لها في هذا الموضع .
انتهى .
ومراده من هذا التأكيد : الرد على أبي عبد الله النمري في شرح الحماسة وهو أول
شارحٍ لها وقد تحرفت عليه هذه الكلمة وهذه عبارته : أبت : رجعت . وفهم : قبيلة .
والهاء في قوله : وكم مثلها راجعةٌ إلى هذيل .
وقوله : وهي تصفر قيل معناه أي : تتأسف على فوتي . هذا كلامه . وقد رد عليه أبو
محمد الأعرابي أيضاً فيما كتبه على شرحه قال : سألت أبا الندى عنه قال : معناه كم
مثلها فارقتها وهي تتلهف كيف أفلت . قال : والرواية الصحيحة وما كدت آئباً .
والهاء راجعة في فارقتها إلى فهم . قال : ورواية من روى : ولم أك آئباً خطأٌ .
وفهمٌ : ابن عمرو بن قيس عيلان . انتهى كلامه .
قال التبريزي : قد تكلم المرزوقي على اختيار ابن جني هذه الرواية رداً عليه ولم
ينصفه وقال : قوله ولم أك آئباً أي : رجعت إلى قبيلتي فهمٍ وكدت لا أؤوب لمشارفتي
التلف . )
ويجوز أن يريد : ولم أك آئباً في تقديرهم وظنهم . ويروى : ولم آل آئباً بمد الهمزة
واللام أي : لم أدع جهدي في الإياب . والأول أحسن . انتهى .
وقد أورد ابن عصفور هذا البيت في كتاب الضرائر قال : ومنه وضع الاسم موضع الفعل
الواقع في موضع خبر كاد وموضع أن والفعل الواقع في موضع خير عسى نحو قول تأبط شراً
: وقول الآخر :
____________________
لا تكثرن إني عسيت صائما كان
الوجه أن يقول : وما كدت أؤوب وإني عسيت أن أصوم إلا أن الضرورة منعت من ذلك .
وقولهم في المثل : عسى الغوير أبؤساً شاذ يحفظ ولا يقاس عليه . انتهى .
وقال ابن المستوفي وغيره : قوله إلى فهم أي : إلى عقل . وقيل إلى قبيلتي التي هي
فهم . وهذا أولى . انتهى .
ورجوع الضمير من مثلها إلى فهم غير مناسب والمناسب رجوعه إلى لحيان وهي قبيلة من
هذيلٍ في قوله : ( أقول للحيان وقد صفرت لهم ** وطابي ويومي ضيق الحجر معور )
ويجوز أن يرجع إلى الحالة التي صدرت منه حين أحاط به بنو لحيان وأرادوا قتله فتحيل
ونجا منهم .
وعبر عنه ابن المستوفي بقوله : أي : المحنة أو الخطة أو المنة . وكم : مبتدأ وجملة
: فارقتها هو الخبر وجملة : وهي تصفر حالية ومثلها : بالجر : مميزكم الخبرية .
قال ابن المستوفي : قرأت على شيخنا أبي الحرم مكي : وكم مثلها بجر مثلها ورفعها
ونصبها .
والنصب على أن تكون كم مبهمة بالاستفهامية ويكون مثلها : صفة لنكرة محذوفة تقديرها
: كم مرة مثلها فارقتها . هذا كلامه فتأمله .
____________________
وقد أنت مثلاً لإضافته إلى ضمير المؤنث بدليل عود الضمير إليه من فارقتها مؤنثاً .
قال ابن جني : أنت المثل حملاً على المعنى لما كان المراد به الحال والصورة التي
ذكرها . وقد جاء في التنزيل : فله عشر أمثالها لما كان المراد عشر حسنات أمثالها
وتأنيث المذكر أغلط من تذكير المؤنث لأنه مفارقة أصل إلى فرع وفي ما ورد من تأنيث
نحو هذا دليلٌ على قوة إقامة الصفة مقام الموصوف حتى كأن الموصوف حاضر . )
ولولا أن ذلك كذلك لما جاز تأنيث المثل لكن دل جواز تأنيثه على قوة إرادة موصوفه .
فاعرف ذلك فإنه هو غرض هذا الفصل . انتهى .
وقوله : تصفر قال ابن هشام في شرح الشواهد أراد بالصفير النفخ عند الندم . ونقل
ابن المستوفي عن أبي محمد القاسم بن محمد الديمرتي أن المعنى لما أعجزتها جعلت
تصفر خجلاً .
قال : ومن عادة العرب إذا فاتهم أن يقولوا : هو هو ثم يصفروا وراءه يريدون بعد
البعد .
انتهى .
والبيت من أبيات لتأبط شراً تقدم شرحها في الشاهد الثامن والستين بعد الخمسمائة .
وكان بنو لحيان من هذيل أخذوا عليه طريق جبل وجدوه فيه يشتار عسلاً لم يكن له طريق
غيره وقالوا : استأسر أو نقتلك فكره أن يستأسر فصب ما معه
____________________
من العسل على الصخر ووضع صدره
عليه حتى انتهى إلى الأرض من غير طريق فصار بينه وبينهم مسيرة ثلاثة أيام ونجا
منهم . فحكى الحكاية في الأبيات .
وأولها : ( إذا المرء لم يحتل وقد وجد جده ** أضاع وقاسى أمره وهو مدبر ) ( ولكن
أخو الحزم الذي ليس نازلاً ** به الخطب إلا وهو للقصد مبصر ) ( فذاك قريع الدهر ما
عاش حولٌ ** إذا سد منه منخرٌ جاش منخر ) قال ابن هشام في شرح الشواهد : ومن محاسن
أهل الأدب أن محيي الدين ابن قرناس قال بحضرة شرف الدين الحلي ملغزاً في الشبابة :
الطويل ( وناطقةٍ خرساء بادٍ شجونها ** تكنفها عشرٌ ومنهن تخبر ) ( يلذ إلى
الأسماء رجع حديثها ** إذا سد منها منخرٌ جاش منخر ) فأجابه في الحال : الطويل وفي
الموضعين تضمين . تتمة ما أورده الشارح المحقق على البصريين في قولهم : رفع
المضارع لوقوعه موقع الاسم قد أجاب عنه صاحب اللباب قال فيه : وأما مرفوع الفعل
فهو المضارع الواقع بحيث يصح وقوع الاسم )
إما مجرداً أو مع حرف لا يكون عاملاً فيه في نحو : زيد يضرب وسيضرب ويضرب الزيدان
.
____________________
لأن مبدأ الكلام لا يتعين للفعل دون الاسم ونحو : كاد زيد يقوم الأصل فيه الاسم
وقد عدل إلى لفظ الفعل لزوماً لغرض . وقد استعمل الأصل المرفوض فيمن روى قوله :
وما كدت آئباً .
انتهى .
واحتزر بقوله لا يكون عاملاً عما إذا كان مع حرف عاملٍ نحو : زيد لم يضرب أو لن
يضرب .
وقوله : لأن مبدأ الكلام . إلخ هذا جواب عن سؤال مقدر وهو أن يضرب في يضرب الزيدان
مرفوع مع أنه ليس بواقعٍ موقع الاسم إذ لا يجوز ابتداء ضاربٌ الزيدان من غير
اعتمادٍ على شيء .
فأجاب بأن هذا الكلام من حيث هو كلامٌ لا يتعين أن يكون فعلاً دون اسم بل جاز أن
يكون ابتداء الكلام اسماً على الجملة فصدق أنه واقعٌ موقع الاسم على الإطلاق أي :
موقعاً وقوله : ونحو كاد زيد يقوم إلخ هذا أيضاً إيرادٌ وجوابٌ . أما لإيراد فهو
أن خبر كاد يلزم أن يكون فعلاً وهو أن كاد موضوع لمقاربة وقوع فعلٍ فحق خبره أن
يكون فعلاً مضارعاً فلا يكون خبره اسماً فينبغي أن لا يرتفع لأن ارتفاعه لوقوعه
موقع الاسم والاسم لا يقع خبراً لكاد .
وأجاب بأن أصل خبر كاد أن يكون اسماً كما في خبر كان ولذلك استعمل ذلك الأصل
المرفوض في البيت فالفعل واقعٌ موقع الاسم نظراً إلى الأصل .
وقد بسط الكلام على مذهب الفريقين ابن الأنباري في مسائل الخلاف فلا بأس بإيراده
قال : اختلف مذهب الكوفيين في رفع المضارع فذهب الأكثرون إلى أنه يرتفع لتعريه من
العوامل الناصبة والجازمة .
وذهب الكسائي إلى أنه يرتفع بالزائد في أوله . وذهب البصريون إلى أنه يرتفع لقيامه
مقام الاسم .
واحتج الكوفيون بأن المضارع إذا دخل عليه ناصب نصبه أو جازم جزمه وإذا خلا منهما
ارتفع فعلمنا أنه بدخولهما ينصب ويجزم وبسقوطهما عنه يرفع .
____________________
قالوا : ولا يجوز أن يكون مرفوعاً لقيامه مقام الاسم لأنه لو كان كذلك لكان ينبغي
أن ينصب ثم كيف يأتيه الرفع لقيامه مقام الاسم والاسم يكون مرفوعاً ومنصوباً
ومخفوضاً ولو كان )
كذلك لوجب أن يعرب بإعراب الاسم ولوجب أن لا يرتفع في : كاد زيد يقوم لأنه لا يجوز
: كاد زيد قائماً .
واحتج البصريون بوجهين : أحدهما : أن قيامه مقام الاسم عاملٌ معنويٌّ يشبه
الابتداء والابتداء يوجب الرفع وكذا ما أشبهه .
وثانيهما : أن بقيامه مقام الاسم قد وقع في أقوى أحواله فوجب أن يعطى أقوى الإعراب
وهو الرفع .
وإنما لم يرفع الماضي مع جواز قيامه مقام الاسم لأنه ما استحق أن يكون معرباً بنوع
من الإعراب فصار قيامه بمنزلة عدمه .
وأما قول الكوفيين إنه يرتفع بالتعري من العوامل الناصبة والجازمة فهو فاسد لأنه
يؤدي إلى أن يكون الرفع بعد النصب والجزم ولا خلاف بين النحويين أن الرفع قبلهما
وذلك أن الرفع صفة الفاعل والنصب صفة المفعول فكما أن الفاعل قبل المفعول ينبغي أن
يكون الرفع قبل النصب .
وإذا كان الرفع قبل النصب فلأن يكون قبل الجزم من طريق الأولى . وأما قولهم : لو
كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم إلخ فنقول : إنما لم يكن منصوباً أو مجروراً إذا
قام مقام الاسم المنصوب والمجرور لأن عوامل الأسماء لا تعمل في الأفعال .
وأما قولهم وجدنا نصبه وجزم بناصب وجازم لا يدخلان على الاسم فعلمنا أنه يرتفع من
حيث لا يرتفع الاسم قلنا : وكذلك نقول فإنه يرتفع من حيث لا يرتفع الاسم لأنه
ارتفاعه لقيامه مقام الاسم والقيام مقام الاسم ليس بعامل للرفع في الاسم .
وأما قول الكسائي إنه يرتفع بالزائد في أوله فهو فاسد من وجوه :
____________________
أحدهما : أنه كان ينبغي أن لا
يدخل عليه عوامل النصب والجزم لأنهما لا يدخلان على العوامل .
الثاني : كان ينبغي أن لا ينتصب ولا يجزم بدخولهما لوجود الزائد في أوله أبداً .
الثالث : أن هذه الزوائد بعض الفعل لا تنفصل منه في لفظ بل هي من تمام معناه فلو
علمت لزم أن يعمل الشيء في نفسه .
وأما قولهم : لو كان مرفوعاً لقيامه مقام الاسم لكان ينبغي أن لا يرتفع في كاد زيد
يقوم إلخ )
قلنا : هذا فاسد لأن الأصل كاد زيد قائماً . ولذلك رده الشاعر في الضرورة إلى أصله
في قوله : وما كدت آئباً إلا أنه لما كانت كاد موضوعة للتقريب من الحال واسم
الفاعل ليس دلالته على الحال بأولى من دلالته على الماضي عدلوا عنه إلى يفعل لأنه
أدل على مقتضى كاد ورفعوه مراعة للأصل . فدل على صحة ما ذهبنا إليه .
انتهى كلامه باختصار . وفيه مواضع تحتمل المناقشة لا تخفى على المتأمل .
____________________
( النواصب ) أنشد فيه ( الشاهد
الثامن والثلاثون بعد الستمائة ) الطويل ( وددت وما تغني الودادة أنني ** بما في
ضمير الحاجبية عالم ) على أن أن المفتوحة يجوز أن تقع بعد فعل غير دالٍ على العلم
واليقين كما في البيت . خلافاً للزمخشري في مفصله فإن وددت بمعنى تمنيت .
قال ابن درستويه في شرح فصيح ثعلب : وددته بالكسر أوده بالفتح . بمعنى ومقته أمقه
.
وكذلك : وددت أنه كذا إذا تمنيته لأنه أيضاً من المقة والمحبة . انتهى .
والزمخشري قال في الحروف المشبهة بالفعل وهذا نصه : فصلٌ : والفعل الذي يدخل على
المفتوحة مشددة أو مخففة يجب أن يشاكلها في التحقيق . فإن لم يكن كذلك نحو : أطمع
وأرجون وأخاف فليدخل على أن الناصبة للفعل . وما فيه وجهان : كظننت وحسبت وخلت فهو
داخلٌ عليهما جميعاً . انتهى بحذف الأمثلة .
وقد جاراه ابن يعيش في شرحه ولم بنتقده بشيءٍ قال : قد تقدم أن أن المفتوحة
معمولةٌ لما قبلها وأن معناها التأكيد والتحقيق مجراها في ذلك مجرى
____________________
المكسورة . فيجب لذلك أن يكون
الفعل الذي تبنى عليه مطابقاً لها في المعنى بأن يكون من أفعال العلم واليقين
ونحوهما بما معناه الثبوت والاستقرار ليتطابق في المعنى العامل والمعمول ولا
يتناقضا .
وحكم المخففة من الثقيلة في التأكيد والتحقيق حكم الثقيلة لأن الحذف إنما يكون
لضربٍ من التخفيف فهي لذلك في حكم الثقيلة فلذلك لا يدخل عليها من الأفعال إلا ما
يدخل على المثقلة . هذا كلامه . )
والبيت أول أبيات أربعة أوردها أبو تمام في الحماسة لكثير عزة . وهي بعد الأول : (
فإن كان خيراً سرني وعلمته ** وإن كان شراً لم تلمني اللوائم ) ( وما ذكرتك النفس
إلا تفرقت ** فريقين : منها عاذرٌ لي ولائم ) ( فريقٌ أبى أن يقبل الضيم عنوةً **
وآخر منها قابل الضيم راغم ) وقوله : وما تغني الودادة أي : تنفع جملة معترضة بين
وددت وبين معموله وهو أنني . . . . إلخ .
والحاجبية : هي عزة محبوبة كثير واشتهر بالإضافة إليها فيقال كثير عزة بفتح العين
المهملة وتشديد الزاي . والحاجبية : نسبةٌ إلى أحد أجدادها .
قال ابن الكلبي : عزة بنت حميل بضم المهملة ابن حفص بفتحها من بني حاجب ابن غفار
بكسر المعجمة . وتقدم الكلام عليها في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
قال الطبرسي في شرح الحماسة : يقول : تمنيت أني عالمٌ بما ينطوي عليه
____________________
قلب هذه المرأة لي .
والودادة بكسر الواو وفتحها .
وقوله : فإن كان خيراً إلخ أي : فإن كان ما تضمره لي وداً صافياً سرني ذلك وإن كان
ما تضمره إعراضاً وجفاءً قتلت نفسي وأرحتها من لوم اللائمات . أو يريد : سلوت
فاسترحت مما ألام فيه من حب من لا يحبني . وهذا الأخير عن البياري . وعلمته بمعنى
عرفته ولذلك اكتفى بمفعول واحد .
وقوله : وما ذكرتك النفس إلخ أي : ما ذكرتك إلا تفرقت نفسي فريقين : ففريق يعذرني
يقول : إن مثلها في جمالها وكمالها يحب . وفريق يلومني يقول : لم تحب من لا يحبك
ولا تصل إليه والضيم : الظلم . والعنوة بالفتح القهر . وراغم : ذليل ملصق أنفه
بالرغام وهو التراب .
وترجمة كثير قد تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وكان مشوه الخلق دميماً مفرط القصر كان يقال له : زب الذباب وهجاه بعض الشعراء
بقوله : الطويل
____________________
روى صاحب الأغاني بسنده أن
عمر بن أبي ربيعة المخزومي قدم المدينة لأمر فأقام شهراً ثم خرج إلى مكة وخرج معه
الأحوص معتمراً . قال السائب راوية كثير : فلما مر بالروحاء استتلياني فخرجت
أتلوهما حتى لحقتهما بالعرج فخرجنا جميعاً حتى وردنا ودان .
فحبسهما نصيب وذبح لهما وأكرمهما وخرجنا وخرج معنا نصيب فلما جئنا إلى منزل )
كثير فقيل لنا : قد هبط قديداً . فجئنا قديداً فقيل لنا : إنه في خيمةٍ من خيامها
فقال لي ابن أبي ربيعة : اذهب فادعه لي . فقال نصيب : هو أحمق أشد كبراً من أن
يأتيك . فقال لي عمر : اذهب كما أقول لك .
فجئته فهش لي وقال : اذكر غائباً تره لقد جئت وأنا أذكرك . فأبلغته رسالة عمر فحدد
لي نظره ثم قال : أما كان عندك من المعرفة بي ما كان يردعك عن إتياني بمثل هذا
فقلت : بلى ولكن سترت عليك فأبى الله إلا أن يهتك سترك . قال : إنك والله يا ابن
ذكوان ما أنت من شكلي قل لابن أبي ربيعة : إن كنت قرشياً فإني قرشي فقلت : ألا
تترك هذا التلصق .
____________________
فقال : والله لأنا أثبت فيهم منك في دوس . ثم قال : وقل له إن كنت شاعراً فأنا
أشعر منك .
فقلت : هذا إذا كان الحكم إليك . قال : وإلى من هو ومن أولى به مني فرجعت إلى القوم
فأخبرتهم فضحكوا ثم نهضوا معي إليه فدخلنا عليه في خيمةٍ فوجدناه جالساً على جلد
كبش فوالله ما أوسع للقرشي فتحدثوا ملياً ثم أفضوا في ذكر الشعر . فأقبل على عمر
فقال له : أنت تبعت امرأة فتنسب بها ثم تدعها فتنسب بنفسك .
أخبرني عن قولك : المنسرح ( قالت تصدي له ليعرفنا ** ثم اغمزيه يا أخت في خفر ) (
قالت لها : قد غمزته فأبى ** ثم اسبطرت تشتد في أثري ) ( وقولها والدموع تسبقها **
لنفسدن الطوف في عمر ) أتراك لو وصفت بهذا الشعر هرة أهلك ألم تكن قد قبحت وأسأت
لها وقلت الهجر إنما توصف الحرة بالحياء والإباء والبخل والامتناع كما قال هذا
وأشار للأحوص : الطويل ( أدور ولولا أن أرى أم جعفرٍ ** بأبياتكم ما درت حيث أدور
) ( وما كنت زواراً ولكن ذا الهوى ** إذا لم يزر لا بد أن سيزور ) ( لقد منعت
معروفها أم جعفر ** وإني إلى معروفها لفقير ) فدخلت الأحوص الأبهة وعرفت الخيلاء
فيه فلما عرف كثير ذلك منه قال له : أبطل أخزاك الله وأذلك . أخبرني عن قولك :
الوافر
____________________
( فإن تصلي أصلك وإن تبيني **
بصرمك بعد وصلك لا أبالي ) أما والله لو كنت فحلاً لباليت ألا قلت كما قال هذا
الأسود وأشار إلى نصيبٍ : الطويل ) ( بزينب ألمم قبل أن يرحل الركب ** وقل إن
تملينا فما ملك القلب ) فانكسر الأحوص وذخلت نصيباً الأبهة فلما فهم ذلك منه قال :
وأنت يا أسود أخبرنا عن قولك : الطويل ( أهيم بدعدٍ ما حييت وإن أمت ** فواكبدي من
ذا يهيم بها بعدي ) أهمك من ينيكها بعدك . فأبلس نصيب . فلما سكت كثير أقبل عليه
عمر فقال : قد أنصتنا لك فاستمع أخبرني عن قولك لنفسك وتخيرك لمن تحب حيث تقول :
الطويل ( ألا ليتنا يا عز من غير ريبةٍ ** بعيران نرعى في الخلا ونعزب ) ( كلانا
به عرٌّ فمن يرنا يقل ** على حسنها جرباء تعدي وأجرب ) ( إذا ما وردنا منهلاً صاح
أهله ** علينا فما ننفك نرمى ونضرب ) ( وددت وبيت الله أنك بكرةٌ ** هجانٌ وأني
مصعبٌ ثم نهرب ) ( نكون بعيري ذي غنًى فيضيعنا ** فلا هو يرعانا ولا نحن نطلب )
____________________
ويلك تمنيت لها ولنفسك الرق
والجرب والرمي والطرد والمسخ فأي مكروهٍ لم تتمن لها ولنفسك ولقد أصابها منك قول
الأول : معاداة عاقل خير من مودة أحمق . فجعل يختلج ( وقلن وقد يكذبن : فيك تعففٌ
** وشؤمٌ إذا ما لم تطع صاح ناعقه ) ( فأعييتنا لا وأخياً بكرامةٍ ** ولا تاركاً
شكوى الذي أنت صادقه ) ( وأدركت صفو الود منا فلمتنا ** وليس لنا ذنبٌ فنحن مواذقه
) ( وألفيتنا سلماً فصدعت بيننا ** كما صدعت بين الأديم خوالقه ) والله لو احتفل
عليك هاجيك ما زاد على ما بؤت به على ما في نفسك ثم أقبل عليه نصيبٌ فقال : أقبل
علي يا زب الذباب فقد تمنيت معرفة غائب عنك علمه حيث تقول : ( وددت وما تغني
الودادة أنني ** بما في ضمير الحاجبية عالم ) انظر ما في مرآتك واعرف صورة وجهك
تعرف ما عندها لك فاضطرب اضطراب العصفور وقام القوم يضحكون .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثلاثون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
البسيط
____________________
أن هالكٌ كل من يحفى وينتعل
في فتيةٍ كسيوف الهند قد علموا على أن أن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن محذوف
وهالك : خبر مقدم وكل : مبتدأ مؤخر والجملة خبرها .
وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين على أن
أن مخففة واسمها ضمير شأن كما في البيت .
قال السيرافي : وفي كتاب أبي بكر مبرمان : هذا المصراع معمول أي : مصنوع والثابت
المروي : أن ليس يدفع عن ذي الحيلة الحيل قال : والشاهد في كلتا الروايتين واحد
لأنه في إضمار الهاء في أن وتقديره : أنه هالك وأنه ليس يدفع . انتهى .
قال ابن المستوفي : والذي ذكره السيرافي صحيح ولا شك أن النحويين غيروه ليقع الاسم
بعد أن المخففة مرفوعاً وحكمه أن يقع بعد أن المثقلة منصوباً فلما تغير اللفظ تغير
الحكم . انتهى .
____________________
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون وقبله : ( وقد غدوت إلى الحانوت يتبعني ** شاو مشلٌّ
شلولٌ شلشلٌ شول ) وغدوت : ذهبت غدوة وهي ما بين صلاة الصبح وطلوع الشمس هذا أصله
ثم كثر حتى والحانوت : بيت الخمار يذكر ويؤنث . وجملة : يتبعني حالٌ من التاء في
غدوت . والشاوي : الذي يشوي اللحم . والمشل بكسر الميم وفتح الشين : المستحث
والجيد السوق وقيل الذي يشل اللحم في السفود من شللت الثوب إذا خطته خياطة . كذا
قال ابن السيرافي .
والشلول بفتح الشين مثل المشل ويروى : نشول بفتح النون وهو الذي يأخذ اللحم من
القدر يقال منه نشل ينشل . والشلشل بضم الشينين كقنفذ : الخفيف اليد في العمل
والمتحرك . والشول : بفتح فكسر مثل الشلشل وقيل هو الذي عادته ذلك .
وقال الخطيب التبريزي في شرح هذه القصيدة : الشول هو الذي يحمل الشيء يقال : شلت
به وأشلته . وقيل هو من قولهم : فلانٌ يشول في حاجته أي : يعنى بها ويتحرك فيها .
ومن روى : )
شول بضم الشين وفتح الواو فهو بمعناة إلا أنه للتكثير .
وروى بدله : شمل أيضاً بفتح فكسر وهو الطيب النفس والرائحة . يقول : بكرت إلى بيت
الخمار ومعي غلامٌ شواءٌ طباخ خفيف في الخدمة .
____________________
ويشبه هذا البيت قول أبي الطيب المتنبي وهو : الطويل ( فقلقلت بالهم الذي قلقل
الحشا ** قلاقل عيسٍ كلهن قلاقل ) قلقلت : حركت . والقلاقل : جمع قلقل . كجعفر :
الناقة الخفيفة .
وقوله : في فتية إلخ متعلق بغدوت في البيت المتقدم . وفي بمعنى مع . وقال العيني :
حالٌ من شأوٍ أو حالٌ من الياء في يتبعني . والفتية : جمع فتًى وهو الشاب .
وقوله : كسيوف الهند في محل الصفة لفتية وكذلك جملة : قد علموا يريد أنهم كالسيوف
في المضاء والعزم أو في صباحة الوجه تبرق كالسيوف . وخصها بالهند لحسن صقالتها .
وجملة المصراع الثاني في محل نصب على أنه سادٌّ مسد مفعولي علموا .
ويحفى بالحاء المهملة من الحفاء وهو المشي بلا نعل ولا خفٍّ . وأراد به الفقير .
وينتعل : يلبس النعل وأراد به الغني .
يريد قد علم هؤلاء الفتيان أن الموت يعم فقيرهم وغنيهم فهم يبادرون إلى اللذات قبل
أن يحول الموت بينها وبينهم كما قيل : الطويل ( خذوا بنصيبٍ من نعيمٍ ولذةٍ **
فكلٌّ وإن طال المدى يتصرم ) والبيتان من قصيدة جيدة للأعشى وهي أحسن شعره وقد
ألحقت بالمعلقات السبع .
وقد شرحها الخطيب التبريزي مع المعلقات وأولها : ( ودع هريرة إن الركب مرتحل **
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل )
____________________
نقل الخطيب عن أبي عبيدة أنه
قال : هريرة : قينةٌ كانت لرجل من آل عمرو بن مرثد أهداها وقد قال في هذه القصيدة
: جهلاً بأم خليدٍ حبل من تصل انتهى .
وقيل : إن هريرة وخليدة أختان كانتا قينتين لبشر بن عمرو وكانتا تغنيانه وقدم بهما
إلى اليمامة لما هرب من النعمان بن المنذر . وقيل : إن أم هريرة كانت أمةً سوداء
لحسان بن عمرو )
كان الأعشى يشبب بها .
وقيل : إن الأعشى سئل عن هريرة فقال : لا أعرفها وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي .
ونقل صاحب الأغاني عن الشعبي أنه قال : الأعشى أغزل الناس في بيت وأخنث الناس في
بيت وأشجع الناس في بيت والكل من هذه القصيدة .
أما الأول فقوله : ( غراء فرعاء مصقولٌ عوارضها ** تمشي الهوينى كما يمشي الوجي
الوحل ) وأما الثاني فقوله :
____________________
( قالت هريرة لما جئت زائرها
** ويلي عليك وويلي منك يا رجل ) وأما الثالث فقوله : والغراء : البيضاء الواسعة
الجبين . والفرعاء : الطويلة الفرع أي : الشعر .
والعوارض : الرباعيات والأنياب . والوجي بكسر الجيم : الذي يشتكي حافره ولم يحف .
والوحل بكسر الحاء المهملة : الذي يتوحل في الطين .
وقوله : قالوا الطراد يقول : إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا وإن نزلتم تجالدون
بالسيوف نزلنا .
وروى صاحب الأغاني بسنده قال : حدث جرير بن عبد الله البجلي الصحابي قال : سافرت
في الجاهلية فأقبلت ليلةً على بعيري أريد أن أسقيه ماءً فلما قربته من الماء تأخر
فعقلته ودنوت من الماء فإذا قومٌ مشوهون عند الماء فقعدت فبينا أنا عندهم إذ أتاهم
رجلٌ أشد تشويهاً منهم فقالوا : هذا شاعر . ثم قالوا : يا أبا فلان أنشد هذا فإنه
ضيف .
فأنشد : ودع هريرة إن الركب مرتحل
____________________
فوالله ما خرم منها بيتاً حتى
أتى على آخرها فقلت : من يقول هذه القصيدة قال : أنا أقولها . قلت : لولا ما تقول
لأخبرتك أن أعشى قيس بن ثعلبة أنشدنيها عام أول بنجران .
قال : إنك صادق . أنا الذي ألقيتها على لسانه . وأنا مسحلٌ صاحبه ما ضاع شعر شاعرٍ
وضعه عند ميمون بن قيس .
وروى صاحب الأغاني عن الأعشى قال : حدث الأعشى عن نفسه قال : خرجت أريد قيس بن
معديكرب بحضرموت فضللت في أوائل أرض اليمن لأني لم أكن سلكت ذلك الطريق قبل )
فأصابني مطرٌ فرميت ببصري أطلب مكاناً ألجأ إليه فوقعت عيني على خباء من شعر فقصدت
نحوه وإذا أنا بشيخ على باب الخباء فسلمت عليه فرد علي السلام وأدخل ناقتي خباءً
آخر كان بجانب البيت فحططت رحلي وجلست .
فقال : من أنت وأين تقصد قلت : أنا الأعشى أقصد قيس بن معديكرب . فقال : حياك الله
أظنك امتدحته بشعر قلت : نعم . قال : فأنشدنيه . فابتدأت مطلع القصيدة : الكامل (
رحلت سمية غدوةً أجمالها ** غضباً عليك فما تقول بدا لها ) فلما أنشدته هذا المطلع
منها قال : حسبك أهذه القصيدة لك قلت : نعم . قال : من سمية التي تنسب بها قلت :
لا أعرفها وإنما هو اسمٌ ألقي في روعي . فنادى : يا سمية اخرجي .
وإذا جاريةٌ حماسية قد خرجت فوقفت وقالت : ما تريد يا أبت قال : أنشدي عمك قصيدتي
التي مدحت بها قيس بن معديكرب ونسب بك في أولها .
____________________
فاندفعت تنشد القصيدة حتى أتت على آخرها لم تخرم منها حرفاً فلما أتمتها قال :
انصرفي .
ثم قال : هل قلت شيئاً غير ذلك قلت : نعم كان بيني وبين ابن عمٍّ لي يقال له :
يزيد بن مسهر ويكنى أبا ثابت ما يكون بين بني العم فهجاني وهجوته فأفحمته . قال :
ماذا قلت فيه قال : قلت : ودع هريرة إن الركب مرتحل فلما أنشدته البيت الأول قال :
حسبك من هريرة هذه التي نسبت فيها قلت : لا أعرفها وسبيلها سبيل التي قبلها .
فنادى : يا هريرة . فإذا جاريةٌ قريبة السن من الأولى خرجت فقال : أنشدي عمك
قصيدتي التي هجوت بها أبا ثابت يزيد بن مسهر .
فأنشدتها من أولها إلى آخرها لم تخرم منها حرفاً . فسقط في يدي وتحيرت وتغشتني
رعدة .
فلما رأى ما نزل بي قال : ليفرج روعك يا أبا بصير أنا هاجسك مسحل بن أثاثة الذي
ألقى على لسانك الشعر . فسكنت نفسي ورجعت إلي وسكن المطر فدلني على الطريق وأراني
سمت مقصدي وقال : لا تعج يميناً ولا شمالاً حتى تقع ببلاد قيس .
وروى صاحب الأغاني أيضاً أن الأعشى قال هذه القصيدة ليزيد بن مسهر أبي ثابت
الشيباني .
قال أبو عبيدة : وكان من حديث هذه القصيدة أن رجلاً من بني كهف بن سعد بن مالك بن
)
ضبيعة بن قيس بن ثعلبة يقال له ضبيع قتل رجلاً من بني همام
____________________
يقال له زاهر بن سيار بن أسعد
بن همام وكان ضبيع مطروقاً ضعيف العقل فنهاهم يزيد بن مسهر وهو من بني ثعلبة بن
أسعد بن همام أن يقتلوا ضبيعاً بزاهر وقال : اقتلوا به سيداً من بني سعد بن مالك
بن ضبيعة .
فحض بني سيار بن أسعد على ذلك وأمرهم به فبلغ بني قيس ما قاله فقال الأعشى هذه
القصيدة في ذلك يأمره أن يدع بني سيار وبني كهف ولا يعين بني سيار فإنه إن أعانهم
أعانت قبائل بني قيس بني كهف . وحذره أن يلقى بنو سيارٍ منهم ما لقوا يوم العين
عين محلم بهجر .
وكان من حديث ذلك اليوم كما زعم عمر بن هلال أحد بني سعد بن قيس ابن ثعلبة أن يزيد
بن مسهر كان خالع أصرم بن عوف بن ثعلبة بن سعد بن قيس بن ثعلبة فلما خلع يزيد بن
مسهر أصرم من ماله خالعه على أن يرهنه ابنيه : أقلب وشهاباً ابني أصرم وأمهما
فطيمة بنت شرحبيل بن عوسجة بن ثعلبة بن سعد بن قيس .
وأن يزيد قمر أصرم فطلب إليه أن يدفع إليه ابنيه رهينة فأبت أمهما ذلك فنادت قومها
فحضر الناس واشتملت فطيمة على ابنيها بثوبها ودافع قومها عنهما وعنها .
فذلك قول الأعشى : البسيط
____________________
قال : فانهزم بنو سيار .
فحذر الأعشى يزيد بن مسهر مثل تلك الحالة .
قال أبو عبيدة : وذكر عامرٌ ومسمع عن قتادة الفقيه أن رجلين من بني مروان تنازعا
في هذا الحديث فجردوا رسولاً في ذلك إلى العراق حتى قدم الكوفة فسأل فأخبر أن
فطيمة من بني سعد بن قيس وأنها كانت عند رجل من بني سيار وله امرأة غيرها من قومه
.
فتغايرتا فعمدت السيارية فحلقت ذوائب فطيمة فاهتاج الحيان فاقتتلوا فهزمت بنو
سيارٍ يومئذ . انتهى .
وإنما نقلت هذا الفصل لأن شراح القصيدة أخلوا في شروحهم بهذه الأمور . والله أعلم
.
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الأربعون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
( ولا تدفنني في الفلاة فإنني
** أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها ) على أن مخففة لوقوعها بعد الخوف بمعنى العلم
واليقين واسمها ضمير شأن محذوف أو ضمير متكلم . وجملة : لا أذوقها في محل رفع
خبرها .
وقبله : ( إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ ** تروي عظامي بعد موتي عروقها ) وأصل
الخوف الفزع وانقباض النفس عن احتمال ضرر وإذا اشتد الخوف التحق بالمتيقن كما قال
الشارح المحقق .
قال ابن خطيب الدهشة وهو ابن مؤلف المصباح في كتاب التقريب في علم الغريب : يقال
خاف الشيء : علمه وتيقنه . انتهى .
وذلك لأن الإنسان لا يخاف شيئاً حتى يعلم أنه مما يخاف منه فهو من التعبير بالمسبب
عن السبب وليس إطلاقه عليه لأنه من لوازم اليقين كما قال الشمني فكم من يقينٍ لا
خوف منه .
وقال بعض المحققين : الخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم لأن الخوف عبارة عن حالة
مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين الظن والعلم مشابهةٌ في أمور كثيرة
____________________
فلذلك صح إطلاق كل منهما على
الآخر .
وفي تخصيصه التولد بالظن نظر لأن الخوف كما يتولد عن الظن يتولد عن العلم أيضاً .
وقال الزمخشري في تفسير قوله تعالى : فمن خاف من موص فمن توقع وعلم . وهذا في
كلامهم شائع يقال : أخاف أن ترسل السماء يريدون التوقع والظن الغالب الجاري مجرى
العلم .
وقال الدماميني في الحاشية الهندية عند قول ابن هشام في المغني : الخوف في هذا
البيت يقين : قد يقال لا يلزم من تعقل العقلاء أنه لا يذوقها بعد الموت حمل الخوف
على اليقين عند هذا الشاعر لأن استهتاره بشربها ومغالاته في محبتها أمرٌ مشهور
فلعل ذلك حمله على أنه خاف ولم يقطع بما تيقنه غيره ولذلك أمر بدفنه إلى جنب
الكرمة رجاء أنه ينال منها بعد الموت .
ومن ثم قيل إن هذا أحمق بيت قالته العرب . انتهى .
قال ابن الملا أحمد الحلبي في شرحه بعد نقل هذا الكلام : وهذا مبنيٌّ كما قال
شيخنا على أنه )
كان إذ ذاك متردداً بين ذوقها بعد الموت بتقدير دفنه إلى جنب الكرمة أو : لا
بتقدير دفنه في الفلاة . فلا علم ولا ظن . قال : وهذا احتمال لأن التعليل بقوله :
فإنني أخاف . . . . . إن كان لمجموع الأمر والنهي على معنى : فإنني أخاف أن لا
أذوقها غداً فلا علم ولا ظن فهي الناصبة أهملت .
ففي شرح الكافية للحديثي أن الخفيفة بعد فعل الخوف والرجاء ناصبة لأنه يحتمل أن
يقع وأن لا يقع وبعد الظن تحتملها والمخففة نظراً إلى الرجحان وعدمه أو على معنى
فإنني أخاف الآن بتقدير : أن لا تدفني إلى جنبها بل في الفلاة : أن لا أذوقها إذا
ما مت أو : فإنني أخاف إذا ما مت بهذا التقدير : أن لا
____________________
أذوقها . فالخوف هنا علمٌ
ويقين فهي المخففة .
وكذا إن جعل تعليلاً للنهي وحده لأنه الذي قارنه في هذا البيت على معنى فإنني أخاف
الآن أو إذا ما مت بتقدير أن تدفنني في الفلاة لا إلى جانبها أن لا أذوقها . انتهى
.
قال ابن الملا : وها هنا بحثٌ وهو أن الشاعر وإن كان من المغرمين بالصهباء
المتهتكين بها لكنه من ذوي العقول الكاملة والأنظار الصائبة فكيف يظن به أنه غير
قاطع بما يتيقنه غيره من عدم الذوق بعد الموت بل هو أمرٌ مركوز في الأذهاب غنيٌّ
عن البيان .
وإنما جرى في كلامه هذا على مذهب الشعراء في تخييلاتهم ورام سلوك جادة تمويهاتهم
فإنهم سحرة الكلام ومخترعو صور الإيهام . فأمر أولاً بدفنه بعد الموت بجانب كرمة
وأبدى عذره في ذلك بوصفها بقوله : الطويل تروي عظامي بعد موتي عروقها ليستفاد من
ذلك علة الأمر بالدفن المذكور إشارة إلى أن ما لا يدرك كله لا يترك كله وإذا تعذرت
التروية الحقيقية فلا أقل من حصول التروية المجازية .
ثم نهى ثانياً تأكيداً للأمر الأول عن دفنه لا بجنب كرمة وعلل ذلك بأنه يتيقن أنه
لا يذوقها إذا مات فلا يتروى بها حقيقة . فدفنه لا إلى جانبها مفوت للتروية
المجازية . ولمزيد شغفه بها آثر التعبير عن هذا اليقين بالخوف إيهاماً لأنه مع ذلك
لا يقطع بعدم الذوق .
وجعل رفع الفعل بعد أن معه دليلاً على ما قصده معنى . وإنما قلناك إن تروية العظام
مجازية لأن الروى حقيقةً لذوات الأكباد عن عطش وليست العظام منها .
____________________
على أنه لا عطش بعد الموت . أو لما ليست له قوة نامية . ومنه قولهم : روي النبات
من الماء . )
والعظام جماد . انتهى كلامه ومن خطه نقلت .
ويؤيد هذا رواية ابن السكيت . ( ولا تدفنني في الفلاة فإنني ** يقيناً إذا ما مت
لست أذوقها ) وعليها لا شاهد في البيت .
والبيتان أولا قصيدةٍ لأبي محجنٍ الثقفي : رواها ابن الأعرابي وابن السكيت في
ديوانه وبعدهما : ( أباكرها عند الشروق وتارةً ** يعاجلني عند المساء غبوقها ) (
وللكأس والصهباء حقٌّ معظمٌ ** فمن حقها أن لا تضاع حقوقها ) ( أقومها زقاً بحقٍّ
بذاكم ** يساق إلينا فجرها وفسوقها ) ( وعندي على شرب المدام حفيظةٌ ** إذا ما
نساء الحي ضاقت حلوقها ) ( وأمنع جار البيت مما ينوبه ** وأكرم أضيافاً قراها
طروقها ) قال ابن السكيت : قوله : إذا مت فادفني هذا خطابٌ مع ابنه يأمره بذلك
وفيه مبالغة على حبه للخمر وتعطشه إليها إذ أظهر الرغبة إليها وهو ميت .
وقوله : ولا تدفنني في الفلاة إلخ قال ابن السكيت : الفلاة : الأرض المهلكة التي
لا علم بها ولا ماء . والمعنى أن الفلاة لا يعرش فيها كرم فلا تدفنني إلا
____________________
بمكان ينبت فيه العنب حتى
أكون قريباً منه فألتذ بذلك .
وقوله : أباكرها عند الشروق إلخ . قال ابن السكيت : أي : إنني أصبحها عند شروق
الشمس ومرةً أشربها عشاءً إلا أنني أقدم شربها على العشاء فيعاجلني الغبوق .
والصبوح : شرب الغدو . والغبوق : شرب آخر النهار . وأباكرها : أبادر إليها في بكرة
النهار .
وقوله : وللكأس والصهباء إلخ . قال ابن السكيت : حقها : كونها تسر القلب . وتذهب
الهم وتسخي البخيل وتشجع الجبان إلى غير ذلك من فعلها وهذا حقٌّ لها . وإذا كان
هذا دأبها فمن حقها أن تعظم ولا تضيع حقوقها . انتهى .
وقال ابن الملا : فإن قلت : حق الكلام أن يقول : ومن حقهما أن لا يضاع حقوقهما
لادعائه أن الحق المعظم للكأس والصهباء قلت : نعم إلا أنه ذهب إلى أن الكأس
والصهباء وإن كانا ( رق الزجاج وراقت الخمر ** وتشاكلا فتشابه الأمر ) ( فكأنما
خمرٌ ولا قدحٌ ** وكأنما قدحٌ ولا خمر ) )
انتهى .
وفيه أن هذين البيتين لأبي إسحاق الصابي وهو متأخر عن أبي محجن بأكثر من ثلاثمائة
سنة .
وكان ينبغي أن يعكس .
وقوله : أقومهما زقاً إلخ . قال ابن السكيت : الزق بالكسر : ظرف الخمر .
____________________
والحق بالكسر من الإبل : ابن ثلاث سنين وكذلك الحقة وسميا بهذا الاسم لأنهما
استحقا أن يركبا .
وفجرها : فجورها . والفاجر : المائل عن الطاعة . والطاعة : الوقوف على الأوامر .
والفسوق توسيع ما ضيقه الله من أمر الدين .
وقوله : وعندي على شرب إلخ . قال ابن السكيت : الحفيظة كل شيءٍّ يغضب لأجله . يعني
وإن كنت سكران لا أهمل الحفاظ إذا استغاثت بي نساء الحي وصحن لنازلةٍ نزلت بهن .
وقوله : وأعجلن عن شد إلخ قال ابن السكيت : أي دهمهن من البلاء ما أعجلهن عن شد
المآزر في أوساطهن . ولهاً : مفعول من أجله أي : للوله الذي نزل بهن . والواله :
الذاهب العقل .
والصواب أن ولهاً حال لا مفعول من أجله .
وقوله : وأمنع جار البيت إلخ . قال ابن السكيت : قراها : أطعمها . يقول : إذا
طرقتنا الضيفان ليلاً أعجلنا لها القرى فكأن طروقها هو الذي قراها . انتهى .
وأبو محجن شاعر صحابي له سماعٌ ورواية . كذا في الاستيعاب كما يأتي .
وإنما أثبت له السيوطي في شرح أبيات المغني رواية ولم يذكر أن له سماعاً . ونفاها
أيضاً الذهبي في تاريخ الإسلام . وقال في التجريد : أبو محجن الثقفي عمرو بن حبيب
وقيل : مالك بن حبيب وقيل : عبد الله . كان فارساً شاعراً من الأبطال لكن جلده عمر
رضي الله عنه في الخمر مرات ونفاه
____________________
إلى جزيرة في البحر فهرب ولحق
بسعد وهو يحارب الفرس فحبسه . وله أخبارٌ . روى عنه أبو سعدٍ البقال . انتهى .
ورواية أبي سعد البقال عن أبي محجن إنما هو بتدليس لأنه لم يدرك عصره . وقد ذكروه
في الضعفاء .
وقيل إن اسمه أبو محجن وهي كنيته أيضاً . وهو بكسر الميم وسكون الحاء المهملة وفتح
الجيم .
وهذه ترجمته من الاستيعاب تأليف أبي عمر يوسف الشهير بابن عبد البر قال : أبو محجن
)
الثقفي اختلف في اسمه فقيل : مالك بن حبيب وقيل : عبد الله ابن حبيب بن عمرو بن
عمير أسلم حين أسلمت ثقيف . وسمع من النبي صلى الله عليه وسلم وروى عنه . حدث عنه
أبو سعدٍ البقال قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أخوف ما أخاف على
أمتي من بعدي ثلاث : إيمانٌ بالنجوم وتكذيبٌ بالقدر وحيف الأئمة .
وكان أبو محجن هذا من الشجعان الأبطال في الجاهلية والإسلام من أولي البأس والنجدة
ومن الفرسان البهم . وكان شاعراً مطبوعاً كريماً إلا أنه كان منهمكاً بالشراب لا
يكاد يقلع عنه ولا يردعه حدٌّ ولا لوم لائم . وكان أبو بكر الصديق يستعين به .
وجلده عمر بن الخطاب في الخمر مراراً ونفاه إلى جزيرة في البحر وبعث معه رجلاً
فهرب منه ولحق بسعد بن أبي وقاص بالقادسية . وهو محاربٌ للفرس . وكان قد هم بقتل
الرجل الذي بعثه عمر معه فأحس الرجل بذلك وخرج فاراً ولحق
____________________
بعمر وأخبره خبره فكتب عمر
إلى سعد بحبس أبي محجن فحبسه .
حدثنا إسحاق بن إبراهيم قال : حدثنا عبد الرزاق عن ابن جريج قال : بلغني أن عمر بن
الخطاب حد أبا محجن الثقفي سبع مرات . ذكر ذلك عبد الرزاق في باب من حد من الصحابة
في الخمر .
قال : وأخبرنا معمر عن أيوب عن ابن سيرين : قال : كان أبو محجن الثقفي لا يزال
يجلد في الخمر فلما كثر عليهم سجنوه وأوثقوه فلما كان يوم القادسية رآهم يقتتلون
فكأنه رأى أن المشركين قد أصابوا من المسلمين فأرسل إلى أم ولد سعد أو إلى امرأة
سعد يقول لها : إن أبا محجن يقول لك : إن خليت سبيله وحملته على هذا الفرس ودفعت
إليه سلاحاً ليكونن أول من يرجع إليك إلا أن يقتل .
وأنشد يقول : الطويل ( كفى حزناً أن تلتقي الخيل بالقنا ** وأترك مشدوداً علي
وثاقيا ) ( إذا قمت غناني الحديد وغلقت ** مصارع دوني قد تصم المناديا ) ( وقد كنت
ذا مالٍ كثير وإخوةٍ ** فقد تركوني واحداً لا أخا ليا ) ( وقد شف نفسي أنني كل
شارقٍ ** أعالج كبلاً مصمتاً قد برانيا ) ( فلله دري يوم أترك موثقاً ** وتذهل عني
أسرتي ورجاليا ) ) ( حبست عن الحرب العوان وقد بدت ** وإعمال غيري يوم ذاك
العواليا )
____________________
( ولله عهدٌ لا أخيس بعهده **
لئن فرجت أن لا أزور الحوانيا ) فذهبت الأخرى فقالت ذلك لامرأة سعد فحلت عنه قيوده
وحمل على فرس كان في الدار وأعطي سلاحاً ثم خرج يركض حتى لحق بالقوم فجعل لا يزال
يحمل على رجل فيقتله ويدق فنظر إليه سعدٌ فجعل يتعجب ويقول : من ذلك الفارس قال :
فلم يلبثوا إلا يسيراً حتى هزمهم الله ورجع أبو محجن ورد السلاح وجعل رجليه في
القيود كما كان .
فجاء سعد فقالت له امرأته أو أم ولده : كيف كان قتالكم فجعل يخبرها ويقول : لقينا
ولقينا حتى بعث الله رجلاً على فرسٍ أبلق لولا أني تركت أبا محجنٍ في القيود لظننت
أنها بعض شمائل أبي محجن فقالت : والله لأبو محجن كان من أمره كذا وكذا . فقصت
عليه قصته .
فدعا به وحل قيوده وقال : لا نجلدك على الخمر أبداً . قال أبو محجن : وأنا والله
لا أشربها أبداً .
كنت آنف أن أدعها من أجل جلدكم . قال : فلم يشربها بعد ذلك .
وروى صاحب الاستيعاب بسنده إلى إبراهيم بن محمد بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال :
لما كان يوم القادسية أتي سعد بأبي محجن وهو سكران من الخمر فأمر به إلى القيد
وكان سعدٌ به جراحة فلم يخرج يومئذ إلى الناس واستعمل على الخيل خالد بن عرفطة
ورفع سعدٌ فوق العذيب لينظر إلى الناس فلما التقى الناس قال أبو محجن :
____________________
كفى حزناً أن تردي الخيل
بالقنا . . . . . . . . . . الأبيات السابقة فقال لابنة خصفة امرأة سعد : ويحك
خليني ولك علي إن سلمني الله أن أجيء حتى أضع رجلي في القيد وإن قتلت استرحتم مني
.
فخلته فوثب على فرس لسعدٍ يقال لها : البلقاء ثم أخذ الرمح ثم انطلق حتى أتى الناس
فجعل لا يحمل في ناحيةٍ إلا هزمهم فجعل الناس يقولون : هذا ملكٌ : وسعد ينظر فجعل
سعد يقول : الضبر ضبر البلقاء والطعن طعن أبي محجن وأبو محجن في القيد فلما هزم
العدو رجع أبو محجن حتى وضع رجله في القيد فأخبرت ابنة خصفة سعداً بالذي كان من
أمره . فقال : لا والله ما أبلى أحدٌ من المسلمين ما أبلى في هذا اليوم لا أضرب
رجلاً أبلى في المسلمين ما أبلى قال : فخلى سبيله .
وقال أبو محجن : كنت أشربها إذ يقام علي الحد وأطهر منها فأما إن بهرجتني فوالله
لا أشربها )
أبداً .
ومن رواية أهل الأخبار أن ابناً لأبي محجن دخل على معاوية فقال له معاوية : أبوك
الذي يقول : إذا مت فادفني إلى جنب كرمةٍ . . . . . . . الأبيات المتقدمة فقال له
ابنه : لو شئت ذكرت أحسن من هذا من شعره . قال : وما ذاك قال :
____________________
قوله : البسيط ( لا تسأل
الناس من مالي وكثرته ** وسائل الناس عن حزمي وعن خلقي ) ( قد يعلم الناس أني من
سراتهم ** إذا تطيش يد الرعديدة الفرق ) ( قد أركب الهول مسدولاً عساكره ** وأكتم
السر فيه ضربة العنق ) وزاد بعضهم في هذه الأبيات : البسيط ( وأطعن الطعنة النجلاء
قد علموا ** تنفي المسابير بالإزباد والفهق ) ( عف المطالب عما لست نائله ** وإن
ظلمت شديد الحقد والحنق )
____________________
( وقد أجود وما مالي بذي فنعٍ
** وقد أكر وراء المجحر البرق ) ( قد يقتر المرء يوماً وهو ذو حسبٍ ** وقد يثوب
سوام العاجز الحمق ) ( ويكثر المال يوماً بعد قلته ** ويكتسي العود بعد الجدب
بالورق ) فقال له معاوية : لئن أسأنا لك القول لنجزل لك العطية . ثم أجزل جائزته
وقال : إذا ولدت النساء فلتلد مثلك وزعم الهيثم بن عدي أنه أخبره من رأى قبر أبي
محجن الثقفي بأذربيجان أو قال : في نواحي جرجان وقد نبتت عليه ثلاث أصول كرم وقد
طالت وأثمرت وهي معرشة على قبره مكتوب على القبر : هذا قبر أبي محجن قال : فجعلت
أتعجب وأذكر قوله : إذا مت فادفني إلى جنب كرمة هذا ما اخترته من الاستيعاب .
وروى ابن الأعرابي في شرح ديوان أبي محجن عن ابن الكلبي أنه قال : أخبرنا عوانة
قال : دخل أبوك الذي يقول من قصيدة : إذا مت فادفني إلى جنب كرمة
____________________
فقال : يا أمير المؤمنين ولكن
أبي الذي يقول : لا تسأل القوم عن مالي وكثرته . . . . . . إلى آخر الأبيات
المذكورة )
ونقل ابن حجر في الإصابة عن ابن فتحون فيما كتبه على أوهام الاستيعاب أنه عاب أبا
عمر على ما ذكر في قصة أبي محجن أنه كان منهكماً في الشراب فقال : كان يكفيه ذكر
حده عليه والسكوت عنه أليق .
والأولى في أمره ما أخرجه سيف في الفتوح : أن امرأة سعدٍ سألته فيما حبس فقال :
والله ما حبست على حرام أكلته ولا شربته ولكني كنت صاحب شراب في الجاهلية فجرى
كثيراً على لساني وصفها فحبسني بذلك فأعلمت بذلك سعداً فقال : اذهب فما أنا
بمؤاخذك بشيء تقوله حتى تفعله .
قال ابن حجر : وسيفٌ ضعيف والروايات التي ذكروها أقوى وأشهر . وأنكر ابن فتحون قول
من روى أن سعداً أبطل عنه الحد وقال : لا يظن هذا بسعد ثم قال : لكن له وجه حسن
ولم يذكروه .
وكأنه أراد أن سعداً أراد بقوله لا يخلده في الخمر بشرطٍ أضمره وهو إن ثبت عليه
أنه يشربها .
فوفقه الله أن تاب توبةً نصوحاً فلم يعد إليها كما في بقية القصة .
وقوله في القصة : الضب ضبر البلقاء هو بالضاد المعجمة والباء الموحدة : عدو الفرس
. ومن قاله بالصاد المهملة فقد صحف . نبه عليه ابن فتحون . تتمة سماه الآمدي في
المؤتلف والمختلف على خلاف ما تقدم مع بعض تغيير في أسماء آبائه : قال هو حبيب بن
عمرو بن عمير بن عوف بن عقدة بن غيرة الثقفي .
____________________
وهو شاعرٌ فارس وهو القائل : المنسرح ( لما رأينا خيلاً محجلةً ** وقوم بغيٍ في
جحفلٍ لجب ) ( طرنا إليهم بكل سلهبةٍ ** وكل صافي الأديم كالذهب ) ( وكل عراصةٍ
مثقفةٍ ** فيها سنانٌ كشعلة اللهب ) ( وكل عضبٍ في متنه أثرٌ ** ومشرفي كالملح ذي
شطب ) ( وكل فضفاضةٍ مضاعفةٍ ** من نسج داود غير مؤتشب ) ( لما التقينا مات الكلام
ودا ** ر الموت دور الرحى على القطب ) ( إن حملوا لم نرم مواضعنا ** وإن حملنا
جثوا على الركب ) )
انتهى .
وهذا الشعر لم يروه ابن الأعرابي وابن السكيت في ديوانه .
وحبيب بالحاء المهملة المفتوحة أورده الآمدي مكبراً اسماً لخمسة شعراء أحدهم أبو
محجن .
ثم قال : وأما حبيب بالتصغير فهو حبيب بن تميم المجاشعي . وأورده له شعراً .
وبعد أن نقل العيني الخلاف في اسمه هل هو مالكٍ بن حبيب أو عبد الله بن حبيب قال :
وضبط عن أبي عمر حبيب مصغراً . وتبعه السيوطي في شرح
____________________
أبيات المغني على هذا الضبط .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الحادي والأربعون بعد الستمائة ) الطويل ( فلما رأى أن ثمر
الله ماله ** وأثل موجوداً وسد مفاقره ) على أن الفراء وابن الأنباري جوزا وقوع أن
المصدرية بعد فعل علم غير مؤول بالظن كما في البيت فإن رأى فيه علمية . ويجوز أن
تكون فيه مخففة من غير فصل بينها وبين ثمر على الشذوذ . ف أن وما بعدها في تأويل
مصدر ساد مسد مفعولي رأى إلا أنها في القول الثاني مخففة واسمها ضمير شأن محذوف
وجملة : ثمر الله خبرها .
ولم يتعرض لكون رأى بصرية فتكون أن هي المصدرية الداخلة على الفعل لأن ذلك لا يجوز
لأن التثمير أمر معنويٌّ غير مدرك بحاسة العين ومعناه التكثير .
قال صاحب الصحاح : وأثمر الرجل بالمثلثة أي : كثر ماله . وثمر الله ماله أي : كثره
.
ففاعل رأى ضمير الحليف أي : المعاهد في بيتٍ قبله .
وأثل أي : أصل وثبت . والتأثيل : التأصيل والتثبيت .
قال صاحب الصحاح : يقال سد الله مفاقره أي : أغناه وسد وجوه فقره . انتهى .
فيكون جمع مفقر كجعافر جمع جعفر . والمفقر : مكان الفقر وجهته .
وجواب لما في بيت بعده .
____________________
والبيت من قصيدة للنابغة الذبياني يعاتب بها بني مرة فيما كان بينه وبين يزيد بن
سنان بن أبي )
حارثة واجتماع قومه عليه وطواعيتهم له وطلبه بحوائجهم عند الملوك . وكان النابغة
يحسد وهذا أولها : ( ألا أبلغا ذبيان عني رسالةً ** فقد أصبحت عن منهج القصد جائره
) ( أجدكم لم تزجروا عن ظلامةٍ ** سفيهاً ولن ترعوا لذي الود آصره ) ( فلو شهدت
سهمٌ وأفناء مالكٍ ** فتعذرني من مرة المتناصره ) إلى أن قال بعد بيتين : ( فإن يك
مولانا تجانف نصره ** وأسلمنا لمرة المتظاهره ) ( فإني لألقى من ذوي الضغن منهم **
بلا عثرةٍ والنفس لا بد عاثره ) ( كما لقيت ذات الصفا من حليفها ** وكانت تديه
المال غباً وظاهره ) ( تذكر أنى يجعل الله جنةً ** فيصبح ذا مالٍ ويقتل واتره ) (
فلما رأى أن ثمر الله ماله ** وأثل موجوداً وسد مفاقره ) ( أكب على فأس يحد غرابها
** مذكرةٍ من المعاول باتره ) ( فلما وقاها الله ضربة فأسه ** وللبر عينٌ ما تغمض
ناظره ) ( تندم لما فاته الذحل عندها ** وكانت له إذ خاس بالعهد قاهره ) ( فقال
تعالي نجعل الله بيننا ** على ما لنا أو تنجزي لي آخره ) ( أبى لي قبرٌ لا يزال
مقابلي ** وضربة فأسٍ فوق رأسي فاقره )
____________________
وهذا آخر القصيدة .
والآصرة : القرابة . يقال : فلانٌ ما تأصره علي آصرةٌ أي : لا تعطفه علي رحم .
وسهمٌ هو ابن مرة بن عوف الذبياني . ومالك هو أخو سهم قبيلتان . ولهذا قال :
المتناصره أي : التي ينصر بعضها بعضاً . وتجانف : تمايل .
والمتظاهرة : التي صار كلٌّ منهم ظهيراً ومعيناً للآخر . والضغن : الحقد . وذات
الصفاة هي الحية كما يأتي شرحها .
والحليف : المعاهد . وقوله : وكانت تديه المال إلخ روى الأصمعي بدله : وما انفكت
الأمثال في الناس سائره وقال : تلك الرواية منحولة لأنك تقول وديت فلاناً للمقتول
نفسه ولا تقول وديت وليه ولا )
أهله . وودى فلانٌ فلاناً : أعطى ديته . وغباً أي : تعطيه من الدية في يوم ولا
تعطيه في اليوم الثاني .
والغب بالكسر : فصل الفعل وتركه بيومٍ بين فعل يومين . ومنه حمى الغب إذا أتت
يوماً وتركت يوماً . والظاهرة : البارزة غير مختفية وقيل الظاهرة التي تشرب كل يوم
. ( فواثقها بالله حين تراضيا ** فكانت تديه المال غباً وظاهره ) وقوله : تذكر
فاعله ضمير الحليف . وأنى بمعنى كيف . والجنة بضم الجيم : الوقاية . والواتر :
الذي عنده الثأر من الوتر بفتح الواو عند قوم وكسرها عند آخرين وهو الذحل والثأر .
____________________
وقوله : فلما رأى فاعله ضمير الحليف . وقوله : أكب هو جواب لما . يقال : أكب على
كذا أي : لازمه . ويحد : مضارع أحده أي : جعله حديداً قاطعاً .
والغراب بضم المعجمة : رأس الفأس القائم ولها رأسان . فالرأس العريض يقال له :
قدوم والآخر يقال له غراب .
قال صاحب الصحاح : الذكر من الحديد : خلاف الأنيث . وسيف ذكرٌ ومذكر بفتح الكاف
المشدودة أي : ذو ماءٍ .
وقال أبو عبيد : هي سيوفٌ شفراتها حديدٌ ذكر ومتونها أنيث . قال : ويقول : الناس
إنها من عمل الجن . انتهى .
والذكر هو الفولاذ والصلب . والأنيث هو الحديد المعروف . والمعاول : جمع معول بكسر
الميم وفتح الواو وهي الفأس العظيمة التي ينقر بها الصخر . والباترة : القاطعة .
والذحل بفتح الذال المعجمة وسكون الحاء المهملة : الثأر والحقد . وكانت أي : الحية
.
وخاس بالعهد بإعجام الأول وإهمال الآخر بمعنى غدر به . وأراد بقهرها إياه قطع
العطية من الدية . أو تنجزي : إلى أن تنجزي .
وقوله : يمين الله أفعل أي : أقسم يميناً بالله لا أفعل أي : لا أعطي . كما كنت
أعطيك . أو بمعنى لا أقبل عهدك بعد هذا .
والمسحور : المخدوع يقال : سحره أي : خدعه وعلله . وأرادت : إنك إنسانٌ خادعٌ غدار
.
وفاقرة : قاطعة يقال : فقر الحبل أنف البعير إذا حزه وأثر فيه .
وهذه الأبيات موقوفةٌ على سماع حكايةٍ هي من أكاذيب العرب قال أبو عمرو الشيباني
وابن )
الأعرابي : ذكروا أن أخوين كانا فيما مضى في إبلٍ لهما فأجدبت بلادهما وكان قريباً
منهما وادٍ يقال له : عبيدان فيه حية قد أحمته فقال أحدهما
____________________
لصاحبه : هل لك في وادي الحية
فإنه ذو كلإٍ فقال أخوه : إني أخاف عليك الحية ألا ترى أن أحداً لم يهبط ذلك
الوادي إلا أهلكته فقال : والله لأفعلن فهبط ذلك الوادي فرعى فيه إبله فبينا هو
ذات يومٍ في آخر الإبل نائمٌ إذ رفعت الحية رأسها فأبصرته فأتته فقتلته ثم دخلت
جحرها وأبطأت الإبل على أخيه فعرف أنه قد هلك فقال : ما في الحياة بعد أخي خيرٌ
ولأطلبن الحية ولأقتلنها أو لأتبعن أخي .
فهبط ذلك الوادي فطلب الحية ليقتلها فقالت له : ألست ترى أني قد قتلت أخاك فهل لك
في الصلح فأدعك ترعى الوادي فتكون فيه وأعطيك ما بقيت ديناراً يوماً ويوماً لا قال
: أو فاعلة أنت قالت : نعم . قال : فإني أقبل . فحلف لها وأعطاها المواثيق لا
يضرها وجعلت تعطيه ما ضمنت له فكثر ماله ونبتت إبله حتى صار من أحسن الناس حالاً .
ثم إنه ذكر أخاه ذات يوم فدمعت عيناه وقال : كيف ينفعني العيش وأنا أنظر إلى قاتل
أخي فعمد إلى فأس فأحدها ثم قعد فمرت به فتبعها وضربها فأخطأها ودخلت جحرها ووقعت
الفأس فوق جحرها فأثرت فيه فلما رأت ما فعل قطعت عنه الدينار الذي كانت تعطيه .
فلما رأى ذلك تخوف شرها وندم فقال لها : هل لك أن نتواثق ونعود إلى ما كنا عليه
فقالت : كيف أعاودك وهذا أثر فاسك وأنت ترى قبر أخيك وأنت فاجر لا تبالي بالعهد .
وكان حديث الحية والفأس من مشهور أمثال العرب .
قال أبو عبيدة : لما حج عبد الملك بن مروان أول حجة حجها في خلافته قدم المدينة
فخطب فقال : يا أهل المدينة والله لا تحبوننا ولا نحبكم أبداً وأنتم
____________________
أصحاب عثمان إذ نقيتمونا عن
المدينة ونحن أصحابكم يوم الحرة فإنما مثلنا ومثلكم كما قال النابغة . وأنشد هذه
ثم قال : إنه كانت حيةٌ مجاروةً رجلاً فوكعته فقتلته ثم إنها دعت أخاه إلى أن يصالحها
على أن تدي له أخاه فعاهدها ثم كانت تعطيه يوماً ولا تعطيه يوماً فلما تنجز عامة
ديته قالت له نفسه : لو قتلتها وقد أحذت عامة الدية فيجتمعان لك فأخذ فأساً فلما
خرجت لتعطيه الدينار ضربها على رأسها وسبقته فأخطأها وندم فقال : )
تعالي نتعاقد ولا نغدر وتنجزي آخر ديتي . فقالت : أبى الصلح القبر الذي بين عينيك
والضربة التي فوق رأسي . فلن تحبني أبداً ما رأيت قبر أخيك ولن أحبك ما كانت
الضربة برأسي . إنا لن نحبكم ما ذكرنا ما صنعتم بنا ولن تحبونا ما ذكرتم ما صنعنا
بكم . انتهى .
والنابغة شاعرٌ جاهليٌّ تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والأربعون بعد الستمائة ) البسيط ( أن تقرآن على أسماء
ويحكما ** مني السلام وأن لا تشعرا أحدا ) على أن أن الخفيفة المصدرية قد لا تنصب
المضارع كما في البيت إما للحمل
____________________
على ما قال ابن جني في
الخصائص : سألت أبا علي رحمه الله تعالى عنه فقال : هي مخففة من الثقيلة كأنه قال
: أنكما تقرآن إلا أنه خفف من غير تعويض .
وحدثنا أبو بكر محمد بن الحسن عن أحمد بن يحيى قال : شبه أن بما فلم يعملها كما لا
يعمل ما . انتهى .
وزاد في سر الصناعة : وهذا مذهب البغداديين . وفي هذا بعدٌ . وذلك أن أن لا تقع
إذا وصلت حالاً أبداً . إنما هي للمضي أو للاستقبال نحو : سرني أن قام ويسرني أن
يقوم غداً .
ولا تقول : يسرني أن يقوم وهو في حال القيام .
وما : إذا وصلت بالفعل وكانت مصدراً فهي للحال أبداً نحو قولك : ما تقوم حسن أي :
قيامك الذي أنت عليه حسن فيبعد تشبيه واحدةٍ منهما بالأخرى وكل واحدةٍ منهما لا
تقع موقع صاحبتها .
قال أبو علي : وأولي أن المخففة من الثقيلة الفعل بلا عوض ضرورةً . وهذا على كل
حال وإن كان فيه بعض الضعف أسهل مما ارتكبه الكوفيون . انتهى .
وكذلك قول في شرح تصريف المازني : سألت أبا علي عن إثبات النون في تقرآن بعد أن
فقال : أن مخففة من الثقيلة وأولاها الفعل بلا فصلٍ للضرورة . فهذا أيضاً من الشاذ
عن القياس والاستعمال جميعاً إلا أن الاستعمال إذا ورد بشيءٍ أخذ به وترك القياس
لأن السماع يبطل القياس . )
قال أبو علي : لأن الغرض فيما ندونه من هذه الدواوين ونقننه من هذه القوانين إنما
هو ليلحق من ليس من أهل اللغة بأهلها ويستوي من ليس بفصيح
____________________
ومن هو فصيح . فإذا ورد
السماء بشيءٍ لم يبق غرضٌ مطلوب وعدل عن القياس إلى السماع . انتهى .
وذهب إلى هذا ابن عصفور في كتاب الضرائر قال : ومنه مباشرة الفعل المضارع لأن
المخففة من الثقيل وحذف الفصل نحو قول الشاعر : أنشده الفراء عن القاسم بن معنٍ
قاضي الكوفة : مجزوء الكامل ( إني زعيم يا نوي ** قة إن سلمت من الرزاح ) ( أن
تهبطين بلاد قو ** مٍ يرتعون من الطلاح ) وقول الآخر : أن تقرآن على أسماء ويحكما
. . . . . . . . البيت وقول الآخر : الطويل ( إذا كان أمر الناس عند عجوزهم ** فلا
بد أن يلقون كل يباب ) ( ولي كبدٌ مقروحةٌ من يبيعني ** بها كبداً ليست بذات قروح
) ( أبى الناس ويح الناس أن يشترونها ** ومن يشتري ذا علةٍ بصحيح ) وقول الآخر :
الطويل
____________________
( وإني لأختار القرى طاوي
الحشا ** محاذرةً من أن يقال لئيم ) قال أبو بكر بن الأنباري : رواه الكسائي
والفراء عن بعض العرب برفع يقال . ولا يحسن شيءٌ من ذلك في سعة الكلام حتى يفصل
بين أن والفعل بالسين أو سوف أو قد في الإيجاب وبلا في النفي .
فإن جاء شيءٌ منه في الكلام حفظ ولم يقس عليه نحو قراءة ابن مجاهد : لمن أراد أن
يتم الرضاعة برفع يتم .
ومن النحويين من زعم أن أن في جميع ذلك هي الناصبة للفعل إلا أنها أهملت حملاً على
ما المصدرية فلم تعمل لمشابهتها لها في أنها تقدر مع ما بعدها بالمصدر . وما ذكرته
قبل من أنها مخففة أولى وهو مذهب الفارسي وابن جني لأنها هي التي استقر في كلامهم
ارتفاع الفعل المضارع بعدها . انتهى . )
وذهب الزمخشري إلى أن الرفع بعد أن لغة . قال في المفصل : وبعض العرب يرفع الفعل
بعد أن أن تقرآن على أسماء ويحكما . . . . . . . . . . البيت وعن ابن مجاهد : أن
يتم الرضاعة بالرفع . انتهى .
قال شارحه ابن يعيش : قال ابن جني : قرأت على محمد بن الحسن عن أحمد ابن يحيى قول
الشاعر : البسيط ( يا صاحبي فدت نفسي نفوسكما ** وحيثما كنتما لاقيتما رشدا ) ( أن
تحملا حاجةً لي خف محملها ** وتصنعا نعمةً عندي بها ويدا ) أن تقرآن . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . البيت فقال في تفسير أن تقرآن : وعلة رفعه أنه شبه أن
بما فلم يعملها في صلتها . ومثلة الآية . وهو رأي السيرافي . ولعل صاحب هذا الكتاب
نقله من الشرح . وهذا رأي البغداديين ولا يراه البصريون .
____________________
وصحة محمل البيت عندهم على أنها المخففة من الثقيلة أي : أنكما تقرآن . وأن وما
بعدها في موضع البدل من قوله : حاجة لأن حاجته قراءة السلام عليها .
وقد استبعدوا تشبيه لأن ب ما لأن ما مصدر معناه الحال وأن وما بعدها مصدرٌ إما
ماضٍ وإما مستقبل على حسب الفعل الواقع بعدها فلذلك لا يصح أحدهما بمعنى الآخر .
انتهى .
ونقل ابن هشام في المغني خلاف هذا قال في بحث أن المخففة وقد يرفع الفعل بعدها
كقراءة ابن محيصن : لمن أراد أن يتم الرضاعة .
وكقول الشاعر : أن تقرآن على أسماء ويحكما .
وزعم الكوفيون أن أن هذه هي المخففة من الثقيلة شذ اتصالها بالفعل . والصواب قول
البصريين أنها أن الناصبة أهملت حملاً على أختها ما المصدرية . هذا كلامه .
وقوله : أن تحملا حاجة في موضع نصب بفعل مضمر دل عليه ما تضمنه البيت الأول من
النداء والدعاء . والمعنى : أسألكما أن تحملا .
وقول ابن جني : التقدير أنكما تقرآن إشارة إلى أن اسم أن ضمير محذوف وهو ضمير
التثنية .
وقد ذهب ابن هشام في موضعين من المغني كالشارح المحقق . إلى أنها في البيت هي
المخففة )
الناصبة للمضارع قال في القاعدة الحادية عشرة من الباب الثامن : من ملح كلامهم
تقارض اللفظين في الأحكام ولذلك أمثلة منها إعطاء أن المصدرية حكم ما في الإهمال
كقوله : أن تقرآن على أسماء ويحكما . . . البيت
____________________
الشاهد في أن الأولى وليست
مخففة من الثقيلة بدليل أن المعطوفة عليها . وإعمال ما حملاً على أن كما روي عن
قوله عليه الصلاة والسلام : كما تكونوا يولى عليكم وذكره ابن الحاجب .
والمعروف في الرواية : كما تكونون . انتهى .
قال الدماميني معترضاً على دليله في الأول : لا مانع من عطف أن الناصبة وصلتها على
أن المخففة وصلتها إذ هو عطف مصدر على مصدر ولا يمنعه أحد كما تقول : عندي أن لا
تسيء إلى أحد وأن تحسن إلى عدوك برفع تسيء .
واعتذر عنه الشمني بأن المراد بالدليل هنا ما يفيد الظن والرجحان وليس المراد أن
ذلك دليلٌ من جهة امتناع عطف أن الناصبة وصلتها على أن المخففة وصلتها ومن جهة أن
الظاهر أن الثانية من نوع الأولى والثانية ليست خفيفةً فكذا الأولى .
وقال الدماميني في دليله بالحديث : لا حاجة إلى جعل ما ناصبة حملاً على أختها أن
فإن فيه إثبات حكمٍ لها لم يثبت في غير هذا المحل بل الفعل مرفوع ونون الرفع
محذوفة . وقد سمع ذلك نظماً ونثراً .
قال الشاعر : الرجز أبيت أسري وتبيتي تدلكي أي : وتبيتين تدلكين . وخرج على ذلك ما
روي عن أبي عمرو : قالوا ساحران تظاهرا بتشديد الظاء أي : أنتما ساحران تتظاهران
فحذف المبتدأ
____________________
وأدغمت التاء في الظاء وحذفت
نون الرفع .
وفي الحديث : لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا فحذف النون من
الفعلين المنفيين . فعليه يخرج كما تكونوا إن ثبت . ولا حاجة إلى ارتكاب أمرٍ لم
يثبت .
ولم يهتد أبو البقاء لمراد الزمخشري في تشبيه أن بما .
قال تلميذه الإمام الأندلسي في شرح المفصل : قال أبو البقاء : إن أراد تشبيه أن
بما النافية فهو تشبيهٌ بعيد لأن أن تقرآن في الشعر إيجاب فهو )
ضدٌّ للنفي . وتشبيه الإثبات بالنفي بعيدٌ خصوصاً في باب العمل والإلغاء . وإن
أراد بما الزائدة فهو أقرب ويؤيد ذلك قراءة ابن مجاهد : لم أراد أن يتم الرضاعة .
ثم قال : قلت ما ذكره شيخنا خال عن التحقيق بل المشبه بها ها هنا ما المصدرية في
أنها تطلب صلة وتقدر معها تقدير المفرد فتقسيم الشيخ ضائع . ومن أراد إبطال شيءٍ
بالتقسيم فطريقه أن يحصر الأقسام بأسرها ثم يبطل قسماً قسماً . والشيخ لم يفعل ذلك
.
واستدلاله أيضاً بقراءة ابن مجاهد على أنها زائدة عجيب والأجود أن يقال : إنها في
البيت مفسرة بمعنى أي وتكون تفسيراً للحاجة المذكورة في البيت المتقدم . انتهى
كلام الأندلسي .
قال الشارح المحقق في آخر الكتاب أن لا تفسر إلا مفعولاً مقدر اللفظ دالاً على
معنى القول مؤدياً معناه . وقد تفسر المفعول به الظاهر كقوله تعالى : إذ
____________________
أوحينا إلى أمك ما يوحى أن
اقذفيه . انتهى .
ولا يخفى أن الحمل ليس فيه معنى القول فلا يجوز جعل أن تفسيرية . فتأمل .
وقوله : يا صاحبي فدت نفسي إلخ الجملة الدعائية وهي فدت نفسي إلخ والجملة الشرطية
المراد بها الدعاء أيضاً وهي المصراع الثاني وقع الاعتراض بهما بين قوله : يا
صاحبي وبين قوله : أن تحملا . وأن تحملا في تأويل مصدر إما منصوب بفعل مقدر هو
المقصود بالنداء تقديره : أسألكما أن تحملا أي : حمل حاجة لي . وإما مجرور بلام
محذوفة مع فعلٍ يدل على النداء أي : أناديكما أو أدعوكما لأن تحملا .
ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله وعامله محذوف يدل عليه الدعاء لهما وتقديره : أدعو
لكما لأجل حملكما حاجةً لي . وعلى هذا الاعتراض في الكلام ويكون المقصود بالنداء
هو الجملة الدعائية .
والمحمل بفتح الميمين : مصدر ميمي بمعنى الحمل . وعطف اليد على النعمة تفسيريٌّ .
وروى شارح اللباب وغيره : وهذا يقتضي أن يكون قوله : أن تحملا شرطاً وتستوجبا
جوابه . فإن على هذا إما مكسورة وإما مفتوحة وهي حرف شرط كالمكسورة وهو مذهب
الكوفيين وتبعهم الشارح المحقق وابن هشام في المغني .
وقوله : أن تقرآن هو إما بدل من قوله : حاجة وإما خبر مبتدأ محذوف أي : هي أن
تقرآن . )
والجملة استئنافٌ بياني . كذا في شرح اللباب وغيره .
وقال ابن المستوفي : هو بدلٌ من قوله : أن تحملا . وإن كان أن تفسيريةً فلا محل
لما بعدها من الإعراب .
قال الزمخشري في أساس البلاغة : يقال : اقرأ سلامي على فلان ول
____________________
ا يقال : اقرئه مني السلام .
انتهى .
ووجهه أن قرأ يتعدى إلى مفعول واحدٍ بنفسه وإلى المبلغ إليه بعلى . وهذا مذهب
الأصمعي قال صاحب المصباح : قال الأصمعي : وتعديته بنفسه خطأٌ فلا يقال : اقرأه
السلام لأنه بمعنى اتل عليه .
وحكى ابن القطاع أنه يتعدى بنفسه رباعياً فيقال : فلان يقرئك السلام . انتهى .
وما في البيت جارٍ على كلام الأصمعي ولا مانع من تعلق مني بتقرآن كما فهمه ابن
الملا من نقل كلام الزمخشري فإن مراده أن قرأ لا يتعدى إلى مفعولين بنفسه ولا يمنع
من تعلق مني به إذا كان مستعملاً على ما قاله . ويجوز أن يكون مني حالاً من السلام
.
وأسماء من أعلام النساء ووزنه فعلاء لا أفعال لأنه من الوسامة وهو الحسن فهمزته
بدل من الواو .
وجملة : ويحكما معترضة . وويح : كلمة ترحم ورأفة وهو مصدرٌ منصوب بفعل واجب الحذف
.
وهذه الأبيات الثلاثة قلما خلا عنها كتاب نحوٍ ومع كثرة الاستعمال لم يعزها أحدٌ
إلى شاعر .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والأربعون بعد الستمائة ) الرجز
____________________
كان جزائي بالعصا أن أجلدا
على أن الفراء استدل به على جواز تقديم معمول معمول أن المصدرية عليها فإن قوله :
بالعصا وقال البصريون : معمول الصلة من تمام الصلة فكلما لا يجوز تقديم الصلة على
أن كذلك لا يجوز تقدم معمولها عليها . وأجابوا عن هذا كما قال الشارح المحقق بأنه
نادر أو هو متعلق بأجلد مقدراً يريد : بأن أجلد . فاختصر .
وزاد الشارح المحقق بأن قوله : بالعصا خبر مبتدأ مقدر وتقديره ذلك الجزاء بالعصا
والجملة اعتراضية .
وقال التبريزي في شرح الحاجبية : لم يتعلق بالعصا بأن أجلد بل إما بأعني للتبيين
أو بمثل المؤخر أو بجعل كان تامةً وبالعصا متعلقاً بها وأن أجلد في موضع رفع على
أنه بدل من الجزاء . انتهى .
وقال أبو علي في الإيضاح الشعري : لا يمتنع أن يتقدم على وجه التبيين ليس على أنه
متعلق بالصلة لم يجعلوا بالعصا متعلقاً بالجلد ولكن جعلوه تبييناً للجلد كقوله :
الطويل أبعلي هذا بالرحا المتقاعس
____________________
وقوله تعالى : وكانوا فيه من
الزاهدين .
قال ابن جني عند قول الحماسي : الطويل ( ولا يحمل القوم الكرام أخاهم ال ** عتيد
السلاح عنهم أن يمارسا ) أراد : في ترك أن يمارس فحذف في أولاً ثم ترك ومعناه أن
يمارس عنهم . إلا أن إعرابه الآن يمنع من حمله عليه لما في ذلك من تقديم بعض الصلة
على الموصول . فإذا كان كذلك أضمر لحرف الجر ما يتناوله ودل عليه يمارس .
ومثله قول العجاج : كان جزائي بالعصا أن أجلدا وقال أيضاً بعده عند قول الحماسي من
بيت : البسيط والله أعلم بالصمان ما جشموا المعنى والله أعلم : ما جشموا بالصمان .
فإن حملته على هذا كان لحناً لتقديم ما في الصلة )
على الموصول . لكن تجعله تبييناً فتعلقه بمحذوف يدل عليه الظاهر . وهو بابٌ فاعرفه
.
وقد تكلم على التبيين بأبسط من هذا في شرح تصريف المازني قال : إن كان على تقدير
أن أجلد بالعصا فخطأٌ لأن الباء في صلة أن ومحالٌ تقديم شيءٍ من الصلة على الموصول
ولكنه جعل الباء تبييناً ومثله قوله تعالى : وكانوا فيه من الزاهدين . فلما قدم
جعل تبييناً فأخرج عن الصلة .
____________________
ومعنى التبيين أن تعلقه بما يدل عليه معنى الكلام ولا تقدره في الصلة لأن معنى
البيت جلدي بالعصا . فإذا فعلت هذا سلم لك اللفظ والمعنى ولم تقدم شيئاً عن موضعه
الذي هو أخص ألا ترى أن معنى قولهم : أهلك والليل معناه الحق بأهلك قبل الليل
وإنما تقديره في الإعراب : الحق بأهلك وسابق الليل . فكذلك أيضاً يكون معنى الكلام
كان جزائي أن أجلد بالعصا وتقديره في الإعراب غير ذلك .
وسيبويه كثيراً ما يميل في كلامه على المعنى فيتخيل من لا خبرة له أنه قد جاء
بتقدير الإعراب فيحمله في الإعراب عليه وهو لا يدري فيكون مخطئاً وعنده أنه مصيب
فإذا نوزع في ذلك قال : هكذا قال سيبويه وغيره .
فإذا تفطنت لهذا الكتاب وجدته كثيراً . وأكثر ما يستعمله في المنصوبات في صدر
الكتاب لأنه موضعٌ مشكلٌ وقلما يهتدى له . انتهى .
والبيت للعجاج كما قاله ابن جني .
وقبله : الرجز ( ربيته حتى إذا تعمددا ** وآض نهداً كالحصان أجردا ) كان جزائي . .
. . إلخ قال ابن جني في شرح التصريف : تمعدد من لفظ معد بن عدنان وإنما كان منه
لأن معنى تمعدد : تكلم بكلام معدٍّ أي : كبر وخطب . هكذا قال أبو علي .
ومنه قول عمر : اخشرشنوا وتمعددوا . قال أحمد بن يحي : تمعددوا أي : كونوا على خلق
معد .
انتهى .
وأورده الجوهري في عدد ونقل الخلاف في ميمه وقال : تمعدد الرجل أي : تزيا بزيهم أو
تنسب إليهم أو تصبر على عيش معد . )
____________________
وقال أبو عبيد : في أثر عمر قولان : يقال هو من الغلظ ومنه قيل للغلام إذا شب وغلظ
: قد تمعدد .
قال الراجز : ربيته حتى إذا تمعددا ويقال : معناه تشبهوا بعيش معدٍ . وكانوا أهل
قشف وغلظ في المعاش . يقول : فكونوا مثلهم ودعوا التنعم وزي العجم . قال : وهكذا
هو في حديث آخر : عليكم باللبسة المعدية . اه .
وقال ابن دريد في الجمهرة : التمعدد : الشدة والقوة . وأنشد هذا الرجز ثم قال :
والمعدة من هذا اشتقاقها . ومعدان : اسم رجل أحسب اشتقاقه من المعدة . اه .
وقوله : وآض نهداً إلخ آض بمعنى صار . والنهد بفتح النون وسكون الهاء : العالي
المرتفع .
والحصان بكسر الحاء هو الذكر من الخيل . والأجرد : مما تمدح به الخيل ومعناه
القصير والعجاج تقدمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والأربعون بعد الستمائة ) الكامل
____________________
وشفاء غيك خابراً أن تسألي
على أن تقدم خابراً على أن نادر أو هو منصوب بفعل يدل عليه المذكور والتقدير :
تسألين خابراً .
ولم يذكر التخريج الثاني في البيت الذي قبله لأنه لا يتأتى هنا فإن خابراً منصوب .
قال ابن السراج في الأصول : ولا يجوز عند الفراء إذا قلت أقوم كي تضرب زيداً :
أقوم زيداً كي تضرب . والكسائي يجيزه وينشد : وشفاء غيك خابراً أن تسألي وقال
الفراء : خابراً حالٌ من الغي . اه .
ونقله صاحب اللباب فقال : ولا يجوز : قمت زيداً كي أضرب كما لا يجوز : أريد زيداً
أن وقوله : وشفاء غيك خابراً أن تسألي )
مما يعضد مذهبه . والفراء يجعل المنصوب حالاً من الغي على ما حكاه ابن السراج . اه
.
وقول الفراء في البيت لا وجه له فإن خابراً اسم فاعل من خبرته أخبره من باب نصر
خبراً بالضم إذا علمته . وهو بالخاء المعجمة والباء الموحدة . ف الخابر : العالم .
والغي بفتح الغين المعجمة : مصدر غوى غياً من باب ضرب أي : انهمك في الجهل وهو
خلاف الرشد والاسم الغواية بالفتح .
والمصراع عجزٌ وصدره : ( هلا سألت وخبر قومٍ عندهم ** وشفاء غيك خابراً أن تسألي )
____________________
وبعده : ( هل نكرم الأضياف إن
نزلوا بنا ** ونسود بالمعروف غير تنحل ) فلا يمكن تخريج البيت إلا على ما ذكره
الشارح المحقق أو الكسائي .
ولا يصح جعل خابراً حالاً من الغي ولا من الكاف فإن الغي لا يتصف بالخبر إذ هو ضده
.
وكذلك المخاطبة لا تتصف به لأنها متصفة بالغي ولعدم قوله خابرة بالتأنيث .
وقد تصحف على شارح اللباب لفظتان منه : الأولى : الغي تصحفت عليه بالعين المهملة
المكسورة .
والثانية : قوله خابراً تصحفت عليه بجابر بالجيم فإنه قال بعد عبارة اللباب : هكذا
ذكره المصنف وفيه نظر : أما أولاً فلأنه يتعلق بالقصة فإن كان جابرٌ اسم رجل فالحق
ما ذكره الكسائي وإن لم يكن اسم رجل جاز أن يكون فاعلاً من الجبر فالحق ما ذكره
الفراء . وإن كان مجهول الحال احتمل الوجهين .
وأما ثانياً فلأن وصف الشفاء بالجبر كان أولى من وصف العي به فإن العي والعجز ليس
سبب الجبر والصلاح بل هو سبب الاختلال والشفاء والخلاص عن العي هو الجابر للاختلال
.
فلعل تأويله أن العي سبب السؤال والحامل عليه والسؤال سبب الشفاء والجبر . فجاز أن
يجعل العي شافياً إسناداً للأثر إلى سبب السبب .
هذا كلامه .
وهو في هذا معذور لأنه لم يقف على أصل الشعر . )
وقد أورد البيت بمصراعيه ابن الأنباري والقالي في تأليفهما في المقصور والممدود .
شاهداً ورأيت في الحماسة البصرية : قالت امرأة من بني سليم :
____________________
( هلا سألت خبير قومٍ عنهم **
وشفاء علمك خابراً أن تسألي ) ( يبدى لك العلم الجلي بفهمه ** فيلوح قبل تفكرٍ
وتأمل ) ومثل البيتين الأولين في المعنى وغالب اللفظ قول سعية بن عريضٍ من يهود
خيبر : السريع ( إن تسألي بي فاسألي خابراً ** فالعلم قد يلفى لدى السائل ) (
ينبيك من كان بنا عالماً ** عنا وما العالم كالجاهل ) وبيت الشاهد من قصيدة لربيعة
بن مقروم . وبعد ذينك البيتين : ( ونحل بالثغر المخوف عدوه ** ونرد خال العارض
المتهلل ) ( ونعين غارمنا ونمنع جارنا ** ويزين مولًى ذكرنا في المحفل ) ( وإذا
امرؤٌ منا جنى فكأنه ** مما يخاف إلى مناكب يذبل ) ( ومتى يقم عند اجتماع عشيرةٍ
** خطباؤنا بين العشيرة يفصل ) ( وإذا الحمالة أثقلت حمالها ** فعلى سوائمنا ثقيل
المحمل ) ( ويحق في أموالنا لحريبنا ** حقٌّ ننوء به وإن لم نسأل )
____________________
ومن هذه القصيدة : ( متقاذفٍ
شنج النسا عبل الشوى ** سباق أندية الجياد عميثل ) ( لولا أكفكفه لكاد إذا جرى **
منه الشكيم يدق فأس المسحل ) ( وإذا جرى منه الحميم رأيته ** يهوي بفارسه هوي
الأجدل ) ( وإذا تعلل بالسياط جيادها ** أعطاك نائبةً ولم يتعلل ) ( ودعوا نزال
فكنت أول نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) ( ولقد جمعت المال من جمع امرىءٍ **
ورفعت نفسي عن لئيم المأكل ) ( ودخلت أبنية الملوك عليهم ** ولشر قول المرء ما لم
يفعل ) ( وألد ذي حنقٍ علي كأنما ** تغلي عداوة صدره في مرجل )
____________________
( أوجيته عني فأبصر قصده **
وكويته فوق النواظر من عل ) ( وأخي محافظةٍ عصى عذاله ** وأطاع لذته معمٍّ مخول )
) ( هشٍّ يراح إلى الندى نبهته ** والصبح ساطع لونه لم ينجل ) ( فأتيت حانوتاً به
فصبحته ** من عاتق بمزاجها لم تقتل ) ( صهباء صافية القذى أغلى بها ** يسرٌ كريم
الخيم غير مبخل ) ( ولقد أصبت من المعيشة لينها ** وأصابني منه الزمان بكلكل ) (
ولقد أتت مائةٌ علي أعدها ** حولاً فحولاً لو بلاها مبتلي ) ( فإذا الشباب كمبذلٍ
أنضيته ** والدهر يبلي كل جدةٍ مبذل ) ومن هذه القصيدة في وصف امرأة روى صاحب
الأغاني بسنده إلى الهيثم بن عدي عن حمادٍ الراوية قال : دخلت على الوليد بن يزيد
وهو مصطبحٌ وبين يديه معبدٌ ومالك وابن عائشة وأبو كامل وحكمٌ الوادي وعمر الوادي
يغنونه وعلى رأسه وصيفةٌ تسقيه لم أر مثلها تماماً وكمالاً وجمالاً فقال لي : يا
حماد إني أمرت هؤلاء أن يغنوا صوتاً يوافق صفة هذه الوصفية وجعلتها لمن وافق صفتها
نحلةً فما أتاني
____________________
واحدٌ منهم بشيء فأنشدني أنت
ما يوافق صفتها وهي لك .
فأنشدته قول ربيعة ابن مقروم الضبي : ( شماء واضحة العوارض طفلةٌ ** كالبدر من خلل
السحاب المنجلي ) ( وكأن فاهاً بعد ما طرق الكرى ** كأسٌ تصفق بالرحيق السلسل ) (
لو أنها عرضت لأشمط راهبٍ ** في رأسٍ مشرفة الذرى متبتل ) ( لصبا لبهجتها وطيب
حديثها ** ولهم من ناموسه بتنزل ) فقال الوليد : أصبت وصفها فاخترها أو ألف دينارٍ
. فاختر الألف الدينار . ( بل إن تري شمطاً تفرع لمتي ** وحنى قناتي وارتقى في
مسحلي ) ( ودلفت من كبرٍ كأني خاتلٌ ** قنصاً ومن يدبب لصيدٍ يختل ) ( ولقد رأى
حسن القناة قويمها ** كالنصل أخلصه جلاء الصيقل ) وربيعة هو ابن مقروم بن قيس بن
جابر بن خالد بن عمرو بن غيظ بن السيد
____________________
ابن مالك بن بكر بن سعد بن
ضبة بن أد بن طابخة بن إلياس بن مضر بن نزار .
وهو شاعرٌ مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وكان ممن أصفق عليه كسرى ثم عاش في
الإسلام زماناً . كذا في الأغاني . )
وزاد على هذا ابن الأنباري في شرح المفضليات : وهو مسلمٌ وشهد القادسية .
وزاد ابن قتيبة في كتاب الشعراء : شهد القادسية وجلولاء . وهو من شعراء مضر
المعدودين .
وقد ذكره ابن حجر في قسم المخضرمين من الإصابة ونقل عن المرزباني أنه قال : كان
ربيعة بن مقروم أحد شعراء مضر في الجاهلية والإسلام ثم أسلم وشهد القادسية وغيرها
من الفتوح وعاش مائة سنة .
وأما البيتان الأخيران فهما من قصيدة جيدة أيضاً لسعية بن عريض اليهودي الخيبري
وهو أخو السموءل بن عريض بن عادياء الذي يضرب به المثل في الوفاء . ( لباب يا أخت
بني مالكٍ ** لا تشتري العاجل بالآجل )
____________________
( لباب هل عندك من نائل **
لعاشق ذي حاجةٍ سائل ) ( عللته منك بما لم ينل ** يا ربما عللت بالباطل ) ( لباب
داويني ولا تقتلي ** قد فضل الشافي على القاتل ) ( إن تسألي بي فاسألي خابراً **
فالعلم قد يلفى لدى السائل ) ( ينبيك من كان بنا عالماً ** عنا وما العالم كالجاهل
) ( إنا إذا جارت دواعي الهوى ** وأنصت السامع للقائل ) ( واعتلج القوم بألبابهم
** في المنطق الفائل والفاصل ) ( لا نجعل الباطل حقاً ولا ** نلط دون الحق بالباطل
) ( تخاف أن تسفه أحلامنا ** فنخمل الدهر مع الخامل ) روى صاحب الأغاني بسنده إلى
العتبي قال : كان معاوية يتمثل كثيراً إذا اجتمع الناس في مجلسه بهذا الشعر : إنا
إذا مالت دواعي الهوى الأبيات الأربعة .
روى أيضاً بسنده إلى يوسف بن الماجشون قال : كان عبد الملك بن مروان إذا جلس
للقضاء بين الناس أقام وصيفاً على رأسه ينشده : ( إنا إذا مالت دواعي الهوى **
وأنصت السامع للقائل ) ( واصطرع القوم بألبابهم ** نقضي بحكمٍ فاصلٍ عادل )
____________________
)
مع البيتين الآخرين ثم يجتهد عبد الملك في الحق بين الخمصين .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والأربعون بعد الستمائة ) الوافر ( يرجي المرء ما لا
أن يلاقي ** وتعرض دون أدناه الخطوب ) على أن الخليل قال : أصل لن : لا أن كما
جاءت في البيت على أصلها بدليل أن المعنى فيهما واحد فحذفت الهمزة تخفيفاً لكثرة
الاستعمال كما حذفت من قولهم : ويلمه والأصل ويل أمه فلما حذفت الهمزة التقى
ساكنان : ألف لا ونون أن فحذفت الألف لدفع التقاء الساكنين فصار : لن .
والمشهور في رواية البيت : يرجي المرء ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة الهمزة
على لا وهي زائدة .
وبه استشهد صاحب الكشاف والقاضي البيضاوي عند تفسير قوله تعالى :
____________________
ولقد مكناهم في ما إن مكناكم
فيه . على أن إن في الآية صلة كما في البيت .
ومثله لابن هشام في المغني قال : وقد تزاد إن بعد ما الموصولة الاسمية . وأنشد
البيت .
ولم يذكر الزمخشري في المفصل زيادة إن هذه إلا بعد ما النافية ثم قال : وقد يقال :
انتظرني ما إن جلس القاضي أي : مدة جلوسه .
وصرح ابن الحاجب بقتلها بعدها .
وهذه الرواية هي رواية أبي زيد وابن الأعرابي في نوادرهما وأنشداه بين بيتين
والأصل : ( فإن أمسك فإن العيش حلوٌ ** إلي كأنه عسلٌ مشوب ) ( يرجي العبد ما أن
يراه ** وتعرض دون أدناه الخطوب ) ( وما يدري الحريص علام يلقي ** شراشره أيخطىء
أم يصيب ) قال أبو زيد : قوله : إلي في معنى عندي . والشراشر : الثقل ثقل النفس .
انتهى .
وقال أبو الحسن الأخفش في شرح نوادر أبي زيد وروى أبو حاتم : ما لا إن يلاقي
بتأخير إن المكسورة الهمزة . )
ورواية : ما إن لا يلاقي بتقديم إن المكسورة غلط والصواب : ما أن لا يلاقي بفتحها
وهي زائدة تزاد في الإيجاب مفتوحة وفي النفي مكسورة .
تقول : لما أن جاءني زيدٌ أعطيته قال الله تعالى : فلما أن جاء البشير . وتقول في
النفي : ما زيد منطلقاً فإذا زدت إن قلت : ما إن زيد منطلق
____________________
ف إن كافةٌ ل ما عن العمل .
ونظير هذا قولك : إن زيداً منطلق ثم تقول : إنما زيد منطلق فكفت ما الزائدة إن عن
العمل كما كفت إن ما النافية .
وهذا تمثيل الخليل . فلما قال : ما أن لا يلاقي فنظر إلى ما الذي روى هذه الرواية
ظنها النافية .
وهذه بمعنى الذي فلا تكون أن بعدها إلا مفتوحة . ورواية أبي حاتم : ما لا أن يلاقي
صحيحة لأن لا في النفي بمنزلة ما وغن كانت إن لا تكاد تزاد بعد لا . انتهى .
وهذا خلاف ما نقله الشارح المحقق عن الخليل وهو المخطىء في النقل والتخطئة .
ودعواه أن إن المكسورة لا تزاد بعد ما الموصولة مردودة فإنها تزاد بعد ما المصدرية
وغيرها أيضاً .
قال ابن عصفور في كتاب الضرائر : ومن زيادة إن المكسورة الهمزة في الضرورة قول
الشاعر أنشده سيبويه : الطويل ( ورج الفتى للخير ما إن رأيته ** على السن خيراً لا
يزال يزيد ) فزاد إن بعد ما المصدرية وليست بنافيةٍ تشبيهاً لها بما النافية .
ألا ترى أن المعنى : ورج الفتى للخير مدة رؤيتك إياه لا يزال يزيد خيراً على السن
. لكن لما كان لفظها كلفظ ما النافية زادها بعدها كما تزاد بعد ما النافية في نحو
قولك : ما إن قام زيد وقول الآخر : أنشده أبو زيد : يرجي المرء ما إن لا يلاقي . .
. . . . . البيت
____________________
فزاد إن بعد ما وهي اسم موصول
لشبهها باللفظ بما النافية وقول النابغة في إحدى الروايتين : البسيط إلا الأواري
لا إن ما أبينها . . . . . . . . . . البيت فزاد إن بعد لا لشبهها بما من حيث
كانتا للنفي وزعم الفراء أن لا وإن وما حروف نفي وأن النابغة جمع بينها على طريق
التأكيد . انتهى . )
وقال ابن هشام في المغني : وقد تزاد بعد ما الموصولة الاسمية وبعد ما المصدرية
وأورد البيتين وبعد ألا الاستفتاحية : الطويل ( ألا إن سرى ليلي فبت كئيباً **
أحاذر أن تنأى النوى بغضوبا ) وقبل مدة الإنكار سمع سيبويه رجلاً يقال له : أتخرج
إن أخصبت البادية فقال : أنا إنيه منكراً أن يكون رأيه على غير ذلك . انتهى .
وقوله : فإن أمسك فإن العيش حلوٌ إلخ أمسك : مضارع أمسك . قال صاحب المصباح :
أمسكته بيدي إمساكاً قبضته باليد . وأمسكت عن الأمر : كففت عنه . وأمسك الله الغيث
: حبسه ومنع نزوله . انتهى .
ولم يذكر الشاعر صلة أمسك فمعناه متوقف على ما قبله وقوله : مشوب أي : مخلوط
بالماء .
قال صاحب المصباح : شابه شوباً : خلطه مثل
____________________
شوب اللبن بالماء فهو مشوب .
والعرب تسمي العسل شوباً لأنه عندهم مزاجٌ للأشربة .
وقوله : يرجي المرء إلخ روى بدل المرء العبد وهو عبد الخلقة . ويرجي بمعنى يأمل
وهو مبالغة رجاه يرجوه رجواً على فعول والاسم الرجاء بالمد . ورجيته أرجيه من باب
رمى لغة . كذا في المصباح .
وقد حذف العائد إلى ما الموصولة من قوله : لا يلاقي والأصل لا يلاقيه وروى بدله :
لا يراه وتعرض إما من عرضت له بسوء أي : تعرضت من باب ضرب وباب تعب لغة .
وفي النهي : لا تعرض له بكسر الراء وفتحها أي : لا تعترض له فتمنعه باعتراضك أن
يبلغ مراده لأنه يقال : سرت فعرض لي في الطريق عارضٌ من جبل ونحوه أي : مانع يمنع
من المضي .
واعترض لي بمعناه .
ومنه اعتراضات الفقهاء لأنها تمنع من التسمك بالدليل . وإما من عرض له أمرٌ إذا
ظهر من باب ضرب أيضاً .
ويحتمل أن تكون تعرض بضم الراء من عرض الشيء بالضم عرضاً كعنب وعراضةً بالفتح :
اتسع عرضه وتباعد حاشيته فهو عريض . ودون هنا : بمعنى أمام .
وأدناه : أقربه أفعل تفضيل من الدنو وهو القرب .
والخطوب : جمع خطب . قال صاحب المصباح : والخطب : الأمر الشديد ينزل والجمع خطوب )
مثل فلس وفلوس . انتهى .
وقيل الخطب هو الشأن والأمر عظم أو صغر . وقال الدماميني في الحاشية الهندية : هو
سبب الأمر يقال : ما خطبك أي : ما سبب أمرك الذي أنت عليه . وغلب استعمال الخطوب
في الأمور الشاقة الصعبة . انتهى .
____________________
وكذا نسبها ابن الأعرابي في نوادره ثم قال : ويقال إنها لإياس ابن الأرت .
ورألان بالراء المهملة بعدها همزة ساكنة . وإياس بكسر الهمزة بعدها مثناة تحتية .
والأرت بالمثناة قال صاحب الصحاح : الرتة بالضم : العجمة في الكلام . ورجل أرت بين
الرتت وفي لسانه رتة وأرته الله .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والأربعون بعد الستمائة ) البسيط إذن لقام بنصري معشرٌ
خشنٌ على أن إذن تدخل في الماضي كما في البيت .
والمصراع من أبيات في أول الحماسة وقبله : ( لو كنت من مازنٍ لم تستبح إبلي ** بنو
اللقيطة من ذهل بن شيبانا ) ( إذن لقام بنصري معشرٌ خشنٌ ** عند الحفيظة إن ذو
لوثةٍ لانا ) قال الشارح المحقق بعد أسطر : إن إذن متضمنة لمعنى الشرط على ما حققه
. وإذا كانت بمعنى الشرط الماضي جاز إجراؤها مجرى لو في إدخال اللام في جوابها كما
في البيت . فجملة : لقام إلخ جواب إذن كأنه قيل : ولو
____________________
استباحوا إبلي مع كوني من بني
مازن لقام بنصري إلخ .
وهذا مختار الشارح المحقق ومذهبه في إذن . وفيه ردٌّ على الإمام المرزوقي في زعمه
أن قوله : لقام جواب قسمٍ مقدر . قال : اللام في لقام جواب يمين مضمر والتقدير :
إذن والله لقام بنصري .
وفائدة إذن هو أن هذا البيت الثاني أخرج مخرج جواب قائلٍ قال له : ولو استباحوا
ماذا كان يفعل بنو مازنٍ فقال : إذن لقام بنصري إلخ . وإذا كان كذلك فهذا البيت
جوابٌ لهذا السائل وجزاءٌ على فعل المستبيح . انتهى .
وفيه ردٌّ أيضاً لما قاله ابن جني في إعراب الحماسة قال : قوله : إذن لقام إلخ هو
جواب قوله : لو )
كنت من مازن . فإن قلت : فقد أجاب لو هذه بقوله : لم تستبح إبلي .
قيل : قوله : إذن لقام إلخ بدل من قوله : لم تستبح إبلي وهذا كقولك : لو زرتني
لأكرمتك إذن لم يضع عندي حق زيارتك . انتهى .
وتبعه جماعة منهم ابن يعيش في شرح المفصل قال : فإذا جوابٌ لقوله : لو كنت من مازن
لم تستبح إبلي على سبيل البدل من قوله لم تستبح إبلي وجزاءٌ على فعل المستبيح .
انتهى .
ومنهم ابن هشام في المغني قال : الأكثر أن تكون إذن جواباً لإن أو لو ظاهرتين أو
مقدرتين . ( لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها ** وأمكنن منها إذن لا أقيلها )
____________________
وقول الحماسي : لو كنت من
مازن البيتين . فقوله : إذن لقام بدل من لم تستبح وبدل الجواب جواب .
والثاني : في نحو أن يقال : آتيك فتقول : إذن أكرمك أي : إن أتيتني إذن أكرمك .
وقال تعالى : ما اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق
ولعلا بعضهم على بعض . قال الفراء : حيث جاءت بعدها اللام فقبلها لو مقدرة إن لم
تكن ظاهرة . انتهى .
وجوز الإمام المرزوقي أن تكون إذن لقام إلخ جواباً ثانياً للو لا على البدلية .
قال : ويجوز أن تكون أيضاً إذن لقام جواب لو كأنه أجيب بجوابين . وهذا كما تقول :
لو كنت حراً لاستقبحت ما يفعله العبيد إذن لاستحسنت ما يفعله الأحرار . انتهى .
وزعم ابن الملا في شرح المغني أن هذا عين ما قاله ابن هشام أو قريبٌ منه .
ولا يخفى أنه قريب منه لا عينه .
وجعل ابن هشام إذن لا أقليها في البيت جواباً لإن الشرطية دون القسم المقدر مخالفٌ
للقاعدة كما يأتي بيانه قريباً عند إنشاد الشارح البيت .
وإن أراد تقدير إن ولو صناعةً يرد عليه أنه يمتنع النصب في المثال الذي أورده
لوقوعها حشواً وما نقله عن الفراء فيه تقصير كما يظهر من نص عبارته قال في تفسيره
عند قوله تعالى : أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيراً : وإذا رأيت
في جواب إذن اللام فقد أضمرت لها لئن أو يميناً أو لو . من ذلك قوله تعالى : ما
اتخذ الله من ولدٍ وما كان معه من إلهٍ إذاً لذهب كل إلهٍ بما خلق والمعنى والله
____________________
أعلم : لو كان معه إله لذهب
كل إلهٍ بما خلق .
ومثله : وإن كادوا ليفتنونك عن الذي أوحينا إليك لتفتري علينا غيره وإذاً لاتخذوك
خليلا )
ومعناه لو فعلت لاتخذوك .
وكذلك قوله : كدت تركن ثم قال : إذاً لأذقناك معناه : لو ركنت لأذقناك . انتهى
كلامه .
وقوله : معشر خشن : جمع خشن أو أخشن وضمة الشين للإتباع بمعنى الشديد . وأراد بهم
بني مازن .
واللوثة بالضم : الضعف . وأراد به قومه .
قال ابن جني : إن قلت أين جواب قوله إن ذو لوثة لانا قيل : محذوف دل عليه قوله خشن
أي : إن لان ذو لوثة خشنوا هم أو يخشنوا ودل المفرد الذي هو خشنٌ على الجملة التي
هي خشنوا أو يخشنوا وذلك لمشابهة اسم الفاعل وما يجري مجراه الجملة بما فيه من
الضمير . انتهى .
والمشهور في مثل هذا أن المتقدم دليل الجواب المحذوف فيقدر قام بنصري معشر خشن .
والاستباحة : أخذ الشيء مباحاً للنفس . وقام : من القيام بالشيء والتكفل به .
والمعشر : اسمٌ لجماعةٍ أمرهم واحد .
وتقدم شرحها في شرح الأبيات بأوفى من هذا في الشاهد السادس والخمسين بعد الخمسمائة
.
____________________
وأنشد فيه بعده : الوافر ( نهيتك عن طلابك أم عمروٍ ** بعاقبةٍ وأنت إذٍ صحيح )
وتقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والتسعين بعد الأربعمائة من باب الظروف .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والأربعون بعد الستمائة ) البسيط ( ما إن أتيت بشيءٍ
أنت تكرهه ** إذن فلا رفعت سوطي إلي يدي ) ( إذن فعاقبني ربي معاقبةً ** قرت بها
عين من يأتيك بالحسد ) على أن إذن إذا كانت للشرط في المستقبل . جاز دخول الفاء في
جزائها
____________________
كما في جزاء إن كما في البيت
كأنه قال : إن أتيت بشيءٍ فلا رفعت . فجملة فلا رفعت إلخ جملة دعائية وقعت جزاءً
واقترنت بما يقترن به جزاء الشرط لما في إذن من معنى الشرط . وكذا الحال في البيت
الثاني .
وهما من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح بها النعمان بن المنذر وتنصل بها عما
قذفوه به حتى خاف وهرب منه إلى بني جفنة ملوك الشام . وهي من القصائد الاعتذاريات
ولحسنها ألحقها أبو جعفر النحاس والخطيب التبريزي وغيرهما . بالمعلقات السبع .
وتقدم شرح أبيات كثيرةٍ منها في باب الحال وفي باب خبر كان وفي النعت وفي البدل
وفي أسماء الأفعال وفي غير ذلك .
وقبلها : ( والمؤمن العائذات الطير يمسحها ** ركبان مكة بن الغيل والسند ) وبعدهما
: ( هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به ** طارت نوافذه حراً على كبدي ) قال ابن رشيق في
العمدة : وأجل ما وقع في الاعتذار من مشهورات العرب قصائد النابغة الثلاث : إحداها
: البسيط
____________________
يقول فيها : ( فلا لعمر الذي
مسحت كعبته ** وما هريق على الأنصاب من جسد ) والمؤمن العائذات الطير . . . . .
إلى آخر الأبيات الثلاثة والثانية : الطويل أرسماً جديداً من سعاد تجنب )
يقول فيها معتذراً من مدح آل جفنة ومحتجاً بإحسانهم إليه : الطويل ( حلفت فلم أترك
لنفسك ريبةً ** وليس وراء الله للمرء مطلب ) الأبيات المشهورة . والثالثة : الطويل
عفا حسمٌ من أهله فالفوارع يقول فيها بعد قسم قدمه على عادته :
____________________
( لكلفتني ذنب امرىءٍ وتركته
** كذي العر يكوى غيره وهو راتع ) انتهى .
وقد شرحنا القصائد الثلاث برمتها في المواضع التي استشهد بأبياتها .
وقوله : والمؤمن العائذات الطير قد شرح هو وما قبله في الشاهد السابع والأربعين
بعد الثلثمائة وقوله : ما إن أتيت إلخ هذه الجملة جواب القسم الذي هو قوله : فلا
لعمر الذي مسحت كعبته مع البيت الذي بعده . وما نافية وإن زيدت بعدها للتوكيد .
وبه استشهد ابن هشام في المغني .
وقوله : فلا رفعت سوطي إلي يدي أراد به : شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط . وهذا
دعاءٌ على نفسه على تقدير صحة ما نسبة أعداؤه إليه .
وقوله : إذن فعاقبني ربي إلخ هذا دعاء آخر على نفسه . وجملة : قرت بها إلخ صفة
معاقبة .
والمعاقبة : العذاب . وقرت العين قرة وقروراً بضمها من باب تعب أي : بردت سروراً .
والحسد هو تمني زوال نعمة الغير .
وقوله : هذا لأبرأ إلخ أي : هذا القسم لأجل أن أتبرأ مما اتهمت به . والنوافذ
تمثيلٌ من قولهم : جرح نافذ . أي : قالوا قولاً صار حره على كبدي وشقيت به .
____________________
وأنشد بعده : البسيط والمرء عند الرشا إن يلقها ذيب وهو عجز وصدره : هذا سراقة
للقرآن يدرسه وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والأربعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س
: الطويل ( . . . . . . . . . . . فإن بحبها ** أخاك مصاب القلب . . . . . . . )
على أنه إنما جاز الفصل بالجار والمجرور بين إن واسمها لقوة شبه إن بالفعل .
قال سيبويه في باب الحروف الخمسة التي تعمل فيما بعدها كعمل الفعل فيما
____________________
بعده : وتقول : إن بك زيداً
مأخوذ وإن لك زيداً واقف . إلى أن قال : ومثل ذلك إن فيك زيداً لراغبٌ .
قال الشاعر : ( فلا تلحني فيها فإن بحبها ** أخاك مصاب القلب جمٌّ بلابله ) كأنك
أردت : إن زيداً راغب وإن زيداً مأخوذ ولم تذكر بك ولا فيك فألغيتا هنا كما ألغيتا
في الابتداء . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع مصاب على الخبر وإلغاء المجرور لأنه من صلة الخبر ومن
تمامه ولا يكون مستقراً للأخر ولا خبراً عنه . انتهى .
ألا ترى أنه قد جاء : فلا تلحني فيها . . . . البيت .
ففصل بقوله : بحبها بين إن واسمها . ولو كان مكان الظرف غيره لم يجز ذلك . والظرف
متعلق بالخبر كأنه قال : إن أخاك مصاب القلب بحبها .
وأورده أيضاً في موضعين من التذكرة القصرية قال في الأول : مسألة : إن قال قائل :
لم لا يكون المحذوف في التقدير مؤخراً كأنه قال : إن في الدار زيداً فلا يسقط بذلك
حكم ما تعلق به الظرف قيل : يقبح هذا الفصل كما : كانت زيداً الحمى تأخذ . فإن قيل
: فقد قال : فإن بحبها أخاك
____________________
مصاب القلب قد قيل : قد روى
البغداديون هذا مصاب القلب . فذا يدلك على استكراههم الرفع لما فيه من الفصل
فعدلوا عنه إلى النصب .
ويجوز أن تقول : إن الظرف قد فصل به في أماكن فيجوز أن يكون هذا مثلها .
وقال في الموضع الثاني : مسألة : ما كان فيها أحد خيرٌ منك فيها متعلقة بكان إذا
نصبت خيراً منك ومتعلقة بمحذوف إذا كانت مستقراً . ويجوز أن تنصبها ب خيراً منك
وإن تقدم عليه لشبهه بالفعل . )
وليس الفصل ب فيها إذا علقتها بخير منك بقبيح لأن أبا الحسن قد أنشد في المسائل
الصغيرة : ورواه الكوفيون : مصاب القلب . وأظنهم هربوا من الفصل فنصبوا مخافة أن
يجري مجرى : كانت زيداً الحمى تأخذ . وأتى أبو الحسن بمسائل هناك يفصل فيها بالظرف
المتعلق بالخبر .
انتهى .
وقد فصل ابن السراج في الأصول مذهب الكوفيين في هذه المسألة قال : إذا كان الظرف
غير محل للاسم سماه الكوفيون الصفة الناقصة وجعله البصريون لغواً ولم يجز في الخبر
إلا الرفع وذلك قولك : فيك عبد الله راغب ومنك أخواك هاربان وإليك قومك قاصدون لأن
منك وفيك وإليك لا تكون محلاً ولا يتم بها الكلام .
وقد أجاز الكوفيون : فيك راغباً عبد الله شبهها الفراء بالصفة التامة لتقدم راغب
على عبد الله .
وذهب الكسائي إلى أن المعنى : فيك رغبةً عبد الله . واستضعفوا أن يقولوا : فيك عبد
الله راغباً وأنشدوا بيتاً جاء فيه مثل هذا منصوباً .
فلا تلحني فيها فإن بحبها . . . . . . . البيت
____________________
فنصب مصاب القلب على التشبيه
بقولك : إن بالدار أخاك واقفاً إلى آخر ما فصله .
وقوله : فلا تلحني هو نهيٌ أي : لا تلمني في حب هذه المرأة فقد أصيب قلبي بها
واستولى عليه حبها والعذل لا يصرفني عنها . يقال : لحيت الرجل إذا لمته . قال صاحب
الصحاح : ولحيت الرجل ألحاه لحياً إذا لمته فهو ملحيٌّ ولاحيته ملاحاة ولحاءً إذا
نازعته .
وفي المثل : : من لاحاك فقد عاداك . وتلاحوا إذا تنازعوا وأصله من لحيت العصا
ألحيها لحياً إذا سلخت لحاءها وجلدها . وكذلك لحوتها ألحوها لحواً . واللحاء
بالكسر والمد : قشر الشجر . وفي المثل : لا تدخل بين العصا ولحائها . كذا في
الصحاح .
وقال صاحب المصباح : اللحاء بالكسر والمد والقصر لغة : ما على العود من قشره .
ولحوت العود لحواً من باب قال ولحيته لحياً من باب نفع إذا قشرته .
والمصاب : اسم مفعول من أصيب بكذا من المصيبة وهي الشدة النازلة . والجم بالجيم :
الكثير .
والبلابل : الأحزان وشغل البال واحدها بلبال . وهو مبتدأ وجمٌّ خبره والجملة خبر
ثانٍ لإن . )
وزاد العيني : أو هي بدل من قوله مصاب القلب فتأمل .
وقال البلابل : الوساوس وهو جمع بلبلة وهي الوسوسة .
والبيت من الأبيات الخمسين التي هي في كتاب سيبويه ولم يعرف لها قائل والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده الرجز ( لا تتركني فيهم شطيرا ** إني إذن أهلك أو أطيرا ) على أن الفعل
جاء منصوباً ب إذن مع كونه خبراً عما قبلها بتأويل أن الخبر هو مجموع إذن أهلك لا
أهلك وحده فتكون إذن مصدرة .
وقال الأندلسي : يجوز أن يكون خبر إن محذوفاً : أي : إني لا أحتمل . ثم ابتدأ فقال
: إذن أهلك . والوجه رفع أهلك وجعل أو بمعنى إلا .
أما التخريج الأول فهو للشارح المحقق . وقد رده الدماميني في الحاشية الهندية بأن
مقتضاه جواز قولك : زيد إذن يقوم بالنصب على جعل الخبر هو المجموع إذ الاعتماد
المانع منتفٍ إذ هو ثابت للمجموع وصريح كلامهم يأباه .
وأجيب عن الرضي بأن تخريجه إنما هو لبيان وجه ارتكاب الشذوذ في هذا المسموع فلا
يكون مقتضاه جواز النصب في كل ما سواه مما لم يتحقق فيه شذوذ . هذا كلامه .
ولا يخفى أن مراد الرضي تخريجه على عملها المألوف قياساً وهو أن لا يعتمد ما بعدها
على ما قبلها بدليل مقابلته لقول الأندلسي .
وأما قول الأندلسي وعليه اقتصر ابن هشام في المغني فهو تخريج السيرافي . قال في
شرح
____________________
فإن صح فإما أن يقال : إنه
لغةٌ حمل فيها إذن على لن وهي لا تلغى بحال . أو تقول : خبر إن مقدر أي : إني لا
أقدر على ذلك وجملة : إذن أهلك مستأنفة وإذن فيها مصدرة . انتهى .
وفيما قاله تخريجان آخران فصارت التخاريج أربعة .
وسلك نحوه ابن يعيش في شرح المفصل فقال : البيت شاذ . وإن صحت الرواية فهو محمول
على أن يكون الخبر محذوفاً . وساغ حذف الخبر لدلالة ما بعده عليه وابتداء إذن بعد
تمام المبتدأ بخبره . أو يكون شبه إذن ها هنا بلن فلم يلغها لأنهما جميعاً من
نواصب الأفعال المستقبلة .
وتشبه إذن من عوامل الأفعال بأفعال الشك واليقين لأنها أيضاً تعمل وتلغى لأن أفعال
الشك )
إذا تأخرت أو توسطت يجوز أن تعمل .
وإذن إذا توسطت بين جزأي كلامٍ أحدهما محتاجٌ إلى الآخر لم يجز أن تعمل لأنها حرف
والحرف أضعف في العمل من الأفعال . انتهى .
وقد نقل ابن الحاجب تخريجاً خامساً في شرح المفصل قال : وقد أول : إني إذن أهلك
على معنى : إني أقول . والقول يحذف كثيراً .
وقد ناقشه الإمام الحديثي في شرح الكافية بأنه إنما يتخلص عنه به إذا كان الموضع
للحكاية فقط . وفيه نظر . وألا يكون حينئذ معتمداً على أقول . وتوضيحه : أن
المحكوم عليه بأنه خبر وأنه في موضع رفع حينئذ إما الحكاية فقط أعني جملة أقول وبه
يتحقق الخلاص عن هذه الورطة . أو الحكاية أو المحكي أعني مجموع أقول إذن أهلك .
لا سبيل إلى الأول لاقتضائه قطع كلٍّ من القول والمقول عن صاحبه واستئناف ما حقه
أن لا يستأنف . ولا إلى الثاني لبقاء الإشكال لتحقق النصب مع
____________________
الاعتماد فإن أهلك معتمدٌ على
أقول لكونه جزء معموله الذي هو إذن أهلك .
وأجاب عنه ابن الحنبلي فيما كتبه على المغني كما نقله عنه تلميذه ابن الملا بأنا
لا نسلم أن جزء المعتمد معتمد . ولئن سلمناه فلا نسلم أن كل معمولٍ لشيء يكون
معتمداً عليه فهو قد حصروا صور الاعتماد في ثلاث صور ليس إلا بحكم الاستقراء فدل
ذلك على أن ما عداها لا يتحقق فيه اعتماد وإن تحققت معموليته بوجه ما .
ثم قال : ولعل ابن الحاجب قدر أقول ليكون إذن أهلك أو أطير مقولاً وقعت فيه إذن
مصدرة وإن توهم أنها بتقدير أقول غير مصدرة .
ألا ترى أن القائل إذا قاله بعد كما سبق به الرعد أظهرت صدارتها فيه . انتهى .
وهذا بحثٌ جيد إلا أنه يرد على تخريجه بإضمار القول ما ورد على تخريج الشارح
المحقق وقول الأندلسي : والوجه رفع أهلك .
وقال الحديثي : الحق رفع أهلك وجعل أو بمعنى إلا أن كما في قولك : لألزمنك أو
تقضيني حقي أي : إلا أن تقضيني حقي . أراد أن الرفع فيه وفي مثله هو القياس جرياً
على القاعدة .
وتعسف ابن الملا في قوله : إن أراد أنه الوجه والحق في مثل هذا التركيب إذا صدر من
متكلم فله وجه ولكن غير نافع لنا بوجه . وإن أراد أنه الوجه والحق في قول هذا
الشاعر فممنوع . فإنه )
كيف يسلم لهما ذلك حيث ثبت أن الرواية عن القائل بنصب الفعلين . انتهى .
وقال العيني : إعمال إذن في البيت ضرورة خلافاً للفراء . أراد بالضرورة ما هو
المذهب الصحيح وهو ما أتى في النظم دون النثر سواءٌ كان عنه مندوحة أم لا .
ولم يصب ابن الملا في قوله : هذا إنما يتجه بالنسبة إلى نصب أطير دون أهلك فإنه إن
كان ثم ضرورة فهي قصد التوفيق بينه وبين شطيراً حذراً من عيب الإقواء . اللهم إلا
أن يدعي أن هذه الضرورة ألجأت إلى نصب أهلك لئلا يعطف منصوبٌ على مرفوع .
____________________
هذا كلامه .
وأي مانع من العطف بالنصب بأن بعد أو التي بمعنى إلا كما نقله عن الأندلسي
والحديثي .
هذا . وقد نقل الفراء عن العرب في تفسيره أن النصب في مثل البيت لغة قال عند تفسير
قوله تعالى : أم لهم نصيبٌ من الملك فإذاً لا يؤتون الناس نقيرا : إذا وقعت إذن
على يفعل وقبله اسمٌ بطلت فلم تنصب فقلت : أنا إذن أضربك . وإذ كانت في أول الكلام
إن نصبت يفعل ورفعت فقلت : إني إذن أوذيك . والرفع جائز .
أنشدني بعض العرب : ( لا تتركني فيهم شطيرا ** إني إذن أهلك أو أطيرا ) وقال أيضاً
في تفسير سورة الأحزاب عند قوله تعالى : وإذاً لا تمتعون : وقد تنصب العرب ب إذن
وهي بين الاسم وخبره في إن وحدها فيقولون : إني إذن أضربك .
قال الشاعر : لا تتركني فيهم شطيرا . . . . . . البيت والرفع جائز . وإنما جاز في
إن ولم يجز في المبتدأ بغير إن لأن الفعل لا يكون مقدماً في إن وقد يكون مقدماً لو
أسقطت .
هذا كلامه .
وأنت ترى أنه إمامٌ ثقة وقد نقل عن أهل اللسان فينبغي جواز النصب في الفعل الواقع
خبراً لاسم إن لا غير حسبما نقل وحينئذ يسقط ما تكلفوا من التخريج .
____________________
وأفاد الفراء أن البيت حجة يصح الاستدلال به لقوله : أنشدني بعض العرب فيكون جواز
وقد أطلق الشارح المحقق في العاطف ولم يمثل إلا لما اقترن بالواو والفاء . وقد صرح
الفراء في )
تعميم العاطف قال : إذا كان في الفعل فاءٌ أو واوٌ أو ثم أو أو أو حرفٌ من حروف
النسق فإن شئت كان معناها معنى الاستئناف فنصبت بها أيضاً وإن شئت جعلت الفاء أو
الواو إذا كانتا منها منقولتين عنها إلى غيرها . والمعنى في قوله : فإذاً لا يؤتون
على : فلا يؤتون الناس نقيراً إذاً .
ويدلك على ذلك أنه في المعنى والله أعلم جوابٌ لجزاء مضمر كأنه قلت : ولئن كان لهم
أو لم كان لهم نصيب لا يؤتون الناس إذاً نقيراً . وهي في القراءة عبد الله منصوبة
. وإذا رأيت الكلام تاماً مثل قولك : هل أنت قائم ثم قلت : فإذن أضربك نصبت بإذن
ونصبت بجواب الفاء ونويت النقل .
وكذلك الأمر والنهي يصلح في إذن وجهان : النصب بها ونقلها . ولو شئت رفعت الفعل
إذا نويت النقل فقلت : ائته فإذن يكرمك زيد فهو يكرمك إذن ولا تجعلها جواباً .
هذا كلامه .
وقد أجاز الجزم والنصب والرفع في جواب الشرط قال : وإذا كان قبلها جزاءٌ وهي له
جوابٌ قلت : إن تأتني إذن أكرمك وإن شئت : إذن أكرمك .
فمن جزم أراد أكرمك إذن ومن نصب نوى في إذن فاءً تكون جواباً فنصب الفعل بإذن ومن
رفع جعل إذن منقولة إلى آخر الكلام كأنه قال : فأكرمك إذن . اه .
____________________
وهذا خلاف مذهب البصريين وليس عندهم إلا الجزم .
وقوله : لا تتركني إلخ الترك يستعمل بمعنى التخلية ويتعدى لمفعول واحد وبمعنى
التصيير فيتعدى لاثنين أصلهما المبتدأ والخبر وهنا محتملٌ لكلٍّ منهما فشطيرا على
الأول حال من الياء وعلى الثاني هو المفعول الثاني وفيهم عليهما متعلق بالترك أو
هو المفعول الثاني .
وشطيراً حالٌ من ضمير الظرف ويجوز أن يكون مفعولاً آخر مكرراً كما قيل في قوله
تعالى : وتركهم في ظلماتٍ لا يبصرون إن في ظلمات مفعول ثان وجملة : لا يبصرون
مفعول آخر مكرر .
وقال العيني : فيهم يتعلق بشطيراً وشطيراً نصب على الحال والتقدير : لا تتركني حال
كوني شطيراً كائناً فيهم .
هذا كلامه .
ولا يخفى أن ذكر كائناً مع قوله متعلق بشطيراً لا وجه له . )
والشطير : الغريب . وأهلك بكسر اللام والماضي بفتحها . والشعر لم ينسبه أحدٌ إلى
قائله .
والله وأنشد بعده ( الشاهد الخمسون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : البسيط
____________________
( ازجر حمارك لا يرتع بروضتنا
** إذن يرد وقيد العير مكروب ) على أنه يجوز على مذهب الكسائي أن يكون لا يرتع
مجزوماً بكون لا فيه للنهي لا أنه جواب الأمر .
ويرد مجزوماً لا منصوباً بكونه جواباً للنهي كما هو مذهبه في نحو : لا تكفر تدخل
النار .
فيكون المعنى لا يرتع إن يرتع يرد . وعند غيره : يرد منصوب وإذن منقطع عما قبله
مصدر كأن المخاطب قال : لا أزجره . فأجاب بقوله : إذن يرد .
أقول : يكون لا يرتع على قول الكسائي بدلاً من ازجر وهو أوفى من الأول في تأدية
المعنى المراد كقوله : الطويل أقول له ارحل لا تقيمن عندنا وإذن تكون مؤكدة للشرط
المقدر وهو إن يرتع ويرد جواب الشرط المقدر .
وهو مجزوم بسكون مقدر والفتحة لدفع التقاء الساكنين . ويجوز ضم الدال وكسرها أيضاً
للدفع المذكور والأصل يردد فلما أدغم سكنت الدال الأولى
____________________
والثانية ساكنة أيضاً للجزم
فالتقى ساكنان فلنا أن تدفع التقاءهما بإحدى الحركات الثلاث .
وقوله : بكونه جواباً للنهي متعلق بقوله مجزوماً .
وقوله : وعند غيره يرد منصوب أي : عند غير الكسائي يرد منصوب بإذن فالفتحة فتحة
إعراب وإذن هنا ليست متضمنة للشرط وإنما هي متضمنة للنهي وهو لا تزجره .
وعبر التبريزي في شرحه عن هذا بأن إذن هنا على بابها لأنها جواب كلام مقدر لأنه
قدر أن المأمور بالرد قال : لا أرد . فأجابه بذلك وحذفه لفهم المعنى . اه .
وهذا من غير الغالب كما قال الشارح المحقق : الغالب في إذن تضمن الشرط . وهذا
الوجه هو مذهب سيبويه قال في الكتاب : واعلم أن إذن إذا كانت بين الفعل وبين شيءٍ
الفعل معتمدٌ عليه )
فإنها ملغاة لا تنصب البتة كما لا تنصب أرى إذا كانت بين الفعل والاسم في قولك :
كان أرى زيدٌ ذاهباً .
فإذن لا تصل في ذا الموضع إلى أن تنصب كما لا تصل أرى هنا إلى أن تنصب . فهذا
تفسير الخليل . وذلك قولك : أنا إذن آتيك فهي هنا بمنزلة أرى حيث لا تكون إلا
ملغاة .
وليس هذا كقول ابن عنمة الضبي : ( اردد حمارك لا تنزع سويته ** إذن يرد وقيد العير
مكروب ) من قبل أن هذا منقطع من الكلام الأول وليس معتمداً على ما قبله لأن ما
قبله مستغن .
انتهى .
____________________
وأجاز الأعلم هنا رفعٌ يرد قال : الشاهد فيه نصب ما بعد إذن لأنها مبتدأة . والرفع
جائزٌ على إلغائها وتقدير الفعل واقعاً للحال لأن حروف النصب لا تعمل إلا فيما خلص
للاستقبال .
اه .
والبيت من أبياتٍ ستةٍ لعبد الله بن عنمة أوردها المفضل في المفضليات وأبو تمام في
الحماسة وهي : ( ما إن ترى السيد زيداً في نفوسهم ** كما تراه بنو كوز ومرهوب ) (
إن يسألوا الحق نعط الحق سائله ** والدرع محقبةٌ والسيف مقروب ) ( وإن أبيتم فإنا
معشرٌ أنفٌ ** لا نطعم الخسف إن السم مشروب ) فازجر حمارك لا يرتع . . . . . . .
البيت ( إن تدع زيدٌ بني ذهل لمغضبةٍ ** نغضب لزرعة إن الفضل محسوب ) قوله : ما إن
ترى السيد إلخ إن زائدة مؤكدة لما النافية . والسيد بالكسر وزيد وكوز ومرهوب كلٌّ
من الأربعة : أبو حيٍّ من بني ضبة . وزيد وكوز أخوان ابنا كعب بن بجالة بن ذهل بن
مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أد ابن طابخة .
والسيد هو أخو ذهل المذكور . ومرهوب هو ابن عبيد بن هاجر بن كعب بن بجالة المذكور
.
وقد روى الضبي في المفضليات كرز بالراء المهملة بدل الواو . قال المرزوقي : يقول :
بنو السيد لا يقسمون لزيد بن التعظيم ولا يوجبون له في نفوسهم من الحرمة والتبجيل
ما يوجبه ويقسمه بنو كوز ومرهوب . والضمير على
____________________
هذا في نفوسهم للسيد . ولا
يمتنع أن يكون لزيد لأنه قبيلة . )
وهذا كما يقال : لك في نفسك حقٌّ ومنزلة كأن زيداً كان له إذا رجع نفسه من التوجه
والإدلال والتخصيص والاعتزاز في بني كوز ومرهوب ما لا يكاد يجده في بني السيد .
وقوله : إن تسألوا الحق إلخ قال ابن الأنباري : قال الضبي : قوله محقبة أي : تكون
الدرع في حقيبة البعير . وكذلك كانت العرب تفعل بالدروع إذا هموا بالقتال استخرجوا
الدروع من الحقائب فلبسوها .
وقوله : مقروب أي : في قرابه . يقال : قربت السيف : أدخلته في قرابه وهو غمده . يقول
: إن أردتم الصلح أجبناكم والسلاح مستور وإن أبيتم أظهرناه لكم .
وقوله : وإن أبيتم إلخ الأنف بضمتين : جمع أنوف وهو الذي به أنفةٌ ونخوة . والخسف
: حمل الإنسان على ما يكرهه ثم استعمل في معنى الذل . يقال : سمته الخسف إذا حملته
على الهوان . وأصل الخسف أن تبيت الدابة على غير علف .
يقول : إن اقتصرتم على أخذ حقكم أعطيناكموه والحرب موضوعةٌ بيننا وبينكم وإن طلبتم
أكثر منه أبينا أن نعطيكم إياه . واستعار الطعم والشرب لتجرع الغصة وتوطين النفس
على المشقة عند إزالة المذلة ورد الكريهة . قال المرزوقي : لا نطعم الخسف وإن
شربنا السم .
وقال أبو محمد الأعرابي في شرحه : لا نطعم : لا نذوق . وطعمت الشيء : ذقته وطعمته
: أكلته أيضاً .
والمعنى وإن أبيتم الحق فإنا لا نقر بالخسف أي : الهوان ونؤثر عليه شرب السم كما
قال : الطويل
____________________
ويركب حد السيف من أن تضيمه
وقال التبريزي : معناه نحن نأبى الذل وإن كان غيرنا يقر بما هو أبلغ في الهوان .
أو يريد : إن السم مشروبٌ وإن احتجنا إلى شربه شربناه ولم نقبل ضيماً لأن الإنسان
يصبر على شرب السم ويكون ذلك أيسر عليه من صبره على الضيم .
وقوله : مشروب أي : كل أحد يشربه ولا يعفى منه كقولك : إن الحوض مورود يريد به
الموت أيضاً . يقول : فعلام نحمل الضيم ومصيرنا إلى الموت ورده أبو محمد الأعرابي
فيما كتبه عليه وقال : إنما أراد : إنا نخوض الموت ونحتمل الشدائد ولا ننزل تحت
الضيم . )
قال التبريزي بعدما نقل هذا الكلام : هذه الأقوال يقرب بعضها من بعض وكلها ترجع
إلى معنًى واحد وليس فيها ما يرد .
وقوله : فازجر حمارك إلى آخره هكذا في جميع الروايات بالفاء وقد سقطت من رواية
الشارح المحقق تبعاً لرواية سيبويه : اردد حمارك في إسقاط الفاء .
ورتعت الماشية رتعاً من باب نفع ورتوعاً : رعت كيف شاءت .
والروضة : الموضع المعجب الزهور . قيل : سمي بذلك لاستراضه المياه المسائلة إليها
أي : لسكونها بها . وأراض الوادي واستراض إذا استنقع فيه الماء . كذا في المصباح .
وروى سيبويه هذا المصراع :
____________________
اردد حمارك لا تنزع سويته
والرد : الإرجاع . والنزع : السلب . قال الأعلم . والسوية : شيءٌ يجعل تحت البرذعة
للحمار وكذا أورده الجوهري وقال : السوية : كساءٌ محشوٌ بثمام ونحوه كالبرذعة
والجمع سوايا .
وكذلك الذي يجعل على ظهر الإبل إلا أنه كالحلقة لأجل السنام وتسمى الحوية .
والحمار والعير بفتح العين المهملة هما الذكر من الحمير .
وكان الظاهر أن يقول وهو مكروب لكنه أعاد الحمار باسمه الظاهر المرادف له للضرورة
.
وحسنه وقوعه في جملة مستقلة .
قال المرزوقي قوله : ازجر حمارك : هذا مثلٌ والمعنى انقبض عن التعرض لنا والدخول
في حريمنا ورعي سوامك بروضتنا فإنك إن لم تفعل ذلك ذممت عاقبة أمرك . وجعل إرسال
الحمار في حماهم كنايةً عن التحكك بهم والتعرض لمساءتهم ولا حمار ثم ولا روض .
وقال ابن الأعرابي : اكفف لسانك . وقوله : إذن قال سيبويه : هو جوابٌ وجزاءٌ
فالابتداء الذي هو جوابه وجزاؤه محذوف مستدلٌ عليه مما في كلامه كأنه قال : فإنه
إن رتع رجع إليك وقد ضيق قيده أي ملىء قيده فتلاً حتى لا يمشي إلا بتعب . كأنه
يضرب أو يستعمل حتى يرم جسمه ويؤدي الوجع منه إلى موضع حافره فيضيق عليه القيد .
اه .
وكذا قال ابن الأنباري عن الضبي : إن المكروب الشديد الفتل يقال : قد كرب حبله إذا
شد فتله كأنه من قولهم : فلان مكروبٌ أي : ممتلىءٌ غماً . وكذلك الحبل ممتلىءٌ
فتلاً .
والمعنى : انته عنا وازجر نفسك عن التعرض لنا وإلا رددناك مضيقاً عليك ممنوعاً من
)
إرادتك . اه .
وقال التبريزي : يقول : اكفف شرك عنا . وجعل الحمار كنايةً عن الأذاة أو عن رجلٍ
من أصحاب هذا المخاطب يتعرض لهم بالمكاره .
____________________
وهذا نحوٌ من قول النابغة : الطويل ( سأمنع كلبي أن يريبك نبحه ** وإن كنت أرعى
مسحلان فحامرا ) والعرب تكني بالحمار والعير في أنحاء الكلام فيقولون : قد حل
حماره أو عيره بمكان كذا إذا أقام فيه وتمكن . وقوله : وقيد العير إلخ أي : مدانى
مضيق حتى لا يقدر على الخطو . اه .
ونقل النمري في شرحه عن الباهلي صاحب كتاب المعاني أن المكروب من كربت الشيء إذا
أحكمته فأوثقته . ومعنى البيت إنا نرد الحمار مملوءاً قيده فتلاً كما يمتلىء
الإنسان كرباً .
وحكى ثعلبٌ عن ابن الأعرابي في قوله : فازجر حمارك أي : اكفف لسانك .
وقال يعقوب : هذا مثل يقول : رد أمرك وشرك عنا ولا تعرض لنا فإن لا تفعل يرجع عليك
أمرك مضيقاً . هذا كلامه .
ورد عليه أبو محمد الأعرابي فيما كتبه عليه وقال : هذا موضع المثل : عيٌّ ناطقٌ
أعيا من عيٍّ سألت أبا الندى رحمه الله عن معناه فقال : قوله : ازجر حمارك يعني
فرس زيد الفوارس واسمه عرقوب فكنى عنه بالحمار على سبيل التهكم والهزء . قال :
وبعد البيت ما يدلك على ذلك وهو : ولا يكونن كمجرى داحسٍ لكم . . . . . . . البيت
قال : وقوله : وقيد العير مكروب أي : إنهم يعقرونه . والعقر أضيق القيود . وجعل
القعقاع بن عطية الباهلي العقر عقالاً فقال :
____________________
الطويل ( فخر وظيف القرم في
نصف ساقه ** وذاك عقالٌ لا ينشط عاقله ) انتهى .
وقوله : إن يدع زيد بني ذهل إلخ قال المرزوقي : يقول : إن غضب بنو ذهلٍ لزيد
وامتعضوا من ضيمٍ يركبها فأغاثوها إذا استجارت بهم غضبنا نحن لزرعة وانتقمنا له
ممن يهتضمه إن الفضل معدود .
والمعنى : إنه لا فضل لكم علينا فقد عددنا ما لكم ولنا فلم نجد زيادةً لكم توجب
لكم )
التعلي والتغلب . وإذا كان الأمر بيننا على التساوي فلا استبداد ولا احتكام .
وروى : إن القبص محسوب بكسر القاف وسكون الموحدة وآخره صاد مهملة وهو العدد الكثير
ويكون الكلام مثلاً . ويقال : إنهم لفي قبص العدد وفي قبص الحصا : في أكثر ما
يستطاع عدده من كثرته .
والمراد أن الأعداد الكثيرة تضبط وتحصر فكيف ما بيننا من تقارب أو تفاضلٍ أو تساوٍ
وتعادل .
وقوله : ولا يكونن كمجرى داحس إلخ قال المرزوقي : كان التنازع بينهم في رهانٍ وقع
على عرقوب وهو فرسٌ لهم فيقول : لا يكونن جري عرقوبٍ عليكم في الشؤم . كجري داحس
في غطفان غداة شعب الحيس .
فقوله : عرقوب ارتفع على أنه اسم ولا يكونن وقد حذف المضاف منه أي : لا يكونن مجرى
عرقوب كمجرى داحس . وغداة ظرفٌ لمجرى .
وجعل النهي في اللفظ لعرقوب وهو في المعنى لهم . حذرهم استعمال اللجاج ليلاً يتأدى
الأمر إلى مثل ما تأدى في رهان داحسٍ والغبراء . ومثل هذا في النهي قولهم : لا
أرينك ها هنا .
انتهى .
ولم يذكر أحد قصة هذه الأبيات .
وعبد الله بن عنمة بفتح العين المهملة والنون والميم . والعنمة في اللغة :
____________________
واحدة العنم وهي قضبانٌ حمرٌ
تنبت في جوف السمرة تشبه بها البنان المخضوبة . وقيل : هي أطراف الخروب الشامي .
ويقال : هو دودٌ أحمر يكون في الرمل يشبه به . ويقال : بل هو شيءٌ ينبت ملتفاً على
الشجر يبدو أخضر ثم يحمر .
وعبد الله هذا شاعرٌ إسلاميٌّ مخضرم وذكره ابن حجر في القسم الأول في ترجمة عبد
الله بن عنمة المزني وهو صحابيٌ ولم يفرد الضبي بترجمة في قسم المخضرمين من
الإصابة . والظاهر أنه من المخضرمين . وهذه عبارته في ترجمة المزني .
وفي الشعراء ممن له إدراكٌ : عبد الله بن عنمة الضبي .
قال ابن ماكولا شهد القادسية . انتهى .
وهو من بني غيظ بن السيد بكسر السين المهملة . )
وهذا نسبه من الجمهرة : عبد الله بن عنمة بن حرثان بن ثعلبة بن ذؤيب ابن السيد بن
مالك بن بكر بن سعد بن ضبة .
وأما زيد الفوارس الذي ذكره أبو محمد الأعرابي فهو شاعرٌ فارسٌ جاهليٌّ من بني ضبة
وقد ذكرنا ترجمته في الشاهد السابع والثمانين بعد المائة .
____________________
وهو ابن حصين ابن ضرار بن عمرو بن مالك بن زيد بن كعب بن بجالة . إلى آخر النسب .
( الشاهد الحادي والخمسون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الطويل ( لئن عاد لي
عبد العزيز بمثلها ** وأمكنني منها إذن لا أقيلها ) على أن إذن لا تعمل في المضارع
الذي يقع جواباً للقسم الذي قبلها كما في البيت . ف إذن مهملة لعدم التصدر ولا
أقيلها مرفوعٌ وهو جواب القسم المذكور في بيت قبله وهو : ( حلفت برب الراقصات إلى
منًى ** يغول الفيافي نصها وزميلها ) واللام في لئن هي اللام المؤذنة ويقال لها
الموطئة لأنها آذنت أي : أعلمت ووطأت أن الجواب للقسم المذكور جرياً على المألوف
المشهور في اجتماع الشرط والقسم أن يكون الجواب للسابق منهما وجواب المؤخر محذوفٌ
لسد المذكور مسده .
قال سيبويه : ومن ذلك : والله إذا لا أفعل من قبل أن أفعل معتمد على اليمين وإذن
لغو .
____________________
وقال كثير عزة : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . . . . والبيت قال
الأعلم : الشاهد فيه إلغاء إذن ورفع لا أقيلها اعتماداً على القسم المقدر في أول
الكلام .
وكذا صنع الشاطبي في شرح الألفية وقال : إن جملة لا أقيلها جواب القسم : قال :
مثله قول الآخر : الطويل ( لئن نائبات الدهر يوماً أدلن لي ** على أم عمروٍ دولةً
لا أقيلها ) وهذا البيت من الحماسة .
قال ابن جني في إعرابها : رفعه لا أقيلها يدلك على أنه معتمد لليمين وأن اللام في
لئن ليست الجواب للقسم في البيت الذي قبله . اه .
ولا يصح هنا جعل الجملة جواباً للشرط وإلا قيل لا أقلها بالجزم فإن المضارع المنفي
بلا ولم )
يجزم شرطاً وجواباً ولم يفتقر إلى الفاء .
وزعم ابن هشام في المغني أن جملة لا أقيلها جواب إن . قال فيه : والأكثر أن تكون
إذن جواباً لإن أو لو ظاهرتين أو مقدرتين .
فالأول كقوله : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . البيت واعترض عليه
الدماميني في الحاشية الهندية بأنه مخالفٌ للقاعدة المشهورة وهي أن القسم والشرط
متى اجتمعا فالجواب للسابق منهما واللام مصاحبة لقسمٍ مذكور في بيتٍ قبلها فالجواب
للقسم السابق لا للشرط اللاحق ولهذا لم يجزم
____________________
الفعل . وإلا فلو كان للشرط
لجزم .
انتهى .
وما ذكره من القاعدة في اجتماعهما هو ما نظمه ابن مالك في الألفية وقال : ( واحذف
لدى اجتماع شرطٍ وقسم ** جواب ما أخرت فهو ملتزم ) ولم يذكر الشاطبي في شرحه
خلافاً في هذا . وبه تعلم سقوط قول ابن الملا في شرح المغني : إطلاق أن إذن جوابٌ
مجاز فلا يرد أن رابط هذا الشرط إنما هو الفاء أو إذا الفجائية ليقال : أراد
بكونها حرف جوابٍ أنها تختص به وإن لم تكن رابطةً له بالشرط .
والاعتراض بأن ما ذكره مخالفٌ للقاعدة فالجواب أن التمثيل هنا ليس على المشهور بل
على رأي ابن مالك كما هو مذهب الفراء من جعل الجواب للشرط المتأخر . هذا كلامه إن
كان له .
وقد عرفت أن الجواب لو كان للشرط لجزم ولم يحتج للفاء أو إذا .
وأغرب من هذا قول العيني : لا أقيلها : في موضع جزم على جواب الشرط وعملت إن في
الموضع دون اللفظ .
والاستشهاد في إذن حيث ألغيت لوقوعها بين القسم والجواب وهما : حلفت ولا أقيلها .
تتمة قال أبو علي في المسائل البغدادية : ذكر سيبويه لئن أتيتني لأفعلن وما أشبهه
نحو قوله تعالى : ولئن جئتهم بآية ليقولن الذين كفروا فزعم أن الذي يعتمد عليه
اليمين اللام الثانية فاعتل أبو إسحاق لذلك في كتابه في القرآن عند
____________________
قوله تعالى : ولقد علموا لمن
اشتراه بأن قال : إن اللام )
الثانية هي لام القسم في الحقيقة لأنك إنما حلفت على فعلك لا على فعل غيرك في قولك
: والله لئن جئتني لأكرمنك .
وهذا الذي اعتل به فاسدٌ جداً ضعيف وذلك أنه لو قال : والله لئن جئتني ليقومن عمرو
لكان الذي يعتمد عليه القسم اللام الثانية مع أن الحالف لم يحلف على فعل نفسه
وإنما حلف على فعل غيره . فهذا عندي بين الفساد . ولكن مما يدل على أن الاعتماد
على اللام الثانية أو ما يقوم مقامها مما يتلقى به القسم قول كثير : لئن عاد لي
عبد العزيز بمثلها . . . . . . . . . البيت فلو كان الاعتماد على اللام في لئن دون
لا أقيلها لوجب أن ينجزم الفعل بعد لا في الجزاء فلما ارتفع الفعل الذي هو لا
أقيلها علمت أن معتمد اليمين إنما هو على اللام الثانية أو ما أشبه اللام . فمن
هنا تعلم أن الاعتماد على الثانية لا من حيث ذكر . اه . ( وإن ابن ليلى فاه لي
بمقالةٍ ** ولو سرت فيها كنت ممن ينيلها ) ( عجبت لتركي خطة الرشد بعدما ** بدا لي
من عبد العزيز قبولها ) ( وأمي صعبات الأمور أروضها ** وقد أمكنتني يوم ذل ذلولها
) ( حلفت برب الراقصات إلى منى ** يغول البلاد نصها وزميلها ) لئن عاد لي عبد
العزيز . . . . . . . البيت
____________________
( فهل أنت إن راجعتك القول
مرةً ** بأحسن منها عائدٌ فمقيلها ) قال ابن هشام اللخمي في شرح أبيات الجمل : ذكر
أهل الأخبار أن كثيراً لما دخل على عبد العزيز فأنشده قصيدته التي ألحق فيها البيت
المستشهد به مع الأبيات المتقدمة أعجب بقوله فيها : الطويل ( إذا ابتدر الناس
المكارم بذهم ** عراضة أخلاق ابن ليلى وطولها ) فقال : حكمك يا أبا صخر . قال :
فإني أحكم أن أكون مكان ابن رمانة .
وكان ابن رمانة كاتب عبد العزيز وصاحب أمره . فقال له عبد العزيز : ترحاً لك ما
أردت ويلك ولا علم لك بخراجٍ ولا كتابة اخرج عني فخرج كثير نادماً على ما حكم ثم
لم يزل يتلطف حتى دخل عليه فأنشده : فلما أتى إلى قوله : )
فهل أنت إن راجعتك القول مرةً . . . . . . . . . . . . البيت قال له عبد العزيز :
أما الآن فلا ولكن قد أمرنا لك بعشرين ألف درهم .
فقوله في البيت : لئن عاد لي عبد العزيز بمثلها أي : بمقالةٍ مثلها وهي قول عبد
العزيز له : حكمك .
وقوله : إذن لا أقيلها أي : أطلب منه ما لا اعتراض علي فيه ولا قدح . هكذا فسره
العلماء وهو الصحيح . وما قاله ابن سيده أن عبد العزيز بن مروان كان أعطاه جاريةً
فأبى كثير من قبولها ثم ندم بعد ذلك فيقول : لئن عاد لي بجارية مثلها مرة أخرى لا
أقيلها غلط . وهو قياسٌ منه والصحيح ما تقدم . اه .
____________________
وممن حكى هذا ابن السيد في شرح أبيات الجمل قال : وقيل بل عرض عليه أن يهب له
جارية ويترك التغزل بعزة فأبى من ذلك ثم ندم على ما فعل فقال هذا الشعر . اه .
ولم يذكر الجاحظ في البيان والتبيين إلا الوجه الأول قال فيه : ومن الحمقى كثير
عزة . ومن حمقه أنه دخل على عبد العزيز بن مروان فمدحه بمديحٍ استجاده فقال له :
سلني حوائجك . قال : تجعلني في مكان ابن رمانة . قال : ويلك ذاك رجلٌ كاتب وأنت
شاعر فلما خرج ولم ينل عجبت لتركي خطة الرشد . . . . . . . . . . الأبيات المتقدمة
وقوله : وإن ابن ليلى فاه لي بمقالة إلخ قال السيرافي : أراد بمثل المقالة
المذكورة في هذا البيت .
والمعنى ممن ينيلهوها . والعائد إلى من هو ضمير المذكور المنصوب المحذوف وضمير
المؤنث للمقالة .
وفي ينيلها ضمير فاعل لابن ليلى والمعنى ينيله ابن ليلى إياها أي : لو سرت في
طلبها .
وقال الأندلسي : فإن قلت : كيف ينيله المقالة قلت : يريد المقالة فيه .
قال ابن المستوفي : وهذا قولٌ غير مشكل لأن عبد العزيز حكمه ولا نيل أوفى من أن
يحكم المسؤول سائله أي : لو طلبتها من عبد العزيز لعاد لي بمثلها محكما فكنت ممن
ينيله عبد العزيز إياها على ما ذكره السيرافي .
وقوله : ولو سرت فيها أي : لو رحلت لأجلها أي : لطلبها .
وقوله : عجبت لتركي إلخ الخطة بالضم : الأمر والقصة . وأراد بخطة الرشد تحكيم عبد
العزيز إياه فيما يطلب . )
وفسرها العيني وتبعه السيوطي بخصلة الهداية . وهذا معناها اللغوي ولم يذكر المراد
منها .
____________________
وعبد العزيز هو عبد العزيز بن مروان بن الحكم والد عمر بن عبد العزيز أمير مصر
وولي العهد بعد أخيه عبد الملك من أبيهما مروان . وقول الدماميني : هو أحد الخلفاء
الأمويين ينبغي حمله على ولاية العهد وإلا فهو لم يل الخلافة أصلاً .
لكن يبقى عليه أن الصحيح أن خلافة مروان غير صحيحة وأنه خارجٌ على ابن الزبير باغٍ
عليه فلا يصح عهده إلى ولديه .
ولما ملك مروان الشام سار إلى مصر وغلب عليها واستخلف عليها ولده عبد العزيز فبقي
أميرها إلى أن مات سنة خمس وثمانين عند الأكثر .
حكي عنه أنه رجلاً دخل عليه يشكو صهراً له فقال : إن ختني فعل بي كذا وكذا . فقال
له : ومن خنتك وفتح النون . فقال : ختنني الختان الذي يختن الناس . فقال عبد
العزيز لكاتبه : ما هذا الجواب فقال : إن الرجل يعرف النحو وكان ينبغي أن تقول :
من ختنك بضم النون .
فقال : والله لا شاهدت الناس حتى أعرف النحو وأقام في بيته جمعةً لا يظهر ومعه من
يعلمه العربية ثم صلى بالناس الجمعة الأخرى وهو من أفصح الناس .
وقوله : وأمي صعبات إلخ الأم بفتح الهمزة وتشديد الميم : القصد مصدرٌ مضاف إلى
فاعله ومفعوله الصعبات بسكون العين . وأروضها : أذللها . والذلول بالفتح : السهل
المنقاد .
وقوله : حلفت برب الراقصات إلخ قال ابن السيرافي : الرقص . ضرب من الخبب في العدو
.
وحلف برب الإبل التي يسار عليها إلى الحج . وتغول البلاد : تقطعها . والنص والذميل
: ضربان من العدو .
وقوله : لئن عاد لي عبد العزيز الضمير في قوله بمثلها راجعٌ لمقالة عبد العزيز وهي
: حكمك أو سلني حوائجك . ويجوز أن يرجع لخطة الرشد التي هي عبارةٌ عن مقالة عبد
العزيز . ولم يذكر غيره العيني .
ويؤيده قول الزمخشري : منها أي من الخطة . لا أقيلها أي : العثرة . اه .
____________________
والعثرة غير مذكورة في الكلام وإنما أعاد الضمير عليها لفهمها من المقام .
والإقالة : الرد . وفي الدعاء يقال : لا أقال الله عثرته قال ابن المستوفي وبعض
فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : ويروى : لا أفيلها بالفاء أي : لا )
أفيل رأيه فيها أو في التأخر عنه والتثبط عن تنجيز ما وعدني به . يقال : فال يفيل
فيلولة إذا ترك الرأي الجيد وفعل ما لا ينبغي للعقلاء أن يفعلوه . فالفيلولة : ضعف
الرأي . وهذه الرواية هي المناسبة . والله أعلم .
وترجمة كثير عزة تقدمت في الشاهد الثالث والسبعين بعد الثلثمائة .
وأنشد بعده وهو من شواهد المفصل : الطويل ( فقالت : أكل الناس أصبحت مانحاً **
لسانك كيما أن تغر وتخدعا ) على أن كي عند الأخفش حرف جر دائماً ونصب الفعل بعدها
بأن مضمرة وقد تظهر كما في البيت .
نقل ابن المستوفي عن صاحب المفصل أنه قال في الحواشي : لما دخل عليها حرف الجر
تعينت أنها حرفٌ ناصب للفعل . فإذا جاءت كي ومعها أن كان شاذاً للجمع بين المنوب
والنائب كالجمع بين العوض والمعوض عنه . اه .
____________________
وهذا عند ابن عصفور ضرورة قال في كتاب الضرائر : ومنها زيادة أن كقولك : الطويل
أردت لكيما أن تطير بقربتي أن فيه زائدة غير عاملة لأن لكيما تنصب الفعل بنفسها
ولا يجوز إدخال ناصب على ناصب .
وأما قول حسان : الطويل فقالت أكل الناس أصبحت مانحاً . . . . . . . . . . . البيت
فأن فيه ناصبة لا زائدة أظهرت للضرورة لأن كيما إذا لم تدخل عليها اللام كان الفعل
بعدها ومثله لابن هشام قال في المغني : ولا تظهر أن بعد كي بلا لام إلا في الضرورة
. وأنشد البيت ثم قال : وعن الأخفش أن كي جارةٌ دائماً وأن النصب بعدها بأن ظاهرة
أو مضمرة . ويرده نحو : لكيلا تأسوا . فإن زعم أن كي
____________________
تأكيدٌ للام كقوله : الوافر
ولا للما بهم أبداً دواء رد بأن الفصيح المقيس لا يخرج على الشاذ . اه .
وقال ابن يعيش : ويروى : )
لسانك هذا كي تغر وتخدعا وقال السيوطي : رأيته في ديوان جميل كما قال ابن يعيش فلا
شاهد ولا ضرورة .
وكذا قال ابن المستوفي : هكذا هو في شعره ولعل ما أورده الزمخشري روايةٌ أخرى .
والمعنى أنها قالت له : أهكذا منحت لسانك هذا لتغرهم كما تغرني وتخدعهم كما تخدعني
.
والصحيح أن البيت من قصيدة لجميل العذري صاحب بثينة لا لحسان بن ثابت . وهذا مطلع
القصيدة : الطويل ( عرفت مصيف الحي والمتربعا ** كما خطت الكف الكتاب المرجعا ) (
معارف أطلالٍ لبثنة أصبحت ** معارفها قفراً من الحي بلقعا )
____________________
( فقالت : أفق ما عندنا لك
حاجةٌ ** وقد كنت عنا ذا عزاءٍ مشيعا ) ( فقلت لها : لو كنت أعطيت عنكم ** عزاءً
لأقللت الغداة التضرعا ) ( فقالت : أكل الناس أصبحت مانحاً ** لسانك هذا كي تغر
وتخدعا ) المصيف موضع الإقامة في الصيف . والمتربع : موضع الإقامة في الربيع .
وقوله : كما خطت إلخ حال منهما . أراد أن الآثار قد انمحت كالخط القديم الذي قد
روجع للقراءة فيه مراتٍ كثيرة .
والمعارف : الأماكن المعروفة . والبلقع : الخالي من الأنيس . والخود بالفتح :
الجارية الناعمة والجمع خود بالضم . وأجملي : أمرٌ من الإجمال وهو المعاملة
بالجميل .
وأصفيت مجهول أصفيته الود أي : أخلصته له . والعزاء : الصبر . والمشيع بفتح
المثناة التحتية المشددة . يقال : قلبٌ مشيع أي : مشجع أي : ذو شيعة وهم الأنصار
والأتباع .
وقوله : فقالت أكل الناس إلخ الهمزة للاستفهام التقريري وكل : مفعول ثان لمانحاً
وفيه تقديم مفعول معمول أصبح عليه لأن مانحاً خبر أصبح . والمنح : الإعطاء يتعدى
لمفعولين . يقال : منحه كذا بفتح النون في الماضي وتفتح وتكسر في المستقبل .
ولسانك : مفعوله الأول . ومنح اللسان عبارةٌ عن التلطف والتودد وغره : خدعه .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : وروى : ماتحاً بالمثناة من فوق من متح
الماء من البئر إذا استقى منها . وجعله هنا بمعنى سقى فعداه إلى مفعولين . ويصبح
أن يكون لسانك منصوباً بنزع الخافض أي : بلسانك . هذا كلامه . وما في كيما زائدة .
____________________
وزعم العيني أنها مصدرية أو كافة . ولا وجه لهما . فتأمل . )
وغرته الدنيا غروراً من باب قعد : خدعته بزينتها . فمفعوله محذوف أي : تغرهم .
وكذا ما بعده . وخدعه : مكر به بفتح الدال في الماضي والمستقبل والألف للإطلاق .
وترجمة جميل العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والخمسون بعد الستمائة ) الطويل ( أردت لكيما أن تطير
بقربتي ** فتتركها شناً ببيداء بلقع ) لما تقدم قبله .
وقال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز إظهار أن بعد كي
توكيداً لكي .
وذهب بعضهم إلى أن العامل في جئت لكي أن أكرمك اللام وكي وأن توكيدان لها . وقالوا
: يدل على جواز إظهارها النقل كقوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي والقياس على
تأكيد بعض الكلمات لبعض فقد قالوا : لا ما إن رأيت مثل زيد . فجمعوا بين ثلاثة من
أحرف الجحد المبالغة .
____________________
وقال البصريون : لا يخلو إظهار أن بعد كي إما لأنها كانت مقدرة فظهرت وإما لأنها
زائدة .
والأول باطل لأن كي عاملةٌ بنفسها ولو كانت تعمل بتقدير أن لكان ينبغي إذا ظهرت أن
يكون العمل لأن فلما أضيف العمل إلى كي دل على أنها العامل .
وكذا الثاني باطل لأن زيادتها ابتداء ليس بمقيس فوجب أن لا يجوز إظهار أن بحال .
ومنهم من قال : إنما لم يجز إظهار أن بعد كي وحتى لأنهما صارتا بدلاً من اللفظ بأن
كما صارت ما بدلاً عن الفعل في قولهم : أما أنت منطلقاً انطلقت معك والتقدير : أن
كنت منطلقاً فحذف الفعل وجعل ما عوضاً عنه .
وأما قوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي فلا حجة فيه لأن قائله مجهول . وإن علم
فإظهار أن بعد كي لضرورة الشعر أو لأن أن بدلٌ )
من كي لأنهما بمعًنى واحد . اه .
والجيد هو الجواب الثاني . وأما الأول والثالث ففاسدان .
والذاهب إلى أن العامل اللام وكي وأن مؤكدان لها هو الفراء قال في تفسيره عند قوله
تعالى : يريد الله ليبين لكم : مثله في موضع آخر : والله يريد أن يتوب عليكم .
والعرب تجعل اللام التي على معنى كي في موضع أن في أردت وأمرت فتقول : أردت أن
تذهب وأردت لتذهب وأمرتك أن تقوم وأمرتك لتقوم .
قال تعالى : وأمرنا لنسلم لرب العالمين وقال في موضع آخر : قل إني أمرت أن أكون
أول من أسلم . وقال : يريدون ليطفئوا و أن
____________________
يطفئوا . وإنما صلحت اللام في
موضع أن في أمرت وأردت لأنهما يطلبان المستقبل ولا يصلحان مع الماضي .
ألا ترى أنك تقول : أمرتك أن تقوم ولا يصلح أمرتك أن أقمت وكذلك أردت . فلما رأوا
أن في غير هذين تكون للماضي وللمستقبل استوثقوا لمعنى الاستقبال بكي وباللام التي
في معنى كي .
وربما جمعوا بينهما وربما جمعوا بين ثلاثهن .
أنشدني أبو ثروان : الطويل فجمع بين اللام وكي وأن . وقال تعالى : لكيلا تأسوا .
وقال الآخر في الجمع بينهن : أردت لكيما أن تطير بقربتي . . . . . . . . . . .
البيت وإنما جمع بينهن لاتفاقهن في المعنى واختلاف لفظهن . قال رؤبة : الرجز بغير
لا عصفٍ ولا اصطراف وربما جمعوا بين ما ولا وإن التي على معنى الجحد أنشدني
الكسائي في بعض البيوت :
____________________
لا ما إن رأيت مثلك فجمع بين
ثلاثة أحرف . وربما جعلت العرب اللام مكان أن فيما أشبه أردت وأمرت مما يطلب
المستقبل . أنشدني أبو الجراح الأنفي من بني أنف الناقة من بني سعد : الطويل ( ألم
تسأل الأنفي يوم يسوقني ** ويزعم أني مبطل القول كاذبه ) ( أحاول إعناتي بما قال
أم رجا ** ليضحك مني أو ليضحك صاحبه ) والكلام : رجا أن يضحك . ولا يجوز ظننت
لتقوم وذلك أن أن التي تدخل مع الظن تكون مع الماضي نحو : أظن أن قد قام زيد فلم
تجعل اللام في موضعها ولا كي إذ لم تطلب المستقبل )
وحده . وكلما رأيت أن تصلح مع المستقبل والماضي فلا تدخلن كي ولا اللام .
هذا كلام الفراء .
وظهر منه أن أن لا تكون إلا مع كي المسبوقة باللام مع تقدم أحد الفعلين من أمر
وأراد وما أشبههما وأن لام كي لا تكون إلا مسبوقة بأحد هذين الفعلين .
وقال ابن هشام في المغني : كي تكون بمنزلة أن المصدرية معنًى وعملاً نحو : لكيلا
تأسوا يؤيده صحة حلول أن محلها وأنها لو كانت حرف تعليل لم يدخل عليها حرف تعليل .
ومن ذلك : جئتك كي تكرمني إذا قدرت اللام قبلها فإن لم تقدر فهي تعليلية جارة ويجب
حينئذ إضمار أن . ومثله في الاحتمالين قوله : أردت لكيما أن تطير بقربتي
____________________
فكي إما تعليلة مؤكدة للام أو
مصدرية مؤكدة بأن ولا تظهر أن بعد كي إلا في الضرورة كقوله : كيما أن تغر وتخدعا
وقوله : أردت لكيما إلخ ما : صلة وزائدة . والطيران هنا مستعارٌ للذهاب السريع .
والقربة : بكسر القاف معروفة .
وتتركها : منصوب بالعطف على تطير . والترك يستعمل بمعنى التخلية ويتعدى لمفعول
واحد وبمعنى التصيير ويتعدى لمفعولين وهنا محتملٌ لكلٍّ منهما . فشناً على الأول
حال من الهاء وببيداء : عليهما متعلق بالترك أو هو المفعول الثاني وشناً : حال .
وبلقع : بالجر صفة بيداء .
وقال العيني : شناً حال بتأويل متشننة من التشنن وهو اليبس في الجلد . والباء في
ببيداء تتعلق بمحذوف تقديره شناً كائنةً ببيداء . هذا كلامه .
والشن بفتح المعجمة وتشديد النون : القربة الخلق . والبيداء : الفلاة التي يبيد من
يدخلها أي : يهلك . والبلقع : القفر .
وهذا البيت قلما خلا منه كتابٌ نحوي ولم يعرف قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والخمسون بعد الستمائة ) المديد
____________________
( كي لتقضيني رقية ما **
وعدتني . . . . . . . . . . . . . البيت ) على أن الأخفش يعتذر لتقدم اللام على كي
في لكيما وتأخرها عنها في كي لتقضيني أن المتأخر بدلٌ من المتقدم .
وهذا يرد على الكوفيين في زعمهم أن كي ناصبة دائماً لأن لام الجر لا تفصل بين
الفعل وقال الدماميني : هذا الرد على الكوفيين ظاهر . أما إذا جعل النصب بأن مضمرة
كما يقال البصريون وكي جارةٌ تعليلية أكدت بمرادفها وهي اللام انتفى هذا المحذور .
نعم يلزم الشذوذ من جهة هذا التأكيد ولكنه سمع في كلامه بل هو أحق من نحو قوله :
ولا للما بهم أبداً دواء لاختلاف الحرفين لفظاً . هذا كلامه .
وهو خلاف ما في التذكرة لأبي علي قال فيها : كي هنا بمعنى أن ولا تكون الجارة لأن
حرف الجر لا يتعلق . وإذا كانت الأخرى كانت زائدة كالتي في قوله : الطويل
____________________
كأن ظبيةٍ تعطو إلى وارق
السلم وقال النيلي في شرح الكافية : ويحتمل أن يكون أراد : لكي تقضيني فقدم وأخر .
والبيت من أبياتٍ لابن قيس الرقيات محذوف الآخر .
وقبله : ( ليتني ألقى رقية في ** خلوةٍ من غير ما أنس ) ( كي لتقضيني رقية ما **
وعدتني غير مختلس ) ورقية : اسم محبوبته . والأنس بفتحتين بمعنى الإنس بكسر الهمزة
وسكون النون . وما : وقوله : لتقضيني علة لقوله ألقى . والقضاء : الأداء يقال :
قضيت الحج والدين أي : أديتهما . فهو متعدٍّ لمفعول واحد . فما في البيت بدل
اشتمال من الياء . وكون ما موصوفةً أحسن من كونها موصولة . فتأمل .
وقال العيني : مفعول ثانٍ لتقضيني وهي يجوز أن تكون موصولة والعائد محذوف أي : وعدتني
إياه . ويجوز أن تكون مصدرية أي : لتقضيني وعدها لي . اه . )
وهو في هذا محتاجٌ إلى أن يثبت قضى متعدياً إلى مفعولين ولا سبيل إليه إلا بتضمين
وهو غير مقيس .
والمختلس بفتح اللام : مصدر ميمي يقال : خلست الشيء خلساً من باب ضرب واختلسته
اختلاساً أي : اختطفته بسرعة على غفلة . وغير :
____________________
مفعول مطلق أي : لتقضيني
قضاءً غير اختلاس . والمراد : لأنال من وصلها في أمنٍ من الرقباء .
وقد تقدمت ترجمة ابن قيس الرقيات في الشاهد الثالث والثلاثين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والخمسون بعد الستمائة ) فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا
على أن الحرف قد يبدل من مثله الموافق له في المعنى كما في البيت فإن ثم بدلٌ من
الفاء .
وذهب ابن جني في سر الصناعة وتبعه ابن هشام في المغني إلى أن الفاء زائدة . قال :
لأن الفاء قد عهد زيادتها .
وكذا في كتاب الضرائر لابن عصفور قال : ومن زيادة الفاء قوله : الطويل
____________________
( يموت أناسٌ أو يشيب فتاهم
** ويحدث ناسٌ والصغير فيكبر ) يريد : والصغير يكبر .
وقول أبي كبير : الكامل ( فرأيت ما فيه فثم رزئته ** فلبثت بعدك غير راضٍ معمري )
يريد : ثم رزئته .
وقول الأسود بن يعفر : الكامل ( فلنهشلٌ قومي ولي في نهشلٍ ** نسبٌ لعمر أبيك غير
غلاب ) زد الفاء في أول الكلام لأن البيت أول القصيدة . اه .
وقال النيلي في شرح الكافية : الذي أراه أن الفاء للترتيب المتصل في الحكم وكأن
الشاعر ونقل السيوطي في شرح أبيات المغني : عن السيرافي أنه قال : الأجود فثم بفتح
المثلثة لكراهة دخول عاطف على عاطف .
والبيت من قصيدةٍ لزهير بن أبي سلمى وهي : الطويل ) ( ألا ليت شعري هل يرى الناس
ما أرى ** من الأمر أو يبدو لهم ما بدا ليا ) ( بدا لي أن الناس تفنى نفوسهم **
وأموالهم ولا أرى الدهر فانيا ) ( وأني متى أهبط من الأرض تلعةً ** أجد أثراً قبلي
جديداً وعافيا )
____________________
( أراني إذا ما بت بت على
هوًى ** فثم إذا أصبحت أصبحت غاديا ) ( إلى حفرةٍ أهوي إليها مقيمةٍ ** يحث إليها
سائقٌ من ورائيا ) ( كأني وقد خلفت تسعين حجةً ** خلعت بها عن منكبي ردائيا ) (
بدا لي أني عشت تسعين حجةً ** تباعاً وعشراً عشتها وثمانيا ) ( بدا لي أن الله
حقٌّ فزادني ** من الحق تقوى الله ما قد بدا ليا ) ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى
** ولا سابقاً شيئاً إذا كان جائيا ) ( أراني إذا ما شئت لاقيت آيةً ** تذكرني بعض
الذي كنت ناسيا ) ( وما إن أرى نفسي تقيها كريمتي ** وما إن تقي نفسي كريمة ماليا
) ( وإلا السماء والبلاد وربنا ** وأيامنا معدودةً واللياليا ) ( ألم تر أن الله
أهلك تبعا ** وأهلك لقمان بن عادٍ وعاديا ) ( وأهلك ذا القرنين من قبل ما ترى **
وفرعون أردى كيده والنجاشيا ) ( إذا أعجبتك الدهر حالٌ من امرىءٍ ** فدعه وواكل
حاله واللياليا )
____________________
( ألا لا أرى ذا إمةٍ أصبحت
به ** فتتركه الأيام وهي كما هيا ) ( ألم تر للنعمان كان بنجوةٍ ** من الشر لو أن
امرأً كان ناجيا ) ( فغير عنه ملك عشرين حجةً ** من الدهر يومٌ واحدٌ كان غاويا )
( فلم أر مسلوباً له مثل ملكه ** أقل صديقاً معطياً أو مواسيا ) ( فأين الذين كان
يعطي جياده ** بأرسانهن والحسان الغواليا ) ( وأين الذين كان يعطيهم القرى **
بغلاتهم والمئين العواديا ) ( وأين الذين يحضرون جفانه ** إذا قدمت القوا عليها
المراسيا ) ( رأيتهم لو يشركوا بنفوسهم ** منيته لما رأوا أنها هيا ) ( سوى أن
حياً من رواحة حافظوا ** وكانوا أناساً يتقون المخازيا ) ( فساروا له حتى أناخوا
ببابه ** كرام المطايا والهجان المتاليا ) ) ( وأجمع أمراً كان ما بعده له ** وكان
إذا ما اخلولج الأمر ماضيا ) قال صعوداء والأعلم الشنتمري في شرحيهما لديوان زهير
: هذه القصيدة قالها زهير يذكر النعمان بن المنذر حيث طلبه كسرى ليقتله ففر فأتى
طيئاً وكانت ابنة أوس بن حارثة بن لأم عنده فأتاهم فسألهم أن يدخلوه جبلهم فأبوا
عليه .
وكانت له يدٌ في بني عبس في مروان بن زنباع وكان أسر فكلم فيه عمرو بن
____________________
هند عمه وشفع له فشفعه وحمله
النعمان بن المنذر وكساه . فكانت بنو عبس يشكرون ذلك للنعمان فلما هرب من كسرى ولم
تدخله طيىءٌ جبلها لقيته بنو رواحةً من عبس وهم رهط مروان بن زنباع فقالوا له :
أقم فينا فإنا نمنعك من كسرى ومما نمنع منه أنفسنا . فقال لهم : لا طاقة لكم بكسرى
وجنوده . فأبى وساروا معه فأثنى عليهم خيراً وودعهم .
وقال الأصمعي : ليست لزهير ويقال هي لصرمة الأنصاري . ولا تشبه كلام زهير .
وقوله : ولا أرى الدهر فانيا قال صعوداء : يقال إن الدهر هو الله جل وعز ثناؤه
وإنما يراد بذلك أن الذي يحدثه الدهر إنما هو من تقدير الله فلا ينبغي أن يسب
الدهر لأنه يرجع إلى سب ما قدر الله .
وقوله : وأني متى أهبط إلخ قال الأعلم : التلعة : مجرى الماء إلى الروضة وتكون
فيما علا عن والعافي : الدارس . يقول : حيثما سار الإنسان من الأرض فلا يخلو من أن
يجد فيه أثراً قديماً أو حديثاً .
وقوله : أراني إذا ما بت إلخ مع البيت بعده قال صعوداء : على هوًى أي : على أمر .
يقول : أراني إذا ما بت على أمرٍ أو حاجة أريدها ثم أغدو وأدع .
____________________
وقال الأعلم : أي : لي حاجةً لا تنقضي أبداً لأن الإنسان ما دام حياً فلا بد من أن
يهوى شيئاً ويحتاج إليه .
ولم يتعرض كلٌّ منهما إلى قوله فثم .
وفي جميع النسخ : غاديا بالغين المعجمة . وروى البيت في مغني اللبيب كذا : ( أراني
إذا أصبحت أصبحت ذا هوى ** فثم إذا أمسيت أمسيت عاديا ) قال ابن الملا : أراني من
أفعال القلوب التي يجوز أن يكون فاعلها ومفعولها الأول ضميرين متصلين متحدي المعنى
. )
والهوى : إرادة النفس أي : أصبح مريداً لشيءٍ وأمسي تاركاً له متجاوزاً عنه . يقال
: عدا فلان الأمر إذا تجاوزه .
قال الشمني : وهذا يدل على أن عادياً بالعين المهملة . وهو مضبوطٌ في بعض نسخ
المغني وغيره قال ابن القطاع : غدا إلى كذا : أصبح إليه . ورواية الإعجام أنسب
بالبيت بعده إذ يقال غدا إلى كذا بمعنى صار إليه . وإن صح أن يقال : المعنى
متجاوزاً إلى حفرة . ووصف الحفرة بكونها مقيمةً إما على معتقد الجاهلية من أنه لا
فناء للعالم ولا بعث أو المقيمة عبارةٌ عن ذات المدة الطويلة .
والسائق : الذي يحث على العدو إلى تلك الحفرة وهو الزمان فإنه المفني المبيد عندهم
. اه .
وقوله : كأني وقد خلفت إلى آخره قال الأعلم : أي لا أجد مس شيءٍ مضى فكأنما خلعت
به ردائي عن منكبي .
وقوله : بدا لي أني لست مدرك ما مضى
____________________
يأتي إن شاء الله شرحه في
الجوازم .
وقوله : أراني إذا ما شئت إلخ أي : إذا غفلت عن حوادث الدهر من موت وغيره ونسيتها
رأيت آيةٌ مما تصيب غيري فذكرتني ما كنت نسيت . والآية : العلامة .
وقوله : وما إن رأى إلخ قال صعوداء : كريمة ماله : أهله وخاصته . وروى الأعلم :
كريهتي وقال : لا تقي نفسي من الموت كريهتي أي : شدتي وجراءتي ولا تقيها كرائم
مالي .
وعادياء أبو السموءل بن حيا بن عادياء . وكان له حصن بتيماء وهو الذي استودعه
امراء القيس أدراعه .
وقال صعوداء : عادياء ابن عاد . وأول من سن الدية لقمان بن عاد . وأول من تكلم
بالعربية العمالقة بمكة ملوك كان يقال لهم العمالقة ولا يدرى لأي شيء سموا بذلك .
اه .
والنجاشي : ملك الحبشة . والأمة بالكسر : النعمة والحالة الحسنة أي : من كان ذا
نعمة فالأيام لا تتركه ونعمته كما عهدت أي : لابد من أن تغيرها الأيام .
وقوله : كان بنجوة من الشر أي : كان بمعزل منه . يقال : فلانٌ بنجوةٍ من السيل إذا
كان بموضع مرتفع حيث لا يدركه السيل . وروى صعوداء : بنجوة من العيش وقال : أي كان
بمرتفع من )
السلطان والملك .
وقوله : فغير عنه ملك إلخ والحجة بالكسر : السنة . والغاوي هنا : الواقع في هلكة .
وقال صعوداء : نسب اليوم إلى الغي لأن الغي كان فيه .
____________________
وقوله : فلم أر مسلوباً إلخ يقول : لم أر إنساناً سلب النعيم والملك وله عند الناس
أيادٍ ونعم كثيرة فلم يف له أحدٌ ولم يواسه كالنعمان حين لم يجره من استجار به .
والباذل : المعطي . وقوله : والمئين الغواديا أي : كان يهب المئين من الإبل فتغدو
عليهم .
وقوله : ألقوا عليها المراسيا أي : ثبتوا عليها آكلين منها . والمراسي : جمع مرسًى
وهو من رسا يرسو إذا ثبت وأقام ومنه مرسى السفينة . والجفان : القصاع .
وقوله : لم يشركوا بنفوسهم أي : لم يواسوه في الموت ومعناه لم يخلطوه بأنفسهم حين
استجار بهم من كسرى .
والهجان : البيض من الإبل وهي أكرمها . والمتالي : التي تتلوها أولادها جمع متلية
.
وقوله : فقال لهم خيراً أي : قال النعمان لبني رواحة خيراً لما دعوه إلى مجاورتهم
وودعهم وداع من يتيقن بالموت .
وقوله : وأجمع أمراً إلخ ما بعده أي : من ثنائه . واخلولج : التوى ولم يستقم .
والماضي : النافذ في الأمر العازم عليه .
وترجمة زهير تقدمت في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والخمسون بعد الستمائة ) الطويل
____________________
على أن يضر بالرفع وما : كافة
وقيل : مصدرية وكي : جارة أي : لمضرته ومنفعته .
وهذان الوجهان أجازهما أبو علي في التذكرة القصرية وفي البغداديات كما ننقله في
البيت بعده .
وكذا قال ابن هشام في المغني . وقال العيني : إن دخول كي على المصدرية نادر .
ورأيت في طبقات النحاة لأبي بكر محمد الشهير بالتاريخي عند ترجمة يونس ابن حبيب أن
يونس قال : كان عبد الأعلى بن عبد الله بن عامر فصيحاً وهو الذي يقول : ( إذا أنت
لم تنفع فضر فإنما ** يرجى الفتى كيما يضر وينفعا ) فعلى هذه الرواية ما : زائدة
ويضر منصوب بكي واللام مقدرة وأنت : فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور أي : إذا لم
تنفع الصديق فضر العدو . وإنما قدر الفعل واقعاً على هذا المفعول لأن العاقل لا
يأمر بالضر مطلقاً وحسن المقابلة اقتضى تعيين الأول .
ويرجى بتشديد الجيم المفتوحة أي : إنما يرجى الكامل في الفتوة لضرر من يستحق الضر
ونفع من يستحق النفع .
وقيل : يمكن حمل البيت على أن المراد الحث على النفع بالأمر بالضرر لا على أنه
مراد ولا
____________________
وروى : يراد بدل يرجى .
قال العيني : البيت للنابغة الذبياني وقيل للنابغة الجعدي . والأصح أن قائله قيس
بن الخطيم .
ذكره البحتري في حماسته . اه .
ولم نسمع أن للبحتري حماسة .
ونسبه الإمام الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن لقيس بن الخطيم بنصب يضر وينفع .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والخمسون بعد الستمائة ) الرجز لا تظلموا الناس كما لا
تظلموا على أن المبرد والكوفيين جوزوا نصب المضارع بعد كما على أن أصلها كيما حذفت
الياء تخفيفاً .
فإن لا تظلموا منصوب بحذف النون بها وقيل بل نصبه بما المصدرية حملاً على أن
المصدرية كما أن أن تهمل حملاً على ما . وهذا من باب التقارض .
____________________
والبصريون يمنعون ذلك وينشدون : لا تظلم الناس كما لا تظلم بالتوحيد فالفعل مرفوع
على هذا بعد لا النافية والكاف : للتشبيه وما : كافة .
قال سيبويه : سألت الخليل عن قول العرب : انتظرني كما آتيك فزعم أن ما والكاف
جعلتا بمنزلة حرف واحد وصيرت للفعل كما صيرت للفعل ربما والمعنى : لعلي آتيك . فمن
ثم لم ينصبوا به الفعل كما لم ينصبوا بربما .
قال : الرجز لا تشم الناس كما لا تشتم وقال أبو النجم : الرجز ( قلت لشيبان ادن من
لقائه ** كما تغذي القوم من شوائه ) انتهى .
قال الأعلم : الشاهد وقوع الفعل بعد كما لأنها كاف التشبيه ووصلت بما لوقوع الفعل
بعدها كما فعل بربما ومعناها هنا : لعل أي : لا تشتم الناس لعلك لا تشتم إن لم
تشتمهم . ومن النحويين من يجعلها بمعنى كي ويجيز النصب بها وهو مذهب الكوفيين .
وقال النحاس : هذا قول الخليل وسيبويه . وحكى ابن سعدان النصب بكما إذا كانت بمعنى
كيما وقد حكاه الأخفش سعيد .
____________________
وقوله : قلت لشيبان إلخ يأمر ابنه شيبان باتباع ظليمٍ والدنو منه لعله يصيده فيطعم
أصحابه من شوائه . )
وقال أبو علي في البغداديات بعد أن نقل عبارة سيبويه : جعل سيبويه كما في هذا
البيت كالتي في البيت الأول .
وأنشده أبو بكر عن يعقوب أو غيره من أهل الثبت في اللغة : كيما تغدي القوم . وقال
شيبان : ابنه أي : قلت له اركب في طلبه كيما تصيده فتغدي القوم به مشوياً . يصف
ظليماً .
وأقول : إن ما على هذا الإنشاد تحتمل وجهين : يجوز أن تكون زائدة كالتي في قوله :
فبما رحمةٍ . والفعل منصور . بإضمار أن إلا أنه ترك على الإسكان وذلك مما يستحسن
في الضرورات . ويجوز أن تكون ما بمعنى المصدر في موضع جرٍّ بكي وتغدي صلته وموضعه
رفع . ونظير ذلك قول الآخر أنشده أبو الحسن : ( إذا أنت لم تنفع فضر فإنما ** يرجى
الفتى كيما يضر وينفع ) كأنه وقال : للضرر والنفع . ويحتمل عندي أن تكون ما كافة
لكي كما كانت كافة لرب .
وقال ابن هشام في المغني : اختلف في نحو قوله : الطويل ( وطرفك إما جئتنا فاحبسنه
** كما يحسبوا أن الهوى حيث تنظر ) فقال الفارسي : الأصل كيما فحذف الياء . وقال
ابن مالك : هذا تكلف
____________________
بل هي كاف التعليل وما الكافة
ونصب الفعل بها لشبهها بكي في المعنى . وزعم أبو محمد الأسود في كتابه المسمى نزهة
الأديب أن أبا علي حرف هذا البيت وأن الصواب فيه : ( إذا جئت فامنح طرف عينك غيرنا
** لكي يحسبوا . . . . . . البيت ) انتهى .
والبيت الذي أورده الشارح المحقق لرؤبة بن العجاج ويأتي إن شاء الله بقية الكلام
عليه في الشاهد الأربعين بعد الثمانمائة .
والمشهور في الاستعمال ما أورده سيبويه وهو : الرجز لا تشتم الناس كما لا تشتم وهو
لرؤبة بن العجاج أيضاً . وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الوافر
____________________
ولبس عباءة وتقر عيني )
هذا صدرٌ وعجزه : أحب إلي من لبس الشفوف على أن تقر منصوب ب أن مضمرة بعد الواو
وأن تقر في تأويل مصدر معطوف على مصدر وهو لبس .
وسيأتي الكلام عليه إن شاء الله فيما بعد في الشاهد الثاني والسبعين بعد الستمائة
.
والبيت من أبياتٍ لميسون بنت بحدلٍ الكلبية وهي : ( لبيتٌ تخفق الأرواح فيه ** أحب
إلي من قصرٍ منيف ) ( وبكرٌ يتبع الأظعان سقباً ** أحب إلي من بغلٍ زفوف ) ( وكلبٌ
ينبح الطراق عني ** أحب إلي من قطٍّ ألوف ) ( ولبس عباءةٍ وتقر عيني ** أحب إلي من
لبس الشفوف ) ( وأكل كسيرةٍ في كسر بيتي ** أحب إلي من أكل الرغيف ) ( وأصوات
الرياح بكل فجٍّ ** أحب إلي من نقر الدفوف ) ( خشونه عيشتي في البدو أشهى ** إلى
نفسي من العيش الطريف )
____________________
( فما أبغي سوى وطني بديلاً
** فحسبي ذاك من وطنٍ شريف ) الخفق : الاضطراب وفعله من باب ضرب . والمنيف :
العالي . وأورد الحريري هذه الأبيات في درة الغواص لأجل هذا البيت على أنه يقال في
جمع ريح أرواح وقول الناس : أرياح قياساً على رياح خطأٌ .
والبكر بفتح الموحدة : الفتي من الإبل . والأظعان : جمع ظعينة وهي المرأة ما دامت
في الهودج .
والسقب : الذكر من ولد الناقة وهو حالٌ مؤكدة .
وروى : صعب فهو صفة لبكر . والزفوف بالزاء المعجمة والفاءين أي : المسرع .
والطراق : جمع طارق وهو الذي يأتي ليلاً .
وقوله : ولبس عباءة في غالب كتب النحو للبس بلامين وهو خلاف الرواية الصحيحة .
والعباء وكذا العباية : الجبة من الصوف ونحوها وقيل : كساءٌ مخططٌ .
وتقر بفتح القاف من قولهم : عين قريرة أي : باردة من البرد الذي هو النوم وقيل من
البرد هو ضد الحر أو من القرار وهو السكون لأن العين إذا قرت سكنت عن الطموح إلى
شيء )
والشفوف : جمع شف بكسر الشين وفتحها وهو الثوب الرقيق سمي بذلك لأنه يستشف ما
ومثله قول بعض الأعراب : الطويل ( لعمري لأعرابيةٌ في عباءةٍ ** تحل دماثاً من
سويقة أو فردا ) ( أحب إلى القلب الذي لج في الهوى ** من اللابسات الخز يظهرنه
كيدا )
____________________
والكسيرة بالتصغير : القطعة
من الخبز . والكسر بكسر الكاف : طرف الخباء من الأرض .
والخرق بكسر الخاء المعجمة : الكريم . والعلج بالكسر قال ابن دريد : هو الصلب
الشديد وبه سمي حمار الوحش علجاً . ويحتمل أن تريد : إن الأمرد أحب إلي من ذي
اللحية .
قال أبو زيد : يقال لكل ذي لحية علج ولا يقال للغلام إذا كان أمرد علج . واستعلج
الرجل إذا خرجت لحيته . والأول أنسب لقولها عليف أي : مسمنٌ بالعلف . قال الأعلم :
تعني به معاوية لقوته وشدته مع سمنه ونعمته .
وقال العيني : الغليف بالغين المعجمة وهو الذي يغلف لحيته بالغالية . ويجوز بالعين
المهملة .
وميسون قال اللخمي : هو زوج معاوية بن أبي سفيان وأم ابنه يزيد وكانت بدوية فضاقت
نفسها لما تسرى عليها فعذلها على ذلك وقال لها : أنت في ملكٍ عظيم وما تدرين قدره
وكنت قبل اليوم في العباءة : فقالت هذه الأبيات فلما سمعها قال لها : ما رضيت يا
ابنة بحدلٍ حتى جعلتني علجاً عليفاً فالحقي بأهلك .
فطلقها وألحقها بأهلها وقال لها : كنت فبنت فقالت : لا والله ما سررنا إذ كنا ولا
أسفنا إذ بنا ويقال : أنها كانت حاملاً بيزيد فوضعته في البرية فمن ثم كان فصيحاً
.
وقال الشريف في حماسته : وروى الكلبي عن عوانة قال : لما زفت ميسون بنت بحدلٍ من
بادية كلب إلى معاوية وهو بريف الشام ثقل عليها الغربة والبعد عن قومها فسمعها ذات
ليلة تقول هذه الأبيات فقال : أنا والله العلج : وازداد بها عجباً وإليها ميلاً .
____________________
قال ابن الكلبي في الجمهرة : كان معاوية بن أبي سفيان بعث رسولاً إلى بهدلة بن
حسان بن عدي بن جبلة بن سلامة بن عبد الله بن عليم بن جناب يخطب إليه ابنته فأخطأ
الرسول فذهب إلى بحدل بن أنيف من بني حارثة بن جناب فزوجه ابنته ميسون بنت بحدل
فولدت له يزيد .
انتهى .
ذكره في جمهرة قضاعة وهي من قبائل اليمن . )
وميسون : فيعول من مسنه بالسوط إذا ضربه أو فعلون من ماس يميس إذا تبختر ولا نظير
له إلا زيتون استدل به بعض النحويين على زيادة النون بالزيت المعصور .
وحكي أرض زتنة إذا كان فيها الزيتون . وبحدل بفتح الموحدة وسكون الحاء المهملة .
وأنشد بعده : الطويل على أن أحضر منصوب بأن مضمرة بدليل تمامه : وأن أشهد اللذات
هل أنت مخلدي
____________________
وتقدم الكلام عليه في الشاهد
العاشر من أوائل الكتاب .
وهذه رواية الكوفيين والرفع رواية البصريين . قال سيبويه : وقد جاء في الشعر : ألا
أيهذا الزاجري أحضر الوغى قال الأعلم : الشاهد فيه رفع أحضر بحذف الناصب وتعريه
منه . والمعنى : لأن أحضر الوغى .
وقد يجوز النصب بإضمار أن ضرورة وهو مذهب الكوفيين . انتهى .
وفي التذكرة القصرية وهي أسئلة من أبي الطيب محمد بن طوسي المعروف بالقصري وأجوبة
من شيخه أبي علي الفارسي قال : سألت أبا علي عن أحضر الوغى أي شيءٍ موضعه فقال :
نصبٌ وهو يريد حاضراً . فقلت : كيف يجوز أن يكون حالاً وإنما الحضور مزجورٌ عنه لا
عن غيره فقال : قد يجوز أن يكون لم يذكر المزجور عنه . فقلت : قد فهمنا من قوله :
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى قد نهاه عن حضور الوغى . قال : صير أن يفهم منه هذا
وإن كان ذلك لا يفهم منه إذا قدرته بقولك حاضراً . قلت : فإن الحضور لم يقع ونحن
نعلم أنه ما نهاه وقد حضر . قال : هذا مثل قولك : هذا صاحب صقر صائداً به غداً .
قلت : فما الحاجة إلى أن قدرته حالاً . قال : ليتعلق بما قبله وإلا فلا سبيل إلى
تعلقه بما قبله إلا على هذا الوجه . انتهى .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والخمسون بعد الستمائة ) الرمل لو بغير الماء حلقي
شرقٌ على أن الجملة الاسمية بعد لو وضعت موضع الجملة الفعلية شذوذاً كما قاله في
باب الاشتغال .
وهذا مذهب ابن جني ونسبه أبو حيان إلى أبي بكر بن طاهر .
وهذا صدر وعجزه : كنت كالغصان بالماء اعتصاري والباء من بغير متعلقة بالخبر وهو
شرق وحلقي : هو المبتدأ . وهذا أحد تخاريج ثلاثةٍ في ثانيها : لبدر الدين في شرح
ألفية والده قال : كان الشأنية محذوفة بعد لو فهي على بابها من دخولها على الجملة
الفعلية فتكون الجملة الاسمية خبراً لكان المحذوفة . ونسبه أبو حيان إلى البصريين
. ولم يذكر ابن هشام هذا التخريج في المغني .
ثالثها : لأبي علي الفارسي في الإيضاح الشعري قال فيه : موضع حلقي رفعٌ بأنه فاعل
والرافع له فعل مضمر يفسره شرق كأنه قال : لو شرق حلقي بغير الماء . ولا يكون شرق
خبر حلقي .
هذا الظاهر . لأن ما بعد لو لا
____________________
يكون مبتدأ كما أن ما بعد إن
وما بعد إذا لا يكون كذلك .
فإذا لم يجز أن تجعله خبر حلقي الواقع بعد لو لأنه يرتفع بفعل مضمر وجب أن تضمر له
مبتدأ والتقدير هو شرق فيكون هو شرقٌ بمنزلة شرق تفسيراً للفعل المضمر بعد لو
ويكون ذلك بمنزلة ما يحمل على المعنى . ألا ترى أن هو شرق بمنزلة شرق في المعنى
وقوله : بغير الماء يتعلق الجار فيه بالفعل الواقع لحلقي وهو أسهل من أن تعلقه
بشرقٍ هذا الظاهر . وإن لم تقدر هذا المضمر لزم أن تكون لو قد ابتدأ بعدها الاسم
فإذا ثبت في هذا الموضع إضمار الفعل فحكم سائر ما أشبهه مثله . انتهى مختصراً .
واختصره ابن هشام في المغني بقوله : وقال الفارسي : الأصل لو شرق حلقي هو شرق فحذف
الفعل أولاً والمبتدأ آخراً . انتهى .
ونسب أبو جعفر النحاس هذا التخرج لأبي الحسن الأخفش وأنشد البيت في أبيات سيبويه
وقال : أنشده سيبويه في باب من أبواب أن في نسخة أبي الحسن وحده . انتهى . )
وقد راجعت الكتاب وهو من رواية المبرد فلم أجده فيه .
وبتقدير المبتدأ تعرف أن ما نقله ابن جني عن شيخه الفارسي عند الكلام على البيت
الآتي خلاف الواقع . قال : سألنا يوماً أبا علي عن بيت عدي فأخذ يتطلب له وجهاً
وتعسف فيه وأراد أن يرفع حلقي بفعل مضمر يفسره قوله : شرق . فقلنا له : فبم يرتفع
إذن شرق فقال : هو بدلٌ من حلقي . فأطال الطريق وأعور المذهب .
ولو قال : إن الجملة الاسمية وقعت موقع الفعلية لكان أقرب مأخذاً وأسهل
____________________
متوجهاً . انتهى .
وقوله : بالماء اعتصاري قال أبو علي : موضع الجملة نصبٌ بأنه خبر كنت والعائد إلى
الاسم الياء في اعتصاري وكالغصان في موضع حال والعامل فيه كنت ولا يكون الخبر لأن
الحال إذا تقدمت لم يعمل فيها معنى الفعل كما يعمل في الظرف إذا تقدمه .
ولا تكون الباء في قوله بالماء كالجار في قوله : إني لكما لمن الناصحين . ولكنه
يتعلق بمحذوف في موضع خبر المبتدأ .
ألا ترى أنك لو قلت إني من الناصحين لكما لتعلقت اللام بالناصحين . ولو قلت : كنت
وقوله : ولا يكون الخبر أي : لا يكون العامل في الحال الخبر وهو قوله بالماء
الواقع خبراً لقوله اعتصاري . والجملة خبر كنت .
وزعم العيني أن قوله : كالغصان خبر كنت . ولم يذكر موقع الجملة التي بعده من
الإعراب .
ويجوز على هذا أن تكون خبراً ثانياً .
وشرق فلانٌ بريقه أو بالماء : إذا غص به ولم يقدر على بلعه وهو من باب تعب .
والغصان من غص فلانٌ بالطعام غصصاً من باب تعب ومن باب قتل لغة إذا لم يقدر على
بلعه . والغصة : بالضم : ما غص به الإنسان من طعام أو غيظٍ على التشبيه به ويتعدى
بالهمزة نحو : أغصصته به .
قال الجوهري : الاعتصار : أن يغص الإنسان بالطعام فيعتصر بالماء وهو أن يشربه
قليلاً قليلاً ليسيغه . وأنشد هذا البيت .
وتحقيقه أن الاعتصار معناه : الالتجاء كما قاله أبو القاسم علي بن حمزة البصري
____________________
فيما كتبه على كتاب النبات
لأبي حنيفة الدينوري وهذا نص كلامه وفيه فوائد .
وأنشد أبو حنيفة للبعيث : الطويل ) ( وذي أشرٍ كالأقحوان تشوفه ** ذهاب الصبا
والمعصرات الدوالح ) وقال : الدوالح : الثقال التي تدلح بالماء . ويرى أنه معنى
قول الله عز وجل : وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً . وقال قوم : إن المعصرات
الرياح ذات الأعاصير وهو الرهج والغبار .
قال الشاعر : الكامل ( وكأن سهك المعصرات كسونها ** ترب الفدافد والنقاع بمنخل )
النقاع : جمع نقع وهو القاع من القيعان . وزعموا أن معنى من معنى الباء كأنه قال :
وأنزلنا بالمعصرات .
وقال بعضهم : بل المعصرات الغيوم أنفسها ذهب إلى معنى البعيث . ولا يحتمل قوله غير
السحاب لقوله : الدوالح فتكون المعصرات التي أمكنت الرياح من اعتصارها واستنزال
قطرها كما يقال أمضغ النخل وآكل وأطعم وأفرك الزرع إذا أمكن ذلك فيه .
قال أبو القاسم : ألم أبو حنيفة بالصواب ثم حاد عنه . المعصرات : السحابات بعينها
ولكنها إنما سميت بذلك بالعصر بفتحتين والعصرة بالضم وهما الملجأ .
قال الشاعر : الخفيف
____________________
( فارسٌ يستغيث غير مغاثٍ **
ولقد كان عصرة المنجود ) أي : ملجأ المكروب . وتقول : أعصرني فلان إذا ألجأك إليه
. واعتصرت أنا اعتصاراً .
لو بغير الماء حلقي شرقٌ . . . . . . . البيت فمعنى المعصرات المنجيات من البلاء
المعصمات من الجدب بالخصب لا ما قال أبو حنيفة ولا ما قال من قال : إنها الرياح
ذات الأعاصير . فلا تلتفتن إلى القولين معاً . انتهى كلامه .
وكذا قال أبو عبيد : الاعتصار : الملجأ . والمعنى : لو شرقت بغير الماء أسغت شرقي
بالماء فإذا غصصت بالماء فبم أسيغه وقد صار البيت مثلاً للتأذي ممن يرجى إحسانه .
قال ابن عبد ربه في العقد الفريد : هذا البيت أول ما قيل في معناه .
وقال آخر : الطويل ( إلى الماء يسعى من يغص بريقه ** فقل أين يسعى من يغص بماء )
وقال الأحنف بن قيس : من فسدت بطانته كان كمن غص بالماء . وقال العباس بن أحنف : )
السريع ( قلبي إلى ما ضرني داعي ** يكثر أحزاني وأوجاعي ) ( كيف احتراسي من عدوي
إذا ** كان عدوي بين أضلاعي )
____________________
وقال آخر : الخفيف والبيت من
قصيدة لعدي بن زيد يخاطب بها النعمان بن المنذر وكان قد حبسه النعمان .
وقبله وهو أول القصيدة : الرمل ( أبلغ النعمان عني مألكاً ** أنه قد طال حبسي
وانتظاري ) وأبلغ فعل أمر . والمألك : بسكون الهمزة وضم اللام : الرسالة .
وقال الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : وإذ قلنا للملائكة اسجدوا : ومألك : جمع
مألكة .
وأنشد هذا البيت .
وبقية القصيدة مذكورة في العقد الفريد وفي الأغاني وغيرهما .
وقد استعطفه عديٌّ بعدة قصائد فلم تنفعه شيئاً ثم قتله بعد مدة طويلة في الحبس .
وقد ذكرنا سبب حبسه وكيفية قتله مع ترجمته في الشاهد الستين .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
( يقولون ليلى أرسلت بشفاعةٍ
** إلي فهلاً نفس ليلى شفيعها ) لما تقدم في البيت قبله . وفيه التخريجان الآخران
أيضاً .
وقد تقدم شرحه في الشاهد الخامس والستين بعد المائة .
وأنشد بعده الطويل ( تريدين كيما تجمعيني وخالداً ** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد
) على أن كي جاءت من غير سببية بعد فعل الإرادة . وما بعدها زائدة والفعل منصوب
بحذف النون والنون الموجودة للوقاية .
قال التبريزي في شرح الكافية : فجوز الفصل بين كي وبين الفعل بلا النافية بالاتفاق
كقوله تعالى : كيلا يكون دولةً وبلا الزائدة كقول قيس بن سعد ابن عبادة : ( أردت
لكيلا يعلم الناس أنها ** سراويل قيسٍ والوفود شهود )
____________________
)
وقد فصل بينهما بما الزائدة ولا النافية كقول الآخر : ( أرادت لكيما لا تراني
عشيرتي ** ومن ذا الذي يعطى الكمال فيكمل ) ولا يجوز الفصل بينهما بغير ما ذكر .
اه .
والبيت أول أبياتٍ خمسةٍ لأبي ذؤيب الهذلي .
وبعده : ( أخالد ما راعيت من ذي قرابةٍ ** فتحفظني بالغيب أو بعض ما تبدي ) ( دعاك
إليها مقلتاها وجيدها ** فملت كما مال المحب على عمد ) ( فآليت لا أنفك أحدو
قصيدةً ** تكون وإياها بها مثلاً بعدي ) وسبب هذه الأبيات أن أبا ذؤيب كان يعشق
امرأةً اسمها أم عمرو وكان رسوله إليها خالداً وهو ابن أختٍ له وقيل ابن عمٍّ له
وكان جميلاً فعشقته أم عمرو فلما أيقن أبو ذؤيب بغدر خالد صرمها فأرسلت تترضاه فلم
يفعل وقال هذه الأبيات .
وكان أبو ذؤيب فعل كذلك برجل يقال له مالك بن عويمرٍ وكان رسوله إليها .
وتقدم شرح هذه القصة مبسوطاً بأبسط من هذا في الشاهد الثامن والأربعين بعد
الثلثمائة .
____________________
وجرى بين أبي ذؤيب وبين خالدٍ أشعارٌ مذكورةٌ في أشعار الهذليين منها قول خالدٍ
يجيبه قصيدةً على هذا الروي والوزن : الطويل ( فلا تجزعن من سنةٍ أنت سرتها **
فأول راضٍ سنةً من يسيرها ) وقوله : تريدين كيما تجمعيني وخالداً هكذا رواه السكري
وغيره . ورواه ابن السكيت في إصلاح المنطق وصاحب الصحاح : تريدين كيما تضمديني
وخالداً وقال : الضمد : أن تتخذ المرأة خليلين وفعله من باب ضرب .
وهل : للاستفهام الإنكاري . والغمد بالكسر : قراب السيف . وفي أمثال العرب : لا
يجمع سيفان وقد استعمل هذا المصراع مثلاً . قال الزمخشري في أمثاله : هو من قول
أبي ذؤيب . يضرب في قلة الاتفاق . اه .
ومنه قول يزيد بن خذاق الشني من قصيدةٍ مذكورةٍ في المفضليات : ( لن تجمعوا ودي
ومعتبتي ** أو يجمع السيفان في غمد ) )
وقول العديل بن الفرخ العجلي من قصيدة مذكورة في الحماسة : الطويل ( وعل النوى
بالدار تجمع بيننا ** وهل يجمع السيفان ويحك في غمد ) وقوله : أخالد ما راعيت إلخ
الهمزة للنداء .
____________________
قال السكري : أراد : فتحفظني بالغيب أو في بعض ما تظهر لي من الإخاء والمودة .
والغيب : السر .
وقوله : فكنت كرقراق إلخ قال السكري : يقول : ظننت أن لك أمانةً فكنت كالسراب الذي
يكذب من رآه يظن أنه ماءٌ وليس بماءٍ وكذلك أنت .
وقوله : فآليت إلخ هذا البيت من شواهد النحويين في باب المفعول معه . وآليت : حلفت
. ولا أنفك : لا أزال . وأحذو رواه السكري بالذال المعجمة لا غير . بمعنى أطابق .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : ومعنى أحذو : أصنع وأهيىء كما تحذى النعل على
المثال إذا سويت عليه . ومن روى : أحدو بدال غير معجمة فهو من قولهم : حدوت البعير
إذا سقته وأنت تتغنى في أثره لينشط في السير .
ونقل العيني عن ابن يسعون أنه قال على هذه الرواية : عندي في أحدو ثلاثة أوجه :
الأول : أن يريد أحدو قصيدةً إليك أي : أسوقها حادياً كما يفعل الحادي بالإبل عند
سوقها لأنه يتغنى وإنما أراد بذلك الشهرة .
الثاني : أن يريد أحدو غدرتك لي قصيدةً أبلغ بتخليدها فيك أملي . فحذف المفعول
للحال الدالة عليه ونصب قصيدةً نصب المصدر أي : حدو قصيدةٍ فلما حذف المضاف أقام
المضاف إليه مقامه .
الثالث : أن يريد : أتحدى لها وأتبعها ناظماً لها حتى كأنه قال : أوالي قصيدة .
____________________
ثم قال العيني : وقال السكري : أحدو معناه : أغني فعلى هذا ينبغي أن يكون قوله
قصيدة مفعولاً بإسقاط حرف الجر وهو الباء . اه .
أقول : إن السكري لم يرو أحدو بدال مهملة فكيف يفسرها بما ذكر . وإنما أحدو معناه
أسوق فلا حذف .
وقوله : تكون وإياها إلخ قال ابن السيد : تكون في موضع الصفة لقصيدة وهي صفةٌ جرت
على غير من هي له ولو جعلتها صفةً محضة لبرز الضمير الفاعل المستتر فيها وكنت تقول
: )
كائناً بها أنت وإياها .
والضمير في قوله : وإياها يعود على المرأة كأنه قال : حلفت لا أزال أصنع قصيدةً
تكون مع هذه المرأة مثلاً بعدي أي : إنها تبقى ما بقي الدهر .
قال العيني : فإن قلت : كيف يكون مثلاً خبراً والتطابق شرط قلت : هو مفرد وقع موقع
التثنية . وكذلك قد يقع موقع الجمع لما فيه من العموم المتقضي للكثرة . هذا كلامه
. فتأمله .
قال أبو علي : نصب وإياها على المفعول معه بتوسط الواو لما لم يمكنه العطف فيقول :
تكون وهي لأمرين : أحدهما : كسر البيت لو فعل ذلك .
والثاني : قبح العطف على الضمير المرفوع وهو غير مؤكد .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح لأبي علي : لما لم يمكنه العطف على الضمير في
تكون من غير تأكيد نصب على معنى مع . وكان أبو الحسن يذهب إلى انتصابه على الظرف
كما كانت مع فلما حذفت وقامت الواو مقامها انتصب الاسم على ذلك المعنى ودخلت مهيئة
لعمل الفعل فيه ونصبه على الظرف .
ومعنى العطف قائمٌ فيها وجائزٌ فيها ولذلك لم تعمل الجر كما لا تعمله حروف العطف
بخلاف واو القسم لأن معنى العطف معدومٌ فيها .
____________________
والصواب مذهب الجمهور لأن وجود معنى العطف فيه ينافي الظرفية لأن العطف في التقدير
من جملة أخرى والظرف من الجملة الأولى ولأن تقديره بفي بعيدٌ إذ لا يجوز تقديرها
قبل الواو لفصلها بين الجار والمجرور ولا بعدها لفصلها بين الفعل وما تعلق به .
انتهى كلامه .
وقال السكري : روى الباهلي : أدعك وإياها ويروى : أذرك وإياها فجزم لكثرة الحركات
.
وروى أيضاً : تكونان فيها للملا مثلاً بعدي وعلى هذه الروايات الثلاث لا شاهد فيه
.
وترجمة أبي ذؤيب وهو شاعرٌ إسلامي تقدمت في الشاهد السابع والستين .
وأنشد بعده ( الشاهد الواحد والستون بعد الستمائة ) الطويل على أن حتى فيه
ابتدائية والفعل بعدها مرفوع بثبوت النون ونصب نضبع بالعطف على توهم نصب ما قبله .
____________________
وهذا على رواية ثعلب في أماليه عن ابن الأعرابي قال : والمعنى تمدون أيديكم إلينا
بالسيوف ونمد أيدينا .
وكذا قال ابن السكيت في إصلاح المنطق : أي : تمدون إلينا أضباعكم بالسيوف ونمد
إليكم أضباعنا بالسيوف . قال : وقد ضبعت الخيل والإبل تضبع بفتح الباء فيهما ضبعاً
بسكونها إذا مدت أضباعها في عدوها وهي أعضادها . ومنه هذا البيت . لكنه رواه
بالنصب .
وتبعه صاحب الصحاح هكذا : ولا صلح حتى تضبعونا ونضبعا فحتى فيه جارة وتضبعونا
منصوب بأن على حذف النون ونا ضمير المتكلم مع الغير مفعوله والفعل مستقبل ولا حاجة
لتأويله بالحال ويكون نصب نضبع بالعطف عليه ظاهراً من غير ادعاء توهم .
وفسره أبو عمرو بن العلاء كما نقله صاحب الصحاح بقوله : أي حتى تضبعون للصلح
والمصافحة .
وقد جاء نظائره بالنصب منها ما أنشده صاحب العباب قال : وضبعت الرجل مددت إليه
ضبعي للضرب قال عمرو بن الأسود أحد بني سبيع وكانت امرأة اسمها غضوب هجت مربع بن
سبيع فقتلها مربع فعرض قوم مربع الدية فأبى قومها : الطويل ( كذبتم وبيت الله نرفع
عقلها ** عن الحق حتى تضبعوا ثم نضبعا ) أي : حتى تمدوا إلينا أضباعكم بالسيوف
ونمد أضباعنا إليكم . وقال أبو عمرو : أي : حتى تضبعوا للصلح والمصافحة . انتهى .
والضبع بسكون الموحدة وفتح الضاد المعجمة : العضد وقيل من العضد : وسطه بلحمه يقال
: أخذت بضبعي فلانٍ فلم أفارقه . ومددت بضبعيه إذا
____________________
قبضت وسط عضديه .
ومنها قول عمرو بن شأسٍ الجاهلي من قصيدة : الطويل ) ( بني أسدٍ هل تعلمون بلاءنا
** إذا كان يوماً ذا كواكب أشنعا ) ( إذا كانت الحو الطوال كأنما ** كساها السلاح
الأرجوان المضلعا ) ( نذود الملوك عنكم وتذودنا ** إلى الموت حتى يضبعوا ثم نضبعا
) والبيت الأول من الثلاثة استشهد به سيبويه على أنه أراد الشاعر إذا كان اليوم
يوماً . وأضمر لعلم المخاطب ومعناه إذا كان اليوم الذي يقع فيه القتال . قال
سيبويه : إذا كان يومٌ ذو كواكب أشنعا ومعنى كان في الوجهين معنى وقع ويوماً منصوب
على الحال وأشنعا حال أيضاً مؤكدة على الرواية الثانية . وزعم المبرد أنه خبر كان
وردوا عليه بأنه لا فائدة في هذا الإخبار .
والحو : جمع أحوى أراد به أن الخيل السود قد صبغت بدم الأعداء حتى صارت كالأرجوان
.
وتضبعون هنا ظاهرٌ فيما فسره أبو عمرو بن العلاء .
والبيت الشاهد لم أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الوافر
( سأترك منزلي لبني تميمٍ ** وألحق بالحجاز فأستريحا ) على أن أستريح جاء منصوباً
بعد الفاء في ضرورة الشعر فيما ليس فيه معنى النفي أصلاً .
قال سيبويه : وقد يجوز النصب في الواجب في اضطرار الشعر ونصبه في الإضطرار من حيث
انتصب في غير الواجب وذلك لأنك تجعل أن العاملة . فمما نصب في الشعر اضطراراً قوله
: وهو ضعيفٌ في الكلام . انتهى .
قال الأعلم : ويروى : لأستريحا : ولا ضرورة فيه على هذا .
وقال ابن السراج في الأصول : جعل لحاقه بالحجاز سبباً لاستراحته فتقديره لما نصب
كأنه قال : يكون لحاقٌ فاستراحة .
وقد جاء مثله في الشعر لقومٍ فصحاء إلا أنه قبح النصب في العطف على الواجب الذي
على غير شرطه لأنه قد جعل لهذا المعنى آلاتٌ وكان حق الكلام أن يقول : لو كان في
غير شعر : وألحق بالحجاز فإذا لحقت استرحت أو : وإن ألحق أسترح . )
____________________
ومع ذلك فإن الإيجاب على غير شرط أصل الكلام وإزالة اللفظ عن جهته في الفروع أحسن
منها في الأصول لأنها أدل على المعاني . انتهى .
ونقل أبو علي هذه العبارة بعينها في التذكرة .
وأورد ابن عصفور في كتاب الضرائر لهذا البيت نظائر ثم قال : لما اضطر إلى استعمال
النصب بدل الرفع حكم لها حكم الأفعال الواقعة بعد الفاء في الأجوبة الثمانية فنصب
بإضمار أن وتؤولت الأفعال التي قبلها تأويلاً يوجب النصب فحكم لقوله وألحق بالحجاز
بحكم : ويكون مني لحاقٌ بالحجاز فاستراحة فعطفت بالفاء على المصدر المتوهم . انتهى
.
ولبس عباءةٍ وتقر عيني غير جيد . وقال أيضاً : لقائلٍ أن يقول : لا نسلم أن أستريح
منصوب بل هو مرفوع مؤكد بالنون الخفيفة موقوفاً عليها بالألف وتأكيد مثل هذا جائز
في الضرورة .
قال سيبويه : يجوز للمضطر : أنت تفعلن . ولا شك أن التخريج على هذا متجه بخلاف
التخريج على النصب مع فقد شرطه .
هذا كلامه .
وهو من باب غسل الدم بالدم لأنه تفصى من ضرورة ولجأ إلى ضرورة وشرط كلٍّ من النصب
والتأكيد مفقود .
ونقل الدماميني أن بعضهم رام تخريجه على النصب في جواب النفي المعنوي المستفاد من
قوله : سأترك منزلي إذ معناه : لا أقيم به . ثم تعقبه بأنه غير متجه لأن جواب
النفي منفيٌّ لا ثابت نحو : ما جاء زيد فأكرمه بالنصب والاستراحة ثابتة لا منفية .
____________________
والبيت لم يعزه أحدٌ من خدمه كتاب سيبويه إلى قائلٍ معين .
ونسبه العيني وتبعه السيوطي في أبيات المغني إلى المغيرة بن حبناء بن عمرو بن
ربيعة الحنظلي التميمي . وقد رجعت إلى ديوانه وهو صغير فلم أجده فيه .
وقال صاحب الأغاني : وحبناء : لقبٌ على أمه غلب على أبيه واسمه حبين . هاجى زياداً
الأعجم . وحبناء بفتح المهملة وسكون الموحدة بعدها نون وألف ممدودة . وحبين بضم
المهملة وفتح الموحدة .
وأنشد بعده ) ( الشاهد الثالث والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل
____________________
ألم تسأل الربع القواء فينطق
هذا صدرٌ وعجزه : وهل تخبرنك اليوم بيداء سملق على أن ما بعد فاء السببية قد يبقى
على رفعه قليلاً وهو مستأنف .
وأنشد سيبويه هذا البيت وقال : لم يجعل الأول سبب الآخر ولكنه جعله ينطق على كل
حال كأنه قال : وهو مما ينطق كما قال : ائتني وأحدثك فجعل نفسه ممن يحدثه على كل
حال .
وزعم يونس أنه سمع هذا البيت بألم . وإنما كتبت ذا لئلاً يقول إنسانٌ فلعل الشاعر
قال : ألا .
قال أبو جعفر النحاس عن أبي إسحاق قال : إنه تقريرٌ معناه : إنك سألته . فيقبح
النصب لأن المعنى يكون : إنك إن تسأله ينطق .
ويمنع سيبويه أن يروى : ألا تسأل الربع لأنه لو رواه كذا حسن النصب لأن معناه فإنك
إن تسأله ينطق .
قال أبو الحسن : ألم تر أن الله أنزل من السماء ماءً فتصبح الأرض مخضرة . والقواء
: التي لا تنبت . والسملق : الخالية . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد فيه رفع ينطق على الاستئناف والقطع على معنى فهو ينطق وإيجاب
ذلك له . ولو أمكنه النصب على الجواب لكان أحسن . والربع : المنزل . والقواء :
القفر . وجعله ناطقاً للاعتبار بدروسه وتغيره . ثم حقق أنه لا يجيب ولا يخبر سائله
لعدم القاطنين به .
والبيداء : القفر . والسملق : التي لا شيء بها . انتهى .
وأورده الفراء عند هذه الآية من تفسيره قال : رفعت فتصبح لأن المعنى في ألم تر
معناه خبر كأنك قلت في الكلام : أعلم أن الله ينزل من السماء ماءً فتصبح الأرض .
____________________
وهو مثل قول الشاعر : ألم تسال الربع القديم فينطق أي : قد سألته فنطق . ولو جعلته
استفهاماً وجعلت الفاء شرطاً لنصبت كما قال الآخر : الوافر ) ( ألم تسأل فتخبرك
الديارا ** عن الحي المضلل حيث سارا ) والجزم في هذا البيت جائز كما قال : الطويل
( فقلت له صوب ولا تجهدنه ** فيذرك من أخرى القطاة فتزلق ) فجعل الجواب بالفاء
كالمنسوق على ما قبله . انتهى .
وقال ابن المستوفي : قصد الشاعر نفي السؤال فرفع . وقد جوزوا فيه النصب والجزم
لولا أن الروي مرفوع .
وهذا هو ما نقلناه عن الفراء .
وأما قول ابن هشام في المغني : الفاء فيه للاستئناف أي : فهو ينطق لأنها لو كانت
للعطف لجزم ما بعدها ولو كانت للسببية لنصب فقد قال شراحه : الملازمة الثانية
ممنوعة فقد تتحقق السببية مع رفع الفعل كما قيل في قوله : تعالى : لا يؤذن لهم
فيعتذرون . نعم الأكثر مع السببية النصب اللهم إلا أن يقال إن الملازمة إلى الأكثر
.
وهذا الاعتراض إنما هو من كلام الشارح المحقق هنا .
____________________
وبعده : ( بمختلف الأرواح بين سويقةٍ ** وأحدب كادت بعد عهدك تخلق ) ( أضرت بها
النكباء كل عشيةٍ ** ونفح الصبا والوابل المتبعق ) ( وقفت بها حتى تجلت عمايتي **
ومل الوقوف الأرحبي المنوق ) ( وقال خليلي إن ذا لصبابةٌ ** ألا تزجر القلب اللجوج
فيلحق ) ( تعز وإن كانت عليك كريمةً ** لعلك من أسباب بثنة تعتق ) ( فقلت له إن
البعاد يشوقني ** وبعض بعاد البين والنأي أشوق ) روى صاحب الأغاني عن الهيثم أن
جميلاً طال مقامه بالشام ثم قدم وبلغ بثينة خبره فراسلته مع بعض نساء الحي تذكر
شوقها إليه ووجدها به وواعدته لموضعٍ يلتقيان فيه فصار إليها وحادثها طويلاً
وأخبرها بحاله بعدها وقد كان أهلها رصدوها فلما فقدوها تبعها أبوها وأخوها حتى
هجما عليها فوثب جميلٌ فسل سيفه وشد عليهما فاتقياه بالهرب وناشدته بثينة
بالانصراف وقالت له : إن أقمت فضحتني ولعل الحي أن يلحقوك فأبى وقال : أنا مقيمٌ
وامضي أنت وليصنعوا ما أحبوا فلم تزل به تناشده حتى انصرف . )
وقال في ذلك وقد هجوته مدةً طويلة ولم تلقه هذه القصيدة وهي طويلة .
____________________
قوله : ألم تسأل الربع إلخ قال اللخمي في شرح أبيات الجمل الربع : الدار بعينها
حيثما كانت .
والمربع : المنزل في الربيع خاصة . والقواء : القفر . يقال : ربعٌ قواءٌ ودار قواء
أي : خالية .
والبيداء : القفر الذي يبيد من سلكه أي : يهلكه . والسملق : الأرض التي لا تنبت
شيئاً . وقيل : هي السهلة المستوية . ومفعول تسأل الثاني محذوف والتقدير : ألم
تسأل الربع عن أهله فينطق .
انتهى .
وقال ابن السيد : ومعنى نطق الربع ما يتبين من آثاره . والعرب تسمي كل دليل نطقاً
وقولاً وكلاماً . قال الله تعالى : هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق . ومنه قول زهير :
أمن أم أوفى دمنةٌ لم تكلم أي : لم يكن بها أثر يستبان لقدم عهدها بالنزول فيها
ونحوه . انتهى .
وقوله : وهل تخبرنك اليوم إلخ رد على نفسه بأن مثله لا ينطق فيجيب . وهذا رجوعٌ
إلى الحقيقة بعد المجاز .
ومثله ما أنشده أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني لمحمد بن عبد الله بن مسلم بن
المولى مولى الأنصار من مخضرمي الدولتين يمدح المهدي : الطويل ( سلا دار ليلى هل
تبين فتنطق ** وأنى ترد القول بيداء سملق )
____________________
وقوله : فينطق الفاء
للاستئناف وجملة : ينطق خبر مبتدأ محذوف أي : فهو ينطق .
قال صاحب الكشاف عند قوله تعالى : وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم
: يعلم : جملة مستأنفة أي : هو يعلم سركم .
قال التفتازاني : جرت عادته في مثل هذا بتقدير مبتدأ ولا يظهر له وجهٌ يعتد به .
وقال في التلويح في قوله تعالى : والراسخون في العلم يقولون آمنا به .
هكذا قال جار الله في الكشاف والمفصل فيقدر المبتدأ في جميع ما هو من هذا القبيل .
وفيه نظر لأن الجملة الفعلية صالحة للابتداء من غير احتياج إلى تقدير مبتدأ .
وفي شرح التسهيل للدماميني : النحويون يقدرون في الاستئناف مبتدأ وذلك إما لقصد
إيضاح الاستئناف وإما لأنه لا يستأنف إلى على هاذ التقدير . وإلا لزم العطف الذي
هو مقتضى الظاهر . انتهى . )
قال شيخنا الشهاب الخفاجي في بعض رسائله : حاصله أن الجملة المضارعية المستأنفة
يقتضى كلام المفسرين والنحاة أنه لا بد فيها من تقدير ضمير مبتدأ . واستشكله
المتأخرون بأنه لا ضرورة تدعو إليه فإنه يجوز الاستئناف بدونه . ولم يدفعه أحد
فظنوا أنه واردٌ غير مندفع .
ولما تأملت ما قالوه حق التأمل ظهر لي أن الحق ما قالوه وأنه لا بد من هذا التقدير
لأنك إذا وقفت على قوله : في الأرض من غير تقدير لم يقع موقعه إذ لم يفد ما يحسن
السكوت عليه .
والضمير المستتر خفيٌّ لا يظهر بادي الرأي . فإذا قلت يعلم لم يعلم من العالم .
فإذا كان المبتدأ ظاهراً أو في حكمه علم المراد .
____________________
ونظيره النعت المقطوع إذا رفع يقدر قبله ضمير لأنه مفرد لا يفيد إلا على ذلك
التقدير .
وبهذا تبين أن الاعتراض من الغفول عما قصده هؤلاء الفحول . وهو معنى قوله في شرح
التسهيل : وإلا لزم العطف أي بطل الاستئناف وكان خبراً ثانياً . وكيف يتردد في
مثله بعد اتفاق النحاة عليه .
إلا أنهم لم يبينوا أن هذا الحذف واجب أو لا . والظاهر أنه واجب . وهذا من مهمات
المقاصد . انتهى كلام شيخنا .
وما ذكره بحثاً هو كلام الشارح المحقق عند كلامه على قول الشاعر : ( غير أنا لم
تأتنا بيقين ** فنرجي ونكثر التأميلا ) بعد نحو ورقة من هذا الموضع .
وقول شيخنا : أي : بطل الاستئناف وكان خبراً ثانياً . فيه أن الخبر المتعدد يجوز
فيه العطف ولم يجب كما بين في محله .
وقوله : بمختلف الأرواح إلخ الباء السببية . والمختلف : الموضع الذي تهب فيه
الرياح من كل وجه . وسويقة بالتصغير وأحدب بالحاء المهملة والباء الموحدة لا
بالمثلثة . موضعان .
وتخلق : تبلى يقال : خلق الثوب بالضم إذا بلي فهو خلق بفتحتين . وأخلق الثوب
بالألف لغة .
وقوله : أضرت بها النكباء إلخ . النكباء : كل ريح تهب بين مهب ريحين لأنها نكبت عن
مهبها أي : عدلت . ونفحت الريح بالحاء المهملة أي : هبت من باب نفع .
والوابل : المطر العظيم القطر . والمتبعق بتشديد العين المهملة المكسورة : الشديد
المطر . يقال : تعبق المزن إذا سال بشدة . )
والعماية بفتح المهملة بعدها ميم : الضلالة وهي من عمى القلب . وروى :
____________________
غيابتي بالغين المعجمة .
والغيابة : الظلمة وقعر البئر ونحوها . والأرحبي : الجمل النجيب منسوبٌ إلى أرحب
بالحاء المهملة : قبيلة وقيل : فحل وقيل : موضع .
وروى بدله : العنتريس وهو الجمل الشديد الصلب . والمنوق : المذلل كالناقة .
وقوله : لعلك من أسباب بثنة روى بدله : لعلك من رقٍّ لبثنة .
وجميل بن معمر شاعرٌ إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد الثاني والستين من أوائل
الكتاب .
وأنشد بعده الكامل لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع لما تقدم قبله .
وهو عجز وصدره : ولقد تركت صبيةً مرحومة قال ابن هشام في المغني : وللاستئناف وجه
آخر وهو أن يكون على معنى
____________________
السببية وانتفاء الثاني
لانتفاء الأول وهو أحد وجهي النصب وهو قليل وعليه قوله : ( ولقد تركت صبيةً
مرحومةً ** لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع ) أي : لو عرفت الجزع لجزعت ولكنها لم تعرفه
فلم تجزع . إلى آخر ما ذكره من نظائره من الآيات القرآنية .
وقد تكلم ابن جني على هذا البيت في إعراب الحماسة فلا بأس بإيراده قال : هذا البيت
طريفٌ غريب الحديث وذلك أنه ليس بجواب لأنه مرفوع كما ترى ولو كان منصوباً جواباً
لكان أوفق معنى وأسلب طريقاً ولا قبله أيضاً فعلٌ مرفوع فيعطف عليه كما عطف في
قوله : البسيط فلهذا كان غريباً . غير أن وجهه عندي أن يكون قوله : فتجزع صفةً
لقوله : مرحومة أو صغيرة ويكون معطوفاً على جملة قوله : لم تدر ما جزعٌ عليك لأن
هذه الجملة صفة لقوله : صغيرة أو مرحومة فكأنه قال : فلقد تركت صغيرةً جاهلة
بالجزع فجازعةً مع ذلك .
فلما وقع تجزع موقع الاسم ارتفع فجرى مجرى قولك : مررت برجل من أهل العلم ويقرىء )
الناس . فتعطف يقرىء على من أهل العلم حتى كأنك قلت : عالم ومقرىء . وإن شئت جعلت
الفاء زائدة في جميع ذلك فكان . فلا أمٌّ تبكيه ولا أخت تفقده .
____________________
و : فما تحل على قوم ترتحل أي
: معتقدة للارتحال ولم يكن بيننا شر نصطلح من أجله ولم تدر ما جزعٌ عليك جازعة أي
: تركت صبية جازعةً وإن لم تعرف الجزع أي : صورتها صورة الجازعة .
فإن قلت : فهل هناك أمٌّ غير باكية أو أخت غير مفتقدة قيل : ليس نفي الشيء عندنا
إثباتاً لضده . ألا ترى لو قلت : إن زيداً لم يعزني لم يكن في هذا دليل على أنه قد
أهانك .
وقال أبو الحسن في قوله تعالى : يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من
المؤمنين . قال : هو في اللفظ معطوفٌ وفي المعنى جواب قال : وذلك أنهم إذا تمنوا
الرد ولم يتمنوا ترك التكذيب ولا الإيمان بل أوجبوه على أنفسهم عند الرد فكان يجب
النصب أي : إن رددنا آمنا ولم نكذب .
قال : ولكنه جرى في اللفظ معطوفاً والمعنى معنى الجواب . وشبهه في الحمل على اللفظ
والمعنى مخالفٌ لقراءة من قرأ : وامسحوا برؤوسكم وأرجلكم
____________________
بالجر . فهذا يقتضي مسح
الرجلين . وإنما المفروض فيهما الغسل ولكنه جرى في اللفظ على الجر والمعنى معنى
النصب .
وهذا لعمري متوجه في قوله : فما تحل على قومٍ فترتحل لأن هناك مرفوعاً قبله . فأما
قوله : لم تدر ما جزعٌ عليك فتجزع فليس في قوله قبله مرفوع فيعطف عليه . وقد يجوز
أن يكون أراد فهي تبكيه وهي تفتقده على أنه وضع الجملة المركبة من المبتدأ والخبر
موضع الفعل المنصوب على الجواب .
ومثله قوله تعالى : هل لكم مما ملكت أيمانكم من شركاء فيما رزقناكم فأنتم فيه سواء
أي : فتستووا . ومثله : أعنده علم الغيب فهو يرى أي : فيرى . فاعرف تفصيل ذلك .
هذا كلام ابن جني .
وأورده في المحتسب أيضاً عند قراءة الحسن ويزيد النحوي : يا ليتني كنت معهم فأفوز
فوزاً عظيماً بالرفع .
____________________
قال روح : لم يجعل لليت جواباً . أقول : محصوله أنه يتمنى الفوز فكأنه قال : يا
ليتني أفوز فوزاً )
عظيماً . ولو جعله جواباً لنصبه أي : إن أكن معهم أفز . هذا إذا صرحت بالشرط إلا
أن الفاء إذا دخلت جواباً للتمني نصب الفعل بعدها بإضمار أن وعطف أفوز على كنت
معهم لأنهما جميعاً متمنيان إلا أنه عطف جملة على جملة لا الفعل على انفراده على
الفعل إذ كان الأول ماضياً والثاني مستقبلاً .
وعليه قول الآخر : لن تدر ما جزعٌ عليك فتجزع والقوافي مرفوعة أي : هي تجزع . ولو
كان جواباً لقال : فتجزعا . وقد ذكرنا هذا ونحوه في كتابنا تفسير مشكل أبيات
الحماسة . انتهى .
والبيت لم يعرفه شراح مغني اللبيب وهو من أبياتٍ أوردها أبو تمام في باب المراثي
من الحماسة لمويلكٍ المزموم في امرأته أم العلاء . وأوردها الأعلم الشنتمري أيضاً
في حماسته وهي : ( امرر على الجدث الذي حلت به ** أم العلاء فنادها لو تسمع ) (
أنى حالمت وكنت جد فروقةٍ ** بلداً يمر به الشجاع فيفزع ) ( صلى عليك الله من
مفقودةٍ ** إذ لا يلائمك المكان البلقع )
____________________
( فقدت شمائل من لزامك حلوةً
** فتبيت تسهر ليلها وتفجع ) ( فإذا سمعت أنينها في ليلها ** طفقت عليك شؤون عيني
تدمع ) وزاد الأعلم في حماسته بعد هذا ستة أبيات أخر .
وقوله : امرر على الجدث إلخ هو بفتح الجيم : القبر . وروي : فحيها بدل فنادها .
وهل بدل لو .
قال الطبرسي في شرحه : يقول : امرر على القبر الذي دفنت فيه وسلم عليها إن كانت
تسمع . وهذا توجعٌ وتلهف . وروى : هل تسمع . والفرق أن لو فائدته الشرط وهل من حيث
كان استفهاماً كلام راجٍ لسماعها فكأنه قال : وانظر هل تسمع .
وقوله : أنى حللت إلخ قال ابن جني : الهاء في فروقةٍ مع المؤنث مثلها مع المذكر لا
فرق بينهما في الحال .
وإن المراد فيهما معنى الغاية والمبالغة . وكذلك رجلٌ راوية وامرأة راوية وكذا
علامة ونسابه لم تدخل هذه الهاء على المؤنث لأنها لو كانت كذلك لما لحقت المذكر .
وهذا قاطع . انتهى .
وقوله : جد فروقة أي : كنت فروقةً جداً لا هزلاً وحقاً لا باطلاً . والبلد :
القطعة من الأرض . )
يقول : كيف أقمت في بلد قفر إذا مر به الرجل الشجاع استولى عليه الفزع وعهدي بك
أنك كنت أشد الناس خوفاً وأضعفهم قلباً .
____________________
وقوله : صلى عليك الله إلخ الصلاة من الله : الرحمة ومن العبد : الدعاء . ولا
يلائمك : لا يوافقك . والبلقع : الخالي . ومن مفقودة : تمييز .
وقوله : فلقد تركت صغيرةً إلخ قد تقدم أن ابن جني جوز وجهين : أن يكون فتجزع صفة
لصغيرة وأن يكون استئنافاً واختار المرزوقي الاستئناف وقال : أراد أنها من صغرها
لا تعرف المصيبة ولا الجزع لها فهي على حالها تجزع لأن ما تأتيه من الضجر والبكاء
وتتركه من النوم والقرار فعل الجازعين .
وقوله : فقدت شمائل إلخ جمع الشمال بالكسر وهي الطبيعة . يقول : كانت قد اعتادت
منك أخلاقاً جميلة ففقدتها فبقيت لا تنام ولا تنيم بل تفجع وتوجع فإذا سمعت شكواها
وبكاءها أقبلت شؤون رأسي تسح بالبكاء ولها عليك .
وطفقت : شرعت . والشؤون : جمع شأن وهو الشعب الذي يجمع بين القبيلتين من قبائل الرأس
وهي القطعة المشعوب بعضها إلى بعض . ويقال : إن الدمع يجري من الشأن .
ومويلكٌ : مصغر مالك . والمزموم : اسم مفعول من زممت الناقة أي : وضعت عليها
الزمام .
والظاهر أنه شاعرٌ إسلامي . ولم أقف على نسبه حتى أكشف عنه في الجمهرة ولا على
ترجمته . والله أعلم .
____________________
( الشاهد الخامس والستون بعد
الستمائة ) وهو من شواهد س : الخفيف ( غير أنا لم يأتنا بيقينٍ ** فنرجي ونكثر
التأميلا ) على أن ما بعد الفاء هنا على القطع والاستئناف أي : فنحن نرجي .
قال سيبويه عند توجيه النصب في : ما تأتينا فتحدثنا : وإن شئت رفعت على وجهٍ آخر
كأنك قلت : فأنت تحدثنا .
ومثل ذلك قول بعض الحارثيين : غير أنا لم تأتنا بيقين . . . . . . . . . . . البيت
كأنه قال : فنحن نرجي . فهذا في موضع مبني على المبتدأ . انتهى .
فالإتيان منفيٌّ وحده والرجاء مثبت وهو المراد ولا يجوز نصب نرجي لأنه يقتضي نفيه
إما مع نفي الإتيان وإما مع إثباته كما هو مقتضى النصب وكلاهما عكس المراد .
ويدل لهذا قول أبي علي في التذكرة : هو بالرفع وكذلك الصواب لأنهم إنما رجوا
وأملوا ما لم يأتهم بيقين ولو أتاهم بيقين ولو أتاهم بيقين لآل إلى الترجي
والتأميل بيقينه .
ومثل لابن هشام في المغني قال : المعنى أنه لم يأت باليقين فنحن نرجو خلاف ما أتى
به لانتفاء اليقين عما أتى به . ولو جزمه أو نصبه لفسد معناه لأنه يصير منتفياً
على حدته كالأول إذا جزم ومنفياً على الجمع إذا نصب . وإنما المراد إثباته . انتهى
.
____________________
وقوله : ومنفياً على الجمع إذا نصب أراد بالجمع نفي الإتيان والرجاء كليهما . ولم
يذكر الشق الثاني من النصب لأنه لم يتصور نفي الرجاء مع ثبوت الإتيان بيقين .
ومنه يظهر لك فساد تجويز الأعلم نصبه بمرتبتين : وقوله : ولو أمكنه النصب على
الجواب لكان أحسن .
وتبعه ابن يعيش في شرح المفصل ولم يتنبه لفساده .
ومقتضى كلام أبي علي وابن هشام أن قوله : لم يأتنا بالمثناة التحتية لا الفوقية
فيكون فاعله مستتراً فيه . والمشهور بالفوقية على الخطاب .
ومشى على الأول شارح شواهد المفصل أيضاً فقال : المعنى أتانا آت بخير إخوتنا غير
أنا أي : لكنا لم يأتنا الآتي بخبر يقين يوجب اليأس فنحن نرجي خلاف ما أتى به
لانتفاء اليقين عما )
أتى به فكثر التأميل لخلاف خبره ونقول : لعله يكون كذباً . ولا يجوز في قوله فنرجي
إلا الرفع .
اه .
وكون اليقين هو خبر الإخوة إنما هو حدس وتخمين فإن البيت من أبيات سيبويه الخمسين
التي ما عرف قائلها ولا تتمتها . والله أعلم به .
فيقين : صفة موصوف محذوف أي : بخبر يقين . ونكثر بالرفع عطفٌ على نرجي . والتأميل
: مصدر أملته إذا رجوته .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
( وما قام منا قائمٌ في ندينا ** فينطق إلا بالتي هي أعرف )
____________________
على أن النفي بالمعنى الثاني
وهو أن يرجع النفي لما بعد الفاء كثير الاستعمال كما في البيت فإن النفي منصبٌ على
ينطق في المعنى وقام مثبتٌ في تأويل المستقبل لمناسبة المعطوف .
ولهذا قال الشارح المحقق : أي يقوم ولا يقوم إلا بالتي هي أعرف . وإنما جعل النفي
هنا بالمعنى الثاني لأجل الاستثناء فإن الاستثناء المفرغ لا يكون إلا مع النفي
فلما اعتبر في ينطق صح وجوز صاحب اللباب أن يكون النفي في البيت على ظاهره من
القسم الأول . قال في باب الاستثناء : والمفرغ لا يكون إلا في الإثبات . إلى أن
قال : ويجوز فيما هو جواب النفي . وأنشد هذا البيت .
قال الفالي في شرحه : لا يقال ينبغي أن لا يجوز لأن قولك فينطق مثبت ولا يصح
المفرغ في المثبت لأن قوله : فينطق بالنصب بأن المضمرة والتقدير : فأن ينطق وهذا
المصدر معطوفٌ على مصدر منتزع من الأول وهو قام أي : ما يكون قيام فنطقٌ . فحكم
النفي منسحبٌ على القيام والنطق .
فالنطق في المعنى منفيٌّ فيصح الاستثناء المفرغ فيه . ونظيره : ما تأتينا فتحدثنا
بالنصب أي : ما يكون منك إتيان فتحديث على نفي المركب أي : ما يكون منك إتيانٌ
كثير ولا تحديثٌ عقيبه . اه . )
وهذا نص سيبويه في باب الفاء قال : وتقول ما أتيتنا فتحدثنا والنصب فيه كالنصب في
الأول وإن شئت رفعت على معنى فأنت تحدثنا الساعة . والرفع فيه يجوز على ما .
وإنما اختير النصب لأن الوجه ها هنا وحد الكلام أن تقول : ما أتيتنا فحدثتنا فلما
صرفوه عن هذا الحد ضعف أن يضموا يفعل إلى فعلت فحملوه على الاسم كما لم يجز أن
يضموا إلى وأما الذين رفعوه فحملوه على موضع أتيتنا لأن أتيتنا في موضع فعل مرفوع
وتحدثنا ها هنا في موضع حدثتنا . وتقول : ما تأتينا فتكلم إلا بالجميل . فالمعنى :
____________________
إنك لم تأتنا إلا تكلمت بجميل
.
ونصبه على إضمار أن كما كان نصب ما قبله على إضمار أن . وإن شئت رفعت على الشركة
كأنه قال : وما تكلم إلا بالجميل .
ومثل النصب قول الفرزدق : ( وما قام منا قائمٌ في ندينا ** فينطق إلا بالتي هي
أعرف ) وتقول : لا تأتينا فتحدثنا إلا ازددنا فيك رغبة فالنصب ها هنا كالنصب في ما
تأتيني فتحدثني إذا أردت معنى ما تأتيني محدثاً وإنما أراد معنى ما أتيتني محدثاً
إلا ازددت فيك رغبة .
ومثل ذلك قول اللعين : الطويل ( وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ ** فينسب إلا
الزبرقان له أب ) وتقول : لا يسعني شيءٌ فيعجز عنك أي : لا يسعني شيءٌ فيكون
عاجزاً عنك ولا يسعني شيءٌ إلا لم يعجز عنك . هذا معنى الكلام . فإن حملته على
الأول قبح المعنى لأنك لا تريد أن تقول إن الأشياء لا تسعني ولا تعجز عنك . فهذا
لا ينويه أحد . انتهى كلام سيبويه .
ومنه تعرف وجه جعل الشارح المحقق هذا المثال من النفي بالمعنى الثاني وأن الرواية
بنصب فينطق .
قال الأعلم : الشاهد في نصب ما بعد الفاء على الجواب مع دخول إلا بعده للإيجاب
لأنها عرضت بعد اتصال الجواب بالنفي . ونصبه على ما يجب له فلم بغيره .
والندي : المجلس أي : إذا نطق منا ناطق في مجلس جماعةٍ عرف صواب قوله فلم ترد
مقالته .
انتهى .
ومثله لابن السراج قال في الأصول : وتقول ما قام زيدٌ فيحسن إلا حمد وما قام زيد
فيأكل إلا )
طعامه بالنصب .
قال الشاعر :
____________________
وما قام منا قائمٌ في ندينا
ويجوز رفع فينطق كما جاز في : ما أتينا فتكلم إلا بالجميل فتكون الفاء للعطف .
وبه استشهد ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية . قال العيني : الشاهد فيه رفع
ينطق لأن من شرط النصب بعد النفي أن يكون النفي خالصاً وها هنا ليس كذلك . انتهى .
والبيت من قصيدةٍ طويلة للفرزدق يفتخر بها على جرير وعدتها مائة بيت وخمسة عشر
بيتاً فأصبح في حيث التقينا شريدهم . . . . . . . . . . . . . . البيت وثانيهما في
باب العطف وهو : وعض زمانٍ يا ابن مروان لم يدع . . . . . . . . . . . . . . .
البيت وهي قصيدة جيدة من غرر قصائده .
____________________
وأنشد بعده : ( وما حل سعديٌّ غريباً ببلدةٍ ** فينسب إلا الزبرقان له أب ) لما
تقدم قبله أي : يحل ولا ينسب .
والكلام فيه كما تقدم قبله . قال الأعلم : الشاهد فيه نصب ما بعد الفاء على الجواب
. والرفع جائز والقول فيه كالقول في الذي قبله . يقول : الزبرقان سيد قومه وأشهرهم
فإذا تغرب رجلٌ من سعد وهم رهط الزبرقان فسئل عن نسبه انتسب إليه لشرفه وشهرته .
انتهى .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت مفصلاً في الشاهد الرابع والتسعين بعد المائة من
باب الحال .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والستون بعد الستمائة ) نحاول ملكاً أو نموت وهو قطعةٌ
من بيت وهو : ( فقلت له لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ) على أن
سيبويه جوز الرفع في قوله : نموت إما بالعطف على نحاول أو على القطع أي : نحن نموت
.
____________________
وهذا نص سيبويه : واعلم أن معنى ما انتصب بعد أو على إلا أن كما كان معنى ما انتصب
بعد الفاء . تقول : لألزمنك أو تقضيني حقي ولأضربنك أو تسبقني . فالمعنى لألزمنك
إلا أن تقضيني ولأضربنك إلا أن تسبقني . هذا معنى النصب .
قال امرؤ القيس : فقلت له لا تبك عينك . . . . . . . . . . . . . . البيت والقوافي
منصوبة فالتمثيل على ما ذكرت لك والمعنى على إلا أن نموت فنعذرا . ولو رفعت لكان
عربياً جيداً على وجهين : على أن تشرك بين الأول والآخر وعلى أن يكون مبتدأ
مقطوعاً من الأول يعني أو نحن ممن يموت .
وقال تعالى : ستدعون إلى قومٍ أولي بأسٍ شديدٍ تقاتلونهم أو يسلمون إن شئت كان على
وقال صاحب التكميل : ويحتمل أن يكون أو هنا للغاية أي : نحاول الملك إلى أن نموت .
وأما نصب قوله : فنعذرا فبالعطف على نموت على رواية النصب وأما على رواية الرفع
فخفيٌّ . ولهذا حذفه الشارح المحقق من المصراع .
ووجه نصبه الكرماني في شرح أبيات الموشح بأن الفاء للسببية وبعدها أن مضمرة في
جواب النفي الضمني بتأويل نموت بلا نبقى . فتأمل .
ونعذرا بالبناء للمفعول وروى : نعذر من أعذر الرجل إذا أتى بعذر .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : وروى : فنعذر بكسر الذال أي : نبلغ العذر .
والبيت من قصيدةٍ لامرىء القيس مشتملةٍ على جملٍ من يواقيت الفصاحة وجواهر البلاغة
قالها لما دخل بلاد الروم مستجيراً بقيصر لأن أباه كان قد ولي بني
____________________
أسد فظلمهم فتعاونوا على قتله
كما تقدم في ترجمته فخرج امرؤ القيس إلى قيصر يستمده . )
قال أبو القاسم السعدي في كتاب مساوي الخمر : وممن بلغ به إفشاء سره حتفه امرؤ
القيس بن حجر الكندي . وذلك أن المنذر بن ماء السماء عند ما ملك على الحيرة عندما
ولاه أنوشروان ذلك بعد مقتل حجر وزوال ملك بني آكل المرار أرسل جيشاً من بكر وتغلب
في طلب بني آكل المرار فجيء إليه منهم بستة عشر رجلاً فضرب أعناقهم في بيوت بني
مرينا . ( ألا يا عين بكي لي شنينا ** وبكي لي الملوك الذاهبينا ) ( ملوكاً من بني
حجر بن عمرو ** يساقون العشية يقتلونا ) ( فلو في يوم معركة أصيبوا ** ولكن في
بيوت بني مرينا ) وفي ذلك أيضاً يقول عمرو بن كلثوم في معلقته : ( فآبوا بالنهاب
مع السبايا ** وأبنا بالملوك مصفدينا ) فهرب منه امرؤ القيس : قيل : كان معهم
فأفلت وقيل : سمع بخبرهم فذهب على وجهه يستجير بالعرب فبعضٌ يقبله وبعضٌ يرده .
فخرج إلى الحارث بن أبي شمر الغساني المعروف بابن مارية وحال الحارث يومئذٍ بالشام
كحال المنذر بن ماء السماء بالعراق فسأله الجوار والنصرة وتوسل إليه الخؤولة .
____________________
وذلك أن مارية ذات القرطين اللذين يضرب العرب بهما المثل هي أخت هندٍ امرأةٍ جحر
والد امرىء القيس . فأكرمه وسأله النصرة على المنذر فاعتذر إليه وقال له : إني لست
أقدر على المسير إلى العراق في هذا الوقت ولكني أسير معك إلى الملك قيصر فهو أقوى
مني على ما سألت .
وكانت للحارث وفادةٌ على الملك فأوفده معه . وهذا قبل أن يغزو المنذر بن ماء
السماء إلى وقيل أن سبب ما هيج ما بين المنذر والحارث هذا الحرب إنما هو إجارة
الحارث لامرىء القيس فتوجه معه امرؤ القيس إلى بلد الروم . وفي ذلك قال هذه
القصيدة ذكر فيها استجارته وخلوصه إلى التوجه إلى بلد الروم : الطويل ( سما لك
شوقٌ بعدما كان أقصرا ** وحلت سليمى بطن ظبيٍ فعرعرا ) ( فدعها وسل الهم عنها
بجسرةٍ ** ذمولٍ إذا صام النهار وهجرا ) ( عليها فتًى لم تحمل الأرض مثله ** أبر
بميثاقٍ وأوفى وأصبرا ) ( إذا قلت هذا صاحبٌ قد رضيته ** وقرت به العينان بدلت
آخرا ) ) ( كذلك جدي لا أصاحب صاحباً ** من الناس إلا خانني وتغيرا ) ( تذكرت أهلي
الصالحين وقد أتت ** على جملٍ بنا الركاب وأعفرا )
____________________
( ولما بدت حوران والآل دونها
** نظرت فلم تنظر بعينيك منظرا ) ( تقطع أسباب اللبانات والهوى ** عشية جاوزنا
حماة وشيزرا ) ( بكى صاحبي لما رأى الدرب دونه ** وأيقن أنا لاحقان بقيصرا ) (
فقلت له : لا تبك عينك إنما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذرا ) وبعد هذا سبعة أبيات
في وصف فرسه وفي بعض ما مر له في بعض المنازل .
وصاحبه الذي بكى هو عمرو بن قميئة الضبعي الشاعر المشهور وقد تقدمت ترجمته في
الشاهد السابع عشر بعد الثلثمائة . كان صحب امرأ القيس لما مر ببكر ابن وائل يطلب
منهم النصرة فسألهم عن شاعرٍ محسن فيهم فأتوه به وقد أسن فاستنشده فأعجبه ثم شكا
إليه حاله فقال له : اصحبني . فصحبه وكان معه حتى سلك الطريق إلى بلد الروم فلما
توسط الدرب بكى عمرو بن قميئة وقال : غررت بنا .
والدرب : كل مدخل إلى الروم أو النافذ منه وباب السكة الواسع والباب الأكبر . كذا
في القاموس .
ثم إن عمراً مات في الطريق فكان يسمى عمراً الضائع . فلما وصل امرؤ القيس إلى بلد
الروم أمر ملك الروم بإدخاله عليه وكان لا يدخل على قيصرٍ أحدٌ إلا سجد له . فقيل
له إن امرأ القيس لا يسجد لك .
وكان لقيصر بابان أحدهما صغير والآخر كبير فقال : أدخلوه من الباب الصغير ليضع
رأسه لي .
فلما رأى امرؤ القيس صغر الباب ولى ظهره فدخل مولياً حتى قام بين يديه . قالوا :
فنظر إليه قيصر فأعجبه وكان وسيماً جميلاً وأعلمه أنه جاءه يستمده على العرب .
فرحب به وألطفه .
وقال له : أيما أحب إليك : ستمائةٍ من أولاد الملوك
____________________
أو ستة آلاف من الجند فاختار
ستمائة من أبناء الملوك . وخف على قلب قيصر حتى نادمه ففي ذلك يقول : المتقارب (
ونادمت قيصر في ملكه ** فأوجهني وركبت البريدا ) ( إذا ما ازدحمنا على سكةٍ **
سبقت الفرانق سبقاً بعيدا ) )
والفرانق بضم الفاء وكسر النون : الذي يدل صاحب البريد على الطريق . والبريد :
دابة الرسول المستعجل .
ثم إن امرأ القيس لطف محله من قيصر فأدخله الحمام معه فرأى غلفة قيصر فقال :
البسيط ( لقد حلفت يميناً غير كاذبةٍ ** إنك أغلف إلا ما جنى القمر ) وختانة القمر
مثلٌ تضربه العرب للأغلف لأن القمر لا يختن أحداً .
وفي مدة منادمته لقيصر رأته ابنة قيصر فعشقته وراسلته وصار إليها وفيها يقول من
قصيدة : الطويل ( سموت إليها بعدما نام أهلها ** سمو حباب الماء حالاً على حال ) (
فقالت سباك الله إنك فاضحي ** ألست ترى السمار والناس أحوالي ) ( فقلت لها بالله
أبرح قاعداً ** ولو قطعوا رأسي لديك وأوصالي )
____________________
قالوا : ولم يزل يصير إليها
ثم أخبر بذلك أصحابه وفيهم الطماح بن قيسٍ الأسدي فقال له : ائتنا بأمارةٍ . فأتاه
بقارورة من طيب الملك وذلك كان عند سكره .
وكان أبو امرىء القيس قد قتل قيساً أبا الطماح أيام أوقع ببني أسد فتحيل الطماح
حتى أخذها فأنفذها إلى قيصر وأخبره بالحديث فعرفه وعلم صحته . ففي ذلك يقول من
قصيدة : الطويل ( لقد طمح الطماح من بعد أرضه ** ليلبسني من دائه ما تلبسا ) وقال
أيضاً من قصيدة : الطويل ( إذا المرء لم يخزن عليه لسانه ** فليس على شيءٍ سواه
بخزان ) فلما نفد امرؤ القيس بالجيش أتى الطماح ملك الروم فقال له : أيها الملك
أهلكت جيشاً بعثته مع المطرود الذي قتل أبوه وأهل بيته وما تريد من نصره وكلما قتل
بعض العرب بعضاً كان خيراً لك قال : فما الرأي قال : أن تتدارك جيشك وترده وتبعث
إلى امرىء القيس بحلةٍ مسمومة .
ففعل وعزم على امرىء القيس أن يلبسها فدخل امرؤ القيس الحمام فاطلى
____________________
ولبسها وقد رق جلده لقروح
كانت به فتساقط لحمه . ورد قيصر جيشه . وقدم امرؤا لقيس أنقرة وهي التي يقال لها
الآن أنكورية فأقام بها مدنفاً يعالج قروحه ونزل إلى جنب جبلٍ يقال له عسيب وإلى )
جنبه قبرٌ لابنة بعض الروم فسأل عن القبر فأخبر به فقال : الطويل ( أجارتنا إن
الخطوب تنوب ** وإني مقيمٌ ما أقام عسيب ) ( أجارتنا إنا غريبان ها هنا ** وكل
غريبٍ للغريب نسيب ) فلما أيقن بالموت قال : الرجز ( كم طعنةٍ مثعنجره ** وخطبةٍ
مسحنفره ) ( وجفنةٍ مدعثره ** قد غودرت بأنقره ) وكان هذا آخر ما تكلم به ومات .
هذا ما نقلته من كتاب مساوي الخمر .
والمثعنجرة : السائلة . والمسحنفرة : الواسعة في الصحاح يقال : اسحنفر في خطبته
إذا مضى واتسع في كلامه . والجفنة بفتح الجيم : القصعة . والمدعثرة : المتثلمة
والمتكسرة .
وقوله : بطن ظبي وعرعرا هما موضعان .
____________________
وترجمة امرىء القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده وهو من شواهد سيبويه : البسيط ( إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا ** أو
تنزلون فإنا معشرٌ نزل ) على أن تنزلون عند الخليل معطوفٌ على إن تركبوا على
المعنى وهو المسمى عطف التوهم .
وقال يونس : هو على القطع أي : بل أنتم نازلون وأو بمعنى بل .
وكلٌّ من الخليل ويونس شيخ سيبويه . وهذا نصه في الكتاب .
وسألت الخليل رحمه الله عن قول الأعشى .
إن تركبوا فركوب الخيل عادتنا . . . . . . . . . . . . . . . . البيت فقال :
الكلام ها هنا على قوله يكون كذا أو يكون كذا لما كان موضعه ما لو قال فيه أتركبون
لم ينقص المعنى صار بمنزلة ولا سابق شيئاً .
وأما يونس فقال : أرفعه على الابتداء كأنه قال : أو أنتم نازلون . وقول يونس أسهل
.
____________________
وأما قول الخليل فجعله بمنزلة قول زهير : الطويل ( بدا لي أني لست مدرك ما مضى **
ولا سابقٍ شيئاً إذا كان جائيا ) )
والإشراك على هذا التوهم بعيد كبعد : ولا سابق شيئاً . انتهى .
قال الأعلم : الشاهد في رفع تنزلون حملاً على معنى إن تركبوا لأن معناه ومعنى
أتركبون متقارب . وكأنه قال : أتركبون فذلك عادتنا أو تنزلون في معظم الحرب فنحن
معروفون بذلك .
هذا مذهب الخليل وسيبويه .
وحمله يونس على القطع والتقدير عنده : أو أنتم تنزلون . وهذا أسهل في اللفظ والأول
اصح في المعنى والنظم والخليل ممن يأخذ بصحة المعاني ولا يبالي باختلال الألفاظ .
انتهى .
وكذا نقل ابن هشام في المغني .
فأنت ترى أنهم حملوه على إضمار المبتدأ بالنقل عن يونس ولم يقل أحدٌ منهم : إن أو
بمعنى الإضراب كما قال الشارح المحقق . ولا ضرورة تلجئه إليه .
واقتصر ابن عصفور في كتاب الضرائر على مذهب الخليل وخصه بالضرورة قال : ألا ترى أن
تنزلون حكمه أن تحذف منه النون للجزم لأنه معطوف على الفعل المجزوم بأداة الشرط
وهو تركبوا لكنه اضطر إلى رفعه بالنون فاستعمل الرفع بدل الجزم حملاً على أتركبون
المضمن معنى إن تركبوا لأن الفعل المستفهم عنه جائز فيه أن يضمن معنى الشرط إلا أن
ما حمل عليه رفع تنزلون لا
____________________
يحوج إلى اللفظ . انتهى .
والبيت من قصيدة الأعشى ميمون التي أولها : البسيط ( ودع هريرة إن الركب مرتحل **
وهل تطيق وداعاً أيها الرجل ) وروي البيت كذا أيضاً : ( قالوا الطراد فقلنا تلك
عادتنا ** أو تنزلون فإنا معشرٌ نزل ) وعليه لا شاهد فيه .
ولم يذكر الخطيب التبريزي في شرح القصيدة غير هذه الرواية وقال في شرحه : يقول :
إن طاردتم بالرماح فتلك عادتنا وإن نزلتم تجالدون بالسيوف نزلنا . انتهى .
ونزل بضمتين : جمع نازل . ونزولهم عن الخيل يكون عند ضيق المعركة ينزلون فيقاتلون
على أقدامهم وفي ذلك الوقت يتداعون : نزال .
وقد تقدم الكلام على شرح النزول مفصلاً في الشاهد الواحد والأربعين بعد الثلثمائة
.
والأعشى شاعر جاهلي تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب . )
____________________
وأنشد بعده : الطويل ولا ناعبٍ إلا ببينٍ غرابها وهذا عجز وصدره : مشائيم ليسوا
مصلحين عشيرةً على أن ناعب عطف بالجر على مصلحين الواقع خبراً ل ليس على توهم
الباء فيه فإنها يجوز ومشائيم : جمع مشؤوم كمنصور وهو من به الشؤم نسبهم إلى الشؤم
وقلة الصلاح والخير .
يقول : لا يصلحون أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخير فغرابهم لا ينعب
إلا بالتشتيت والفراق .
وهذا مثلٌ للتطير والتشؤوم بهم . والعرب تتشاءم بصوت الغراب .
وقد تقدم شرحه مفصلاً في الشاهد الثامن والسبعين بعد المائتين .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والستون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
( على الحكم المأتي يوماً إذا
قضى ** قضيته أن لا يجور ويقصد ) على أن القطع قد يجيء بعد الواو غير الجمعية .
وقد شرحه الشارح المحقق .
قال سيبويه : ومما جاء منقطعاً قول الشاعر : على الحكم المأتي . . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . البيت كأنه قال : عليه غير الجور ولكنه يقصد أو هو يقصد أو هو
قاصد فابتدأ ولم يحمل الكلام على أن كما تقول : عليه أن لا يجوز وينبغي له كذا
وكذا فالابتداء في هذا أسبق وأعرف .
فمن ثم لا يكادون يحملونها على أن . انتهى .
وقال النحاس في شرح شواهده : سألت عنه أبا الحسن فقال : ويقصد مقطوع من الأول وهو
في معنى الأمر وإن كان مضارعاً كما تقول : يقوم زيد فهو خبرٌ وفيه معنى الأمر .
انتهى .
ومثله للأعلم قال : قطعه لأن المعنى : وينبغي له أن يقصد ولم يحمله على أول الكلام
لأن فيه معنى الأمر فكأنه قال : وليقصد في حكمه .
ونظيره مما جاء على لفظ الخبر ومعناه أمرٌ قوله تعالى : والوالدات يرضعن أولادهن
أي : )
ليرضعن أولادهن وينبغي لهن أن يرضعنهم . انتهى .
____________________
ونقله الجوهري في الصحاح وقال : قال الأخفش : أراد : ينبغي أن يقصد فلما حذفه
وأوقع يقصد موضع ينبغي رفعه لوقوعه موقع المرفوع .
وإليه ذهب ابن جني في المحتسب . وهذا توجيهٌ لانقطاعه واستئنافه وليس المراد أن
يقصد كان منصوباً بأن فارتفع لما حذفت كما ذهب إليه الدماميني في الحاشية الهندية
وقال : ويحتمل أن يكون يقصد منصوباً في الأصل بإضمار أن والمعنى : عليه أن لا يجوز
وعليه أن يقصد ثم حذفت أن وارتفع الفعل كما في تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه .
انتهى .
وهذا المعنى وإن كان جيداً إلا أنه لا يحسن التخريج على حذف أن فإنه غير مقيس .
فالصحيح الاستئناف .
قال ابن الحاجب في الإيضاح : العطف على يجور غير مستقيم لأن غرضه أن ينفي الجور
ويثبت القصد ليحصل المدح وإذا أشرك بينه وبين الجور دخل في النفي فيصير نافياً
للجور ونافياً للقصد فلا يحصل مدح بل يتناقض . فوجب أن يحمل على أنه مستأنف ليكون
مثبتاً فيكون الجور منفياً والقصد مثبتاً فيحصل المقصود ويرتفع التناقض . انتهى .
وقوله : على الحكم ظرف وقع في موقع الخبر المقدم .
وروى : على الحكم المأتي حقٌّ إذا قضى
____________________
فيكون حقٌّ هو الخبر وعلى
متعلقة به .
وقوله : أن لا يجوز في تأويل مبتدأ مؤخر والمعنى واجبٌ على كل حكم بين الناس يؤتى
لفصل الخصومات أن لا يجور في حكمه إذا قضى قضيته وحكم حكمه وهو يقصد ويعدل في
قضاياه .
وهذا منه إرشادٌ للحاكم إلى العدل في الحكم وحث على النصفة . والحكم بفتحتين :
وصفٌ من حكمت بين القوم : فصلت بينهم فأنا حاكم وحكم بفتحتين . والحكم بالضم :
القضاء وأصله المنع يقال : حكمت عليه إذا منعته من خلافه فلم يقدر على الخروج من
ذلك .
والمأتي : اسم مفعول من أتيته يكون متعدياً بنفسه ويجيء لازماً يتعدى بإلى . وعلى
الأول يكون اسم المفعول منه بدون إلى بلا حاجة إلى قول ابن الملا في شرح المغني :
المأتي معناه المأتي )
إليه فهو على الحذف والإيصال كقولهم المشترك .
وقضى : حكم . وقضية فعلية بمعنى مفعولة . وجار في حكمه أي : ظلم . والقصد : العدل
يقال : قصد في الأمر من باب ضرب إذا توسط وطلب الأسد ولم يجاوز الحد .
والبيت من قصيدة عدتها تسعة عشر بيتاً لأبي اللحام التغلبي أوردها أبو عمرو
الشيباني في أشعار تغلب له وانتخبها أبو تمام فأورد منها خمسة أبيات في مختار
أشعار القبائل وهذا أولها : ( عمرت وأطولت التفكر خالياً ** وساءلت حتى كاد عمري
ينفد ) ( فأضحت أمور الناس يغشين عالماً ** بما يتقى منها وما يتعمد ) ( جديرٌ بأن
لا أستكين ولا أرى ** إذا الأمر ولى مدبراً أتبلد ) على الحكم المأتي حقٌّ إذا قضى
. . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
عمرت أي : عشت عمراً طويلاً
من باب فرح والمصدر العمر بفتح العين وضمها مع سكون ويغشين : يأتين . والغشيان :
الإتيان . وأراد بالعالم نفسه . والفعلان بعده يجوز أن يكونا بالبناء للمعلوم
وبالبناء للمجهول . ويتعمد : بمعنى يقصد .
وجديرٌ : خبر مبتدأ محذوف أي : أنا جدير بأن لا أستكين أي : لا أخضع ولا أذل .
وأرى بالبناء للمفعول .
وروي المصراع الثاني هكذا : إذا حل أمرٌ ساءني أتبلد أي : أتحير كالبليد .
ومن هذه القصيدة : ( وليس الفتى كما يقول لسانه ** إذا لم يكن فعلٌ مع القول يوجد
) ( عسى سائلٌ ذو حاجةٍ إن منعته ** من اليوم سؤلاً أن يكون له غد ) ( وإنك لا
تدري بإعطاء سائلٍ ** أأنت بما تعطيه أم هو أسعد ) وأبو اللحام شاعرٌ جاهلي اسمه
حريثٌ مصغر حارث . واللحام بفتح اللام وتشديد الحاء المهملة .
وهذا شيءٌ من أخباره أورده أبو عمرو الشيباني قال :
____________________
كان أبو اللحام خرج في ناس من
بني تغلب فأغار على قرًى من قرى السواد وأقام يجبيهم )
ويأخذ منهم فبعث إليهم كسرى النخيرجان في خيلٍ من الأساورة فهزم ذلك الجيش وأخذ
أبا اللحام فحمله على بعير وعدله بفراش وهو مغلولٌ فقال : انظروا إلى هذا الخبيث
الذي جاء يغير على الملك وهو عدل فراشٍ في الخفة ثم إنه نزل في ناحية الفرات على
شاطئه الغربي فبعث خيله إلى العرب فلم يصب أحداً إلا قتله . وجعل مع أبي اللحام
رجلاً من أهل الحيرة عربياً كان من أعوانه يقال له : بريم في سلسلةٍ شمال أبي اللحام
بيمينه وهو يريد أن يقدم الحيرة ليصلبه بها فيراه من يقدم الحيرة من العرب .
فلقي رجلاً نبطياً كان يعرفه في بعض السواد إلى جنب أجمة فأخذ منه دراهم فجعل إذا
مشى ينطلق ببريم فيسقيه ويدهنه ويطعمه من تلك الدراهم .
فلما كان ذات ليلة أظلمت السماء بغيمٍ ومطر وجعل يلح عليه بالشراب ثم جعلا يمشيان
في الأجمة فتناول سيف بريم فاستله ثم ضرب السلسلة فقطعها ثم خرج إلى البرية فأتى
رجلاً من الأعراب من بكر بن وائل فأخبره الخبر وأخذ منه نجيبة فلحق بالشام .
وأنشد بعده : فنرجي ونكثر التأميلا
____________________
وهذا عجزٌ وصدره : غير أنا لم
يأتنا بيقينٍ وتقدم شرحه قريباً . والفاء استئنافية لا سببية بدليل القطع . وجوز
هناك أن تكون سببية .
وإنما لم ينصب نرجي لعدم اللبس .
وأنشد بعده ( الشاهد السبعون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( وما
هو إلا أن أراها فجاءةً ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب ) على أنه يروى بنصب أبهت ورفعه
على القطع أي : فأنا أبهت .
قال سيبويه : وسألت الخليل رحمه الله عن قول الشاعر : وما هو إلا أن أراها فجاءةً
. . . . . . البيت فقال : أنت في أبهت بالخيار إن شئت حملتها على أن وإن شئت لم
تحملها عليه فرفعت
____________________
وقوله : هو ضمير يفسره خبره
كقوله تعالى : إن هي إلا حياتنا الدنيا . قال الزمخشري : هذا ضميرٌ لا يعلم ما
يعنى به إلا بما يتلوه . وأصله : إن الحياة إلا حياتنا الدنيا ثم وضع هي موضع
الحياة لأن الخبر يدل عليها ويبينها . انتهى .
وليس هو في البيت ضمير الشأن والحديث كما زعمه شارح أبيات المفصل لأن ضمير الشأن
لا بد أن يفسر بجملة ولا جملة هنا وأما أن أراها ففي تأويل المفرد كما صرح به
سيبويه لأن أن هي الناصبة للمضارع وليست مخففة من الثقيلة لأنها تقع بعد فعل
اليقين أو ما نزل منزلته وحينئذ يكون اسمها ضميراً وخبرها جملة مفصولة عنها بقد أو
لو أو السين أو النفي على ما فصل في محله .
وقد غلط في ذلك الشارح فزعم أنها المخففة قال : والتقدير إلا أنه أراها أي : إن
الشأن .
وهذه غفلة منه فإنها لو كانت المخففة ما كان وجهٌ لنصب أبهت بالعطف على مدخولها .
وأراها بفتح الهمزة من رؤية العين تتعدى إلى مفعول واحد وهو ضمير الحبيبة . ورأيته
في بعض النسخ بضم الهمزة على أنه من رأى المتعدي بالهمزة إلى مفعول ثان فيكون
المفعول الأول نائب الفاعل وهو ضمير المتكلم والثاني ضمير الحبيبة .
والفجاءة بالضم والمد : البغتة يقال : فجئت الرجل أفجؤه مهموز من باب تعب . وفي
لغة بفتحتين إذا جئته بغتة . والاسم الفجأة . وفجاءةً : مفعول مطلق أي : رؤية فجأة
. وقول ذلك الشارح هو مصدر في موضع الحال من الفاعل أو المفعول أي مفاجئاً أو
مفاجأة .
وقوله : فأبهت إن روي بالنصب فالفاء عاطفة عطفت أبهت على أراها وهو عطف مفرد )
على مفرد وهو في تأويل مصدر أي : إلا الرأي فالبهت .
____________________
وإن روي بالرفع فالفاء استئنافية وجملة البهت خبر مبتدأ محذوف أي : فأنا أبهت بفتح
الهمزة وضم الهاء وفتحها لأنه جاء من بابي قرب وتعب بمعنى أدهش وأتحير . وأما أبهت
بالبناء للمفعول فغير مرادٍ هنا . يقال : بهته يبهته بفتحتين فبهت بالبناء للمفعول
فهذا متعدٍّ وذاك لازم .
وحتى : هنا ابتدائية ومعناها الغاية وما : نافية . وأكاد : بمعنى أقرب . وجملة :
أجيب في محل نصب خبرها ومفعول أجيب محذوف أي : أجيبها إن كلمتني .
ومثله قول الآخر : الطويل ( علامة من كان الهوى في فؤاده ** إذا لقي المحبوب أن
يتحيرا ) والبيت من قصيدة لعروة بن حزامٍ العذري تقدمت مع ترجمته في الشاهد السادس
والتسعين بعد المائة .
وقبله وهو مطلع القصيدة : وقد وقع البيت الشاهد مع بيتين آخرين من القصيدة في
قصيدةٍ لكثير عزة أورد ستة أبيات منها في حماسته الشريف ضياء الدين هبة الله علي
بن محمد بن حمزة الحسيني وهي : ( أبى القلب إلا أم عمرو وبغضت ** إلي نساءً ما لهن
ذنوب ) ( وليس على شحط النوى أكثر البكا ** لقد كنت أبكي والمزار قريب ) ( لعمر
أبيها إن دهراً يردها ** إلي على شحط النوى لطلوب ) وما هو إلا أن أراها . . . . .
. . . . . . . . البيت وقد وقع البيت الشاهد بقافيةٍ رائيةٍ في قصيدةٍ لأبي صخرٍ
الهذلي منها :
____________________
( وإني لآتيها أريد عتابها **
وأوعدها بالهجر ما برق الفجر ) ( فما هو إلا أن رأها فجاءةً ** فأبهت لا عرفٌ لدي
ولا نكر ) ( وأنسى الذي فيه أكون هجرتها ** كما قد تنسي لب شاربها الخمر ) وعلى
هذا فضمير هو عائد على العتاب .
وأبو صخر الهذلي تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس بعد المائتين .
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الكامل ) ( لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ** عارٌ عليك
إذا فعلت عظيم ) على أن تأتي منصوب بأن مضمرة بعد واو الجمعية الواقعة بعد النهي .
____________________
قال سيبويه : واعلم أن الواو وإن جرت هذا المجرى فإن معناها ومعنى الفاء مختلفان .
ألا ترى الأخطل قال : لا تنه عن خلق وتأتي مثله . . . . . . . . . . . البيت فلو
دخلت الفاء ها هنا لأفسدت المعنى وإنما أراد : لا تجمعن النهي والإتيان فصار تأتي
على إضمار أن . انتهى .
ويجوز رفعه على أنه خبر مبتدأ محذوف أي : وأنت تأتي ولا يجوز جزمه لفساد المعنى .
وعار خبر مبتدأ محذوف أي : هو عارٌ . وعظيم صفته . وهذه الجملة دليل جواب إذا .
ومعنى البيت من قوله تعالى : أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم .
وقال الحاتمي : هذا أشرد بيتٍ قيل في تجنب إتيان ما نهي عنه . والبيت وجد في عدة
قصائد .
ومنه اختلف في قائله فنسبه الإمام أبو عبيد القاسم بن سلام في أمثاله إلى المتوكل
بن عبد الله الليثي الكناني . وأورده في باب تعيير الإنسان صاحبه بعيب هو فيه .
والمتوكل الليثي من شعراء الإسلام وهو من أهل الكوفة وكان في عصر معاوية وابنه
يزيد ومدحهما .
ونسبه إليه أيضاً الآمدي في المؤتلف والمختلف وقال فيمن يقال له المتوكل :
____________________
منهم المتوكل الليثي وهو
المتوكل بن عبد الله بن نهشل بن وهب بن عمرو بن لقيط بن يعمر الشداخ بن عوف بن كعب
بن عامر بن ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة .
الشاعر المشهور القائل : لا تنه عن خلق . . . . . . . . . البيت ونسبه إليه أيضاً
أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني وذكر بإسناد أن الأخطل قدم الكوفة فنزل على قبيصة
بن ذالق فقال المتوكل الليثي لرجلٍ من قومه : انطلق بنا إلى الأخطل نستنشده ونسمع
من شعره . فأتياه فقالا له : أنشدنا يا أبا مالك . فقال : إنني لخاثرٌ يومي هذا .
فقال له المتوكل : أنشدنا أيها الرجل فوالله لا تنشدني قصيدةً إلا أنشدتك مثلها أو
أشعر منها . قال : ومن أنت قال : أنا المتوكل . قال : ويحك أنشدني من شعرك . )
فأنشده : الكامل ( للغانيات بذي المجاز رسوم ** فببطن مكة عهدهن قديم ) لا تنه عن
خلقٍ وتأتي مثله . . . . . . . . . . . . البيت ( والهم إن لم تمضه لسبيله ** داءٌ
تضمنه الضلوع قديم )
____________________
وكذلك نسبه إليه الزمخشري في
المستقصى قال : هو من قول المتوكل الكناني : ( ابدأ بنفسك فانهها عن غيها ** فإذا
انتهت عنه فأنت حكيم ) ( فهناك تعدل إن وعظت ويقتدى ** بالقول منك ويقبل التعليم )
لا تنه عن خلقٍ . . . . . . . . . . . . البيت ونسبه سيبويه للأخطل . ونسبه
الحاتمي لسابق البربري . ونقل السيوطي عن تاريخ ابن عساكر أنه للطرماح .
والمشهور أنه من قصيدةٍ لأبي الأسود الدؤلي . قال اللخمي في شرح أبيات الجمل :
الصحيح أنه لأبي الأسود . فإن صح ما ذكر عن المتوكل فإنما أخذ البيت من شعر أبي
الأسود . والشعراء كثيراً ما تفعل ذلك . وهذه هي قصيدة أبي الأسود سقناها برمتها
لجودتها : ( حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه ** فالقوم أعداءٌ له وخصوم ) ( كضرائر
الحسناء قلن لوجهها ** حسداً وبغياً إنه لدميم ) ( والوجه يشرق في الظلام كأنه **
بدرٌ منيرٌ والنساء نجوم ) ( وكذاك من عظمت عليه نعمةٌ ** حساده سيفٌ عليه صروم )
( فاترك محاورة السفيه فإنها ** ندمٌ وغبٌّ بعد ذاك وخيم )
____________________
( وإذا جريت مع السفيه كما
جرى ** فكلاكما في جريه مذموم ) وإذا عتبت على السفيه ولمته في مثل ما تأتي فأنت
ظلوم ( لا تنه عن خلقٍ وتأتي مثله ** عارٌ عليك إذا فعلت عظيم ) ( ابدأ بنفسك
وانهها عن غيها ** فإذا انتهت عنه فأنت حكيم ) ( فهناك يقبل ما وعظت ويقتدى **
بالعلم منك وينفع التعليم ) ( ويل الخلي من الشجي فإنه ** نصب الفؤاد بشجوه مغموم
) ( وترى الخلي قرير عين لاهياً ** وعلى الشجي كآبةٌ وهموم ) ) ( ويقول : ما لك لا
تقول مقالتي ** ولسان ذا طلقٌ وذا مكظوم ) ( لا تكلمن عرض ابن عمك ظالماً ** فإذا
فعلت فعرضك المكلوم ) ( وحريمه أيضاً حريمك فاحمه ** كي لا يباع لديك منه حريم ) (
وإذا اقتصصت من ابن عمك كلمةً ** فكلومه لك إن عقلت كلوم ) ( وإذا طلبت إلى كريمٍ
حاجةٌ ** فلقاؤه يكفيك والتسليم ) ( ورأى عواقب حمد ذاك وذمه ** للمرء تبقى
والعظام رميم ) ( فارج الكريم وإن رأيت جفاءه ** فالعتب منه والكرام كريم ) ( إن
كنت مضطراً وإلا فاتخذ ** نفقاً كأنك خائفٌ مهزوم ) ( واتركه واحذر أن تمر ببابه
** دهراً وعرضك إن فعلت سليم ) ( فالناس قد صاروا بهائم كلهم ** ومن البهائم قائلٌ
وزعيم )
____________________
( عميٌ وبكم ليس يرجى نفعهم
** وزعيمهم في النائبات مليم ) ( وإذا طلبت إلى لئيمٍ حاجةً ** فألح في رفقٍ وأنت
مديم ) ( والزم قبالة بيته وفناءه ** بأشد ما لزم الغريم غريم ) ( وعجبت للدنيا
ورغبة أهلها ** والرزق فيما بينهم مقسوم ) ( والأحمق المرزوق أعجب من أرى ** من
أهلها والعاقل المحروم ) ( ثم انقضى عجبي لعلمي أنه ** رزقٌ موافٍ وقته معلوم )
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والسبعون بعد الستمائة ) ( وما أنا للشيء الذي ليس
نافعي ** ويغضب منه صاحبي بقؤول ) على أن سيبويه جوز في يغضب النصب والرفع .
وهذا نص سيبويه : وسمعنا من ينشد هذا البيت من العرب وهو لكعبٍ الغنوي بالنصب .
والرفع أيضاً جائزٌ حسن . ويغضب معطوف على الشيء ويجوز رفعه على أن يكون داخلاً في
صلة الذي . انتهى .
قال النحاس : قال محمد بن يزيد : الرفع الوجه لأن يغضب في صلة الذي لأن معناه الذي
يغضب منه صاحبي . قال : وكان سيبويه يقدم النصب ويثني بالرفع وليس القول عندي كما
قال لأن المعنى الذي يصح عليه الكلام إنما يكون بأن يقع يغضب في الصلة كما ذكرت لك
.
____________________
ومن أجاز النصب فإنما يجعل يغضب معطوفاً على الشيء وذلك جائز ولكنه بعيد . وإنما
جاز لأن الشيء منعوت فكأن تقديره : وما أنا للشيء الذي هذه حاله ولأن يغضب صاحبي .
وهو كلامٌ محمول على معناه لأنه ليس يقول الغضب . ومثل هذا تجوز . تقول : إنما جاء
بك طعام زيد . والمعنى : إنما جئت من أجله .
قال أبو إسحاق : النصب بمعنى وغضب أي : دون غضب صاحبي . والرفع على أن يكون داخلاً
في صلة الذي كأنه قال : والذي يغضب منه صاحبي . وسألت عنه أبا الحسن فقال : أي :
يكون يغضب منصوباً بعد الواو في جواب النفي الأول الذي هو : وما أنا دون الثاني
الذي هو : ليس نافعي . وهو المسمى في الشرح بالصرف . وهو مختار الشارح تبعاً لصاحب
اللباب .
وفيه ردٌّ على ابن الحاجب في أماليه على المفصل من وجهين : أحدهما : أنه زعم أن
الواو في ويغضب ليست واو الجمع وإنما هي واو العطف . وذكرها الزمخشري وإن لم يكن
بابها لموافقتها لواو الجمع من وجهين الرفع والنصب . وكذلك فعل في الفاء .
ثانيهما : في اتباعه لسيبويه في زعمه أن يغضب معطوف على قوله للشيء .
بقي احتمالٌ آخر لعطف يغضب المنصوب قال ابن الحاجب : ولا يستقيم أن يكون معطوفاً
على نافعي لأمر معنوي وهو أنه يصير المعنى : لا ينفعني ولا يغضب صاحبي . وليس
الغرض كذلك بل الغرض نفي النفع عنه وإثبات الغضب للصاحب . )
وأورد على مختار الشارح بأنه يلزم منه تقدم المعطوف وهو يغضب على المعطوف عليه وهو
قؤول . وأجاب بأنه قوله : ويغضب في نية التأخير إذ التقدير : وما أنا بقؤول للشيء
الذي لا ينفعني ويغضب صاحبي بالنصب أي : مع
____________________
غضب صاحبي .
فيغضب وإن كان مقدماً لفظاً على قؤول فهو متأخر معنًى لأن بقؤول خبر ما فهو مقدم
في وقول الشارح المحقق : وقال أبو علي في كتاب الشعر : بل هو عطف على نافعي أراد
بكتاب الشعر كتابه المسمى بإيضاح الشعر وإعراب الشعر .
وهذه عبارته فيه : في قولك يغضب ضربان : إن جعلتها داخلةً في الصلة كانت مرفوعة
لأنه لا شيء يحمل عليه فينصب فإذا عطف لم يخرجها من الصلة وحمل الكلام على المعنى
كأنه قال وما أنا للذي لا ينفعني ويغضب منه صاحبي بقؤول .
فإذا دخل يغضب في الصلة عطف المضارع على اسم الفاعل وكل واحد من المضارع واسم
الفاعل يعطف على الآخر لتشابههما . وموضع المضارع الذي هو يغضب نصبٌ للعطف على خبر
ليس والضمير الذي هو منه يعود على اسم ليس والمقول حينئذٍ هو الشيء والقول يقع عليه
لعمومه واحتماله أن يكون القول وغيره . وليس كالغضب .
فإذا أخرج يغضب من الصلة أضمر أن بعطفه إياها على الشيء كأنه قال : وما أنا للشيء
الذي ليس نافعي ويغضب صاحبي بقؤول .
فالغضب لا يقال ولكن التقدير ولقول غضب صاحبي . فتضيف القول الحادث عنه الغضب إلى
الغضب كما تقول : ضرب التلف فتضيف الضرب إلى ما يحدث عنه . هذا كلامه .
ونظر صاحب اللباب في تقدير القول المضاف وبينه شارحه الفالي بأن القول
____________________
المقدر إما من أما الأول
فلأنه يلزم منه وقوعه على ما هرب منه إذ يلزم أن يكون الغضب مقولاً .
وأما الثاني فلأن لفظة منه تدفعه إذ إضافة الملابسة مغنية عن ذكر منه إذ قولك قول
غضب صاحبي بمعنى الملابسة معناه قول يصدر ويتولد عنه غضب صاحبي . فلا حاجة إلى ذكر
منه كما تقول : رأيتك يوم خرجت فإن الإضافة مصححة لكون الخروج في اليوم فلا حاجة
إلى أن تقول يوم خرجت فيه .
والبيت من قصيدة لكعب بن سعدٍ الغنوي أوردها أبو تمام في مختار أشعار القبائل
وأورد بعضها القالي في أماليه والشريف في حماسته وهي : ) ( لقد أنصبتني أم عمروٍ
تلومني ** وما لوم مثلي باطلاً بجميل ) ( ألم تعلمي أن لا يراخي منيتي ** قعودي
ولا يدني الحمام رحيلي ) ( فإنك واللوم الذي ترجعينه ** علي وما لوامةٌ بعقول ) (
كداعي هديلٍ لا يجاب إذا دعا ** ولا هو يسلو عن دعاء هديل ) ( وذي ندبٍ دامي الأظل
قسمته ** محافظةً بيني وبين زميلي ) ( وزادٍ رفعت الكف عنه عفافةً ** لأوثر في
زادي علي أكيلي ) ( ومن لا ينل حتى يسد خلاله ** يجد شهوات النفس غير قليل )
____________________
وما أنا للشيء الذي ليس نافعي
. . . . . . . . . . . . . البيت ( ولن يلبث الجهال أن يتهضموا ** أخا الحلم ما لم
يستعن بجهول ) وهذا ما أورده أبو تمام .
وأنصبه : أوقعه في النصب بفتحتين وهو التعب . والحمام : الموت . والهديل : فرخ كان
على عهد نوحٍ عليه السلام فصاده جارحٌ من جوارح الطير . قالوا : فليس من حمامةٍ
إلا وتبكي عليه .
قال الكميت : الوافر ( وما من تهتفين به لنصرٍ ** بأقرب جابةً لك من هديل ) والندب
بفتحتين قال القالي : هو الأثر وجمعه ندوب وأنداب . والأظل بالمعجمة قال القالي :
هو باطن خف البعير . والزميل : الرفيق . يريد أنه قسم ظهر بعيره بينه وبين رفيقه
في الركوب ولم يتركه ماشياً .
والعفافة : العفة . والأكيل : المؤاكل . والخلال بالكسر : جمع خلة بالفتح : الحاجة
والفقر . والعوراء : الكلمة القبيحة . وتهضمه وهضمه إذا دفعه عن موضعه .
وكعب بن سعد الغنوي هو شاعرٌ إسلامي وهو أحد بني سالم بن عبيد ابن سعد بن عوف بن
كعب بن جلان بكسر الجيم وتشديد اللام ابن غنم
____________________
بسكون النون ابن غني بن أعصر
. كذا وقد راجعت كتب الصحابة وكتاب الشعراء لابن قتيبة وكتاب الأغاني وغيرها فلم
أجد ترجمته في أحدها إلا ما قاله أبو عبيدٍ المذكور . والظاهر أنه تابعي .
وأنشد بعده : ( ولبس عباءةٍ وتقر عيني ** أحب إلي من لبس الشفوف ) )
على أن تقر منصوب بأن بعد واو العطف .
قال سيبويه : لما لم يستقم أن تحمل وتقر وهو فعل على لبس وهو اسم ولما ضممته إلى
الاسم وجعلت أحب لهما ولم ترد قطعه لم يكن بد من إضمار أن .
قال النحاس : قال أبو الحسن : أي لم ترد لبس عباءة أحب إلي . وأن تقر عيني لأن هذا
يبطل المعنى لأنه لم يرد أن لبس عباءة أحب إليه . هذا سخف إنما أراد قرة العين
فلهذا نصب .
____________________
وقال الأعلم : نصب تقر بإضمار أن ليعطف على اللبس لأنه اسم وتقر فعل فلم يمكن عطفه
عليه فحمل على إضمار إن لأن أن وما بعدها اسم فعطف اسماً على اسم وجعل الخبر عنهما
واحداً وهو أحب .
والمعنى : لبس عباءةٍ مع قرة العين وصفاء العيش أحب إلي من لبس الشفوف مع سخنة
العين ونكد العيش .
فإن قلت : ما الفرق بين واو الجمع وواو العطف وهل هما إلا شيءٌ واحد قلت : واو
الجمع في الأصل للعطف لكنه خص ببعض أحواله وذلك أن المعطوف قد يكون قبل المعطوف
عليه في الوجود وقد يكون بعده وقد يكون معه نحو : جاء زيد وعمروٌ قبله أو بعده أو
معه .
فخص واو الجمع بما يكون بمعنى مع فهو باعتبار أصل معنى العطف احتاج إلى تقدير مصدر
منتزع من الأول . وباعتبار اختصاصه العارض بحال المعية صار كأنه قسيمٌ للعطف
المطلق الذي لا يتقيد . فواو الجمع عطفٌ مقيد بالمعية وواو العطف غير مقيد بها .
فهذا هو الفرق .
وقال اللخمي في شرح أبيات الجمل : ولو رفعت وتقر لجاز على أن ينزل الفعل منزلة
المصدر ونحو قولهم : تسمع بالمعيدي فتسمع منزل منزلة سماعك . وكقول جريرٍ يعني
الفرزدق : المتقارب ( نفاك الأغر بن عبد العزيز ** وحقك تنفى من المسجد )
____________________
وقول امرىء القيس : الطويل (
فدمعهما سحٌّ وسكبٌ وديمةٌ ** ورشٌّ وتوكافٌ وتنهملان ) قال : يريد وحقك النفي
وانهمالٌ .
واستشهد صاحب الكشاف بالبيت على قراءة : أو آوي بالنصب على إضمار أن كأنه والبيت
من أبيات لميسون بنت بحدل الكلبية وتقدمت مشروحة في الشاهد الثامن والخمسين )
بعد الستمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث والسبعون بعد الستمائة ) الكامل أو أن يلوم بحاجةٍ
لوامها على أن أن قد ظهرت بعد أو في الشعر .
وهذا عجز وصدره : أقضي اللبانة لا أفرط ريبةً والبيت من معلقة لبيد الصحابي رضي
الله عنه . قال شارح المعلقات القاضي أبو
____________________
الحسين الزوزني : يقول : أقضي
وطري ولا أفرط في طلب بغيتي ولا أدع ريبةً إلا أن يلومني لائم . وتحرير المعنى :
أنه لا يقصر لكنه لا يمكنه الاحتراز عن لوم اللوام . وأو في قوله : أو أن يلوم
بمعنى إلا أن يلوم . ومثله قولهم : لألزمنه أو يعطيني ديني معناه إلا أن يعطيني
حقي . انتهى كلامه .
يقال : قضيت وطري أي : بلغته ونلته . واللبانة بضم اللام : الحاجة . ويقال : فرطته
أي : تركته وتقدمته . كذا في الصحاح . وفرط في الأمر تفريطاً : قصر فيه وضيعه .
والريبة : الحاجة ومثله الريب .
قال الشاعر : الوافر قضينا من تهامة كل ريبٍ هذا المناسب وهو المفهوم من كلام
الزوزني السابق .
وقال أبو جعفر النحوي والخطيب التبريزي وأبو الحسن الطوسي في شروحهم . الريب :
الشك .
ورووا : أقضي اللبانة أن أفرط ريبةً بنصب ريبة ورفعها . قالوا : فمن رفع جعله خبر
ابتداء والمعنى تفريطي ريبةٌ . ومن نصب فالمعنى مخافة أن أفرط ثم حذف مخافة . هذا
قول البصريين .
وقال الكوفيون : لئلا مضمرة والمعنى لئلا أفرط ريبة . يريد إني أتقدم في قضاء
حاجتي لئلا أشك وأقول إذا فاتتني : ليتني تقدمت أو يلومي لائمٌ على
____________________
تقصيري . والمعنى : إني لا
أدع ريبةً )
تنفذني حتى أحكمها . والتفريط : الإنفاذ والتقديم .
وفي حلهم المعنى قلاقة وعقادة . وليست أو على كلامهم بمعنى إلا .
ومعنى البيت على شرح الزوزني واضحٌ لا خفاء فيه . واللوام : مبالغة لائم فاعل يلوم
.
وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والسبعون بعد الستمائة ) الطويل ( لقد عذلتني أم عمروٍ
ولم أكن ** مقالتها ما كنت حياً لأسمعا ) على أن مقالتها مفعول مقدم لأسمع عند
الكوفيين كما نقله الشارح المحقق وغيره .
وعند البصريين منصوب بفعلٍ محذوفٍ يفسره المذكور والتقدير : ما كنت أسمع مقالتها .
ثم بين ما أضمر بقوله : لأسمعا .
وهذا البيت قد أورده ابن الأنباري في مسائل الخلاف وابن يعيش في شرح المفصل ولم
أقف على تتمته ولا على قائله . والله أعلم بذلك .
____________________
وما : مصدرية ظرفية وحياً خبر كنت أي : مدة كوني حياً . ( الشاهد الخامس والسبعون
بعد الستمائة ) الطويل وحق لمثلي يا بثينة يجزع على أن أصله : أن يجزع فحذفت أن
وارتفع الفعل وهو نائب فاعل حق .
قال ابن جني في سر الصناعة : وقد حملهم كثرة حذف أن مع غير الفاعل على أن استجازوا
ذلك مع اسم ما لم يسم فاعله وإن كان جارياً مجرى الفاعل وقائماً مقامه وذلك قول
جميل : ( جزعت حذار البين يوم تحملوا ** وحق لمثلي يا بثينة يجزع ) أراد : أن يجزع
. على أن هذا قليل . والمفعول قد يكون غير اسم صريح نحو : ظننت زيداً يقوم والفاعل
لا يكون إلا اسماً صريحاً محضاً وهم على إمحاضه اسماً أشد محافظة من جميع الأسماء
.
ألا ترى أن المبتدأ قد يقع غير اسم محض وهو قولهم : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه
فتسمع كما ترى فعل وتقديره أن تسمع فحذفهم أن ورفعهم تسمع يدل على أن المبتدأ قد
يمكن أن يكون عندهم غير اسمٍ صريح . فإذا جاز هذا في المبتدأ على قوة شبهه بالفاعل
فهو في المفعول
____________________
ألا أيهذا الزاجري أحضر الوغى
عند كثير من الناس لأنه أراد أن أحضر . وأجاز س في قولهم : مره يحفرها أن يكون
الرفع على قوله : مره أن يحفرها فلما حذفت أن ارتفع الفعل بعدها . انتهى كلامه .
وقال في الخصائص عندما أنشد هذا البيت : أي وحق لمثلي أن يجزع . وأجاز هشام :
يسرني تقوم . وينبغي أن يكون ذلك جائزاً عنده في الشعر لا في النثر . انتهى .
وقد عد ابن عصفور في كتاب الضرائر جميع هذا من الضرورة . قال : ومنه وضع الفعل
موضع المصدر على تقدير حذف أن وإرادة معناها من غير إبقاء عملها نحو قوله : الطويل
( وما راعني إلا يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفش بكير ) يريد : وما راعني إلا
أن يسير بشرطة . فحذف أن وأبطل عملها وهو يريد معناها . والدليل على أن الفعل
المضارع يحكم له بحكم ما هو منصوبٌ بأن وإن كان مرفوعاً قوله : ( ألا أيهذا
الزاجري أحضر الوغى ** وأن أشهد اللذات هل أنت مخلدي ) في رواية من رفع أحضر . ألا
ترى أنه عطف أن أشهد على أحضر فدل ذلك على أن المراد )
أن أحضر . ومثله قول أسماء بن خارجة : الكامل
____________________
( أوليس من عجبٍ أسائلكم **
ما خطب عاذلتي وما خطبي ) وقوله علي بن الطفيل السعدي : الوافر ( وأهلكني لكم في
كل يومٍ ** تعوجكم علي وأستقيم ) يريد : وأن أستقيم أي : واستقامتي لكم .
وقوله : ( جزعت حذار البين يوم تحملوا ** وحق لمثلي يا بثينة يجزع ) يريد : أن
يجزع .
وقوله : المتقارب ( نفاك الأغر بن عبد العزيز ** وحقك تنفى عن المسجد ) يريد :
وحقك أن تنفى عن المسجد . وقول الآخر أنشده يعقوب : الرجز لولا يرائي الناس لم يصل
يريد : لولا أن يرائي الناس .
وقد يجيء مثل هذا الكلام نحو قولهم : تسمع بالمعيدي خيرٌ من أن تراه إلا أن ذلك
يقل في الكلام ويكثر في الشعر . انتهى .
وجزع الرجل جزعاً من باب تعب فهو جزعٌ وجزوعٌ مبالغة إذا ضعفت منته عن حمل ما نزل
به ولم يجد صبراً . وأجزعه غيره والغداة : الضحوة .
____________________
والبين : الفراق مصدر بان
يبين إذا فارق وانفصل . ولما : ظرفٌ بمعنى حين بدلٌ من غداة والواو في ترحلوا ضمير
أهل بثينة .
وكان الظاهر أن يقول ترحلت بالتأنيث لأن جزعه إنما كان لرحيلها لكن لما كان رحيل
أهلها موجباً لرحيلها جمع .
وقوله : وحق لمثلي إلخ وهو بالبناء للمفعول . في الصحاح : قال الكسائي : يقال : حق
لك أن تفعل كذا وهو حقيق به ومحقوق أي : خليق به . وقال الفراء : حق لك أن تفعل
كذا وحق عليك أن تفعل كذا .
فإذا قلت : حق بالضم قلت : لك . وإذا قلت : حق بالفتح قلت : عليك . وهذا من باب
قولهم : مثلك لا يبخل وهو أنه استعمله كنايةً من غير تعريض مما لا يراد بلفظ مثل
غير ما )
أضيف إليه لكن أريد أن من كان على هذه الصفة التي هي عليها كان مقتضى العرف أن
يفعل ما ذكر .
فعلى هذا ليس المراد في البيت أن مثله حقيقٌ بالجزع بل المراد بالمثل نفسه . لكن
كل من كان على هذه الصفة من فراق الأحبة ينبغي أن يكون حاله مثل حاله في الجزع .
وجملة : حق لمثلي إلخ إما حال من التاء في جزعت بإضمار قد وإما معطوفة على جزعت .
وما كان مثلي يا بثينة يجزع فعلى هذا لا شاهد فيه .
وبثينة : محبوبة جميل قائل الشعر . وقد نسب بعض الشعراء بنساء مخصوصة واشتهر كل
واحدٍ منهم بمن تغزل بها منهم جميل اشتهر ببثينة ومنهم كثير اشتهر بعزة ومنهم عروة
بن حزام اشتهر بعفراء ومنهم مجنون بني عامر اشتهر
____________________
بليلى ومنهم قيس بن ذريح
اشتهر بلبنى ومنهم المرقش اشتهر بفاطمة ومنهم ذو الرمة اشتهر بمية وهي الخرقاء كما
تقدم ومنهم العباس بن الأحنف نسب بفوز . وبعض الشعراء لا يلتزم التغزل بامرأةٍ
مخصوصة كامرىء القيس .
وبثينة : مصغر بثنة . قال صاحب الصحاح : البثنة بالتكسين : الأرض اللينة وبتصغيرها
سميت بثنة .
والبيت من قصيدةٍ طويلة لجميل بن معمرٍ العذري .
روى صاحب الأغاني بسنده قال : اجتمع جميل مع جماعةٍ من رهطه يتحدثون فقال بعضهم :
بالله حدثنا أعجب يوم لك مع بثينة . قال : نعم منعت من لقائي مدةً وتعرضت لها جهدي
فلم أصل إليها . فبينا أنا ذات ليلةٍ جالس بين شجرات بالقرب من حيها وقد أقمت فيها
ثلاثاً أنتظرها إذا شخصٌ قد أقبل إلي فجلست وانتضيت سيفي فلم ألبث أن غشيني الشخص
فإذا هي بثينة قد أكبت علي فأدهشني ذلك وبقيت متحيراً لا أحير جواباً ولا أراجعها
.
حتى برق الصبح وما استطعت أن أكلمها . قالوا : فهل قلت في ذلك شيئاً فأنشدهم
قصيدةً طويلةً .
وهذه أبيات من أولها : ( أهاجك أم لا بالتناضب مربع ** ورسمٌ بأجراع الغديرين بلقع
) ( ديارٌ لليلى إذ نحل بها معاً ** وإذ نحن منها في المودة نطمع ) ) ( فيا رب
حببني إليها وأعطني ال ** مودة منها أنت تعطي وتمنع ) ( وإلا فصيرني وإن كنت
كارهاً ** فإني بها يا ذا المعارج مولع )
____________________
( فإن يك قد شطت نواها وقد
نأت ** فإن النوى مما تشت وتجمع ) ( جزعت غداة البين لما تحملوا ** وما كان مثلي
يا بثينة يجزع ) ( تمتعت منها يوم بانوا بنظرةٍ ** وهل عاشقٌ من نظرةٍ يتمتع )
وتقدمت ترجمة جميل العذري في الشاهد الثاني والستين من أوائل الكتاب . تتمة قد وقع
في مغني اللبيب وفي بعض شروح الألفية الاستشهاد بقوله : الطويل ولم يقف على قائله
ولا على تتمته السيوطي ولا العيني وهو مذكورٌ في نوادر ابن الأعرابي قال : أنشدني
الدبيري لرجلٍ من بني أسدٍ يقال له معاوية بن خليل النصري في إبراهيم ذي الشقر .
وكان إبراهيم أطرده عن بلاده فأقام في رمل
____________________
بني حسل فقال يهجو إبراهيم
يلقب فروخاً وربما قالوا فروجاً . وهو إبراهيم بن حوران : الطويل ( يعرض فروخ بن
حوران بنته ** كما عرضت للمشترين جزور ) ( فأما قريشٌ فهي تعرض رغبةً ** وأما
الموالي حولها فتدور ) ( وما راعنا إلا يسير بشرطةٍ ** وعهدي به قيناً يفش بكير )
( لحا الله فروخاً وخرب داره ** وأخزى بني حوران خزي حمير ) وأنشد بعده : ألا
أيهذا الزاجري أحضر الوغى هو صدرٌ وعجزه : وأن أشهد اللذات هل أن مخلدي على أنه
روي : أحضر بالرفع وأصله أن أحضر فلما حذفت أن ارتفع الفعل . وروي أيضاً بالنصب
بإبقاء عملها بعد الحذف .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت متسوفًى فيما بعد الشاهد الثامن والخمسين بعد
الستمائة وفي الشاهد العاشر من أوائل الكتاب .
نهاية الجزء الثامن من تقسيم محققه )
____________________
( الجوازم ) أنشد فيه ( الشاهد
السادس والسبعون بعد الستمائة ) البسيط ( لولا فوارس من ذهل وأسرتهم ** يوم
الصليفاء لم يوفون بالجار ) على أن لم قد جاءت في الشعر غير جازمة .
وكذلك قال ابن عصفور : إن رفع المضارع بعد لم ضرورة . وأنشد مع هذا البيت قول
الشاعر : المتقارب . ( وأمسوا بهاليل لو أقسموا ** على الشمس حولين لم تطلع ) برفع
تطلع . وقال : حكم ل لم بدلاً من حكمها بحكم ما لما كانت نافية مثلها . فرفع
المضارع بعدها كما يرفع بعد ما .
وقال التبريزي في شرح الكافية تبعاً لابن جني في سر الصناعة : وقد لا تجزم لم
حملاً على لا .
وقال ابن مالك : إن رفع المضارع بعدها لغة لا ضرورة . كذا في مغني اللبيب .
____________________
وفوارس : جمع فارس شاذ . وذهل
بضم الذال المعجمة : اسم لقبيلتين إحداهما : ذهل بن شيبان بن ثعلبة بن عكابة .
والأخرى : ذهل بن ثعلبة ابن عكابة وهما من ربيعة .
وروى بدله : من جرم بفتح الجيم وهو قبيلة أيضاً . وروى : نعم أيضاً بضم النون وهو
اسم امرأة وهو تحريف .
من ذهل وأسرتهم يروى بالرفع عطف على فوارس ويروى بالجر عطف على ذهل .
وأسرة الرجل بضم الهمزة : رهطه . والصليفاء : مصغر صلفاء وهي الأرض الصلبة والمكان
أصلف . ويقال : صلفاء بوزن حرباء .
وقال الأصمعي : الأصلف والصلفاء : ما اشتد من الأرض وغلظ وصلب والجمع الأصالف
والصلافي . كذا في العباب للصاغاني . ويوم الصلفاء هو يوم من أيام العرب لكن
الشاعر صغره .
قال ابن رشيق في العمد : يوم الصلفاء لهوازن على فزارة وعبس وأشجع وفيه قتل دريد
بأخيه ذؤاب بن أسماء . انتهى . )
والواو في يوفون ضمير القوم الذين هجاهم الشاعر . والجار له معان : منها المجاور
في السكن ومنها المستجير وهو الذي يطلب الأمان ومنها الحليف .
____________________
وأحد هذه الثلاثة هو المناسب
وعليه ففيه حذف مضاف أي : لم يوفون بذمة الجار .
وهذا البيت أنشده الأخفش والفارسي وغيرهما ولم أجد من عزاه إلى قائله ولا من ذكر
له تتمة . والله أعلم به .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والسبعون بعد الستمائة ) الطويل . ( فأضحت مغانيها
قفاراً رسومها ** كأن لم سوى أهل من الوحش توهل ) على أن لم قد فصلت في الضرورة من
مجزومها فإن الأصل : كأن لم توهل سوى أهل من الوحش . ( نوائب من لدن ابن آدم لم
تزل ** تباكر من لم بالحوادث تطرق ) وأنشد بعده قوله : فأضحت مغانيها البيت وقد
فصل في الأول بين لم ومجزومها وهو تطرق بالمجرور وفصل في الثاني بالظرف بينهما .
وكذلك صنع ابن هشام في المغني قال : وقد تقصل من مجزومها في الضرورة بالظرف كقوله
: الوافر (
____________________
فذاك ولم إذا نحن امترينا **
تكن في الناس يدركك المراء ) وقوله : فأضحت مغانيها البيت وقد يليها الاسم معمولاً
لفعل يفسره ما بعده كقوله : الطويل ( ظننت فقيراً ذا غنى ثم نلته ** فلم ذا رجاء
ألقه غير واهب ) انتهى .
وقوله : إذا نحن امترينا متعلق بيدرك الأصل : ولم تكن في الناس يدركك المراء إذا
نحن امترينا والامتراء : الشك . والمراء : الجدال .
وقوله : ظننت فقيراً . . . . الخ هو بالبناء للمجهول والتكلم . وفقيراً : حال من
نائب الفاعل )
وذا غنى : مفعول ثان لظننت وضمير نلته : للغنى وذا رجاء : مفعول لفعل محذوف مفسر
بألقى المذكور .
وغير واهب : حال من فاعله يعني أنه في حال فقره كان متعففاً فكنى عن ذلك بظنه ذا
غنى وأنه حين صار غنياً يعطي كل راج لقيه ما يرجو .
والبيت من قصيدة طويلة لذي الرمة .
وقبله : ( فيا كرم السكن الذين تحملوا ** عن الدار والمستخلف المتبدل ) وبعده : (
كأن لم تحل الرزق مي ولم تطأ ** بجرعاء حزوى نير مرط مرحل
____________________
) ( إلى ملعب بين الحواءين
منصف ** قريب المزار طيب الترب مسهل ) وقوله : فيا كرم السكن . . . إلخ هو نداء
تعجبي أي : يا صاح انظر كرم السكن وهو أهل الدار جمع ساكن كصحب جمع صاحب . وتحملوا
: ارتحلوا .
والمستخلف : معطوف على الدار وهو المبتدل رويا على صيغة اسم الفاعل واسم المفعول .
يريد : الدار تبدلت بالسكن الوحوش والظباء والبقر . يعني أن الدار استخلفت
واستبدلت وبهذا البيت استشهد صاحب الكشاف على أن التبدل في قوله تعالى : ولا
تتبدلوا الخبيث بالطيب بمعنى الاستبدال كالتعجل والتأخر بمعنى الاستعجال
والاستئخار .
وقوله : فأضحت مغانيها أي : صارت والمغاني : جمع مغنى وهو المقام من غني بالمكان
كرضي : إذا أقام فهو غان . والقفار : جمع قفر .
في المصباح : القفر : المفازة لا ماء فيها ولا نبات . ودار قفر : خالية من أهلها .
والرسم : الأثر .
ورسومها : فاعل قفار .
والمروي في ديوانه كذا : فأضحت مباديها قفاراً بلادها قال شارحه : مباديها : حيث
تبدو في الربيع . والبلاد : جمع بلدة وهي القطعة من الأرض .
وأهل المكان أهولاً من باب قعد : عمر بأهله فهو آهل وقرية آهلة . وأهلت بالشيء :
أنست به .
قال شارح الديوان : توهل : تنزل . يقال : بلد مأهول : ذو أهل . )
____________________
وقال ابن الأنباري في شرح
المفضليات : أهل هذا المكان . وسمعت يقال : مكان آهل أي : ذو أهل . وأنشد هذا
البيت ثم قال : وبنو عامر يقولون : أهلت به آهل به أهولاً أي : أنست به .
وقوله : كأن لم تحل الزرق هو جمع أزرق . قال شارح الديوان : الزرق : أكثبة
بالدهناء .
والمرط بالكسر : الإزار . ونيره : علمه . والمرحل بفتح الحاء المهملة المشددة :
الموشى على لون الرحال .
وقوله : إلى ملعب الحواءين بكسر المهملة : أبيات مجتمعة . يريد : ملعباً بني
الحواءين . ومنصف بفتح الميم والصاد يقول : هو بين الحواءين وسط . ومسهل : سهل قد
انحدر عن الغلظ .
وترجمه ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن من أول الكتاب .
وأنشد بعده : الكامل . ( أزف الترحل غير أن ركابنا ** لما تزل برحالنا وكأن قد
____________________
) على أن الفعل بعد قد محذوف
اختياراً أي : وكأن قد زالت . وأزف : دنا . والركاب : الإبل .
ولما : نافية جازمة وتزل : مجزوم وأصله تزول . والرحال : جمع رحل وهو ما يستصحبه
الإنسان من الأثاث في السفر . وكأن مخففة .
وتقدم شرح هذا البيت مفصلاً في الشاهد الخامس والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والسبعون بعد الستمائة ) ( احفظ وديعتك التي استودعتها
** يوم الأعارب إن وصلت وإن لم ) وعلى أن حذف مجزوم لم ضرورة والأصل : وإن لم تصل
.
كذا قدره أبو حيان فيكون وصلت مثله بالبناء للمعلوم .
وقدره أبو الفتح البعلي : وإن لم توصل فيكون إن وصلت مثله بالبناء للمفعول .
وأنشد ابن عصفور في الضرائر الشعرية : قول ابن هرمة : الكامل (
____________________
وعليك عهد الله إن ببابه **
أهل السيالة إن فعلت وإن لم ) يريد : وإن لم تفعل .
ومثله قول الآخر : الرجز ( يا رب شيخ من لكيز ذي غنم ** في كفه زيغ وفي الفم فقم )
أجلح لم يمشط وقد كان ولم يريد : وقد كان ولم يجلح . ثم قال : وإنما لم يجز
الاكتفاء بلم وحذف ما تعمل فيه إلا في الشعر لأنها عامل ضعيف فلم يتصرفوا فيها
بحذف معمولها في حال السعة بل إذا كان الحرف الجار وهو أقوى في العمل منه لأنه من
عوامل الأسماء وعوامل الأسماء أقوى من عوامل الأفعال لا يجوز حذف معموله فالأحرى
أن لا يجوز ذلك في الجازم .
فإن قال قائل : فلم جاز الاكتفاء بلما وحذف معمولها في سعة الكلام وهي جازمة
فقالوا : قاربت المدينة ولما أي : ولما أدخلها ولم يجز ذلك في لم فالجواب أن تقول
: إن الذي سوغ ذلك فيها كونها نفياً لقد فعل .
ألا ترى أنك تقول : في نفي قد قام زيد : لم يقم فحملت لذلك على قد فكما يقال : لم
يأت زيد وكأن قد أي : وكأن قد أتى فيكتفي بقد فكذلك أيضاً قالوا : قاربت المدينة
ولما أي : ولما أدخلها فاكتفوا بلما . هذا كلامه .
وقوله : احفظ : أمر . واستودعتها : على بناء المجهول . ويوم الأعارب : لم أقف عليه
في كتب أيام العرب وقال العيني : هو يوم معهود بينهم . ونسب البيت إلى إبراهيم بن
هرمة .
وتقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والستين والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده ) ( الشاهد التاسع
والسبعون بعد الستمائة ) الوافر ألما تعرفوا منا اليقينا على أن الهمزة الداخلة
على لما للاستفهام التقريري أي : ألم تعرفوا منا إلى الآن الجد في الحرب عرفاناً
يقيناً . أي : قد علمتم ذلك فلم تتعرضوا لنا .
وهذا عجز وصدره : إليكم يا بني بكر إليكم والبيت من معلقة عمرو بن كلثوم التغلبي
يخاطب بني عمه بكر بن وائل .
وإليكم : اسم فعل أي : ابعدوا وتنحوا عنا إلى أقصى ما يمكن من البعد . وكرر إليكم
تأكيداً للأولى . وبعده : ( ألما تعلموا منا ومنكم ** كتائب يطعن ويرتمينا ) وألما
مثل الأولى . والكتيبة : الجماعة من الجيش سميت كتيبة لاجتماع بعضها إلى بعض ومنه
كتبت الكتاب أي : جمعت بعض حروفه إلى بعض . ويطعن : يفتعلن من الطعن وكذلك يرتمينا
: يفتعلن من الرمي والألف للإطلاق . أراد التطاعن بالرمح والترامي بالسهم منا
ومنكم .
وتقدمت ترجمة عمرو بن كلثوم صاحب المعلقة مع شرح أبيات منها في مواضع في الشاهد
الثامن والثمانين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده وهو من شواهد
سيبويه : الوافر ( محمد تفد نفسك كل نفس ** إذا ما خفت من شيء تبالا ) على أنه جاء
في ضرورة الشعر حذف لام الأمر في فعل غير الفاعل المخاطب والتقدير : يا محمد لتفد
نفسك كل نفس .
قال سيبويه : واعلم أن هذه اللام قد يجوز حذفها في الشعر وتعمل مضمرة كأنهم شبهوها
بأن إذا أعملوها مضمرة .
وقد قال الشاعر : محمد تفد نفسك كل نفس . . . . . . . . . . . . البيت )
وإنما أراد : لتفد .
وقال متمم بن نويرة : الطويل ( على مثل أصحاب البعوضة فاخمشي ** لك الويل حر الوجه
أو يبك من بكى ) أراد : ليبك . انتهى .
____________________
قال الأعلم : هذا من أقبح
الضرورة لأن الجازم أضعف من الجار وحرف الجر لا يضمر . وقد قيل : إنه مرفوع حذفت
لامه ضرورة واكتفي بالكسرة منها . وهذا أسهل في الضرورة وأقرب .
وقال النحاس : سمعت علي بن سليمان يقول : سمعت محمد بن يزيد ينشد هذا البيت ويلحن
قائله وقال : أنشده الكوفيون ولا يعرف قائله ولا يحتج به ولا يجوز مثله في شعر ولا
غيره لأن الجازم لا يضمر ولو جاز هذا لجاز يقم زيد بمعنى : ليقم . وحروف الجزم لا
تضمر لأنها أضعف من حروف الخفض وحرف الخفض لا يضمر .
فبعد أن حكى لنا أبو الحسن هذه الحكاية وجدت هذا البيت في كتاب سيبويه يقول فيه :
وحدثني أبو الخطاب أنه سمع هذا البيت ممن قاله .
قال أبو إسحاق الزجاج احتجاجاً لسيبويه : في هذا البيت حذف اللام أي : لتفد . قال
: وإنما سماه إضماراً لأنه بمنزلته .
وأما قوله : أو يبك من بكى فهذا البيت لفصيح وليس هذا مثل الأول وإن كان سيبويه قد
جمع بينهما .
وذلك أن المعطوف يعطف على اللفظ وعلى المعنى فعطف الشاعر على المعنى لأن الأصل في
الأمر أن يكون باللام فحذفت تخفيفاً والأصل : فلتخمشي فلما اضطر الشاعر عطف على
المعنى فكأنه قال : فلتخمشي ويبك فيكون الثاني معطوفاً على معنى الأول .
والبعوضة : موضع بعينه قتل في رجال من قومه فحض على البكاء عليهم .
وحذا ابن هشام في المغنى هذا الحذو وقال : وهذا الذي منعه المبرد أجازه الكسائي في
الكلام بشرط تقدم قل وجعل منه : قل لعبادي الذين آمنوا يقيموا الصلاة أي : ليقيموا
.
____________________
ووافقه ابن مالك في شرح
الكافية وزاد عليه أن ذلك يقع في النثر قليلاً بعد القول الخيري كقوله : الرجز (
قلت لبواب لديه دارها ** تيذن فإني حموها وجارها ) )
أي : لتيذن فحذف اللام وكسر حرف المضارعة .
وأما ابن عصفور فلم يزد في كتاب الضرائر على قوله : إضمار الجازم وإبقاء عمله أقبح
من إضمار الخافض . ثم أنشد خمسة أبيات حذف فيها اللام .
ومحمد : منادى . وتفد : أمر من الفداء . وكل : فاعله . ونفسك : مفعوله . والتبال
بفتح المثناة بعدها موحدة . قال الأعلم وتبعه ابن هشام : وهو سوء العاقبة وأصله
وبال فتاؤه مبدلة من الواو .
والبيت لا يعرف قائله ونسبه الشارح في الباب الذي بعد هذا لحسان وليس موجوداً في
ديوانه .
وقال ابن هشام في شرح الشذور : قائله أبو طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم .
وأشر بعده ( الشاهد الحادي والثمانون بعد الستمائة ) الخفيف (
____________________
لتقم أنت يا ابن خير قريش **
فلتقضي حوائج المسلمينا ) على أن أمر المخاطب جاء فيه باللام وهو في الشعر أكثر
منه في النثر أراد : قم . وكذا اللام في قوله : فلتقضي لأمر المخاطب والياء إشباع
الكسرة .
والبيت أورده الكوفيون وهو مجهول لا يعلم تتمته ولا قائله . والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الثاني والثمانون بعد السستمائة ) الرجز ( قالت بنات العم يا
سلمى وإن ** كان فقيراً معدماً قالت وإن ) على أن فيه حذف الشرط والجزاء معاً
لضرورة الشعر والتقدير : وإن كان كذلك رضيته أيضاً .
وأورده ابن هشام في فصل الحذف من المغني ولم يخصصه بالشعر .
____________________
وأما إن الأولى فإنما حذف
منها جوابها والتقدير : وإن كان فقيراً أترضين به لأن كان شرطها واسمها مستتر فيها
يعود إلى بعل في بيت مقدم . وهو : الرجز ( قلت سليمى ليت لي بعلاً يمن ** يغسل
جلدي وينسيني الحزن ) ( وحاجة ما إن لها عندي ثمن ** ميسورة قضاؤها منه ومن ) (
قالت بنات العم يا سلمى وإن ** كان فقيراً معدما قالت وإن ) وهذا الرجز منسوب إلى رؤبة
بن العجاج وسليمى : مصغر سلمى الآتية . والبعل : الزوج .
ويمن : فعل مضارع من المنة وخفف النون للضرورة والمنة : النعمة يقال : من عليه أي
: أنعم عليه . والمراد هنا : يحصل منه المن والإنعام سواء كان عليها أو على غيرها
فهو مطلق .
وقال العيني : هو بتقدير يمن علي .
وقوله : يغسل جلدي . . . إلخ تفسير لقولها يمن . وقولها : وحاجة منصوب بتقدير :
ويقضي لي حاجة وهي قضاء شهوة النوم . وقال العيني : حاجة معطوف على بعلاً وما :
نافية وإن : زائدة .
وكون هذه الحاجة لا ثمن لها عندها لغلائها وعزتها . وميسورة : صفة حاجة . وأرادت :
وروى : قالت بنات الحي بدل بنات العم . وروى : وإنن بزيادة نون في الموضعين وبها
استشهد شراح الألفية على أن هذه النون هي تنوين الغالي وبها يخرج الشعر عن الوزن
ولا يستقيم إلا بحذفها .
ورؤبة تقدمت ترجمته في الشاهد الخامس من أول الكتاب .
____________________
وأنشد بعده ( الشاهد الثالث
والثمانون بعد الستمائة ) الطويل . ( أماوي مهمن يسمعن في صديقه ** أقاويل هذا
الناس ماوي يندم ) على أن الكوفيين حكوا عن العرب مجيء مهمن بمعنى : من كما في
البيت .
قال ابن يعيش عند الكلام على مهما : وقال آخرون : هي مركبة من مه بمعنى اكفف وما
الشرطية . والمعنى عندهم : اكفف عن كل شيء ما تفعل أفعل . ويؤيده قول الشاعر :
أماوي مهمن يستمع في صديقه . . . . . . . . . . . . البيت فركب مه مع من كما ركبها
مع ما . فاعرفه . انتهى .
وقال صاحب تهذيب اللغة : مهمن استفهام وأصلها من من فأبدلت النون هاء . وأنشد هذا
البيت .
والهمزة في قوله : أماوي للنداء . وماوي : مرخم ماوية وهي من أسماء النساء منها
ماوية امرأة حاتم الطيئ .
وهذا البيت شبيه بشعره لكني لم أقف عليه منسوبة إلى الماء . وماوية : اسم امرأة .
قال طرفة : الرمل
____________________
ليس هذا منك ماوي بحر واسم
امرأة حاتم طيئ وتصغيرها : موية . قال حاتم يخاطبها : الوافر ( فضارته موي ولم
تضرني ** ولم يعرق موي لها جبيني ) يعني : الكلمة العوراء . انتهى .
ومهمن : اسم شرط يجزم فعلين الأول : يسمعن والنون هي نون التوكيد الخفيفة . وروي :
يستمع بدله يفتعل من السماع . والثاني : يندم وكسر للقافية . وماوي الثاني منادى
وحرف النداء محذوف وكرر المنادى للتلذذ به .
وروي المصراع الثاني هكذا أيضاً : فيكون يصرم جزاء الشرط . والصرم : الهجر والقطع
.
ورأيت في قصيدة لذي الرمة هذا المعنى مع المصراع الثاني بعينه وهو قوله : الطويل (
ومن يك ذا وصل فيسمع بوصله ** أقاويل هذا الناس يصرمْ ويصرمِ ) )
وأنشد بعده ( الشاهد الرابع والثمانون بعد الستمائة ) السريع (
____________________
مهما لي الليلة مهما ليه **
أودى بنعلي وسرباليه ) على أن مهما فيه بمعنى الاستفهام .
قال أبو علي الفارسي في تذكرته : هذا عندي مثل قول الخليل في مهما في الجزاء : إنه
ما ما فقلب الألف هاء . وذلك لأنه يريد : مالي الليلة . وما تستعمل في الاستفهام
على حد استعمالها في الجزاء أي : غير موصولة فيهما . وإنما غير كراهية التقاء
الأمثال .
ألا ترى أن قوله تعالى : في ما إن مكناكم فيه ولم يقل : ما مامكناكم فيه فعدل إلى
إن لئلا تلتقي الأمثال في اللفظ . ومن قال مهما هي مه ما غير مغيرة فإن كان يريد
أنها مه التي للأمر فليس يخلو من أن يجزم بها أو لا يجزم . فإن كان يجزم فإنما قال
: مه ثم استأنف فقال : ما تفعل أفعل لم يجز .
ألا ترى أن قوله : الطويل وإنك مهما تأمري القلب يفعل ليس يريد به : وأنك اكففي ما
تأمري القلب يفعل وإن كان لا يجزم الفعل بها كأنه قال : لتكفف افعل لم يكن لذكر
فعل الشرط وجه . وإن كان لا يريد الأمر بها ولكنها حرف يوافق التي للأمر في اللفظ
ويخالفه في المعنى فيكون حرفاً للشرط يجزم بمنزلة إن جاز ذلك . انتهى .
____________________
وقال ابن الحاجب في أماليه :
إنه يجوز أن يكون مه في مهما لي الليلة اسم فعل بمعنى اسكت واكفف عما أنت فيه من
اللوم كأنه يخاطب لائماً على ما يراه من الوله . ثم قال : مالي الليلة تعظيماً
للحال التي أصابته والشدة التي أدركته .
ثم ذكر الأمر الذي يحقق تعظيم الأمر فقال : السريع أودى بنعلي وسرباليه يعني ذهب
بنعلي وسرباليه كقوله تعالى : هلك عني سلطانيه . وإذا ذهب عنه نعله وسرباله دل على
أن حاله بلغت مبلغاً أذهلته عما لا يذهل متيقظ عن مثله .
وصورة الاستفهام للتعظيم ثم مجيء ما يحقق ذلك التعظيم بجملة أخدى بعد ذلك من فصيح
)
كلام العرب وبديعه . قال تعالى : الحاقة ما الحاقة وما أدراك ما الحاقة ثم قال :
كذبت ثمود .
ويجوز أن يكون مهما أصله ما ما كررت ما الاستفهامية للتأكيد اللفظي فقلبت الألف
الأولى هاء كما قلبت ألف الشرطية في قولهم : مهما . وهي عند الأكثرين : ما ما .
وليس ذلك بقياس وإنما هو حمل لفظ العربي على ما يحتمله مما هو من جنس كلامهم وليس
من القياس المختلف فيه في شيء .
ويجوز أن تكون ما الأولى قدر الوقف عليها فقلبت ألفها هاء ثم أجري الوصل مجرى
الوقف . والوجه الأول أوجه وأوضح . انتهى .
واختار ابن هشام التوجيه الأول في المغني في رد ما قاله الشارح المحقق . قال : ذكر
جماعة منهم ابن مالك أن مهما تأتي للاستفهام واستدلوا بهذا البيت ولا دليل فيه
لاحتمال أن التقدير : مه اسم فعل بمعنى : اكفف ثم استأنف استفهاماً بما وحدها .
هذا كلامه .
____________________
وكأنه يريد به تقليل الأقسام
مهما أمكن . وعلى أي تقدير كان مهما : هاهنا مبتدأ ولي : هي الخبر والليلة : ظرف
معمول إما لمتعلق الجار في لي والتقدير : ما حصل لي وإما بما تضمنه معنى الجملة
الكبرى لأن معناها ما أصنع وما ألبس . وأودى : هلك وتلف .
والنعلان : مثنى نعل وهو ما وقيت به الرجل من الأرض . والسربال بالكسر : القميص
وقيل الدرع وقيل : كل ما ليس على البدن . والباء في قوله بنعلي : زائدة في الفاعل
.
قال أبو علي في كتاب الشعر : يجوز أن تكون الباء زائدة كأنه قال أودى نعلاي فلحقت
الباء كما لحقت في : كفى بالله . فإن قلت : فلم لا تجعل الباء زائدة في المفعول به
ويكون الفاعل مضمراً كأنه قال : أودى مود بنعلي فتضمره للدلالة عليه كما أضمر في
قوله تعالى : ثم بدا لهم فالقول أن هذا أضعف لأنه ليس في مود الذي تضمره زيادة على
ما استفدته في قوله أودى وليس قوله سبحانه : ثم بدا لهم كذلك لأن البدا والبداء قد
صارا بمنزلة المذهب في قولك : ذهب به مذهب وسلك به مسلك .
فإن قلت : فلم لا تجعل فاعل أودى ذكراً يعود إلى ما في قوله : مهما لي الليلة فإن
ذلك أيضاً ليس بالقوي لأن المعنى يصير : كأنه أودى شيء بنعلي .
فإذا جعلت الباء لاحقة للفاعل كان أشبه ولا تزيد مع الفاعل من الحروف الجارة غير
الباء في )
قول سيبويه في الإيجاب كما لم تزد فيه غير الباء في المبتدأ . انتهى كلام أبي علي
.
وذهب ابن الحاجب في أماليه إلى أن الباء للتعدية . قال : والباء باء التعدية يعني
: أذهبهما واختار ابن هشام في المغني مذهب أبي علي لكنه جعل زيادة الباء في الفاعل
مختصاً بالضرورة تبعاً لابن عصفور في كتاب الضرائر .
ثم نقل كلام ابن الحاجب وتعقبه بقوله : ولم يتعرض لشرح الفاعل وعلام يعود إذا قدر
ضميراً في أودى . ويصح أن يكون التقدير : أودى هو أي : مود أي : ذهب ذاهب .
ولا يخفى عليك أن هذا التوجيه قد رده أبو علي وبين ضعفه .
وهذا البيت مطلع قصيدة لعمرو بن ملقط الطائي عدتها اثنا عشر بيتاً أوردها أبو زيد
وابن الأعرابي في نوادريهما .
وما بعده على رواية أبي زيد : السريع ( إنك قد يكفيك بغي الفتى ** ودرأه أن تركض
العاليه ) ( بطعنة يجري لها عاند ** كالماء من غائلة الجابيه ) ( يا أوس لو نالتك
أرماحنا ** كنت كمن تهوي به الهاويه ) ( ألفيتا عيناك عند القفا ** أولى فأولى لك
ذا واقيه ) ( ذاك سنان محلب نصره ** كالجمل الأوطف بالروايه ) ( يا أيها الناصر
أخواله ** أأنت خير أم بنو جاريه ) ( والخيل قد تجشم أربابها ال ** شق وقد تعتسف
الداويه ) ( يأبى لي الثعلبتان الذي ** قال ضراط الأمة الراعيه ) ( ظلت بواد تجتني
صمغة ** واحتبلت لقحتها الآنيه ) ( ثم غدت تنبذ أحرادها ** إن متغناة وإن حاديه
____________________
) قوله : أن تركض العالية في
تأويل مصدر مرفوع فاعل يكفيك أي : يقيك وبغي الفتى : مفعوله الثاني ودرأه : معطوف
على بغي . والبغي : التعدي والدرء : العوج . يقال : أقمت درء فلان أي : اعوجاجه .
وروي بدله : وشغبه بالسكون وهو تهييج الشر . والعالية بالعين المهملة : اسم فرس
الشاعر وهو عمرو بن ملقط كذا قال أبو زيد . )
وزعم ابن الأعرابي : أنه أراد عالية الرمح وغلطه أبو محمد الأعرابي فيما كتب على
نوادره .
وقد خاطب الشاعر نفسه في هذا البيت . وأراد بالفتى : أوس بن حارثة بن لأم الطائي
كما يأتي .
وقوله : بطعنة . . . إلخ متعلق بيكفيك . والعاند بالمهملة والنون : هو العرق الذي
لا يخرج دمه على جهة واحدة . قاله أبو زيد .
وقوله : يا أوس هو أوس المذكور وهو جاهلي . ورواه ابن الأعرابي : يا عمرو وغلطه
أبو محمد الأعرابي . وتهوي : تقع من فوق إلى أسفل . والهاوية : المهواة .
وقوله : ألفيتا عيناك . . . . إلخ ألفيتا بالبناء للمفعول أي : وجدتا . وهذا على
لغة أكلوني البراغيث .
وأورده ابن هشام في المغني وفي شرح الألفية على أن الألف فيه علامة لاثنين .
وكذا أورده ابن الأعرابي وقد غلطه أبو محمد الأعرابي وقال : إنما هو : أفلتتا
عيناك عند القفا . ولم يظهر لي معناه مع أنه وافق أبا زيد في الرواية .
____________________
____________________
والعجب من شارحه ابن الملا
لقوله هنا : إن هذا البيت لم يسم قائله مع أن هذه القصيدة بتمامها في شواهد العيني
في باب الفاعل ولم يتذكر ما أسلفه في شرح قوله : مهما لي الليلة مهما ليه في حرف
الباء من المغني من قوله : هذا البيت مطلع قصيدة لعمرو بن ملقط الطائي وسيورده
المصنف في الكلام على مهما . واستشهد بيت من أبياتها أيضاً في الحرف الهاوي .
ويأتي الكلام عليه هناك . آه .
وقال أيضاً عند الكلام على متى : تقدم الكلام عليه مستوفى في الباء الموحدة .
وقوله : أولى لك كلمة وعيد وتهديد قد شرحها الشارح المحقق في أفعال المقاربة .
وقوله : ذا واقية حال من الكاف في عيناك وصح مجيء الحال من المضاف إليه لكن المضاف
جزءاً منه .
والواقية : مصدر بمعنى الوقاية كالكاذبة بمعنى الكذب . يصفه بالهروب ويقول : أنت
ذو وقاية من عينيك عند فرارك تحترس بهما ولكثرة تلفتك إلى خلفك حينئذ صارت عيناك
كأنهما في قفاك .
وقوله : ذاك سنان . . . إلخ قال أبو زيد : سنان : اسم رجل . والمحلب بضم الميم
وسكون )
المهملة وكسر اللام : المعين من الإعانة . والأوطف : الكثير شعر الأذنين وهدب
العينين . آه .
والراوية : البعير أو البغل أو الحمار الذي يستقى عليه . ونصره : مبتدأ ومحلب :
خيره . ووانية من الوني وهو الفتور والإبطاء .
وقوله : والخيل قد تجشم . . . إلخ الإجشام بالجيم : التكليف وفاعله ضمير الخيل
وأربابها : مفعوله الأول .
____________________
والشق بفتح الشين وكسرها :
بمعنى المشقة مفعوله الثاني .
والاعتساف : المشي على غير الطريق المسلوكة وفاعله ضمير الخيل . والداوية :
المفازة وخففت الياء للضرورة .
قال صاحب الصحاح : الثعلبتان : ثعلبة بن جدعان بن ذهل بن رومان بن جندب بن خارجة
بن سعد بن فطرة بن طيئ وثعلبة بن رومان ابن جندب . وأنشد هذا البيت .
والذي : مفعول يأبى وقال : صلة الذي والعائد محذوف أي : قاله . وضراط : فاعل قال :
وأراد به : أوساً المذكور سماه به استهانة به وتحقيراً له .
وروي : خباج بدل ضراط بضم الخاء المعجمة بعدها موحدة ثم جيم وهو بمعنى الضراط .
وقوله : ظلت أي : استمرت . واللقحة بالكسر : الناقة ذات اللبن . والآنية قال أبو
زيد : هي المبطئة بلبنها . وفسرها بعضهم على هامش النوادر بالمدركة .
وقوله : تنبذ أحرادها . . . إلخ تنبذ : تطرح وفاعله ضمير الأمة . والأحراد : جمع
حرد بفتح المهملتين قال أبو زيد : هو الغيظ والغضب .
ورواه ابن الأعرابي : ثم غدت تنبض أحرادها وقال : تنبض : تضطرب وأحرادها : أمعاؤها
. قال أبو محمد الأعرابي : الصواب ثم غدت تبنذ أحرادها أي : تضرط يدلك على هذا
قوله سابقاً : ضراط الأمة الراعية . آه .
وروى العيني : تحرد أحرادها وما أدري من أين نقلها .
____________________
وقوله : إن متغناة . . . إلخ
قال أبو الحسن في شرحه : أراد : متغنية يقلبون الياء ألفاً . وحادية من حداء الإبل
وهو سوقها بالغناء . وإن هنا للتقسيم بمعنى : إما المكسورة .
قال ابن هشام في المغني : إما المكسورة المشددة مركبة عند سيبويه من إن وما . وقد
تحذف )
ما كقوله : المتقارب (
____________________
سقته الرواعد من صيف ** وإن
من خريف فلن يعدما ) أي : إما من خريف وإما من صيف . ويدل لما قلناه رواية الجرمي
وأبي حاتم : إما مغناة وإن حاديه وعمرو بن ملقط الطائي شاعر جاهلي . وملقط بكسر
الميم وسكون اللام وفتح القاف . آه .
والله أعلم .
وأنشد بعده ( الشاهد الخامس والثمانون بعد الستمائة ) المتقارب
____________________
ومهما وكلت إليه كفاه على أن
مهما اسم بدليل رجوع الضمير إليه وهو الهاء من كفاه والضمير لا يرجع إلا إلى الاسم
وأما الضمير في إليه فراجع إلى الممدوح .
كذا استدل به ابن يعيش في شرح الكافية . وكذا الضمير في به راجع إلى مهما في الآية
.
وقال الزمخشري وغيره : عاد عليها ضمير به وضمير بها حملاً على اللفظ وعلى المعنى .
قال ابن هشام في المغني : والأولى أن يعود ضمير بها الآية . وفيه أن عود الضمير
إلى المبين أولى من عوده إلى البيان . وزعم السهيلي أن مهما تأتي حرفاً بدليل قول
زهير : الطويل . ( ومهما تكن عند امرئ من خليقة ** وإن خالها تخفى على الناس تعلم
) قال : هي هنا : حرف بمنزلة إن بدليل أنها لا محل لها .
وتبعه ابن يسعون واستدل بقوله : البسيط . (
____________________
قد أوبيت كل ماء فهي ضاوية **
مهما تصب أفقاً من بارق تشم ) قال : إذ لا تكون مبتدأ لعدم رابط من الخير وهو فعل
الشرط ولا : مفعولاً لاستيفاء فعل الشرط مفعوله . ولا سبيل إلى غيرهما فتعين أنها
لا موضع لها .
قال ابن هشام : والجواب أنها في الأول إما خبر تكن وخليقة : اسمها ومن زائدة لأن
الشرط غير موجب عند أبي علي وإما مبتدأ واسم تكن ضمير راجع إليها والظرف خبر وأنت
كقوله : الطويل )
لما نسجتها من جنوب وشمأل وفي الثاني مفعول تصب وأفقاً : ظرف ومن بارق تفسير لمهما
أو متعلق بتصب فمعناها التبعيض والمعنى : أي شيء تصب في أفق من البوارق تشم .
وقول الشارح المحقق : إن مهما تأتي ظرف زمان إلخ هو في هذا تابع لابن مالك زعم أن
النحويين أهملوا هذا المعنى .
وأنشد لحاتم : الطويل . ( وإنك مهما تعط بطنك سؤله ** وفرجك نالا منتهى الذم أجمعا
____________________
) وأبياتاً أخر . قال ابن
هشام : ولا دليل في ذلك لجواز كونها للمصدر بمعنى أي : إعطاء كثيراً أو قليلاً .
وابن مالك مسبوق بهذا القول . وشدد الزمخشري الإنكار على من قال بها فقال : هذه
الكلمة في عداد الكلمات التي يحرفها من لا يد له في علم العربية فيضعها في غير
موضعها ويظنها بمعنى : متى .
ويقول : مهما جئتني أعطيتك . وهذا من وضعه وليس من كلام واضع العربية ثم يذهب قال
ابن هشام : والقول بذلك في الآية ممتنع لتفسيرها بمن آية وإن صح ثبوته في يغرها
كما ذهب بعضهم في : مهما تصب أفقاً البيت السابق قال : مهما فيه ظرف زمان والمعنى
: أي وقت تصب بارقاً من أفق فقلب الكلام أو في أفق بارقاً فزاد من واستعمل أفقاً
ظرفاً .
والمصراع الشاهد وقع في شعر شاعرين أحدهما المتنخل الهذلي .
وهو عجز وصدره : إذا سدته سدت مطواعة والآخر : ذو الإصبع العدواني وصدره : فإن
سسته سست مطواعة وتقدم شعرهما مشروحاً في الشاهد السادس والسبعين بعد المائتين .
وقوله : إذا سدته هو من المساودة التي هي المسارة والسواد كالسرار بكسرهما لفظاً
ومعنى .
قال : إذا ساررته طاوعك وساعدك .
وقال قوم : هو من السيادة فكأنه قال : إذا كانت فوقه سيداً له أطاعك ولم يحسدك وإن
)
وكلت إليه وفوضته شيئاً كفاك . والمطواع : الكثير الطوع والانقياد والتاء لتأكيد
المبالغة .
____________________
وقوله في الرواية الأخرى : إذ
سسته هو من سست الراعية سياسة إذ دبرتهم وقمت بأمرهم .
وأنشد بعده ( الشاهد السادس والثمانون بعد الستمائة ) وهو من شواهد س : الكامل . (
إذما دخلت على الرسول فقل له ** حقاً عليك إذا اطمأن المجلس ) على أن سيبويه
استشهد به ل إذما .
وهذا نص سيبويه في باب الجزاء : فمما يجازى به من الأسماء غير الظروف : من وما
وأيهم . وما يجازى به من الظروف : أي حين ومتى وأين وأنى وحيثما . ومن غيرهما : إن
وإذما .
ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحدة منهما ما فيصير إذ مع ما
بمنزلة إنما وكأنما وليست ما فيهما بلغو ولكن كل واحدة منهما مع ما بمنزلة حرف
واحد . فمما كان من الجزاء ب إذما قول العباس بن مرداس :
____________________
إذما أتيت على الرسول فقل له
. . . . . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر وهو عبد الله بن همام السلولي :
الطويل إذما تريني اليوم مزجى ظعينتي . . . . . . . . . . . . البيت الآتي قال ابن
يعيش : إن قيل : إذ ظرف زمان ماض والشرط لا يكون إلا بالمستقبل فيكف يصح المجازاة
بها فالجواب من وجهين .
أحدهما : أن إذ هذه التي تستعمل في الجزاء مع ما ليست الظرفية وإنما هي حرف غيرها
ضمت إليها ما فركبا دلالة على هذا المعنى كإما .
والثاني : أنها الظرفية إلا أنها بالتركيب غيرت ونقلت وغيرت عن معناها بلزوم ما
إياها إلى المستقبل وخرجت بذلك إلى حيز الحروف .
ولذلك قال سيبويه : ولا يكون الجزاء في حيث ولا في إذ حتى يضم إلى كل واحدة منهما
ما إلخ . اه .
ورواه أهل السير منهم ابن هشام : إما أتيت على النبي فقل له )
وعليه لا شاهد فيه وأصله إن ما وهي إن الشرطية وما الزائدة .
والبيت من قصيدة للعباس بن مرداس الصحابي قالها في غزوة حنين يخاطب بها النبي صلى
الله عليه وسلم ويذكر بلاءه وإقدامه مع قومه في تلك الغزوة وغيرهما من الغزوات
وعدتها ستة عشر بيتاً وأولها : ( إما أتيت على النبي فقل له ** حقاً عليك إذا
اطمأن المجلس ) ( يا خير من ركب المطي ومن مشى ** فوق التراب إذا تعد الأنفس ) (
إنا وفينا بالذي عاهدتنا ** والخيل تقدع بالكماة وتضرس ) قوله : يا أيها الرجل . .
. إلخ تهوي بكسر الواو : تسرع . والوجناء : الناقة الغليظة الوجنات قال السهيلي في
الروض الأنف : وجناء : غليظة الوجنات بارزتها وذلك يدل على غؤور عينها وهم يصفون
الإبل بغؤور العينين عند طول الأسفار . ويقال من الوجنة في الآدميين : رجل موجن
وامرأة موجنة ولا يقال : وجناء . قاله يعقوب .
ومجمرة بالجيم : اسم مفعول من أجمر البعير إذا أسرع في سيره . والمناسم : جمع منسم
كمجلس وهو مقدم طرف خف البعير .
قال السهيلي : مجمرة المناسم أي : نكبت مناسمها الجمار وهي الحجارة . وقد يريد
أيضاً أن مناسمها مجتمعة منضمة فذلك أقوى لها . وقد حكي : أجمرت المرأة شعرها إذا
ضفرته .
وأجمر الأمير الجيش أي : حبسه عن القفول . والعرمس بكسر العين وسكون الراء
المهملتين وكسر الميم قال السهيلي : هي الصخرة الصلبة ويشبه بها الناقة الجلدة .
وقوله : إذما دخلت . . . إلخ جملة دخلت وجملة : أتيت في الرواية الأخرى في محل جزم
شرط وأراد بالرسول والنبي نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم . وقوله : حقاً عليك
قال اللخمي : قيل : إنه منصوب بقل والصواب أن يكون منصوباً على المصدر
____________________
المؤكد به أو نعتاً لمصدر
محذوف لأن المقول ما بعد البيت وهو يا خير من ركب المطي إلخ .
وعليك متعلق بحقاً . وإذا ظرف لقل . وطمأن : سكن . والمجلس قيل يريد أهل المجلس
فحذف المضاف . وحكى أبو علي البغدادي أن المجلس الناس .
وأنشد : الكامل . ( ذهب الخيار من المعاشر كلهم ** واستب بعدك يا كليب المجلس ) )
ويجوز أن يكون المعنى : إذا اطمأن جلوسك .
وقوله : يا خير من . . . إلخ هذا مقول القول . وقد تعسف بعض أفاضل العجم في شرح
أبيات المفصل بقوله : يا خير من ركب بيان لقوله حقاً أو بدل منه .
ويجوز أن يكون واقعاً موقع القسم تأكيداً للأمر والمعنى : قل له قولاً حقاً صدقاً
واجباً عليك أو قل له والله يا خير الراكبين . هذا كلامه .
والمطي : جمع مطية : البعير لأنه يركب مطاه أي : ظهره . وقوله : ومن مشى هو معطوف
على من ركب أي : ويا خير من مشى . وقوله : إذا تعد الأنفس إذا متعلقة بخير أي :
أنت خير الناس ورواه ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : إذا يعد الأنفس بالمثناة
من تحت . وقال : الأنفس بفتح الفاء على أنه أفعل تفضيل من النفاسة .
وقوله : إنا وفينا . . . إلخ هذا جواب النداء . وقوله : والحيل تقدع . . . إلخ
بالبناء للمفعول أي : تكف . وقيل : تقدع بمعنى تضرب بالمقدعة وهي
____________________
العصا . والكماة : جمع كمي
وهو الشجاع . وتضرس بالبناء للمفعول أيضاً أي : تخرج .
وقال السهيلي : أي : تضرب أضراسها باللجم تقول : ضرسته أي : ضربت أضراسه كما تقول
: رأسته أصبت رأسه .
والعباس بن مرداس السلمي من بني سليم بضم السين : صحابي رضي الله عنه . وقد تقدمت
ترجمته في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده ( الشاهد السابع والثمانون بعد الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل ( إذما تريني اليوم أزجي ظعينتي ** أصعد سيراً في البلاد وأفرع ) ف تريني
مجزوم ب إذما بحذف النون والأصل ترينني فحذفت الأولى للجزم والثانية نون الوقاية
والياء ضمير المتكلم وجزاء الشرط هو الثاني .
وقد أنشدهما سيبويه معاً فكان ينبغي للشارح المحقق إنشادهما كذلك وهو : الطويل . (
فإني من قوم سواكم وإنما ** رجالي فهم بالحجاز وأشجع ) فجملة إني من قوم سواكم في
محل جزم جزاء الشرط والفاء للربط .
والبيتان لعبد الله بن همام السلولي .
____________________
والإزجاء : السوق بالزاء
المعجمة والجيم . يقال : أزجيت الإبل إذا سقتها . وظعينتي : مفعول أزجي . والظعينة
: المرأة ما دامت في الهودج . وروى بدله : مطيتي . والمطية : البعير .
وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل أن ظعينتي منادى ومفعول أزجي محذوف
تقديره : ركائبي .
وروى سيبويه : مزجى ظعينتي بصيغة اسم المفعول فيكون ظعينتي نائب الفاعل وذكر مزجى
والأصل مزجاة بالهاء قاله ابن المستوفي .
وجملة : أزجي حال من الياء من تريني لا مفعول ثان لترى لأنها هنا بصرية . وكذلك
مزجى حال .
وجملة : أصعد وأفرع تفسير لأزجي وبيان له . وقال ابن المستوفي : أصعد موضعه النصب
على الحال ولو جعل بدلاً من مزجى على رواية من روى مطيتي جاز لأن معنى يزجي مطيته
معنى يصعد في البلاد ويفرع .
قال صاحب الصحاح : وأصعد في الوادي وصعد في الوادي تصعيداً أي : انحدر فيه . وأنشد
هذا البيت فيكون أفرع بفتح الهمزة مقابلاً له . قال صاحب الصحاح : وفرعت الجبل :
صعدته وأفرعت في الجبل : انحدرت .
قال رجل من العرب : لقيت فلاناً فارعاً مفرعاً يقول : أحدنا مصعد والآخر منحدر .
وسيراً : مصدر في موضع الحال . )
وأنشد الزمخشري في المفصل المصراع الأول كذا : فإنا تريني اليوم على أن ما تزاد
بعد إن للتأكيد .
وقوله : فإني من قوم سواكم .
فإن قيل : كيف قال سواكم وهو يخاطب امرأة فالجواب أنه للتعظيم وربما خوطبت المرأة
الواحدة بخطاب جماعة الذكور مبالغة في سترها فيعدل عن الإفراد والتأنيث إلى الجمع
والتذكير فيبعد عن الضمير لها بمرتبتين . ومنه قوله تعالى حكاية عن موسى : فقال
لأهله وقال
____________________
عمر بن أبي ربيعة مخاطباً
لامرأة : البسيط ( كم قد ذكرتك ل أجزى بذكركم ** يا أشبه الناس كل الناس بالقمر )
وفهم بالميم لا بالراء وأشجع : قبيلتان .
قال الأعلم : انتمى الشاعر في النسب إلى فهم وأشجع وهو من سلول بن عامر لأنهم كلهم
من قيس عيلان بن مضر .
وقائل هذين البيتين كما قال سيبويه وغيره : عبد الله بن همام السلولي .
وهذا نسبه من الجمهرة : عبد الله بن همام بتشديد الميم ابن نبيشة بضم النون وابن
رياح بكسر الراء بعدها مثناة تحتية ابن مالك بن الهجيم بالتصغير ابن حوزة بالحاء
المهملة ابن عمير بن مرة بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن .
وكان يقال لعبد الله من حسن شعره : العطار .
وسلول هي بنت ذهل بن شيبان بن ثعلبة كانت امرأة مرة بن صعصة وأولادها منه ينسبون
إليها .
وعبد الله بن همام شاعر إسلامي من التابعين . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو
من بني مرة بن صعصعة من قيس عيلان .
وبنو مرة يعرفون ببني سلول وهي أمهم وهي بنت ذهل بن شيبان من ثعلبة وهم رهط أبي
مريم السلولي كان له صحبة .
____________________
وعبد الله هو القائل في
عريفهم : المتقارب ( ولما خشيت أظافيره ** نجوت وأرهنته مالكا ) ( عريفاً مقيماً
بدار الهوا ** ن أهون علي به هالكا ) )
وهو القائل في الفلافس : الطويل ( أقلي علي اللوم يا ابنة مالك ** وذمي زماناً ساد
فيه الفلافس ) وساع من السلطان ليس بناصح ومحترس من مثله وهو حارس وكان الفلافس
هذا على شرطة الكوفة من قبل الحارث بن عبد الله بن أبي ربيعة المخزومي أخي عمر بن
أبي ربيعة . وخرج الفلافس مع ابن الأشعث فقتله الحجاج .
وعبد الله هو القائل ليزيد بن معاوية يعزيه عن أبيه : البسيط ( اصبر يزيد فقد
فارقت ذا مقة ** واشكر حباء الذي بالملك رداكا ) ( لا رزء أعظم بالأقوام قد علموا
** مما رزئت ولا عقبى كعقباكا ) ( أصبحت راعي أهل الدين كلهم ** فأنت ترعاهم والله
يرعاكا ) وأنشد
____________________
بعده : الطويل كبير أناس في
بجاد مزمل على أن قوله : مزمل جر لمجاورته المجرور وهو أناس أو بجاد ولولاه لرفع
لأنه صفة لقوله : كبير .
وقد تقدم شرحه مفصل مستوفى في الشاهد الخمسين بعد الثلثمائة .
وهو عجز وصدره : كأن أباناً في عرانين وبله والبيت من معلقة امرئ القيس .
وأنشد بعده : الخفيف ( فمتى واغل يزرهم يحيو ** هـ وتعطف عليه كأس الساقي ) على
أنه فصل اضطراراً بين متى ومجزومه فعل الشرط بواغل ف واغل : فاعل فعل محذوف يفسره
المذكور أي : متى يزرهم واغل يزرهم . والواغل : الذي يدخل على من يشرب الخمر ولم
يدع إليها وهو في الشراب بمنزلة الوارش في الطعام وهو الطفيلي .
____________________
وقد تقدم الكلام على هذا
البيت في الشاهد الحادي والستين بعد المائة .
أينما الريح تميلها تمل لما تقدم قبله . )
فتكون الريح فاعلة لفعل محذوف يفسره المذكور أي : أينما تميلها الريح تميلها .
وقد تقدم الكلام على هذا البيت أيضاً في الشاهد الثاني والستين بعد المائة .
وهو عجز وصدره : صعدة نابتة في حائر وأنشد بعده ( الشاهد الثامن والثمانون بعد
الستمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل
____________________
ومن نحن نؤمنه يبت وهو آمن
لما تقدم قبله . ف نحن : فاعل لفعل محذوف يفسره المذكور فلما حذف الفعل برز الضمير
وانفصل والتقدير : فمن نؤمنه نؤمنه .
قال سيبويه في باب الحروف التي لا تقدم فيها الأسماء الفعل : اعلم أن حروف الجزاء
يقبح أن تتقدم الأسماء فيها قبل الأفعال وذلك أنهم شبهوها بما يجزم مما ذكرنا إلا
حروف الجزاء قد جاز ذلك فيها في الشعر لأن حروف الجزاء يدخلها فعل ويفعل ويكون
فيها الاستفهام فيرفع فيها الأسماء وتكون بمنزلة الذي .
فلما كانت تصرف هذا التصرف وتفارق الجزم ضارعت ما يجر من الأسماء التي إن شئت
استعملتها غير مضافة نحو : ضارب عبد الله فلذلك لم تكن مثل لم ولا في النهي واللام
في الأمر لأنهن لا يفارقن الجزم .
ويجوز الفرق في الكلام في إن إذا لم تجزم في اللفظ نحو قوله :
____________________
عاود هراة وإن معمورها خربا
فإن جزمت ففي الشعر لأنه يشبه بلم . وإنما جاز في الفصل ولم يشبه لأن لم لا يقع
بعدها فعل . وإنما جاز هذا في إن لأنها أصل الجزاء ولا تفارقه فجاز هذا كما جاز
إضمار الفعل فيها حين قالوا : إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
وأما سائر حروف الجزاء فهذا فيه ضعف في الكلام لأنها ليست كإن فلو جاء في إن وقد
جزمت كان أقوى إذ جاز فيه فعل . ومما جاء في الشعر مجزوماً في غير إن قول عدي بن
زيد : )
وقال : أينما الريح تميلها تمل ولو كانت فعل كان أقوى إذ كان ذلك جائزاً في إن في الكلام
. واعلم أن قولهم في الشعر : إن زيد يأتك يكن كذا إنما ارتفع على فعل هذا تفسيره
كما كان ذلك في قولك : إن زيداً رأيته يكن ذلك لأنها لا يبتدأ بعدها الأسماء ثم
يبنى عليها . فإن قلت : إن تأتني زيد يقل ذلك جاز على قول من قال : زيداً ضربته .
وهذا موضع ابتداء .
ألا ترى أنك لو جئت بالفاء فقلت : إن تأتني فأنا خير لك كان حسناً . وإن لم تجعله
على ذلك رفع وجاز في الشعر كقوله : الله يشكرها
____________________
ومثل الأول قول هشام المري :
الطويل ( فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن ** ومن لا نجره يمس منا مفزعا ) انتهى كلام سيبويه
ولنفاسته سقناه بتمامه .
وقد أورد ابن هشام هذا البيت في المغني قال : قولنا الجملة المفسرة لا محل لها
خالف فيه الشلوبين فزعم أنها بحسب ما تفسره فهي في نحو : زيداً ضربته لا محل لها
وفي نحو : إنا كل شيء خلقناه بقدر ونحو زيد الخبز يأكه ينصب الخبز في محل رفع .
ولهذا يظهر الرفع إذا قلت آكله .
قال : فمن نحن نؤمنه يبت وهو آمن فظهر الجزم . وكانت الجملة المفسرة عنده عطف بيان
أو بدلاً . ولم يثبت الجمهور وقوع البيان والبدل جملة .
وقد بينت أن جملة الاشتغال ليست من الجمل التي تسمى في الاصطلاح جملة مفسرة وإن
حصل فيها تفسير .
ولم يثبت جواز حذف المعطوف عليه عطف البيان واختلف في المبدل منه .
وفي البغداديات لأبي علي أن الجزم في ذلك بأداة شرط مقدرة فإنه قال ما ملخصه : أن
الفعل المحذوف والفعل المذكور في نحو قوله : الكامل
____________________
)
لا تجزعي إن منفساً أهلكته مجزومان في التقدير وأن انجزام الثاني ليس على البدلية
إذ لم يثبت حذف المبدل منه بل على تكرير إن أي : إن أهلكت منفساً إن أهلكته وساغ
إضمار إن لاتساعهم فيها . اه .
والبيت لهشام المري كما قاله سيبويه وغيره وهو منسوب إلى مرة بن كعب ابن لؤي
القرشي وهو شاعر جاهلي .
وأنشد بعده ( الشاهد التاسع والثمانون بعد الستمائة ) الكامل ( يثني عليك وأنت أهل
ثنائه ** ولديك إن هو يستزدك مزيد ) على أن مجيء الشرط المفصول باسم من أداة الشرط
مضارعاً شاذ وحقه أن يكون ماضياً سواء كان لفظاً ومعنى نحو : إن زيد قام قمت أو
معنى فقط نحو قوله : الطويل ( وإن هو لم يحمل على النفس ضيمها ** فليس إلى حسن
الثناء سبيل =
====
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق