مجلد 3. ومجلد4 .خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
3
مجلد 3.خزانة الأدب ولب لباب لسان العرب عبد القادر بن عمر البغدادي
=تجعل لي
بيتاً أي : امرأة بنكاح وعليه فلا تضمين لكني لم أجد أبات بهذا المعنى في كتب
اللغة .
وزعم الأعلم أنه فعل تام فقال : طلبها للمبيت إما للتحصيل أو الفاحشة . وروى بعضهم
: تبيث بالمثلثة وقال : العرب تقول : بثت بالشيء بوثاً وبثته بيثاً : إذا استخرجته
. أراد امرأة تعينه على استخراج الذهب من تراب المعدن . وهذا غفلة عما قبله وما
بعده .
والترجيل : التسريح وإصلاح الشعر واللمة بالكسر : الشعر الذي يجاوز شحمة الأذن .
وقم البيت قماً من باب قتل : كنسه . والإتاوة قال في المصباح : وأتوته آتوه إتاوة
بالكسر : رشوته .
وعمرو بن قعاس بكسر القاف بعدها عين قال الصاغاني في العباب : ويقال ابن قنعاس
أيضاً .
أي : بزيادة نون بينهما .
وهذه نسبته من جمهرة ابن الكلبي : عمرو بن قعاس بن عبد يغوث بن مخدش ابن عصر
بالتحريك ابن غنم بفتح بسكون ابن مالك بن عوف بن منبه بن غطيف بن عبد الله بن )
ناجية بن مالك بن مراد المرادي المذحجي . ومن ولد عمرو ابن قعاس هانئ بن عروة بن
نمران بن عمرو بن قعاس قتله عبيد الله بن زياد مع مسلم بن عقيل بن أبي طالب
وصلبهما .
وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع والستون بعد المائة
____________________
(
تعدون عقر النيب أفضل مجدكم ** بني ضوطرى لولا الكمي المقنعا ) على أن الفعل قد
حذف بعد لولا بدون مفسر . أي : لولا تعدون .
قال المبرد في الكامل : لولا هذه لا يليها إلا الفعل لأنها للأمر والتحضيض مظهراً
أو مضمراً كما قال : تعدون عقر النيب البيت أي : هلا تعدون الكمي المقنعا . ومثله
قدر ابن الشجري في أماليه وقال : أراد لولا تعدون الكمي أي : ليس فيكم كمي فتعدوه
.
وكذلك قدره أبو علي في إيضاح الشعر في باب الحروف التي يحذف بعدها الفعل وغيره
وقال : فالناصب للكمي هو الفعل المراد بعد لولا وتقديره : لولا تلقون الكمي أو
تبارزون أو نحو ذلك إلا أن الفعل حذف بعدها لدلالتها عليه .
فكل هؤلاء كالشارح جعل لولا تحضيضية وقدر المضارع لأنها مختصة به . وخالفهم ابن
هشام في المغني فجعلها للتوبيخ والتنديم وتختص بالماضي وقال : الفعل مضمر أي :
لولا عددتم . وقول النحويين : لولا تعدون مردود إذ لم يرد أن يحضهم على أن يعدوا
في المستقبل بل المراد توبيخهم على ترك عده في الماضي . وإنما قال تعدون على حكاية
الحال فإن كان مراد النحويين مثل ذلك فحسن .
وتعدون اختلف في تعديته إلى مفعولين : قال ابن هشام في شرح الشواهد :
____________________
اختلف
في تعدي عد . بمعنى اعتقد إلى مفعولين فمنعه قوم وزعموا في قوله : ( لا أعد
الإقتار عدماً ولكن ** فقد من قد رزيته الإعدام ) أن عدماً حال . وليس المعنى عليه
. وأثبته آخرون مستدلين بقوله : ( فلا تعدد المولى شريكك في الغنى ** ولكنما
المولى شريكك في العدم ) )
وقوله : تعدون عقر النيب الخ . هـ وجه الاستدلال في البيت الأول أن قوله شريكك .
وفي البيت الثاني أن قوله أفضل مجدكم معرفتان لا يجوز نصبهما على الحالية لأنها
واجبة التنكير .
وقوله : الكمي المقنعا منصوب على أنه المفعول الأول لتعدون المحذوف بتقدير مضاف
والمفعول الثاني محذوف أي : لولا تعدون عقر الكمي أفضل مجدكم . ولا يجوز أن يكون
من العد بمعنى الحساب قال اللخمي في شرح أبيات الجمل وأما عد من العدد وهو إحصاء
الشيء فيتعدى لمفعولين أحدهما بحرف الجر . وقد يحذف تقول : عددتك المال وعددت لك
المال . هـ .
فهو متعد باللام وتقدير من لا يستقيم . وقدر بعضهم من حروف الجر من وقال : هلا
تعدون ذلك من أفضل مجدكم . نقله ابن المستوفى في شرح أبيات المفصل . وفيه نظر .
وذكر أيضاً وجوهاً أخر : منها أن أفضل مجدكم بدل من عقر النيب . وفيه أن هذا ليس
بدل اشتمال ولا بدل بعض لعدم الضمير ولا بدل كل لأنه غيره ولا بدل غلط لأنه لم يقع
في الشعر . و منها أنه منصوب على
____________________
المصدر
بتقدير مضاف أي : تعدون عقر النيب عد أفضل مجدكم . و منها أنه نعت أو عطف بيان . و
العقر : مصدر عقر الناقة بالسيف من باب ضرب : إذا ضرب قوائمها به . قال في المصباح
: لا يطلق العقر في غير القوائم وربما قيل : عقر البعير : إذا نحره . و النيب :
جمع ناب وهي الناقة المسنة . و المجد : العز والشرف . و بني ضوطرى : منادى بإضمار
يا قال ابن الأثيرفي المرصع : بنو ضوطرى ويقال فيه : أبو ضوطرى : هو ذم وسب .
وأنشد هذا البيت وقال : وضوطرى هو الرجل الضخم اللئيم الذي لا غناء عنده وكذلك
الضوطر والضيطر .
ومثله في سفر السعادة وزاد ضيطاراً وقال : وجمع ضيطار ضياطرة .
وقال حمزة بن الحسين : العرب تقول : يا ابن ضوطر أي : يا ابن الأمة . وقال اللخمي
: الضوطر : المرأة الحمقاء . و الكمي : الشجاع المتكمي في سلاحه لأنه كمى نفسه أي
: سترها بالدرع والبيضة كذا في الصحاح . و المقنع بصيغة اسم المفعول الذي على رأسه
البيضة والمغفر .
حاصل المعنى : أنكم تعدون عقر الإبل المسنة التي لا ينتفع بها ولا يرجى نسلها أفضل
مجدكم )
هلا تعدون قتل الشجعان أفضل مجدكم وهذا تعريض بجبنهم وضعفهم عن مقارعة الشجعان
ومنازلة الأقران .
وهذا البيت من قصيدة لجرير يهجو بها الفرزدق . و قضية عقر الإبل مشهورة في
التواريخ محصلها أنه أصاب أهل الكوفة مجاعة فخرج أكثر الناس إلى البوادي وكان غالب
أبو الفرزدق رئيس قومه ( وكان سحيم بن وثيل الرياحي رئيس قومه ) فاجتمعوا في أطراف
السماوة من بلاد كلب على مسيرة يوم من الكوفة فعقر غالب لأهله ناقة صنع منها
طعاماً وأهدى إلى قوم من تميم جفاناً وأهدى إلى سحيم جفنة فكفاها وضرب الذي أتى
بها وقال : أنا مفتقر إلى طعام غالب ونحر سعيم لأهله فلما كان من الغد نحر غالب
لأهله ناقتين ونحر سحيم ناقتين وفي اليوم الثالث نحر غالب ثلاثاً فنحر سحيم ثلاثاً
فلما كان اليوم الرابع نحر غالب مائة ناقة ولم يكن لسحيم هذا القدر فلم يعقر شيئاً
ولما انقضت المجاعة ودخل الناس الكوفة قال بنو رياح لسحيم جررت علينا
____________________
عار
الدهر هلاّ نحرت مثل ما نحر غالب وكنا نعطيك مكان كل ناقة ناقتين فاعتذر أن إبله
كانت غائبة ونحر نحو ثلاثمائة ناقة . وكان في خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه
فمنع الناس من أكلها وقال : إنها مما أهل لغير الله به ولم يكن الغرض منه إلا
المفاخرة والمباهاة فجمعت لحومها على كناسة الكوفة فأكلها الكلاب والعقبان والرخم
.
وقد أورد القالي هذه الحكاية في ذيل أماليه بأبسط مما ذكرناه وأورد ما قيل فيها من
الأشعار وما مدح به غالب وهجي به سحيم .
تتمة بيت الشاهد نسبه ابن الشجري في أماليه للأشهب بن رميلة . وكذا غيره . والصحيح
أنه من قصيدة لجرير لا خلاف بين الرواة أنها له . وهي جواب عن قصيدة تقدمت للفرزدق
على قافيتها . وكان الفرزدق تزوج حدراء الشيبانية وكان أبوها نصرانياً وهي من ولد
بسطام بن قيس وماتت قبل أن يصل إليها الفرزدق وقد ساق إليها المهر فترك المهر لأهلها
وانصرف . ( يقولون زر حدراء والترب دونها ** وكيف بشيء وصله قد تقطعا ) ( يقول ابن
خنزير : بكيت ولم تكن ** على امرأة عيني إخال لتدمعا ) ( وأهون رزء لمرىء غير عاجز
** رزية مرتج الروادف أفرعا ) ) ( وما مات عند ابن المراغة مثلها ** ولا تبعته
ظاعناً حيث دعدعا ) فأجابه جرير بقصيدة طويلة منها :
____________________
(
وحدراء لو لم ينجها الله برزت ** إلى شر ذي حرث دمالاً ومزرعا ) ( وقد كان رجساً
طهرت من جماعه ** وآب إلى شر المضاجع مضجعا ) ثم قال : ( تعدون عقر النيب أفضل
سعيكم ** بني ضوطرى هلاّ الكمي المقنعا ) ( وقد علم الأقوام أن سيوفنا ** عجمن
حديد البيض حتى تصدعا ) ( ألا رب جبار عليه مهابة ** سقيناه كأس الموت حتى تضلعا )
والقصيدتان مسطورتان أيضاً في منتهى الطلب من أشعار العرب .
وترجمة جرير تقدمت في الشاهد الرابع من أوائل الكتاب . وتقدمت ترجمة سحيم بن وثيل
أيضاً في الشاهد الثامن والثلاثين .
وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس والستون بعد المائة ( ونبّئت ليلى أرسلت بشفاعة **
إلي فهلا نفس ليلى شفيعها ) على أن الجملة الاسمية قد وقعت فيه بعد أداة التحضيض
شذوذاً .
____________________
هذا البيت أورده أبو تمام في أول باب النسيب من الحماسة مع بيت ثان وهو : ( أكرم
من ليلى عليّ فتبتغي ** به الجاه أم كنت امرءاً لا أطيعها ) قال ابن جني في إعراب
الحماسة : هلاّ من حروف التحضيض وبابه الفعل إلا أنه في هذا الموضع استعمل الجملة
المركبة من المبتدأ والخبر في موضع المركبة من الفعل والفاعل وهذا في نحو هذا
الموضع عزيز جداً وكذا قال شرّاح الحماسة . وخرجه ابن هشام في المغني على إضمار
كان الشأنية أي : فهلا كان هو أي : الشأن . ثم قال : التقدير فهلا شفعت نفس ليلى
لأن الإضمار من جنس المذكور أقيس . و شفيعها على هذا خبر لمحذوف أي : هي شفيعها .
ونسب أبو حيان الوجه الأول لأبي بكر بن طاهر ونسب الوجه الثاني إلى البصريين . و
نبىء يتعدى لثلاثة مفاعيل المفعول الأول التاء وهي نائب الفاعل و ليلى المفعول
الثاني وجملة أرسلت في موضع المفعول الثالث . وقوله : بشفاعة أي : بذي شفاعة
فالمضاف )
محذوف أي : شفيعاً . يقول : خبرت أن ليلى أرسلت إلي ذا شفاعة تطلب به جاهاً عندي
هلا جعلت نفسها شفيعها .
وقوله : أأكرم من ليلى الخ الاستفهام إنكار وتقريع . أنكر منها استعانتها عليها
بالغير .
وقوله : فتبتغي منصوب في جواب الاستفهام لكنه سكنه ضرورة . و أم متصلة كأنه قال :
أيّ هذين توهمت ( أطلب ) إنسان أكرم علي منها أم اتهامها لطاعتي لها وخبر أكرم علي
محذوف والتقدير ( أأكرم من ليلى موجود في الدنيا ) .
____________________
وقد أورد ابن هشام هذا البيت في الباب الخامس من المغني شاهداً على اشتراط الصفة
لما وطّىء به من خبر أو صفة أو حال .
وفي الأمالي ابن الشجري : في البيت إعادة الضمير من أطيعها ضمير متكلم وفاقاً لكنت
ولم يعد ضمير غائب وفاقاً لامرىء على حد ( قوله تعالى : ) بل أنتم قوم تجهلون .
والبيتان نسبهما ابن جنّي في إعراب الحماسة للصّمّة بن عبد الله القشيري .
قال أبو رياش في شرح الحماسة : وكان من خبر هذين البيتين أن الصّمّة بن عبد الله
كان يهوى ابنة عمه تسمى ريّا فخطبها إلى عمه فزوجه على خمسين من الإبل فجاء إلى
أبيه فسأله فساق عنه تسعاً وأربعين فقال : أكملها فقال : هو عمك وما يناظرك في
ناقة ( ناقصة ) فجاء إلى عمه بها فقال : والله لا أقبلها إلا كلها . فلجّ عمه ولجّ
أبوه فقال : والله ما رأيت ألأم منكما وأنا ألأم منكما إن أقمت معكما فرحل إلى
الشام فلقي الخليفة فكلمه فأعجب به وفرض له وألحقه بالفرسان . فكان يتشوق إلى نجد
وقال هذا الشعر . هـ . و الصمّة كما في جمهرة الأنساب هو الصمة بن عبد الله بن
الحارث بن قرة بن هبيرة . كان شريفاً شاعراً ناسكاً عابداً وقرة بن هبيرة وفد على
رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكرمه وكساه واستعمله على صدقات قومه وينتهي نسبه
إلى قشير بن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور بن
عكرمة بن خصفة بن قيس بن عيلان بن مضر .
____________________
تتمة نسب العيني البيت الشاهد إلى قيس بن الملوح . قال : ويقال : قائلة ابن
الدّمينة .
ونسبه ابن خلكان في وفيات الأعيان على ما استقر تصحيحه في آخر نسخة منها )
لإبراهيم بن الصولي وأن أبا تمام أورده في باب النسيب من الحماسة . وذكر أن وفاة
إبراهيم بن الصولي في سنة ثلاث وأربعين ومائتين ووفاة أبي تمام في سنة اثنتين
وثلاثين ومائتين . والله أعلم .
____________________
(
باب التحذير ) أنشد فيه وهو الشاهد السادس والستون بعد المائة ) وهو من شواهد س :
( فإياك إياك المراء فإنه ** إلى الشر دعاء وللشر جالب ) على أن حذف الواو شاذ .
قال س : اعلم أنه لا يجوز أن تقول إياك زيداً كما أنه لا يجوز أن تقول رأسك الجدار
وكذلك إياك أن تفعل إذا أردت إياك والفعل فإذا قلت إياك أن تفعل تريد إياك أعظ
مخافة أن تفعل أو من أجل أن تفعل جاز .
يعني أن تقع بعد إياك على وجهين أحدهما أن تجعل مصدراً هو معقول به كما تقول إياك
وزيداً وأصله أن تقول إياك وأن تفعل كما قالت إياك وزيداً ولكنهم حذفوا الواو لطول
الكلام .
ويقدّر أيضاً إياك من أن تفعل إذا حذرته الفعل .
والوجه الآخر : أن تجعل أن تفعل مفعولاً له وهذا لا يحتاج إلى حرف عطف ويجوز أن
يقع المصدر موقعه
____________________
فإذا
وقع أن والفعل بمنزلة المفعول ثم أوقعت المصدر موقعه لم يك بدّ من إدخال الواو
عليه كما تدخل على غيره من المفعولات .
ثم قال سيبويه : إلا أنهم زعموا أن ابن أبي إسحاق أجاز هذا البيت وهو قوله . فإياك
إياك المراء . . الخ .
والشاهد فيه أنه أتى بالمراء وهو مفعول به بغير حرف عطف . وعند سيبويه أن نصب
المراء بإضمار فعل لأنه لم يعطف على إياك . وسيبويه وابن أبي اسحاق ينصبه ويجعله
كأن والفعل وينصبه بالفعل الذي نصب إياك يقدر فيه : اتق المراء كما يقدر فعلاً آخر
ينصب إياك . وقال المازني : لما كرر إياك مرتين كان أحدهما عوضاً من الواو . وعند
المبرد : المراء بتقدير أن تماري كما تقول : إياك أن تماري : أي مخافة أن تماري .
وهذا البيت نسبه أبو بكر محمد التاريخي في طبقات النحاة وكذلك ابن بري في حواشيه )
على درة الغواص الحريرية وكذلك تلميذه ابن خلف في شرح شواهد سيبويه للفضل بن عبد
الرحمن القرشي يقوله لابنه القاسم بن الفضل . قال ابن بري : وقبل هذا البيت : ( من
ذا الذي يرجو الأباعد نفعه ** إذا هو لم تصلح عليه الأقارب ) و الأباعد : فاعل
يرجو . يريد : كيف يرجو الأجانب نفع رجل أقاربه محرومون منه . و المراء : مصدر
ماريته أماريه مماراة ومراء . أي : جادلته . ويقال ماريته أيضاً : إذا طعنت في
قوله تزييفاً للقول وتصغيراً للقائل . ولا يكون المراء إلا اعتراضاً بخلاف الجدال
: فإنه يكون ابتداء واعتراضاً . والجدال مصدر جادل : إذا خاصم بما يشغل عن ظهور
الحق ووضوح الصواب . كذا في المصباح
____________________
.
وأنشد بعده وهو الشاهد السابع والستون بعد المائة وهو من شواهد س : ( أخاك أخاك إن
من لا أخاً له ** كساع إلى الهيجا بغير سلاح ) على أن أخاك منصوب على الإغراء وهو
مكرر . يريد : الزم أخاك غير أن هذا مما لا يحسن فيه إظهار الفعل عنذ التكرير
ويحسن إذا لم يكرر لأنهم . إذا كرروا وجعلوا أحد الاسمين كالفعل والاسم الآخر
كالمفعول وكأنهم جعلوا أخاك الأول بمنزلة الزم فلم يحسن أن تدخل الزم على ما قد
جعل بمنزلة الزم .
وجملة إن من لا أخاً له الخ استئناف بياني . وأكد لأنه جواب عن السبب الخاص . و من
: نكرة موصوفة بالجملة بعدها وقيل : موصولة . و لا : نافية للجنس و أخاً : اسمها
واللام مقحمة بين المتضايفين نحو قولهم : يا بؤس للحرب والخبر محذوف أي : موجود
ونحوه .
قال ابن هشام في المغني : ومن ذلك قولهم : لا أبا لزيد ولا أخاً له ولا غلامى له
على قول سيبويه : إن اسم لا مضاف لما بعد اللام . وأما على قول من جعل اللام وما
بعدها صفة وجعل الاسم مشبهاً بالمضاف لأن الصفة من تمام الموصوف وعلى قول من
جعلهما خبراً وجعل أبا وأخا على لغة من قال : إن أباها وأبا أباها وجعل حذف النون
على وجه الشذوذ فاللام للاختصاص وهي متعلقة باستقرار محذوف . هـ . )
وقوله : كساع إلى الهيجا الخ خبر إن . يقول : استكثر من الإخوان فهم عدة تستظهر
بها على الزمان كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : المرء كثير بأخيه . وجعل من لا
أخا له يستظهر به كمن قاتل عدوه ولا سلاح معه . وقد
____________________
صدق
فإن من قطع أخاه وصرمه كان بمنزلة من قاتل بغير سلاح .
وقد أورد هذا البيت أبو عبيد القاسم بن سلاّم في أمثاله وقال : هو مثل في استغاثة
الرجل بأهل الثقة . و الهيجا : الحرب تمد وتقصر . قال ابن خلف : وهي فعلاء أو فعلى
فمن قصرها فيكون المحذوف منها ألف المد دون ألف التأنيث . وإنما كان حذف ألف المد
أولى من حذف ألف التأنيث لوجهين : أحدهما أن ألف التأنيث لمعنى وألف المد لغير
المعنى فكان حذف ما ليس لمعنى أولى مما جاء لمعنى .
والثاني : أن جميع ما قصر مما همزته للتأنيث لا ينصرف بعد القصر ولو كان المحذوف
منه همزة التأنيث لانصرف الاسم لزوال علامة التأنيث كما صرفت قريقر وحبيّر مصغري
قرقرى وحبارى لزوال علامة التأنيث منه . ألا ترى قوله : يا رب هيجا هي خير من دعه
قصره ولم يصرفه والقصر فيه ضرورة وقيل : هو لغة . ولو كان المحذوف منه ألف التأنيث
لقال : يا رب هيجاً هي خير وكان ينون هيجا ويذكرها ويقول هو خير ولا يقول هي خير .
وهذا البيت أول أبيات لمسكين الدارمي . وبعده : ( وإن ابن عم المرء فاعلم جناحه **
وهل ينهض البازي بغير جناح ) ( وما طالب الحاجات إلا معذباً ** وما نال شيئاً طالب
لنجاح ) ( لحا الله من باع الصديق بغيره ** وما كل بيع بعته برباح ) ( كمفسد أدناه
ومصلح غيره ** ولم يأتمر في ذاك غير صلاح ) وفي الأغاني وغيره إن مسكيناً الدارمي
لما قدم على معاوية أنشده ( إليك أمير المؤمنين رحلتها ** تثير القطا ليلاً وهن هجود
)
____________________
(
على الطائر الميمون والجد صاعد ** لكل أناس طائر وجدود ) )
وسأله أن يفرض له فأبى عليه وكان لا يفرض إلا لليمن فخرج من عنده وهو يقول : أخاك
أخاك إن من لا أخا له الأبيات ولم يزل معاوية كذلك حتى كثرت اليمن وعزّت قحطان
وضعفت عدنان فبلغ معاوية أن رجلاً من اليمن قال : هممت أن لا أحل حبوتي حتى أخرج
كل نزاريّ بالشام . فرض من وقته لأربعة آلاف رجل من قيس . فقدم لذلك على معاوية
عطارد بن حاجب فقال له : ما فعل الفتى الدارمي الصبيح الوجه الفصيح اللسان يعني
مسكيناً فقال : صالح يا أمير المؤمنين قال : أعلمه أني قد فرضت له فله شرف العطاء
وهو في بلاده فإن شاء يقيم بها أو عندنا فليفعل فإن عطاءه سيأتيه وبشره بأني قد
فرضت لأربعة آلاف من قومه . فكان معاوية يغزي اليمن في البحر وتميماً في البرّ
فقال النجاشي وهو شاعر اليمن : ( ألا أيها الناس الذين تجمعوا ** بعكّا أناس أنتم
أم أباعر ) ( أيترك قيساً آمنين بدارهم ** ونركب ظهر البحر والبحر زاخر ) ( فو
الله ما أدري وإني لسائل ** أهمدان تحمي ضيمها أم يحابر ) ( أم الشرف الأعلى من
أولاد حمير ** بنو مالك أن تستمرّ المرائر ) فرجع القوم جميعاً عن وجههم فبلغ ذلك
معاوية فسكّن منهم وقال : أنا
____________________
أغزيكم
في البحر لأنه أرفق من الخيل وأقل مؤنة وأنا أعاقبكم في البر والبحر ففعل ذلك
ومسكين الدارمي اسمه ربيعة بن عامر بن أنيس بن شريح بن عمرو بن عدي بن زيد بن عبد
الله بن دارم بن مالك بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم .
قال الكلبي : كل عدس في العرب بضم العين وفتح الدال إلا عدس بن زيد هذا فإنه مضموم
الدال . هكذا في جمهرة النسب .
ومسكين الدارمي شاعر شجاع من أهل العراق ولقّب المسكين لقوله : ( أنا مسكين لمن
أنكرني ** ولمن يعرفني جد نطق ) ولقوله : ( وسمّيت مسكيناً وكانت لحاجة ** وإني
لمسكين إلى الله راغب ) وهذه القصيدة من أحسن شعره : ) ( اتق الأحمق أن تصحبه **
إنما الأحمق كالثوب الخلق )
____________________
(
كلما رقّعت منه جانباً ** حرّكته الريح وهناً فانخرق ) ( أو كصدع في زجاج فاحش **
هل ترى صدع زجاج يتفق ) ( وإذا نهنهته كي يرعوي ** زاد جهلاً وتمادى في الحمق ) (
وإذا الفاحش لاقى فاحشاً ** فهنا كم وافق الشّنّ الطبق ) ( إنما الفحش ومن يعتاده
** كغراب السوء ما شاء نغق ) ( أو حمار السوء إن أشبعته ** رمح الناس وإن جاع نهق
) ( أو غلام السوء إن جوّعته ** سرق الجار وإن يشبع فسق ) أو كغيرى رفعت من ذيلها
ثم أرخته ضراطاً فانمزق ( أيها السائل عما قد مضى ** هل جديد مثل ملبوس خلق ) (
أنا مسكين لمن أنكرني ** ولمن يعرفني جد نطق ) ( لا أبيع الناس عرضي إنني ** لو
أبيع الناس عرضي لنفق ) ومن شعره يرثي ابن سميّة : ( رأيت زيادة الإسلام ولّت **
جهاراً حين ودّعنا زياد ) وردّ عليه الفرزدق بقوله : ( أمسكين أبكى الله عينك إنما
** جرى في ضلال دمعها إذ تحدرا ) ( بكيت امرأ من أهل ميسان كافراً ** ككسرى على
عدّانه أو كقيصرا ) قال الزمخشري في أمثاله : به لا بظبي مثل : أي : جعل الله ما
أصابه لازماً مؤثراً فيه ولا كان مثل الظبي في سلامته منه . يضرب في الشماتة .
وأنشد هذا البيت .
____________________
ثم رأيت الميداني قال : الأعفر : الأبيض . أي : لتنزل به الحادثة لا بظبي . يضرب
عند الشماتة .
قال جرير حين نعي إليه زياد بن أبيه . . وأنشد هذا البيت وقال : ومثله .
به لا بكلب نابح في السباسب ومن شعر مسكين : ( اصحب الأخيار وارغب فيهم ** ربّ من
صحبته مثل الجرب ) ( واصدق الناس إذا حدثتهم ** ودع الكذب لمن شاء كذب ) ) ( ربّ
مهزول سمين عرضه ** وسمين الجسم مهزول الحسب ) ومن شعره الجيد مما أثبته السيد
المرتضى علم الهدى في أماليه الدرر والغرر : ( إن أدع مسكيناً فما قصرت ** قدري
بيوت الحي والجدر ) ( ما مسّ رحلي العنكبوت ولا ** جدياته من وضعه غبر ) ( لا آخذ
الصبيان ألثمهم ** والأمر قد يعزى به الأمر ) ( ولربّ أمر قد تركت وما ** بيني
وبين لقائه ستر ) ( ما علتي قومي بنو عدس ** وهم الملوك وخالي البشر ) ( عمّي
زرارة غير منتحل ** وأبي الذي حدثته عمرو ) ( في المجد غرّتنا مبيّنة ** للناظرين
كأنها البدر ) ( لا يرهب الجيران غدرتنا ** حتى يواري ذكرنا القبر ) ( لسنا كأقوام
إذا كلحت ** إحدى السنين فجارهم تمر ) ( مولاهم لحم على وضم ** تنتابه العقبان
والنسر ) ( ناري ونار الجار واحدة ** وإليه قبلي تنزل القدر ) ( ما ضرّ جاري أن
أجاوره ** أن لا يكون لبيته ستر )
____________________
(
أعشى إذا ما جارتي خرجت ** حتى يواري جارتي الخدر ) ( ويصمّ عما كان بينهما **
سمعي وما بي غيره وقر ) قوله : فما قصرت قدري الخ أي : سترت . يريد : أنها بارزة
لا يحجبها السواتر والحيطان .
وقوله : ما مس رحلي العنكبوت الخ هذه كناية مليحة عن مواصلة السير وهجر الوطن لأن
العنكبوت إنما ينسج على ما لا تناله الأيدي ولا يكثر استعماله . والجديات : جمع
جدية بالسكون وهي باطن دفة الرحل . وقوله : لا آخذ الصبيان الخ يقول : لا أقبّل
الصبي وأنا أريد ومثله لغيره : ( ولا ألقي لذي الودعات سوطي ** ألاعبه وربّته أريد
) وأنشد ابن الأعرابي في مثله : ( إذا رأيت صبي القوم يلثمه ** ضخم المناكب لا عمّ
ولا خال ) ( فاحفظ صبيك منه أن يدنسه ** ولا يغرنك يوماً قلة المال ) )
وقوله : قاومت في كبد الخ الكبد : المزلة التي لا تثبت فيها الأرجل . والدهان :
الأديم الأحمر .
وقوله : فكان لي العذر إنما يكون العذر إذا
____________________
كان
ثم ظلم فيقول : إنما أقاوم وأخاصم مظلوماً متعدى عليه وإذا كان كذلك فيجب الاعتذار
على الظالم ويكون العذر لي كقوله : ( فإن كان سحراً فاعذريني على الهوى ** وإن كان
داء غيره فلك العذر ) وقوله : فجارهم تمر أي : يستحلى الغدر به كما يستحلى التمر .
وقوله : ناري ونار الجار واحدة يقال : إنه كانت له امرأة تماضّه فلما قال ذلك قالت
له : أجل إنما ناره ونارك واحدة لأنه أوقد ولم توقد والقدر تنزل إليه قبلك لأنه
طبخ ولم تطبخ وأنت تستطعمه . . وقوله : أن لا يكون لبيته ستر يقال : إنها قالت له
: أجل إن كان له ستر هتكته .
وقوله : أعشى إذا ما جارتي خرجت استشهد به في التفسير عند قراءة ومن يعش عن ذكر
الرحمن بفتح الشين ولأجله أوردت هذه القصيدة فإن شرّاح شواهد التفسير اختلفوا في
هذا البيت : فبعضهم نسبه إلى حاتم الطائيّ وبعضهم نسبه إلى غيره . قال صاحب الكشاف
: ومن يعش بضم الشين وفتحها والفرق بينهما : أنه إذا حصلت الآفة في بصره قيل : عشي
وإذا نظر نظر العشي ولا آفة به قيل : عشا . ونظيره عرج لمن به الآفة وعرج لمن مشى
مشية العرجان من غير عرج قال الحطيئة :
____________________
متى
تأته تعشو إلى ضوء ناره أي : تنظر إليها نظر العشي لما يضعف بصرك من عظم الوقود
واتساع الضوء . وهو بين في قول حاتم : ( أعشو إذا ما جارتي برزت ** حتى يواري
جارتي الخدر ) وقرئ : يعشو . ومعنى القراءة بالفتح : ومن يعم عن ذكر الرحمن وهو
القرآن . وأما القراءة بالضم فمعناها : ومن يتعام عن ذكره أي : يعرف أنه الحق وهو
يتجاهل ويتغابى . ا . هـ مختصراً .
____________________
(
باب المفعول فيه ) أنشد فيه وهو الشاهد الثامن والستون بعد المائة وهو من شواهد
الكامل ( فلا يغنيكم قناً وعوارضها ** ولأقبلن الخيل لابه ضرغد ) على أن قناً
وعوارضاً منصوبان على إسقاط حرف الجر ضرورة لأنهما مكانان مختصان لا ينتصبان
انتصاب الظرف . وهما بمنزلة ذهبت الشام في الشذوذ .
أوعد أعداءه بتتبعهم والإيقاع بهم حيث حلوا في المواضع المنيعة . ومعنى لأبغينكم :
لأطلبنكم .
والبغي له معنيان : أحدهما الطلب يقال : بغيت الضالة . فهو متعد إلى مفعول واحد .
والآخر : الظلم والتعدي يتعدى بعلى يقال : بغى فلان على فلان . فهو فعل لازم .
وقناً قال أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم هو بفتح القاف وبعده نون وهو اسم
مقصور يكتب بالألف لأنه يقال في تثنيته : قنوان هو جبل في ديار بني ذبيان قال
النابغة : ( فإما تنكري نسبي فإني ** من الصهب السبال بني ضباب )
____________________
وقال
أبو عمرو الشيباني : قناً ببلاد بني مرّة وقال الشماخ : ( تربّع من جنبي قناً
فعوارض ** نتاج الثريّا نوءها غير مخدج ) وينبئك أنّ قناً جبلان قول الطرماح : (
تحالف يشكر واللؤم قدماً ** كما جبلا قناً متحالفان ) ولكونه اسم جبلين يثنى فيقال
: قنوين قال الشماخ : ( كأنها وقد وبدا عوارض ** والليل بين قنوين رابض ) بجلهة
الوادي قطاً نواهض وبما ذكرنا لا يلتفت إلى قول ابن القوطية كما نقله أبو حيان في
تذكرته : لا أعرف قناً في الأمكنة وإنما هو قباً بالموحدة وليس قبا المدينة ولا
قبا بطريق مكة هذان يذكّران ويؤنثان وذلك يذكّر لا غيره ومن ذكّره قصره وصرفه ومن
أنّثه مدّه ولم يصرفه . اه .
وأقول : لم يذكر أحد ممن ألف في المقصور والممدود ان قناً يمدّ .
وروى ابن الأنباري في المفضّليات . )
فلأنعينكم الملا وعوارضاً والملا بالفتح : من أرض كلب . و أنعينكم : من النعي
بالنون أي : لأذكرن معايبكم وقبيح وروى الحرمازي : فلأبغينكم الملا من البغي وهو
الطلب . ولم يقع في رواية ابن الأنباري : قنا بدل الملا .
____________________
وعوارض بضم العين المهملة وكسر الراء وبعدها ضاد معجمة : جبل لبني أسد وقال أبو
رياش : هو جبل في بلاد طيئ وعليه قبر حاتم . وهذا هو الصحيح . كذا في معجم ما
استعجم .
واللابة : الحرة بالفتح وهي أرض ذات حجارة سود . وضرغد بفتح الضاد والغين وسكون
الراء قال أبو عبيد البكري : هي أرض لهذيل وبني غاضرة وبني عامر بن صعصعة وقيل :
هي حرة بأرض غطفان من العالية وقال الخليل : ضرغد : اسم جبل ويقال : موضع ماء ونخل
. اه .
وقال أبو محمد الأعرابي ضرغد من مياه بني مرة .
وقوله : ولأقبلن الخيل هكذا رواه سيبويه . وفيه قولان : أحدهما لأبي علي الفارسي
وهو أنه فعل لازم يتعدى بحرف الجر والأصل لأقبلن بالخيل إلى لابة ضرغد . كذا حكاه
عنه أبو البقاء في شرح الإيضاح للفارسي وابن خلف في شرح أبيات سيبويه والسخاوي في
سفر السعادة قال : لأنّ أقبل فعل غير متعد كقوله تعالى : فأقبل بعضهم على بعض
وتقول : أقبلت بوجهي عليه فأجاز هنا حذف حرفي جر في فعل واحد . وهذا تعسف مع أنه
منع حذف على من قولهم : كررت على مسمعي وهو حرف واحد .
والقول الثاني للعبدري شارح الإيضاح وهو أن أقبل هنا متعد بمعنى جعل مقابلاً وليس
ضد أدبر . والمعنى : لأجعلن الخيل تقابل فهو متعد إلى مفعولين . وهذا هو المعروف
في اللغة فإن قبل بدون همزة يتعدى إلى مفعول واحد بمعنى استقبل وأقبل بالهمز يتعدى
إلى مفعولين قال أبو زيد في نوادره : قبلت الماشية الوادي تقبله قبولاً إذا
استقبلته وأقبلتها إياه .
وقال صاحب الصحاح : وأقبلته الشيء أي : جعلته يلي قبالته وأقبلت الإبل أفواه
الوادي .
____________________
وحكى السخاوي في سفر السعادة عن شيخه الإمام الشاطبي : أقبلته الرمح : إذا جعلته
قبله .
وقال أبو حيان في تذكرته : ما نقله أبو زيد نقله الهجري أيضاً في نوادره وفي
الحديث : أن حكيم بن حزام كان يشتري العير من الطعام والإدام ثم يقبلها الشعب .
وأنشد الشيباني : ) ( أكلفها هواجر حاميات ** وأقبل وجهها الريح القبولا . هـ )
وروى غير سيبويه منهم ابن الأنباري في شرح المفضليات .
ولأهبطن الخيل لابت ضرغد قال : وروى أيضاً : ولأوردن الخيل .
وهذا البيت من قصيدة عدتها ثلاثة عشر بيتاً لعامر بن الطفيل العامري .
قال أبو محمد الأعرابي : قالها عامر يوم الرقم يوم هزمتهم بنو مرة ففرّ عامر
واختنق أخوه الحكم بن الطفيل . وفي ذلك اليوم قتل عقبة بن أنيس الأشجعي مائة
وخمسين رجلاً من بني عامر أدخلهم شعب الرقم فذبحهم . فسمي عقبة ذلك اليوم مذبحاً .
والمخاطب بشعر عامر بنو مرة وفزارة . وقنا وعوارض : جبلان من بلاد بني فزارة . .
وأولها : ( ولتسألن أسماء وهي حفية ** نصحاءها : أطردت أم لم أطرد ) قال ابن
الأنباري : أسماء بنت قدامة بن سكين الفزاري قال أبو محمد الأعرابي : كان يهواها
عامر ويشبب بها في شعره وكان قد فجر بها . انتهى . و نصحاء : جمع نصيح .
وروى شارح ديوانه : فصحاءها بالفاء قال : هو جمع فصيح . و طردت بالبناء للمفعول
والتكلم . ( قالوا لها : فلقد طردنا خيله ** قلح الكلاب وكنت غير مطرد ) قلح منصوب
على الذم و القلح : صفرة تعلو الأسنان شبه عامر بني فزارة بها . وجملة وكنت إلى
آخره حال .
____________________
(
لاضير قد عركت بمرة بركها ** وتركن أشجع مثل خشب الغرقد ) هذا البيت لم يروه
المفضل في المفضليات ولا شرّاحها . قال شارح الديوان : يقال للصدر : برك بالفتح
وبركة بالكسر . و أشجع : قبيلة . و الغرقد : شجر .
فلأبغينكم قناً وعوارضاً هذا التفات من الغيبة إلى التكلم . خاطب بني فزارة . (
بالخيل تعثر في القصيد كأنها ** حدأ تتابع في الطريق الأقصد ) القصيد : كسر القنا
جمع قصيدة . و الحدأ كعنب : جمع حدأ كعنبة وهي طائر معروف . ) ( في ناشىء من عامر
ومجرب ** ماض إذا سقط العنان من اليد ) لم يرو هذا البيت أيضاً صاحب المفضليات .
قال شارح الديوان : الناشىء الحدث حين نشأ .
وقول سقط العنان أي لشدة الجهر ( ولأثأرن بمالك وبمالك ** وأخي المرواة الذي لم
يسند ) معطوف على قوله فلا يغنيكم يقول لأدركن بثأر مالك ومالك أي : لأقتلن بهما .
و المروراة بالفتح : موضع بظهر الكوفة وقال البكري في المعجم : هو جبل لأشجع .
وقوله : لم يسند أي : لم يدفن ولكن ترك للسباع تأكله .
____________________
قتيل
يروى بالحركات الثلاث : بالجر عطفاً على ما قبله أو الواو للقسم وبالرفع على
المبتدأ والخبر أثأرن وبالنصب على أنه مفعول لفعل محذوف يدل عليه أثأرن . وليس
مفعول أثأرن المذكور لأن الفعل المؤكد لا يتقدم معموله عليه . و مرة : قبيلة . و
أثأرن توكيده يأتي الكلام عليه إن شاء الله تعالى في أدوات القسم و فرغ روي بكسر
الفاء والغين المعجمة بمعنى الهدر وروي بفتحها مع العين المهملة . أراد أنه رأس
عال في الشرف . و لم يقصد : لم يقتل يقال : أقصدت الرجل : إذا قتلته . يقول : قتيل
بن مرة صار دمه هدراً فلا بد من أخذ ثأره منهم فإن أخا بني مرة لم يقتل إلى الآن
فلا بد من قتلهم وأخذ الثأر منهم .
وبقية الأبيات لا حاجة لنا بها . و عامر بن الطفيل هو عامر بن الطفيل بن مالك بن
جعفر بن كلاب العامري . وهو ابن عم لبيد الصحابي . وكنية عامر في الحرب أبو عقيل
وفي السلم أبو علي . وكانت أصيبت إحدى عينيه في بعض الحروب .
قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : كان عامر من أشهر فرسان العرب بأساً ونجدة
وأبعدها اسماً حتى بلغ أن قيصر كان إذا قدم عليه قادم من العرب قال : ما بينك وبين
عامر بن الطفيل فإن ذكر نسباً عظم عنده حتى وفد عليه علقمة بن علاثة فانتسب له .
فقال : ابن عم عامر بن الطفيل فغضب علقمة وكان ذلك مما أوغر صدره وهيجه إلى أن
دعاه إلى المنافرة . وكان عمرو بن معد يكرب وهو فارس اليمن يقول : ما أبالي أي
ظعينة لقيت على ماء من أمواه معد ما لم يلقني دونها عبداها أو حراها ويعني بالحرين
: عامر بن الطفيل وعتيبة ابن الحارث )
بن شهاب اليربوعي وعنى بالعبدين : عنترة العبسي والسليك بن السلكة .
____________________
قال الأثرم : ويقال : كانت المنافرة أن علقمة بن علاثة شرب الخمر فضربه عمر الحد
فلحق بالروم فارتد فلما دخل على ملك الروم قال : انتسب . فانتسب له علقمة . فقال :
أنت ابن عم عامر بن الطفيل فقال : ألا أراني لا أعرف هاهنا إلا بعامر فغضب فرجع
فأسلم وتقدم بيان المنافرة في الشاهد السادس والعشرين .
ولما قدمت وفود العرب على رسول الله صلى الله عليه وسلم في سنة تسع من الهجرة قدم
وفد بني عامر فيهم عامر بن الطفيل وأربد بن قيس أخو لبيد الصحابي لأمه وكانا رئيسي
القوم ومن شياطينهم فقدم عامر بن الطفيل عدو الله على رسول الله صلى الله عليه
وسلم وهو يريد الغدر به وقد قال له قومه : يا عامر إن الناس قد أسلموا فأسلم . قال
: والله لقد كنت آليت أن لا أنتهي حتى تتبع العرب عقبي فأنا أتبع عقب هذا الفتى من
قريش ثم قال لأربد : إذا قدمنا على الرجل فإني شاغل عنك وجهه فإذا فعلت ذلك فاعله
بالسيف فلما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم وجعل يكلمه وينتظر من أربد ما
كان أمره به فجعل أربد لا يحير شيئاً فلما رأى عامر ما يصنع أربد قال له عامر :
أتجعل لي نصف ثمار المدينة وتجعلني ولي الأمر من بعدك وأسلم فأبى عليه صلى الله
عليه وسلم فانصرف عامر وقال : أنا والله لأملأنها عليك خيلاً ورجالاً فلما ولي قال
صلى الله عليه وسلم : اللهم اكفني عامر بن الطفيل . فلما خرجا من عند رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال عامر لأربد : ويلك يا أربد : أين ما كنت أمرتك به والله ما
كان على ظهر الأرض رجل أخوف عندي علي منك وايم الله لا أخافك بعد اليوم أبداً .
قال : لا أبالك لا تعجل علي والله ما هممت بالذي أمرتني به من أمره إلا دخلت بيني
وبين الرجل حتى ما أرى غيرك أفأضربك بالسيف وخرجا راجعين إلى بلادهم حتى إذا كانوا
ببعض
____________________
الطريق
بعث الله على عامر بن الطفيل الطاعون في عنقه فقتله الله في بيت امرأة من بني سلول
فجعل يقول : يا بني عامر أغدة كغدة البكر في بيت امرأة من بني سلول ثم خرج أصحابه
حين واروه التراب حتى قدموا أرض بني عامر فقالوا : ما وراءك يا أربد قال : لا شيء
والله لقد دعانا إلى عبادة شيء لوددت أنه عندي الآن فأرميه بالنبل حتى أقتله .
فخرج بعد مقالته بيوم أو يومين معه جمل له يبيعه فأرسل الله عليه وعلى جمله صاعقة
فأحرقتهما . )
وروى ابن الأنباري في شرح المفضليات : لما مات عامر نصبت بنو عامر أنصاباً ميلاً
في ميل حمى على قبره لا تنشر فيه راعية ولا يرعى ولا يسلكه راكب ولا ماش وكان جبار
بن سلمى بن عامر بن مالك غائباً فلما قدم قال : ما هذه الأنصاب قالوا : نصبناها
حمى على قبر عامر . فقال : ضيقتم على أبي علي إن أبا علي بان من الناس بثلاث : كان
لا يعطش حتى يعطش الجمل وكان لا يضل حتى يضل النجم وكان لا يجبن حتى يجبن السيل .
ولعامر وقائع في مذحج وخثعم وغطفان وسائر العرب .
وأنشد بعده وهو الشاهد التاسع والستون بعد المائة وهو من شواهد س :
____________________
(
لدن بهز الكف يعسل متنه ** فيه كما عسل الطريق الثعلب ) على أن حذف حرف الجر من
الطريق شاذ . والأصل : كما عسل في الطريق الثعلب .
قال البن هشام في المغني : وقول ابن الطراوة : إنه ظرف مردود بأنه غير مبهم .
وقوله : إنه اسم لكل ما يقبل الاستطراق فهو مبهم لصلاحيته لكل موضع منازع فيه بل
هو اسم لما هو مستطرق . انتهى .
وقال الأعلم : استشهد به سيبويه على وصول الفعل إلى الطريق وهو اسم خاص للموضع
المستطرق بغير واسطة حرف جر تشبيهاً بالمكان لأن الطريق مكان . وهو نحو قول العرب
: ذهبت الشام . إلا أن الطريق أقرب إلى الإبهام من الشام لأن الطريق تكون في كل
موضع يسار فيه وليس الشام كذلك .
وهذا البيت من قصيدة طويلة عدتها اثنان وخمسون بيتاً لساعدة بن جؤية الهذلي . وقبل
بيت الشاهد هذه الأبيات : ( من كل أسحم ذابل لا ضره ** قصر ولا راش الكعوب معلب )
( خرق من الخطي أغمض حده ** مثل الشهاب رفعته يتلهب ) ( مما يترص في الثقاف يزينه
** أخذى كخافية العقاب مخرب ) لدن بهز الكف يعسل متنه التعاور : التداول بالطعن
وغايره . والضبر بفتح المعجمة وسكون الموحدة : مصدر ضبر : إذا )
وثب والضبر : الجماعة أيضاً . وروي موضعه :
____________________
ضرباً
وأشرعت الرمح أي : أملته . والأسلات : الرماح . والقيون : جمع قين وهو الحداد
وأراد : بما صاغ القيون : الأسنة وقوله : من كل أسحم أي : أسود . وروي بدله : أمسر
. وكذلك روي : أظمى وهو بمعناه . وأراد به الرمح . و ذابل : قد جف وفيه لين . يقول
: ليس به قصر فيضره ولا ضعف فيشد .
في الصحاح : ورمح راش أي : خوّار . وناقة راشة : ضعيفة . وهو من مادة الريش . وهو
خبر مبتدأ محذوف أي : ولا هو راش الكعوب . و معلب : خبر بعد خبر . و المعلب : اسم
مفعول من علبت الشيء ( تعليباً ) : إذا شددته وحزمته بعلباء البعير و العلباء
بالكسر والمد : عصب العنق . وقوله : خرق من الخطي هو بكسر الخاء وسكون الراء
وبالجر : صفة لأسحم ذابل .
قال السكري في شرح أشعار هذيل : يعني بالخرق الرمح ضربه مثلاً . يقول : هو في
الرماح مثل الخرق في الفتيان . و الخرق : الذي يتصرف في الأمور ويتخرق فيها . و
أغمض حده : يعني ألطف ورقق حد السنان . و الشهاب : السراج شبه السنان به عن غير
أبي نصر . وقال الأخفش : خرق : ماض . وروى بعضهم : خرق من الخطي ألزم لهذما و
الخرق أي : بفتح الكسر : الطويل . و اللهذم : الحديد القاطع انتهى .
وقوله : مثل الشهاب بالجر : صفة أخرى . وقوله : مما يترص الخ يعني : هذا الرمح مما
يترص أي : يحكم في الصحاح : أترصته وترصته أي : أحكمته وقومته فهو مترص وتريص .
وهو بالتاء المثناة والراء والصاد المهملتين . و طالثقاف بالكسر : الخشبة التي
يقوّم بها الرمح . وقوله : أخذى أي : سنان أخذى وهو بالخاء والذال المعجمتين وهو
صفة .
قال السكري : أخذى : منتصب مثل الأخذى من الكلاب وهو المنتصب
____________________
الأذن
. وشبهه بخافية العقاب في الدقة والخافية : ما دون الريشات العشر من مقدم الجناح
وهي ريشة بيضاء . و مخرب بالخاء المعجمة . يقول : كأنه غضبان من الحرص أن يقع في
الدم . يقال : خرّبته بالتشديد فخرب كفرح . أي : أغضبته فغضب .
وقوله : لدن بهز الكف الخ بجر لدن صفة أخرى لأسحم ذابل ويجوز رفعه على أنه خبر
لمبتدأ محذوف أي : هو لدن و اللدن : اللين الناعم . و يعسل يشتد اهتزازه . وعسل
الثعلب )
والذئب في عدوه : إذا اشتد اضطرابه بفتح السين في الماضي وكسرها في المستقبل
والمصدر عسلاً وعسلاناً بتحريكهما . والباء في قوله : بهز بمعنى عند متعلقة بلدن .
قال ابن خلف في شرح أبيات سيبويه : والأحسن أن يكون ظرفاً ليعسل أي : يعسل متنه
عند هزه . فإن قيل : إن فيه ظرف قد عمل فيه يعسل فكيف يعمل في ظرف آخر فالجواب :
أنهما ظرفان مختلفان : لأن فيه ظرف مكان وبهز ظرف زمان . . و الهز : مصدر مضاف إلى
الفاعل والمفعول محذوف أي : بهز الكف إياه .
وقال أبو علي في إيضاح الشعر : التقدير في قوله يعسل متنه يعسل هو يريد أنه لا
كزازة فيه إذا هززته ولا جسو . ومثل ذلك قول الآخر : ( أو كاهتزاز رديني تعاوره **
أيدي التجار فزادوا متنه لينا ) ومثل ذكر المتن في هذه المواضع والمراد الجمهور
قول الآخر : يغشى قرا عارية أقراؤه
____________________
ألا
ترى أن المعنى يغشى هذه الفلاة ولا يريد تخصيص مكان منها دون مكان . قال ابن خلف :
ويجوز أن يريد ثعلب الرمح وهو طرفه الداخل في جلبة السنان أي : يضطرب وسطه كما
يضطرب طرفه لاعتداله واستوائه . ونبه بالأبعد على الأقرب لأنه إذا اهتز وسطه
فأطرافه أول . انتهى .
ولا يخفى أن ذكر الطريق على هذا يكون لغواً . والهاء من فيه ضمير الهز كما قاله
أبو علي ولبن الشجري . وأعاده ابن خلف على لدن . وجملة يعسل متنه مفسرة لقوله :
لدن . وما ذكر هو رواية س . ورواه السكؤي في أشعاره هذيل كذا : لذ بهز الكف يعسل
نصله و اللذ بالفتح : اللذيذ . يقول : هذا الرمح إذا هز بالكف فهو لذيذ أي : تلتذه
الكف .
والالتذاذ في التحقيق لصاحب الكف .
وقال السكري : يضطرب نصله كما يضطرب الثعلب في الطريق إذاعدا و النصل : السنان .
ورواية سيبويه هي الجيدة . وابن جؤية كما قال الآمدي في المؤتلف والمختلف ساعدة بن
جؤية . أخو بني كعب كاهل بن الحارث بن تميم بن سعد بن هذيل بن مدركة بن إلياس بن
مضر . شاعر محسن جاهلي . )
وشعره محشو بالغريب والمعاني الغامضة وليس فيه من الملح ما يصلح للمذاكرة . انتهى
.
وهو شاعر مخضرم أدرك الجاهلية والإسلام وأسلم وليست له صحبة . كذا قال ابن حجر في
الإصابة . فقول الآمدي : جاهلي ليس كما ينبغي . و جؤية بضم الجيم بعدها همزة
مفتوحة وبعد الهمزة ياء مشددة . هذا هو المشهور . وهو مصغر وفي مكبره خمسة أقوال
بينها ابن خلف في أوائل شرح أبيات سيبويه . ومقابل المشهور أنه ساعدة بن جوين .
والله أعلم .
____________________
وذكر الآمدي أن ابن جؤية شاعر آخر اسمه عائذ بن جؤية النصري اليربوعي .
وأنشد بعده وهو الشاهد السبعون بعد المائة وهو من شواهد س : ( عزمت على إقامة ذي
صباح ** لأمر ما يسود من يسود ) على أن الشاعر جر ذي صباح على لغة خثعم . وهو ظرف
لا يتمكن والظروف التي لا تتمكن لا تجر ولا ترفع . ولا يجوز مثل هذا إلا في لغة
هؤلاءالقوم أو في ضرورة .
قال سيبويه : وذو صباح بمنزلة ذات مرة تقول : سير عليه ذا صباح . خبرنا بذلك يونس
. إلا أنه قد جاء في لغة خثعم مفارقاً لذات مرة ولذات ليلة . وأما الجيدة العربية
فأن تكون بمنزلتها يريد بمنزلتها : ظرفاً قال رجل من خثعم : عزمت على إقامة . .
البيت . فهو على هذه اللغة يجوز فيه الرفع . انتهى .
وقال أبو البقاء في شرح الإيضاح : قيل : هو بمنزلة ذات مرة إلا أنه أخرجه عن الظرف
بالإضافة إليه وقيل : ذو زائدة أي : على إقامة صباح .
وجعل ابن جني في الخصائص إضافة ذي إلى صباح من إضافة المسمى إلى الاسم نحو : كان
عندنا ذات مرة أي : الدفعة المسماة مرة والوقت المسمى صباحاً . وأنشد هذا البيت .
____________________
قال أبو علي الفارسي في التذكرة : هذا البيت قاله الشاعر ولم يقل بيتاً غيره .
وكان استعان هو وقومه بملك على أعدائهم فقال : إن أردتم أعنتكم على أن يكون النهب
لي فقالوا : لا نريد ذلك فقاتلوا أعداءهم بأنفسهم فاستظهر عليهم أعداؤهم فلما رأى
استظهارهم عليهم أعانهم راضياً بأن لا يكون له النهب . فقال هذا الشاعر هذا البيت
فقط يمدحه . فاللام متعلقة )
بيسود كأنه قال : يسود لأمر من يسود أي : بعقله وفضله يسود ليس للاشيء بل لأمر فيه
.
انتهى وفيه : أنه ليس بيتاً مفرداً وإنما هو من أبيات . وليست القصة كما ذكرها .
قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب هذا البيت لأنس بن مدركة الخثعمي . وذلك :
أنه غزا هو ورئيس آخر من قومه بعض قبائل العرب متساندين فلما قربا من القوم أمسيا
فباتا حيث جن عليهم الليل فقام صاحبه فانصرف ولم يغنم وأقام أنس حتى أصبح فشن
عليهم الخيل فأصاب وغنم وغنم أصحابه . . فهذا معنى قوله : عزمت على إقامة ذي صباح
. وهو آخر الأبيات .
قال أبو الندى : وكان أنس مجاوراً لبني الحارث بن كعب فوجد أصحابه منهم جفاءً
وغلظة فأرادوا أن يفارقوهم فقال لهم : أقيموا إلى الصباح فلما ظفر بنو الحارث ببني
عامر يوم فيف الريح قال عند ذلك ما قال . وأول الأبيات : ( دعوت إلى المصاع
فجاوبوني ** بورد ما ينهنهه المذيد )
____________________
(
كأن غمامة برقت عليهم ** من الأصياف ترجسها الرعود ) عزمت على إقامة ذي صباح انتهى
ولا يخفى أن هذه الأبيات أجنبية لا يظهر ارتباطها بالبيت الأخير .
والمصاع : مصدر ماصع أي : قاتل والمصع : الضرب بالسيف . وقوله : على إقامة ذي صباح
لا يبعد أن يكون على تقدير : على إقامة ليل ليل ذي صباح . وما : زائدة للتوكيد .
يقول : عزمت على الإقامة إلى وقت الصباح لأني قد وجدت الرأي والحزم قد أوجبا ذلك .
ثم قال : لأمر ما يسود من يسود يريد : أن الذي يسوده قومه لا يسودونه إلا لشيء من
الخصال الجميلة والأمور المحمودة رآها قومه فيه فسودوه لأجلها .
أنشد صاحب الكشاف هذا البيت في سورة الإخلاص في جواب السائل : لم كانت هذه السورة
مع قصرها عدل القرآن قال الجاحظ في كتاب شرائع المروءة : وكانت العرب تسود على
أشياء : أما مضر فتسود ذا رأيها وأما ربيعة فمن أطعم الطعام وأما اليمن فعلى النسب
. وكان أهل الجاهلية لا يسودون إلا من تكاملت فيه ست خصال : السخاء والنجدة والصبر
والحلم والتواضع والبيان وصار في الإسلام سبعاً . وقيل لقيس بن عاصم : بم سدت قومك
قال : ببذل الندى وكف )
الأذى ونصرة المولى وتعجيل القرى . وقد يسود الرجل بالعقل والعفة والأدب والعلم .
وقال بعضهم : السودد اصطناع العشيرة واحتمال الجريرة .
وقال الأصمعي : ذكر أبو عمرو بن العلاء عيوب جميع السادة وما كان فيهم من الخلال
المذمومة إلى أن قال : ما رأيت شيئاً يمنع من السودد إلا قد رأيناه في سيد : وجدنا
الحداثة تمنع السودد وساد أبو جهل بن هشام وما طر شاربه ودخل دار الندوة وما استوت
لحيته .
ووجدنا البخل يمنع السودد وكان أبو سفيان بخيلاً عاهراً وكان عامر بن الطفيل
بخيلاً فاجراً وكان سيداً . والظلم يمنع من السودد
____________________
وكان
كليب بن وائل ظالماً وكان سيد ربيعة وكان حذيفة حذيفة بن بدر ظالماً وكان سيد
غطفان . والحمق يمنع السودد وكان عيينة بن حصن أحمق وكان سيداً . وقلة العدد تمنع
السودد وكان السيل بن معبد سيداً ولم يكن بالبصرة من عشيرته رجلان . والفقر يمنع
السودد وكان عتبة بن ربيعة مملقاً وكان سيداً .
وناظم هذا البيت أنس بن مدرك الخثعمي كما ذكرنا . وهو جاهلي .
وصحفه ابن خلف في شرح أبيات سيبويه بأوس بن مدرك وقال : أوس من الأسماء المنقولة
إلى العلمية . والأوس هنا الذئب وإن أمكن أن يكون من العطية .
وكشفت عن اسمه في الجمهرة لابن الكبي فوجدته قال في جمهرة خثعم بن أنمار ما نصه :
أنس بن مدرك بن كيعب بالتصغير بن عمرو بن سعد بن عوف بن العتيك بن حارثة بن سعد بن
عامر بن تيم الله بن مبشر بن أكلب بن ربيعة بن عفرس بن حلف بن أفتل وهو خثعم . وهو
أبو سفيان الشاعر . وقد رأس . انتهى .
ونقل ابن خلف عن الجاحظ : أن هذا البيت لإياس بن مدركة الحنفي . وهذا غير مناسب
فإنهم نقلوا أن قائل هذا البيت خثعمي لا حنفي . وخثعم أبو قبيلة من اليمن وهو خثعم
بن أنمار بن إراش بن عمرو بن الغوث بن نبت بن مالك بن زيد بن كهلان بن سبأ .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الحادي والسبعون بعد المائة صلاءة ورس وسطها قد تفلقا
____________________
على
أن وسط ساكنة السين قد تتصرف وتخرج عن الظرفية كما في هذا البيت .
وصدره : أتته بمجلوم كأن جبينه فوسطها مرفوع على أنه مبتدأ وجملة قد تفلق خبره .
كذا أورده أبو علي الفارسي في الإيضاح الشعري وابن جني في الخصائص وأوردا له نظائر
.
قال ثعلب في الفصيح : جلس وسط القوم بسكون السين وجلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه
بفتح السين . قال شارحه الإمام المرزوقي : النحويون يفصلون بينهما ويقولون : وسط
بسكون السين اسم الشيء الذي ينفك عن المحيط به جوانبه تقول : وسط رأسه دهن لأن
الدهن ينفك عن الرأس ووسط رأسه صلب لأن الصلب لا ينفك عن الرأس . وربما قالوا :
إذا كان آخر الكلام هو الأول فاجعله وسطاً بالتحريك وإذا كان آخر الكلام غير الأول
فاجعله وسطاً بالتسكين .
وحكى الأخفش : أن وسطاً قد جاء في الشعر اسماً وفارق الظرفية وأنشد بيتاً آخره
وسطها قد تفلقا وسطها مبتدأ مرفوع . ويقال : وسطت الأمر أسطه وسطاً بالسكون . وأبو
العباس ثعلب راعى فيما اختاره هنا أن وسطاً إذا كان بعض ما أضيف إليه يحرك السين
منه وإذا كان غير ما أضيف إليه يسكن سينه ألا ترى أن وسط الدار بعضها وأن وسط
القوم غيرهم فاما تفسيرهم لوسط ببين فبين لشيئين يتباين أحدهما عن الآخر فصاعداً
تقول : بين زيد وعمرو بين لتباينهما وإن كررت بين للتأكيد جاز . ووسط لشيئين يتصل
أحدهما بالآخر تقول : وسط الحصير قلم ولا تقول : بين الحصير قلم إلا أنه يستعار
فيوضع بدلاً منه . انتهى .
____________________
وقال ابن هشام اللخمي في شرح الفصيح : وسط الشيء وأوسطه : ما بين طرفيه فإذا سكنت
السين كان ظرفاً وإذا فتحتها كان اسماً فإنما يكون اسماً إذا أردت به الوسط كله
ويكون ظرفاً إذا لم ترد به الوسط كله وذلك إذا حسنت فيه في تقول : قعدت وسط الدار
فوسط الدار ساكن الوسط وهو السين لأنه ظرف ولأنك لا تأخذ بقعودك وسط الدار كله
وإنما تريد قعدت في وسط الدار فلما أسقطت في انتصب على الظرف . )
فإن قلت : ملأت وسط الدار قمحاً فتحت السين لأنه مفعول به لأن ملأت لا يقع إلا على
الوسط كله فقمح نصب على التمييز لأن التقدير ملأت وسط الدار من قمح . وكذلك تقول :
حفرت وسط الدار بئراً وبنيت وسط الدار مجلساً فوسط مفعول به وبئراً ومجلساً
منصوبان على الحال .
قال أبو علي في التذكرة : فإن قلت : إنه في حال ما يحفر ليس ببئر فإن ذلك تجوز ألا
ترى قوله تعالى : إني أراني أعصر خمراً فالبئر أقرب من هذا ألا ترى أن هذا في حال
العصر ليس بخمر حتى يشتد وبعض الآبار في العمق أقل من بعض ولا يخرجه ذلك عن أن
يكون بئراً . ويجوز أن يحمل حفرت على معنى جعلت فتنصبه على أنه مفعول فإن هذا مذهب
البصريين .
وأكثر اللغويين يجعلون الوسط والوسط بمعنى واحد وهو مذهب أبي العباس وتمثيله يدل
على ذلك لأنه قال : وجلس وسط الناس يعني بينهم بسين ساكنة على أن وسطاً ظرف ولذلك
قدره بالظرف ثم قال : وجلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه بتحريك السين . وهذا لا يجوز
عند البصريين لأنه إذا فتح السين كان اسماً وإذا كان اسماً لم ينصبه إلا الفعل
المتعدي .
فقوله : جلس وسط الدار واحتجم وسط رأسه بفتح السين لا يجوز لما قدمنا . فإن سكنت
السين كان ظرفاً وكان العامل فيه جلس . فاعلم ذلك انتهى .
وهذا مخالف لما قاله الإمام المرزوقي فتأمل وروى أبو الحسن علي بن محمد المدايني
في كتاب النساء الناشزات كما سيأتي نصفها قد تعلقا وعليه لا شاهد فيه
____________________
والمجلوم
بالجيم واللام : اسم مفعول من جلمت الشيء جلماً من باب ضرب : قطعته فهو مجلوم
وجلمت الصوف والشعر : قطعته بالجلمين : وهذا هو المراد هنا .
قال صاحب المصباح : الجلم بفتحتين : المقراض والجلمان بلفظ التثنية مثله كما يقال
فيه : المقراض والمقراضان والقلم والقلمان . ويجوز أن يجعل الجلمان والقلمان اسماً
واحداً على فعلان كالسرطان والدبران وتجعل النون حرف إعراب . ويجوز أن يبقيا على
بابهما في إعراب المثنى فيقال : شريت الجلمين والقلمين . انتهى .
وهذه رواية أبي زيد وغيره . ورواه أبو حاتم : أتته بمحلوق من حلق رأسه بالموسى
مثلاً من باب ضرب .
والجبين : ناحية الجبهة من محاذاة النزعة إلى الصدغ وهما جبينان : عن يمين الجبهة
وشمالها قاله )
الأزهري وابن فارس وغيرهما . فتكون الجبهة بيبن جبينين . وجمعه جبن بضمتين وأجبنة
مثل أسلحة كذا في المصباح .
والصلاية بفتح الصاد : الحجر الأملس الذي يسحق عليه شيء ويقال : صلاءة أيضاً
بالهمزة .
وروي هنا بهما . قال في الصحاح : والصلاية : الفهر أي : حجر ملء الكف وإنما قال
امرؤ القيس : فأضافه إليه لأنه يفلق به إذا يبس . والورس بفتح الواو وسكون الراء :
نبت أصفر يزرع باليمن ويصبغ به وقيل : صنف من الكركم وقيل : يشبهه .
____________________
وقوله
: قد تفلقا يقال : فلقته فلقاً من باب ضرب : شققته فانفلق وفلّقته بالتشديد :
مبالغة ومنه خوخ مفلّق اسم مفعول وكذلك المشمس ونحوه : إذا تفلق عن نواه وتجفف فإن
لم يتجفف فهو فلوق بضم الفاء واللام مع تشديدها . وتفلق الشيء : تشقق كذا في
المصباح .
وهذا البيت من أبيات ثمانية للفرزدق رواها أبو الحسن علي بن محمد المدائني في كتاب
النساء الناشزات قال : زوّج جرير بن الخطفى بنته عضيدة بن عضيدة ابن أخي امرأته
وكان منقوص العضد فخلعها منه أي : طلّقها بفدية فقال الفرزدق : ( ما كان ذنب التي
أقبلت نعتلها ** حتى اقتحمت بها أسكفة الباب ) ( كلاهما حين جد الجري بينهما ** قد
أقلعا وكلا أنفيهما رابي ) ( يا ابن المراغة جهلاً حين تجعلها ** دون القولص ودون
البكر والناب ) وقال الفرزدق أيضاً : الطويل
____________________
(
لئن أم غيلان استحل حرامها ** حمار الغضا من ثقل ما كان رنّقا ) ( لما نال راق
مثلها من كعابة ** علمناه ممن سار غرباً وشرّقا ) ( إذا بركت لابن الشغور ونوّخت
** على ركبتيها للبروك والحقا ) ( فما من دراك فاعلمن لنادم ** وإن صك عينيه
الحمار وصفّقا ) ( وكيف ارتدادي أم غيلان بعدما ** جرى الماء في أرحامها وترقرقا )
( ستعلم من يخزى ويفضح قومه ** إذا ألصقت عند السفاد وألصقا ) ( أبيلق رقّاء أسيّد
رهطه ** إذا هو رجلي أم غيلان فرّقا ) فأجابه جرير بن الخطفى : ) ( هلاّ طلبت بعقر
جعثن منقراً ** ومجرّها وتركت ذكر الأبلق ) ( سبعون والوصفاء مهر بناتنا ** إذ مهر
جعثن مثل حزر البندق ) ( كم قد أثير عليكم من خزية ** ليس الفرزدق بعدها بفرزدق )
انتهى ما أورده المدائني .
وقوله : أقبلت تعتلها يقال : عتلت الرجل أعتله من بابي نصر وضرب : إذا جذبته
عنيفاً .
وضمير المؤنث لأم غيلان بنت جرير .
وروى أبو زيد في نوادره :
____________________
ما
بال لومكما إذ جئت تعتلها خطاباً لجرير وزوجته من اللوم وهو التعنيف . وروى
المبرّد في الاعتنان : ما بال لومكما بضمير المؤنث فيكون ضمير بنته عضيدة . وقوله
: حتى اقتحمت بها الخ أي : إلى أن أدخلتها عتبة بابك .
وقوله : كلاهما حين جدّ الجري الخ ضمير التثنية لابنة جرير عضيدة ولزوجها . وزعم
العيني وغيره أن الضمير للفرسين . وزاد شارح شواهد المغني أن فيه التفاتاً والأصل
كلاكما . ورد عليه شارح المغني الحلبي بأنه يأباه قول الشارحين أن البيت في وصف
فرسين تجاريا . وهذا لا أصل له وكأنهم فهموه من ظاهر البيت وسببه أنهم لم يقفوا
على منشأ الشعر .
وقوله : جدّ الجري أي : اشتد العدو . وقوله : قد أقلعا يقال : أقلع عن الأمر
إقلاعاً : إذا تركه والصلة هنا محذوفة أي : أقلعا عن الجري . وقوله : رابي من
الربو وهو النفس العالي المتتابع يقال : ربا يربو : إذا أخذه الربو . والبهر بضم
الباء وهو تتابع النفس . وهذا تمثيل وتشبيه يقول : إن بنت جرير وزوجها قد افترقا
حين حصلت الألفة بينهما ولم يمضيا على حالهما فهما كفرسين جدّا في الجري ووقفا قبل
الوصول إلى الغاية .
وهذا البيت من شواهد مغني اللبيب وغيره من كتب النحو وأورد شاهداً على أنّ كلا يجوز
مراعاة لفظها فيعود الضمير إليها مفرداً ومراعاة معناها فيعود الضمير عليها مثنّى
وقد اجتمعا وقوله : يا ابن المراغة الخ المراغة : الأتان والفرزدق يقول لجرير يا
ابن المراغة تعبيراً له بأن عشيرته بني كليب أصحاب حمير . وقال الغوريّ : لأنّ أمه
ولدته في مراغة الإبل . وقال ابن عباد : المراغة الأتان لا تمنع الفحولة وبذلك هجا
الفرزدق جريراً . وقال بعضهم : المراغة أم جرير لقبها )
به الأخطل . يريد : أنها كانت مراغة للرجال كذا في العباب للصاغاني .
وقوله : جهلاً حين تجعلها إلخ يريد : إنك جهلت في تزويجك إياها لغير أهل الإبل .
____________________
وقوله : لئن أم غيلان الخ أم غيلان هي بنت جرير وأراد بحمار الغضا زوجها وهو فاعل
استحل وحرامها مفعوله . يقول : إن استحلّ بضعها ما كان حراماً عليه قبل العقد . و
رنّق بالراء المهملة والنون بمعنى أقام في العباب و رنّق القوم بالمكان : إذا
أقاموا به و رنّق الطائر : إذا خفق بجناحيه ورفرف فوق الشيء ولم يطر . أراد من
كثرة إقامته مع الإلحاح .
وقوله : لما نال راق الخ هذا جواب القسم وجواب الشرط محذوف وراق بالتنوين اسم فاعل
من رقيت السطح والجبل : علوته يتعدى بنفسه . ومثلها : مفعوله . وكعابة بكسر الكاف
: مصدر كعبت الجارية تكعب كعوباً وكعابة إذا بدا ثديها فهي كاعب وكعاب بالفتح وفيه
مضاف محذوف أي : من ذات كعابة . وقوله : علمناه الجملة صفة راق .
وقوله : حبته بمحلوق أي : خصّصته بإعطاء فرج محلوق . وروي : أتته بمحلوق . وهذا
البيت في وقوله : إذا برت لابن الشغور إلخ هذه كلمة سب والشغور في الأصل : الناقة
التي تشغر بقوائمها إذا أخذت لتركب أو تحلب . وقوله : ونوّخت بالنون والخاء
المعجمة بالبناء للمفعول يقال : تنوّخ الجمل الناقة : أناخها ليسفدها . و البروك :
مصدر برك بروكاً أي : استناخ قال جرير : ( وقد دميت مواقع ركبتيها ** من التّبراك
ليس من الصلاة ) وقوله : ألحفا من ألحق الشيء بالشيء أي : أوصله به معطوف على بركت
.
وقوله : فما من دراك الخ أي : لا يقدر أن يلحقهما قادم عليهما أي : لا يتفرقا منه
لشدة شبقهما . وقوله : وإن صك الخ إن وصلية وصكّه :
____________________
ضربه
والحمار فاعله . والتصفيق : الردّ والصرف .
وقوله : أبيلق رقّاء مصغر أبلق وهو اسم زوج بنت جرير ورقّاء مبالغة راق صفة لأبيلق
.
وأسيّد مفعوله مضاف لما بعده . قال المبرّد في الاعتنان : كان جرير زوّج بنته
الأبلق الأسيدي أسيّد بن عمرو بن تميم فلم يحمده . وذكر هجاء جرير إياه ورهطه .
وقوله : هلا طلبت بعقر الخ العقر بالضم : دية فرج المرأة إذا غصبت على نفسها .
وجعثن بكسر الجيم والمثلثة : اسم أخت الفرزدق . ومنقر بكسر الميم وفتح القاف .
أراد أولاد الأشدّ المنقريّ وكان عمران بن مرّة المنقري أسر جعثن أخت الفرزدق يوم
السّيدان وفيه يقول جرير : ) ( خزي الفرزدق بعد وقعة سبعة ** كالحصنمن ولد الأشدّ
ذكور ) وقال أيضاً : ( على حفر السيدان لاقيت خزية ** ويوم الرحا لم ينق ثوبك
غاسله ) ( وقد نوّختها منقر قد علمتم ** لمعتلج الدأيات شعر كلاكله ) ( يفرج عمران
بن مرة كينها ** وينزو نزاء العير أعلق حائله ) والغمز : شبه الطعن والدفع .
والكين : لحم الفرج . والنغانغ :
____________________
أورام
تحدث في الحلق . والمعذور : الذي أصابته العذرة وهو وجع الحلق . يريد أن اخته
نكحها حين أسرت سبعة من ولد الأشد المنقري . ويقال : علقت الأنثى من الذكر وأعلقت
: إذا حملت . والحائل : التي يضربها الفحل فلا تحمل . وهذا افتراء من جرير على
جعثن فإنها كانت من النساء الصالحات وقد اعترف جرير بقذفه إياها وندم عليه وكان
يستغفر الله مما قذفها به كما مر .
والأبلق : زوج بنت جرير . وقوله : سبعون والوصفاء هو جمع وصيف . يريد : أن مهر
بناتنا سبعون من الإبل مع الوصفاء .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثاني والسبعون بعد المائة الطويل ( ألا قالت الخنساء يوم لقيتها ** أراك
حديثاً ناعم البال أفرعا ) على ان صفة الزمان القائمة مقام الموصوف يلزمها الظرفية
عند سيبويه كما في هذا البيت .
أي : زماناً حديثاً .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة مذكورة في الحماسة ثانيها : ( فقلت لها : لا تنكريني
فقلّما ** يسود الفتى حتى يشيب ويصلعا ) ( وللقارح اليعبوب خير علالة ** من الجذع
المرخى وأبعد منزعا ) الرواية في الحماية وشروحها :
____________________
ألا
قالت العصماء لمّا لقيتها والعصماء : امرأة . والحديث هنا : نقيض القديم وهو هنا
ظرف . يقول : قالت لي هذه المرأة لما التقيت معها : أعلمك عن قريب ناعم الحال أفرع
أي : تام شعر الرأس لم يتسلط صلع ولا حدث انحسار شعر فكيف تغيرت مع قرب الأمد
والرؤية بصرية وناعم البال : مفعوله وأفرعا صفته . وناعم : من نعم الشيء بالضم :
أي : صار ناعماً ليناً وكذلك نعم ينعم مثل حذر يحذر وفيه لغة ثالثة مركبة بينهما :
نعم ينعم بكسر الأول وضم الثاني ولغة رابعة نعم ينعم بكسر عينيهما وهو شاذ كذا في
الصحاح .
والبال : القلب وخطر ببالي أي : بقلبي وهو رخيّ البال أي واسع الحال وهذا هو
المراد . قال ابن الأنباريّ في شرح المفضليات : و الأفرع بالفاء والراء والعين
المهملتين هو الكثير شعر الرأس يقال : رجل أفرع وامرأة فرعاء وقد فرع من باب فرح .
وضدّ الأفرع الأزعر والمرأة زعراء انتهى .
وقال صاحب الصحاح : الفرع بفتحتين : مصدر الأفرع وهو التام الشعر وقال ابن دريد :
امرأة فرعاء كثيرة الشعر قال : ولا يقال للرجل إذا كان عظيم اللحية أو الجمّة أفرع
وإنما يقال أفرع لضد الأصلع انتهى .
وهذا المصراع الثاني قد وقع في قصيدة متمم بن نويرة التي رثى بها أخاه مالك بن
نويرة وهو : ( تقول ابنة العمريّ مالك بعدما ** أراك حديثاً ناعم البال أفرعا ) )
وقوله : فقلت لها الخ يقول : قلت لها : لا تستنكري ما رأيت من شحوب لوني وانحسار
شعر رأسي فما ينال الفتى السيادة حتى يستبدل بشبيبته شبيباً وبوفور شعر رأسه صلعاً
.
وقوله : وللقارح اليعبوب الخ القارح من الخيل بمنزلة البازل من الإبل وهو الذي تمت
واستحكمت قوته . والقروح : انتهاء السنّ واليعبوب : الفرس الكثير الجري والجذع :
ماله سنتان . والعلالة بالضم : بقية الجري ويريد به هنا الجري . والمرخى : الذي
يرخى في سيره قليلاً قليلاً لا يكلف أكثر من ذلك . ويروى : المرخي بكسر الخاء
والإرخاء : لين في العدو . ويروى بفتح الخاء وهو المرسل المهمل . و المنزع :
النزوع إلى الغاية . وانتصاب
____________________
منزعاً
وعلالة على التمييز وهذا مثل ضربه في تفضيل نفسه مع شيخوخته وقد أدّبه الدهر على
الأحداث الذين لم يجربوا الأمور فيقول : للفرس المتناهي في القوة والسن الذي يجري
جرية الماء سهولة ونفاذاً خير بقاء وأبعد غاية من ابن سنتين وهو مهمل لم يؤدب
بإسراج ولا إلجام .
وهذا الشعر لم يذكر قائله أحد من شراح الحماسة .
وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والسبعون بعد المائة : الكامل باكرت حاجتها الدجاج
بسحرة عجزه : لأعل منها حين هب نيامها على أن الدجاج منصوب على الظرف بتقدير
مضافين أي : وقت صياح الدجاج إذا كانت باكرت بمعنى بكرت لا غالبت بالبكور .
أقول : باكر متعد بنفسه إلى مفعول واحد قال في المصباح : وباكرت بمعنى بكرت إليه .
وحاجتها : مفعول باكرت . وبكر بالتخفيف من باب قعد فعل لازم يتعدى بإلى يقال : بكر
إلى الشيء بمعنى بادر إليه أيّ وقت كان .
وقال أبو زيد في كتاب المصادر : بكر بكوراً وغدا غدوّاً هذان من أول النهار . فإذا
نقل إلى فاعل للمغالبة تعدّى إلى مفعول واحد . تعدى إلى مفعول واحد . ومعنى
المغالبة أن يغلب الفاعل المفعول في معنى المصدر . فضمير المتكلم الذي هو التاء
فاعل وقد غالب )
الدجاج وهو المفعول في البكور فغلبه فيه . فيكون حاجتها : منصوباً بنزع الخافض وهو
إلى لأن أصل باكر يتعدى به كما ذكرنا . فإذا كان باكر من باب المغالبة كان للتكثير
في البكور إلى الحاجة نحو ضاعفت الشيء بمعنى
____________________
كثرت
أضعافه فيكون قوله : حاجتها مفعوله ويكون الدجاج منصوباً على الظرف بتقدير مصدر
مضاف والتقدير صياح الدجاج وهذا المصدر نائب عن اسم الزمن الواقع ظرفاً أي : وقت
صياحه .
وقد ذكر ابن قتيبة هذا البيت في أبيات المعاني وحمله على المغالبة مع تقديره
المضاف فقال : أي : بادرت بحاجتي إلى شربها أصوات الدّيكة لأشرب منها مرة بعد مرة
: وهو العلل انتهى .
ومعنى بادرت سبقت . وكذا قال شراح المعلقات : وهذا البيت من معلقة لبيد بن ربيعة
المشهورة وقبله : ( أغلي السباء بكل أدكن عاتق ** أو جونة قدحت وفضّ ختامها ) (
بصبوح صافية وجذب كرينة ** بموتر تأتاله إبهامها ) باكرت حاجتها الدجاج بسحرة قوله
: أغلى بضم الهمزة أي : أشتري غالياً . والسباء : بالكسر والمد : اشتراء الخمر ولا
يستعمل في غيرها يقال : سبأت الخمر بالهمز أسبؤها بالضم سبئاً بسكون الباء ومسبأ :
إذا ( كأساً بفيها صهباء مغرقة ** يغلو بأيدي التجار مسبؤها ) أي : غنها من جودتها
يغلو اشتراؤها واستبأتها مثله والاسم السباء على فعال بكسر الفاء ومنه سميت الخمر
سبيئة على وزن فعيلة وخمارها سبّاء على فعّال
____________________
بالتشديد
. وأما إذا اشتريتها لتحملها إلى بلد آخر قلت سبيت الخمر بلا همز كذا في الصحاح
والباء بمعنى مع .
والأدكن : الزق الأغبر . والعاتق : قيل هي الخالصة يقال لكل ما خلص : عاتق وقيل :
التي عتقت وقيل : التي لم تفتح . فهو من صفة الخمر وهو الصحيح لأنه يقال : اشترى
زق خمر وإنما اشترى الخمر : ف عاتق مضاف إليه . وقيل : العاتق من صفات الزقّ فهو
وصف لأدكن .
والجونة بفتح الجيم : الخابية .
وقدحت بالبناء للمفعول بمعنى غرفت والمقدحة بالكسر : المغرفة وقيل : قدحت : مزجت
وقيل : معناه بزلت يقال : بزلت الشيء بزلاً بالموحدة والزاي المعجمة إذا ثقبته
واستخرجت ما فيه . وفضّ كسر وختامها : طينها . وفيه تقديم وتأخير أي : فض ختامها
وقدحت لأنه ما لم )
يكسر ختامها لا يمكن اغتراف ما فيها . يقول : أشتري الخمر غالية السعر : باشتراء
كل زق أدكن أو خابية سوداء قد فض ختامها واغترف منها . وتحرير المعنى : أشتري
الخمر للندماء عند غلاء السعر . وأشتري كل زق مقير أو خابية مقيّرة . وإنما قيّرا
لئلا يرشحا بما فيهما .
وقوله : بصبوح صافية الخ والصبوح : شرب الغداة ويريد : بالصافية الخمر والكرينة
بفتح الكاف وكسر الراء المهملة : المغنية بالعود والكران بكسر الكاف هو العود .
والموتر : العود الذي له أوتار . وتأتاله بفتح اللام الجارّة : من قولك تأتيت له
كأنها تفعل ذلك على مهل وترسل . ويروى : تأتاله بضم اللام : من قولك ألت الأمر :
إذا أصلحته كذا في شروح المعلقات .
وروي : وصبوح صافية بواو ربّ والمعنى : كم صبوح من خمر صافية استمتعت باصطباحها
وجذب عوّادة عوداً موتّراً يعالجه إبهام العوّادة استمتعت بالإصغاء إلى غنائها .
وقوله : باكرت حاجتها الخ باكرت متعالق قوله : بصبوح صافية على رواية الباء وهو
جواب واو ربّ على رواية الواو . وروي : بادرت موضع باكرت . وضمير حاجتها راجع إلى
الصافية المارد منها الخمر ومعناه : حاجتي في الخمر فأضاف الحاجة إلى ضمير الخمر
اتساعاً وجعله الشارح المحقق فيما يأتي
____________________
قريباً
من باب إضافة المصدر إلى ظرفه وقال : إلا أنه كالمضاف إلى المفعول به المنصوب بنزع
الخافض أي : حاجتي إليها وهو في الحقيقة بمعنى الللام . وروي في ديوانه : باكرت
لدّتها الدجاج وهو جمع دجاجة بفتح الدال وكسرها يطلق على الذكر والأنثى والهاء
للواحد من الجنس والمراد هنا الديوك . والمعنى : باكرت بشربها صياح الديكة .
والسحرة بالضم : أول السّحر . وقوله : لأعلّ متعلق بباكرت وبالبناء للمفعول من
الغلل وهو الشرب الثاني وقد يقال للثالث والرابع : علل من قولهم : تعلّلت به أي :
انتفعت به مرة بعد مرة والنهل محركة : الشرب الأوّل . أي : تعاطيت شربها قبل صدح
الديك لأسقى منها مرة بعد أخرى أي : حين استيقظ نيام السحر . وهبّ من نومه :
استيقظ . ونيام : جمع نائم .
ومثله للنابغة الجعديذ : ( سبقت صياح فراريجها ** وصوت نواقيس لم تضرب ) قال
الأصمعي : الفراريج : الديكة .
وقال جرير مثله : ( لما تذكرت بالديرين أرّقني ** صوت الدجاج وضرب بالنواقيس ) )
وترجمة لبيد بن ربيعة تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع والسبعون بعد المائة يا سارق الليلة أهل الدار على
أنه قد يتوسع في الظروف المنصرفة فيضاف إليها المصدر والصفة المشتقة منه فإن الليل
ظرف متصرّف وقد أضيف إليه سارق وهو وصف .
وقد وقع هذا في كتاب سيبويه . وأورده الفرّاء أيضاً في تفسيره عند قوله تعالى فلا
تحسبن الله مخلف وعده رسله وقال : أضاف سارق إلى الليلة ونصب أهل . وكان بعض
النحوييين ينصب الليلة ويخفض أهل فيقول : يا سارق الليلة أهل الدار هذا كلامه .
قال ابن خروف في شرح الكتاب : أهل الدار منصوب بإسقاط الجار ومفعوله الأول محذوف
والمعنى : يا سارق الليلة لأهل الدار متاعاً فسارق متعد لثلاثة أحدهما الليلة على
السعة والثاني بعد إسقاط حرف الجر والثالث مفعول حقيقي . وجميع الأفعال متعديها
ولازمها يتعدى إلى الأزمنة والأمكنة . انتهى .
وفيه نظر فإن أهل اللغة نقلوا : أن سرق يتعدى بنفسه إلى مفعولين قال صاحب المصباح
وغيره : سرقه مالاً يسرقه من باب ضرب وسرق منه مالاً يتعدى إلى الأول بنفسه
وبالحرف فجعل من في المثال الثاني زائدة . فالصواب أن الليلة هو المفعول الأول
وأهل الدار بدل منها فيقتضي أن يكون منصوباً بسارق آخر لأن البدل على نية تكرار
العامل والمفعول الثاني حذف لإرادة التعميم أي : متاعاً ونحوه .
قال السيد في شرح الكشاف : وأهل الدار منصوب بسارق لاعتماه على حرف النداء كقولك :
يا ضارباً زيداً ويا طالعاً جبلاً . وتحقيقه : أن النداء يناسب الذات فاقتضى تقدير
الموصوف أي : يا شخصاً ضارباً . انتهى .
ولم يجر للمفعول الثاني ذكراً وكأنه لوضوحه تركه .
____________________
وقول الفناري في حاشية المطول : الظاهر أن انتصاب أهل الدار بمقدر أي : احذر أهل
الدار خلاف المعنى المقصود . قال السيد : والاتساع في الظرف أن لا يقدر معه في
توسعاً فينصب نصب المفعول به كقوله : ويوماً شهدناه أو يضاف إليه على وتيرته ك
مالك يوم الدين وسارق )
الليلة حيث جعل اليوم مملوكاً والليلة مسروقة وأما مكر الليل والنهار فإن جعلا
ممكوراً بهما كما يقتضيه سياق كلامه في المفصل كان مثالاً لما نحن فيه : من إجراء
الظرف مجرى المفعول به وإن جعلا ماكرين كانا مشبهين به في إعطاء الظرف حكم غيره .
والإضافة في الكل بمعنى اللام .
ولم يقيد المصنف يعني الزمخشري الإضافة بمعنى في وإن كانت رافعة مؤنة الاتساع وما
يتبعه من الإشكال إما لأن إجراء الظرف مجرى المفعول به قد تحقق في الضمائر بلا
خلاف وصورة الإضافة لما احتملت وجهين كانت محمولة على ما تحقق فلا إضافة عندهم
بمعنى في .
وإما لأن الاتساع يستلزم فخامة في المعنى فكان عند أرباب البيان بالاعتبار أولى .
ومن أثبتها من النحاة فلنظرة في تصحيح العبارة على ظاهرها . انتهى كلامه .
وقوله : وما يتبعه من الإشكال هو وصف المعرفة بالنكرة لأن الإضافة على الاتساع
لفظية فيشكل كونه صفة للاسم الكريم فلو كانت الإضافة بمعنى في لكانت معنوية وصح
الوصف به لحصول التعريف للمضاف بناء على أن الإضافة اللفظية لا تكون على تقدير حرف
.
واعلم أن صاحب الكشاف قال في مالك يوم الدين : معنى الإضافة على الظرفية بعد أن
قال : إن يوم الدين أضيف إليه مالك على الاتساع فظاهره التنافي بينهما لأن الإضافة
على الاتساع لفظية وكون المعنى على الظرفيى يقتضي أن الإضافة معنوية . فدفعه السيد
بقوله : يعني أن الظرف وإن قطع في الصورة عن تقدير في وأوقع موقع المفعول به إلا
أن المعنى المقصود الذي سيق الكلام لأجله على الظرفية لأن كونه مالكاً ليوم الدين
كناية عن كونه مالكاً فيه للأمر كله فإن تملّك الزمان كتملك المكان يستلزم تملّك
جميع ما فيه انتهى .
____________________
وإضافة الوصف إلى الظرف المذكور من قبيل المجاز اللغوي عند السيد ومن باب المجاز
الحكمي عند التفتازاني .
ورده السيد بقوله : ومن قال : الإضافة في مالك يوم الدين مجاز حكمي ثم زعم أن
المفعول به محذوف عامّ يشهد لعمومه الحذف بلا قرينة ورد عليه أن مثل هذا المحذوف
مقدر في حكم الملفوظ فلا مجاز حكمياً كما في واسأل القرية إذ كان الأهل مقدراً
انتهى .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الخامس والسبعون بعد المائة وهو من شواهد : أستغفر الله ذنباً هو قطعة من
بيت وهو : ( أستغفر الله ذنباً لست محصيه ** رب العباد إليه الوجه والعمل ) على أن
الأصل استغفر الله من ذنب فحذف من لأن استغفر يتعدى إلى المفعول الثاني بمن .
ومعناه طلب المغفرة أي : الستر على ذنوبه . وأراد بالذنب جميع ذنوبه فإن النكرة قد
تعم في الإثبات . ويدل عليه قوله : لست محصيه أي : انا لا أحصي عدد ذنوبي التي
أذنبتها وأنا أستغفر الله من جميعها . ورب العباد صفة للاسم الكريم . قال الأعلم :
والوجه هنا : القصد والمراد وهو بمعنى التوجه أي : إليه التوجه في الدعاء والطلب
والمسألة والعبادة والعمل له .
يريد : هو المستحق للطاعة .
____________________
وهذا
البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها .
وأنشد بعده وهو الشاهد السادس والسبعون بعد المائة وهو من شواهد المفصل : كوكب
الخرقاء وهو قطعة من بيت وهو : ( إذا كوكب الخرقاء لاح بسحرة ** سهيل أذاعت غزلها
في القرائب ) على أن الشيء قد يضاف إلى الشيء لأدنى ملابسة .
بيانه : أن الخرقاء هي المرأة التي لا تحسن عملاً والأخرق : الرجل الذي لا يحسن
صنعة وعملاً يقال : خرق بالشيء من باب قرب : إذا لم يعرف عمله . وذلك إما من تنعم
وترفه أو من عدم استعداد وقابلية . ومنه الخرقاء صاحبة ذي الرمة فإنه أول ما رآها
أراد أن يستطعم كلامها فقدم إليها دلواً فقال : اخرزيها لي فقالت : إني خرقاء أي :
لا أحسن العمل وليس الخرقاء هنا المرأة الحمقاء كما توهم فأضاف الكوكب إلى الخرقاء
بملابسة أنها لما فرطت في غزلها في الصيف ولم تستعد للشتاء استغزلت قرائبها عند
طلوع سهيل سحراً وهو زمان مجيء البرد فبسبب هذه الملابسة سمي سهيل كوكب الخرقاء .
)
والإضافة لأدنى ملابسة من قبيل المجاز اللغوي عند السيد ومن المجاز العقلي عند
التفتازاني . قال السيد في شرح المفتاح في بيان الإضافة لأدنى ملابسة : الهيئة
التركيبية في الإضافة اللامية موضوعة للاختصاص الكامل المصحح لأن يخبر عن المضاف
بأنه للمضاف إليه . فإذا استعملت في أدنى ملابسة كانت مجازاً لغوياً لا حكمياً كما
توهم . لأن المجاز في الحكم إنما يكون بصرف النسبة عن محلها الأصلي إلى محل آخر
لأجل ملابسة بين المحلين . .
وظاهر أنه لم يقصد صرف نسبة
____________________
الكوكب
عن شيء إلى الخرقاء بواسطة ملابسة بينهما بل نسب الكوكب إليها لظهور جدها في تهيئة
ملابس الشتاء بتفريقها قطنها في قرائبها ليغزل لها في زمان طلوعه الذي هو ابتداء
البرد فجعلت هذه الملابسة بمنزلة الاختصاص الكامل . وفيه لطف . انتهى كلامه .
وبه يسقط أيضاً كلام السيد عيسى الصفوي في جعله هذه الإضافة حقيقية وليس من المجاز
في شيء فإنه قال في مناقشته : فإن ذلك مما لم يفهم من كلامهم والأصل الحقيقة . مع
أنهم صرحوا بأن اللام معناه الحقيقي مطلق الاختصاص بمعنى المناسبة التامة وزيادة
الخصوصية . فلا مجاز في قولنا كوكب الخرقاء انتهى .
وكوكب الخرقاء : فاعل بفعل محذوف يفسره لاح . وسهيل بالرفع : عطف بيان لكوكب
الخرقاء .
وجملة أذاعت جواب إذا . وأذاعت أي : فرقت وفاعله ضمير المضاف إليه أعني الخرقاء
وروي : أشاعت غزلها أي : فرقته متعدي شاع اللبن في الماء : إذا تفرق وامتزج به .
قال الأصمعي : إذا طلع سهيل عند غروب الشمس أول الليل كان وقت تمام السنة وفي
الشتاء يطلع من أول الليل وفي آخر الصيف قبيل الشتاء من آخر الليل .
وقد أنشد ابن السكيت هذا البيت في أبيات المعاني وأورد بعده : ( وقالت : سماء
البيت فوقك منهج ** ولما تيسر أحبلاً للركائب ) وقال : تقول لزوجها إذا لاح سهيل :
سماء البيت فوقك منهج أي : مخلق واما تيسر لركائبنا أحبلاً فكيف تنتجع على هذه
الحالة انتهى .
فجملة قالت معطوف على أذاعت .
قال ابن الأنباري : البيت عند العرب إنما هو من صوف أو شعر فإذا كان من شجر فهو
خيمة . والسماء : السقف مذكر وكل عال مظلّ سماء .
____________________
والمنهج
: اسم فاعل من أنهج الثوب : )
إذا أخذ في البلى . وتيسر : تسهل وتهيئ مجزوم بلمّا . وأحبل : جمع حبل وهو الرسن
ونحوه .
والركائب : جمع ركاب والركاب بالكسر : الإبل االتي يسار عليها الواحدة راحلة وليس
له واحد من لفظه .
____________________
(
باب المفعول له ) أنشد فيه وهو الشاهد السابع والسبعون بعد المائة وهو من شواهد
سيبويه : ( يركب كل عاقر جمهور ** مخافة وزعل المحبور ) والهول من تهول الهبور على
أن زعل المحبور والهول مفعول لأجله . وفيه رد على الجرمي في زعمه أن المسمى
مفعولاً لأجله هو حال . فيلزم تنكيره .
وبيان الرد : أن الأول معرف بالإضافة وهي إضافة معنوية والثاني معرف بأل فلا
يكونان حالين فتعين أن يكون كل منهما مفعولاً لأجله .
وقال ابن بري في شرح أبيات الإيضاح : وانتصاب مخافة وزعل والهول المعطوفين عليه
على المفعول له . وأصله اللام فلما سقط الخافض تعدى إليه الفعل . والرياشي زعم أنه
لا يكون إلا نكرة كالحال والتمييز . وسيبويه يجيز الأمرين . انتهى .
وهذا من أرجوزة للعجاج . شبه بعيره في السرعة بالثور الوحشي الموصوف بهذا الوصف .
فقوله : يركب فاعله ضمير الثور الوحشي الذي خاف من الصياد فذهب على وجهه مسرعاً
يصعد تلال الرمل ويعتسف المشاق . والعاقر : العظيم من الرمل الذي لا ينبت شيئاً
شبه بالعاقر التي لا تلد .
قال أبو عبيدة : العاقر من الرمل : العظيم . وقال غيره : المشرف الطويل . وهذا
التفسير كله واحد لأن المشرف الطويل والرمل العظيم لا ينبت لعدم التراب والرطوبة
التي يكسبها المطمئن السهل من الرمل . والجمهور بالضم : الرملة
____________________
المشرفة
على ما حولها وهي المجتمعة وهو صفة لعاقر . وإنما خصه لأن بقر الوحش إذا دهمها
القانص اعتصمت بركوب الرمل فلا تقدر الكلاب عليها . وقوله : مخافة مفعول لأجله .
قال صاحب اللباب : المفعول له علة الإقدام على )
الفعل يكون سبباً غائياً كقوله : وأغفر عوراء الكريم ادخاره وسبباً باعثاً ليس
غاية يقصد قصدها نحو قوله وأنشد شعر العجاج فالخوف والزعل والهول كل منها سبب باعث
على ركوب الجمهور لا سبب غائي . وزعل معطوف على مخافة وهو بالزاي المعجمة والعين
المهملة بمعنى النشاط مصدر زعل من باب فرح والوصف ( ولى يهذ انهزاماً وسطها زعلاً
** جذلان قد أفرخت عن روعه الكرب ) وقال طرفة بن العبد : وبلاد زعل ظلمانها
والمحبور : اسم مفعول من حبرني الشيء إذا سرني من باب قتل . ف زعل مصدر مضاف إلى
فاعله فليس مفعولاً لأجله لاختلاف الفاعل وإنما هو مصدر تشبيهي أي : زعلاً كزعل
المحبور فالمحذوف هو المفعول له . وقوله : والهول معطوف على مخافة وهو مصدر هاله
يهوله هولاً : إذا أفزعه . قال
____________________
الشارح
: فالهول معناه الإفزاع لا الفزع والثور ليس بمفزع بل هو فزع .
فالفاعلان مختلفان . وقد جوزه بعض النحويين وهو الذي يقوى في ظني وإن كان الأغلب
هو الأول ا . هـ .
وقد فسره شراح أبيات الكتاب بالفزع وهو المشهور . وعليه فالفاعل متحد .
ونقل أبو البقاء في شرح الإيضاح الفارسي عن بعضهم أنه معطوف على كل عاقر أي : يركب
كل عاقر ويركب الهول فيكون مصدراً بمعنى اسم المفعول .
والتهول تفعل منه وهو أن يعظم الشيء في نفسك حتى يهولك أمره . والهبور : جمع هبر
بفتح فسكون وهو ما اطمأن من الأرض وما حوله مرتفع . وروى شارب اللب : وقال : الهول
: الخوف . والتهور : الانهدام . أي : ولمخافته من تهور الأمكنة المطمئنة . وقد
استدل صاحب اللب لتعريف المفعول له بزعل المحبور فقط من هذا الشعر . قال شارحه :
وإنما لم يذكر آخر البيت ليكون شاهداً أيضاً للمفعول له المعرف باللام وهو الهول
كما ذكر المعرف بالإضافة لأنه ذكر في شرح أبيات الكتاب أن الهول عطف على كل وعلى
هذا يكون مفعولاً به لا مفعولاً له فلا يكون الإتيان به نصاً في الاستشهاد ا . هـ
.
قال ابن خلف : زعل المحبور عطف على مخافة والهول معطوف على كل ثم قال : والأصل )
لمخافة ولزعل المحبور وللهول أي : لأجل هذه الأشياء يركب كل كثيب . هذا كلامه .
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين . و أنشد بعده وهو الشاهد الثامن
والسبعون بعد المائة قول ابن دريد :
____________________
(
والشيخ إن قومته من زيغه ** لم يقم التثقيف منه ما التوى ) على أنه يجوز أن يقال
ضربته تقويماً فما استقام إذ قد يطلق أنه حصل التأثير .
والتقويم : التعديل يقال : قومته تقويماً فتقوّم ومثله أقامه أي : عدله . والزيغ :
الميل يقال : زاغت الشمس تزيغ زيغاً وأزاغه إزاغة أي : أماله . والتثقيف : تعديل
المعوج . ومنه : متعلق بيقم . وما : موصولة أو موصوفة ويجوز أن تكون مصدرية .
والتوى : تعوج وفاعله ضمير ما على الأول وضمير الشيخ على الثاني . وجملة الشرط
والجزاء في محل رفع خبر المبتدأ الذي هو الشيخ .
وهذا البيت من مقصورة ابن دريد المشهورة . وقبل هذا البيت : ( والناس كالنبت :
فمنه رائق ** غضّ نضير عوده مرّ الجنى ) ( ومنه ما تقتحم العين فإن ** ذقت جناه
انساغ عذباً في اللها ) ( يقّوم الشارخ من زيغانه ** فيستوي ما انعاج منه وانحنى )
والشيخ إن قومته من زيغه . . . . البيت ( كذلك الغصن يسير عطفه ** لدناً شديد غمزه
إذا عسا ) ( من ظلم الناس تحاموا ظلمه ** وعز فيهم جانباه واحتمى ) ( وهم لمن لان
لهم جانبه ** أظلم من حيات أنباث السفى ) والناس كلاًّ إن فحصت عنهم جميع أقطار
البلاد والقرى ( عبيد ذي المال وإن لم يطعموا ** من غمره في جرعة تشفي الصدى ) (
وهم لمن أملق أعداء وإن ** شاركهم فيما أفاد وحوى ) وتقتحمه العين . تفوته وتزدريه
. واللها بالفتح : جمع لهاة وهي ما بين منقطع اللسان إلى منقطع القلب من أعلى الفم
. والشارخ : الشاب .
____________________
والزيغان
: العدول عن الحق وانعاج : انعطف . وما : فيه الوجهان . )
وقوله : كذلك الغصن الإشارة راجعة إلى تقويم الشارخ والشيخ . واللدن : اللين
والطريّ .
والغمز : العصر باليد والهزّ . وعسا : صلب واشتد في القاموس : النبث كفلس : النبش
وقيل : التراب المستخرج من البئر . والسفى بسين مهملة مفتوحة وفاء : التراب وه ا
من قولهم في المثل : أظلم من حية لأنها لا تحفر جحراً وإنما تأتي إلى جحر قد
احتفره غيرها فتدخل فيه وتغلب عليه فكل بيت قصدت إليه هرب أهله منه وخلّوه لها .
وهذه القصيدة طويلة عدتها مائتان وتسعة وثلاثون بيتاً لها شروح لا تحصى كثرة .
وأحسن شروحها شرح العلامة الأديب أبي علي محمد بن أحمد بن هشام بن إبراهيم اللخمي
السبتي .
وقد شرحتها أنا شرحاً موجزاً مع إيضاح واف وتبيين شاف في أيام الشبيبة . نفع الله
به .
ومدح ابن دريد بهذه المقصورة الشاه وأخاه أبا العباس إسماعيل ابني ميكال يقال :
إنها اشتملت على نحو الثلث من المقصور . وفيها كل مثل سائر وخبر نادر مع سلاسة
ألفاظ ورشاقة أسلوب وانسجام معان يأخذ بمجامع القلوب .
وهذه نبذة من نسبه وأحواله . وهو أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد وينتهي نسبه إلى
الأزد بن الغوث ومنه إلى قحطان وهو أبو قبائل اليمن .
ولد بالبصرة في سنة ثلاث وعشرين ومائتين ونشأ بها وتعلم فيها ثم ارتحل منها مع عمه
عند ظهور الزنج وسكن عمان وأقام اثنتي عشرة سنة ثم عاد إلى البصرة وسكن بها زماناً
ثم خرج إلى نواحي فارس وصحب ابني ميكال وكانا يومئذ على عمالة فارس وعمل لهما كتاب
الجمهرة وقلداه ديوان فارس
____________________
فكانت
الكتب لا تكتب إلا عن رأيه ولا ينفذ أمر إلا بعد توقيعه . وكان سخيّاً متلافاً لا
يمسك درهماً . ومدحهما به هـ القصيدة المقصورة فوصلاه بعشرة آلاف درهم . ثم انتقل
من فارس إلى بغداد ودخلها سنة ثمان وثلثمائة بعد عزل ابني ميكال وانتقالهما إلى
خراسان . ولما دخل بغداد أنزله علي بن محمد في جواره وأفضل عليه وعرّف الخليفة
المقتدر العباسي مكانه من العلم فأجرى عليه في كل شهر خمسين ديناراً ولم تزل جارية
عليه إلى حين وفاته . وتوفي يوم الأربعاء لاثنتي عشرة ليلة بقيت من شعبان سنة إحدى
وعشرين وثلثمائة ببغداد .
وكان مواظباً على شرب الخمر قال أبو منصور الأزهري : دخلت عليه فرأيته سكران فلم
أعدل إليه . وقال ابن شاهين : كنا ندخل عليه فنستحي مما نرى عنده من العيدان
والشراب )
المصفى . وعرض له في رأس التسعين من عمره فالج وسقي الترياق فبرئ وصحّ ورجع إلى
أفضل أحواله . ثم عاوده الفالج بعد عام لغذاء ضار تناوله فكان يحرك يديه حركة
ضعيفة وبطل من محزمه إلى قدميه فكان إذا دخل عليه داخل ضج وتألم لدخوله .
قال تلميذه أبو علي القالي : كنت أقول في نفسي : إن الله عز وجلّ عاقبه لقوله في
هذه المقصورة يخاطب الدهر : ( مارست من لو هوت الأفلاك من ** جوانب الجو عليه ما
شكا ) وكان يصيح من الداخل عليه صياح من ينخس بالمسالأّ والداخل بعيد وكان مع هذه
الحال ثابت الذهن كامل العقل . وعاش مع الفالج عامين . وكنت أسأله عن أشياء في
اللغة فيردّ بأسرع من النفس بالصواب . وقال لي مرة وقد سألته عن بيت لئن طفئت
شحمتا عينيّ لم تجد من يشفيك من اعلم . وكان ينشد كثيراً :
____________________
(
فواحزني أن لاحياة لذيذة ** ولا عمل يرضى به الله صالح ) وأشهر مشايخه : أبو حاتم
السجستاني والرياشي وعبد الرحمن ابن أخي الأصمعي والأشنانداني . وسمع الأخبار من
عمه الحسن بن دريد ومن غيره . وله من التآليف : الجمهرة في اللغة وكتاب السرج
واللجام وكتاب الأنواء وكتاب المجتنى وهذه الكتب عندي والحمد لله والمنة . . وله
كتاب الاشتقاق وكتاب الخيل الكبير والصغير وكتاب الملاحن وكتاب روّاد العرب وكتاب
الوشاح وغير ذلك .
وكان واسع الرواية لم ير أحفظ منه وكانوا يقرؤون عليه دواوين العرب فيسابق إلى
إتمامها من حفظه . وله شعر رائق . قال بعض المتقدمين : ابن دريد أعلم الشعراء
وأشعر العلماء .
قال المسعوديّ في مروج الذهب : كان ابن دريد ببغداد ممن برع في زماننا في الشعر .
وانتهى في اللغة وقام مقام الخليل بن أحمد فيها وأورد أشياء في اللغة لم توجد في
كتب المتقدمين . وشعره أكثر من أن يحصى .
وأنشد بعده وهو
الشاهد التاسع والسبعون بعد المائة وهو من شواهد سيبويه :
____________________
(
وأغفر عوراء الكريم ادخاره ** وأعرض عن شتم اللئيم تكرما ) على أنه يرد على من
اشترط التنكير في المفعول له هذا البيت وبيت العجاج السابق . فإن قوله : ادخاره
مفعول له وهو معرفة .
قال الأعلم : نصب الادخار والتكرم على المفعول له ولا يجوز مثل هذا حتى يكون
المصدر من معنى الفعل المذكور قبله فيضارع المصدر المؤكد لفعله كقولك : قصدتك
ابتغاء الخير .
فإن كان المصدر لغير الأول لم يجز حذف حرف الجر لأنه لا يشبه المصدر المؤكد لفعله
كقولك : قصدتك لرغبة زيد في ذلك لأن الراغب غير القاصد انتهى .
لكن المبرد أخرجهما من هذا الباب وجعلهما من باب المفعول المطلق قال في الكامل :
قوله : وأغفر عوراء الكريم ادخاره أي : أدخره ادخاراً . وأضافه إليه كما تقول :
ادخاراً له .
وكذكلك قوله : تكرماً غنما أراد لتكرم : فأخرجه مخرج أتكرم تكرماً انتهى .
وأغفر : أستر يقال : غفر الله لي أي : ستر عني العقوبة فلم يعاقبني . والعوراء
بالفتح : الكلمة القبيحة ومنه العورة للسوءة وكل ما يستحى منه . والادخار افتعال
من الذخر .
وروى أبو زيد ف نوادره : وأغفر عوراء الكريم اصطناعه
____________________
وهو
افتعال أيضاً من الصنع وهو الفعل الجميل . والإعراض عن الشيء : الصفح عنه . يقول :
إذا بلغتني كلمة قبيحة عن رجل كريم قالها فيّ غفرتها له لأجل كرمه وحسبه وأبقيت
على صداقته وادّخرته ليوم أحتاج إليه فيه لأن الكريم إذا فرط منه قبيح ندم على ما
فعل ومنعه كرمه أن يعود إلى مثله وأعرض عن ذم اللئيم إكراماً لنفسي عنه وما أحسن
قول طرفة بن ( وعوراء جاءت من أخ فرددتها ** بسالمة العينين طالبة عذرا ) وهذا من
أحكام صنعة الشعر ومقابلة الألقاب بما يشاكلها ويتمّم معانيها وذلك أنه لما كان
الكلام القبيح يشبّه بالأعور العين سمّي ضدّه سالم العينين .
وقد أورد صاحب الكشاف هذا البيت في التفسير عند قوله تعالى حذر الموت على أنه
مفعول له معرّفاً بالإضافة كما في ادّخاره . )
وهو من قصيدة طويلة لحاتم الطائيّ تتعلق بالكرم ومكارم الأخلاق . وهي مسطورة في
الحماسة البصرية وغيرها . وهي هذه : ( وعاذلتين هبّتا بعد هجعة ** تلومان متلافاً
مفيداً ملوّما ) ( تلومان لمّا غوّر النجم ضلّة ** فتىً لا يرى الإنفاق في الحمد
مغرما ) ( فقلت وقد طال العتاب عليهما ** وأوعدتماني أن تبينا وتصرما ) ( ألا لا تلوماني
على ما تقدّما ** كفى بصروف الدّهر لمرء محكما ) ( فإنكما لا ما مضى تدركانه **
ولست على ما فاتني متندّما ) ( فنفسك أكرمها فإنك إن تهن ** عليك فلن تلقى لها
الدهر مكرما ) ( أهن للذي تهوى التلاد فإنه ** إذا مت كان المال نهباً مقسّما )
____________________
(
يقسمه غنماً ويشري كرامة ** وقد صرت في خطّ من الأرض أعظما ) ( قليلاً به ما
يحمدنك وارث ** إذا نال مما كنت تجمع مغنما ) ( تحلّم عن الأدنين واستبق ودّهم **
ولن تستطيع الحلم حتى تحلّما ) ( وعوراء قد أعرضت عنها فلم تضر ** وذي أود قوّمته
فتقوما ) وأغفر عوراء الكريم ادّخاره . . . البيت ( ولا أخذل المولى وإن كان
خاذلاً ** ولا أشتم ابن العمّ إن كان مفحما ) ( ولا زادني عنه غناي تباعداً ** وإن
كان ذا نقص من المال مصرما ) ( وليل بهيم قد تسربلت هوله ** إذا الليل بالنكس
الدنيء تجهما ) ( ولن يكسب الصعلوك حمداً ولا غنى ** إذا هو لم يركب من الأمر
معظما ) ( لحا الله صعلوكاً مناه وهمّه ** من العيش أن يلقى لبوساً ومغنماً ) (
ينام الضحى حتى إذا نومه استوى ** تنبّه مثلوج الفؤاد مورّماً ) ( مقيماً مع
المثرين ليس ببارح ** إذا نال جدوى من طعام ومجثما ) ( ولله صعلوك يساور همّه ** ويمضي
على الأحداث والدهر مقدما ) ( فتى طلبات لا يرى الخمص ترحة ** ولا شبعة إن نالها
عدّ مغنما ) ( إذا ما رأى يوماً مكارم أعرضت ** تيمم كبراهن ثمّت صمّما ) ( ويغشى
إذا ما كان يوم كريهة ** صدور العوالي فهو مختضب دما )
____________________
)
( يرى رمحه ونبله ومجنّه ** وذا شطب عضب الضريبة مخذما ) ( وأحناء سرج فاتر ولحامه
** عتاد فتى هيجاً وطرفاً مسوّما ) ( فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه ** وإن عاش لم يقعد
ضعيفاً مذمّما ) قوله : هبتا أي : استيقظتا . وغور النجم أي : غابت الثريا . وقوله
: ضلة هو قيد في اللوم لامه ضلة : إذا لم يوفق للرشاد في لومه . و المغرم بالفتح
الغرامة . وأغبر الجوف : القبر ومثله : خط من الأرض . وقوله : حتى تحلما أي :
تتحلم أي : تتكلف الحلم . وهذا البيت من شواهد مغني اللبيب .
وقوله : فلم تضر من ضار يضير ضد نفع . و الأود بفتحتين : الاعوجاج . والنكس بكسر
النون : الرديء وأصله السهم الذي كسر فوقه . وتجهّم : كلح وجهه . ولحا الله : قبح
الله .
والصعلوك بالضم : الفقير . ومثلوج الفؤاد : البليد الذي ليست فيه حرارة من الهمة .
والمجثم بفتح الميم وكسر المثلثة : مكان الجثوم وهو بروك الطائر .
وقوله : ولله صعلوك تعجب ومدح يقال : عند استغراب الشيء واستعظامه أي : هو صنع
الله ومختاره إذ له القدرة على خلق مثله . ويساور : يواثب . وهمه أي : عزمه مفعول
. وقوله : ويمضي على الأحداث أي : لا يشغله الدهر وحوادثه في حالة إقدامه على ما
يريد .
وقوله : فتى طلبات إشارة إلى علو همته . والخمص بالفتح : الجوع . والترحة : ضد
الفرحة .
والشبعة : المرة من الشبع . وثمت : حرف يعطف الجمل . و رمحه وما عطف عليه : مفعول
أول ليرى و عتاد هو المفعول الثاني . ذا شطب هو السيف جمع شطبة : وهي الطريقة في
متن السيف . والمجنّ بالكسر : الترس والدرقة . و العضب : القاطع . والضريبة : موضع
الضرب .
والمخذم بكسر أوله وبالمعجمتين : السيف القاطع وبإعجام الثاني فقط من الخذم وهو
القطع السريع . والأحناء : جمع حنو بالكسر يطلق على ما فيه اعوجاج من القتب والسرج
وغيرهما .
والقاتر بالقاف وبالمثناة الفوقية : الواقي والحافظ لا يعقر ظهر الفرس . وعتاد
بالفتح :
____________________
العدّة
.
وطرفا : معطوف على رمحه الذي هو أول مفعولي يرى وهو الكريم من الخيل . والمسوّم :
المعلم تشهيراً لعتقه ولكرمه من السومة وهي العلامة أو المسيب في المرعى ولا يركب
إلا في الحروب .
وقوله : فذلك إن يهلك الخ الحسنى : مصدر كالبشرى وقيل : اسم للإحسان .
والمعنى : لله فقير يواثب همته ويمضي مقدماً على الدهر والحال أنه فتى طلبات يتجدد
طلبه )
كل ساعة والدهر يسعفه بمطلوبه لجدّه ورشده ولا يرى الجوع شدة ولا الشبع غنيمة لعلو
واستشهد صاحب الكشاف بهذه الأبيات من قوله : صعلوك يساور همه إلى آخر الأبيات
السبعة عند قوله : أولئك على هدى من ربهم على أن اسم الإشارة وهو أولئك مؤذن بأن
المذكورين قبله أهل لاكتساب ما بعده للخصال التي عدّت لهم . فإنه تعالى ذكر
المتقين بقوله هدىً للمتقين ثم عدّد لهم خصالاً من كونهم يؤمنون بالغيب ويقيمون
الصلاة وينفقون مما رزقهم الله ويؤمنون بما أنزل على رسوله ويوقنون بالآخرة . ثم
عقّب ذلك بقوله : فذلك إن يهلك فحسنى ثناؤه وحاتم هو حاتم بن عبد الله بن سعد بن
الحشرج بن امرئ القيس بن عدي بن أخزم الطائيّ الجواد المشهور وأحد شعراء الجاهلية
. ويكنى أبا عدي
____________________
وأبا
سفّانة بفتح السين وتشديد الفاء . وابنه أدرك الإسلام وأسلم .
وقد مشت ترجمته في الشاهد الأربعين .
أخرج أحمد في مسنده عن ابنه عديّ قال : قلت يا رسول الله : إن أبي كان يصل الرحم
ويفعل كذا وكذا قال : إن أباك أراد امراً فأدركه يعني : الذكر .
وكانت سفّانة بنته أتي بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا محمد هلك
الوالد وغاب الوافد فإن رأيت أن تخلي عني ولا تشمت بي أحياء العرب فإن أبي سيد
قومه : كان يفك العاني ويحمي الديار ويفرّج عن المكروبن ويطعم الطعام ويفشي السلام
ولم يطلب إليه طالب قط حاجة فردّه أنا ابنة حاتم طيّ فقال النبي صلى الله عليه
وسلم : يا جارية هذه صفة المؤمن لو كان أبوك إسلامياً لترحّمنا عليه خلّوا عنها
فإن أباها كان يحب مكارم الأخلاق قال ابن الأعرابي : كان حاتم من شعراء الجاهلية
وكان جواداً يشبه جوده شعره ويصدق قوله فعله وكان حيثما نزل عرف منزله وكان مظفراً
: إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا ضرب بالقداح فاز وإذا سابق سبق وإذا أسر أطلق
وكان أقسم بالله : لا يقتل واحد أمه وكان إذا أهل رجب نحر في كل يوم عشرة من الإبل
وأطعم الناس واجتمعوا عليه .
وكان أول ما ظهر من جوده أن أباه خلفه في إبله وهو غلام فمر به جماعة من الشعراء
فيهم عبيد بن الأبرص وبشر بن أبي خازم والنابغة الذبياني يريدون النعمان بن المنذر
فقالوا )
له : هل من قرى ولم يعرفهم فقال : أتسألوني القرى وقد رأيتم الإبل والغنم انزلوا
فنزلوا فنحر لكل واحد منهم وسألهم عن أسمائهم فأخبروه ففرق فيهم الإبل والغنم وجاء
أبوه فقال : ما فعلت قال : طوقتك مجد الدهر تطويق الحمامة وعرفه القضية .
فقال أبوه : إذاً لا أساكنك بعدها أبداً ولا أوويك فقال حاتم : إذاً لا أبالي .
____________________
روى محرز مولى أبي هريرة قال : مر نفر من عبد القيس بقبر حاتم فنزلوا قريباً منه .
فقام إليه رجل يقال له : أبو الخيبري وجعل يركض برجله قبره ويقول : اقرنا . فقال
بعضهم : ويلك ما يدعوك أن تعرض لرجل قد مات قال : إن طيئاً تزعم أنه ما نزل به أحد
إلا قراه . ثم أجنهم الليل فناموا . فقام أبو الخيبري فزعاً وهو يقول : واراحلتاه
فقالوا له : مالك قال : أتاني حاتم في النوم وعقر ناقتي بالسيف وأنا أنظر إليها ثم
أنشدني شعراً حفظته يقول فيه : ( أبا الخيبري وأنت امرؤ ** ظلوم العشيرة شتامها )
( اتيت بصحبك تبغي القرى ** لدى حفرة قد صدت هامها ) ( أتبغي لي الذم عند المبيت
** وحولك طي وأنعامها ) ( فإنا سنشبع أضيافنا ** ونأتي المطي فنعتامها ) فقاموا
وإذا ناقة الرجل تكوس عقيراً فانتحروها وباتوا يأكلون وقالوا قرانا حاتم حياً
وميتاً وأردفوا صاحبهم وانطلقوا سائرين وإذا برجل راكب بعيراً ويقود آخر قد لحقهم
وهو يقول : أيكم أبو الخيبري قال الرجل : أنا . قال : فخذ هذا البعير أنا عدي بن
حاتم جاءني حاتم في النوم وزعم أنه قراكم بناقتك وأمرني أن أحملك فشأنك والبعير
ودفعه إليهم وانصرف . وإلى هذه القضية أشار ابن دارة الغطفاني في قوله يمدح عدي بن
حاتم : ( به تضرب الأمثال في الشعر ميتاً ** وكان له إذ ذاك حياً مصاحبا ) ( قرى
قبره الأضياف إذ نزلوا به ** ولم يقر قبر قبله والدهر راكبا )
____________________
(
باب المفعول معه ) أنشد فيه وهو الشاهد الثمانون بعد المائة ( جمعت وفحشاً غيبة
ونميمة ** ثلاث خلال لست عنها بمرعوي ) على أن أبا الفتح ابن جني أجاز تقدم
المفعول معه على المعمول المصاحب متمسكاً بهذا البيت والأصل جمعت غيبة وفحشاً .
والأولى المنع رعاية لأصل الواو . والشعر ضرورة .
أقول : ذكره ابن جني في الخصائص قال : ولا يجوز تقديم المفعول معه على الفعل من
حيث كانت صورة هذه الواو صورة العاطفة ألا تراك لا تستعملها إلا في الموضع الذي لو
شئت لاستعملت العاطفة فيه فلما ساوقت حرف العطف قبح : والطيالسة جاء البرد كما قبح
: وزيد قام عمرو لكنه يجوز جاء والطيالسة البرد كما تقول : ضربت وزيداً عمراً قال
: جمعت وفحشاً غيبة ونميمة وقال ابن الشجري في أماليه : ولا يجوز تقديم التابع على
المتبوع للضرورة إلا في العطف دون الصفة والتوكيد والبدل . ثم قال : وإنما جاز في
الضرورة تقديم المعطوف لأن المعطوف غير المعطوف عليه والصفة هي الموصوف وكذلك
____________________
المؤكد
عبارة عن المؤكد والبدل إما أن يكون هو المبدل أو بعضه أو شيئاً ملتبساً به .
ومثله : ( ألا يا نخلة من ذات عرق ** عليك ورحمة الله السلام . . اه ) فجعله من
باب تقديم المعطوف لا من باب تقديم المفعول معه لأنه هو الأصل . لكن في تنظيره نظر
فإن قوله ورحمة الله معطوف عند سيبويه على الضمير المستكن في الظرف أعني قوله عليك
كما تقدم بيانه . وقوله : خلالاً ثلاثاً بدل من قوله غيبة ونميمة وفحشاً جمع خلة
بالفتح كالخصلة لفظاً ومعنى . وارعوى عن القبيح : رجع عنه .
وهذا البت من قصيدة جيدة في بابها ليزيد بن الحكم بن أبي العاص الثقفي . قال
الأصبهاني في الأغاني : عاتب في هذه القصيدة ابن عمه عبد الرحمن بن عثمان بن أبي
العاص وله قصائد أخر يعاتب فيها أخاه عبد ربه بن الحكم .
وأورد هذه القصيدة القالي في أماليه والأصبهاني في أغانيه وابن الشجري في أماليه
مختصرة .
وفي رواية كل واحد منهم ما ليس في رواية الآخر . )
وأوردها أبو علي الفارسي بتمامها في المسائل البصرية وهذه روايته لكنه قال : قالها
لأخيه من أبيه وأمه عبد ربه بن الحكم . وليس كذلك كما يظهر منها :
____________________
(
لسانك لي أري وغيبك علقم ** وشرّك مبسوط وخيرك ملتوي ) ( تفاوض من أطوي طوى الكشح
دونه ** ومن دون من صافيته أنت منطوي ) ( تصافح من لاقيت لي ذا عداوة ** صفاحاً
وعني بين عينك منزوي ) ( أراك إذا استغنيت عنا هجرتنا ** وأنت إلينا عند فقرك
منضوي ) ( إليك انعوى نصحي ومالي كلاهما ** ولست إلى نصحي ومالي بمنعوي ) ( أراك
إذا لم أهو أمراً هويته ** ولست لما أهوى من الأمر بالهوي ) ( أراك اجتويت الخير
مني وأجتوي ** أذاك فكلّ مجتو قرب مجتوي ) ( فليت كفافاً كان خيرك كله ** وشرك عني
ما ارتوى الماء مرتوي ) ( لعلك أن تنأى بأرضك نية ** وإلا فإني غير أرضك منتوي ) (
تبدّل خليلاً بي كشكلك شكله ** فإني خليلاً صالحاً بك مقتوي ) ( فلم يغوني ربي
فكسف اصطحابنا ** ورأسك في الأغوى من الغيّ منغوي ) ( عدوّك يخشى صولتي إن لقيته
** وأنت عدوي ليس ذاك بمستوي ) ( وكم موطن لولاي طحت كما هوى ** بأجرامه من قلّة
النيق منهوي ) ( نداك عن المولى ونصرك عاتم ** وأنت له بالظلم والغمر مختوي ) (
إذا ما بنى المجد ابن عمك لم تعن ** وقلت ألا بل ليت بنيانه خوي ) ( كأنك إن قيل
ابن عمك غانم ** شج أو عميد أو أخو مغلة لوي ) ( تملأت من غيظ عليّ فلم يزل ** بك
الغيظ حتى كدت في الغيظ تنشوي ) ( فما برحت نفس حسود حشيتها ** تذيبك حتى قيل هل
أنت مكتوي ) ( وقال النطاسيون إنك مشعر ** سلالاً ألا بل أنت من حسد جوي )
____________________
(
فديت امرأً لم يدو للنأي عهده ** وعهدك من قبل التنائي هو الدوي ) ( دمعت وفحشاً
غيبة ونميمة ** خلالاً ثلاثاً لست عنها بمرعوي ) ( أفحشاً وخبّاً واختناء على
الندى ** كأنك أفعى كدية فرّ محجوي ) ( فيدحو بك الداحي إلى كل سوءة ** فيا شرّ من
يدحو بأطيش مدحوي ) ) ( أتجمع تسآل الأخلاء ما لهم ** ومالك من دون الأخلاء تحتوي
) ( بدا منك غش طالما قد كتمته ** كما كتمت داء ابنها أم مدّوي ) قوله : تكاشرني
الخ يقال : كاشر الرجل الرجل : إذا كشر كل واحد منهما لصاحبه وهو أن يبدي له
أسنانه عند التبسم وكرهاً بضم الكاف وفتحها : مصدر وضع في موضع الحال والدوي : وصف
من الدوى بالفتح والقصر : المرض دوي يدوى كفرح يفرح ودوي صدره وقوله : لسانك أي
أري الخ الأري : العسل والعلقم : الحنظل وحذف أداة التشبيه للمبالغة .
قال أبو علي في الإيضاح الشعري : اللسان هنا إما بمعنى الجارحة أو بمعنى الكلام :
فإن جعلته من هذا أمكن أن يكون لي متعلقاً به كقولك : كلامك لي جميل وإن جعلته
بمعنى الجارحة احتمل ظان تريد المضاف فتحذفه فإذا حذفته احتمل وجهين : أحدهما أن
يكون من قبيل صلى المسجد أي : أهله والآخر أن تحذف المضاف فتجعل اللسان كالكلام
كما قالوا اجتمعت اليمامة أي أهل اليمامة فجعلوهم كأنهم اليمامة فإذا جعلته كذلك
أمكن أن يتعلق به لي كما يتعلق بالوجه الأول .
ويجوز أن يكون لي وقوله : أري الخبر مثل : حلو حامض . ويجوز فيه أن تجعله خبراً
لقوله : لسانك ونريد به الجارحة لأنك تقول : فلان لطيف اللسان تريد به الكلام
وتلقي الناس بالجميل فيحتمل ضمير المبتدأ وتجعل أرياً بدلاً من الضمير في لي .
ويجوز أن يكون لي حالاً كأنه أراد : لسانك أري لي فيكون صفة فلما تقدم صار حالاً .
. فإن قلت : إن أري معناه مثل أري فالعامل معنى فعل لم يجز
____________________
تقدم
الحال عليه فأقول : لك أن تضمر فعلاً يدل عليه هذا الظاهر فينصب الحال عنه كأنه
قال : لسانك يستحلى ثابتاً لي . أو لأنها كالظرف فعمل فيها المعنى . وأن تجعل
اللسان حدثاً أشبه للتشاكل لأنه عطف عليه وهو وقوله : تفاوض من أطوي الخ فاوضه :
إذا أظهر له أمره و أطوي : ضد أنشر والطوى : الجوع وهو مصدر طوي يطوى من باب فرح
وهو مفعول أطوي أي : تظهر أمرك لمن أخفي عنه جوعي أي : تنبسط في الكلام عند عدو
ولا أظهره على شيء من اموري وتنقبض عن أصدقائي ولا تظهرهم على شيء من أمرك نكاية
فيّ .
وقوله : وعني بين عينك منزوي بين : مرفوع بالابتداء لأنه اسم لا ظرف ومنزوي : خبره
وعني : متعلق به يقال : انزوت الجلدة في النار أي : اجتمعت وتقبضت و زوى ما بين
عينيه أي : )
قبضها .
وقوله : وأنت إلينا عند فقرك منضور انضوى إليه . لجأ وانضم إليه وقوله : إليك
انعوى نصحي ومالي انعوى : بمعنى انعطف وهو مطاوع عويته أي : عطفته .
وقوله : أراك إذا لم أهو أمراً هوي الشيء يهواه هوىً من باب فرح : إذا أحبّه وهوى
بالفتح يهوي بالكسر هويّاً وكذلك انهوى : إذا سقط إلى أسفل وقد جاء في قوله : وكم
موطن لولاي طحت كما هوى وقوله : أراك اجتويت الخير اجتواه بالجيم أب : كرهه .
وقوله : فليت كفافاً كان خيرك الخ يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في ليت من أخوات
الحروف
____________________
المشبهة
في أواخر الكتاب . وقوله : لعلك أن تنأى الخ أي : أرجو أن تنأى من أرضك أي : تبعد
عنها من النأي وهو البعد وإلا أي : وإن لم تنأ فإني عازم على الرحيل عنها . يقال :
نويت نية وكذلك انتويت أي : عزمت .
وقوله : بك مقتوي قال في الصحاح : القتو : الخدمة . وقتوت أقتو قتواً ومقتي أي :
خدمت .
يقال : للخادم مقتوي بفاح الميم وتشديد الياء كأنه منسوب إلى المقتى وهو مصدر . .
ويجوز تخفيف ياء النسبة .
قال أبو علي في الإيضاح الشعري : نصب خليلاً بفعل مضمر يدلّ عليه مقتوي أي : أقتوي
خليلاً . ويأتي شرح هذه الكلمة مفصلة في الشاهد الثالث والخمسين من بعد الخمسمائة
.
وقوله : وكم موطن الخ طاح الرجل يطوح ويطيح : إذا هلك . والأجرام : جمع جرم بالكسر
وهو الجسم كأنه جعل أعضاءه أجراماً توسعاً أي : سقط بجسمه وثقله . وليس معناه ها
هنا الذنوب كما فسره ابن الشجريّ به فإنه غير مناسب . والنيق بكسر النون : أرفع
الجبل . وقلّته : ما استدق من رأسه . وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح هذا البيت في
باب الضمائر .
وقوله : نداك عن المولى الندى : الجود . و المولى : ابن العم . وعن متعلقة بعاتم
أي : بطيء يقال : عتم من باب ضرب إذا أبطأ وقصّر . ونصرك : معطوف على نداك وخبره
محذوف . والغمر بكسر الغين المعجمة الحقد والغلّ يقال : غمر صدره عليّ من باب فرح
. ومختور بالخاء المعجمة : وقوله : تودّ لو نابه ناب حية الحية معروفة تكون للذكر
والأنثى قالوا : فلان حية ذكر والتاء للواحد من الجنس كبطّة ودجاجة وهنا بمعنى
الذكر بدليل الوصف لربيب من ربّ فلان ولده بمعنى ربّاه فعيل بمعنى مفعول . )
____________________
وقوله : ليت بنيانه خوي يقال : خوى المنزل من باب رضى يرضي ورمى يرمي لغتان أي :
سقط قال تعالى : فهي خاوية على عروشها أي : ساقطة على سقوفها .
وقوله : شج أو عميد الخ هو خبر كأن و الشجيّ : الحزين المهموم . و العميد : الذي
قد عمده المرض أي : هدّه حتى احتاج إلى أن يعمد أي : يسند فهو فعيل بمعنى مفعول .
و المغلة يفتح الميم وسكون الغين المعجمة قال أبو علي : علة تكون في الجوف .
واللوي : الذي في جوفه وجع تقول : لوي لوىً كفرح فرحاً .
وقوله : فما برحت نفس حسود الخ النفس تذكّر وتؤنّث ولهذا وصفها بالمذكر وأنّث لها
الفعل والضمير . وحشيتها بالبناء للمفعول والخطاب من الحشو يقال : حشوت الوسادة
وغيرها حشواً . وروي حسبتها بضمير المتكلم من الحساب وهو الظن .
والنطاسيّون : العلماء بالطب الواحد نطاسي . و مشعر : اسم مفعول أي : ملبس شعاراً
بالكسر وهو ما ولي الجسد من الثياب . والسلال بالضم : مرض السل . والجوي : من
الجوى وهو داء للقلب وفعله من باب فرح .
وقوله : لم يدو للنأي عهده تقدم تفسير دوي . وقوله : أفحشاً وخبّاً الخ الخب بكسر
الخاء المعجمة : مصدر خببت يا رجل تخب خبّاً من باب علم : إذا خدع ومكر .
والاختناء بالخاء المعجمة وبعد المثناة الفوقية نون . قال
____________________
أبو
علي القاليّ في أماليه : هو التقبّض . والندى : الجود . و الكدية بالضم : الأرض
الصلبة . وأراد بالأفعى الأفعوان وهو ذكر الحيات ولهذا أرجع الضمير إليه مذكراً .
ومحجوي بتقديم المهملة على الجيم قال أبو علي القاليّ في أماليه نقلاً عن ابن دريد
: المحجوي المنطوي .
وقوله : فيدحو بك الداحي الخ الدحو : الرمي يقال : ادحه أي : ارمه ويقال للفرس :
مر يدحو دحواً وذلك إذا رمى بيديه رمياً لا يرفع سنبكه عن الأرض كثيراً . و السوءة
بالفتح : القبح والعيب . وأطيش من الطيش وهو الخفة . ومدحوي أي : مرميّ بناه من
ادحواه لغة في دحاه أي : رماه .
وقوله : كما كتمت داء ابنها أم مدوّي قال الأصمعي في كتاب الصفات وابن دريد في
الجمهرة )
وأبو علي القاليّ في أماليه وابن الأثير في المرصّع واللفظ له : أم مدوي يضرب بها
المثل لمن يورّي بالشيء عن غيره ويكنى به عنه . وأصله أنّ امرأة من العرب خطبت على
ابنها جارية فجاءت أمها إلى أم الغلام لتنظر إليه . فدخل الغلام فقال لأمه : أدّوي
بتشديد الدال على أفتعل . فقالت له : اللجام معلق بعمود البيت والسرج في جانبه .
فأظهرت أن ابنها أراد أداة الفرس للركوب فكتمت بذلك زلّة ابنها عن الخاطبة . وإنما
أراد ابنها بقوله أدّوي أكل الدّواية بضم الدال وهي القشرة التي تعلو اللبن والمرق
تقول منه : دوّى اللبن بتشديد الواو وقد ادّويت على وزن افتعلت فأنا مدّو بتشديد
الدال فيهما أي : أكلت الدّواية . وأنشد هذا البيت .
وترجمة يزيد بن الحكم تقدمت في الشاهد التاسع في أوائل الكتاب
____________________
وأنشد
فيه وهو الشاهد الحادي والثمانون بعد المائة علفتها تبناً وماء بارداً على أن
التقدير : وسقيتها ماء . وقال ابن هشام في مغني اللبيب : وقيل : لا حذف بل ضمّن
علفتها معنى أنلتها وأعطيتها . وألزموا صحة نحو علفتها ماء بارداً وتبناً فالتزموه
محتجين بقول طرفة : وأورده صاحب الكشاف عند قوله تعالى : أفيضوا علينا من الماء أو
مما رزقكم الله على تضمين أفيضوا معنى ألقوا ليصح انصبابه على الشراب والطعام معاً
أو على تقدير بعد أو أي : أو ألقوا مما رزقكم الله كهذا البيت في الوجهين وأورد له
العلامة الشيرازي والفاضل اليمني صدراً وجعل المذكور عجزاً هكذا :
____________________
(
لما حططت الرحل عنها واردا ** علفتها تبناً وماء باردا ) وجعله غيرهما صدراً وأورد
عجزاً كذا : حتى شتت همّالة عيناها ولا يعرف قائله . ورأيت في حاشية نسخة صحيحة من
الصحاح أنه لذي الرمة ففتشت ديوانه فلم أجده فيه .
وشتت بمعنى أقامت شتاء في القاموس : شتا بالبلد أقام به شتاء كشتى وتشتى وفاعله
ضمير مستتر عائد إلى ما عاد إليه ضمير علفتها . وهمالة حال من الضمير المستتر وهو
من )
هملت العين : إذا صبت دمعها . وعيناها فاعله .
وزعم العيني أن شتت بمعنى بدت ولم أر هذا المعنى في اللغة وأن عيناها فاعله وهمالة
تمييز . وهذا خلاف الظاهر . فتأمل .
الشاهد الثاني والثمانون بعد المائة وهو من شواهد سيبويه : وما النجدي والمتغور
وهو قطعة من بيت لجميل بن معمر وهو : ( وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا ** تهام وما
النجديّ والمتغوّر ) على أن الرفع في مثله أولى من النصب على المفعول معه .
قال المبرد في الكامل : قولهم : ما أنت وزيد الرفع فيه الوجه لأنه
____________________
عطف
اسماً ظاهراً على اسم مضمر منفصل وأجراه مجراه وليس هنا فعل فيحمل على المفعول فكأنه
قال : ما أنت وما زيد وهذا تقديره في العربية ومعناه لست منه في شيء وهذا الشعر
كما أصف لك ينشد : ( وأنت امرؤ من أهل نجد وأهلنا ** تهام فما النجديّ والمتغوّر )
وكذلك قوله : ( تكلّفني سويق الكرم جرم ** وماجرم وما ذاك السويق ) فإن كان الأوّل
مضمراً متصلاً كان النصب لئلا يحمل ظاهر الكلام على مضمر تقول : مالك وزيداً فإنما
تنهاه عن ملابسته إذ لم يجز وزيد وأضمرت لأن حروف الاستفهام للأفعال فلو كان الفعل
ظاهراً لكان على غير إضمار نحو قولك : ما زلت وعبد الله حتى فعل لأنه ليس يريد ما
زلت وما زال عبد الله ولكنه أراد : ما زلت بعبد الله فكان المفعول مخفوضاً بالباء
فلما زال ما يخفضه وصل الفعل إليه فنصبه كما قال تعالى : واختار موسى قومه سبعين
رجلاً .
فالواو في معنى مع وليست بخافضة فكان ما بعدها على الموضع فعلى هذا ينشد هذا الشعر
: ( فما لك والتلدد حول نجد ** وقد غصّت تهامة بالرجال ) ولو قلت : ما شأنك وزيداً
لاختير النصب لأن زيداً لا يلتبس بالشأن لأن المعطوف على )
الشيء في مثل حاله . ولو قلت : ما شأنك وشأن زيد لرفعته لأن الشأن يعطف على الشأن
.
وهذه الآية تفسر على وجهين من الإعراب : أحدهما هذا وهو الأجود فيها وهو قوله تعالى
: فأجمعوا أمركم
____________________
وشركاءكم
فالمعنى والله أعلم مع شركائكم لأنك تقول : جمعت قومي وأجمعت أمري ويجوز أن يكون
لما أدخل الشركاء مع الأمر حمله على مثل لفظه لأن المعنى يرجع إلى شيء واحد فيكون
كقوله : ( يا ليت زوجك قد غدا ** متقلداً سيفاً ورمحا ) شرّاب ألبان وسمن وأقط
انتهى كلام المبرّد ولجودته سقناه برمّته .
وقوله : وما النجديّ والمتغور ما مبتدأ . والنجدي خبره . والمعنى : أن أهلي
يرتابون بك إذا وجدوك عندهم لأنك غريب بعيد الدار منهم فينكرون كونك بينهم فيجب أن
تتجنب وتعرض . تحذّره بني عمها كما يأتي بيانه ف الأبيات . . . وتهام بفتح التاء
منسوب إلى التهم بفتحتين بمعنى التهامة بكسر التاء وقد بينا هذا مشروحاً في الشاهد
الثامن عشر من أوائل الكتاب . وتهام خبر عن قوله وأهلنا وإعرابه كقاض . ولم يقل
تهامون لأنه نظر إلى لفظ أهل وهو مفرد ويجوز نظراَ إلى المعنى تهامون . وقال ابن
خلف : إنما قال تهام لأنه اكتفى بالواحد عن الجمع كقوله :
____________________
كأن
عيني فيها الصاب مذبوح هذا كلامه فتأمله .
ونجد قال في الصحاح : هو من بلاد العرب وهو خلاف الغور والغور هو تهامة وكل ما
ارتفع من تهامة إلى أرض العراق فهو نجد وهو مذكر وتقول : أنجدنا أي : أخذنا في
بلاد نجد .
وفي المثل : أنجد من رأى حضنا وذلك إذا علا من الغور . وحضن محركة : جبل .
والمتغور اسم فاعل من تغور فلان : إذا انتسب إلى الغور . وغار وغوّر أيضاً
بالتشديد : إذا أتى الغور قال في المصباح : والغور المطمئن من الأرض . والغور قيل
: يطلق على تهامة وما يلي اليمن وقال الأصمعي : ما بين ذات عرق والبحر غور وتهامة
فتهامة أوّلها مدارج ذات عرق من قبل نجد إلى مرحلتين وراء مكة وما وراء ذلك إلى
البحر فهو الغور .
والبيت من قصيدة . وقبله : ) ( وآخر عهد لي بها يوم ودّعت ** ولاح لها خدّ مليح
ومحجر ) ( عشية قالت لا تضيعنّ سرنا ** إذا غبت عنا وارعه حين تدبر ) ( وأعرض إذا
لاقيت عيناً تخافها ** وظاهر ببغض إن ذلك أستر ) ( فإنك إن عرّضت بي في مقالة **
يزد في الذي قد قلت واش مكثّر ) ( وينشر سرّاً في الصديق وغيره ** يعز علينانشره
حين ينشر )
____________________
(
وما زلت في إعمال طرفك نحونا ** إذا جئت حتى كاد حبك يظهر ) ( لأهلي حتى لامني كل
ناصح ** شفيق له قربى لديّ وأيصر ) ( وقطعني فيك الصديق ملامة ** وإني لأعصي نهيهم
حين أزجر ) ( وما قلت هذا فاعلمن تجنباً ** لصرم ولا هذا بنا عنك يقصر ) ( وأخشى
بني عمي عليك وإنما ** يخاف وينقي عرضه المتفكر ) ( وأنت امرؤ من أهل نجد واهلنا
** تهام وما النجديّ والمتغور ) ( وطرفك إما جئتنا فاحفظنه ** فزيغ الهوى باد لمن
يتبصر ) ( وقد حدثوا أنا التقينا على هوىً ** فكلهم من غلّة الغيظ موقر ) ( فقلت
لها : يا بثن أوثيت حافظاً ** وكل امرئ لم يرعه الله معور ) ( سأمنح طرفي حين
ألقاك غيركم ** لكيما يروا أن الهوى حيث أنظر ) ( وأكني بأسماء سواك وأتقي **
زيارتكم والحب لا يتغير ) ( فكم قد رأينا واجداً بحبيبه ** إذا خاف يبدي بغضه حين
يظهر ) وفي هذه الأبيات استشهاد ولهذا ذكرناها .
وترجمة جميل بن معمر العذري تقدمت في الشاهد الثاني والستين .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثالث والثمانون بعد المائة قول الراعي . وهو من شواهد س :
____________________
(
أزمان قومي والجماعة كالذي ** منع الرحالة أن تميل مميلا ) على أنه على تقدير :
أزمان كان قومي والجماعة . فالجماعة مفعول معه على تقدير إضمار الفعل .
قال سيبويه : زعموا أنه الراعي كان ينشد هذا البيت نصباً . وقال : كأنه قال :
أزمان كان قومي مع الجماعة . وحذف كان لأنهم يستعملونها كثيراً في هذا الموضع ولا
لبس فيه ولا تغيير معنى .
ومثله قوله تعالى : واتبعوا ما تتلوا الشاطين على ملك سليمان أراد ما كانت تتلو .
قال ابن عصفور : وإنما حمل على إضمار كان ولم يحمل على تقدير حذف مضاف إلى قومي
فيكون التقدير : أزمان كون قومي والجماعة لأن المصدر المقدّر بأن والفعل من قبيل
الموصولات وحذف الموصول وإبقاء شيء من صلته لا يجوز .
فإن قلت : ما الدليل على أن قومي من قوله : أزمان قومي محمول على فعل مضمر قلت :
لأنه ليس من قبيل المصادر وأسماء الزمان لا يضاف شيء منها إلا إلى مصدر أو جملة
تكون في معناه نحو : هذا يوم قدوم زيد وقولهم : يوم الجمل ويوم حليمة فهو على حذف
مضاف أي : يوم حرب الجمل ونحوه .
قال الأعلم : وصف ما كان من استواء الزمان واستقامة الأمور قبل قتل عثمان وشمول
الفتنة .
وأراد التزام قومه الجماعة وتركهم الخروج على السلطان . والمعنى : أزمان قومي
والتزامهم الجماعة وتمسكهم بها كالذي تمسك بالرحالة ومنعها من أن تميل وتسقط .
والرحالة بالكسر : وهي أيضاً السرج . ضربها مثلاً اه .
____________________
وهذا البيت من قصيدة طويلة عدّتها تسعة وثمانون بيتاً للراعي . مدح بها عبد الملك
بن مروان وشكا فيها من السعاة وهم الذين يأخذون الزكاة من قبل السلطان . وهي قصيدة
جيدة كان يقول : من لم يرو لي من أولادي هذه القصيدة وقصيدتي التي أولها : بان
الأحبة بالعهد الذي عهدوا وهي في هذا المعنى أيضاً فقد عقني : وقبل بيت الشاهد : )
( أوليّ أمر الله إنا معشر ** حنفاء نسجد بكرة وأصيلا ) ( عرب نرى لله في أموالنا
** حق الزكاة منزّلاً تنزيلا ) ( قوم على الإسلام لمّا يمنعوا ** ما عونهم
ويضّيعوا التهليلا ) ( فادفع مظالم عيّلت أبناءنا ** عنا وأنقذ شلونا المأكولا ) (
فنرى عطية ذاك ** إن أعطيته من ربنا فضلاً ومنك جزيلا ) ( أنت الخليفة حلمه وفعاله
** وإذا أردت لظالم تنكيلا ) ( قتلوا ابن عفان الخليفة محرماً ** ودعا فلم أر مثله
مخذولا ) ( فتصدعت من بعد ذاك عصاهم ** شققاً وأصبح سيفهم مسلولا )
____________________
(
حتى إذا استعرت عجاجة فتنة ** عمياء كان كتابها مفعولا ) ( وزنت أمية أمرها فدعت
له ** من لم يكن غمراً ولا مجهولا ) ( مروان أحزمها إذا نزلت به ** حدب الأمور
وخيرها مسؤولا ) ( أزمان رفّع بالمدينة ذيله ** ولقد رأى زرعاً بها ونخيلا ) (
وديار ملك خرّبتها فتنة ** ومشيّدا فيه الحمام ظليلا ) ( إني حلفت على يمين برّة
** لا أكذب اليوم الخليفة قيلا ) ( ما زرت آل أبي خبيب وافداً ** يوماً أريد
لبيعتي تبديلا ) ( من نعمة الرحمن لا من حيلتي ** إني أعدّ له عليّ فضولا ) (
أزمان قومي والجماعة كالذي ** لزم الرحالة أن تميل مميلا ) إلى أن قال : ( إن
السعاة عصوك حين بعثتهم ** وأتوا دواهي لو علمت وغولا ) ( إن الذين أمرتهم أن
يعدلوا ** لم يفعلوا مما أمرت فتيلا ) ( أخذوا العريف فقطّعوا حيزومه ** بالأصبحية
قائماً مغلولا )
____________________
(
يدعو أمير المؤمنين ودونه ** خرق تجرّ به الرياح ذيولا ) قوله : قوم على الإسلام
لمّا يمنعوا ماعونهم أورده الزمخشري في تفسيره عند قوله تعالى : ويمنعون الماعون
على أن الماعون الزكاة . والتهليل : هو قول لا إله إلا الله أراد كلمة التوحيد .
وقوله : عيّلت أبناءنا التعييل : سوء الغذاء وعيّل الرجل فرسه : إذا سيّبه في
المفازة . والإنقاذ : )
التخليص . والشلو بالكسر : العضو . والشكول جمع شكل بفتح أوله وكسره : الشبه
والمثل أي : جعلوا الناس متخالفين بعد أن كانوا متحدين . وقوله : قتلوا ابن عفان
الخ يقال : أحرم الرجل إذا دخل في حرمة لا تهتك .
قال العسكري في باب ما وهم فيه علماء الكوفيين من كتاب التصحيف : أخبرنا أبو علي
الكوكبيّ حدثني محمد بن سويد حدثني محمد بن هبيرة قال : قال الأصمعي للكسائي وهما
عند الرشيد : ما معنى قول الراعي : قتلوا ابن عفان الخليفة محرما فقال الكسائي .
كان محرماً بالحج . قال الأصمعي : فقوله : قتلوا كسرى بليل محرماً فتولى لم يمتع
بكفن هل كان محرماً بالحج قال الرشيد للكسائي : يا عليّ إذا جاء الشعر فإياك
والأصمعي قال الأصمعي محرم أي : لم يأت ما تستحل به عقوبته ومن ثمّ قيل مسلم محرم
أي : لم يحلّ من نفسه شيئاً يوجب القتل . وقوله : قتلوا كسرى محرما يعني حرمة
العهد الذي كان له في أعناق أصحابه اه .
وقوله : حدب الأمور جمع أحدب وحدباء أراد الأمور المشكلة . وقوله : ما زرت آل أبي
حبيب الخ . أبو خبيب هو عبد الله بن الزبير وكان
____________________
ادعى
الخلافة يومئذ في الحجاز . وقوله : إني أعدّ له عليّ فضولاً هو جمع فضل بمعنى
الإحسان والإنعام وهو العامل النصب على الظرفية في أزمان ويجوز رفعه على الابتداء
والخبر محذوف أي : من الفضول أزمان قومي الخ .
قال صاحب كتاب التنبيه على ما أشكل من كتاب سيبويه : ويجوز رفع أزمان على أنه خبر
مبتدأ محذوف دون إظهار كان والواو واو مع أيضاً فتكون إضافة أزمان إلى الجملة
الإسمية على هذا . ثم قال : والأول أي : النصب على الظرفية احسن وأكثر اه . و
السعاة : جمع ساع وهو كل من ولي شيئاً على قوم وأكثر ما يقال ذلك في ولاة الصدقة
أي : الزكاة . وقوله : أخذوا المخاض من الفصيل الخ المخاض : النوق الحوامل واحدها
خلفة .
والفصيل : ابنها . والغلبّة بضم الغين واللام وتشديد الموحّدة هي الغلبة بالتحريك
والتخفيف .
وهو وظلماً مصدران وقعا حالين من فاعل أخذوا . ويجوز نصب الثاني بالأول على أنه
مصدر معنويّ . والأفيل ككريم من أولاد الإبل : ما أتى عليه سبعة أشهر وهو منصوب
بيكتب بالبناء )
للفاعل أي : يكتب الساعي . وعلى رواية البناء للمفعول وهي المشهورة مفعول لفعل
محذوف أي : ويكتب أخذنا من فلان أفيلا .
وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن من فيه للبدل أي : نأخذ المخاض بدل
الفصيل .
قال ابن يسعون : ويجوز أن لا تكون بدليّة بل متعلقة بأخذوا أي : انتزعوه من أمه .
وروي بدله من العشار فهي بيانية أي : كائنة من العشار .
وقوله : أخذوا العريف هو رئيس القوم ومتكلمهم . و الأصبحية هي السياط منسوبة إلى
ذي أصبح من ملوك اليمن فإنه الذي اخترعها . و الخرق بالفتح : الفلاة . و الراعي
اسمه عبيد بن حصين بتصغيرهما ابن معاوية بن جندل بن
____________________
قطن
بن ربيعة بن عبد الله بن الحارث بن نمير بن عامر بن صعصعة . وكنية الراعي : أبو
جندل . ولقّب الراعي لكثرة وصفه الإبل والرعاء في شعره . وقيل : لقب به ببيت قاله
.
وقال ابن قتيبة : اسمه حصين بن معاوية . وكان يقال لأبيه في الجاهلية معاوية
الرئيس . وولده وأهل بيته في البادية سادة أشراف .
وهو شاعر فحل مشهور من شعراء الإسلام مقدم . ذكره الجمحي في الطبقة الأولى من
الشعراء الإسلاميين . وكان يقدم الفرزدق على جرير فاستكفه جرير فأبى فهجاه بقصيدته
البائية التي مطلعها : أقلي اللوم عاذل والعتابا ففضحه بها . وتقدم بيانه في ترجمة
جرير في أوائل الكتاب .
وفي المؤتلف والمختلف للآمدي : من لقبه الراعي من الشعراء اثنان : أحدهما : هذا
والثاني : اسمه خليفة بن بشير بن عمير بن الأحوص من بني عدي بن جناب . وقيل غير
ذلك .
____________________
(
باب الحال ) أنشد فيه وهو الشاهد الرابع والثمانون بعد المائة ( يقول وقد ترّ
الوظيف وساقها ** ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد ) على أنه يخرج عن تعريف الحال الحال
التي هي جملة بعد عامل ليس معه ذو حال .
بيانه : أن جملة وقد ترّ الوظيف حال وعاملها يقول ولا صاحب لها وأما فاعل يقول وهو
الضمير المستتر فليس صاحب الحال لأنها لم تبين هيئته إذ ليست من صفاته . وهذا إنما
يرد على تعريف المصنف الحال فإنه اعتبر فيه تبيين الهيئة ولا يرد عل ى تعريف
الشارح فإنه لم يعتبر في الحدّ تبيين الهيئة . وقد أوّل الناس تعريف المصنف على
وجوه منهم السيد ركن الدين في شرحه الكبير على الكافية وابن هشام في شرح التسهيل
ومغني اللبيب وكذا الدماميني وغيره .
وترّ بالمثناة الفوقية والراء المهملة قال ابن دريد : ترّ العظم يترّه ترّاً إذا
قطعه وكذلك كل عضو انقطع بضربة واحدة فقد ترّ ترّاً وينشد بالوجهين قول طرفة .
وأنشد هذا البيت في الجمهرة .
يريد : أن ترّ ورد لازماً ومتعدياً .
وروي برفع الوظيف على أنه فاعل ترّ اللازم بمعنى انقطع وفسره يعقوب بن السكيت في
شرح ديوان طرفة وتبعه الأعلم في شرحه بقوله : طنّ وندر . وروي بنصب الوظيف على أنه
مفعول ترّ المتعدي بمعنى قطع وفاعله ضمير العضب في بيت قبله .
وقوله : وساقها : معطوف عليه بالوجهين وضمير المؤنث راجع إلى الكهاة في بيت قبله
وهي الناقة الضخمة . والوظيف في الرجل ما بين الرسغ
____________________
والساق
وفي اليد : ما بين الرسغ والذراع .
وقوله : ألست ترى الخ مقول القول . والخطاب في الثلاثة لطرفة والاستفهام للتوبيخ .
والرؤية يجوز أن تكون بصرية فأن مع ما بعدها في تأويل مفرد منصوب على أنه مفعول
الرؤية وأن تكون علمية فأن مخففة من الثقيلة واسمها ضمير شأن وجملة قد أتيت خبرها
وهي مع معمولها سادّة مسدّ المفعولين للرؤية . والمؤيد : على وزن اسم الفاعل قال
الأعلم : هو الداهية وأصلها من الأيد وهو القوة كأناداهية ذات شدة وقوة . ورواه
الخطيب التبريزي في شرح المعلقات بزنة اسم المفعول أيضاً وقال : أي : جئت بأمر
شديد يشدّد فيه : من عقرك هذهالناقة . وليس المؤيد من الوأد ما توهمه السيد في
حواشي هذا الكتاب فإنه قال : وأده أي : دفنه حياً و المؤيد : )
الداهية .
قال ابن جنّي في المنصف وهو شرح تصريف المازني : الفعل المعتل العين إذا صح ما قبل
عينه نقلت حركة عينه إلى الساكن بلها نحو أقام واستقام . فأما ما اعتلّت فاؤه فإنك
لا تنقل إليها حركة العين وذلك قولك في أفعلت نحو آيمت وآولت من آم وآل . لأنه لما
اعتلت الفاء وهي همزة فقبلت ألفاً صحّت العين وعلى ذلك قول الشاعر : كرأس الفدن
المؤيد
____________________
فهذا
فعل بزنة اسم المفعول من الأيد وهو القوة ولم يقل المؤاد أي : بهمزة ممدودة بعد
الميم المضمومة وقال طرفة : أن قد أتيت بمؤيد وهي الداهية وهي بزنة اسم الفاعل من
الأيد أيضاً ولم يقل المئيد أي : بميم مضمومة فهمزة مكسورة بعدها مثناة تحتية
وقالوا : آيدته في أفعلته من الأيد وأيدته فعّلته . وآيدته قليلة مكروهة لأنك إن
صححت فهو ثقيل وإن أعللت جمعت بين إعلالين . فعدل عن أفعلته إلى فعّلته في غالب
الأمر اه .
وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد المشهورة . وهذا ما قبله : ( وبرك هجود قد
أثارت مخافتي ** نواديها أمشي بعضب مجرد ) ( فمرّت كهاة ذات خيف جلالة ** عقيلة
شيخ كالوبيل يلندد ) يقول وقد ترّ الوظيف وساقها . . . البيت ( وقال ألا ماذا ترون
بشارب ** شديد علينا بغيه متعمد ) ( فظل الإماء يمتللن حوارها ** وتسعى علينا
بالسديف المسرهد ) قوله : وبرك بفتح الموحدة مجرور بواو رب قال أبو عبيدة : البرك
يقع على جميع ما يبرك من الجمال والنوق على الماء وبالفلاة من حر الشمس أو الشبع
الواحد بارك وباركة . وقيل : البرك : جماعة إبل الحي وقيل لها : برك لاجتماع
مباركها . وبرك البعير : إذا ألقى صدره على الأرض .
والهجود : النيام جمع هاجد وهاجدة ومصدره الهجود أيضاً بمعنى النوم كالقعود
والجلوس .
ومخافتي : فاعل أثارت وهو مصدر مضاف إلى المفعول والفاعل محذوف أي : مخافتها إياي
.
ونواديها : مفعول أثارت أي : أوائلها وما سبق منها وهو بالنون
____________________
يقال
: لا ينداك مني أمر تكرهه أي : لا يسبق إليك مني وإنما خص النوادي لأنها أبعد منه
عند فرارها . فيقول : لا يفلت من عقري ما قرب ولا ما شذ فندّ . )
وقال ابن السكيت : النوادي الثقال أيضاً من الإبل الواحدة نادية . وجملة أمشي حال من
الياء في مخافتي . والعضب : السيف القاطع . والمجرد : المسلول من غمده . يقول :
ربّ إبل كثيرة باركة قد أثارت نوادي هذا البرك عن مباركها مخافتها إياي في حال
مشيي إليها بسيف مسلول قاطع .
يريد : أنه أراد أن ينحر لأضيافه بعيراً فنفرت منه لتعودها ذلك منه .
وقوله : فمرّت كهاة الخ الكهاة بفتح الكاف قال ابن السكيت : هو جلد الضرع وقالوا :
هو جلد الضرع الأعلى الذي يسمى الجراب . يقال : ناقة خيفاء إذا كان ضرعها كبيراً .
وجلالة : بالرفع : صفة كهاة وهي بضم الجيم بمعنى الجليلة والعظيمة . وعقيلة شيخ :
صفة ثالثة أي : خير ماله والعقيلة : الكريمة . وهذا الشيخ قال ابن السكيت : هو بعض
بني عم طرفة كان طرفة عقر له ناقة .
وقال الزوزني : أراد بالشيخ أباه يريد : أنه نحر كرائم مال أبيه لندمائه . وقيل :
بل أراد غيره ممن يغير على ماله . وقوله : كالوبيل صفة شيخ . قال ابن السكيت :
الوبيل العصا . وقال الزوزني : الوبيل : العصا الضخمة في الصحاح : الوبيل : الحزمة
. فعلى هذا شبّه عظامه في البيوسة بالحطب والشيخ بأنه حزمة من الحطب . واليلندد :
السيئ الخلق الشديد الخصومة صفة ثانية للشيخ .
وقوله : يقول وقد ترّ الوظيف الخ أي : قال الشيخ في حال عقري هذه الناقة الكريمة
النجيبة .
ومثلها لا يعقر للأضياف وقوله : وقال ألا ماذا ترون الخ فاعل قال ضمير الشيخ صاحب
الناقة وذا اسم موصول وما استفهام منصوب بترون والباء متعلقة بمحذوف أي : قال
الشيخ مستشيراً أصحابه : ما الذي
____________________
ترون
أن نفعل بطرفة شارب الخمر يبغي علينا بعقر كرائم أموالنا وقوله : فقالوا : ذروه
الخ أي : ذروا طرفة فإن نفعها للشيخ فإن طرفة يخلف عليه ويزيده وإن لم تردّوا قاصي
إبلكم يعقر منها أيضاً . وقيل : معناه : إن لم تردّوا قاصي البرك وتردّوه إلى أوله
زاد في نفاره وذهب . والقاصي : اسم فاعل من قصا يقصو قصوّاً : إذا بعد .
وقوله : فظل الإماء الخ يمتللن بكسر اللام أي : يشوين في الملة وهي الرماد الحار .
والإماء : الخدم . والحوار بضم المهملة : ولد الناقة . والسديف : قطع السنام .
والمسرهد : المريء الحسن الغذاء وقيل : السمين . أي : فظل الإماء يشتوين الولد
الذي خرج من بطنها تحت الجمر والرماد الحار وتسعى الخدم علينا بقطع سنامها المقطّع
يريد : أنهم أكلوا أطايبها وأباحوا غيرها للخدم . )
وذكر الحوار يدل على أنها كانت حبلى وهي من أنفس الإبل عندهم .
وترجمة طرفة بن العبد تقدمت في الشاهد الخامس والثمانون بعد المائة ( وقد أغتدي
والطير في وكناتها ** بمنجردقيد الأوابد هيكل ) لما تقدم قبله . وقد بيناه .
وهذا البيت من معلقة امرئ القيس المشهورة . وقوله : وقد أغتدي أي : أخرج غدوة
للصيد .
والوكنات الواو مضمومة والكاف يجوز ضمها وفتحها
____________________
وسكونها
جمع وكنة بضم فسكون . قال ابن جني في المحتسب : ومن ذلك قراءة عبد الكريم الجزري :
فتكِن في صخرة بكسر الكاف من قولهم وكن الطائر يكن وكوناً : إذا استقر في وكنته
وهي مقره ليلاً وهي أيضاً عشّه الذي يبيض فيه . وكأنه من مقلوب الكون لأن الكون
الاستقرار . اه .
والقاف لغة في الكاف يقال : وقنة ووقنات . وروي : في وكراتها بضمتين جمع وكر بضمة
فسكون وهو جمع وكربفتح فسكون والوكر : مأوى الطائر في العش . والطير : جمع طائر
كصحب جمع صاحب . وهذا المصراع قد استعمله امرؤ القيس في قصيدته اللامية قال : (
وقد أغتدي والطير في وكناتها ** لغيث من الوسمي رائده خالي ) وفي الضادية أيضاً
وتمامه : بمنجرد عبل اليدين قبيض وفي البائية أيضاً وتمامه : وماء الندى يجري على
كل مذنب وهذا البيت قد وقع في قصيدة لعلقمة الفحل أيضاً . وجملة : والطير في
وكناتها
____________________
حال
من ضمير المتكلم أي : أغدو إلى الصيد ملابساً لهذه الحالة . والمنجرد من الخيل قيل
: الماضي في السير وقيل : القليل الشعر القصيره . وبمنجرد متعلق بقوله أغتدي .
والأوابد : الوحوش جمع آبده .
يريد : أن هذا الفرس من شدة سرعته يلحق الأوابد فيصير لها بمنزلة القيد . قال أبو
علي في التذكرة : قيد الأوابد صفة وهو مصدر كأنه قال : يقيد الأوابد ثم استعمل
المصدر : بحذف الزيادة فوصف به . وقال التبريزي : تقدير قيد الأوابد ذي تقييد
الأوابد . قال الباقلاّني في إعجاز القرآن : قوله قيد الأوابد عندهم من البديع وهو
من الاستعارة ويرونه من الألفاظ )
الشريفة وعنى بذلك أنه إذا أرسل هذا الفرس على الصيد صار قيداً لها وكانت بحال
المقيد من جهة سرعة عدوه . وقد اقتدى به الناس واتبعه الشعراء فقيل : قيد النواظر
وقيد الألحاظ وقيد الكلام وقيد الحديث وقيد الرهان قال ابن يعفر : ( بمقلّص عتد
جهير شدّه ** قيد الأوابد والرهان جواد ) وقال أبو تمام : ( لها منظر قيد الأوابد
لم يزل ** يروح ويغدو في خفارته الحبّ ) وقال آخر : ( ألحاظه قيد عيون الورى **
فليس طرف يتعدّاه ) وقال آخر :
____________________
قيّد
الحسن عليه الحدقا والهيكل قال ابن دريد : هو الفرس العظيم الجرم . ( مكرّ مفرّ
مقبل مدبر معاً ** كجلمود صخر حطّه السيل من عل ) مكر ومفر بكسر الميم فيهما
وجرّهما أي : فرس صالح للكرّ والفرّ . والكر : العطف يقال : كرّ فرسه على عدوه .
أي : عطفه عليه . ومفعل بكسر الميم يتضمن مبالغة كقولهم : فلان مسعر حرب وفلان
مقول ومصقع . وإنما جعلوه متضمناً مبالغة لأن مفعلاً يكون من أسماء الأدوات فكأنه
أداة للكرّ والفرّ وآلة لتسعر الحرب أي : تلهبها وآلة الكلام . ومقبل ومدبر بضم
ميميهما : اسما فاعل من الإقبال والإدبار . والجلمود بالضم : الصخر العظيم الصلب .
والحط : إلقاء الشيء من علو إلى سفل . وعل بمعنى عال أي : من مكان عال .
وفي هذا البيت الاتساع قال ابن أبي الإصثبع في تحرير التحبير : الاتساع أن يأتي
الشاعر بيت يتسع فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه وبحسب ما تحتمل لفاظه كقوله
في صفة فرس : مكرّ مفرّ مقبل مدبر معاً
____________________
لأن
الحجر يطلب جهة السفل لكونها مركزه إذ كل شيء يطلب مركزه بطبعه فالحجر يسرع
انحطاطه إلى السفل من العلو من غير واسطة فكيف إذا أعانته قوة دفّاع السيل من عل
فهو حال تدحرجه يرى وجهه في الآن الذي يرى فيه ظهره بسرعة تقلبه وبالعكس . ولهذا
قال : مقبل مدبر معاً يعني يكون إدباره وإقباله مجتمعين في المعيّة لا يعقل الفرق
بينهما . )
وحاصل الكلام وصف الفرس بلين الرأس وسرعة الانحراف في صدر البيت وشدة العدو في
عجزه . وقيل : إنه جمع وصفي الفرس بحسن الخلق وشدة العدو ولكونه قال في صدر البيت
إنه حسن الصورة كامل النصبة في حالتي إقباله وإدباره وكرّه وفرّه ثم شبهه بجلمود
صخر حطّه السيل من العلو بشدة العدو فهو في الحالة التي ترى فيها لببه ترى فيها
كفله وبالعكس . هذا ولم تخطرهذه المعاني بخاطر الشاعر في وقت العمل وإنما الكلام
إذا كان قويّاً من مثل هذا الفحل احتمل لقوته وجوهاً من التأويل بحسب ما تحتمل
ألفاظه وعلى مقدار قوى المتكلمين فيه . ومثله أيضاً : ( إذا قامتا تضوّع المسك
منهما ** نسيم الصّبا جاءت بريّا القرنفل ) فإن هذا البيت اتسع النقاد في تأويله :
فمن قائل : تضوع مثل المسك منهما بنسيم الصبا ومن قائل : تضوع نسيم الصبا منهما
ومن قائل : تشوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا وهذا هو الوجه عندي ومن قائل : تضوع
المسك منهما بفتح الميم يعني الجلد بنسيم الصبا .
وقال ابن المستوفى في شرح أبيات المفصّل : حدثني الإمام أبو حامد سليمان قال : كنا
في خوارزم وقد جرى النظر في بيت امرئ القيس : إذا قامتا تضوع المسك منهما
____________________
فقالوا
: كيف شبّه تضوع المسك بنسيم الصبا والمشبّه ينبغي أن يكون مثل المشبّه به والمسك
أطيب رائحة وطال القول في ذلك فلم يحققوه وكان سألني عنه فأجبت لوقتي أنه شبه حركة
المسك منهما عند القيام بحركة نسيم الصبا لأنه يقال : تضوع الفرخ أي : تحرك ومنه
تضوع المسك تحرك وانتشرت رائحته : وذلك أن المرأة توصف بالبطء عند القيام فحركة
المسك تكون إذاً ضعيفة مثل حركة النسيم وانتشاره كانتشاره فالتشبيه صحيح .
والنسيم : الريح الطيبة ونسيم الريح أوّلها حين تقبل بلين . ولقائل أن يقول : إن نسيم
الصبا وهي الريح الطيبة إذا جاءت برّيا القرنفل وهي أيضاً ريح طيبة قاربت ريح
المسك . وبعد أن جرى ذلك بمدة طويلة وقع إليّ كتاب أبي بكر محمد بن القاسم
الأنباريّ في شرح القصائد السبعيات فوجدته ذكر عند هذا البيت قولاً حسناً وهو قوله
: ومعنى تضوع أخذ كذا وكذا .
وهو تفعّل من ضاع يضوع يقال : للفرخ إذا سمع صوت أمه فتحرك : قد ضاعته أمه تضوعه
ضوعاً . فلا حاجة مع قوله أخذ كذا وكذا إلى تمحل لذلك ويكون التقدير : تضوّع المسك
منهما )
تضوّع نسيم الصبا أي : أخذ كذا وكذا كما أخذ النسيم كذا وكذا . اه .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وانشد بعده وهو ( كأنّ حواميه مدبراً ** خضبن وإن لم تكن تخضب ) على أن مدبراً حال
من المضاف إليه وهو الهاء فيحواميه .
وهذا البيت من قصيدة في وصف فرس لنابغة الجعدي . وقبله :
____________________
(
كأنّ تماثيل أرساغه ** رقاب وعول على مشرب ) كأنّ حواميه مدبراً وبعده : ( حجارة
غيل برضراضة ** كسين طلاءً من الطحلب ) التماثيل : جمع تمثال بالكسر وهي الصورة .
والأرساغ جمع رسغ بالضم وهو من الدوابّ : الموضع المستدق بين الحافر وموضع الوظيف
من اليد والرجل ومن الإنسان : مفصل ما بين الكف والساعد والقدم إلى الساق والوعول
: جمع وعل قال ابن فارس : هو ذكر الأروى وهو الشاة الجبلية . وكذلك قال في البارع
وزاد : والأنثى وعلة بكسر العين وتسكّن فيهما . والمشرب بالفتح موضع الشرب . وهذا
البيت من التشبيه البديع الذي لم يسبق إليه : شبّه أرساغه في غلظها وانحنائها وعذد
الانتصاب فيها برقاب وعول قد مدّتها لتشرب الماء . وهذاالبيت من شواهد أدب الكاتب
قال : : ويستحب أن تكون الأرساغ غلاظاً يابسة . وأنشد هذا البيت .
وقوله : كأنّ حواميه . . الخ الحوامي : جمع حامية بالحاء المهملة وهي ما فوق
الحافر وقيل : هي ما عن يمين الحافر وشماله ولكل حافر حاميتان قال ابن قتيبة : هما
عن يمين السنبك وشماله .
والسنبك بالضم : طرف مقدم الحافر . وتخضب بدل من تكن بدل اشتمال لاشتمال الخضاب
على الكون . وهو من قبيل بدل الفعل من الفعل ولهذا ظهر الجزم . وكسر للقافية .
والحجارة : جمع حجر وهي الصخر . والغيل بفتح الغين المعجمة : الماء الجاري على وجه
الأرض . والرضراضة : الأرض الصلبة قال ابن السكيت في أبيات المعاني . ورضراضة :
أرض مرصوصة بحجارة بالضاد المعجمة
____________________
والمهملة
قال ابن قتيبة في أدب الكاتب : ويستحب أن تكون الحوافر صلاباً غير نقدة والنقدر
بالتحريك : ان تراها متقشرة وتكون سوداً أو خضراً لا )
يبيضّ منها شيء لأن البياض فيها رقة . اه .
شبّه حوافره بحجارة مقيمة فيماء قليل . وذلك أصلب لها يقال للصخرة التي بعضها في
الماء وبعضها خارج : أتان الضحل والضحل : الماء القليل وذلك النهاية في صلابتها .
وإياها عنى المتنبي بقوله : ( أنا صخرة الوادي إذا ما زوحمت ** وإذا نطقت فإني
الجوزاء ) وإذا كانت جوانب الحوافر صلاباً على الوصف الذي ذكر وكانت سوداً أو
خضراً فمقاديمها أصلب وأشد سواداً وخضرة . وكسين بالبناء للمفعول من الكسوة .
والنون ضمير الحجارة .
والجملة حال من ضمير الظرف أعني قوله برضراضة . والطلاء بالكسر : كل ما يطلى به
وهو المفعول الثاني لكسا . يقال : طليته به أي : لطخته به . والطّحلب بضم اللام
وفتحها مع ضم الماء فهو مطحلب بكسر اللام وفتحها .
قال ابن الشجريّ في المجلس الثالث من أماليه عند قول المسيّب بن عامر في مدح عمارة
بن زباد العبسي : ( كسيف الفرند العضب أخلص صقله ** تراوحه أيدي الرجال قياما ) إن
قوله قياماً نصب على الحال من الرجال . والحال من المضاف إليه قليلة ومن ذلك قول
الجعدي : كأنّ حواميه مدبراً
____________________
نصب
مدبراً على الحال من الهاء . . . وأنشدوا في الحال من المضاف إليه قول تأبّط شراً
: ( سلبت سلاحي يائساً وشتمتني ** فيا خير مسلوب ويا شرّ سالب ) ولست أرى أن
بائساً حال من الياء في سلاحي ولكنه عندي حال من مفعول سلبت المحذوف والتقدير :
سلبتني بائساً سلاحي . ومثلي قوله تعالى : ذرني ومن خلقت وحيدا وقوله تعالى : أهذا
الذي بعث الله رسولا أي : خاقته وبعثه . وإنما وجب العدول إلى ما قلنا لعزة حال
المضاف إليه . فإذا وجدت مندوحة وجب تركه . وسلب يتعدى إلى مفعولين يجوز الاقتصار
على أحدهما كقولك : سلبت زيداً ثوباً وقالوا : سلب زيد ثوبه بالرفع على بدل
الاشتمال وثوبه بالنصب على أنه مفعول ثان وفي التنزيل : وإن يسلبهم الذباب شيئاً
لا يستنقذوه منه فيجوز على هذا أن نجعل بائساً مفعولاً ثانياً بتقدير حذف الموصوف
أي : )
سلبت سلاحي رجلاً باائساً كما تقول : لتعاملن مني رجلاً منصفاً .
ومما جاءت الحال فيه من المضاف إليه قوله تعالى : قل بل ملة إبراهيم حنيفا قيل :
إن حنيفاً حال من إبراهيم وأوجه من ذلك عندي أن تجعله حالاً من الملة وإن خالفها
بالتذكير لأن الملة في معنى الدين ألا ترى أنها قد أبدلت من الدين في قوله تعالى :
ديناً قيماً ملة إبراهيم فإذا جعلت حنيفاً حالاً من الملة فالناصب له هو الناصب
للملة وتقديره : بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا . وإنما أضمر نتبع لأن ما حكاه الله
عنهم من قولهم : كونوا هوداً أو نصارى تهتدوا معناه اتبعوا اليهودية أو النصرانية
فقال لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل بل نتبع ملة إبراهيم حنيفا . . وإنما ضعف مجيء
الحال من المضاف إليه لأن العامل في الحال
____________________
ينبغي
أن يكون هو العامل في ذي الحال . اه كلامه .
وقال أيضاً في المجلس الرابع والعشرين : وأما قوله : مدبراً فحال من الهاء والعامل
على رأي أبي عليّ ما تقدره في المضاف إليه من معنى الجارّ . يعني أنّ التقدير كأن
حوامي ثابتة له مدبراً أو كائنة له . قال : ولا يجوز تقديم هذه الحال لأن العامل
فيها معنى لا فعل محض . قال : ولا يجوز أن يكون العامل ما في كأنّ من معنى الفعل
لأنه إذا عمل في حال لمي عمل في أخرى . يعني أنّ كأن قد عمل في موضع خضبن النصب
على الحال فلا يعمل في قوله مدبراً . وهذا القول يدلّ على أنه يجيز أن ينصب حال
المضاف إليه العامل في المضاف . وإذا كان هذا جائزاً عنده فإن جعل خضبن خبر كأن
فالعامل إذاً في مدبراً ما في كأن من معنى الفعل .
وهذا إنما يجوز إذا كان المضاف ملتبساً بالمضاف إليه : كالتباس الحوامي بما هي له
ولا يجوز في ضربت غلام هند جالسة أن تنصب جالسة بضربت لأن الغلام غير ملتبس بهند
كالتباس الحوامي بصاحبها . ولا يجوز عندي أن تنصب جالسة بما تقدره من معنى اللام
في المضاف إليه فكأنك قلت : ضربت غلاماً كائناً لهند جالسةً لأن ذلك يوجب أن يكون
الغلام لهند في حال جلوسها خاصة وهذا مستحيل .
وكذلك قوله : كأن حواميه مدبراً إن قدرت فيه : حوامي ثابتة له مدبراً وجب أن يكون
الحوامي له في حال إدباره دون حال إقباله . وهذا يوضح لك فساد إعمالك في هذه الحال
معنى الجار المقدّر في المضاف إليه . ولا يجوزإذن ضربت غلام هند جالسة لذلك ولعدم
التباس المضاف بالمضاف إليه . ونظير ما ذكرناه : من جواز مجيء الحال من المضاف
إليه إذا كان )
المضاف ملتبساً به قوله تعالى : فظلت اعناقهم لها خاضعين أخبر بخاضعين عن المضاف
إليه ولو أخبر عن المضاف لقال خاضعة أو خضّعاً أو خواضع . وإنما حسن ذلك لأن خضوع
أصحاب الأعناق بخضوع أعناقهم .
وقد قيل فيه غير هذا وذلك ما جاء في التفسير من أن المراد بأعناقهم كبراؤهم .
____________________
وقال
أهل اللغة : أعناقهم : جماعاتهم كقولك : جاءني عنق من الناس أي : جماعة . فالخبر
في هذين القولين عن الأعناق .
وقوله : خضبن عند أبي عليّ في موضع نصب بأنه حال من الحوامي ولم يجعله خبر كأن
لأنه جعل خبرها قوله حجارة غيل ولم يجز أن يكونا خبرين لكأن : على حدّ قولهم هـ ا
حلو حامض أي : قد جمع الطعمين قال : لأنك لا تجد فيما أخبروا عنه بخبرين أن يكون
أحدهما مفرداً والآخر جملة : لا تقولزيد خرج عاقل . والقول عندي : أن يكون أحدهما
مفرداً والآخر جملة : لا تقول زيد خرج عاقل . والقول عندي : أن يكون موضع خضبن
رفعاً بأنه خبر كأن وقوله : حجارة غيل خبر مبتدأ محذوف أي : هي حجارة غيل وأداة
التشبيه محذوفة كما فهنّ إضاء صافيات الغلائل أي : مثل إضاء والإضاء : الغدران
واحدها أضاة فعلة جمعت على فعال كرقبة ورقاب : شبّه الدروع في صفائها بالغدران .
والنابغة الجعدي كنيته أبو ليلى وهو كما في الاستيعاب : قيس بن عبد الله . وقيل :
حيان بن قيس بن عبد الله بن عمرو بن عدس بن ربيعة بن جعدة بن كعب بن ربيعة بن عامر
بن صعصعة . وقيل : اسمه حيان بن قيس بن عبد الله بن وحوح بن عدس بن ربيعة بن جعدة
.
وإنما قيل له : النابغة لأنه قال الشعر في الجاهلية ثم أقام مدة نحو ثلاثين سنة لا
يقول الشعر ثم نبغ فيه فقاله فسمّي النابغة . وهو أسنّ من النابغة الذبياني لأن
الذبياني كان مع النعمان بن المنذر وكان النعمان بن المنذر بعد المنذر بن محرّق
وقد أدرك النابغة الجعدي المنذر بن محرق ونادمه .
____________________
ذكر عمر بن شبّة أنه عمّر مائة وثمانين سنة وأنه أنشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه
: ( لبست أناساً فأفنيتهم ** وأفنيت بعد أناس أناسا ) ( ثلاثة أهلين أفنيتهم **
وكان الإله هو المستآسا ) )
فقال له عمر : كم لبثت مع كلّ أهل قال : ستين سنة .
وقال ابن قتيبة : عمّر الجعدي مائتين وعشرين سنة ومات بأصبهان . ولا يدفع هذا
مامرّ فإنه أفنى ثلاثة قرون في مائة وثمانين سنة ثم عمّر إلى زمن ابن الزبير وبعده
.
والبيتان من قصيدة سينية . والمستآس : المستعاض مستفعل من الأوس والأوس : العطية
عوضاً .
وبعدهما : ( وعشت بعيشين إن المنو ** ن تلقّى المعايش فيها خساسا ) ( فحيناً أصادف
غرّاتها ** وحيناً أصادف منها شماسا ) ( شهدتهم لا أرجّي الحيا ** ة حتى تساقوا
بسمر كئاسا ) وهو جمع كأس .
____________________
قال السجستاني في كتاب المعمرين : وقال حين وفت له مائة واثنتا عشرة سنة : ( مضت
مائة لعام ولدت فيه ** وعشر بعد ذاك وحجتان ) ( فأبقى الدهر والأيام مني ** كما
أبقى من السيف اليماني ) ( تفلّل وهو مأثور جراز ** إذا جمعت بقائمه اليدان ) (
ألا زعمت بنو كعب بأني ** ألا كذبوا كبير السن فاني ) الخنان : مرض أصاب الناس في
أنوفهم وحلوقهم وربما أخذ النعم وربما قتل اه . وهو بضم الخاء المعجمة وبعدها نون
مخففة في القاموس : والخنان كغراب : زكام الإبل وزمن الخنان كان في عهد المنذر بن
ماء السماء وماتت الإبل منه .
ووفد الجعديّ على النبي صلى الله عليه وسلم مسلماً وأنشده ودعا له رسول الله صلى
الله عليه وسلم وكان من اول ما أنده قوله في قصيدته الرائية :
____________________
(
أتيت رسول الله إذ جاء بالهدى ** ويتلو كتاباً كالمجرة نيرا ) ( وجاهدت حتى ما أحس
ومن معي ** سهيلاً إذا ما لاح ثمّت غوّرا ) ( أقيم على التقوى وأرضى بفعلها **
وكنت من النار المخوفة أحذرا ) إلى أن قال : ( وإنا لقوم ما نعوّد خيلنا ** إذا
ماالتقينا أن تحيد وتنفرا ) ) ( وننكر يوم الروع ألوان خيلنا ** من الطعن حتى تحسب
الجون أشقرا ) ( وليس بمعروف لنا ان نردها ** صحاحاً ولا مستنكراً أن تعقّرا ) (
بلغنا السماء مجدنا وسناؤنا ** وإنا لنرجو فوق ذلك مظهرا ) وفي رواية عبد الله بن
جراد :
____________________
فقال
له النبي صلى الله عليه وسلم : إلى أين يا أبا ليلى فقال : إلى الجنة فقال : نعم
إن شاء الله ( ولا خير في حلم إذا لم تكن له ** بوادر تحمي صفوه أن يكدّرا ) ( ولا
خير في جهل إذا لم يكن له ** حليم إذا ما اورد الأمر أصدرا ) فقال رسول الله صلى
الله عليه وسلم : لا يفضض الله فاك فكان من احسن الناس ثغراً وكان إذا سقطت له
ثنية نبتت وكان فوه كالبدر المتهلّل يتلألأ ويبرق .
وهذه القصيدة طويلة : نحو مائتي بيت وأنشد جميعها للنبي صلى الله عليه وسلم وأولها
: ( خليليّ غضّا ساعة وتهجّرا ** ولوما على ما أحدث الدهر أو ذرا ) وهي من أحسن ما
قيل من الشعر في الفخر بالشجاعة سباطة ونقاوة وحلاوة . ومنها : ( تذكرت والذكرى
تهيج على الفتى ** ومن حاجة المحزون أن يتذكرا ) ( نداماي عند المنذر بن محرّق **
أرى اليوم منهم ظاهر الأرض مقفرا ) ( تقضّى زمان الوصل بيني وبينها ** ولم ينقض
الشوق الذي كان اكثرا ) ( وإني لآستشفي برؤية جارها ** إذا ما لقاؤها عليّ تعذّرا
) ( وألقي على جيرانها مسحة الهوى ** وإن لم يكونوا لي قبيلاً ومعشرا )
____________________
(
تردّيت ثوب الذلّ يو لقيتها ** وكان ردائي نخوة وتجبرا ) ( إلى أن لقينا الحيّ بكر
بن وائل ** ثمانين ألفاً دارعين وحسّرا ) ( فلما قرعنا النبع بالنبع : بعضه **
ببعض أبت عيدانه أن تكسّرا ) ( سقيناهم كأساً سقونا بمثلها ** ولكننا كنا على
الموت أصبرا ) قال عمر بن شبّة : كان النابغة الجعديّ شاعراً مقدّماً غلا انه كان
إذا هاجى غلب وقد هاجى أوس بن مغراء وليلى الأخيلية وكعب بن جعيل فغلبوه وهو اشعر
منهم مراراً .
ليس فيهم من يقرب منه . وكان قد خرج مع علي رضي الله عنه إلى صفين فكتب معاوية إلى
مروان فأخذ أهل النابغة وماله فدخل النابغة على معاوية وعنده مروان وعبيد الله بن
مروان )
فأنشده : ( من راكب يأتي ابن هند بحاجتي ** على النأي والأنباء تنمي وتجلب ) (
ويخبر عني ما أقول النعامر ** ونعم الفتى يأوي إليه المعصّب )
____________________
(
فإن تأخذوا أهلي ومالي بظنّة ** فإني لأحرار الرجال مجرّب ) ( صبور على ما يكره
المرء كله ** سوى الظلم إني إن ظلمت سأغضب ) فالتفت معاوية إلى مروان فقال : ما ترى
قال : أرى أن لا تردّ عليه شيئاً فقال : ما اهون عليك أن يقطع عليّ عرضي ثم ترويه
العرب أما والله إن كنت لمّمن يرويهّ أردد عليه كل شيء اخذته . . ثم أقحمته سنة
فدخل على ابن الزبير في المسجد الحرام يستجديه ومدحه بأبيات فأعطاه من بيت المال
قلائص سبعاً وفرساً رجيلاً : وأوقر له الرّكاب بّاً وتمراً وثياباً .
وفي تاريخ الإسلام للذهبي أن النابغة قال هذه الأبيات : ( المرء يهوى أن يعي ** ش
وطول عمر قد يضره ) ( وتتابع الأيّام ح ** تى ما يرى شيئاً يسرّه ) ( تفنى بشاشته
ويب ** قى بعد حلو العيش مرّه ) ثم دخل بيته فلم يخرج منه حتى مات .
وفي الاستيعاب : كان النابغة يذكر في الجاهلية دين إبراهيم والحنيفية ويصوم
ويستغفر فيما ذكروا وقال في الجاهلية كلمته التي أولها : ( الحمد لله لا شريك له
** من لم يقلها فنفسه ظلما ) وفيها ضروب من دلائل التوحيد والإقرار بالبعث والجزاء
والجنة والنار وصفة بعض ذلك : على نحو شعر أمية بن أبي الصلت . وقد قيل إن هـ ا
الشعر لأمية بن أبي الصلب ولكنه قد صححه يونس بن حبيب وحماد الراوية ومحمد بن
سلاّم وعلي بن سليمان الأخفش للنابغة الجعدي .
الشاهد السابع والثمانون بعد المائة
____________________
(
عوذ وبهثة حاشدون عليهم ** حلق الحديد مضاعفاً يتلهّب ) على أنه قد جاء فيه الحال
من المضاف إليه : كالبيت الذي قبله . أعني قوله : مضاعفاً حال من الحديد .
قال أبو علي في المسائل الشيرازيات : قد جاء الحال من المضاف إليه في نحو ما أنشده
أبو زيد : ( عوذ وبهثة حاشدون عليهم ** حلق الحديد مضاعفاً يتلهّب ) انتهى كلامه .
قال ابن الشجري في المجلس السادس والسبعين في أماليه : الوجه في هذا البيت فيما
أراه أن مضاعفاً حال من الحلق لا من الحديد لأمرين : أحدهما : أنه إذا أمكن مجيء
الحال من المضاف كان أولى من مجيئها من المضاف إليه ولا مانع في البيت من كون
مضاعفاً حالاً من الحلق لأننا نقول : حلق محكم ومحكمة .
والآخر : أنّ وصف الحلق بالمضاعف أشبه كما قال المتنبي : ( أقبلت تبسم والجياد
عوابس ** يخببن بالحلق المضاعف والقنا ) ويجوز أن يجعل مضاعفاً حالاً من المضمر في
يتلهب ويتلهب في موضع الحال من الحلق فكأنه وقال في المجلس الخامس والعشرين مثل
هذا ثم قال : ويتوجه ضعف ما قاله من جهة أخرى : وذلك انه لا عامل له في هذه الحال
إذا كانت من الحديد إلا ما قدّره في الكلام من معنى الفعل بالإضافة . وذلك قوله :
ألا ترى أنه لا تخلو الإضافة من أن تكون بمعنى اللام أو من .
وأقول : إن مضاعفاً في الحقيقة إنما هو حال من الذكر المستكن في عليهم إن رفعت
الحلق بالابتداء فإن رفعته بالظرف على قول
____________________
الأخفش
والكوفيين فالحال منه لأن الظرف حينئذ يخلو من ذكر . اه .
وعوذ بفتح المهملة وآخره ذال معجمة هو عوذ بن غالب بن قطيعة بالتصغير ابن عبس بن
بغيض بن ريث بن غطفان . وبهثة بضم الموحدة وهو بهثة بم عبد الله بن غطفان . فبهثة
ابن عمّ بغيض . وغطفان هو ابن سعد بن قيس عيلان بن مضر كذا في جمهرة الأنساب لابن
الكلبي .
وحلق الحديد قال صاحب العباب : الحلقة بالتسكين : الدّرع والجمع الحلق بفتحتين عيى
غير قياس وقال الأصمعي : حلق بالكسر مثل بدرة وبدر وقصعة وقصع . )
وفي المصباح . الحلقة : السلاح كله . ثم أورد الجمع مثل ما أ رده صاحب العباب وقال
: وحكى يونس عن أبي عمرو بن العلاء أنّ الحلقة بالفتح لغة في السكون وعلى هذا فالجمع
بحذف الهاء قياس مثل قصبة وقصب . وجمع ابن السرّاج بينهما وقال : فقالوا حلق ثم
خفّفوا الواحد حين ألحقوه الزيادة وغير المعنى . قال : وهذا لفظ سبويه . وأما حلقة
الباب فقد قال صاحب العباب والمصباح : هي بالسكون أيضاً تكون من حديد وغيره وحلقة
القوم كذلك وهم الذين يجتمعون مستديرين .
وقال صاحب العباب : قال الفرّاء في نوادره : الحلقة بكسر اللام لغة بلحارث بن كعب
في الحلقة بالسكون والحلقة بالفتح قال ابن السكّيت : سمعت أبا عمرو الشيباني يقول
: ليس في كلام العرب حلفقة بالتحريك إلا في قولهم : هؤلاء حلقة للذين يحلقون الشعر
جمع حالق . اه .
فقول الشاعر : حلق الحديد المراد من الحلق الدّروع سواء كسرت الحاء أو فتحت .
وإضافتها إلى الحديد كقولهم : خاتم فضة وثوب خزّ . ف المضاعف لا يكون حالاً إلا من
ضمير الحلق المستقر في الجارّ والمجرور الواقعين خبراً أو من الحلق على مذهب سيبويه
: من تجويزه مجيء الحال من المبتدأ أو من ضمير يتلهّب . ولا يصح أن يكون حالاً من
الحديد إذ لا معنى له .
فتأمّل .
وأيضاً الدّرع المضاعفة هي المنسوجة حلقتين حلقتين قيل : ويجوز أن يراد بالمضاعفة
درع فوق أخرى . ويتلهّب : يشتعل استعير للمعانه . والحشد
____________________
يكون
لازماً ومتعدياً يقال : حشد القوم من باب قتل وضرب : إ ا اجتمعوا . وحشدتهم أي :
جمعتهم .
وهذا البيت من أبيات لزيد الفوارس أوردها أبو محمد الأعرابي في كتاب ضالّة الأديب
.
وهي : ( دلّهت أن لم تسألي أيّ امرئ ** بلوى النقيعة إذ رجالك غيّب ) ( إذ جاء يوم
ضوءه كظلامه ** بادي الكواكب مقّمطرّ أشهب ) ( عوذ وبهثة حاشدون عليهم ** حلق
الحديد مضاعفاً يتلهّب ) ( ولّوا تكبهم الرماح كأنهم ** أثل جأفت أصوله أو أثأب )
( لد غدوة حتى أغاث شريدهم ** جوّ العشارة فالعيون فزنقب ) ( فتركت زرّاً في
الغبار كأنه ** بشقيقتي قدمية متلبّب ) )
قال أبو محمد الأعرابي : كان سبب هذه الأبيات أنه أغار زرّ بن ثعلبة أحد بني عوذ
بن غالب بن قطيعة بن عبس في بني عبس وعبد الله بن غطفان فأصابوا نعماً لبني بكر بن
سعد بن ضبة فطردوهم . فأتاهم الصريخ ورئيسهم يومئذ زيد الفوارس حتى أدركوهم
بالنقيعة تحت الليل فقتلوا زرّاً والجنيد بن تيجان من بني مخزوم وابن أزنم من بني
عبد الله بن غطفان . فقال زيد الفوارس هذه الأبيات في ذلك . اه .
قوله : دلّهت بالبناء للمفعول وخطاب المؤنثة من التدليه وهو ذهاب العقل من همّ
وعشق ونحوه . دعاء عليها أن لم تسأل عنه أيّ فارس كان هناك وأي امرئ خبر مبتدأ
محذوف أي : أنا ويجوز نصبه على أنه خبر كان المحذوفة مع اسمها أي : أيّ امرئ كنت
وبها يتعلق الظرفان .
وإذ الثانية بدل من إذ
____________________
الأولى
. والنقيعة بالنون : موضع بين بلاد بني سليط وضبة . واللوى : ما التوى من الرمل .
ويوم مقمطرّ : مشتدّ اقمطرّ أي : اشتدّ . وأشهب : من الشهبة وهو بياض يصدعه سواد .
وقوله : ولّوا تكبهم الخ ولّوا : ادبروا وجملة تكبهم حال من الواو كبّه : قلبه
وصرعه . والرماح : جمع رمح . وجأفت الشجرة بعد الجيم همزة أي : قلعتها . والأثأب
بالمثلثة كجعفر : شجر الواحدة أثأبة . والشريد : الطريد المهزوم وهو مفعول . وجوّ
العشارة فاعله وهو موضع وكذلك العيون . وزنقب بالزاي والنون والقاف .
وقول بشقيقتي قدميّة هو مثنى شقيقة و الشقيقة : كلأ ما انشق نصفين وكلّ منهما
شقيقة أي : كأنه ملفوف بشقتي ثوب قدميّة . وقدم بضم القاف وفتح الدال : حي باليمن
وموضع تصنع فيه ثياب حمر . ومتلبب من تلبّب بثوبه : إذا التف به وتشمّر . ولبّبته
تلبيباً إذا جمعت ثيابه عند نحره في الخصومة ثم جررته . و زيد الفوارس هو ابن حصين
بن ضرار الضبي وهو جاهلي . وذكره الآمديّ في المؤتلف والمختلف ولم يرفع نسبه ولا
ذكر له شيئاً من شعره .
وهذه نسبته من جمهرة ابن الكلبي : زيد الفوارس بن حصين بن ضرار بن عمرو بن مالك بن
زيد بن كعب بن بجالة بن ذهل بن مالك بن بكر بن سعد بن ضبة بن أدّ بن طابخة بن
الياس بن مضر بن نزار بن معدّ بن عدنان . وضرار بن عمرو وكان يقال له : الرّديم
لأنه كان إذا وقف في الحرب ردم ناحيته أي : سدّها وطالت رياسته وشهد يوم القرنتين
ومعه ثمانية عشر من ولده يقاتلون معه وزيد الفوارس كان فارصهم . ولهذا قيل له :
زيد الفوارس . )
وأنشد بعده وهو الشاهد الثامن والثمانون بعد المائة
____________________
(
وإنّا سوف تدركنا المنايا ** مقدّرة لنا ومقدّرينا ) على أنه يجوز عطف أحد حالي
الفاعل والمفعول على الآخر كما في هذا البيت . فإنّ مقدرة حال من الفاعل وهو
المنايا ومقدرينا : حال من المفعول أعني ضمير المتكلم مع الغير . أي : تدركنا
المنايا في حال كوننا مقدّرين لأوقاتها وكونها مقدّرة لنا .
والمنايا : جمع منيّة وهي الموت وسمي منية لأنه مقدر من منى له أي : قدّر قال أبو
قلابة الهذلي : ( فلا تقولن لشيء سوف أفعله ** حتى تلاقي ما يمني لك الماني ) وه ا
البيت من معلّقة عمرو بن كلثوم التغلبي . وهذا مطلعها : ( ألا هبّي بصحنك فاصبحينا
** ولا تبقي خمور الأندرينا ) ( مشعشعةً كأنّ الحصّ فيها ** إذا ما الماء خالطها
سخينا ) ( تجور بذي اللبانة عن هواه ** إذا ما ذاقها حتى يلينا ) ( ترى اللحز
الشحيح إذا أمرّت ** عليه لماله فيها مهينا )
____________________
(
صددت الكأس عنا أمّ عمرو ** وكان الكأس مجراها اليمينا ) ( وما شر الثلاثة أمّ
عمرو ** بصاحبك الذي لا تصبحينا ) وإنا سوف تدركنا المنايا . . . البيت ألا : حرف
يفتتح به الكلام ومعناه التنبيه . وهبّي : معناه قومي مننومك يقال : هبّ مننومه
يهبّ هبّاً إذا انتبه وقام من موضعه . والصحن : القدح الواسع الضخم .
وقوله : فاصبحينا أي : اسقينا الصبوح وهو شرب الغداة يقال : صبحه بالتخفيف صبحاً
بالفتح . والأندرين : قرية بالشام كثيرة الخمر وقيل : هو أندر ثم جمعه بما حواليه
وقيل : هو أندرون . وفيه لغتان منهم من يعربه إعراب جمع المذكر السالم ومنهم من
يلزمه الياء ويجعل الإعراب على النون وقال الزجّاج : يجوز مع هذا لزوم الواو أيضاً
.
وقوله : مشعشعة كأن الخ المشعشعة : الرقيقة من العصر أو من المزاج يقال : شعشع
كأسك أي : صبّ فيها ماء منصوب على أنه مفعول اصبحينا أي : اسقينا ممزوجة وقيل :
حال من )
خمور وقيل بدل منها . والحصّ بضم المهملة : الورس وهو نبت أصفر يكون باليمن وقيل :
هو الزعفران .
وقوله : سخينا قال أبو عمرو الشيباني : كانوا يسخنون لها الماء في الشتاء ثم
يمزجونها به فهو على هذا حال من الماء . وقيل : هو صفة موصوف محذوف أي : فاصبحينا
شراباً سخيناً .
وفيه نظر . وقيل : سخينا فعل أي : جدنا يقال : سخي يسخى من باب تعب والفاعل سخ
وفيه لغتان اخريان : إحداهما سخا يسخو فهو ساخ من باب عل والثانية سخو يسخو مثل
قرب يقرب سخاوة فهو سخيّ . ويروى : شحينا بالشين المعجمة أي : إذا خالطها الماء
مملوءة به .
والشحن : الملء والفعل من باب نفع والشحين بمعنى المشحون .
وقوله : تجور بذي اللبانة الخ من الجور وهو العدول . و اللبانة : الحاجة يمدح
الخمر ويقول : تعدل بصاحب الحاجة عن حاجته وهواه إذا ذاقها حتى يلين . أي : هي
تنسي الهموم والحوائج أصحابها فإذا شربوها لانوا ونسوا أحزانهم وحوائجهم .
____________________
وقوله : ترى اللحز الخ اللحز بفتح اللام وكسر المهملة وآخره زاي معجمة : الضيّق
البخيل وقيل : هو السيئ الخلق اللئيم . وقوله : إذا امرّت عليه أي : أديرت الكأس
عليه . والمعنى : أنّ الخمر إذا كثر دورانها عليه أهان ماله وجاد به .
وقوله : صددت الكأس عنا الخ أي : صرفت الكأس عنا إلى غيرنا . وهذا البيت من شواهد
سيبويه على أن قوله اليمينا نصب على الظرفية . وفيه أربعة أوجه : أحدها : أن يكون
مجراها بدلاً من الكأس وهو مصدر لا مكان . واليمين : ظرف خبر كان .
الثاني : أن اليمين خبر كان لا ظرف لكن على حذف مضاف أي : مجرى اليمين . الثالث :
مجراها مبتدأ واليمين ظرف خبره والجملة خبر كان . الرابع : ان يجعل المجرى مكاناً
بدلاً من الكأس واليمين خبر كان لا ظرف . وأمّ عمرو منادى .
قال ابن خلف : هي أمّ الشاعر وكان هو جالساً مع أبيه وأبي أمه وكانت تسقي أباها
وزوجها وتعرض عنه استصغاراً له فقال لها : إذا سقيت إنساناً كأساً اجعلي الكأس
بعده للذي على يمينه حتى ينقضي الدّور ولا ينبغي أن تحقريني فلست بشر الثلاثة يعني
: نفسه وأباه وأباها اه وهذا بعيد .
قال شرّاح المعلقات : وبضعهم يروي هذين البيتين لعمرو ابن أخت جذيمة الأبرش : وذلك
أنه لما )
وجده مالك وعقيل في البريّة وكانا يشربان وأمّ عمرو هذه تصد عنه الكأس فلما قال
هذا وقوله : إنا سوف تدركنا الخ معنى هذا البيت في اتصاله بما قبله أنه لما قال
لها هبي بصحنك حثها على ذلك . والمعنى : فاصبحينا من قبل حضور الأجل
____________________
فإن
الموت مقدّر لنا ونحن مقدّرون له .
وهذه القصيدة أنشدها عمرو بن كلثوم في حضرة الملك عمرو بن هند وهو ابن المنذر وهند
امه ارتجالاً يذكر فيها أيام بني تغلب ويفتخر بهم . وأنشد أيضاً عند الملك يومئذ
الحارث بن حلّزة قصيدته الت أولها : آذنتنا ببينها أسماء وتقدمت حكايتها . قال
معاوية بن أبي سفيان : قصيدة عمرو بن كلثوم وقصيدة الحارث بن حلّزة من مفاخر العرب
كانتا معلّقتين بالكعبة دهراً .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : قصيدة عمرو بن كلثوم من جيّد شعر العرب وإحدى
السبع .
ولشغف تغلب بها قال بعض الشعراء : ( ألهى بني تغلب عن كلّ مكرمة ** قصيدة قالها
عمرو بن كلثوم ) ( يفاخرون بها مذ كان أولهم ** يا للرجال لشعر غير مسؤوم ) وكان
سبب هذه القصيدة ما رواه أبو عمرو الشيباني قال : كانت بنو تغلب ابن وائل من أشد
الناس في الجاهلية . وقالوا : لو أبطأ الإسلام قليلاّ لأكلت بنو تغلب
____________________
الناس
. ويقال : جاء ناس من بني تغلب إلى بكر بن وائل يستسقونهم فطردتهم بكر للحقد الذي
كان بينهم فرجعوا فمات منهم سبعون رجلاً عطشاً . ثم إن بني تغلب اجتمعوا لحرب بكر
بن وائل واستعدّت لهم بكر حتى إذا التقوا كرهوا الحرب وخافوا ان تعود الحرب بينهم
كما كانت فدعا بعضهم بعضاً إلى الصلح فتحاكموا إلى الملك عمرو بن هند فقال عمرو :
ما كنت لأحكم بينكما حتى تأتوني بسبعين رجلاً من أشراف بكر بن وائل . فأجعلهم في
وثاق عندي . فإن كان الحق لبني تغلب دفعتهم إليهم وإن لم يكن لهم حق خلّيت سبيلهم
. فعلوا وتواعدوا ليوم بعينه يجتمعون فيه .
فجاءت تغلب في ذلك اليوم يقودها عمرو بن كلثوم حتى جلس إلى الملك .
وقال الحارث بن حلّزة لقومه وهو رئيس بكر بن وائل : إني قد قلت قصيدة فمن قام بها
ظفر بحجته وفلج على خصمه فروّاها ناساً منهم فلمّا قاموا بين يديه لم يرضهم فحين
علم انه لا يقوم )
بها أحد مقامه قال لهم : والله إني لأكره أن آتي الملك فيكلمني من وراء سبعة ستور
وينضح أثري بالماء إذا انصرفت عنه وذلك لبرص كان به غير أني لا أرى أحداً يقوم بها
مقامي وأنا محتمل ذلك لكم . فانطلق حتى أتى الملك فلما نظر إليه عمرو بن كلثوم قال
للملك : أهذا يناطقني وهو لا يطيق صدر راحلته فأجابه الملك حتى أفحمه .
آذنتنتا ببينها أسماء وهو من وراء سبعة ستور وهند تسمع فلما سمعتها قالت : تالله
ما رأيت كاليوم قط رجلاً يقول مثل هذا القول يكلّم من وراء سبعة ستور فقال الملك :
ارفعوا ستراً ودنا . فمازالت تقول ويرفع ستر فستر حتى صار مع الملك على مجلسه ثم
أطعمه في جفنته وأمر أن لا ينضح أثره بالماء وجزّ نواصي السبعين الذين كانوا في
يديه من بكر ودفعها إلى الحارث وأمره أن لا ينشد قصيدته إلا متوضياً . فلم تزل تلك
النواصي في بني يشكر بعد الحارث وهو من ثعلبة بن
____________________
غنم
من بني مالك بن ثعلبة . وأنشد قصيدته عمرو بن كلثوم . هكذا نقلل الخطيب التبريزي
عن أبي عمرو الشيباني . وهذا مخالف لما نقلناه عنه عند ذكر معلقة الحارث بن حلّزة
والله أعلم . و عمرو صاحب هذه المعلقة هو عمرو بن كلثوم بن مالك بن عتاب بن سعد بن
زهير بن جشم بن بكر بن حبيّب بن عمرو بن غنم بن تغلب بن وائل .
قا لأبو عبيد البكريّ في شرح نوادر القاليّ عمرو بن كلثوم شاعر فارس جاهليّ وهو
أحد فتاك العرب وهو الذي فتك بعمرو بن هند . وكنيته أبو الأسود . وأخوه مرّة هو
الذي قتل المنذر بن النعمان . وامه أسماء بنت مهلهل بن ربيعة . ولما تزوج مهلهل
هنداً بنت عتيبة ولدت له جارية فقال لأمها : اقتليها وغيّبيها فلما نام تف به هاتف
يقول : ( وعدد لا يجهل ** في بطن بنت مهلهل ) فاستيقظ فقال : أين بنتي فقالت :
قتلتها . فقال : لا وإله ربيعة زكان أول من حلف بها . ثم ربّاها وسمّاها أسماء
وقيل ليلى . وتزوجها كلثوم بن مالك . فلما حملت بعمرو أتاها آت في المنام فقال : (
يا لك ليلى من ولد ** يقدم إقدام الأسد ) ( من جشم فيه العدد ** أقول قولاً لا فند
)
____________________
فلما
ولدت عمراً اتاها ذلك الآتي فقال : ) ( أنا زعيم لك أم عمرو ** بماجد الجدّ كريم
النجار ) ( أشجع من ذي لبد هزبر ** وقّاص أقران شديد الأسر ) يسودهم في خمسة وعشر
وكان كما قال سادهم وهو ابن خمس عشرة سنة . ومات وهو ابن مائة وخمسين سنة . اه .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء عمرو بن كلثوم جاهليّ قديم وهو قاتل عمرو بن هند
الملك . . وكان سبب ذلك أنّ عمرو بن هند قال ذات يوم لندمائه : هل تعلمون أحداً من
العرب تأنف أمّه من خدمة أمّي قالوا : لا نعلمها إلا ليلى أم عمرو بن كلثوم قال :
ولم ذلك قالوا : لأن أباها مهلهل بن ربيعة وعمّها كليب وائل أعز العرب وبعلها
كلثوم بن مالك بن عتّاب أفرس العرب وابنها عمرو بن كلثوم سيّد من هو منه فأرسل
عمرو بن هند إلى عمرو بن كلثوم يستزيره ويسأله أن يزير أمّه أمّه .
فأقبل عمرو بن كلثوم من الجزيرة إلى الحيرة في جماعة من بني تغلب وأقبلت ليلى بنت
مهلهل في ظعن من بني تغلب وأمر عمرو بن هند برواقه فضرب ما بين الحيرة والفرات
وأرسل إلى وجوه أهل مملكته فحضروا . ودخل عمروبن كلثوم على عمرو بن هند في رواقه
ودخلت ليلى بنت مهلهل على هند قبّتها وهند أم عمرو بن هند عمّة امرئ القيس الشاعر
وليلى بنت مهلهل أم عمرو بن كلثوم هي بنت أخي فاطمة بنت ربيعة أم امرئ القيس فدعا
عمرو بن هند بمائدة فنصبها فأكلوا ثم دعا بالطرف . فقالت هند : يا ليلى ناوليني
ذلك الطبق فقالت : لتقم صاحبة الحاجة إلى حاجتها فأعادت عليها . فلما ألحّت صاحت
ليلى : واذلاّه يا لتغلب فسمعها ابنها عمرو بن كلثوم فثار الدم في وجهه ونظر إلى
____________________
عمرو
بن هند فعرف الشر في وجهه فقام إلى سيف لعمرو بن هند معلّق بالرواق وليس هناك سيف
غيره فضرب به رأس عمرو بن هند حتى قتله ونادى في بني تغلب فانتهبوا جميع ما في
الرواق واستاقوا نجائبه وساروا نحو الجزيرة . . . وابنه عتّاب بن عمرو بن كلثوم
قاتل بشر بن عمرو بن عدس . وأخوه ( أبني كليب إن عمّيّ اللذا ** قتلا الملوك
وفكّكا الأغلالا ) والله أعلم .
وأنشد بعده وهو
الشاهد التاسع والثمانون بعد المائة ( كأنه خارجاً من جنب صفحته ** سفّود شرب نسوه
عند مفتأد ) على أن خارجاً حال من الفاعل المعنويّ وهو الهاء . لأن المعنى يشبه
خارجاً . وقد بيّنه الشارح المحقق .
وعامل الحال ما في كان من معنى الفعل قال أبو عليّ الفارسيّ في الإيضاح الشعري وقد
أورد هذا البيت في باب الحروف التي تتضمن معنى الفعل : العامل في خارجاً ما في
كأنّ من معنى الفعل . فإن قلت : لم لا يكون العامل ما في الكلام من معنى التشبيه
دون ما ذكرت مما في كأنّ من معنى الفعل فالقول أن معنى التشبيه لا يمتنع انتصاب
الحال عنه نحو : زيد كعمرو مقبلاً إلا أن إعمال
____________________
ذلك
في البيت لا يستقيم لتقدم الحال وهي لا تتقدم على ما يعمل فيها من المعاني .
والهاء فيكانه عائدة على المدرى المراد به قرن الثور . والضمير في صفحته راجع إلى
ضمران وهو اسم كلب . والسّفود خبر كأن بفتح السين وتشديد الفاء المضمومة وهي
الحديدة التي يشوى بها الكباب . والشّرب بالفتح : جمع شارب . ونسوه أي : تركوه حتى
نضج ما فيه . شبّه قرن الثور النافذ في الكلب بسفّود فيه شواء . والمفتأد بفتح
الهمزة قبل الدال : المشتوى والمطبخ وهو محل الفأد بسكون الهمزة : اسم فاعل وهو
الذي يعمل الملّة . والفئيد على فعيل : كل نار يشوى عليها .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني يمدح بهاالنعمان بن المنذر ويعتذر إليه فيها
مما بلغه عنه . وقد بينّا سبب اعتذاره في ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة .
وهذه القصيدة أضافها أبو جعفر احمد بن محمد بن إسماعيل النحوي إلى المعلقات السبع
لجودتها . وقد أورد الشارح المحقق في شرحه عدة أبيات منها .
وقبل هذا البيت : ( كأنّ رحلي وقد زال النهار بنا ** بذي الجليل على مستانس وحد )
____________________
(
من وحش وجرة موشي أكارعه ** طاوي المصير كسيف الصيقل الفرد ) ( سرت عليه من
الجوزاء سارية ** تزجي الشمال عليه جامد البرد ) ( فارتاع من صوت كلاّب فبات له **
طوع الشوامت من خوف ومن صرد ) ) ( فهاب ضمران منه حيث يوزعه ** طعن المعارك عند
المجحر النجد ) ( شك الفريصة بالمدرى فأنفذها ** شك المبيطر إذ يشفي من العضد ) (
كأنه خارجاً من جنب صفحته ** سفّود شرب نسوه عند مفتأد ) ( فظلّ يعجم أعلى الرّوق
منقبضاً ** في حالك اللون صدق غير ذي أود ) ( لما رأى واشق إقعاص صاحبه ** ولا
سبيل إلى عقل ولا قود ) ( قالت له النفس : إني لاأرى طمعاً ** وغن مولاك لم يسلم
ولم يصد ) ( فتلك تبلغني النعمان إن له ** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد )
الرحل : الناقة . وزال النهار أي : انتصف وهو من الزوال . وبنا : الباء بمعنى على
. والجليل : بضم الجيم : الثمام وهو موضع أي :
____________________
بموضع
في هذا النبت . وهذا النبت لا تأكله الدواب .
والمستأنس : الناظر بعينيه . وروي : مستوجس : وهو الذي قد أوجس في نفسه الفزع فهو
ينظر . والوحد بفتحتين : الوحيد المنفرد وهو صاحبها : وعلى بمعنى مع . وجملة وقد
زال النهار الخ حال . وهذه الأمور مما يوجب الإسراع فإن المسافر في فلاة يجد يجد
في السير بعد الزوال ليصل إلى منزل يجد فيه رفيقاً وعلفاً لدابته .
وقوله : من وحش شبه ناقته بثور وحشي موصوف بهذه الصفات الآتية . وخص وحش وجرة
لأنها فلاة بين مران وذات عرق ستون ميلاً والوحش يكثر فيها ويقال : إنها قليلة
الشرب فيها .
والموشي بفتح الميم : اسم مفعول من وشيت الثوب أشيه وشياً وشية أي : لونته ألواناً
مختلفة .
وأراد به الثور الوحشي فإنه أبيض وفي أكارعه أي : قوائمه نقط سود وفي وجهه سفعة .
وموشي : بالجر صفة وحش وأكارعه : فاعله .
وطاوي المصير أي : ضامره والمصير المعى وجمعهخ مصران وجمع مصران مصارين .
وقوله : كسيف الصيقل أي : يلمع . والفرد بكسر الراء وفتحها وسكونها : الثور
المنفرد إن أنثاه وكذلك الفارد والفريد .
وقوله : سرت عليه الخ والسارية : السحابة التي تأتي ليلاً . ومعنى سرت عليه الخ أي
: مطر بنوء الجوزاء . وتزجى مصدره الإزجاء بالزاي والجيم وهو السوق . والشمال
فاعله وهي ريح معروفة . وجامد البرد : مفعوله أي : ما صلب من البرد .
وقوله : فارتاع من صوت الخ أي : فزع الثور وخاف . والكلاب بالفتح : الصياد صاحب )
الكلاب . وله : أي : للكلاب . والفاء في قوله : فبات عاطفة . وطوع مرفوع ببات .
والمعنى عند الأصمعي : فبات للكلاب ما أطاع شوامته من الخوف والصرد . وعند أبي
عبيدة : فبات له ما يسر الشوامت . وروي طوع بالنصب فمرفوع بات ضمير الكلاب وله أي
: لأجل الثور
____________________
والشوامت
: القوائم جمع شامتة . أي : فبات قائماً بين خوف وصرد وهو مصدر صرد من باب فرح :
إذا وجد البرد .
وقوله : فبثهن عليه الخ بث : فرق وفاعله ضمير الكلاب وضمير المؤنث المجموع للكلاب
المفهومة من الكلاب وضمير عليه للثور وكذلك ضمير به . وأراد بصمع الكعوب قوائم
الكلاب والصمع : الضوامر الخفية الواحدة صمعاء . والكعوب : جمع كعب وهو المفصل من
العظام .
قال أبو الفرج الأصبهاني في الأغاني : يعني بصمع الكعوب أن قوائمه لازقة محددة
الأطراف ملس ليست بهزيلات . وأصل الصمع دقة الشيء ولطافته . وبريئات حال من الكعوب
. والحرد بفتح المهملتين : أراد به العيب وأصله استرخاء عصب في يد البعير من شدة
العقال وربما كان خلقة وإذا كان به نفض يديه وضرب بهما الأرض ضرباً شديداً .
وقوله : فهاب ضمران هو بضم الضاد المعجمة : اسم كلب . منه أي : من الثور . وروى
الأصمعي وأبو عبيدة : فكان ضمران منه . ويوزعه : يغريه . في الصحاح : أوزعته
بالشيء فأوزع به فهو موزع به أي : مغرى به . أي : كان الكلب من الثور حيث أمره
الكلاب أن يكون . وطعن المعارك بالنصب أراد : يطعن طعناً مثل طعن المعارك . وروي :
ضرب المعارك وهو مثله . والمعارك اسم فاعل بمعنى المقاتل . والمجحر : اسم مفعول من
أجحرته بتقديم الجيم على المهملة أي : ألجأته إلى أن دخل جحره فانجحر . والنجد :
يروى بفتح النون وضم الجيم بمعنى الشجاع من النجدة وهي الشجاعة يقال : نجد الرجل
بالضم فهو وصف للمعارك .
وروي النجد بفتح النون وكسر الجيم وهو إما بمعنى الشجاع فإن الوصف من النجدة جاء
بضم الجيم وكسرها وأما وصف من نجد الرجل من باب فرح أي : عرق من عمل أو كرب وشدة
واسم العرق النجد بفتحتين ومنه قوله في هذه القصيدة : بعد الأين والنجد . وقد نجد
ينجد بالبناء للمفعول نجداً
____________________
بفتحتين
أي : كرب فهو منجود ونجيد أي : مكروب . وعلى هذا فهو وصف المجحر . وروي أيضاً
النجد بفتحتين فهو على حذف مضاف أي : ذي النجد . )
وروى أبو عبيدة : حيث يوزعه طعن بالرفع وقال : رفع ضمران بكان وجعل الخبر في منه
أي : كان الكلب من الثور كانه قطعة منه في قربه . وارتفع الطعن بيوزعه . وقال :
سمعت يونس بن حبيب يجيب بهذا الجواب في هذا البيت .
وقوله : شك الفريصة الخ فاعل شك ضمير الثور . والفريصة : اللحمة بين الجنب والكتف
التي لا تزال ترعد من الدابة وهي مقتل . وأراد بالمدرى قرن الثور أي : شك الثور
بقرنه فريصة الكلب . وشكّ : منصوب على المصدر التشبيهي أي : شكّاً مثل شك المبيطر
وهو البيطار . و يشفي : يداوي ليحصل الشفاء . و العضد بفتحتين : داء يأخذ الإبل في
أعضادها فيبط تقول منه : عضد البعير من باب فرح .
وقوله : كأنه خارجاً الخ أي : كأن القرن في حال خروجه سفّود . ومثله قول أبي ذؤيب
الهذلي : ( فكأنّ سفّودين لمّا يقترا ** عجلا له بشواء شرب ينزع ) أي : فكأن
سفودين لم يقترا بشواء شرب ينزع أي : هما جديدان . شبّه قرنيه بالسفّودين .
وقوله : عجلا له أي : للثور بالطعن الواقع بالكلاب .
وقوله : فظلّ يعجم الخ عجمه يعجمه : إذا مضغه . والرّوق بالفتح : القرن . و الحالك
: الشديد السواد . والصدق بالفتح هو الصلب بالضم . والأود بفتحتين : العوج أي :
ظلّ الكلب يمضغ أعلى القرن لمّا خرج من جنبيه في حالك يعني القرن في شدّة سواده .
أي : تقبّض واجتمع في القرن لما يجد من الوجع كما تقول : صلّى في ثيابه .
____________________
قال ابن قتيبة في أبيات المعاني وقد شرح أبياتاً خمسة إلى هنا : من عادة الشعراء
إذا كان الشعر مديحاً وقال : كأن ناقتي بقرة أو ثور أن تكون الكلاب هي المقتولة .
فإذا كان الشعر موعظة ومرثية أن تكون الكلاب هي التي تقتل الثور والبقرة : ليس على
أن ذلك حكاية قصة بعينها .
وقوله : لمّا راى واشق إقعاص الخ واشق : اسم كلب . والإقعاص : الموت السريع يقال :
رماه فأقعصه : إذا قتله وأصله من القعاص بالضم وهو داء يأخذ الغنم فتموت سريعاً .
والعقل : إعطاء الدية . يقول : قتل صاحبه فلم يعقل به ولم يقد به .
وقوله : قالت لهالنفس الخ هذا تمثيل أي : حدثته نفسه بهذا أي باليأس منه . والمولى
: الناصر والصاحب وهو هنا الكلب . لم يسلم من الموت ولم يصد الثور . وقيل : المولى
صاحب الكلاب )
لم يسلم من الضرر لأن كلبه قتل . وقوله : فتلك تبلغني النعمان الخ أي : تلك الناقة
التي تشبه هذا الثور تبلغني النعمان . وقوله : في الأدنى الخ البعد بفتحتين قيل :
إنه مصدر ويستوي فيه لفظ الواحد والجمع والمذكر والمؤنث وقيل : إنه جمع باعد مثل
خادم وخدم وعلى هذا اقتصر صاحب الصحاح وأنشد البيت أي : في القريب والبعيد . وروى
ابن الأعرابيّ وفي البعد بضمتين وهو جمع بعيد . وروى أبو زيد وفي البعد بضم ففتح
وهو جمع بعدى مثل دنىً جمع دنيا وسفل جمع سفلى .
وقد لخّصت شرح هذه الأبيات مع إيضاح وزيادات من شرح ديوان النابغة ومن شرح القصيدة
للخطيب التبريزي ومن أبيات المعاني لابن قتيبة . ولله الحمد .
وأنشد بعده وهو وهو من شواهد س :
____________________
(
فأرسلها العراك ولم يذدها ** ولم يشفق على نغص الدّخال ) على أن المصدر المعرف
باللام قد يقع حالاً كما في البيت : فإن العراك مصدر عارك يعارك معاركة وعراكاً
يقال : أورد إبله العراك : إذا أوردها جميعاً الماء كما في قولهم : اعترك القوم أي
: ازدحموا في المعركة .
وفيه مذاهب : الأول مذهب سيبويه : أنه مصدر وقع حالاً . الثاني : مذهب أبي علىّ
الفارسيّ . وبينهما الشارح المحقق . الثالث : مذهب ابن الطراوة وهو أن العراك نعت
مصدر محذوف وليس بحال أي : فأرسلها الإرسال العراك .
وزعم ثعلب أن الرواية : وأوردها العراك وأن العراك مفعول قان لأوردها . وأما قولهم
: أرسلها العراك فهو عند الكوفيين مضمّن أرسلها معنى أوردها فهو مفعول ثان لأوردها
. والإرسال : بمعنى التخلية والإطلاق وفاعله ضمير الحمار وضمير المؤنث لأتنه وهي
جمع أتانة . والذّود : الطرد . ولم يشفق أي : الحمار من أشفق عليه : إذا رحمه .
والنغص بفتح النون والغين المعجمة وإهمال الصاد مصدر في الصحاح : نغص الرجل بالكسر
ينغص نغصاً : إذا لم يتم مراده وكذلك البعير : إذا لم يتمّ شربه . وأنشد هذا البيت
.
وروي : نغض بالضاد المعجمة أيضاً لكنه بسكون الغين وهو التحرك وإمالة الرأس نحو
الشيء يريد : أنها تميل أعناقها إلى الماء بشدة وتعب . قال السيرافي : يريد أن
بعضها يزحم بعضاً حتى لا )
يقدر أن يتحرك لشدة الازدحام فهو واقف مزحوم لا يقدر أن يشرب ولا يتمكن من الحركة
.
والدّخال بكسر الدال : أن يداخل بعير قد شرب مرة في الإبل التي لم تشرب حتى يشرب
معها إذا كان كريماً أو شديد العطش أو ضعيفاً .
وقال الأعلم : الدخال : ان يدخل القويّ بين ضعيفين أو الضعيف بين قويين فيتنغص
عليه شربه .
____________________
وهذا البيت من قصيدة للبيد بن ربيعة الصحابي وصف به حمر وحش تعدو إلى الماء . يقول
: أورد العير أتنه الماء دفعة واحدة مزدحمة ولم يشفق على بعضها أن يتنغص عند الشرب
ولم يذدها لأنه يخاف الصيّاد . بخلاف الرّعاء الذين يدبّرون أمر الإبل فإنهم إذا
أوردوا الإبل جعلوها قطعاً قطعاً حتى تروي . وقبله : ( رفعن سرادقاً في يوم ريح **
يصفّق بين ميل واعتدال ) أراد بالسرادق : الغبار . ويصفق يردّد تارة مائلاً وتارة
مستوياً . والنون ضمير الأتن . ورأيت في ديوانه : فأوردها العراك . وفاعله ضمير
العير . وهذهالقصيدة مطلعها : ( ألم تلمم على الدّمن الخوالي ** لسلمى بالمذانب
فالقفال ) وأنشد بعده وهو
الشاهد الحادي والتسعون بعد المائة هو من شواهد سيبويه : جاؤوا قضّهم بقضيضهم هذا
مأخوذ من بيت أورده سيبويه . ( أتتني سليم قضّها بقضيضها ** تمسّح حولي بالبقيع
سبالها ) أنشده على أن قضهم مصدر وقع حالاً . وبينه الشارح المحقق بما لا مزيد
عليه . وقال الأعلم : معنى قضّها بقضيضها : منقضّاً آخرهم على أولهم وأصل القضّ
____________________
الكسر
وقد استعمل الكسر موضع الانقضاض كقولهم : عقاب كاسرة أي : منقضة انتهى .
والكسر : الوقوع على الشيء بسرعة .
وهذا البيت للشماخ . وبعده : ( يقولون لي : يا احلف ولست بحالف ** أخادعهم عنها
لكيما أنالها ) ( ففرجت غم النفس عني بحلفة ** كما قدت الشقراء عنها جلالها )
فقوله : أتتني سليم بالتصغير وروي بدله تميم وهما قبيلتان . والسبال : جمع سبلة
وهي مقدم اللحية . أراد أنهم يمسحون لحاهم وهم يتهددونه ويتوعدونه . وقال الأعلم :
يمسحون لحاهم تأهباً للكلام . والبقيع : موضع بمدينة رسول الله صلى الله عليه وسلم
.
وقوله : يقولون لي احلف أي : يا رجل احلف أو يا للتنبيه . وقوله : أخادعهم عنها أي
: عن الحلفة التي طالبوني أن أحلف بها فأقول لهم لا أحلف وأظهر أن الحلف يشق علي حتى
يلحوا في استحلافي فإذا استحلفوني انقطعت الخصومة بيننا . وقوله : لكيما أنالها أي
: أنال الحلفة واليمين . ومثله قول بعضهم : ( سألوني اليمين فارتعت منها ** ليغروا
بذلك الإنخداع ) ( ثم أرسلتها كمنحدر السي ** ل تعالى من المكان اليفاع ) ومثله
لابن الرومي :
____________________
(
وإني لذو حليف كاذب ** إذا ما اضطررت وفي الحال ضيق ) ( وهل من جناح على مسلم **
يدافع بالله ما لا يطيق ) إسلام وقد بمعنى شق وقطع طولاً . يريد : كشفت هذا الغم
عني باليمين الكاذبة كما كشفت الشقراء )
ظهرها بسق جلها عنه .
وسبب هذه الأبيات على ما روى محمد بن سلام قال : كانت عند الشماخ امرأة من بني
سليم إحدى بني حرام بن سمال فنازعته وادعت عليه طلاقاً فحضر معها قومها فأعانوها .
فاختصموا إلى كثير بن الصلت وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه قد أقعده للنظر بين
الناس فرأى كثير أن لهم عليه يميناً فالتوى الشماخ باليمين يحرضهم عليها ثم حلف .
وقال هذه الأبيات .
وعن القاسم بن معن قال : كان للشماخ امرأة من بني سليم فأساء إليها وضربها وكسر
يدها ثم لما دخل المدينة في بعض حوائجه تعلقت به بنو سليم يطلبون بظلامة صاحبتهم
فأنكر فقالوا له : احلف فجعل يغلظ أمر اليمين وشدتها عليه ليرضوا بها منه حتى رضوا
. فحلف وقال : ( ألا أصبحت عرسي من البيت جامحاً ** بخير بلاء أي أمر بدا لها ) (
على خيرة كانت أم العرس جامح ** فكيف وقد سقنا إلى الحي مالها ) ( سترجع غضبي نزرة
الحظ عندنا ** كما قطعت عنا بليل وصالها ) أتتني سليم قضها بقضيضها وقيل : سببها
أنه هجا قوماً فاستحلفوه فحلف وتخلص منهم .
والشماخ اسمه معقل بن ضرار الغطفاني . وهو مخضرم : أدرك الجاهلية والإسلام . وله
صحبة .
وجعله الجمحي في الطبقة الثالثة من شعراء الإسلام
____________________
وقرنه
بالنابغة الجعدي ولبيد وأبو ذؤيب الهذلي . وقال : إنه كان شديد متون الشعر وأشد
كلاماً من لبيد وفيه كزازة ولبيد أسهل منه منطقاً .
وقال الحطيئة في وصيته : أبلغوا الشماخ أنه أشعر غطفان . وهو أوصف الناس للحمير
يروى أن الوليد بن عبد الملك أنشد شيئاً من شعره في وصف الحمير فقال : ما أوصفه
لها إني لأحسب أن أحد أبويه كان حماراً وكان الشماخ يهجو قومه وضيفه ويمن عليهم
بقراه . وهو أوصف الناس للقوس وأرجز الناس على البديهة وشهد الشماخ وقعة القادسية
. قال المرزباني : وتوفي في غزوة موقان في زمن عثمان بن عفان رضي الله عنه .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : أم الشماخ من ولد الخرشب وفاطمة بنت الخرشب أم
ربيع )
بن زياد وإخوته العبسيين الذين يقال لهم : الكملة .
وأنشد بعده وهو الشاهد الثاني والتسعون بعد المائة قول المتنبي : وقبّلتني على خوف
فماً لفم وهذا البيت من قصيدة قالها في صباه مطلعها :
____________________
(
ضيف ألمّ برأسي غير محتشم ** والسيف أحسن فعلاً منه باللمم ) ( ابعد بعدت بياضاً
لا بياض له ** لأنت أسود في عيني من الظلم ) ( بحب قاتلتي والشيب تغذيتي : ** هواي
طفلاً وشيبي بالغ الحلم ) ( فما أمرّ برسم لا أسائله ** ولا بذات خمار لا تريق دمي
) ( تنفّست عن وفاء غير منصدع ** يوم الرحيل وشعب غير ملتئم ) ( قبّلتها ودموعي
مزج أدمعها ** وقبّلتني على خوف فماً لفم ) ( فذقت ماء حياة من مقبّلها ** او صاب
ترباً لأحيا سالف الأمم ) قوله : ضيف ألمّ برأسي الخ عنى بالضيف الشيب . والمحتشم
: المنقبض المستحي . يريد : أن الشيب ظهر في رأسه دفعة من غير أن يظهر في تراخ .
وهذا معنى قوله : غير محتشم . ثم فضل فعل السيف بالشعر على فعل الشيب به لأن الشيب
أقبح ألوان الشعر . وهذا مأخوذ من قول البحتريّ : ( وددت بياض السيفيوم لقينني **
مكان بياض الشيب منه بمفرقي ) وقوله : ابعد بعدت بياضاً الخ دعاء على الشيب . وبعد
يبعد من باب فرح : إذا هلك وذلّ .
والبياض الأول : الشيب والثاني : الرونق والحسن . وأسود نا : واحد السود . والظلم
: الليالي الثلاث في آخر الشهر . يقول لبياض شيبه : أنت عندي واحد من تلك الظلم .
كقول أبي تمام فيه : ( له منظر في العين أبيض ناصع ** ولكنه في القلب أسود أسفع )
وقيل : أسود أفعل تفضيل جاء على مذهب الكوفيين . وهذا من أبيات مغني اللبيب .
وقوله : بحب قاتلتي الخ عنى بقاتلته حبيبته . يعني : أن حبها بقتله . والباء من
صلة التغذية .
يقول : تغذيت بهذين : الحب والشيب . ثم فسر ذلك بما بعده . يقول : هويت وأنا طفل
وشبت )
حين احتلمت لشدة ما قاسيت من الهوى : فصار غذائي . فقوله : هواي مبتدأ وطفلاً حال
سدّ مسدّ الخبر ومثله ما بعده . وقد فصّل بهذا ماأجمله أولاً لأنه بيّن وقت العشق
ووقت الشيب .
____________________
وقوله : فما امرّ برسم الخ الرسم من أثر الدار : ما كان ملاصقاً بالأرض .
والطلل : ما كان شاخصاً . يقول : كل رسم يذطّرني رسم دارها فاسأله تسلّياً وكل ذات
خمار تذكرنيها فتريق دمي وقوله : تنفست عن وفاء الخ يقول : تنفست يوم الوداع
تحسّراً على يوم فراقي عن وفاء يعني عما في قلبها من وفاء صحيح غير منشق . ويريد :
بالشعب : الفراق من قولهم : شعبته : إذا فرقته . والمعنى : وعن حزن شعب . فحذف
المضاف .
وقوله : قبّلتها ودموعي الخ أي : بكينا جميعاً حتى امتزجت دموعي بدموعها في حال
التقبيل .
والمزج : المزاج مصدر سمّي به الفاعل . يقول : دموعي مازجت دموعها . ونصب فماً على
الحال .
قال أبو حيان في الارتشاف : قال الفرّاء : أكثر كلام العرب كلّمته فاه إلى فيّ
بالنصب والرفع صحيح وفيما أشبه هذا نحو : حاذيته ركبته إلى ركبتي والأكثر فيه
بالرفع . وإذا كان نكرة فالنصب المؤثر المختار نحو : كلّمته فماً لفم وحاذيته
ركبةً لركبة . ورفعه وهو نكرة جائز على ضعف إذا جعلت اللام خبراً لفم وإن وضعت
الواو موضع الصفة فقلت : كلّمته فوه وفيّ .
وحاذيته ركبته وركبتي فالواو تعمل ما تعمل إلى والنصب معها سائغ على غعمال المضمر
اه .
كلام الفرّاء .
قال أبو حيان ويعني بقوله : والنصب معها أي : مع الواو في الثاني . سائغ على إعمال
المضمر يعني جاعلاً أي : جاعلاً فاه وجاعلاً ركبته . ويقتصر في هذا على مورد
السماع . ولو قدّمت حرف الجرّ فقلت : كلمني عبد الله إلى فيّ فوه لم يجز النصب
بإجماع من الكوفيين وتقتضيه قاعدة قول سيبويه في أنه لا يجوز : إلى فيّ تبيين كلك
بعد سقياً لك وتقديم لك على سقياً لا يجوز فينبغي أن لا يجوز هذا . فلو قدّمت فاه
إلى فيّ على كلمته فقلت : فاه إلى فيّ كلمت
____________________
فلو
قلت : فوه إلى فيّ كلمني عبد الله لم يجز ذلك عند أحد من الكوفيين ولا أحفظ نصاً
عن البصريين والقياس يقتضي الجواز اه .
وقوله : فذقت ماء حياة الخ جعل ريقها ماء الحياة على معنى ان العاشق إذا ذاقه حيي
به . )
ومعنى لو أصاب ترباً لو نزل على تراب : من قولهم : صاب المطر يصوب صوباً بمعنى
أصاب .
يقول : لو وقع ريقها على الأرض لحيا الموتى من الأمم المتقدمة . وأول هذا المعنى
للأعشى : ( لو أسندت ميتاً إلى نحرها ** عاش ولم ينقل إلى قابر ) فنقل أبو الطيب
الإحياء إلى ريقها .
وما شرحت به هذه الأبيات فهو من شرح الإمام الواحديّ لخصته منه باختصار : وترجمة
المتنبي تقدمت في البيت الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده : ( ولقد أمرّ على اللئيم يسبذني ** فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني ) على أن
اللام في اللئيم زائدة . قد تقدم الكلام على هذا البيت في الشاهد الخامس والخمسين
.
____________________
وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والتسعون بعد المائة على أن أسد العرين واء النجف حالان
غما على تقدير مثل وإما على تأويلهما بوصف أي : شجعاناً وضعافاً . وهذا ظاهر .
وهذا البيت آخر أبيات أربعة لأحد أصحاب علي بن أبي طالب رضي الله عنه وهي : (
أيمنعنا القوم ماء الفرات ** وفينا السيوف وفينا الحجف ) ( وفينا عليّ له صولة **
إذا خوّفوه الردى لم يخف ) ( ونحن الذين غداة الزبير ** وطلحة خضنا غمار التلف )
فما بالنا أمس أسد العرين ومنشؤها على ما ذكر في كتاب الفتوح وكتاب الروضة
للحجوريّ : أن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه لما نزل يصفين وصفّين مدينة عتيقة من
بناء الأعاجم على شاطئ الفرات بالقرب من قنّسرين فسبقه معاوية إلى الفرات ومنع
علياً وأصحابه من الماء فأرسل عليّ رضي الله عنه إلى معاوية الأشعث بن قيس وصعصعة
بن صوحان وقال : اذهبا إلى معاوية وقولا له : خيلك حالت بيننا وبين الماء ونحن
نكره قتالكم قبل الإعذار فأبلغاه الرسالة وجرى بينهم كلام : فقال الأشعث : إنك إن
تمنعنا بالماء تر منّا ما لا تريد فخلّ عن الماء قبل أن تغلب عليه وقال ابن صوحان
: إنا لا نموت عطشاً وسيوفنا على عواتقنا فاستشار معاوية أصحابه )
فقال له الوليد بن عتبة وهو اخو عثمان من امه : امنعهم كما منعوه عثمان فقال عمروب
ن العاص : ما أظنّ علياً يظمأ وفي يده أعنّة
____________________
الخيل
وهو ينظر إلى الفرات فخلّ عنه وعن الماء .
وقال ابن أبي سرح : أمنعهم الماء منعهم الله إياه فقال ابن صوحان : غنما منعه الله
الفجرة مثلك ومثل هذا الفاسق : الوليد . وبقي أصحاب عليّ يومهم وليلتهم عطاشاً .
فسمع عليّ رضي الله عنه صبياً ينشد : أيمنعنا القوم ماء الفرات ورجع الأشعث فقال :
أيمنعنا القوم وأنت فينا خلّ عني وعنهم غداً قال عليّ : ذلك إليك .
فنادى مناد له : من كان يريد الماء والموت فميعاده الصبح فأصبح على باب مضربه
أربعة عشر ألفاً وسار القوم وكلّ يرتجز برجزه ثم قال الأشعث : تقدّموا فلما أشرفوا
على الماء قال لأصحاب معاوية : خلّوا عن الماء وإلا وردناه فقال أبو الأعور السلمي
: لا والله حتى تأخذنا السيوف وإياكم فقال : الأشعث للأشتر : أقحم الخيل فأقحمها
حتى غمست سنابكها في الماء وأخذ القوم السيوف فولّوا عن الماء . اه .
فقوله : وفينا السيوف وفينا الحجف هو جمع حجفة بفتح الحاء المهملة والجيم يقال :
للترس إذا كان من جلود ليس فيه خشب ولا عقب : حجفة ودرقة كذا في العباب . وقال ابن
دريد في الجمهرة : هي جلود من جلود الإبل يطارق بعضها على بعض ويجعل منها الترسة .
وقوله : ونحن الذين غداة الزبير يشير به إلى وقعة الجمل . والغمار : جمع غمرة
بالفتح وهي الشدة . وقوله : أسسد العرين هو بفتح العين المهملة .
في الصحاح : العرين والعرينة : مأوى الأسد الذي يألفه يقال : ليث عرينة وليث غابة
. وأصل العرين جماعة الشجر . وقوله : شار النجف الشاء : جمع شاة في الصحاح : الشاة
من الغنم تذكر وتؤنث والجمع شياه بالهاء في أدنى العدد تقول : ثلاث شياه إلى
العشرة فإذا حاوزت فبالتاء فإذا كثرت قيل هذه شاء كثيرة . زجمع الشاء شويّ .
والنجف بفتح النون والجيم قال ابن الأعرابي : هو الحلب الجيد حتى ينفض الضرع يقال
: انتجفت
____________________
الغنم
: إذا استخرجت أقصى ما في الضرع من اللبن وانتجفت الريح السحاب : إذا استفرغته
وانتجاف الشيء : استخراجه وكذلك استنجافه . والنجف والنجفة أيضاً : مكان لا يعلوه
الماء مستطيل منقاد والجمع نجاف .
وقال ابن الأعرابي : النجفة المسنّاة والنجف : التل . وقال الأزهري : النجفة التي
هي بظاهر )
الكوفة هي المسناة تمنع ماء السيل أن يعلو منازل الكوفة ومقابرها وفيه مرقد عليّ
بن أبي طالب رضي الله عنه . قال إسحاق بن إبراهيم الموصلّي يمدح النجف : ( ما إن
أرى الناس في سهل وفي جبل ** أصفى هواء ولا أعذى من النجف ) والبال هنا بمعنى
الشأن والحال وهو العامل في أمس وفي الحال لكونه بمعنى الفعل . قال التفتازاني
عندما قال الزمخشري في سورة آل عمران : ما باله وهو آمن قوله : وهو آمن حال من
عامله ما في بال من معنى الفعل ولم نجد في الاستعمال هذه الحال بالواو قال : ما
بال عينك منها الماء ينسكب واعلم ان مجيء الحال بعدما بال أكثريّ وقد يأتي بدونها
كقوله تعالى : فما بال القرون الأولى .
وقد وردت الحال بعده على وجوه : منها مفردة كبيت الشاهد كقوله :
____________________
(
فما بال النجوم معلّقات ** بقلب الصّبّ ليس لها براح ) ومنها ماضيّة مقرونة بقد
كقول العامري : ( ما بال قلبك يا مجنون قد هلعا ** من حبّ من لا ترى في نيله طمعا
) وبالواو معها كقوله : ( ما بال جهلك بعد الحلم والدين ** وقد علاك مشيب حين لا
حين ) وبدون قد كقوله أيضاً : ( فما بال قلبي هدّه الشوق والهوى ** وهذا قميصي من
جوى الحزن باليا ) ومضارعية مثبتة كقول أبي العتاهيّة : وبالواو كقوله :
____________________
(
فما بال من أسعى لأجبر عظمه ** حفاظاً وينوي من سفاهته كسري ) ومنفيّة كما أنشده
ابن الأعرابي : وقائلة ما باله لا يزورها ومنها اسميّة غير مقترنة بواو كقول ذي
الرمّة : ما بال عينك منها الماء ينسكب وأنشد بعده وهو
الشاهد الرابع والتسعون بعد المائة وهو من شواهد س : وما حلّ سعديّ غريباً ببلدة
على انه يجوز تنكير صاحب الحال إذا سبقه نفي : فإن غريباً حال من سعديّ وهو نكرة .
وجاز لأنه قد تخصص بالنفي . وببلدة متعلق بقوله جلّ أي : نزل وأقام .
وهذا صدر وعجزه : فينسب إلا الزّبرقان له أب قال أبو عليّ الفارسيّ في التذكرة
القصرية : قيل : نصب الشاعر غريباً على الحال في قوله فينسب كأنّ قال : وما حلّ
سعديّ ببلدة فينسب إلى الغربة . وهذا لا يجوز : أعني نصب غريباً بينسب لتقدّمه
عليه لأن تقديم الصلة على الموصول لا يجوز والفرار مما لا يجوز إلى ما لا يجوز
مرفوض . ولكنه حال من النكرة . فاعلم ذلك . اه .
وروي أيضاً : وما حلّ سعديّ غريب بالرفع فعلى هذا هو وصف لسعديّ . استشهد به
سيبويه على نصب ينسب بعد الفاء عبى الجواب مع دخول
____________________
إلا
بعده للإيجاب لأنها عرضت بعد اتصال الجواب بالنفي ونصبه على ما يجب له . . ويجوز
الرفع أيضاً .
وأورده الشارح المحقق في نواصب الفعل المضارع أيضاً على أن النفي راجع إلى ينسب أي
: يحلّ ولا ينسب قال : ولولا أنّ ما بعد الفاء منفيّ لما جاز الاستثناء إذ المفرغ
لا يكون في الواجب إذ التقدير ما نسب ذلك السعدي إلى أحد إلا إلى الزبرقان .
فالزبرقان منصوب بنزع الخافض وهو إلى وجملة له أب حال من الزبرقان أي : في حال كون
الزبرقان أباً لذلك السعدي .
والزبرقان سيّد قومه وأشهرهم فإذا تغرّب رجل من بني سعد وهم رهط الزبرقان فسئل عن
نسبه ينتسب إليه لشرفه وشهرته .
والزبرقان من الصحابة وهو حصين بن بدر بن امرئ القيس بن خلف بن بهدلة بن كعب بن
سعد بن زيد مناة بن تميم . قال ابن عبد البرّ في الاستيعاب : وفد على رسول الله
صلى الله عليه وسلم في قومه وكان أحد ساداتهم فأسلموا . وذلك في سنة تسع . فولاّه
صدقات قومه . وأقرّه أبو بكر وعمر على ذلك . وإنما سمّي الزبرقان لحسنه شبّه
بالقمر لأن القمر يقال له : الزبرقان . قال الأصمعي : الزبرقان : القمر والزبرقان
: الرجل الخفيف اللحية . وقد قيل : إن )
اسم الزبرقان القمر ابن بدر . والأكثر على أنه الحصين بن بدر . وقيل : بل سمّي
الزبرقان لأنه لبس عمامة مزبرقة بالزعفران . والله أعلم ا . هـ .
ة هذا البيت من قصيدة للّعين المنقريّ . واسمه منازل بن زمعه . وكنيته أبو أكيدر
مصّغر أكدر من بني منقر بكسر الميم وفتح القاف وهو منقر بن عبيد
____________________
بالتصغير
ابن مقاعس وهو الحارث بن عمرو بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم .
واللّعين شاعر إسلامي في الدولة الأموية قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء والمبرّد
في الاعتنان واللفظ له قال راوياً عن أبي عبيدة : اعترض لعين بني منقر لجرير
والفرزدق فقال : ( سأقضي بين كلب بني كليب ** وبين القين قين بني عقال ) ( بأن
الكلب مرتعه وخيم ** وأن القين يعمل في سفال ) فلم يجبه أحد منهما فقال : (
فدونكما انظرا : أهجوت أم لا ** فذوقا في المواطن من نبالي ) ( وما كان الفرزدق
غير قين ** لئيم خاله للّؤم تالي ) ( ويترك جدّه الخطفى جرير ** ويندب حاجباً وبني
عقال ) فلم يلتفتا إليه فسقط اه .
قوله : فما بقيا عليّ الخ البقيا بالضم : الرحمة والشفقة . وصرد السهم من باب فرح
من الأضداد إذا نفذ وإذا نكل . فيكون المعنى على النفوذ إنكما خفتما نفوذ سهامي
فيكما أي : هجائي . وعلى معنى النكول أي : خفتما أن لا تنفذ سهامكما فيّ فعجزتما
عني .
وقد تمثل بهذا البيت هارون الرشيد لما أراد قتل جعفر بن يحيى البرمكي . قال ابن
قتيبة : وكان اللعين هجّاء للأضياف قال :
____________________
(
وأبغض الضيف ما بي جلّ مأكله ** إلا تنفّجه عندي إذا قعدا ) ( ما زال ينفج كتفيه
وحبوته ** حتى أقول : لعلّ الضيف قد ولدا ) ووجه تلقيب اللعين بهذا على ما رواه
صاحب زهر الآداب قال : سمعه عمر بن الخطاب ينشد شعراً والناس يصلّون فقال : من هذا
اللعين فعلق به هذا الاسم .
وأنشد بعده وهو لميّة موحشاً طلل قديم )
على أنهم استشهدوا به لتقدم الحال على صاحبها المنكّر . وفيه ما بيّنه الشارح
المحقق . قال ابن الحاجب في أماليه على أبيات المفصّل : يجوز أن يكون موحشاً حالاً
من الضمير في لميّة فجعل الحال من المعرفة أولى من جعلها من النكرة متقدمة عليها
لأن هذا هو الكثير الشائع وذلك قليل فكان أولى .
وممن استشهد بهذا البيت على ما ذكره الشارح ابن جني في شرح الحماسة عند قوله :
____________________
(
وهلاّ أعدّوني لمثلي تفاقدوا ** وفي الأرض مبثوثاً شجاع وعقرب ) قال : من نصب
مبثوثاً فلأنّه وصف نكرة قدّم عليها فنصب على الحال منها كقوله : لعزّة موحشاً طلل
قديم ومنهم صاحب الكشاف أورده عند قوله تعالى : وجعلنا فيها فجاجاً سبلاً على انّ
فجاجاً كان وصفاً لقوله سبلاً فلما تقدم صار حالاً منه .
ومنهم الخبيصيّ في شرحه للكافية الحاجبية قال : قدّم الحال وهو موحشاً على ذي
الحال وهو طلل لئلا يلتبس بالصفة . . قال شارح شواهد الكرماني : هذا لا يصلح
لمطلوبه من وجوه : الأول أنه محتمل غير منصوص إذ لا نسلّم أنه حال من طلل لجواز
كونه حالاً من ضمير الظرف الثاني : أنه لو تأخر عن ذي الحال لا يلتبس بالصفة لأن
ذا الحال مرفوع والحال منصوب .
الثالث : أنه لا يجوز أن يكون حالاً من كلل لأنه مبتدأ والحال لا تكون إلا من
الفاعل أو المفعول أو ما في قوتهما اه .
وفي كل من الأخيرين نظر ظاهر .
وقد تكلم السخاوي على هذا البيت في سفر السعادة بما يشبه كلام الشارح
____________________
إلا
أن فيه زيادة تتعلق بمذهب الأخفش . وهذا ملخّصه : قال النحاة : انتصب موحشاً على
الحال من طلل والعامل الجارّوالمجرور . وهذا كلام في نظر لأن الجارّ والمجرور إما
أن يقال فيه ما قال سيبويه أو ما قال الأخفش وبين مذهب سيبويه وما يرد عليه من
اختلاف العامل في الحال وذيها ثم قال : وإن قلنا بقول الأخفش فارتفاع طلل على أنه
فاعل والرافع له الجارّ والمجرور ولا مرية على قول الأخفش أن العامل في الحال هو
العامل في ذيها . فإذا كان العامل غير متصرّف لم تتقدم الحال عليه ولا على صاحب
الحال ألا ترى أنه لا يجوز هذا قائماً زيد . ولا قائماً هذا زيد .
والذي ينبغي أن يقال : العامل في الحال الجارّ والمجرور وصاحب الحال الضمير الذي
في الجارّ )
والمجرور اه .
وبعد هذا : والطلل : ما شخص من آثار الدار . والموحش : من أوحش المنزل : إذا ذهب
عنه الناس وصار ذا وحشة وهي الخلوة والهمّ كذا في الصحاح . وعفاه بمعنى درسه
وغيّره . وعفا يأتي متعدّياً يقال : عفت الريح المنزل ويأتي
____________________
لازماً
يقال عفا المنزل : إذا اندرس وتغيّر . والأسحم : هو الأسود والمراد هنا السحاب
لأنه إذا كان ذا ماء يرى أسود لامتلائه . و المستديم : صفة كلّ وهو السحاب الممطر
مطر الديمة والديمة : مطرة أقلها ثلث النهار أو ثلث الليل .
وهذا البيت من روى أوّله لعزة موحشاً الخ قال : هو لكثير عزة منهم أبو علي في
التذكرة القصرية .
ومن رواه لميّة موحشاً قال : إنه لذي الرّمة فإن عزة اسم محبوبة كثيّر وميّة اسم
محبوبة ذي الرمة . والشاهد المشهور في هذا المعنى هو : ( لميّة موحشاً طلل ** يلوح
كأنه خلل ) وقد قيل : إنه لكثير عزّة . والخلل بالكسر : جمع خلة قال الجوهري :
الخلّة بالكسر : واحدة خلل السيوف وهي بطائن يغشّى بها أجفان السيوف منقوشة بالذهب
وغيره .
وأنشد بعده وهو
الشاهد السادس والتسعون بعد المائة على أن الحال تقدّمت على صاحبها المجرور بالحرف
: فإن قوله : حرّان صادياً حالان إما مترادفان أو متداخلتان تقدمتا على صاحبهما
وهو الياء المجرور بإلي . وإليّ : بمعنى عند متعلقة بقوله حبيباً وهو خبر كان .
قال ابن جنّي في إعراب الحماسة : وقد يجوز في هذا عندي وجه آخر لطيف المعنى وهو أن
يكون حرّان صادياً حالاً من الماء أي : كان برد الماء في حال حرّته وصداه حبيباً
إليّ وصف الماء بذلك مبالغة في الوصف وجاء بذلك شاعرنا
____________________
فقال
: وجبت هجيراً يترك الماء صادياً وإذا صدي فحسبك به عطشاً فإن أمكن هذا كان حمله
عليه جائزاً حسناً ورأيت أبا عليّ يستسهل تقديم حال المجرور فينحو هذا عليه ويقول
: هو قريب من حال المنصوب اه .
أقول : أراد بشاعره أي : بشاعر عصره أبا الطيّب المتنبي . الوجه الذي أبداه تخيّل
صحيح فإن الإنسان يحب أن يكون الماء بارداً في جال كونه حاراً . ولكن الوجه الأول
أحسن وأبلغ فإن الماء البارد أحب إلى الإنسان عند عطشه وحرارته من كل شيء . وهذا
المعنى هو المتداول الشائع قال المبرّد في الكامل : هو معنى صحيح وقد اعتوره
الحكماء وكلهم أجاد فيه .
ومثل بيت الشاهد قول عمر بن ابي ربيعة : فإن قوله : إذا ما منعت برد الشراب يفيد
ما أفاده قوله : إليّ حران صادياً فإنه يريد عند وقت الحاجة إليه وبذلك صح المعنى
.
ومثله قول القطاميّ : ( فهنّ ينبذن من قول يصبن به ** مواقع الماء من ذي الغلّة
الصادي ) ينبذن : يرمين به ويتكلمن . والغلّة بالضم : حرارة العطش .
ويروى عن علي رضي الله عنه أن سائلاً سأله فقال : كيف كان حبّكم لرسول الله صلى
الله عليه وسلم فقال : كان والله أحبّ إلينا من أموالنا واولادنا وآبائنا وأمهاتنا
ومن الماء البارد على الظمأ .
____________________
والقول فيه كثير . وتعليق كونها حبيبة إليه على كون الماء حبيباً إليه في تلك
الحالة من باب التعليق على المحقق . وقد تعسف بعضهم في جعل البرد مصدراً ناصباً
لحرّان وصادياً على )
المفعولية بتقدير الموصوف أي : جوفاً حرّان وأنّ المراد جوف نفسه . وذلك هرباً من
وقوع الحال في مثل هذه الصورة . حتى إن بعضهم مع عدم التأويل يقول : لا حجة فيه
لأن الشعر محلّ الضرورة .
وقوله : لئن كان اللام هي اللام المؤذنة وهي الداخلة على أداه شرط للإيذان بأن
الجواب بعدها مبنيّ على قسم قبلها لا على الشرط . وتسمى الموطئة أيضاً لأنها وطأت
الجواب للقسم أي : مهدته له سواء كان القسم غير مذكور كقوله تعالى : لئن أخرجوا لا
يخرجون أم كان مذكوراً قبلها كما هنا فإن قبل هذا البيت قوله : ( حلفت بربّ
الراكعين لربّهم ** خشوعاً وفوق الراكعين رقيب ) فجملة إنها لحبيب جواب القسم
المذكور وهو حلفت . وقد أخطأ من قال : إن هذه الجملة جواب الشرط . مع أن هذا
القائل نقل ضابطة اللام الموطئة عن مغني اللبيب . وضمير إنها لعفراء بنت عم عروة
بن حزام والبيتان له من قصيدة أوّلها : ( وإني لتعروني لذكراك روعة ** لها بين
جلدي والعظام دبيب ) ( وما هو إلا ان أراها فجاءة ** فأبهت حتى ما أكاد أجيب ) (
وأصرف عن رأيي الذي كنت أرتئي ** وأنسى الذي أعددت حين تغيب ) ( ويضمر قلبي عذرها
ويعينها ** عليه فما لي في الفؤاد نصيب ) ( وقد علمت نفسي مكان شفائها ** قريباً
وهل ما لا ينال قريب ) حلفت بربّ الراكعين لربهم . . . البيتين ( وقلت لعرّاف
اليمامة : داوني ** فإنك إن أبرأتني لطبيب ) ( عشية لا عفراء دان مزارها ** فترجى
ولا عفراء منك قريب )
____________________
(
فلست براءي الشمس إلا ذكرتها ** ولا البدر إلا قلت سوف تؤوب ) ( عشية لا خلفي مفرّ
ولا الهوى ** قريب ولا وجدي كوجد غريب ) ( فوا كبداً أمست رفاتاً كأنما ** يلذّعها
بالكفّ كفّ طبيب ) وفي البيتين الأخيرين إقواء .
وعروة بن حزام هو من عذرة أحد عشاق العرب المشهورين بذلك إسلاميّ : كان في مدة
معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه . )
قال أبو عبد الله محمد بن العباس اليزيديّ في روايته ديوان عروة بن حزام عن أبي
العباس أحمد بن يحيى ثعلب عن لقيط بن بكير المحاربيّ قال : كان من حديث عروة بن
حزام وابنة عمّه عفراء ابنة مالك العذريين أنهما نشئا جميعاً فتعلقها علاقة الصبيّ
وكان قديماً في حجر عمّه وبلغ فكان يسأله أن يزوّجه إياها فيسوّفه حتى خرج في عير
لأهله إلى الشام فقدم على أبي عفراء ابن عم لها من أهل البلقاء وكان حاجّاً فخطبها
فزوّجه إياها فحملها . وأقبل عروة في عيره حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلة
من قبل المدينة فيها امرأة على جمل فقال لأصحابه : والله لكأنها شمائل عفراء
فقالوا : ويحك ما تزال تذكر عفراء ما تخلّ بذكرها في وإني لتعروني لذكراك روعة ثم
أخذه مرض السلّ حتى لم يبق منه شيئاً . فقال قوم : هو مسحور وقال قوم : به جنة .
وكان باليمامة طبيب يقال له : سالم فصار إليه ومعه أهله فجعل يسقيه الدواء فلا
ينفعه فخرجوا به إلى طبيب بحجر فلم ينتفع بعلاجه فقال :
____________________
(
جعلت لعرّاف اليمامة حكمه ** وعرّاف حجر إن هم شفياني ) ( فما تركا من حيلة يعلمانها
** ولا سلوة إلا بها سقياني ) ( فقالا : شفاك الله والله ما لنا ** بما حمّلت منك
الضلوع يدان ) قال النعمان بن بشير : بعثني معاوية مصدّقاً على بني عذرة فصدّقتهم
ثم أقبلت راجعاً فإذا أنا ببيت مفرد ليس قربه أحد وإذا رجل بفنائه لم يبق منه إلا
عظم وجلد فلما سمع وجسي ترنّم بقوله : ( وعينان : ما أوفيت نشزاً فتنظرا **
بمأقيهما إلا هما تكفان ) ( كأن قطاة علّقت بجناحها ** على كبدي من شدة الخفقان )
قال : وإذا أخواته حوله أمثال الدمى فنظر في وجوههن ثم قال : ( من كان من أخواتي
باكياً أبداً ** فاليوم إني أراني اليوم مقبوضا ) قال : فبرزن والله يضربن وجوههن
وينتفن شعورهن . فلم أبرح حتى قضى . فهيّات من أمره ودفنته . كذا قال ابن قتيبة في
كتاب الشعراء .
زحكى هذهالرواية راوي شعره عن عروة بن الزبير ثم قال : ومرّ ركب بوادي القرى
فسألوا عن الميّت فقيل : عروة بن حزام وكانوا يردون البلقاء فقال بعضهم لبعض :
والله لنأتين )
عفراء بما يسوءها . فساروا حتى مروا بمنزلها وكان
____________________
ليللاً
فصاح صائح منهم وهي تسمع فقال : ( ألا أيها البيت المغفّل أهله ** إليكم نعينا
عروة بن حزام ) ففهمت عفراء الصوت ونادت بهم : ( ألا أيها الركب المخبّون ويحكم **
أحقاً نعيتم عروة بن حزام ) فقال بعضهم : ( نعم قد دفنّاه بأرض نطيّة ** مقيماً
بها في سبسب وإكام ) فأجابته وقالت : ( فإن كان حقاً ما تقولون فاعلموا ** بأن قد
نعيتم بدر كل تمام ) ( نعيتم فتىً يسقى الغمام بوجهه ** إذا هي أمست غير ذات غمام
) ( وبتن الحبالى لا يرجين غائباً ** ولا فرحات بعده بغلام ) ثم أقبلت على زوجها
فقالت له : إنه قد بلغني من أمر ذلك الرجل ما قد بلغك والله ما كان إلا على الحسن
الجميل وقد بلغني أنه مات فإن رأيت أن تأذن لي فأخرج إلى قبره فأذن لها فخرجت في
نسوة من قومه تندبه وتبكي عليه حتى ماتت .
قال : وبلغني أن معاوية بن أبي سفيان قال : لو علمت بهما لجمعت بينهما .
تنبيه : نسب المبرّد في الكامل بيت الشاهد إلى قيس بن ذريح وذكر ما قبله كذا :
____________________
(
حلفت لها بالمشعرين وزمزم ** وذو العرش فوق المقسمين رقيب ) لئن كان برد الماء
حرّان صادياً ونسبه العينيّ إلى كثيّر عزّة وقال : هو من قصيدة أوّلها : ( أبى
القلب إلا أم عمرو وبغّضت ** إليّ نساء ما لهن ذنوب ) ( حلفت لها بالمأزمين وزمزم
** ولله فوق الحالفين رقيب ) لئن كان برد الماء حرّان صادياً والصحيح ما قدمناه .
والبيتان من شعر غيره دخيل . والله أعلم .
الشاهد السابع والتسعون بعد المائة ( إذا المرء أعيته المروءة ناشئاً ** فمطلبها
كهلاً عليه شديد ) لما تقدم قبله .
قال ابن جني في إعراب الحماسة : كهلاً حال من الهاء في عليه تقديره : فمطلبها عليه
كهلاً شديد . ثم قال : فإن قلت : فهلاّ جعلت كهلاً حالاً من الضمير في المطلب قيل
: المصدر الخبر لا يضمر يه الفاعل بل يحذف معه حذفاً . انتهى .
وهذاالبيت أحد أبيات أربعة مذكورة في الحماسة وهي : ( متى ما يرى الناس الغنيّ
وجاره ** فقير يقولوا : عاجز وجليد )
____________________
(
وليس الغنى والفقر من حيلة الفتى ** ولكن أحاظ قسّمت وجدود ) إذا المرء أعيته
المروءة ناشئاً ( وكائن رأينا من غنيّ مذمّم ** وصعلوك قوم مات وهو حميد ) جملة
وجاره فقير : من المبتدأ والخبر حال من الغنيّ . ويقولوا جواب الشرط . وقوله :
عاجز وجليد خبر مبتدأ محذوف أي : هذان عاجز وجليد والجملة مقول القول . والجليد :
من الجلادة وهي الصلابة أراد القوة على السعي وتحصيل المال . وقوله : ولكن أحاظ
قال الأعلم : جمع حظ على غير قياس ويقال : هو جمع أحظ وأحظ جمع حظ وأصله أحظظ
فأبدل من إحدى الظاءين ياء كراهة التضعيف . ويجوز عندي أن يكون أحظ جمع حظوة وهي
بمعنى الحظ وفعلها حظيت أحظى فلا شذوذ . انتهى .
والحظّ : النصيب . والجدود : جمع جدّ بفتح الجيم وهو البخت . أي : أن الغنى والفقر
مما قدره الله فهي حظوظ وجدود خلقوا لها على ما علم الله من مصالح عباده .
وقوله : أعيته أي : أتعبته متعدي عيي بالأمر إذا عجز عنه من باب تعب . والمروءة :
آداب نفسانية تحمل مراعاتها الإنسان على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات .
يقال : مرؤ الإنسان فهو مريء مثل قرب فهو قريب أي : ذو مروءة .
قال الجوهري : وقد تشدّد فيقال مروّة . وروي : أعيته السيادة . وناشئاً مهموز اللام
في الصحاح : الناشئ : الحدث الذي جاوز حدّ الصغر والجارية ناشئ أيضاً . وهو حال من
مفعول اعيته . والمطلب : مصدر بمعنى الطلب . والكهل : الرجل الذي جاوز الثلاثين
ورخطه الشيب )
وقيل : من بلغ الأربعين والمرأة كهلة .
وكائن بمعنى كم للتكثير ومذمّم أي : غير محمود كثيراً والتشديد
____________________
للمبالغة
من الذمّ وهو خلاف المدح . والصعلوك بالضم : الفقير أي : كم من غني ساعدته الدنيا
ثم أصبح مذموماً لبخله وهذه الأبيات لرجل من بني قريع بالتصغير وهو قريع بن عوف بن
كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم كذا في حماسة أبي تمام وحماسة الأعلم . وعيّنه ابن
جني في إعراب الحماسة فقال : هو المعلوط بن بدل القريعيّ .
وفي حاشية صحاح الجوهري في مادة حظ هي للمعلوط السعديّ وتروى لسويد بن خذّاق
العبديّ وكذا قال ابن بري في أماليه على الصحاح والله أعلم .
والمعلوط اسم مفعول من علطه بسهم علطاً : إذا أصابه به . وهو بالعين والطاء
المهملتين .
ثم رأيت في كتاب العباب في شرح أبيات الآداب تأليف حسن بن صالح العدويّ اليمنيّ
قال : البيت الشاهد لمخبّل السعديّ من أبيات مشهورة متداولة في أفواه الناس أولها
: ( ألا يا لقومي للرسوم تبيد ** وعهدك ممن حبلهنّ جديد ) ( وللدار بعد الحيّ
يبكيك رسمها ** وما الدار إلا دمنة وصعيد ) ( لقد زاد نفسي بابن ورد كرامة ** عليّ
رجال في الرجال عبيد ) ( يسوقون أموالاً وما سعدوا بها ** وهم عند مثناة القيام
قعود ) ( ولاسوّد المال اللئيم ولا دنا ** لذاك ولكنّ الكريم يسود ) ( وكائن رأينا
من غنيّ مذمّم ** وصعلوك قوم مات وهو حميد )
____________________
(
وما يكسب المال الفتى بجلاده ** لديه ولكن خائب وسعيد ) إذا المرء أعيته المروءة
ناشئاً وترجمة المخبّل السعدي تأتي في الشاهد الرابع والثلاثين بعد الأربعمائة .
وأنشد بعده : ( فما بالنا أمس أسد العرين ** وما بالنا اليوم اء النجف ) وتقدم
شرحه قريباً .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثامن والتسعون بعد المائة ( بدت قمراً ومالت خوط بان ** وفاحت عنبراً
ورنت غزالا ) على أن قمراً وما بعده من المنصوبات أحوالاً مؤولةً بالمشتق أي : بدت
مضيئة كالقمر ومالت متثنية كخوط بان وفاحت : طيبة النشر كالعنبر ورنت : مليحة
المنظر كالغزال .
قال الواحدي : هذه أسماء وضعت موضع الحال . والمعنى : بدت مشبهة قمراً في حسنها
ومالت مشبهة غصن بان في تثنّيها وفاحت مشبهة عنبراً في طيب رائحتها ورنت مشبهة
غزالاً في سواد مقلتها . وهذا يسمى التدبيج في الشعر ومثله :
____________________
(
سفرن بدوراً وانتقبن أهلّة ** ومسن غصوناً والتفتن جآذرا ) انتهى . فقوله : بدت
يقال : بدا يبدو وبدوّاً . أي : ظهر ظهوراً بيّناً . والخوط بضم الخاء المعجمة :
الغصن الناعم لسنة . وقيل : كلّ قضيب . وفاحت . من فاح المسك فوحاً وفيحاً :
انتشرت رائحته خاص في الطيب . ورنا : من الرنوّ كدنو وهو إدامة النظر بسكون الطرف
كالرنا ولهو مع شغل قلب وبصر وغلبة هوى والرّنا : ما يرنى إليه لحسنه . كذا في
القاموس . وضمير بدت راجع إلى حبيبته في قوله قبل هذا : ( بجسمي من برته فلو أصارت
** وشاحي ثقب لؤلؤة لجالا ) أي : أفدي بجسمي الحبيبة التي نحلته وبرته حتى لو جعلت
قلادتي ثقب درّة لجال جسمي فيه لدقّته .
وهذا البيت من قصيدة لأبي الطيب المتنبي مدح بها بدر بن عمار بن إسماعيل الأسدي .
وترجمة المتنبي تقدمت في البيت الحادي والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو
الشاهد التاسع والتسعون بعد المائة على أنّ الدأب يعبر به عن كل حدث لازم : كالحسن
والجمال . أو غير لازم : كالضرب والقتل ولهذا يتعلق به الجار والمجرور والظرف
والحال . فقوله : كدأبك بمعنى كتمتعك . فكنّى ولم يصرّح .
____________________
أقول : جعل الدأب هنا كناية عن التمتع لا وجه له كما يعلم قريباً .
وهذا البيت من معلّقة امرئ القيس المشهورة ومطلعها : ( قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل
** بسقط اللوى بين الدخول فحومل ) ( فتوضح فالمقراة لم يعف رسمها ** لما نسجتها من
جنوب وشمأل ) ( وقوفاً بها صحبي عليّ مطيّهم ** يقولون : لا تهلك أسىً وتحمّل ) (
وإن شفائي عبرة مهراقة ** فهل عند رسم دارس من معوّل ) ( كدأبك من أم الحويرث
قبلها ** وجارتها أمالرباب بمأسل ) والبيتان الأولان يأتي شرحهما إن شاء الله عز
وجلّ في أواخر الكتاب في الفاء العاطفة .
____________________
وقوفاً بها صحبي الخ متعلق بقوله : قفا نبك فكأنه قال : قفا وقوف صحبي بها على
مطيّهم أو قفا حال وقوف صحبي . وقوله : بها : متأخر في المعنى يريد : قفا نبك في
حال وقف أصحابي مطيّهم عليّ .
وقوله : وإن شفائي عبرة الخ العبرة : الدمعة . والمهراقة : المصبوبة وأصلها مراقة
من الإراقة والهاء زائدة . ومعوّل : موضع عويل أي بكاءن او بمعنى موضع ينال فيه
حاجة : يقال : عوّلت على فلان أي : اعتمدت عليه .
قال الباقلاّني في معجز القرآن عند الكلام على معايب هذه القصيدة : هذا البيت
مختلّ من جهة انه جعل الدمع في اعتقاده شافياً كافياً فما حاجته بعد ذلك إلى طلب
حيلة أخرى عند الرسوم ولو أراد أن يحسن الكلام لوجب أن يدلّ على أن الدمع لا يشفيه
لشدة ما به من الحزن ثم يسائل هل عند الربع من حيلة أخرى وفي هذا مع قوله سابقاً
لم يعف رسمها تناقض الكلامان وليس في هذا اقتصار لأن معنى عفا ودرس واحد فإذا قال
: لم يعف رسمها ثم قال : قد عفا فهو تناقض لا محالة . واعتذار أبي عبيدة أقرب لو
صحّ ولكن لم يرد هذا القول مورد الاستدراك على ما قاله زهير فهو إلى الخلل أقرب .
انتهى . )
____________________
وقوله : كدأبك من أمّ الخ قال أبو جعفر النحاس في شرحه وتبعه الخطيب التبريزي :
الكاف تتعلق بقوله : قفا نبك كأنه قال : قفا نبك كدأبك في البكاء فهي في موضع مصدر
. والمعنى بكاء مثل عادتك . ويجوز أن تتعلق بقوله : وإن شفائي عبرة والتقدير :
كعادتك في أن تشفى من أمّ الحويرث .
والباء في قوله : بمأسل متعلقة بدأبك كأنه قال : كعادتك بمأسل . وهو جبل . وزاد
الخطيب : وأم الحويرث هي هرّ أم الحارث بن حصين بن ضمضم الكلبيّ وأم الرباب من كلب
أيضاً . يقول : لقيت من وقوفك على هذه الديار وتذكرك أهلها كما لقيت من أم الحويرث
وجارتها . وقيل : المعنى : كأنك أصابك من التعب والنصب من هذه المرأة كما أصابك من
هاتين المرأتين انتهى .
وقال أبو عبيد البكريّ في شرح أمالي القالي : أم الحويرث التي كان يشبب بها في
أشعاره هي أخت الحارث حصين بن ضمضم من كلب وهي امرأة حجر أبي امرئ القيس فلذلك كان
أبوه طرده ونفاه وهمّ بقتله انتهى . وهذا هو الصواب .
وقال الزوزني : يقول عادتك في حب هذه كعادتك في تينك أي : قلة حظك من وصال هذه
كمعاناتك الوجد بهما . وقوله : قبلها أي : قبل هذه التي شغفت بها الآن . والدأب :
العادة وأصلهما متابعة العمل والجدّ في السعي انتهى كلامه .
____________________
فجعل الزوزني قوله : كدأبك خبر مبتدأ محذوف . وهذا أقرب من الأولين . فعلم مما
ذكرنا أن الدأب كناية إما عن البكاء وإما عن المعاناة والمشقة . والتمتع لا مساس
له ها هنا فتأمل .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وانشد بعده وهو ( ولقد نزلتفلا تظني غيره مني بمنزلة المحب المكرم ** ) على أن
معناه نزلت قريبة مني قرب المحب المكرم . وإنما عدّي بمن لكون معنى بمنزلة فلان :
قريباً قربه أو بعيداً بعده .
وهذا البيت من معلّقة عنترة العبسيّ . قال أبو جعفر النحاس في شرحه وتبعه الخطيب
التبريزي الباء في قوله : بمنزلة متعلقة بمصدر محذوف لأنه لما قال : نزلت دلّ على
النزول .
وقوله : بمنزلة في موضع نصب أي : ولقد نزلت مني منزلة مثل منزلة المحب . وقال
الزوزني : يقول : ولقد نزلت من قلبي منزلة من يحب ويكرم . )
والتاء في نزلت مكسورة لأنه خطاب مع مجبوبته عبلة المذكورة في بيت قبل هذا . وقوله
: فلا تظني غيره مفعول ظن الثاني محذوف اختصاراً لا اقتصاراً أي : فلا تظني غيره
واقعاً أو حقاً أي : غير نزولك مني منزلة المحب .
____________________
وبه استشهد شرّاح الألفية وغيرهم بهذا البيت . والمحبّ : اسم مفعول جاء على أحبّ
وأحببت وهو على الأصل والكثير في كلام العرب محبوب .
قال الكسائي : محبوب من حببت وكأنها لغة قد ماتت . أي : تركت . وقال الأصمعي :
تحبّ بفتح التاء ولا أعرفه في غير التاء ولا أعرف حببت . وحكى أبو زيد أنه يقال :
حببت أحبّ وأنت تحب ونحن نحب . والمكرم : اسم مفعول أيضاً والواو في ولقد عاطفة .
وجملة لقد نزلت الخ جواب اسم مفعول أيضاً والواو في ولقد عاطفة . وجملة لقد نزلت
الخ جواب قسم محذوف أي : ووالله لقد نزلت كقوله تعالى : ولقد صدقكم الله وعده .
وقوله : فلا تظني غيره جملة معترضة بين المجرور ومتعلّقه فإن مني متعلّق بنزلت .
ولقد خبط هنا خبطاً فاحشاً شارح شواهد الألفية في قوله : الواو للقسم وجواب القسم
قوله : فلا تظني غيره ثم قال : قوله فلا تظني نهي معترض بين الجارّ والمجرور
ومتعلّقه والباء في بمنزلة بمعنى في أي : نزلت مني في منزلة الشيء المحبوب المكرم
. هذا كلامه ولا يقع في مثله أصاغر الطلبة .
وترجمة عنترة تقدمت في الشاهد الثاني عشر من اوائل الكتاب وأنشد بعد وهو
الشاهد الواحد بعد المائتين خرجت مع البازيّ عليّ سواد هذا عجز وصدره : إذا
أنكرتني بلدة أو نكرتها
____________________
على
أن الجملة الاسمية الحالية إذا لم يكن مبتدؤها ضمير صاحب الحال فإن كان الضمير
فيما صدّر به الجملة فلا يحكم بضعفه مجرّداً عن الواو كجملة عليّ سواد فإنها جال
من التاء في خرجت .
في المصباح : أنكرته إنكاراً : خلاف عرفته ونكرته مثل تعبت كذلك غير أنه لا يتصرف
. أي : إذا لم يعرف قدري أهل بلدة أو لم أعرفهم خرجت منهم مبتكراً مصاحباً للبازي
الذي هو أبكر الطيور في حال اشتمالي على شيء من سواد الليل . والبازيّ على وزن
القاضي في الأصل : صفة من بزا يبزو : إذا غلب . ويعرب إعراب المنقوص . والجمع بزاة
.
وهذا البيت من أبيات لبشار بن برد مدح بها خالداً البرمكي وكان قد وفد عليه وهو
بفارس فأنشده : ( أخالد لم أهبط إليك بذمّة ** سوى أنني عاف وأنت جواد ) ( أخالد
إن الأجر والحمد حاجتي ** فأيهما تأتي فأنت عماد ) ( فإن تعطني أفرغ عليك مدائحي
** وإن تأب لم تضرب عليّ سداد ) ( ركابي على حرف وقلبي مشيّع ** وما لي بأرض
الباخلين بلاد ) ( إذا أنكرتني بلدة أو نكرتها ** خرجت مع البازيّ عليّ سواد )
يقال : هبط من موضع إلى موضع : إذا انتقل إليه والهبوط الحدور كرسول فيهما .
والذمّة هنا العهد والحرمة . والعافيّ : من عفوته : إذا أتيته طالباً لمعروفه
وجمعه العفاة وهم طلاب المعروف . وهذا مثل قول دعبل لما وقد على عبد الله بن طاهر
: ( جئتك مستشفعاً بلا سبب ** إليك إلا لحرمة الأدب ) ( فاقض ذمامي فإنني رجل **
غير ملحّ عليك في الطلب ) فبعث إليه عبد الله بعشرة آلاف درهم وبهذين البيتين :
____________________
(
أعجلتنا فأتاك عاجل برّنا ** ولو انتظرت كثيره لم نقلل ) ) ( فخذ القليل وكن كأنك
لم تسل ** ونكون نحن كأننا لم نفعل ) وقد تداول هذين البيتين كثير من الكرماء فيظن
الناس أنهما لمن تداولهما .
والحرف : الناقة القويّة . والمشيع على وزن المفعول : الشجاع كأن له شيعة أي :
أتباعاً وأنصاراً .
روى الأصبهاني في الأغاني أن بشاراً لما أنشد هذه الأبيات دعا خالد بأربعة أكياس
فوضع واحداً عن يمينه وآخر عن شماله وآخر بين يديه وآخر من ورائه وقال : يا أبا
معاذ هل استقل العماد فلمس الأكياس ثم قال : استقل والله أيها الأمير و بشار بن
برد أصله من طخارستان من سبي المهلّب بن أبي صفرة وهي ناحية كبيرة مشتملة على
بلدان على نهر جيحون مما وراء النهر وكنيته أبو معاذ ولقبه المرعّث وهو الذي في
أذنه رعاث وجمع رعثة وهي القرطة لقّب به لأنها كانت في صغره معلّقة في أذنه .
وهو عقيليّ بالولاء نسبة إلى عقيل بن كعب بالتصغير وهي قبيلة . وقيل : إنه ولد على
الرقّ أيضاً وأعتقته امرأة عقيليّة . وولد أكمه جاحظ الحدقتين قد تغشاهما لحم أحمر
. وكان ضخماً عظيم الخلق والوجه مجدّراً . وهو في أول مرتبة المحدّثين من الشعراء
المجيدين . وقد نشأ بالبصرة ثم قدم بغداد ومدح المهديّ بن المنصور العباسيّ ورمي
عنده بالزندقة : روي أنه كان يفضل النار على الأرض ويصوّب رأي إبليس في امتناعه من
السجود لآدم عليه السلام ونسب إليه قوله :
____________________
(
الأرض مظلمة والنار مشرقة ** والنار معبودة مذ كانت النار ) فأمر المهدي بضربه
فضرب سبعين سوطاً فمات من ذلك وذلك في سنة ثمان وستين ومائة وقد نيّف على تسعين
سنة . ومن شعره : ( ياقوم أذني لبعض الحيّ عاشقة ** والأذن تعشق قبل العين أحيانا
) ( قالوا : بمن لا ترى تهذي فقلت لهم : ** الأذن كالعين توفي القلب ما كانا ) ومن
هجائه للمهديّ قوله : ( أبدلنا الله به غيره ** ودسّ موسى في حر الخيزران ) وبينه
وبين حماد عجرد أهاج فاحشة ومن هجوه فيه : ( نعم الفتى لو كان يعبد ربه ** ويقيم
وقت صلاته حمّاد ) ) ( وابيضّ من شرب المدامة وجهه ** وبياضه يوم الحساب سواد )
وقتل حماد عجرد على الزندقة أيضاً في سنة ست وستين ومائة . ودفن بشار على حمّاد
عجرد في قبر واحد فكتب أبو هشام الباهليّ على قبرهما : ( قد تبع الأعمى قفا عجرد
** فأصبحا جارين في دار ) ( صارا جميعاً في يدي مالك ** في النار والكافر في النار
) ( قالت جميع الأرض لا مرحباً ** بقرب حمّاد وبشار )
____________________
وترجمته
في الأغاني طويلة .
وأما خالد فهو خالد بن برمك البرمكي . وكان برمك من مجوس بلخ وكان يخدم النوبهار
وهو معبد للمجوس بمدينة بلختوقد فيه النيران . وكان برمك عظيم المقدار وساد ابنه
خالد ووزر لأبي العباس عبد الله السفاح العباسيّ . وهو أول من وزر من آل برمك .
ولم يزر وزيراً إلى أن توفي السفاح ثم وزر لأخيه أبي جعفر المنصور إلى أن توفي في
سنة ثلاث وستين ومائة .
ويحيى البرمكي هو أبو جعفر والفضل قال المسعودي : لم يبلغ مبلغ خالد بن برمك أحد
من ولده : في جوده ورأيه ورياسته وعلمه وجميع خلاله لا يحيي في رأيه ووفور عقله
ولا الفضل بن يحيى في جوده ونزاهته ولا جعفر بن يحيى في كتابته وفصاحة لسانه ولا
محمد ابن يحيى في سروه وبعد همّته ولا موسى بن يحيى في شجاعته ورياسته .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثاني بعد المائتين نصف النهار الماء غامره هذا صدر وعجزه : ورفيقه بالغيب
ما يدري
____________________
على
أن ضمير صاحب الحال إذا كان في آخر الجملة الحالية فلا شك في ضعفه وقلّته : فإن
الماء مبتدأ وغامره خبرهن والجملة حالمن ضمير نصف العائد إلى الغائص والضمير الذي
ربط جملة الحال بصاحبها في آخرها . وهذا على رواية نصب النهار على أنه مفعول به
قال صاحب المصباح : نصفت الشيء نصفاً من باب قتل : بلغت نصفه وأما على رواية رفعه
فالجملة حال منه ولا رابط فتقدّر الواو . وعليها كلام صاحب المغني قال : وقد تخلو
الجملة الحالية من الواو والضمير فيقدّر الضمير في نحو : مررت بالبرّ قفيز بدرهم
أو الواو كقوله يصف غائصاً لطلب اللؤلؤ انتصف النهار وهو غائص وصاحبه لا يدري ما
حاله : نصف النهار الماء غامره فنصف على هذا أيضاً من باب قتل قال صاحب المصباح :
إن بلغ الشيء نصف نفسه ففيه لغات : نصف ينصف من باب قتل يقتل وأنصف بالألف وتنصّف
وانتصف النهار : بلغت الشمس وسط السماء وهو وقت الزوال .
وقد أثبت هاتين الروايتين العسكري في كتاب التصحيف والسيد الجرجانيّ في شرح
المفتاح .
أما العسكري فه ا كلامه : قال الرياشي : الذي يروي نصف النهار بالرفع يريد معنى
الواو أي : انتصف النهار والماء غامره وهو تحت الماء يعني الغوّاص وشريكه بالغيب
أي : بحيث يغيب عنه ولا يدري ما حاله وإنما يغوص بحبل معه طرفه وطرفه الآخر مع
صاحبه . قال الرياشيّ : الحال إذا لم يرجع إلى الأول منها شيء فهو قبيح في العربية
. قال : وإذا صيّرته ظرفاً فهو جيد في العربية . وقال المازنيّ : الجيد نصب النهار
على الظرف انتهى .
____________________
وكون النصب على الظرف تجوّز في الكلام والصواب على المفعولية .
وأما السيد فقد قال : النهار منصوب من نصفت الشيء : بلغت نصفه . والمراد طول مكثه
تحت الماء . وفي الصحاح برفع النهار من نصف الشيء : بمعنى انتصف . فالجملة الحالية
حينئذ خالية عن الضمير أيضاً فاحتاج إلى أن قدّر الواو محذوفة أي : والماء غامره
أي : ساتره )
انتهى .
فعلم من هذا أن من قال بوجود الضمير في هذه الجملة جعل صاحب الحال ضمير الغواص
المستتر في نصف الناصب النهار . وان من قال بعدم الضمير جعل الجملة حالاً من
النهار المرفوع بنصف وقدّر الواو للربط وأما الضمير الموجود فغير رابط لأنه ليس
عائداً على صاحب الحال وهو النهار بل هو عائد على الغوّاص .
والعجب من كلام ابن الشجريّ في أماليه فإنه جعل الجملة حالاً من النهار المرفوع
وقال : الرابط الضمير وه ا لا يصح فإن الضمير ليس للنهار . وهذه عبارته : ولو حذفت
الضمير من جملة الحال المبتدأ به واكتفيت بالواو جاز نحو : جاء زيد وعمرو حاضر .
ولو حذفت الواو اكتفاء بالضمير فقلت : خرج أخوك يده على وجهه جاز كقوله : نصف
النهار الماء غامره وأعجب منه قول ابن السيد في شرح شواهد أدب الكاتب في جعله
الجملة حالاً وصاحب الحال غير مذكور في هذا البيت بل هو في بيت قبل هذا بأبيات .
وهذا كلامه : جملة الماء غامره حال وكذلك الجملة التي بعدها . وكان ينبغي أن يقول
: والماء غامره فيأتي بواو الحال ولكنه اكتفى بالضمير منها . ولو لم يكن في
الجملتين عائد إلى صاحب الحال لم يجز حذف الواو .
وأما صاحب هاتين الحالين فليس بمذكور في البيت ولكنه مذكور في البيت الذي قبله وهو
:
____________________
(
كجمانة البحريّ جاء بها ** غوّاصها من لجّة البحر . انتهى ) وأغرب من هذين القولين
صنيع ابن جني في سر الصناعة فإنه حكم على هذه الجملة بأنه لا رابط معها . ثم نقض
كلامه بجعل الضمير رابطاً للحال بصاحبها المحذوف . وهذا ما سطّره : إذا وقعت
الجملة الاسمية بعد واو الحال كنت في تضمينها ضمير صاحب الحال وترك تضمينها إياه
مخيراً فالأول نحو جاء زيد وتحته فرس والثاني جاء زيد وعمرو يقرأ . فأما إذا لم
يكن واو فلا بدّ من الضمير نحو أقبل محمد على رأسه قلنسوة . وإذا فقدت جملة الحال
هاتين الحالين انقطعت مما قبلها ولم يكن هناك ما يربط الآخر بالأول وعلى هذا قول
الشاعر : نصف النهار الماء غامره يصف غائصاً غاص في الماء من أول النهار وهذه حاله
. فالهاء من غامره ربطت الجملة بما قبلها حتى جرت حالاً على ما فيها فكأنك قلت :
انتصف النهار على الغائص غامراً له اماء )
كما انك إذا قلت : جاء زيد ووجهه حسن فكانك قلت : جاء زيد حسناً وجهه . هذا كلامه
وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها قيس بن معد يكرب الكندي . وقد أجاد في
التغزل بمحبوبته في أولها إلى أن شبهها بالدرة ثم وصف تلك الدرة كيف استخرجت من
البحر فقال : ( كجمانة البحري جاء بها ** غوّاصها من لجّة البحر ) ( صلب الفؤاد
رئيس أربعة ** متخالفي الألوان والنجر ) ( فتنازعوا حتى إذا اجتمعوا ** ألقوا إليه
مقالد الأمر ) ( وعلت بهم سجحاء خادة ** تهوي بهم في لجة البحر )
____________________
(
حتى إذا ما ساء ظنهم ** ومضى بهم شهر إلى شهر ) ( ألقى مراسيه بتهلكة ** ثبتت
مراسيها فما تجري ) ( فانصب أسقف رأسه لبد ** نزعت رباعيتاه للصبر ) ( أشفى يمجّ
الزيت ملتمس ** ظمآن ملتهب من الفقر ) ( قتلت أباه فقال : أتبعه ** أو أستفيد
رغيبة الدهر ) ( نصف النهار الماء غامره ** وشريكه بالغيب ما يدري ) ( فأصاب منيته
فجاء بها ** صدفيّة كمضيئة الجمر ) ( وترى الصواري يسجدون لها ** ويضمّها بيديه
للتجر ) ( فلتلك شبه المالكية إذ ** طلعت ببهجتها من الخدر ) الجمانة بضم الجيم :
حبة تعمل من فضة كالدرة وجمعها جمان . أي : هي كجمانة البحريّ .
وصلب الفؤاد بالضم أي : قويّ الفؤاد وشديده هو صفة لغوذاص . ورئيس أربعة بالنصب
حال منه وقوله : متخالفي الألوان : صفة أربعة والإضافة لفظية . والنجر بفتح النون
وسكون الجيم : الأصل . أي : أن هؤلاء الأربعة أصلهم مختلف وكذلك ألوانهم مختلفة .
والسجحاء بتقديم الجيم على الحاء المهملة : الطويلة الظهر وأراد بها السفينة .
والمراسي : جمع مرساة بالكسر وهي آلة ترسى بها السفينة .
وقوله : فانصب أسقف الخ . أي : رمى بنفسه في البحر وغاص لإخراج الدر . والأسقف
بفتح الألف والقاف من السقف بفتحتين وهو طول في انحناء . ولبد بكسر الباء أي :
متلبد . )
وأشفى فعل ماض يقال : أشفى على الشيء : اي : أشرف عليه . ويمج : يقذف من فيه كما
هو عادة الغائص . وفاعلهما ضمير أسقف . وملتمس وما بعده من الوصفين نعوت لأسقف .
وقوله : قتلت أباه الخ أي : أنّ أباه هلك في حبّ هذه الدرة أو في تحصيلها
____________________
فقال
هذا الغائص : أتبع أبي في الهلاك أو أستفيد مالاً كثيراً . والرغيبة : العطاء
الكثير .
وقوله : نصف النهار . . الخ روي ورفيقه بدل وشريكه . ومنيته هي ما يتمناه .
وصدفيّة : حال من الضمير المجرور بالباء . ويعطى بالبناء للمفعول . ويمنعها أي :
ويمنع الدرة من البيع .
وقوله : ألا تشري : أي : ألا تبيعها . والصواري : جمع صار وهو الملاّح والبحريّ .
وروي الشواري بدله وهو جمع شار بمعنى المشتري . وسجودهم لها لعزتها ونفاستها .
والتجر : مصدر تجر تجراً وتجارة من باب نصر .
ومن أبيات المديح : ( أنت الرئيس إذا هم نزلوا ** وتواجهوا كالأسد والنمر ) ( أو
فارس اليحموم يتبعهم ** كالطلق يتبع ليلة البهر ) ( ولأنت أجود بالعطاء من الرّ **
يّان لمّا ضنّ بالقطر ) ( ولأنت أحيا من مخبّأة ** عذراء تقطن جانب الكسر ) (
ولأنت أبين حين تنطق من ** لقمان لمّا عيّ بالأمر ) ( لو كنت من شيء سوى بشر **
كنت المنوّر ليلة البدر ) فارس اليحموم هو ملك العرب النعمانبن المنذر . واليحموم
: اسم فرسه . والطلق بالفتح الليلة التي لا حرّ فيها ولا برد . وليلة البهر : ليلة
البدر حين يبهر النجوم أي : يغلبها بنوره .
____________________
وقيس بن معد يكرب الكنديّ مات في الجاهلية يقال له الأشج لأنه شجّ في بعَ أيامهم .
وله عدة أولاد أكبرهم حجيّة وبه كني زماناً ثم كني بولده الأشعث واسمه معد يكرب
وسمّي الأشعث لأنه كان أبداً أشعث الرأس وقد أسام وولده له النعمان بن الأشعث وقد بشّر
به وهو عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : والله لجفنة من ثريد أطعمها قومي
أحبّ إلي منه وهلك صغيراً . وللأشعث عدة أولاد أيضاً منهم قيس بن الأشعث وأخذ
قطيفة الحسين رضي الله عنه يوم قتل فكان يقال له : قيس قطيفة .
ولقيس بن معد يكرب بنت اسمها قتيلة تزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوفي قبل
أن )
تصل إليه . وابنه سيف بن قيس وفد على النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن يؤذن لهم
فأذن حتى مات . كذا في جمهرة الأنساب لابن الكلبيّ .
وأعشى ميمون صاحب الشعر تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين وقد نقلت شعره هذا
من ديوانه . وقد رواها أبو عبيدة وابن دريد وغيرهما . وأما الأصمعي فقد أثبتها
للمسيب بن علس الجماعيّ وهو خال الأعشى ميمون المذكور . . وهو أحد الشعراء الثلاثة
المقلي الذين فضلوا في الجاهلية .
قال أحمد بن أبي طاهر : كان الأعشى راوية المسيّب بن علس والمسيب خاله وكان يطرد
والمسيب : اسم فاعل لقّب به لأنه كان يرعى إبل أبيه فسيّبها فقال له
____________________
أبوه
: أحق أسمائك المسيب . فغلب عليه . وقال ابن دريد في كتاب الاشتقاق : إن اسمه زهير
وإنه لقّب بالمسيب لقوله : ( فإن سركم ألاّ تؤوب لقاحكم ** غزاراً فقولوا للمسّب
يلحق ) وهو جاهلي ولم يدرك الإسلام . ونسبه في الجمهرة كذا : المسيب بن علس بن
مالك بن عمروبن قمامة بن زيد بن ثعلبة بن عديّ بن مالك بن جشم بن بلال بن جماعة بن
جليّ بن أحمس بن ضبيعة بن ربيعة بن نزار بن مضر وعلس بفتح العين واللام منقول من
اسم القراد . وقمامة بضم القاف وجماعة بضم الجيم وروى ابن السكّيت خماعة بالخاء
المعجمة المضمومة . وجليّ بضم الجيم وفتح اللام وتشديد المثناة التحتية . وأحمس
أفعل من الحماسة . وضبيعة بالتصغير .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثالث بعد المائتين ( فألحقه بالهاديات ودونه ** جواحرها في صرة لم تزيّل
) على أن قوله : ودونه جواحرها جملة حالية لا الظرف وحده حال والمرفوع بعده فاعله
خلافاً لمن زعمه في نحو : جاءني عليه جبة وشي لأنه لو كان من الحال المفردة
لامتنعت الواو فإنها لا تكون مع الحال المفردة فلما ذكرت في بعض المواضع عرف أن
الجملة حال لا الظرف وحده . .
وصاحب الحال الهاء في قوله : فألحقه وهي ضمير المفعول . وفاعل ألحقه ضمير مستتر
راجع إلى الغلام في بيت قبله . والهاء ضمير الكميت . أي : فألحق الغلام الكميت
بالهاديات ويجوز العكس فيكون فاعل ألحق ضمير الكميت والهاء ضمير الغلام أي :
____________________
فألحق
الغلام بالهاديات .
وأراد بالهاديات أوائل الوحش ومتقدماتها يقال : أقبلت هوادي الخيل : إذا تقدمت
أوائلها جمع هادية والهادي : أول كل شيء . وضمير دونه يعود على ما عاد عليه الهاء
. وجواحرها أي : متأخراتها والهاء ضمير الهاديات وهو جمع جاحرة بتقديم الجيم على
الحاء المهملة يقال : جحر فلان أي : تأخر . وجواحرها مبتدأ . ودونه الخبر تقدم
عليه والجملة حال كما تقدم أي : ودون مكانه أو ودون غايته التي وصل إليها أو دون
بمعنى عند وقيل : دون هنا بمعنى أقرب . ورده الزوزني بأنه إنما يكون دون بمعنى
أقرب منه إذ أتي باسمين نحو هذا دون ذاك .
والصرة بفتح الصاد وتشديد الراء المهملتين يجوز أن يكون هنا إما بمعنى الضجة
والصيحة وإما بمعنى الجماعة وإما بمعنى الشدة من كرب أو غيره وقيل الصرة هنا
الغبار فقوله : في صرة في بعض الوجوه حال من الهاديات وفي بعضها حال من جواحرها
كذا قال الزوزني . ويجوز أن يتعلق الجار في جواحرها . وجملة لم تزيل صفة صرة وأصله
تتزيل بتاءين أي : لم تتفرق .
وصف بهذا البيت شدة عدو فرسه يقول : إن هذا الفرس لما لحق أوائل الوحش بقيت
أواخرها لم تتفرق فهي خالصة له .
وهذا البيت من جملة أبيات في وصف الفرس من معلقة امرئ القيس المشهورة والأبيات هذه
: ( وقد أغتدي والطير في وكناتها ** بمنجرد قيد الأوابد هيكل ) ( مكرّ مفرّ مقبل
مدبر معاً ** كجلمود صخر حطّه السيل من عل )
____________________
(
كميت يزلّ اللبد عن حال متنه ** كما زلّت الصفواء بالمتنزّل ) ) ( على الذبل جيّاش
كأن اهتزامه ** إذا جاش فيه حميه غلي مارجل ) ( يزلّ الغلام الخفّ عن صهواته **
ويلوي بأثواب العنيف المثقّل ) ( درير كخذروف الوليد أمرّه ** تتابع كفّيه بخيط
موصّل ) ( له أيطلاً ظبي وساقا نعامة ** وإرخاء سرحان وتقريب تتفل ) ( مسحّ إذا ما
السابحات على الونا ** أثرن غباراً بالكديد المركّل ) ( ضليع إذا استدبرته سدّ
فرجه ** بضاف فويق الأرض ليس بأعزل ) ( كأنّ سراته لدى البيت قائماً ** مداك عروس
أو صلابة حنظل ) ( فعنّ لنا سرب كأنّ نعاجه ** عذارى دوار في ملاء مذيّل ) (
فأدبرن كالجزع المفصّل بينه ** بجيد معمّ في العشيرة مخول ) ( فألحقه بالهاديات
ودونه ** جواحرها في صرّة لم تزيّل ) ( فعادى عداء بين ثور ونعجة ** دراكاً ولم
ينضح بماء فيغسل ) ( فظلّ طهاة اللحم ما بين منضج ** صفيف شواء أو قدير معجّل ) (
فرحنا يكاد الطرف يقصر دونه ** متى ما ترقّ العين فيه تسّهل ) ( فبات عليه سرجه
ولجامه ** وبات بعيني قائماً يغر مرسل ) قوله : وقد أغتدي الخ تقدم شرحه قريباً .
وقوله : مكرّ مفرّ الخ بكسر أولهما وفتح ثانيهما وهما بالجر صفتان لقوله منجرد
وكذلك مقبل ومدبر صفتان له لكنهما اسما فاعل بضم أولهما .
قال صاحب القاموس : كرّ عليه : عطف وعنه : رجع فهو كرّار ومكرّ بكسر الميم . وقال
الزوزني : مفعل يتضمن مبالغة كقولهم : فلان مسعر حرب . وإنما جعلوه متضمناً مبالغة
لأن مفعلاً يكون من أسماء الأدوات كأنه أداة للكرّ والفرّ
____________________
وآلة
لتسعّر الحرب والجلمود بالضم : الصخرة الملساء . وعل : بمعنى فوق واستشهد به
سيبويه وصاحب مغني اللبيب على أنه بمعناه وأن قال ابن رشيق في باب الاتساع من
العمدة : إن الشاعر يقول بيتاً يتسع فيه التأويل فيأتي كل واحد بمعنى وإنما يقع
ذلك لاحتمال اللفظ وقوته واتساع المعنى من ذلك قول امرئ القيس : مكرّ مفرّ مقبل
مدبر معاً فإنما أراد أنه يصلح للكرّ والفرّ ويحسن مقبلاً ومدبراً . ثم قال : معاً
أي : جميع ذلك فيه . )
وشبّهه في سرعته وشدّة جريه بجلمود حطّه السيل من أعلى الجبل وإذا انحط من عل كان
شديد السرعة فكيف إذا أعانته قوة السيل من ورائه وذهب قوم منهم عبد الكريم إلى أن
معنى قوله : كجلمود صخر الخ إنما هو الصلابة لأن الصخر عندهم كلما كان أظهر للشمس
والريح كان أصلب .
وقال بعض من فسّره من المحدثين : غنما أراد الإفراط : فرزعم أنه يرى مقبلاً مدبراً
في حال واحدة عند الكر والفر لشدّة سرعته واعترض على نفسه فاحتج بما يوجد عياناً
فمثّله بالجلمود المنحدر من قنّة الجبل : فإنك ترى ظهره في النّصبة على الحال التي
ترى فيها بطنه وهو مقبل إليك . . ولعلّ هذا ما مرّ قطّ ببال امرئ القيس ولا خطر في
وهمه ولا وقع في خلده ولا روعه انتهى .
وحاصل هذا وصفه بلين الرأس وسرعة الانحراف في صدر البيت وشدة العدو لكونه قال في
صدر البيت : إنه حسن الصورة كامل النصبة في حالتي إقباله وإدباره وكرّه وفرّه ثم
شبّهه في عجز البيت بجلمود صخر حطّه السيل من العلو لشدة العدو فهو في الحالة التي
ترى يها لببه ترى فيها كفله . وبالعكس .
وقوله : كميت يزلّ اللبد الخ الكميت : الذي عرفه وذنبه أسودان وهو مجرور صفة منجرد
.
والحال : مقعد الفارس من ظهر الفرس . والمتن :
____________________
ما
اتصل بالظهر من العجز . والصفواء : الصخرة الملساء التي لا يثبت فيها شيء . و
المتنزل اسم فاعل : الطائر الذي يتنزّل على الصخرة وقيل : هو السيل لأنه يتنزل
الأشياء وقيل : هو المطر . والباء للتعدية . يقول : هذا الكميت يزلّ لبده عن حال
متنه لانملاس ظهره واكتناز لحمه وهما يحمدان من الفرس كما يزلّ الحجر الأملس
النازل عليه فلا يثبت عليه شيء .
وقوله : على الذب جيّاش الخ الذبل : الضمور . والجيّاش : الفرس الذي يجيش في عدوه
كما تجيش القدر في غليانها . واهتزامه : صوته . وحميه : غليه . والمرجل بكسر الميم
: كل قدر من حديد أو حجر أو نحاس أو خزف أو غيره . يقول : تغلي حرارة نشاطه على
ذبول خلقه وضمر بطنه وكأن تكسّر صهيله في صدره غليان قدر . جعله ذكي القلب نشيطاً
في العدو مع ضمره ثم شبّه تكسّر صهيله في صدره بغليان القدر .
وروي على العقب جيّاش . والعقب بفتح فسكون : جري بعد جري وقيل : معناه إذا حرّكته
)
بعقبك جاش ولم تحتج إلى السوط فإذا كان آخر عدوه على هذه الحالة فما ظنك بأوله
وجيّاش بالجر صفة منجرد .
وقوله : يزلّ الغلام الخفّ الخ يزلّ : يزلق . والخفّ بكسر المعجمة : الخفيف وسمع
أبو عبيدة فتحها . والصهوة : موضع اللبد وهو مقعد الفارس . وجمعها بما حولها .
ويلوي بالضم أي : يذهبها ويبعدها . والعنيف : من ليس له رفق . والمثقّل : الثقيل .
قال بعضهم : إذا كان راكب الفرس خفيفاً رمى به وإن كان ثقيلاً رمى بثيابه . والجيد
أن المعني بأثواب
____________________
العنيف
نفسه لأنه غير حاذق بركوبه . وقيل : معناه أنه إذا ركبه العنيف لم يتمالك أن يصلح
ثيابه وإذا ركبه الغلام الخفّ زلّ عنه لسرعته ونشاطه وإنما يصلح له من يداريه .
وقوله : درير كخذروف الوليد الخ درير : مستدرّ في العدو . ويصف سرعة جريه .
والخذروف بالضم : الخرّارة التي يلعب بها الصبيان يسمع لها صوت . وأمرّه : احكم
فتله . يقول : هو يدرّ الجري أي : يديمه ويواصله ويسرع فيه إسراع خذروف الصبي إذا
أحكم فتل خيطه وتتابعت كفّاه في فتله وإدارته بخيط انقطع ثم وصل . وذلك أشدّ
لدورانه لانملاسه .
وقوله : أيطلا ظبي الخ الأيطل : الخاصرة . وإنما شبهه بأيطل الظبي لأنه طاو . وقال
: ساقا نعامة والنعامة قصيرة الساقين صلبتهمت وهي غليظة ظمياء ليست برهلة . ويستحب
من الفرس قصرالساق لأنه أشدّ لرميها لوظيفها . ويستحب منه مع قصر الساق طول وظيف
الرجل وطول الذراع لأنه أشدّ لدحوه أي : لرميه بها . والإرخاء : جري ليس بالشديد .
وفرس مرخاء .
وليس دابّة أحسن إرخاء من الذئب . والسرحان : الذئب . والتقريب : أن يرفع يديه
معاً ويضعهما معاً . والتتفل : بضم التاء الأولى وفتحها مع الفاء : ولد الثعلب وهو
احسن الدواب تقريباً .
وقوله : مسحّ إذا ما السابحات الخ المسح بكسر الميم : الفرس الذي كأنه يصبّ الجري
صبّاً .
والسابحات : اللواتي عدوهنّ سباحة . والسباحة في الجري : أن تدحو بأيديها دحواً أي
: تبسطها . والونا بفتح الواو والنون يمدّ ويقصر : الفتور . والكديد بفتح الكاف :
الموضع الغليظ . و المركّل اسم مفعول : الذي يركّل بالأرجل . يقول : إن الخيل
السريعة إذا فترت فأثارت الغبار بأرجلها من التعب جرى هذا الفرس جرياً سهلاً كما
يسحّ السحاب المطر . وعلى تتعلق بأثرن وكذلك الباء . )
____________________
وقوله : ضليع إذا استدبرته الخ الضليع : العظيم الأضلاع المنتفخ الجنبين ضلع يضلع
ضلاعة .
والاستدبار : النظر إلى دبر الشيء . والفرج هنا : ما بين الرجلين . والضافي :
السابغ . والأعزل : المائل النب . ويكره من الفرس أن يكون أعزل ذنبه إلى جانب وأن
يكون قصير الذنب وأن يكون طويلاً يطأ عليه . ويستحب أن يكون سابغاً قصير العسيب .
وقوله : كأن سراته لدى البيت الخ السراة بالفتح : الظهر . والمداك بالفتح الحجر
الذي يسحق به والمدوك بالكسر : الحجر الذي يسحق عليه من الدوك وهو السحق والطحن .
والصلابة بالفتح : الحجر الأملس الذي يسحق عليه شيء . يقول : إذا كان قائماً عند
البيت غير مسرج رأيت ظهره أملس فكأنه مداك عروس : في صفائها وانملاسها . وإنما
قيّد المداك بالعروس لأنه قريب العهد بالطيب . وقيّد الصلابة بالحنظل لأن حبّ
الحنظل يخرج دهنه فيبرق على الصلابة .
ورواه العسكري في التصحيف صراية قال : ومما يروى على وجهين مداك عروس أو صراية
حنظل : رواية الأصمعي صراية بالصاد مفتوحة غير معجمة وتحت الياء نقطتان وهي
الحنظلة الخضراء وقيل : هي التي اصفرّت لأنها إذا اصفرّت برقت وهي قبل أن تصفرّ
مغبرّة . قال : ومثله : ( إذا أعرضت قلت دبّاءة ** من الخضر مغموسة في الغدر ) أي
: من بريقها كأنها قرعة . قال الشاعر : ورواه أبو عبيدة صراية بكسر الصاد وقال :
هو الماء الذي ينقع فيه الحنظل ويقال : صرى يصري صرياً وصراية وهو أخضر صاف .
ورواه بعضهم
____________________
صرابة
حنظل بباء تحتها نقطة واحدة . فمن قال هذا أراد الملوسة والصفاء . يقال : اصرأبّ
الشيء أي : املاسّ . انتهى .
وقوله : كأن دماء الهاديات بنحره الخ الهاديات : المتقدمات والأوائل . ويريد
بعصارة الحناء ما بقي من الأثر . والمرجّل بالجيم : المسرّح والترجيل : التسريح .
يقول : إنه يلحق أوّل الوحش فإذا لحق أوّلها علم أنه قد أحرز آخرها وإذا لحقها
طعنها فتصيب دماؤها نحره . وقوله : فعنّ لنا سرب الخ عنّ : عرض وظهر . والسرب
بالكسر : القطيع من البقر والظباء والنساء .
والنعاج : جمع نعجة وهي الأنثى من بقر الوحش ومن الضأن . ودوار بالفتح : صنم كانوا
يدورون حوله أسابيع كما يطاف بالبيت الحرام . )
والملاء بضم الميم : جمع ملاءة وهي الملحفة . والمذيّل : السابغ وقيل : معناه له
هدب وقيل : إن معناه له ذيل أسود . وهو أشبه بالمعنى لأنه يصف بقر الوحش وهي بيض
الظهور سود القوائم . يقول : إن هذا القطيع من البقر يلوذ ببعضه ويدور كما تدور
العذارى حول دوار . وهو نسك كانوا في الجاهلية يدورون حوله .
وقال العسكري في التصحيف : يروى دوار بدال مضمومة ودوار بدال مفتوحة واو مخففة .
وهو نسك كان لهم في الجاهلية يدار حوله . ودوّار في غير هذا بفتحه الدال وتشديد الواو
سجن فياليمامة . ودوّار مضموم الدال مثقّل الواو : موضع انتهى .
وقال الزوزني : المذيّل : الذي أطيل ذيله وأرخي . يقول : تعرّض لنا قطيع من بقر
الوحش كأن إناثه عذارى يطفن حول حجر منصوب يطاف حوله في ملاء طويلة الذيل . شبّه
البقر في بياض ألوانها بالعذارى لأنهن مصونات بالخدور لا يغير ألوانهن حرّ الشمس
وغيره وشبّه طول أذنابها وسبوغ شعرها بالملاء المدذيّل . وشبذه حسن مشيها بحسن
تبختر العذارى في مشيهنّ .
وقوله : فأدبرن كالجزع المفصّل الخ الجزع بالفتح : الخرز وقال
____________________
أبو
عبيدة بالكسر وهو الخرز الذي فيه سواد وبياض . وبجيد أي : في جيد وهو العنق ومعنى
معمّ مخول أي له أعمام وأخوال وهم في عشيرة واحدة كأنه قال : كريمالأبوين . وإذا
كان كذلك كان خرزه أصفى وأحسن .
يصف أن هذه البقر من الوحش تفرّقت كالجزع أي : كانها قلادة فيها خرز قد فصّل بينه
بالخرز وجعلت القلادة في عنق صبيّ كريم الأعمام والأخوال . شبّه بقر الوحش بالخرز
اليماني لأنه يسود طرفاه وسائره أبيض وكذلك بقر الوحش يسودّ أكارعها وخدودها
وسائرها أبيض .
شرط كونه جيد معمّ مخول لأن جواهر قلادة مثل هذاالصبي أعظم من جواهر قلادة غيره .
وقوله : فألحقه بالهاديات تقدم شرحه . وقوله : فعادى عداء بين ثور ونعجة الخ عادى
: والى بين اثنين في طلق ولم يعرق أي : أدرك صيده قبل أن يعرق . وقوله : فيغسل :
أي : لم يعرق فيصير كأنه قد غسل بالماء . ودراكاً بمعنى مداركة في موضع الحال .
ولم يرد ثوراً ونعجة فقط وإنما أراد الكثير والدليل عليه قوله دراكاً ولو أرادهما
فقط لاستغنى عنه بعاذى . وفيه مبالغة لا تخفى .
وقوله : فظلّ طهاة اللحم الخ هو جمع طاه وهو الطباخ . والصفيف : الذي قد صفّف
مرقّقاً )
على الجمر وهو شواء الأعراب . والقدير : ما طبخ في قدر . ووصف بمعجّل لأنهم كانوا
يستحسنون تعجيل ما كان من الصيد يستطرفونه . يقول : ظلّ المنضجون اللحم وهو صنفان
: صنف ينضجون شوائً مصفوفاً على الحجارة في النار والجمر وصنف يطبخون اللحم في
القدر . يقول : كثر الصيد فأخصب القوم فطبخوا واشتووا . ومن للتفصيل والتفسير
نحوهم من بين عالم أو زاهد يريد أنهم لا يعدون الصنفين . وصفيف : منصوببمنضج وهو
اسم فاعل .
وقدير : مجرور بتقدير مضاف معطوف على منضج والتقدير :
____________________
أو
طابخ قدير أو لا تقدير لكنه معطوف على صفيف وخفض على الجوار أو على توهم أن الصفيف
مجرور بالإضافة وعند البغداديين هو معطوف على صفيف من قبيل العطف على المحلّ ولا
يشترطون أن يكون المحلّ وقوله : ورحنا يكاد الطرف الخ يقول : إذا نظرت العين إلى
هذا الفرس أطالت النظر إلى ما ينظر منه لحسنه فلا تكاد العين تستوفي النظر إلى
جميعه . ويحتمل أن يكون معناه : أنه إذا نظرت إلى هذا الفرس لم تدم النظر إليه
لئلا يصاب بالعين لحسنه .
وقوله : متى ما ترقّ الخ أي : متى نظرت إلى أعلاه نظرت إلى أسفله لكماله ليستتم
النظر إلى جميع جسده . أصلهما تترقّ وتتسهّل بتاءين وجزما على أنّ الأوّل فعل
الشرط والثاني جوابه .
وما زائدة وروي : ورحنا وراح الطرف ينفض رأسه والطرف بالكسر : الكريم الطرفين .
وينفض رأسه من المرح والنشاط .
وقوله : فبات عليه سرجه في بات ضمير الكميت وجملة عليه سرجه خبر بات وبات الثاني
معطوف على الأول وبعيني خبره أي : بحيث أراه وقائماً حال وغير مرسل أي : غير مهمل
.
ومعناه : أنه لما جيء به من الصيد لم يرفع عنه سرجه وهو عرق ولم يقلع لجامه فيعتلف
على التعب فيؤذيه ذلك .
ويجوز أن يكون معنى فبات عليه سرجه الخ أنهم مسافرون كانه أراد الغدوّ فكان معدّاً
لذلك . والله أعلم .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الرابع بعد المائتين ( وغنّ امرأً أسرى إليك ودونه ** من الأرض موماة
وبيداء سملق ) لما تقدّم قبله : فإن جملة قوله : ودونه من الأرض موماة من المبتدأ
والخبر حال لا الظرف وحده كما بيناه . وصاحب الحال الفاعل المستتر في قوله أسرى
العائد إلى امرئ . وأسرى : بمعنى سرى قال في الصحاح : وسريت سرىً ومسرىً وأسريت
بمعنى : إذا سرت ليلاً . وبالألف لغة أهل الحجاز وجاء القرآن بهما جميعاً . والكاف
من إليك مكسورة لأنه خطاب مع ناقته .
ودون هنا بمعنى أمام وقدّام . والموماة بالفتح : الأرض التي لا ماء فيها وفي
القاموس : الموماء والموماة : الفلاة والجمع الموامي . وأشار إلى أنها فوعلة :
لأنه ذكرها في المعتلّ الآخر بالواو .
والبيداء : القفر فعلاء من باد يبيد : إذا هلك . والسملق : الأرض المستوية .
وبيداء معطوف على موماة وسملق صفته . وجملة أسرى إليك صفة امرئ . وخبر إن المحقوقة
في بيت بعده وهو : ( لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ** وأن تعلمي أن المعان موفّق ) وقد
أنشد المحقق الشارح هذين البيتين في باب الضمير على أن الكوفيين استدلوا بهذا على
أنه يجوز ترك التأكيد بالمنفصل في الصفة الجارية على غير من هي له عند امن اللبس
والأصل لمحقوقة أنت . وهذه مسألة خلافية بين البصريين والكوفيين يأتي الكلام فيها
إن شاء الله تعالى في باب الضمير .
ومطلع هذه القصيدة : ( أرقت وما هذا السهاد المؤرّق ** وما بي من سقم وما بي معشق
) قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : سمع كسرى انوشروان يوماً الأعشى يتغنى بهذا
البيت فقال : ما يقول هذا العربيّ قالوا : يتغنى بالعربية . قال : فسّروا قوله .
قالوا : زعم أنه سهر من غيرمرض ولا عشق . قال : فهذا إذاً لصّ .
وبعد هذا المطلع بأبيات في وصف الخمرة وهو من أبيات الكشّاف والقاضي : ( تريك
القذى من دونها وهي دونه ** إذا ذاقها من ذاقها يتمطّق ) وهذا وصف بديع في صفاء
الخمرة . والتمطّق : التذوّق . قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : أراد أنها من
صفائها تريك القذاة عالية عليها والقذى في أسفلها فأخذه الأخطل فقال : ( ولقد
تباكرني على لذّاتها ** صهباء عالية القذى خرطوم ) )
اه وسيأتي إن شاء الله عز وجل بعض هذه القصيدة في باب الضمير وبعضها في عوض من باب
الظروف .
وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس بعد المائتين كما انتفض العصفور بلّله القطر هذا عجز
وصدره : وإني لتعروني لذكراك هزّة على ان الأخفش والكوفيين استدلوا بهذا على أنه
لم تجب قد مع الماضي المثبت الواقع حالاً فإن جملة بلّله القطر من الفعل والفاعل
حال من العصفور وليس معها قد لا ظاهرة ولا مقدرة .
وهذه المسألة أيضاً خلافية : ذهب الكوفيين إلى أن الماضي المثبت بدون قد يقع حالاً
بدليل قوله تعالى : أو جاؤكم حصرت صدورهم فحصرت حال بدليل قراءة الحسن البصري
ويعقوب والمفضل عن عاصم : أو جاؤكم حصرةً صدورهم وقول أبي صخر الهذلي : كما انتفض
العصفور بلّله القطر وقال البصريون : لا يجوز وقوعه حالاً بدون قد لوجهين : أحدهما
: انه لا يجوز يدلّ على الحال والثاني : أنه إنما يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح
أن يقال فيه الآن نحو : مررت بزيد يضرب وهذا لا يصلح في الماضي ولهذا لم يجز ما
زال زيد قام لأن ما زال وليس يطلبان الحال وقام ماض ولا يلزم على كلامنا إذا كان
مع الماضي قد لن قد تقرّب الماضي من الحال .
وأما الآية والبيت فقد فيهما مقدرة وقال بعضهم : حصرت صفة لقوم المجرور في أول
الآية وهو : إلا الذين يصلون إلى قوم وما بينهما اعتراض ويؤيده أنه قرئ بإسقاط أو
. وعلى ذلك يكون جاؤكم صفة لقوم ويكون حصرت صفة ثانية . وقيل : صفة لموصوف لمحذوف
أي : قوماً حصرت صدورهم .
قال صاحب اللباب : وهذا مذهب سيبويه وهو ضعيف لأنه إذا قدّر الموصوف يكون حالاً
موطّئة وصفة الموطئة في حكم الحال في إيجاب تصدّرها بقد وهو يمنع حذف قد لا سيّما
والموصوف محذوف فّن الصفة تكون في صورة الحال فالإتيان بقد يكون أولى . )
وقال المبرّد : جملة حصرت إنشائية معناها الدعاء عليهم فهي مستانفة . وردّ بأن
الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا يتجّه . وقيل : حصرت بدل اشتمال من
جاؤكم لأن المجيء مشتمل على الحصر . وفيه بعد لأن الحصر من صفة الجائين لا من صفة
المجيء .
وقد بسط ابن الأنباري الكلام على هذه المسألة في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف .
واستشهد ابن هشام بهذا البيت في شرح الألفيّة على أن المفعول له يجرّ باللام إذا
فقد بعذ شروطه فإن قوله هنا لذكراك مفعول له جرّ باللام لأن فاعله غير فاعل الفعل
المعلّل . وهو قوله لتعروني فإن فاعله هزة وفاعل ذكراك المتكلم فإنه مصدر مضاف
لمفعوله وفاعله محذوف أي : لذكري إياك .
والهزة بفتح الهاء : الحركة يقال : هززت الشيء : إذا حركته وأراد بها الرعدة .
وروي بدلها رعدة .
وروى القاليّ في أماليه فترة . وسئل ابن الحاجب : هل تصح رواية القاليّ فأجاب :
يستقيم ذلك على معنيين : احدهما أن يكون معنى لتعروني لترعدني أي : تجعل عندي
العرواء وهي الرعدة كقولهم : عري فلان : إذا أصابه ذلك لأن الفتور الذي هو السكون
عن الإجلال والهيبة يحصل عنه الرعدة غالباً عادة فيصح نسبة الإرعاد إليه فيكون كما
انتفض منصوباً انتصاب قولك : أخرجته كخروج زيد إما على معنى كإخراج زيد وإما
لتضمنه معنى خرج غالباً فكأنه قيل خرج فصحّ لذلك مثل خروج زيد وحسن ذلك تنبيهاً
على حصول المطاوع الذي هو المقصود في مثل ذلك فيكون أبلغ في الاقتصار على المطاوع
إذ قد يحصل المطاوع دونه مثل أخرجته فلا يخرج .
والثاني : أن يكون معنى لتعروني لتأتيني وتأخذني فترة أي : سكون للسرور الحاصل من
الذكرى وعبّر بها عن النشاط لأنها تستلزمه غالباً تسمية للمسبّب باسم السبب كأنه
قال : ليأخذني نشاط كنشاط العصفور . فيكون كما انتفض إما منصوباً نصب له صوت صوت
حمار وله وجهان : أحدهما : أن يكون التقدير يصوّت صوت حمار وإن لم يجز إظهاره
استغناء عنه بما تقدم .
والثاني : أن يكون منصوباً بما تضمنته الجملة من معنى يصوّت وإما مرفوعاً صفة
لفترة أي : نشاط مثل نشاط العصفور . . وهذه الأوجه الثلاثة المذكورة في الوجه
الثاني في إعراب كما )
انتفض تجري على تقدير رواية رعدة وهزّة . وروى الرمّاني عن السكري عن الأصمعي : (
إذا ذكرت يرتاح قلبي لذكرها ** كما انتفض العصفور بلّله القطر ) وهذا ظاهر . اه .
وانتفض بمعنى تحرك يقال : نفضت الثوب والشجر : إذا حركته ليسقط مافيه . وبلّه
يبلّه بلاًّ : إذا ندّاه بالماء ونحوه . والقطر : المطر .
وفي شرح بديعيّة العميان لابن جابر : أن هذا البيت فيه من البديع صنعة الاحتباك
وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ويحذف من الثاني ما أثبت نظيره في
الأول فإن التقدير فيه . وإني لتعروني لذكراك هزة وانتفاضة كهزة العصفور وانتفاضته
. فحذف من الأول وهذا البيت من قصيدة لأبي صخر الهذلي . أورد بعضها أبو تمام في
باب النسيب من الحماسة وكذلك الأصبهاني بعضها في الأغاني ورواها تماماً أبو عليّ
القالي في أماليه عن ابن الأنباريّ وابن دريد . وهي هذه : ( لليلى بذات الجيش دار
عرفتها ** وأخرى بذات البين آياتها سطر ) ( كأنهما ملآن لم يتغيرا ** وقد مرّ
للدارين من عهدنا عصر ) ( وقفت بربعيها فعيّ جوابهافقلتوعيني دمعها سرب همر ** ألا
أيها الركب المخبّون هل لكم ) ( فقالوا : طوينا ذاك ليلاً وإن يكن ** به بعض من
تهوى فما شعر السّفر ) ( أما والذي أبكى وأضحك والذي ** أمات وأحيا والذي أمره
الأمر ) ( لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها ** بتاتاً لأخرى الدهر ما طلع الفجر ) (
فما هو إلا أن أراها فجاءة ** فأبهت لا عرف لديّ ولا نكر ) ( وأنسى الذي قد كنت
فيه هجرتها ** كما قد تنسّي لبّ شاربها الخمر ) ( وما تركت لي من شذىً أهتدي به **
ولا ضلع إلا وفي عظمها كسر ) ( وقد تركتني أغبط الوحش أن أرى ** قرينين منها لم
يفزّعهما نفر ) ( مخافة أني قد علمت لئن بدا ** لي الهجر منها ما على هجرها صبر ) (
وأني لا أدري إذا النفس أشرفت ** على هجرها ما يبلغن بي الهجر ) ( أبى القلب إلا
حبها عامريةً ** لها كنيةً عمر وليس لها عمرو ) ) ( تكاد يدي تندى إذا ما لمستها
** وينبت في أطرافها الورق الخضر ) ( وإني لتعروني لذكراك فترة ** كما انتفض
العصفور بلله القطر ) ( تمنيت من حبي علية أننا ** على رمث في البحر ليس لنا وفر )
( على دائم لا يعبر الفلك موجه ** ومن دوننا الأعداء واللجج الخضر ) ( فنقضي هموم
النفس في غير رقبة ** ويغرق من نخشى نميمته البحر ) ( عجبت لسعي الدهر بيني وبينها
** فلما انقضى ما بيننا سكن الدهر ) ( فيا حب ليلى قد بلغت بي المدى ** وزدت على
ما ليس يبلغه الهجر ) ( ويا حبها زدني جوىً كل ليلة ** ويا سلوة الأيام موعدك
النضر ) ( هجرتك حتى قيل : ما يعرف الهوى ** وزرتك حتي قيل : ليس له صبر ) ( صدقت
أنا الصب المصاب الذي به ** تباريح حب خامر القلب أو سحر ) ( فيا حبذا الأحياء ما
دمت حيةً ** ويا حبذا الأموات ما ضمك القبر ) فقوله : ملآن أصله من الآن . وقوله :
أما والذي أبكى وأضحك الخ هو من أبيات الكشاف ومغني اللبيب أنشده في أما . وقوله :
فما هو إلا أن أراها فجاءة الخ هو من أبيات سيبويه ويأتي شرحه إن شاء الله عز وجل
في نواصب الفعل . وقوله : وما تركت لي من شذى هو بفتح الشين والذال المعجمتين
بمعنى الشدة وبقية القوة . والضلع بكسر الضاد وفتح اللام .
وقوله : تمنيت من حبي علية أناا على رمث هو بفتح الراء والميم وبالثاء المثلثة قال
القالي : أعود يضم بعضها إلى بعض كالطوف يركب عليها في البحر . وقوله : ما أبرم
السلم النضر يقال : أبرم السلم : إذا خرجت برمته وهي ثمرته . قال في الصحاح :
البرم محركة : ثمر العضاه الواحدة برمة وبرمة كل العضاه صفراء إلا العرفط فإن
برمته بيضاء وبرمة السلم أطيب البرم ريحاً .
حكى الأصبهاني في الأغاني عن أبي إسحاق إبراهيم الموصلي قال : دخلت على الهادي
فقال : غنني صوتاً ولك حكمك فغنيته : ( وإني لتعزوني لذكراك هزة ** كما انتفض
العصفور بلله القطر ) فقال : أحسنت والله وضرب بيده إلى حبيب دراعته فشق منها
ذراعاً ثم قال : زدني فغنيته : ( هجرتك حتى قيل : لا يعرف الهوى ** وزرتك حتى قيل
: ليس له صبر ) ) ( فيا حبها زدني جوىً كل ليلة ** ويا سلوة الأحباب موعدك الحشر )
فقال : أحسنت وشقّ باقي درّاعته من شدة الطرب ثم رفع رأسه إليّ وقال : تمن واحتكم
فقلت : أتمنى عين مروان بالمدينة . قال : فرأيته قد دارت عيناه في رأسه فخلتهما جمرتين
ثم قال : يا ابن اللخناء اتريد أن تشهرني بهذا المجلس وتجعلني سمراً وحديثاً يقول
الناس أطربه فوهبه عين مروان . أما والله لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحة عقلك
لألحقتك بمن غبر من اهلك . وأطرق إطراق الأفعوان فخلت ملك الموت بيني وبينه ينتظر
أمره . ثم رفع رأسه وطلب إبراهيم بن ذكوان وقال : يا إبراهيم خذ بيد هذا الجاهل
وأدخله بيت المال فإن أخذ جميع ما فيه فدعه وإياه قال : فدخلت وأخذت من بيت المال
خمسين ألف دينار . و أبو صخر الهذلي هو عبد الله بن سالم السهمي الهذلي شاعر
إسلامي من شعراء الدولة الأموية . كان متعصباً لبني مروان موالياً لهم وله في عبد
الملك بن مروان وأخيه عبد العزيز مدائح كثيرة . ولمّا ظهر عبد الله بن الزبير في
الحجاز وغلب عليها بعد موت يزيد بن معاوية وتشاغل بنو أمية في الحرب بينهم في مرج
راهط وغيره دخل عليه أبو صخر الهذلي في هذيل ليقبضوا عطاءهم وكان عارفاً بهواه في
بني أمية فمنعه عطاءه فقال : تمنعني حقاً لي وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت في الإسلام
حدثاً ولا أخرجت من طاعة يدا قال : عليك ببني أمية اطلب منهم عطاءك قال : إذاً
أجدهم سبطة أكفهم سمحة أنفسهم بذلاً لأموالهم وهّابين لمجتديهم كريمة أعراقهم
شريفة أصولهم زاكية فروعهم قريباً من رسول الله صلى الله عليه وسلم نسبهم وسببهم
ليسوا إذا نسبوا بأذناب ولا وشائظ ولا أتباع ولا هم في قريش كفقعة القاع لهم
السودد في الجاهلية والملك في الإسلام لا كمن لا يعدّ في عيرها ولا نفيرها ولا حكم
آباؤه في نقيرها وقطميرها ليس من أحلافها المطيّبين ولا من ساداتها المطعمين ولا
من هاشمها المنتخبين ولا عبد شمسها المسوّدين وكيف تقاس الأرؤس بالأذناب وأين
النصل من الجفن وأين السنان من الزجّ والذنابى من القدامى وكيف يفضل الشحيح على
الجواد والسوقة على الملوك والجائع بخلاً على المطعم فضلاً فغضب بن الزبير حتى
ارتعدت فرائصه وعرق جبينه واهتز من قرنه إلى قدمه وامتقع لونه ثم قال له : يا ابن
البوّالة على عقبيها يا جلف يا جاهل أما والله لولا الحرمات الثلاث : حرمة الإسلام
وحرمة الشهر الحرام وحرمة الحرم لأخذت الذي فيه عيناك ثم أمر به إلى سجن عارم فحبس
فيه مدّة ثم استوهبته هذيل ومن )
له في قريش خؤولة فأطلقه بعد سنة وأقسم أن لا يعطيه عطاءً مع المسلمين أبداً .
فلما كان عام الجماعة وولي عبد الملك بن مروان وحجّ لقيه أبو صخر فقرّبه وأدناه
وقال له : إنه لم يخف عليّ خبرك مع الملحد ولا ضاع لديّ هواك ولا موالاتك . فقال :
إذا شفى الله منه نفسي ورأيته قتيل سيفك وصريع أوليائك مصلوباً مهتوك الستر مفرّق
الجمع فما أبالي ما فاتني من الدنيا ثم استأذنه في مديح فأنشده قصيدة وأمر له عبد
الملك بما فاته من العطاء ومثله من ماله وحمله وكساه . كذا في الأغاني .
وأنشد بعده : ( يقول وقد ترّ الوظيف وساقها ** ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد ) تقدم
شرحه في الشاهد الرابع والثمانين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو الشاهد السادس بعد المائنين وهو من شواهد سيبويه : ( أفي السلم
أعياراً جفاءً وغلظة ** وفي الحرب أشباه النساء العوارك ) على أن أعياراً وأشباه
النساء منصوبان على الحال عند السيرافي ومن تبعه وعلى المصدر عند سيبويه .
قال السهيلي في الروض الأنف : هذا البيت لهند بنت عتبة قالته لفلّ قريش حين رجعوا
من بدر . يقال : عركت المرأة : إذا حاضت . ونصب أعياراً على الحال والعامل فيه
مختزل لأنه أقام الأعيار مقام اسم مشتق فكأنه قال : في السلم بلداء جفاة مثل
الأعيار . ونصب جفاء وغلظة نصب المصدر الموضوع موضع الحال كما تقول : زيد الأسد
شدّة أي : يماثله مماثلة شديدة فالشدة صفة للمماثلة كما أن المشافهة صفة للمكالمة
إذا قلت : كلّمته مشافهة فهذه حال من المصدر في الحقيقة . وتعلّق حرف الجرّ من
قولها أفي السلم بما أدّته الأعيار من معنى الفعل فكأنها قالت : أفي السلم تتبلدون
. وهذا الفعل المختزل الناصب للأعيار ولا يجوز إظهاره اه .
وزعم العيني أن قوله : جفاء منصوب على التعليل أي : لأجل الجفاء والغلظة . ولا
يخفى سقوطه . والهمزة لللاستفهام التوبيخي . والسلم بكسر السين وفتحها : الصلح
يذكّر ويؤنث .
والأعيار : جمع عير بالفتح : الحمار أهلياً كان ام وحشياً وهو مثل في البلادة
والجهل . والجفار )
قال في المصباح : وجفا الثوب يجفو : إذا غلظ فهو جاف ومنه جفاء البدو وهو غلظتهم
وفظاظتهم . والغلظة بالكسر : الشدذة وضد اللين والسلاسة .
وروي أمثال بدل قوله أشباه . والعوارك : جمع عارك وهي الحائض من عركت المرأة تعرك
كنصر ينصر عروكاً أي : حاضت . وبّختهم وقالت لهم : أتجفون الناس وتغلظون عليهم في
السلم فإذا أقبلت الحرب لنتم وضعفتم كالنساء الحيض حرّضت المشركين بهذا البيت على
المسلمين . والفلّ بفتح الفاء : القوم المنهزمون .
وهند بنت عتبة بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف القرشية العبشمية والدة معاوية بن
ابي سفيان اخبارها قبل الإسلام مشهورة . وشهدت أحداً وفعلت ما فعلت بحمزة ثم كانت
تؤلّب وتحرض على المسلمين إلى أن جاء الله بالفتح فأسلم زوجها ثم أسلمت هي يوم
الفتح .
كذا في الإصابة لابن حجر .
وأنشد بعده وهو الشاهد السابع بعد المائتين وهو من شواهد س : ( أنا ابن دارة
مشهوراً بها نسبي ** وهل بدارة يا للناس من عار ) على أن قوله مشهوراً حال مؤكدة
لمضمون الخبر . ومضمونه هنا الفخر وروي : أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي .
وقوله : نسبي نائب الفاعل لقوله مشهوراً . والباء من بها متعلقة به للا نائب
الفاعل كما وهم العيني . وهذه الحال سببية . وهل للاستفهام الانكاري . ومن زائدة
وعار مبتدأ من رفعه حركة حرف الجر الزائد . وبدارة خبره . ويا للناس اعتراض بين
المبتدأ والخبر . ويا للنداء لا للتنبيه ولناس منادى لا ان المنادى محذوف تقديره :
قومي . واللام للاستغاثة وهي تدخل ودارة اسم أمّ الشاعر وهو سالم بن دارة قال ابن
قتيبة : وهي من بني أسد وسميت بذلك لأنها شبهت بدارة القمر من جمالها .
وقال الحلواني في كتاب أسماء الشعراء المنسوبين إلى أمهاتهم : دارة لقب بأمه
واسمها سيفاء كانت أخيذة أصابها زيد الخيل من بعض غطفان منبني أسد وهي حبلى فوهبها
زيد الخيل لزهير بن أبي سلمى . فربما نسب سالم بن دارة إلى زيد الخيل اه . )
وقال أبو رياش في شرح الحماسة والأصبهاني في الأغاني : دارة لقب جدّه واسمه يربع .
وعلى هذا قد روي : أنا ابن دارة معروفاً به نسبي وروي أيضاً : معروفاً له نسبي .
وهذا البيت من قصيدة طويلة لسالم بن دارة هجا بها زميل بن أبير أحد بني عبد الله
بن مناف الفزاري منه : ( بلغ فزارة إني لن أسالمها ** حتى ينيك زميل أم دينار ) (
لاتأمنن فزارياً خلوت به ** بعد الذي امتلّ أيّر العير في النار ) ( وغن خلوت به
في الأرض وحدكما ** فاحفظ قلوصك واكتبها بأسيار ) ( أنا ابن دارة معروفاً له نسبي
** وهل بدارة يا للناس من عار ) ( جرثومة نبتت في العز واعتزلت ** تبتغي الجراثيم
من عرف وإنكار ) ( من جذم قيس وأخوالي بنو أسد ** من أكرم الناس زندي فيهم واري )
وأمّ دينار هي أمّ زميل . وقوله : بعد الذي امتلّ أيّر العيل الخ العير بالفتح :
الحمار . وامتلّ أير العير أي : شوى أير الحمار في الملة وهي الرماد الحار . وبنو
فزارو يرمون بأكل أير الحمار مشوياً . وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح هذا مستوفى في
باب المثنى . والقلوص : الناقة الشابة .
واكتبها : من كتب الناقة يكتبها بضم التاء وكسرها : ختم حياءها أو خزمها بسير أو
حلقة حديد لئلا ينزى عليها . والأسيار : جمع سير من الجلد . وعار الجواعر أي :
بارز الأست والفقحة . والقسبار بضم القاف : الذكر الطويل العظم . وجرثومة الشيء
بالضم : أصله .
وتبغي : من البغي يقال : بغى عليه بغياً : إذا علا عليه واستطال فأصله تبغي على
الجراثيم .
والعرف بالضم : المعروف . والجذم بالكسر والفتح : الأصل . وورى الزند : كرمى : خرج
ناره ويقال : ورت بك زنادي يقال : هذا في التمدح والافتخار . وتقدم سبب هجوه لبني
فزارة وسبب هذه القصيدة مع ترجمته في الشاهد الخامس بعد المائة . ( باب التمييز )
أنشد فيه وهو الشاهد التاسع بعد المائتين وستّوك قد كربت تكمل على أن العدد الذي
في آخره النون يضاف إلى صاحبه أكثر من إضافته إلى المميز أي : قرب أن يكمل ستون
سنة من عمرك .
وهذا المصراع من قصيدة للكميت بن زيد مدح بها عبد الرحمن بن عنبسة بن سعيد بن
العاص بن أمية . وأولها : ( أ أبكاك بالعرف المنزل ** وما أنت والطلل المحول ) (
وما أنت ويك ورسم الديار ** وستوك قد كربت تكمل ) قال الأصبهاني في الأغاني : كان
بين بني أسد وبين طيئ حرب فاصطلحوا وبقي لطيئ دم رجلين فاحتمل ذلك رجل من بني أسد
فمات قبل أن يوّفيه . فاحتمله الكميت فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه الكميت
فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة فمدحه الكميت رأيت الغواني وحشاً نفورا وأعانه
زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي أولها : هل للشباب الذي قد فات من طلب
ثم جلس الكميت وقد خرج العطاء . فأقبل الرجل يعطي الكميت المائتين والثلثمائة
وأكثر وأقلّ كانت دية الأعرابي ألف بعير ودية الحضري عشرة آلاف درهم وكانت قيمة
الجمل عشرة دراهم فأدّى الكميت عشرين ألفاً عن قيمة ألفي بعير اه فقوله : أأبكاك
يخاطب نفسه ويقرره مستفهماً . والعرف بضم العين والراء المهملتين : موضع .
والمنزل : فاعل أبكاك قال الزمخشري في كتاب الأمكنة والمياه . عرفة الأملح وعرفة
رقد وعرفة اعيار : مواضع تسمّى العرف . وأنشد بيت الكميت . وفي المحكم لابن سيده :
العرف بضمتين موضع وقيل جبل . وأنشد البيت أيضاً . وكذا ضبطه أبو عبيد البكريّ في
معجم ما استعجم وقال : هو ماء لبني أسد . وأنشد البيت وقال : ويخفّف بسكون الراء
قال عباس بن مرداس : ( خفافيّة بطن العقيق مصيفها ** وتحتلّ في البادين وجرة
والعرفا ) )
فدلّ قول عباس أن العرف بوادي بني خفاف اه .
وقوله : وما أنت الخ استفهام توبيخيّ ينكر بكاءه وهو شيخ على الأطلال . والطّلل :
والمحول : اسم فاعل من أحول الشيء : إذا مرّ عليه حول وهي السنة . ويك : كلمة
تفجّع وأصله ويلك . وستّوك مبتدأ وما بعده خبره والجملة حالية . وكرب بفتح الراء
كروباً : دنا .
وكرب من أخوات كاد تعمل عملها واسمها ضمير الستين . وجملة تكمل في موضع نصب خبرها
.
وترجمة الكميت بن زيد تقدمت في الشاهد السادس عشر .
وأشد بعده وهو الشاهد العاشر بعد المائتين ( فيا لك من ليل كأن نجومه ** بكلّ مغار
الفتل شدّت بيذبل ) على أن قوله من ليل تمييز عن المفرد الذي هو الضمير المبهم في
قوله يا لك .
وفيه أن الضمير غي رمبهم لتقدم مرجعه في البيت قبله وهو قوله : ألا أيها الليل
الطويل كما يأتي فالتمييز فيه عن النسبة لا عن المفرد ومن لبيان الجنس . وقال
المرادي في شرح الألفية : من زائدة في الكلام الموجب ولهذا يعطف على موضع مجرورها
بالنصب كقول الحطيئة : يا سنه من قوام ومنتقبا وصحح هذا أبو حيان في الارتشاف .
ويا : حرف نداء واللام للتعجب تدخل على المنادى إذا تعجّب منه . ولأجل هذا اورد
ابن هشام هذا البيت في المغني قال في شرح بانت سعاد : الأصل يا إياك أو يا أنت ثم
لمّا دخلت عليه لام الجر للتعجب انقلب الضمير المنفصل المنصوب أو المرفوع ضميراً
متصلاً مخفوضاً .
وأورده المراديّ في شرح الألفية على ان اللام فيه للاستغاثة استغاث به منه لطوله
كأنه قال : يا ليل ما أطولك قال ابن هشام : وإذا قيل يا لزيد بفتح اللام فهو
مستغاث فإن كسرت فهو مستغاث لأجله والمستغاث محذوف فإن قيل يا لك احتمل الوجهين .
والباء في قوله : بكل متعلّقة بشدّت . والمغار بضمّ الميم : اسم مفعول بمعنى المحكم
من أغرت الحبل إغارة : إذا أحكمت فتله . ويذبل : اسم جبل لا ينصرف للعلمية ووزن
الفعل وصرفه للضرورة . يقول : إن نجوم الليل لا تفارق محالّها فكأنها مربوطة بكلّ
حبل محكم الفتل في هذا الحبل . وإنما استطال )
الليل لمقاساة الأحزان فيه .
وهذا البيت من معلّقة امرئ القيس المشهورة . وفيها خمسة أبيات في وصف الليل وهي :
( وليل كموج البحر أرخى سدوله ** عليّ بأنواع الهموم ليبتلي ) ( فقلت له لمّا تمطى
بصلبه ** وأردف أعجازاً وناء بكلكل ) ( ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبح
وما الإصباح منك بأمثل ) ( كأن الثريا علّقت في مصامها ** بأمراس كتان إلى صمّ
جندل ) فقوله : وليل الواو واو ربّ . و السدول : الستور جمع سدل وسدل ثوبه : إذا
أرخاه . يقول : ربّ ليل يحاكي أمواج البحر في توحشه وهوله وقد أرخى عليّ ستور
ظلامه مع أنواع الحزن ليختبرني : أأصبر أم أجزع وهذا بعد ان تغزّل تمدّح بالصبر
والجلد .
وقوله : ف لت له لما تمطى الخ تمطى : امتد . وناء : نهض . والكلكل : الصدر .
والأعجاز : الأواخر جمع عجز وهو من استعمال الجمع موضع الواحد . وقد استشهد ابن
مالك بهذا البيت على ان الواو لا تدلّ على الترتيب لأن البعير ينهض بكلكله والأصل
: فقلت له لمّا ناء بكلكله وتمطّى بصلبه وأردف أعجازه .
وقوله : ألا أيها الليل الطويل الخ انجلي : أمر بمعنى انكشف والياء إشباع .
والإصباح : الصباح .
والأمثل : الأفضل . وأورد هذا البيت في تلخيص المفتاح على أن صيغة الأمر فيه
للتمني ومعناه تمنى زوال ظلام الليل بضياء الصبح ثم قال : وليس الصباح بأفضل منك
عندي لاستوائهما في مقاساة الهموم أو لأن نهاره يظلم في عينه لتوارد الهموم . فليس
الغرض طلب الانجلاء من الليل لأنه لا يقدر عليه لكنه يتمناه تخلّصاً مما يعرض له
فيه ولاستطالة تلك الليلة كأنه لا يرتقب انجلاءها ولا يتوقعه . فلهذا حمل على
التمني دون التراخي .
قال الإمام الباقلاني في إعجاز القرآن : ومما يعدونه من محاسن هذه القصيدة هذه
الأبيات الثلاثة وكان يعضهم يعارضها بقول النابغة : ( كليني لهمّ يا أميمة ناصب **
وليل أقاسيه بطيء الكواكب ) ( وصدر أراح الليل عازب همه ** تضاعف فيه الحزن من كلّ
جانب ) ( تقاعس حتى قلت ليس بمنقض ** وليس الذي يتلو النجوم بآيب ) وقد جرى ذلك
بين يدي بعض الخلفاء فقدّمت أبيات امرئ القيس واستحسن استعارتها وقد )
جعل لليل صدراً يثقل تنحّيه ويبطئ تقضّيه وجعل له أردافاً كثيرة . وجعل له صلباً
يمتدّ ويتطاول . ورأوا هذا بخلاف ما يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية
البعيدة المستنكرة .
ورأوا أن الألفاظ جميلة . واعلم أن هذا صالح جميل وليس من الباب الذي يقال إنه
متناه عجيب . وفيه إلمام بالتكلف ودخول في التعمّل انتهى .
وقوله : كأن الثريا علقت الخ المصام بفتح الميم : موضع الوقوف . والأمراس : الحبال
جمع مرس محركة . والجندل : الحجارة . يقول : كأن الثريا مشدودةً بحبال إلى حجارة
فليست تمضي .
قال العسكري في التصحيف : ومما خالف فيه ابن الأعرابي الأصمعي في المعنى لا في
اللفظ قوله : فالهاء في مصامها عند الأصمعي ترجع إلى الثريا . ومعنى مصامها :
موضعها ومقامها . وهو يصفالليل وأن نجومه لا تسير من طوله فكأن لها أواخي في الأرض
تحبسها . هذا مذهب الأصمعي . و ايت هذا البيت في نوادر ابن الأعرابي وفسره بتفسير
عجيب فقال ورواه : كأن نجوماً علقت في مصامه ثم فسر وقال : شبه ما بين الحوافر
وجثمانه بالأمراس وضم جندل يعني جثمانه . فأخذ هذا البيت وصيره في وصف الفرس وحمله
على أنه بعد : ( وقد أغتدي والطير في وكناتها ** بمنجرد قيد الأوابد هيكل اه )
وترجمة امرئ القيس قد تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
____________________
وأنشد
بعده ، وهو الشاهد الرابع بعد المائتين : ( الطويل ) 204 - ( وإن امرأ أسرى إليك
ودونه ** من الأرض موماة وبيداء سملق ) لما تقدم قبله : فإن جملة قوله : ' ودونه
من الأرض موماة ' من المبتدأ والخبر ، حال لا الظرف وحده ، كما بيناه . وصاحب
الحال الفاعل المستتر في قوله أسرى العائد إلى امرئ . و ' أسرى ' : بمعنى سرى ،
قال في ' الصحاح ' : ' وسريت سرى ومسرى وأسريت ، بمعنى : إذا سرت ليلاً . وبالألف
لغة أهل الحجاز ، وجاء القرآن بهما جميعاً . والكاف من ' إليك ' مكسورة ، لأنه
خطاب مع ناقته . و ' دون ' هنا بمعنى أمام وقدام . و ' الموماة ' بالفتح : الأرض
التي لا ماء فيها ؛ وفي ' القاموس ' : الموماء والموماة : الفلاة ؛ والجمع الموامي
. وأشار إلى أنها فوعلة : لأنه ذكرها في المعتل الآخر بالواو . و ' البيداء ' :
القفر ، فعلاء من باد يبيد : إذا هلك . و ' السملق ' : الأرض المستوية . و ' بيداء
' معطوف على موماة و ' سملق ' صفته . وجملة ' أسرى إليك ' صفة امرئ . وخبر إن '
لمحقوقة ' في بيت بعده ، وهو : ( لمحقوقة أن تستجيبي لصوته ** وأن تعلمي أن المعان
موفق ) وقد أنشد المحقق الشارح هذين البيتين في باب الضمير على أن الكوفيين
استدلوا بهذا على أنه يجوز ترك التأكيد بالمنفصل ، في الصفة الجارية على غير من هي
له ، عند أمن اللبس ؛ والأصل لمحقوقة أنت . وهذه مسألة خلافية بين البصريين
والكوفيين يأتي الكلام فيها إن شاء الله تعالى في باب الضمير . ومطلع هذه القصيدة
:
____________________
(
أرقت وما هذا السهاد المؤرق ** وما بي من سقم وما بي معشق ) قال ابن قتيبة في '
كتاب الشعراء ' : ' سمع كسرى أنوشروان يوماً الأعشى يتغنى بهذا البيت ، فقال : ما
يقول هذا العربي ؟ قالوا : يتغنى بالعربية . قال : فسروا قوله . قالوا : زعم أنه
سهر من غير مرض ولا عشق . قال : فهذا إذا لص ' . وبعد هذا المطلع بأبيات في وصف
الخمرة ، وهو من أبيات الكشاف والقاضي : ( تريك القذى من دونها وهي دونه ** إذا
ذاقها من ذاقها يتمطق ) وهذا وصف بديع في صفاء الخمرة . و ' التمطق ' : التذوق .
قال ابن قتيبة في ' كتاب الشعراء ' : أراد أنها من صفائها تريك القذاة عالية عليها
، والقذى في أسفلها فأخذه الأخطل فقال : ( الكامل ) ( ولقد تباكرني على لذاتها **
صهباء عالية القذى خرطوم ) ا . هـ ، وسيأتي إن شاء الله عز وجل ، بعض هذه القصيدة
في باب الضمير وبعضها في عوض من باب الظروف . وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد
الثالث والعشرين .
____________________
وأنشد
بعدها ، وهو الشاهد الخامس بعد المائتين : ( الطويل ) 205 - كما انتفض العصفور
بلله القطر هذا عجز ، صدره : ( وإني لتعروني لذاكرك هزة ** ) على أن الأخفش
والكوفيين استدلوا بهذا على أنه لم تجب ' قد ' مع الماضي المثبت الواقع حالاً ؛ فإن
الجملة ' بلله القطر ' من الفعل والفاعل ، حال من العصفور وليس معها قد ، لا ظاهرة
ولا مقدرة . وهذه المسألة أيضاً خلافية : ذهب الكوفيون إلى أن الماضي المثبت بدون
قد ، يقع حالاً بدليل قوله تعالى : ' أو جاؤكم حصرت صدورهم ' فحصرت حال بدليل
قراءة الحسن البصري ويعقوب والمفضل عن عاصم : ' أو أجاؤكم حصرة صدورهم ' وقول أبي
صخر الهذلي : ( كما انتفض العصفور بلله القطر ** ) وقال البصريون : لا يجوز وقوعه
حالاً بدون قد ، لوجهين : أحدهما : أنه لا يدل على الحال ؛ والثاني : أنه إنما
يصلح أن يوضع موضع الحال ما يصلح أن يقال
____________________
فيه
الآن ، نحو : مررت بزيد يضرب ؛ وهذا لا يصلح في الماضي ؛ ولهذا لم يجز ما زال زيد
قام ، وليس زيد قام ، لأن ما زال وليس يطلبان الحال وقام ماض ، ولا يلزم على
كلامنا إذا كان مع الماضي ' قد ' ، لأن ' قد ' تقرب الماضي من الحال . وأما الآية
والبيت ، فقد فيهما مقدرة ؛ وقال بعضهم : حصرت صفة لقوم المجرور في أول الآية ،
وهو : ' إلا الذين يصلون إلى قوم ' وما بينهما اعتراض ، ويؤيده أنه قرئ بإسقاط أو
. وعلى ذلك يكون جاؤكم صفة لقوم ويكون حصرت صفة ثانية . وقيل : صفة لموصوف محذوف ،
أي : قوماً حصرت صدورهم . قال صاحب ' اللباب ' : وهذا مذهب سيبويه ؛ وهو ضعيف ،
لأنه إذا قدر الموصوف يكون حالاً موطئة ، وصفة الموطئة في حكم الحال في إيجاب
تصدرها بقد ، وهو يمنع حذف قد ، لا سيما والموصوف محذوف ، فإن الصفة تكون في صورة
الحال ؛ فالإتيان بقد يكون أولى . وقال المبرد : جملة حصرت ، إنشائية معناها
الدعاء عليهم ، فهي مستأنفة . ورد بأن الدعاء عليهم بضيق قلوبهم عن قتال قومهم لا
يتجه . وقيل : حصرت بدل اشتمال من جاؤكم لأن المجيء مشتمل على الحصر . وفيه بعد ،
لأن الحصر من صفة الجائين ، لا من صفة المجيء ؟ وقد بسط ابن الأنباري الكلام على
هذه المسألة ، في كتاب ' الإنصاف في مسائل الخلاف ' . واستشهد ابن هشام بهذا البيت
في ' شرح الألفية ' على أن المفعول له يجر باللام إذا فقد بعض شروطه ، فإن قوله
هنا لذكراك ، مفعول له جر باللام ، لأن فاعله غير فاعل الفعل المعلل . وهو قوله
لتعروني ؛ فإن فاعله هزة ، وفاعل ذكراك المتكلم ، فإنه مصدر مضاف لمفعوله وفاعله
محذوف ، أي : لذكري إياك . و ' الهزة ' بفتح الهاء : الحركة ، يقال : هززت الشيء :
إذا حركته ؛ وأراد بها الرعدة . وروي بدلها ' رعدة ' .
____________________
وروى
القالي في أماليه ' فترة ' . وسئل ابن الحاجب : هل نصح رواية القالي ؟ فأجاب :
يستقيم ذلك على معنيين : أحدهما أن يكون معنى لتعروني لترعدني ، أي : تجعل عندي
العرواء ، وهي الرعدة ، كقولهم : عري فلان : إذا أصابه ذلك ، لأن الفتور الذي هو
السكون عن الإجلال والهيبة ، يحصل عنه الرعدة غالباً عادة ، فيصبح نسبة الإرعاد
إليه ، فيكون كما انتفض منصوباً انتصاب قولك : أخرجته كخروج زيد ، إما على معنى
كإخراج زيد ، وإما لتضمنه معنى خرج غالباً ، فكأنه قيل خرج ، فصح لذلك مثل خروج
زيد ، وحسن ذلك تنبيهاً على حصول المطاوع الذي هو المقصود في مثل ذلك ، فيكون أبلغ
في الاقتصار على المطاوع ، إذ قد يحصل المطاوع دونه مثل أخرجته فلا يخرج . والثاني
: أن يكون معنى ' لتعروني ' لتأتيني وتأخذني فترة ، أي : سكون ، للسرور الحاصل من
الذكرى ؛ وعبر بها عن النشاط لأنها تستلزمه غالباً ، تسمية للمسبب باسم السبب ،
كأنه قال : ليأخذني نشاط كنشاط العصفور . فيكون ' كما انتفض ' ، إما منصوباً نصب
له صوت صوت حمار - وله وجهان : أحدهما : أن يكون التقدير يصوت صوت الحمار ، وإن لم
يجز إظهاره استغناء عنه بما تقدم . والثاني : أن يكون منصوباً بما تضمنته الجملة
من معنى يصوت - وإما مرفوعاً صفة لفترة ، أي : نشاط مثل نشاط العصفور . . وهذه
الأوجه الثلاثة المذكورة في الوجه الثاني ، في إعراب ' كما انتفض ' ، تجري على
تقدير رواية رعدة وهزة . وروى الرماني عن السكري ع الأصمعي : ( إذا ذكرت يرتاح
قلبي لذكرها ** كما انتفض العصفور بلله القطر )
____________________
وهذا
ظاهر ا . هـ . و ' انتفض ' بمعنى تحرك ، يقال : نفضت الثوب والشجر : إذا حركته
ليسقط ما فيه . وبله ويبله بلا : إذ نداه بالماء ونحوه . و ' القطر ' : المطر .
وفي ' شرح بديعية العميان ' لابن جابر : أن هذا البيت فيه من البديع صنعة '
الاحتباك ' وهو أن يحذف من الأول ما أثبت نظيره في الثاني ، ويحذف من الثاني ما
أثبت نظيره في الأول ؛ فإن التقدير فيه . وإني لتعروني لذكراك هزة وانتفاضة كهزة
العصفور وانتفاضته . فحذف من الأول الانتفاض لدلالة الثاني عليه ، وحذف من الثاني
الهزة لدلالة الأول عليه ا . هـ . وهذا البيت من قصيدة لأبي صخر الهذلي . أورد
بعضها أبو تمام في باب النسيب من ' الحماسة ' ، وكذلك الأصبهاني بعضها في '
الأغاني ' ورواها تماماً أبو علي القالي في أماليه ، عن ابن الأنباري وابن دريد .
وهي هذه : ( الطويل ) ( لليلى بذات الجيش دار عرفتها ** وأخرى بذات البين آياتها سطر
) ( كأنهما ملأن لم يتغيرا ** وقد مر للدارين من عهدنا عصر ) ( وقفت بربعيها فعي
جوابها ** فقلت - وعيني دمعها سرب همر ) ( ألا أيها الراكب المخبون هل لكم **
بساكن أجراع الحمى بعدنا خبر ) ( فقالوا : طوينا ذاك ليلا وإن يكن ** به بعض من
تهوى فما شعر السفر ) ( أما والذي أبكى وأضحك والذي ** أمات وأحيا والذي أمره
الأمر )
____________________
(
لقد كنت آتيها وفي النفس هجرها ** بتاتا لأخرى الدهر ما طلع الفجر ) ( فما هو إلا
أن أراها فجاءة ** فأبهت لا عرف لدي ولا نكر ) ( وأنسى الذي قد كنت فيه هجرتها **
كما قد تنسي لب شاربها الخمر ) ( وما تركت لي من شذى أهتدي به ** ولا ضلع إلا وفي
عظمها كسر ) ( وقد تركتني أغبط الوحش أن أرى ** قرينين منها لم يفزعهما نفر ) (
ويمنعني من بعض إنكار ظلمها ** إذا ظلمت يوماً وإن كان لي عذر ) ( مخافة أني قد
علمت لئن بدا ** لي الهجر منها ما على هجرها صبر ) ( وأني لا أري إذا النفس أشرفت
** على هجرها ما يبلغن بي الهجر ) ( أبى القلب إلا حبها عامرية ** لها كنية عمر
وليس لها عمرو ) ( تكاد يدي تندى إذا ما لمستها ** وينبت في أطرافها الورق الأخضر
) ( وإني لتعروني لذكراك فترة ** كما انتفض العصفور بلله القطر ) ( تمنيت من حبي
علية أننا ** على رمث في البحر ليس لنا وفر ) ( على دائم لا يعبر الفلك موجه **
ومن دوننا الأعداء واللجج الخضر ) ( فنقضي هموم النفس في غير رقبة ** ويغرق من
نخشى نميمته البحر ) ( عجبت لسعي الدهر بيني وبينها ** فلما انقضى ما بيننا سكن
الدهر )
____________________
(
فيا حب ليلى قد بلغت بي المدى ** وزدت على ما ليس يبلغه الهجر ) ( ويا حبها زدني
جوى كل ليلة ** ويا سلوة الأيام موعدك الحشر ) ( فليس عشيات الحمى برواجع ** لنا
أبداً ما أبرم السلم النضر ) ( هجرتك حتى قيل : ما يعرف الهوى ** وزرتك حتى قيل :
ليس له صبر ) ( صدقت أنا الصب المصاب الذي به ** تباريح حب خامر القلب أو سحر ) (
فيا حبذا الأحياء ما دمت حية ** ويا حبذا الأموات ما ضمك القبر ) فقوله : ' ملآن '
، أصله من الآن . وقوله : ' أما والذي أبكى وأضحك الخ ' ، هو من أبيات ' الكشاف '
و ' مغني اللبيب ' ، أنشده في أما . وقوله : ' فما هو إلا أن أراها فجاءة الخ ' ،
هو من أبيات سيبويه ، ويأتي شرحه إن شاء الله عز وجل في نواصب الفعل . وقوله : '
وما تركت لي من شذى ' ، هو بفتح الشين والذال المعجمتين ، بمعنى الشدة وبقية القوة
' . و ' الضلع ' ، بكسر الضاد وفتح اللام . وقوله : ' تمنيت من حبي علية أننا على
رمث ' ، هو بفتح الراء والميم وبالثاء المثلثة ، قال القالي : أعواد يضم بعضها إلى
بعض كالطواف ، يركب عليها في البحر . وقوله : ' ما أبرم السلم النضر ' ، يقال :
أبرم السلم : إذا خرجت برمته وهي ثمرته . قال في ' الصحاح ' : ' البرم محركة : ثمر
العضاه ، الواحدة برمة ؛ وبرمة كل العضاه صفراء إلا العرفظ فإن برمته السلم أطيب
البرم ريحاً ' . حكى الأصبهاني في ' الأغاني ' عن أبي إسحاق إبراهيم الموصلي قال :
دخلت
____________________
على
الهادي فقال : غنني صوتاً ، ولك حكمك ! فغنيته : ( وإني لتعروني لذكراك هزة ** كما
انتفض العصفور بلله القطر ) فقال : أحسنت والله ! وضرب بيده إلى حبيب دراعته فشق
منها ذراعاً ، ثم قال : زدني ! فغنيته : ( هجرتك حتى قيل : لا يعرف الهوى ** وزرتك
حتى قيل : ليس له صبر ) فقال : أحسنت . ثم ضرب بيده إلى دراعته فشق منها ذراعاً
آخر ؛ ثم قال : زدني فغنيته : ( فيا حبها زدني جوى كل ليلة ** ويا سلوة الأحباب
موعدك الحشر ) فقال : أحسنت ! وشق باقي دراعته من شدة الطرب ، ثم رفع رأسه إلي
وقال : تمن واحتكم ؟ فقلت : أتمنى عين مروان بالمدينة . قال : فرأيته قد دارت
عيناه في رأسه ، فخلتهما جمرتين ؛ ثم قال : يا ابن اللخناء ، أتريد أن تشهرني بهذا
المجلس ، وتجعلني سمراً وحديثاً ، يقول الناس أطربه فوهبه عين مروان . أما والله
لولا بادرة جهلك التي غلبت على صحة عقلك ، لألحقتك بمن غبر من أهلك . وأطرق إطراق
الأفعوان ، فخلت ملك الموت بيني وبينه ينتظر أمره . ثم رفع رأسه وطلب إبراهيم بن
ذكوان وقال : يا إبراهيم خذ بيد هذا الجاهل وأدخله بيت المال ، فإن أخذ جميع ما
فيه فدعه وإياه ؟ قال : فدخلت وأخذت من بيت المال خمسين ألف دينار . و ' أبو صخر
الهذلي ' هو عبد الله بن سالم السهمي الهذلي شاعر إسلامي من شعراء الدولة الأموية
. كان متعصباً لبني مروان موالياً لهم ، وله في عبد الملك بن مروان وأخيه عبد
العزيز مدائح كثيرة . ولما ظهر عبد الله بن الزبير في الحجاز وغلب عليها ، بعد موت
يزيد بن معاوية ، وتشاغل بنو أمية في الحرب بينهم في مرج راهط وغيره دخل عليه أبو
صخر الهذلي ، ليقبضوا عطاءهم ، وكان عارفاً بهواه في بني أمية ، فمنعه عطاءه ؛
فقال : تمنعني حقاً لي وأنا امرؤ مسلم ما أحدثت
____________________
في
الإسلام حدثاً ولا أخرجت من طاعة يدا ! قال : عليك ببني أمية ، اطلب منهم عطاءك !
قال : إذا أجدهم سبطة أكفهم ، سمحة أنفسهم ، بذلا لأموالهم ، وهابين لمجتديهم ،
كريمة أعراقهم ، شريفة أصولهم ، زاكية فروعهم ، قريباً من رسول الله & نسبهم
وسببهم [ ليسوا بأذناب ، ولا وشائظ ولا أتباع ، ولا هم في قريش كفقعة القاع ] ؛
لهم السودد في الجاهلية والملك في الإسلام ، لا كمن لا يعد في عيرها ولا نفيرها ،
ولا حكم آباؤه في نقيرها وقطميرها ، ليس من أحلافهم المطيبين ؛ ولا من ساداتها
المطعمين ؛ ولا من هاشمها المنتخبين ، ولا عبد شمسها المسودين ؟ ! وكيف تقاس
الأرؤس بالأذناب وأين النصل من الجفن ، وأين السنان من الزج والذنابي من القدامى ؟
! وكيف يفضل الشحيح على الجواد ، والسوقة على الملوك ، والجامع بخلا على المطعم
فضلاً ؟ ! فغضب بن الزبير حتى ارتعدت فرائصه ، وعرق جبينه ، واهتز من قرنه إلى
قدمه وامتقع لونه ؛ ثم قال له : يا ابن البوالة على عقبيها ، يا جلف يا جاهل ، أما
والله لولا الحرمات الثلاث : كرمة الإسلام ، وحرمة الشهر الحرام ، وحرمة الحرم ،
لأخذت الذي فيه عيناك ! ثم أمر به إلى سجن عارم ، فحبس فيه مدة ، ثم استوهبته هذيل
ومن له في قريش خؤولة ، فأطلقه بعد سنة ، وأقسم أن لا يعطيه عطاءً مع المسلمين
أبداً . فلما كان عام الجماعة وولي عبد الملك بن مروان وحج ، لقيه أبو صخر ، فقربه
وأدناه وقال له : لم يخف علي خبرك مع الملحد ، ولا ضاع لدي هواك
____________________
ولا
موالاتك . فقال : إذا شفى الله منه نفسي ، ورأيته قتيل سيفك وصريع أوليائك ،
مصلوباً مهتوك الستر ، مفرق الجمع ، فما أبالي ما فاتني من الدنيا ! ثم استأذنه في
مديح ، فأنشده قصيدة ، وأمر له عبد الملك بما فاته من العطاء ، ومثله من ماله ،
وحمله وكساه . كذا في ' الأغاني ' . وأنشد بعده : ( الطويل ) ( يقول وقد تر الوظيف
وساقها ** ألست ترى أن قد أتيت بمؤيد ) تقدم شرحه في الشاهد الرابع والثمانين بعد المائة
. وأنشد بعده ، وهو الشاهد السادس بعد المائتين ، وهو من شواهد سيبويه : ( الطويل
) 206 - ( أفي السلم أعياراً جفاء وغلطة ** وفي الحرب أشباه النساء العوارك ) على
أن ' أعياراً ' و ' أشباه النساء ' منصوربان على الحال عند السيرافي ومن تبعه ،
وعلى المصدر عند سيبويه . قال السهيلي في ' الروض الأنف ' : هذا البيت لهند بنت
عتبة ، قالته لفل قريش حين رجعوا من بدر . يقال : عركت المرأة : إذا حاضت . ونصب '
أعياراً ' على الحال ؛ والعامل فيه مختزل ، لأنه أقام الأعيار مقام اسم مشتق ؛
فكأنه قال : في السلم بلداء جفاة مثل الأعيار . ونصب ' جفاء ' و ' غلظة ' نصب
المصدر
____________________
الموضوع
موضع الحال ، كما تقول : زيد الأسد شدة ، أي : يماثله مماثلة شديدة ؛ فالشدة صفة
للمماثلة ، كما ، المشافهة صفة للمكالمة إذا قلت : كلمته مشافهة فهذه حال من
المصدر في الحقيقة . وتعلق حرف الجر من قولها ' أفي السلم ' ، بما أدته الأعيار من
معنى الفعل ، فكأنها قالت : أفي السلم تتبدلون . وهذا الفعل المختزل الناصب
للأعيار ، ولا يجوز إظهاره ا . هـ . وزعم العيني أن قوله : طجفاء ' ، منصوب على
التعليل ، أي : لأجل الجفاء والغلظة . ولا يخفى سقوطه . والهمزة للاستفهام الوبيخي
. و ' السلم ' بكسر السين وفتحها : الصلح ، يذكر ويؤنث . و ' الأعيار ' : جمع عير
بالفتح : الحمار أهلياً كان أم وحشياً ؛ وهو مثل في البلادة والجهل . و ' الجفاء '
قال في ' المصباح ' : وجفا الثوب يجفو : إذا غلظ ، فهو جاف ، ومنه جفاء البدو ،
وهو غلظتهم وفظاظتهم . و ' الغلظة ' بالكسر : الشدة وضد اللين والسلاسة . وروي '
أمثال ' بدل قول أشباه . و ' العوارك ' : جمع عارك ، وهي الحائض ، من عركت المرأة
تعرك ، كنصر ينصر ، عروكاً ، أي : حاضت . وبختهم قالت لهم : أتجفون الناس وتغلظون
عليهم في السلم ، فإذا أقبلت الحرب لنتم وضعفتم ، كالنساء الحيض ؟ ! حرضت المشركين
بهذا البيت على المسلمين . و ' الفل ' بفتح الفاء : القوم المنهزمون . و ' هند بنت
عتبة ' بن ربيعة بن عبد شمس بن عبد مناف ، القرشية العبشمية ، والدة معاوية بن أبي
سفيان ، أخبارها قبل الإسلام مشهورة . وشهدت أحداً وفعلت ما فعلت بحمزة ؛ ثم كانت
تؤلب وتحرض على المسلمين ، إلى أن جاء الله بالفتح ، فأسلم زوجها ، ثم أسلمت هي
يوم الفتح . كذا في ' الإصابة ' لابن حجر . وأنشد بعده ، وهو الشاهد السابع بعد
المائتين ، وهو من شواهد س : ( البسيط )
____________________
207
- ( أنا ابن دار مشهوراً بها نسبي ** وهل بدارة يا للناس من عار ) على أن قوله '
مشهوراً ' حال مؤكدة لمضمون الخبر . ومضمونه هنا الفخر وروي : ' أنا ابن دارة
معروفاً بها نسبي . وقوله : ' نسبي ' ، نائب الفاعل لقوله مشهوراً . والباء من '
بها ' متعلقة به لا نائب الفاعل ، كما وهم العيني . وهذه الحال سببية . و ' هل '
للاستفهام الإنكاري . و ' من ' زائدة ، و ' عار ' مبتدأ منع من رفعه حركة حرف الجر
الزائد . و ' بدارة ' خبره . و ' يا للناس ' اعتراض بين المبتدأ والخبر . و ' يا '
للنداء لا للتنبيه ؛ و ' للناس ' منادى ، لا أن المنادى محذوف تقديره : قومي .
واللام للاستغاثة ، وهي تدخل على المنادى إذا استغيث نحو : يا لله ، لا أنها
للتعجب المجرد خلافاً للعيني في الثلاثة . و ' دارة ' اسم أم الشاعر ، وهو سالم بن
دارة ، قال ابن قتيبة : وهي من بني أسد ، وسميت بذلك لأنها شبهت بدارة القمر ، من
جمالها . وقال الحلواني في كتاب ' أسماء الشعراء ' المنسوبين إلى أمهاتهم : ' دارة
لقب أمه ، واسمها سيفاء ، كانت أخيذة أصابها زيد الخيل من بعض غطفان من بني أسد ،
وهي حبلى ، فوهبها زيد الخيل لزهير بن أبي سلمى . فربما نسب سالم بن دارة إلى زيد
الخيل ' ا . هـ .
____________________
قال
أبو رياش في ' شرح الحماسة ' ، والأصبهاني في ' الأغاني ' : دارة لقب جده ، واسمه
: يربوع . وعلة هذا قد روي : ( أنا ابن دارة معروفاً بها نسبي ** ) وروي أيضاً : '
معروفاً له نسبي ' وهذا البيت من قصيدة طويلة لسالم بن دارة ، هجا بها زميل بن
أبير أحد بني عبد الله بن [ عبد ] مناف الفزاري منها : ( البسيط ) ( بلغ فزارة إني
لن أسالمها ** حتى ينيك زميل أم دينار ) ( لا تأمن فزارياً خلوت به ** بعد الذي
امتل أير العير في النار ) ( وإن خلوت به في الأرض وحدكما ** فاحفظ قلوصك واكتبها بأسيار
) ( إني أخاف عليها أن يبيتها ** عاري الجواعر يغشاها بقسبار ) ( أنا ابن دارة
معروفاً له نسبي ** وهل بدارة يا للناس من عار ) ( جرثومة نبتت في العز واعتدلت **
تبغي الجراثيم من عرف وإنكار ) ( من جذم قيس وأخوالي بنو أسد ** من أكرم الناس
زندي فيهم واري ) وأم دينار هي أم زميل . وقوله : ' بعد الذي امتل أير العير الخ '
، ' العير ' ،
____________________
بالفتح
: الحمار . و ' اكتل أير العير ' ، أي : شوى أير الحمار في الملة ، وهي الرماد
الحار . وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار مشوياً . وسيأتي إن شاء الله تعالى شرح
هذا مستوفى في باب المثنى . و ' القلوص ' : الناقة الشابة . و ' اكتبها ' : من كتب
الناقة يكتبها بضم التاء وكسرها : ختم حياءها أو خزمها بسير أو حلقة حديد لئلا
ينزى عليها . و ' الأسيار ' : جمع سير من الجلد . و ' عاري الجواعر ' ، أي : بارز
الاست والفقحة . و ' القسبار ' ، بضم القاف : الذكر الطويل العظيم . وجرثومة الشيء
، بالضم : أصله . و ' تبغي ' : من البغي ، يقال : بغى عليه بغياً : إذا علا عليه
واستطال ؛ فأوصله تبغي على الجراثيم . و ' العرف ' ، بالضم : المعروف . و ' الجذم
' ، بالكسر والفتح : الأصل . وورى الزند : كرمى : خرج ناره ؛ ويقال : ' ورت بك
زندي ' يقال : هذا في التمدح والافتخار . وتقدم سبب هجوه لبني فزارة وسبب هذه
القصيدة ، مع ترجمته ، في الشاهد الخامس بعد المائة .
____________________
باب
التمييز أنشد فيه ، وهو الشاهد التاسع بعد المائتين : ( المتقارب ) 209 - وستوك قد
كربت تكمل على أن العدد الذي في آخره النون يضاف إلى صاحبه أكثر من إضافته إلى
المميز ، أي : قرب أن يكمل ستون سنة من عمرك . وهذا المصراع من قصيدة للكميت بن
زيد ، مدح بها عبد الرحمن بن عنبسة بن سعد بن العاص بن أمية . وأولها : ( أ أبكاك
بالعرف المنزل ** وما أنت والطلل المحمول ) ( وما أنت ويك ورسم الديار ** وستوك قد
كربت تكمل ) قال الأصبهاني في ' الأغاني ' : ' كان بين بني أسد وبين طيئ حرب ،
فاصطلحوا وبقي لطيئ دم رجلين ، فاحتمل ذلك رجل من بني أسد ، فمات قبل أن يوفيه .
فاحتمله الكميت ، فأعانه فيه عبد الرحمن بن عنبسة ، فمدحه الكميت بهذه القصيدة ؛
وأعانه الحكم بن الصلت الثقفي ، فمدحه بقصيدته التي أولها : ( المتقارب ) ( [ رأيت
الغواني وحشاً نفوراً ** )
____________________
وأعانه
زياد بن المغفل الأسدي فمدحه بقصيدته التي أولها : ] ( البسيط ) ( هل للشباب الذي
قد فات من طلب ** ) ثم أجلس الكميت ، وقد خرج العطاء ، فأقبل الرجل يعطي الكميت
المائتين والثلثمائة وأكثر وأقل ؛ وكانت دية الأعرابي ألف بعير ، ودية الحضري عشرة
آلاف درهم ؛ وكانت قيمة الجمل عشرة دراهم ، فأدى الكميت عشرين ألفاً عن قيمة ألفي
بعير ' ا . هـ . فقوله : ' أأبكاك ' ، يخاطب نفسه ويقرره مستفهماً . و ' العرف ' ،
بضم العين والراء المهملتين : موضع . و ' المنزل ' : فاعل بكاك ؛ قال الزمخشري في
كتاب ' الأمكنة والمياه . عرفة الأملح ، وعرفة رقد ، وعرفة أعيار : مواضع تسمى
العرف . وأنشد بيت الكميت . وفي ' المحكم ' لابن سيده : العرف بضمتين موضع ، وقيل
جبل . وأنشد البيت أيضاً . وكذا ضبطه أبو عبيد البكري في ' معجم ما استعجم ' ،
وقال : هو ماء لبني أسد . وأنشد البيت ، قال : ويخفف بسكون الراء ، قال عباس بن
مرداس : ( الطويل ) ( خفافية بطن العقيق مصيفها ** وتحتل في البادين وجرة والعرفا
) فدل قول عباس أن ' العرف ' بوادي بني خفاف ا . هـ . وقوله : ' وما أنت الخ ' ،
استفهام توبيخي ينكر بكاءه ، وهو شيخ ، على الأطلال . و ' الطلل ' : الشاخص من
آثار الدار ، وشخص كل شيء . و ' المحول ' : اسم فاعل من أحول الشيء : إذا مر عليه
حول ، وهي السنة . و ' ويك ' : كلمة تفجع ، وأصله ويلك . و ' ستوك ' مبتدأ ، وما
بعده خبره ، والجملة حالية . و ' كرب ' بفتح الراء كروباً : دنا . وكرب من أخوات
كاد تعمل
____________________
عملها
، واسمها ضمير الستين . وجملة ' تكمل ' في موضع نصب خبرها . وترجمة الكميت بن زيد
تقدمت في الشاهد السادس عشر . وأنشد بعده ، وهو الشاهد العاشر بعد المائتين : (
الطويل ) 210 - ( فيا لك من ليل كأن نجومه ** بكل مغار الفتل شدت بيذبل ) على أن
قوله ' من ليل ' تمييز عن المفرد الذي هو الضمير المبهم في قوله ' يا لك ' . وفيه
أن الضمير غير مبهم ، لتقدم مرجعه في البيت قبله ، وهو قوله : ' ألا أيها الليل
الطويل ' كما يأتي ، فالتمييز فيه عن النسبة لا عن المفرد ، و ' من ' لبيان الجنس
. وقال المرادي في ' شرح الألفية ' : ' من ' زائدة في الكلام الموجب ، ولهذا يعطف
على موضع مجرورها بالنصب ، كقوله الحطيئة : ( البسيط ) ( يا حسنه من قوام ما
ومنتقبا ** ) وصحح هذا أبو حيان في ' الارتشاف ' . و ' يا ' : حرف نداء ؛ واللام
للتعجب تدخل على المنادى إذا تعجب منه . ولأجل هذا أورد ابن هشام هذا البيت
____________________
في
' المغني ' ؛ قال في ' شرح بانت سعاد ' : الأصل يا أياك أو يا أنت ، ثم لما دخلت [
عليه ] لام الجر [ للتعجب ] انقلب الضمير المنفصل ، المنصوب أو المرفوع ، ضميراً
متصلاً مخفوضاً . وأورده المرادي في ' شرح الألفية ' على أن اللام فيه للاستغاثة ،
استغاث به منه لطوله ، كأنه قال : يا ليلما أطولك ! قال ابن هشان : وإذا قيل يا
لزيد بفتح اللام فهو مستغاث ، فإن كسرت فهو مستغاث لأجله ، والمستغاث محذوف ، فإن
قيل يا لك احتمل الوجهين . والباء في قوله : ' بكل ' متعلقة بشدت . و ' المغار '
بضم الميم : اسم مفعول بمعنى المحكم ، من أغرت الحبل إغارة : إذا أحكمت فتله . و '
يذبل ' : اسم جبل ، لا ينصرف للعلمية ووزن الفعل ، وصرفه للضرورة . يقول : إن نجوم
الليل لا تفارق محالها ، فكأنها مربوطة بكل حبل محكم الفتل في هذا الجبل . وإنما
استطال الليل لمقاساة الأحزان فيه . وهذا البيت من معلقة امرئ القيس المشهور .
وفيها خمسة أبيات في وصف الليل ، وهي : ( وليل كموج البحر أرخى سدوله ** علي
بأنواع الهموم ليبتلي ) ( فقلت له لما تمطى بصلبه ** وأردف أعجازاً وناء بكلكل ) (
ألا أيها الليل الطويل ألا انجلي ** بصبح وما الإصباح منك بأمثل ) ( فيا لك من ليل
كأن نجومه ** . . . . . . . . . . . . . . البيت )
____________________
(
كأن الثريا علقت في مصامها ** بأمراس كتان إلى صم جندل ) فقوله : ' وليل ' ، الواو
واو رب . و ' السدول ' : التسور ، جمع سدل ؛ وسدل ثوبه : إذا أرخاه . يقول : رب
ليل يحاكي أمواج البحر في توحشه وهوله ، وقد أرخى علي ستور ظلامه مع أنواع الحزن
ليختبرني : أأصبر أم أجزع ! وهذا ، بعد أن تغزل ، تمدح بالصبر والجلد . وقوله : '
فقلت له لما تمطى الخ ' ، ' تمطى ' : امتد . و ' ناء ' : نهض . و ' الكلكل ' :
الصدر . و ' الإعجاز ' : الأواخر ، جمع عجز ، ؛ وهو من استعمال الجمع موضع الواحد
. وقد استشهد ابن مالك بهذا البيت على أن الواو لا تدل على الترتيب ، لأن البعير
ينهض بكلكله ، والأصل : فقلت له لما بكلكله وتمطى بصلبه وأردف أعجازه . وقوله '
ألا أيها الليل الطويل الخ ' ، ' أنجلي ' : أمر بمعنى انكشف ؛ والياء إشباع . و '
الإصباح ' : الصباح . و ' الأمثل ' : الأفضل . وأورد هذا البيت في ' تلخيص المفتاح
' على أن صيغة الأمر فيه للتمني . ومعناه تمنى زوال ظلام الليل بضياء الصبح ؛ ثم
قال : وليس الصباح بأفضل منك عندي ، لاستوائهما في مقاساة الهموم ، أو لأن نهاره
يظلم في عينه لتوارد الهموم . فليس الغرض طلب الانجلاء من الليل لأنه لا يقدر عليه
، لكنه يتمناه تخلصاً مما يعرض له في ، ولاستطالة تلك الليلة كأنه لا يرتقب
انجلاءها ولا يتوقعه . فلهذا حمل على التمني دون الترجي . قال الإمام الباقلاني ،
في ' إعجاز القرآن ' : ' ومما يعدونه من محاسن هذه القصيدة هذه الأبيات الثلاثة ،
وكان بعضهم يعارضها بقول النابغة : ( الطويل ) ( كليني لهم يا أميمة ناصب ** وليل
أقاسيه بطيء الكواكب )
____________________
(
وصدر أراح الليل عازب همه ** تضاعف فيه الحزن من كل جانب ) ( تقاعس حتى قلت ليس
بمنقض ** وليس الذي يتلو النجوم بآيب ) وقد جرى ذلك بين يدي بعض الخلفاء ، فقدمت
أبيات امرئ القيس واستحسن استعارتها ، وقد جعل لليل صدراً يثقل تنحيه ، ويبطئ
تقضيه ؛ وجعل له أردافاً كثيرة . وجعل له صلباً يمتد ويتطاول . وأورا هذا بخلاف ما
يستعيره أبو تمام من الاستعارات الوحشية البعيدة المستنكرة . ورأوا أن الألفاظ جميلة
. واعلم أن هذا صالح جميل ، وليس من الباب الذي يقال إنه متناه عجيب . وفيه إلمام
بالتكلف ، ودخول في التعمل ' انتهى . وقوله : ' كأن الثريا علقت الخ ' ، ' المصام
' بفتح الميم : موضع الوقوف . و ' الأمراس ' : الحبال ، جمع مرس محركة . و '
الجندل ' : الحجارة . يقول : كأن الثريا مشدودة بحبال إلى حجارة ، فليست تمضي .
قال العسكري في ' التصحيف ' : ومما خالف فيه ابن الأعرابي الأصمعي في المعنى لا في
اللفظ ، قوله : ( كأن الثريا علقت . . . . ** . . . . . . . . . . . . . البيت )
فالهاء في ' مصابها ' عند الأصمعي ترجع إلى الثريا . ومعنى ' مصامها ' : موضعها
ومقامها . وهو يصف الليل وأن نجومه لا تسير ، من طوله ، فكأن لها أواخي في الأرض
تحبسها . وهذا مذهب الأصمعي . ورأيت هذا البيت في نوادر ابن الأعرابي وفسره بتفسير
عجيب ، فقال ورواه : ( كأن نجوماً علقت في مصامه ** ) ثم فسر وقال : شبه ما بين
الحوافر وجثمانه ، بالأمراس ، وصم جندل ، يعني
____________________
جثمانه
. فأخذ هذا البيت وصيره الفرس ، وحمله على أنه بعد :
الشاهد الحادي عشر بعد المائتين ( ويلمّها روحة والرّيح معصفة ** والغيث مرتجز
والليل مقترب ) لما تقدم قبله أعني كون التمييز يكون عن المفرد إذا كان الضمير
مبهماً لا يعرف المقصود منه فإن الضمير في ويلمّها لم يتقدم له مرجع فهو مبهم
ففسره بقوله : روحة : فهو تمييز عن المفرد أي : ويلمّ هذه الروحة في حال عصف الريح
. فجملة والريح معصفة حال . ومعصفة : شديدة يقال : أعصفت الريح وعصفت لغتان والغيث
هنا : الغيم . ومرتجز : مصوّت يريد صوت الرعد والمطر . ومقترب : قد قرب .
وهذا البيت من قصيدة طويلة جداً لذي الرمة . وهذا البيت من أواخرها . شبّه بعيره
بالنعام في شدّة العدو ثم وصف النعام بما يقتضي شدة إسراعه فقال : ( حتى إذا الهيق
أمسى شام أفرخه ** وهنّ لا مؤيس نأياً ولا كثب ) ( يرقدّ في ظلّ عرّاص ويطرده **
حفيف نافجة عنوانها حصب ) ( تبري له صعلة خرجاء خاضعة ** فالخرق دون بنات البيض
منتهب )
____________________
(
كأنها دلو بئر جدّ ماتحها ** حتى إذا ما رآها خانها الكرب ) ويلمّها روحة ( لا
يذخران من الإيغال باقية ** حتى تكاد تفرّى عنهما الأهب ) الهيق بالفتح : ذكر
النعام . وشام : نظر إلى ناحية فراخه . وأفرخ : جمع فرخ . وهنّ أي : الأفرخ .
والنأي : البعد . والكثب بفتح الكاف والمثلثة القرب . يقول : موضعهن ليس منه
بالبعيد الذي يؤيسه من أن يطلبهن أي : يحمله على اليأس ولا بالقريب فيفتر . وقوله
: يرقد أي : يعدو الهيق عدواً شديداً . والعرّاص بمهملات : غيم كثير البرق .
والحفيف بإهمال الأول : صوت الريح .
والنافجة : الريح الشديدة الباردة . وعنوانها : أوائلها . وحصب بفتح فكسر : فيه
تراب وحصباء وهذا مما يوجب الإسراع إلى المأوى .
وقوله : تبري له صعلة الخ تبري : تعرض لهذا الهيق . صعلة : نعامة دقيقة العنق
وصغيرة الرأس .
خرجاء : مؤنث الأخرج وهو ما فيه سواد وبياض . خاضعة : فيها طمأنينة . والخرق
بالفتح : الأرض البعيدة تنخرق فيها الرياح . وبنات البيض : الفراخ لأنها تخرج من
البيضة . يقول : الهيق والصعلة يعدوان عدواً شديداً كأنهما ينتهبان الأرض انتهاباً
كأنهما يأكلانها من شدة العدو )
فهما يركضان إلى فراخهما خائفين البرد والمطر وغيرهما .
وقوله : كأنها دلو الخ أي : كأن هذه الصعلة دلو انقطع حبلها بعد أن وصلت إلى فم
البئر فمضت تهوي شبّهها بهذه الدلو التي هوت إلى أسفل . وجدّ : اجتهد . والماتح
بالمثناة الفوقية : المستقي من البئر بالدلو . والكرب : العقد الذي على عراقيّ
الدلو و العراقيّ : العودان اللذان في وسط الدلو . والمراد بخانها الكرب انقطع .
وقوله : ويلمّها روحة الخ أي : ويل أم هذه الروحة . وإنما لم يجز أن يعود الضمير
على صعلة كما عاد عليها ضمير كأنها في البيت المتقدم لأنه قد فسّر
____________________
بروحة
والتفسير يجب أن يكون عين المفسّر والروحة غير الصعلة فلا يفسّرها . ولو قال :
ويلمّها رائحة لكان مرجع الضمير معلوماً : من صعلة وكان من تمييز النسبة لا المفرد
. والروحة : مصدر راح يروح رواحاً وروحة : نقيض غدا يغدو غدوّاً . والرواح أيضاً :
اسم للوقت من زوال الشمس إلى الليل .
وقوله : لا يذخران أي : لا يبقيانن يعني الهيق والصعلة . و الإيغال : الجدّ في
العدو . والباقية : البقية . وتفرّى : تشقق . والأهب بضمتين : جمع إهاب أراد
جلودهما . وهذا غاية في شدة العدو .
واعلم أنّ قولهم : ويلمّه وويلمّها قال ابن الشجريّ : يروى بكسر اللام وضمّها
والأصل ويل لأمّه فحذف التنوين فالتقى مثلان : لام ويل ولام الخفض فأسكنت الأولى
وأدغمت في الثانية فصار ويلّ أمّ مشدداً واللام مكسورة فخفّف بعد حذف الهمزة بحذف
إحدى اللامين . فأبوا عليّ ومن أخذ أخذه نصّوا على أن المحذوف اللام المدغمة
فأقرّوا لام الخفض على كسرتها وآخرون نصّوا على أن المحذوفة لام الخفض وحرّكوا
اللام الباقية بالضمة التي كانت لها في الأصل . انتهى .
قال أبو عليّ في الإيضاح الشعري : حذف الهمزة من أمّ في هذا الموضع لازم على غير
قياس كقوله : يابا المغيرة والدنيا مفجّعة ثم سئل لم لا يجوز أن يكون الأصل وي
لامّه فتكون اللام جارّة ووي التعجّب فأجاب بأن الذي يدلّ على أن الأصل ويل لأمه
والهمزة من أمّ محذوفة قول الشاعر :
____________________
(
لأم الأرض ويل ما أجنت ** غداة أضرّ بالحسن السبيل ) )
وقال ابن السيد في شرح شواهد أدب الكاتب : ويلمه بكسر اللام وضمّها : فالضم أجاز
فيه ابن جني وجهين : أحدهما : أنه حذف الهمزة واللام وألقى ضمّة الهمزة على لام الجرّ
كما روي عنهم الحمد لله بضم لام الجر . و ثانيهما : أن يكون حذف الهمزة ولام الجر
وتكون اللام المسموعة هي لام ويل . وأما كسر اللام ففيها ثلاثة أوجه : أحدهما أن
يكون أراد ويل أمه بنصب ويل وإضافته إلى الأم ثم حذف الهمزة لكثرة الاستعمال وكسر
لام ويل إتباعاً لكسرة الميم .
والثاني : أم يكون أراد ويل لأمه برفع ويل على الابتداء ولأمه خبره وحذف لام ويل
وهمزة أم كما قالوا أيش لك يريدون أي شيء . فاللام المسموعة على هذا لام الجر .
والثالث : أن يكون الأصل ويل لأمه فيكون على هذا قد حذف همزة أم لا غير وهذا عندي
أحسن هذه الأوجه لأنه أقل للحذف والتغيير . وأجاز ابن جنًي أن تكون اللام المسموعة
هي لام ويل على أن يكون حذف همزة أم ولام الجر وكسر لام ويل إتباعاً لكسرة الميم .
وهذا بعيد جداً . هذا إعلالها . وأما معناها فهو مدح خرج بلفظ الذم : والعرب
تستعمل لفظ الذم في المدح يقال : أخزاه الله ما أشعره ولعنه الله ما أجرأه وكذلك
يستعملون لفظ المدح في الذم يقال للأحمق : يا عاقل وللجاهل : يا عالم : ومعنى هذا
يا أيها العاقل عند نفسه أو عند من يظنه عاقلاً . وأما قولهم : أخزاه الله ما
أشعره ونحو ذلك من المدح الذي يخرجونه بلفظ الذم فلهم في ذلك غرضان : أحدهما : أن
الإنسان إذا رأى الشيء فأثنى عليه ونطق باستحسانه فربما أصابه بالعين وأضر به
فيعدلون عن مدحه إلى ذمه لئلا يؤذوه .
____________________
والثاني : أنهم يريدون أنه قد بلغ غاية الفضل وحصل في حد من يذم ويسب لأن الفاضل
يكثر حساده والمعادون له والناقص لا يلتفت إليه : ولذلك كانوا يرفعون أنفسهم عن
مهاجاة الخسيس ومجاوبة السفيه .
وفي القاموس : رجل ويلمه بكسر اللام وضمها داه : ويقال للمستجاد : ويلمه أي : ويل
لمه وهذا استعمال ثان جعل المركب في حكم الكلمة الواحدة : وليست الهاء في آخره
ضميراً بل )
هي هاء تأنيث للمبالغة فلا تعريف : ولهذا يقع وصفاً للنكرة قال أبو زيد في كتاب
مسائية .
يقال هو رجل ويلمّه .
وروى ابن جنّي في سر الصناعة عن أبي علي عن الأصمعي أنه يقال : رجل ويلمّة . قال :
وهو من قولهم : ويلمّ سعد سعدا والاشتقاق من الأصوات باب يطول استقصاؤه وعلى هذا
يجوز دخول لام التعريف عليه قال الرياشي : الويلمة من الرجال : الداهية الشديد
الذي لا يطاق . ولا يلتفت إلى قول أبي الحسن الأخفش فيما كتبه على كتاب مسائية :
من كلام العرب السائر أن يقولوا للرجل الداهية : إنه لو يلمه صمحمحا والصمحمح :
الشديد هذا هو المعروف والذي حكاه أبو زيد غير ممتنع جعله اسماً واحداً .
____________________
فأعربه
. فاما حكاية الرياشي : في إدخال الألف واللام على اسم مضاف فلا أعلم له وجهاً .
انتهى .
أقول : الذي رواه عن العرب من قولهم : إنه لو يلمه صمحمحا غير الذي قاله أبو زيد كما
بيناه : فإنه جعل الكلمتان في حكم كلمة واحدة فلا إضافة فيه والهاء للمبالغة
والكلمة حينئذ نكرة وترجمة ذي الرمة تقدمت في الشاهد الثامن في أوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثاني عشر بعد المائتين ( ويلم أيام الشباب معيشة ** مع الكثر يعطاه الفتى
المتلف الندي ) على أن قوله : معيشة تمييز عن النسبة الحاصلة بالإضافة كما بينه
الشارح المحقق .
وقوله : ويلم أيام الخ دعاء في معنى التعجب أي : ما ألذ الشباب مع الغنى . وقد
بينا قبل هذا البيت أصلها ومعناها . قال الطبرسي في شرح الحماسة : ويل إذا أضيفت
بغير لام فالوجه فيه النصب تقول : ويل زيد أي : ألزم الله زيداً ويلاً . فإذا
أضيفت باللام فقيل : ويل لزيد فالوجه أن ترفع على الابتداء . وجاز ذلك مع أنه نكرة
لأن معنى الدعاء منه مفهوم والمعنى : الويل ثابت لزيد . فالأصل في البيت : ويل لأم
لذات الشباب . قصد الشاعر إلى مدح الشباب وحمد لذاته بين لذات المعاش . وقد طاع
لصاحبه الكثر وهو كثرة المال فاجتمع الغنى
____________________
والشباب
له وهو سخي . انتهى .
وهذات البيت أول أبيات أربعة لعلقمة بن عبدة . وهي ثابتة في ديوانه . وقد اقتصر
أبو تمام في الحماسة على البيت الأول والثاني وهو : ونسبهما لبعض بني أسد .
ونسبهما في مختار أشعار القبائل لابنه وهو خالد بن علقمة بن عبدة . ونسبهما بعضهم
لابن ابنه وهو عبد الرحمن بن علي بن علقمة بن عبدة . ونسبهما الأعلم الشنتمري في
حماسته لحميد بن سجار الضبي . وكذا هو في حاشية الصحاح منسوب لحميد .
والكثر بضم الكاف ومثله القل : المال الكثير والمال القليل يقال : ماله قل ولا كثر
. قال أبو عبيد : سمعت أبا زيد يقول : الكثر والكثير واحد . قال في الصحاح : هما
بالضم والكسر .
وقوله : مع الكثر في موضع النصب صفة لمعيشة . وجملة يعطاه الخ بالبناء للمفعول :
حال من الكثر والهاء ضمير الكثر وهو المفعول الثاني للعطاء . والفتى نائب الفاعل
وهو مفعوله الأول .
والمتلف بالرفع : صفة للفتى وكذلك الندي . وروي : يعطاها بضمير المؤنث على أنه
عائد على المعيشة مع قيدها . والفتى قال في الصحاح : هو السخي الكريم يقال : هو
فتى بين الفتوة وقد تفتى وتفاتى والجمع فتيان وفتية وفتو على فعول وفتي مثل عصي .
والمتلف : المفرق لماله يقال : رجل متلف لماله ومتلاف بالمبالغة . والندي : السخي
قال في الصحاح : وندوت من الجود يقال : سن وللناس الندى فندوا بفتح الدال ويقال :
فلان ندي الكف : إذا كان سخياً . وقد روي في ديوانه البيت هكذا : )
____________________
ويل بلذات الشباب معيشة فويلم لذات الشباب معيشة وقوله : وقد يعقل القل من عقله من
باب ضرب إذا منعه . والقل بالضم فاعل والفتى مفعول . وروي : وقد يقصر القل من قصره
: إذا حبسه أو من قصرت قيد البعير : إذا ضيقته من باب دخل يدخل . وروي أيضاً : وقد
يقعد القل من أقعده : إذا منعه من القيام لحاجته .
والهم بالفتح : أول العزيمة قال ابن فارس : الهم : ما هممت به وهممت بالشيء هماً
من باب قتل : إذا أردته ولم تفعله ومثله الهمة بالكسر وبالتاء . وقد يطلق على
العزم القوي كذا في المصباح . ودون بمعنى قبل . وأنجد : جمع نجد وهو ما ارتفع من
الأرض .
قال في الصحاح : ومنه قولهم فلان طلاع أنجد وطلاع الثنايا : إذا كان سامياً لمعالي
الأمور .
ومعنى هذا البيت قد تداوله الشعراء وتصرفوا فيه منهم مسلم بن الوليد فقال : ( عرف
الحقوق وقصرت أمواله ** عنها وضاق بها الغني الباخل ) ومنه قول آخر : ( أرى نفسي
تتوق إلى أمور ** يقصر دون مبلغهن مالي ) ( فلا نفسي تطاوعني ببخل ** ولا مالي
يبلغني فعالي ) ومنه قول الآخر :
____________________
(
إذا أردت مساماة تقاعد بي ** عما أحاول منها رقة الحال ) وقريب منه قول الآخر : (
الناس اثنان في زمانك ذا ** لو تبتغي غير ذين لم تجد ) ( هذا بخيل وعنده سعة **
وذا جواد بغير ذات يد ) وأما البيتان الأخيران من الأبيات الأربعة فهما : ( وقد
أقطع الخرق المخوف به الردى ** بعنس كجفن الفارسي المسرد ) ( كأن ذراعيها على الخل
بعد ما ** ونين ذراعا مائح متجرد ) والخرق بالفتح : الأرض الواسعة التي تنخرق فيها
الرياح . والردى : نائب فاعل المخوف .
والعنس بفتح العين وسكون النون : الناقة القوية الشديدة . والخل : مصدر خل لحمه
خلاً وخلولاً أي : قل ونحف كذا في العباب . )
وقوله : ونين فعل ماض من الونى بالقصر وهو الضعف والفتور والكلال والإعياء . و
المائح : الذي ينزل البئر فيملأ الدلو وذلك إذا قل ماؤها وفعله ماح يميح . وأما
الماتح بالمثناة الفوقية فهو مستقي الدلو . و المتجرد : المشمّر ثيابه . و علقمة
شاعر جاهلي ونسبته كما في الجمهرة لابن الكلبي و المؤتلف والمختلف للآمدي علقمة بن
عبدة بن ناشرة بن قيس بن عبيد بن ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن تميم انتهى .
وعبدة بفتح العين والباء وأما عبدة بن الطبيب فهو بسكون الباء . كذا في الصحاح .
والعبدة محركة بمعنى القوة والسّمن والبقاء وصلاءة الطيب والأنفة .
قال صاحب المؤتلف والمختلف : علقمة في الشعراء جماعة ليسوا ممن أعتمد
____________________
ذكره
ولكن أذكر علقمة الفحل وعلقمة الخصي وهما من ربيعة الجوع فأما علقمة الفحل فهو
علقمة بن عبدة . . . إلى آخر نسبه المذكور . ثم قال : وقيل له علقمة الفحل من أجل
رجل آخر يقال له علقمة الخصي .
وأما علقمة الخصي فهو علقمة بن سهل أحد بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة ابن تميم
ذكر أبو يقظان أنه كان يكنى أبا الوضاح . قال : وكان له إسلام وقدر . ومان سبب
خصائه أنه أسر باليمن فهرب فظفر به فهرب ثانية فأخذ وخصي . وكان شاعراً وهو القائل
: ( يقول رجال من صديق وصاحب ** أراك أبا الوضاح أصبحت ثاويا ) ( فلا يعدم البانون
بيتاً يكنهم ** ولا يعدم الميراث مني المواليا ) ( وخفّت عيون الباكيات وأقبلوا **
إلى مالهم قد بنت عنه بماليا ) وقال غيره : إنما لقب بالفحل لأنه خلف على امرأة
امرىء القيس لما حكمت له بأنه أشعر منه .
وذلك ما حكاه الأصمعي : أن امرأة القيس لما هرب من المنذر بن ماء السماء وجاور في
طيء تزوج امرأة منهم يقال لها أم جندب . ثم إن علقمة بن عبدة نزل عنده ضيفاً
وتذاكر الشعر فقال امرؤ القيس : أنا أشعر منك وقال علقمة : أنا أشعر منك واحتكما
إلى امرأته أم جندب لتحكم بينهما فقالت : قولا شعراً تصفان فيه الخيل على روي واحد
. فقال امرؤ القيس : ( خليليّ مرّا بي على أمّ جندب ** لنقضي حاجات الفؤاد المعذب
) )
وقال علقمة : ( ذهبت من الهجران في كل مذهب ** ولم يك حقاً كل هذا التجنب ) ثم
أنشداها جميعاً . فقالت لامرىء القيس : علقمة أشعر منك قال : وكيف ذلك قالت : لأنك
قلت :
____________________
(
فللسوط ألهوب وللساق درّة ** وللزجر منه وقع أهوج منعب ) فجهدت فرسك بسوطك ومريته
بساقك وقال علقمة : ( فأدركهن ثانياً من عنانه ** يمرّ كمرّ الرّائح المتحلّب )
فأدرك طريدته وهو ثان من عنان فرسه لم يضربه بسوط ولا مراه بساق ولا زجره قال : ما
هو بأشعر مني ولكنك له وامق فطلّقها فخلف عليها علقمة فسمّي بذلك الفحل .
وقد أورد ابن حجر في الإصابة ابنه في المخضرمين فيمن أدرك النبي صلى الله عليه
وسلم ولم يره قال : علي بن علقمة بن عبدة التميمي ولد علقمة : الشاعر المشهور الذي
يعرف بعلقمة الفحل وكان من شعراء الجاهلية من أقران امرئ القيس . ولعليّ هذا ولد
اسمه عبد الرحمن ذكره المرزبانيّ في معجم الشعراء . فيلزم من ذلك أن يكون أبوه من
أهل هذا القسم لأن عبد الرحمن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم . انتهى .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثالث عشر بعد المائتين ( لله درّ أنوشروان من رجل ** ما كان أعرفه
بالدّون والسفل ) على أن قوله : من رجل تمييز عن النسبة الحاصلة بالإضافة . وقد
بينه الشارح المحقق رحمه الله تعالى .
وأنوشروان هو أشهر ملوك الفرس وأحسنهم سيرةً وأخباراً . وهو أنوشروان ابن قباد ابن
فيروز .
وفي أيامه ولد النبي صلى الله عليه وسلم . وكان ملكاً جليلاً محبّباً للرعايا فتح
الأمصار العظيمة في الشرق وأطاعته الملوك . وقتل
____________________
مزدك
الزنديق وأصحابه وكان يقول بإباحة الفروج والأموال فعظم في عيون الناس بقتله .
وبنى المباني المشهورة منها السور العظيم على جبل الفتح عند باب الأبواب ومنها
الإيوان العظيم الباقي الذكر وليس هو المبتدئ بنائه بل ابتدأ به سابور وأنوشروان
أتمّه وأتقنه حتى صار من عجائب الدنيا وانشق لولادة النبي صلى الله عليه وسلم .
وأخبار أنوشروان مشهورة فلا نطيل بها .
وقوله : ما كان أعرفه كان زائدة بين ما وفعل التعجب . والدون بمعنى الرديء وهو صفة
ومنه ثوب دون وقيل : مقلوب من الدنوّ والأدنى : الرديء . وفي القاموس : أن الدون
للشريف والخسيس ضدّ . والسفل بكسر السين وفتح الفاء : جملة سفلة بكسر الأول وسكون
الثاني والأصل فتح الأول وكسر الثاني نحو كلمة وكلمة . قال صاحب القاموس وسفلة
الناس بالكسر وكفرحة : أسافلهم وغوغاؤهم وسفلة البعير كفرحة : قوائمه اتنهى .
والأوّل مستعار من الثاني وأصل الأوّل كفرحة وقد يخفف بحذف حركة الأول ونقل الكسر
إليه كما يقال . في لبنة لبنة أو أن أسفله جمع سفيل كعيلة جمع علي كذا في الأساس .
والفعل سفل ككرم سفالة بالفتح أي : نذل نذالة . وأما السفلة بالتحريك فهو جمع سافل
. وقول مكانس : يجوز أن يقرأ بفتحتين وبفتحة فكسرة . قال في المصباح : سفل سفولاً
من باب قعد قعد وسفل من باب قرب لغة : صار أسفل من غيره فهو سافل . وسفل في خلقه
وعمله سفلاً من باب قتل وسفالاً والاسم السفل بالضم . وتسفّل . خلاف جاد ومنه قيل
للأرذال سفلة بفتح فكسر وفلان من السفلة . ويقال أصله سفلة البهيمة وهي قوائمها .
ويجوز التخفيف . .
والسفل خلاف العلو بالضم والكسر لغة وابن قتيبة يمنع الضم . والأسفل خلاف الأعلى .
)
وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع عشر بعد المائتين
____________________
والأكرمين
إذا ما ينسبون أبا هذا عجز وصدره : سيري أمام فإن الأكثرين حصىً على أنه كان
الظاهر أن يقول آباء بالجمع وإنما وحّد الأب لأنهم كانوا أبناء أب واحد .
وقوله : سيري فعل أمر للمؤنثة . وأمام بضم الهمزة : منادى مرخّم أي : يا أمامة .
وحصىً تمييز للأكثرين وكذلك أبا تمييز للأكرمين . ومعنى الحصى العدد وإنما أطلق
على العدد لأن العرب أميون لا يقرؤون ولا يعرفون الحساب غنما كانوا يعدون بالحصى
فأطلق الحصى على العدد واشتق منه الفعل فقيل أحصيت الشيء أي : عددته . وإذا : ظرف للأكرمين
. وينسبون بالبناء للمفعول .
والأكرمين معطوف على اسم إن وخبرها قوم في البيت الذي بعده وهو : ( قوم هم الأنف
والأذناب غيرهم ** ومن يسوّي بأنف الناقة الذنبا ) ( قوم إذا عقدوا عقداً لجارهم
** شدّوا العناج وشدّوا فوقه الكربا ) وهذه الأبيات من قصيدة للحطيئة يمدح بها
بغيض بن عامر بن لأي بن شمّاس بن لأي بن أنف الناقة واسمه جعفر بن قريع بالتصغير
بن عوف بن كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم . ويهجو الزبرقان واسمه حصين بالتصغير
بن بدر بن
____________________
امرئ
القيس بن خلف بن بهدلة بن عوف بن كعب المذكور نسبه . وإنما لقّب جعفر بهذا لأن
أباه نحر جزوراً فقسمها بين نسائه فقالت له أمه وهي الشّموس من بني وائل بن سعد
هذيم : انطلق إلى أبيك فانظر هل بقي شيء من الجزور عنده فأتاه فلم يجد إلا رأسها
فأخذ بأنفها يجرّه فقالوا : ما هذا قال : أنف الناقة .
فسمّي أنف الناقة .
وكان آل شمّاس في الجاهلية يعيّرون به ويغضبون منه . ولمّا مدحهم الحطيئة بهذا
وإنما مدح منهم بغيض بن عامر صار فخراً لهم . وأراد بأنف الناقة بغيضاً وأهل بيته
. وأراد بالذنب قال ابن رشيق في باب من رفعه الشعر ومن وضعه من العمدة : كان بنو
أنف الناقة يفرقون من هذا الاسم حتى إن الرجل منهم كان يسأل : ممن هو فيقول : من
بني قريع . فيتجاوز )
جعفراً أنف الناقة ويلغي ذكره فراراً من هذا اللقب . إلى أن قال الحطيئة هذا الشعر
فصاروا يتطاولون بهذا النسب ويمدذون به أصواتهم في جهارة .
وقوله : قوم إذا عقدوا عقداً الخ هذا البيت من شواهد أدب الكاتب عقد الحبل والعهد
يعقده عقداً . والعناج بكسر المهملة والنون والجيم : حبل يشدّ أسفل الدّلو العظيمة
إذا كانت ثقيلة ثم يشدّ إلى العراقي فيكون عوناً لها وللوذم فإذا انقطعت الأوذام
فانقلبت أمسكها العناج ولم يدعها تسقط في البئر يقال : عنجت الدلو أعنجها عنجاً من
باب نصر والعناج اسم ذلك الحبل يقال : قول لا عناج له : إذا أرسل على غير رويّة .
وإذا كانت الدلو خفيفة فعناجها خيط يشدّ في إحدى آذانها إلى العرقوة . والوذم :
السيور التي بين آذان الدلو وأطراف العراقيّ . والكرب بفتحتين : الحبل الذي يشدّ
في وسط العراقيّ ثم يثنى ويثلّث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير .
يقال : أكربت الدلو فهي مكربة .
والعراقيّ : العودان المصلّبان تشدّ إليهما الأوذام .
____________________
وأراد الحطيئة أنهم إذا عقدوا عقداً أحكموه ووثّقوه كإحكام الدلو إذا شدّ عليها
العناج ( طافت أمامة بالركبان آونة ** يا حسنه من قوام ما ومنتقبا ) واستشهد به
المراديّ في شرح الألفية على أنّ من في التمييز زائدة ولهذا صحّ عطف المنصوب على
مجرورها . أي : ياحسنه قواماً ومنتقباً . وآونة : جمع أوان كأزمنة جمع زمان وقوله
: يا حسنه لفظه لفظ النداء ومعناه التعجب فيا للتنبيه لا للنداء والضمير مبهم قد
فسّر بالتمييز . و القوام بالفتح ووهم من ضبطه بالكسر : القامة يقال : امرأة حسنة
القوام أي : القامة . وما : زائدة . والمنتقب بفتح القاف : موضع النقاب . وبعده
بأبيات : ( إنّ امرأً رهطه بالشام منزله ** برمل يبرين جاراً شدّ ما اغتربا )
وأورده ابن هشام في أواخر الباب الخامس من المغني على أن أصله : ومنزله برمل يبرين
فحذف حرف العطف وهو الواو وبابه الشعر . ثم قال : كذا قالوا ولك أن تقول الجملة
الثانية صفة ثانية لا معطوفة .
وقوله : امرأ عنى الحطيئة بالمرء نفسه . وقوله : رهطه بالشام جملة اسميّة صفة لاسم
إنّ وأراد : بناحية الشام الحطيئة عبسيّ ومنزل بني عبس شرج والقصيم والجواء وهي
أسافل عدنة وكان الحطيئة جاور بغيض بن شمّاس المذكور برمل يبرين وهي قرية كثيرة
النخل والعيون )
بالبحرين بحذاء الأحساء لبني عوف بن سعد بن زيد مناة ثم لبني أنف الناقة .
وإعرابها بالواو رفعاً وبالياء نصباً وجرّاً وربما التزموا الياء وجعلوا الإعراب
بالحركات على النون ويقال أيضاً :
____________________
رمل
أبرين ولابن جنّي فيه كلام جيّد نقله ياقوت في معجم البلدان .
وقوله : منزله برمل يبرين جملة اسمية ثانية إما معطوفة بالواو المحذوفة وإما صفة
ثانية لاسم إن . وجاراً : حال من المضمر المستقرّ في قوله : برمل يبرين العائد على
المنزل . وقوله : شدّ ما اغتربا منصوب على التعجب وما مصدرية أي : ما أشدّ اغترابه
والجملة خبر اسم إن .
ومثله قول جرير : ( فقلت للركب إذ جدّ المسير بنا ** ما بعد يبرين من باب الفراديس
) وباب الفراديس من أبواب الشام . وإنما بسطت شرح هذا البيت لأنه وقع في مغني
اللبيب ولم يشرحه أحد من شرّاحه بشيء .
وسبب مدح الحطيئة بغيضاً وهجو الزّبرقان هو ما ذكره الأصبهاني في الأغاني أن
الزبرقان قدم على عمر رضي الله عنه في سنة مجدبة ليؤدّي صدقات قومه فلقيه الحطيئة
بقرقرى ومعه ابناه أوس وسوادة وبناته وامرأته قال له الزبرقان وقد عرفه ولم يعرفه
الحطيئة : أين تريد فقال : العراق فقد حطمتنا هذه السنة قال : وتصنع ماذا قال :
وددت أن أصادف بها رجلاً يكفيني مؤنة عيالي وأصفيه مدائحي فقال له الزبرقان : قد
أصبته فهل لك فيه يوسعك تمراً ولبناً ويجاورك أحسن جوار قال : هذا وأبيك العيش وما
كنت أرجو هذا كله عند من قال : عندي . قال : ومن أنت قال : الزبرقان . فسيّره إلى
أمه وهي عمّة الفرزدق وكتب إليها : أن أحسني إليه وأكثري له من التمر واللبن .
وقال آخرون : بل س ذره إلى زوجته هنيدة بنت صعصعة المجاشعية فأكرمته وأحسنت إليه
فبلغ ذلك بغيض بن عامر من بني أنف الناقة وكان ينازع الزبرقان
____________________
الشرف
وكان الحطيئة دميماً سيئ الخلق فهان أمره عليها وقصّرت به فأرسل إليه بغيض وإخوته
: أن ائتنا . فأبى وقال : شأن النساء التقصير والغفلة ولست بالذي أحمل على صاحبها
ذنبها وألحّوا عليه فقال : إن تركت وجفيت تحوّلت إليكم . وأطمعوه ووعدوه وعداً
عظيماً فدسّوا إلى زوجة الزبرقان أن الزبرقان يريد أن يتزوج ابنته مليكة وكانت
جميلة فظهر منها جفوة .
وألحوا عليه في الطلب فارتحل إليهم فضربوا له قبة وربطوا بكلّ طنب من أطنابها حلّة
هجريّة )
وأراحوا عليه إبلهم وأكثروا عليه التمر واللبن . فلما قدم الزبرقان سأل عنه فأخبر
بقصته فنادى في بني بهدلة بن عوف وركب فرسه وأخذ رمحه وسار حتى وقف على القريعيين
وقال : ردّوا عليّ جاري قالوا : ما هو لك بجار وقد اطّرحته وضيّعته وكاد أن يقع
بين الحيين حرب .
فاجتمع أهل الحجا . وخيّروا الحطيئة فاختار بغيضاً وجعل يمدح القريعيين من غير أن
يهجو الزبرقان وهم يحرّضونه على ذلك وهو يأبى حتى أرسل الزبرقان إلى رجل من النمر
بن قاسط يقال له دثار بن شيبان فهجا بغيضاً وفضّل الزبرقان فقال من جملة أبيات : (
وجدنا بيت بهدلة بن عوف ** تعالى سمكه ودجا الفناء ) ( وما أضحى لشمّاس بن لاي **
قديم في الفعال ولا رباء ) ( سوى أن الحطيئة قال قولاً ** فهذا من مقالته جزاء )
ولما سمع الحطيئة هذا ناضل عن بغيض وهجا الزبرقان في عدة قصائد منها قوله :
____________________
(
والله ما معشر لاموا امرأً جنباً ** من آل لأي بن شمّاس بأكياس ) ( ما كان ذنب
بغيض لا أبا لكم ** في بائس جاء يحدو آخر الناس ) ( لقد مريتكم لو أن درّتكم **
يوماً يجيء بها مسحي وإبساسي ) ( فما ملكت . . بأن كانت نفوسكم ** كفارك كرهت ثوبي
وإلباسي ) ( حتى إذا ما بدا لي غيب أنفسكم ** ولم يكن لجراحي فيكم آسي ) ( أزمعت
يأساً مبيناً من نوالكم ** ولن ترى طارداً للحرّ كالياس ) ( ما كان ذنب بغيض أن
رأى رجلاً ** ذا فاقة عاش في مستوعر شاس ) ( جاراً لقوم أطالوا هون منزله **
وغادروه مقيماً بين أرماس ) ( دع المكارم لا ترحل لبغيتها ** واقعد فإنك أنت
الطاعم الكاسي ) ( من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ** لا يذهب العرف بين الله والناس
) ( ماكان ذنبي أن فلذت معاولكم ** من آل لأي صفاة أصلها راسي ) ( قد ناضلوك
فسلّوا من كنانتهم ** مجداً تليداً ونبلاً غير أنكاس )
____________________
والجنب
بضم الجيم والنون : الغريب . والبائس : هنا الحطيئة وهو الذي لقي بؤساً وشدّة من
الفقر يقال : أصابت الناس سنة شديدة وكان الحطيئة فيمن انحدر مع الناس فلم يكن به
من القوة أن يكون في أوّل الناس . وقوله : لقد مريتكم الخ أي : طلبت ما عندكم
وأصله من مريت )
الناقة هو أن يمسح ضرعها لتدرّ . والدرّة بالكسر : اللبن . والإبساس : صوت تسكّن
به الناقة عند الحلب يقول : بس بس .
وقوله : فما ملكت بأن كانت الخ يقول : لم أملك بغضكم فأجعله حيّاً . والفارك :
المرأة المبغضة لزوجها . وقوله : كرهت ثوبي أي : كرهت أن تدخل معي في ثوبي وأن
تدخلني في ثوبها . وقوله : حتى إذا ما بدا لي الخ أي : بدا لي ما كان غائباً في
أنفسكم من البغضة . ولم يكن فيكم مصلح لما بي من الفساد وسوء الحال . والآسي :
المداوي .
وقوله : أزمعت يأساً الخ هو من أبيات مغني اللبيب أورده على أن بعضهم قال من
متعلقة بيأساً والصواب أن تعلقها بيئست محذوفة لأن المصدر لا يوصف قبل أن يأتي
معموله .
والإزماع : تصميم العزم . والمستوعر : المكان الوعر . والشأس : المكان المرتفع
الغليظ . والهون بالضم : المذلة . وغادروه أي : تركوه كالميت بين أموات القبور .
وقوله : ما كان ذنبي الخ فلت بالفاء : ثلمت والفلول : الثلم . والصفاة بالفتح :
الصخرة الملساء .
أي : أردتموهم بسوء فلم تعمل فيه معاولكم . يقول : ما كان ذنبي فإني مدحت هؤلاء
لأنهم أشرف منكم ولهم مجد راس لا تطيقون إزالته . وقوله : قد ناضلوك الخ النكس
بالكسر : السهم يقلب فيجعل أسفله أعلاه إذا انكسر طرفه . والمناضلة : المفاخرة .
وأراد بالمجد القديم النواصي وكانت العرب إذا أنعمت على الرجل الشريف المأسور
جزواً ناصيته وأطلقوه فتكون الناصية عند الرجل يفخر بها .
وقوله : دع المكارم الخ أورده الفراء في معاني القرآن في سورة هود
____________________
على
أن الكاسي بمعنى المكسو كما أن العاصم في قوله تعالى : لا عاصم اليوم بمعنى
المعصوم . قال : ولا تنكرن أن يخرج المفعول على فاعل إلا ترى أن قوله من ماء دافق
بمعنى مدفوق و عيشة راضية بمعنى مرضية يستدل على ذلك بأنك تقول : رضيت هذه المعيشة
ودفق الماء وكسي العريان بالبناء للمفعول ولا تقول ذلك بالبناء للفاعل .
ولما بلغ الزبرقان هذا البيت استعدى عليه عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ما
أراه هجاك ولكنه مدحك . فقال : سل حسان بن ثابت . فسأله فقال حسان : هجاه وسلح
عليه فحبسه عمر فقال وهو في الحبس : ( ماذا تقول لأفراخ بذي مرخ ** حمر الحواصل لا
ماء ولا شجر ) ) ( ألقيت كاسبهم في قعر مظلمة ** فاغفر عليك سلام الله يا عمر ) ذو
مرخ : اسم مكان وأراد بالأفراخ أطفاله الصغار . وحمر الحواصل يعني لا ريش لها
وتكلم فيه عمرو بن العاص فأخرجه عمر فقال : إياك وهجاء الناس قال : إذاً يموت
عيالي جوعاً هذا مكسبي ومنه معاشي وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : أرسل عمر إلى
الحطيئة وأنا عنده وقد كلمه عمرو بن العاص وغيره فأخرجه من السجن فأنشده : ماذا
تقول لأفراخ بذي مرخ
____________________
فبكى
عمر ثم قال : علي بالكرسي فجلس عليه وقال : أشيروا علي في الشاعر فإنه يقول الهجو
ويشبب بالنساء وينسب بما ليس فيهم ويذمهم ما أراني إلا قاطعاً لسانه ثم قال : علي
بطست ثم قال : علي بالمخصف علي بالسكين بل علي بالموس فقالوا : لا يعود يا أمير
وروى عبد الله بن المبارك : أن عمر رضي الله عنه لما أطلق الحطيئة أراد أن يؤكد
عليه الحجة فاشترى منه أعراض المسلمين جميعاً بثلاثة آلاف درهم . فقال الحطيئة في
ذلك : ( وأخذت أطراف الكلام فلم تدع ** شتماً يضر ولا مديحاً ينفع ) ( وحميتني عرض
اللئيم فلم يخف ** مني وأصبح آمناً لا يفزع ) وقد ترجمنا الحطيئة في الشاهد التاسع
والأربعين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الخامس عشر بعد المائتين ( فاصدع بأمرك ما عليك غضاضة ** وابشر بذاك وقر
منه عيونا ) على أنه يجوز جمع المثنى فيالتمييز إذا لم يلبس : إذا كان الظاهر أن
يقال : وقر منه عينين أو عيناً . لكنه جمع لعدم اللبس ولأن أقل الجمع اثنان على
رأي .
وهذا البيت أحد أبيات خمسة لأبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم . وهي :
____________________
(
والله لن يصلوا إليك بجمعهم ** حتى أوسد في التراب دفينا ) ( فاصدع بأمرك ما عليك
غضاضة ** وابشر بذاك وقر منه عيونا ) ( ودعوتني وزعمت أنك ناصح ** ولقد صدقت وكنت
ثم أمينا ) ( لولا الملامة أو حذار مسبة ** لوجدتني سمحاً بذاك مبينا ) قال
السيوطي في شرح شواهد المغني : أخرج ابن إسحاق والبيهقي في الدلائل عن يعقوب بن
عتبة بن المغيرة بن الأخنس : أن قريشاً أتت أبا طالب فكلمته في النبي صلى الله
عليه وسلم فبعث إليه فقال له : يا ابن أخي إن قومك قد جاؤوني فقالوا كذا وكذا فأبق
علي وعلى نفسك ولا تحملني من الأمر ما لا أطيق أنا ولا أنت فاكفف عن قومك ما
يكرهون من قولك فظن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قد بدا لعمه فيه وأنه خاذله
فقال : يا عم لو وضعت الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأمر حتى يظهره
الله أو أهلك في طلبه ثم استعبر رسول الله صلى الله عليه وسلم فبكى فلما ولى قال
له حين رأى ما بلغ من الأمر برسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ابن أخي امض على
أمرك وافعل ما أحببت فوالله لا أسلمك لشيء أبداً . وقال أبو طالب في ذلك هذه
الأبيات انتهى .
وقد أنشد الزمخشري هذه الأبيات عند قوله تعالى وهم ينهون عنه وينأون عنه من سورة
الأنعام بناءً على القول بأنها نزلت في أبي طالب .
____________________
وقوله : والله لن يصلوا إليك الخ أنشد هذا البيت ابن هشام في المغني على أن القسم
قد يلقى بلن نادراً . ونازعه الدماميني في الحاشية الهندية بأنه يحتمل أن يكون مما
حذف فيه الجواب لدلالة ما بعده عليه تقديره : والله إنك لآمن على نفسك فيكون قوله
: لن يصلوا إليك الخ جملة مستأنفة لا جواب القسم . وأوسد بالبناء للمفعول : من
وسدته الشيء : إذا جعلته تحت رأسه وسادة . ودفينا : حال من ضمير أوسد بمعنى مدفون
. )
وقوله فاصدع بأمرك الخ يقال : صدعت بالحق إذا تكلمت به جهاراً . وقيل في قوله
تعالى : فاصدع بما تؤمر أي : شق جماعاتهم بالتوحيد وقيل : افرق بذلك بين الحق
والباطل وقيل : أظهر ذلك . وهو مأخوذ من قولهم : صدعت القوم صدعاً فتصدعوا أي :
فرقتهم فتفرقوا .
وأصل الصدع الشق . وروي فانفذ بأمرك . والغضاضة قال في الصحاح : يقال ليس عليك في
هذا الأمر غضاضة أي : ذلة ومنقصة . وفي المصباح : غض الرجل صوته وطرفه ومن طرفه
وصوته غضاً من باب قتل : خفض ومنه يقال غض من فلان غضاً وغضاضة : إذا تنقصه .
وقوله : وابشر بذاك أي : بعدم وصولهم إليك أو بظهور أمرك أو بانتفاء الغضاضة عنك
أو بالمجموع ويكون ذلك إشارة إلى ما ذكر . وابشر بفتح الشين لأنه يقال بشر بكذا
يبشر مثل فرح يفرح وزناً ومعنى وهو الاستبشار أيضاً والمصدر البشور ويتعدى بالحركة
فيقال بشرته أبشره من باب قتل في لغة تهامة وما والاها والاسم منه البشر بضم الباء
والتعدية بالتثقيل لغة عامة العرب كذا في المصباح .
وقوله : وقر منه عيوناً أي : من أجله . قال الطيبي : وإنما جمع العين لأن المراد
عيون المسلمين لأن قرة عينه عليه الصلاة والسلام قرة لأعينهم . وهذا المعنى صحيح
إلا أن اللفظ لا يساعد . وهو تمييز محول عن الفاعل . قال ثعلب في
____________________
فصيحه
: وقررت به عيناً أقر بكسر العين في الماضي وفتحها في المستقبل ومصدر الأول القر
والقرور بضم أولهما ومصدر الثاني القرار والقر بفتحهما . قال شارحه أبو سهل الهروي
: قولهم : أقر الله عينك معناه لا أبكاك الله فتسخن بالدمع عينك فكأنه قال : سرك
الله و يجوز أن يكون صادفت ما يرضيك لتقر عينك من النظر إلى غيره . وأما قول بعضهم
: معناه برد الله دمعتها لأن الدمعة السرور باردة ودمعة الحزن حارة فإنه خطأ لأن
الدمع كله حار .
وقوله : ودعوتني أي : إلى الإيمان . وزعمت أي : قلت فإن الزعم أحد معانيه القول
وروي بدله . وعلمت فهو بضم التاء وثم بفتح الثاء إشارة إلى مقام القول والنصح أو
الدعوة وروي بدله : قبل بضم اللام أي : قبل هذا .
وقوله : وعرضت الخ من زائدة على رأي من يقول بزيادتها في الإثبات أو تبعيضية أي :
من بعض الأديان الفاضلة . وديناً الثاني إما تمييز وإما تأكيد للأول . وقوله :
لولا الملامة أي : لولا ملامة الكفار لي . والحذار بالكسر : المحاذرة . وسمحاً :
منقاداً . ومبيناً : مظهراً من الإبانة وهي )
وترجمة أبي طالب تقدمت في الشاهد الحادي والتسعين .
وأنشد بعده وهو الشاهد السادس عشر بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : ثلاثون
للهجر حولاً كميلا
____________________
وهذا
عجز وصدره : على أنني بعد ما مضى على أنه فصل بالمجرور ضرورة بين التمييز وهو
حولاً وبين المميز وهو ثلاثون .
وأنشده سيبويه في باب كم مع بيت بعده وهو : ( يذكرنيك حنين العجول ** ونوح الحمامة
تدعو هديلا ) قال الأعلم في شرح أبياته : الشاهد في فصله بين الثلاثين والحول بالمجرور
ضرورة . فجعل سيبويه هذا تقوية لما يجوز في كم من الفصل عوضاً لما منعته من التصرف
في الكلام بالتقدير والتأخير لتضمنها معنى الاستفهام والتصدر بها لذلك . والثلاثون
ونحوها من العدد لا تمتنع من التقديم والتأخير لأنها لم تتضمن معنى يجب لها به
التصدر فعملت في المميز متصلاً بها على ما يجب وقوله : على أنني متعلق بما قبله من
الأبيات لا بقوله يذكرنيك كما زعمه شارح شواهد المغني فإن يذكرنيك خبر أنني .
والحول : العا وقال صاحب المصباح : حال حولاً من باب قال : إذا مضى ومنه قيل للعام
حول وإن لم يمض لأنه سيكون حولاً تسميةً بالمصدر والجمع أحوال .
والكميل : الكامل . وثلاثون فاعل مضى . والذكر متعد لمفعول واحد يقال : ذكرته
بلساني وبقلبي والاسم ذكر بالضم والكسر نص عليه جماعةً منهم أبو عبيدة وابن قتيبة
وأنكر الفراء الكسر في القلب وقال : اجعلني على ذكر منك بالضم لا غير . ويتعدى إلى
مفعولين بالألف والتضعيف كما هنا فإن الياء مفعول أول والكاف مفعول ثان . وحنين
فاعله . ونوح معطوف عليه . والحنين : ترجيع الناقة صوتها إثر ولدها هذا أصله ومنه
معنى الاشتياق . والعجول من الإبل : الواله التي فقدت ولدها بذبح أو موت أو هبة
وقيل : الناقة التي ألقت ولدها قبل أن يتم بشهر أو بشهرين . )
____________________
ونوح الحمامة : صوت تستقبل به صاحبها لأن أصل النوح المقابلة وجملة تدعو حالم ن
الحمامة . زالهديل قال ابن قتيبة في أدب الكاتب : العرب تجعله الهديل مرة فرخاً
تزعم الأعراب أنه كان على عهد نوح عليه السلام فصاده جارج من جوارح الطير قالوا :
فليس من فعلى الأول هو مفعول تدعو بمعنى تبكيه وترثيه وكذلك على الثاني بمعنى
تطلبه ليسافدها لأنه بمعنى الذكر . قال في العباب : الهديل : الذكر من الحمام وقيل
الحمام الوحشي كالقماري والدباسي . وعلى الثالث مفعول مطلق وناصبه إما تدعو بمعنى
تهدل وإما فعل مقدر من لفظه أي : تهدل هديلاً مثل : هدر يهدر هديراً .
وقال الجاحظ : يقال في الحمام الوحشي من القماري والفواخت والدباسي وما أشبه ذلك :
هدل يهدل هديلاً ويقال هدر الحمام يهدر . وقال أبو زيد : الجمل يهدر ولا يقال
باللام . ولا يجوز على هذا أن ينتصب هديلاً على الحال من ضمير تدعو لأن مجيء
المصدر حالاً سماعي ولا ضرورة هنا تدعو إليه .
ومعنى البيتين : لم أنس عهدك على بعده وكلما حنت عجول أو صاحت حمامة وقت نفسي
فذكرتك .
وهما من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعرف لها قائل . ونقل العيني عن الموعب
أنهما للعباس بن مرداس الصحابي والله أعلم وتقدمت ترجمة العباس في الشاهد السابع
عشر وكذا رأيته أنا في شرح ابن يسعون على شواهد
____________________
الإيضاح
لأبي علي الفارسي منسوباً إلى العباس بن مرداس .
الشاهد السابع عشر بعد المائتين وهو من شواهد س : ( تقول ابنتي حين جد الرحي ** ل
أبرحت رباً وأبرحت جارا ) على أن رباً وجاراً تمييزان . قال ابن السراج في الأصول
: وأما الذي ينتصب انتصاب الاسم بعد المقادير فقوله : ويحه رجلاً ولله دره رجلاً
وحسبك به رجلاً قال عباس بن مرداس : ( ومرة يجمعهم إذا ما تبددوا ** ويطعنهم شزراً
فأبرحت فارساً ) قال سيبويه : كأنه قال : فكفى بك فارساً وإنما يريد كغيت فارساً
ودخلت هذه الباء توكيداً . ومنه قول الآعشى : فأبرحت رباً وأبرحت جاراً وهذا البيت
من قصيدة للأعشى مدح بها قيس بن معد يكرب الكندي وكان الأعشى مدحه بقصيدة دالية
فقال له قيس : إنك تسرق الشعر فقال له الأعشى :
____________________
قيدني
في بيت حتى أقول لك شعراً . فحبسه وقيده . فقال عند ذلك هذه القصيدة . وزعم ابن
قتيبة أن القائل له إنما هو النعمان بن المنذر وهذا غير صحيح بدليل قوله فيها : (
إلى المرء قيس نطيل السرى ** ونطوي من الأرض تيهاً قفارا ) ( أأزمعت من آل ليلى
ابتكارا ** وشطت على ذي هوى أن تزارا ) إلى أن قال بعد ثلاثة أبيات : ( وشوق علوق
تناسيته ** بزيافة تستخف الضفارا ) ( بقية خمس من الراسما ** ت بيض تشبههن الصوارا
) ( دفعن إلى اثنين عند الخصوص ** وقد حبسا بينهن الإصارا ) ( فهذا يعد لهن الخلا
** وينقل ذا بينهن الحضارا ) ( فكانت بقيتهن التي ** تروق العيون وتقضي السفارا )
( فأبقى رواحي وسير الغدو ** منها ذؤاب جداء صغارا ) ( أقول لها حين جد الرحي ** ل
أبرحت جداً وأبرحت جارا ) ( إلى المرء قيس نطيل السرى ** ونطوي من الأرض تيهاً
قفارا ) ( فلا تشتكن إلي السفار ** وطول العنا واجعليه اصطبارا ) ) ( رواح العشي
وسير الغدو ** يد الدهر حتى تلاقي الخيارا ) ( تلاقين قيساً وأشياعه ** يسعر للحرب
ناراً فنارا )
____________________
قوله
: وشوق علوق أي : رب شوق وهو مضاف إلى علوق . والعلوق بفتح المهملة : الناقة التي
تعطف على غير ولدها فلا ترأمه وإنما تشمه بأنفها وتمنع لبنها . والعلوق أيضاً من
النساء : التي لا تحب غير زوجها ومن النوق : التي لا تألف الفحل ولا ترأم الولد .
والزيافة : الناقة المسرعة وقيل المتبخترة من زاف يزيف زيفاً : إذا تبختر في مشيته
. والضفار جمع ضفرة وضفيره بالضاد المعجمة والفاء وهي البطان المعرض والبطان
بالكسر هو للقتب الحزام الذي يجعل تحت بطن البعير وهو بمنزلة التصدير للرحل .
وقوله : بقية خمس أي : تلك الزيافة بقية نوق خمس . والراسمات من الرسيم وهو ضرب من
سير الإبل السريع وقد رسم يرسم رسيماً . وبيض : جمع بيضاء أي : كريمة . والصوار
بضم الصاد وكسرها : القطيع من بقر الوحش والجمع صيران .
وقوله : دفعن إلى اثنين اخ أي : دفع قرينه تلك النوق الخمس إلى رجلين عند الخصوص
وهو موضع قرب الكوفة . والإصار بكسر الهمزة قال الصاغاني في العباب : والإصار
والأيصر : حبل قصير يشد به في أسفل الخباء إلى وتد وكل حبس يحبس به شيء أو يشد به
فهو إصار قال الأعشى يصف النوق . . وأنشد هذا البيت .
وقوله : فهذا يعد أي : يهيئ . والخلا بفتح الخاء المعجمة : الحشيش الرطب . والحضار
بفتح المهملة وكسرها وبعدها ضاد معجمة : الكرائم من الإبل كالهجان : واحده وجمعه
سواء .
وقوله : فأبقى رواحي الخ الرواح : مصدر راح يروح وهو نقيض غدا يغدو غدواً .
والذؤاب : جمع ذؤابة بذال مضمومة بعدها همزة فموحدة وهي الجلدة التي تعلق على آخرة
الرحل .
والجداء : جمع جدية بالجيم وهي شيء يحشى تحت دفتي السرج والرحل . أراد أنها لم يبق
من ظهرها شيء من كثرة السير . ثم بعد وصف ضمرها ببيتين آخرين قال : أقول لها حين
جد الرحيل
____________________
أي
: أقول لتلك الزيافة . وجد بمعنى اشتد . وأبرحت بكسر التاء خطاب للزيافة .
قال أبو عبيد في الغريب المصنف : ما أبرح هذا الأمر : ما أعجبه . وأنشد هذا البيت
.
قال شارح أبياته ابن السيرافي : المعنى اخترت ربّاً وهو الملك وجاراً عظيم القدر .
وقيل )
أبرحت أعجبت قال صاحب الصحاح وتبعه صاحب العباب : وأبرحه أي : أعجبه .
وأنشد هذا البيت وقال : أي : أعجبت وبالغت . وأبرحه أيضاً بمعنى أكرمه وعظّمه . .
وعلى هذا ف ربّاً مفعول به وهو بمعنى المالك والسيد والمراد به نفس الشاعر أو
ممدوحه . وهذا هو الظاهر المتبادر من سوق الكلام .
وقال صاحب العباب : ويروى : تقول له حين حان الرحيل أبرحت أي : تقول للأعشى الناقة
: أبرحت بي في طلب ربك هذا الذي طلبته وعذّبتني وحسرتني انتهى .
وعلى هذا فأبرحت معناه أصبتني بالبرح وهو الشدة والعذاب ويكون رباً أصله في طلب
ربك . ولا يخفى هذا التعسف مع أن هذه الرواية غير ثابتة وغير منسجمة مع ضمير
الغائب .
وقال ابن حبيب : يريد : تقول له ناقته : أعظمت وأكرمت أي : اخترت رباً كريماً
وجاراً عظيم القدر يبرح بمن طلب شأوه . وروي أيضاً كما في الشرح : تقول ابنتي حين
جدّ الرحيل وإنما روي في كتاب س وفي نوادر أبي زيد العجز مقروناً بالفاء هكذا :
فأبرحت ربّاً وأبرحت جارا
____________________
وتمّمه
شراح شواهده بما ذكره الشارح . وهذه الرواية لا ارتباط لها بما بعدها كما هو
الظاهر . قال أبو عبيدة كما في النوادر : أبرحت في معنى صادفت كريماً . وقال غيره
: أبرحت بمن أراد اللحاق بك تبرح به فيلقى دون ذلك شدة . والبرح : العذاب والشدة
ومن ذلك برّحت بفلان انتهى .
فالرب على الأول الممدوح وعلى الثاني الصاحب . وقال النحاس : قال الأصمعي : أبرحت
ربّاً أي : أبلغت . وقال الأسعدي : أبرح فلان رجلاً : إذا فضله . وهذا كله على أن
ربّاً مفعول به لا تمييز .
وقال الأعلم : قوله : فأبرحت ربا الخ الشاهد فيه نصب ربّ ودار على التمييز .
والمعنى أبرحت من ربّ ومن جار أي : بلغت غاية الفضل في هذا النوع . وصدر البيت :
تقول ابنتي حين جدّ الرحيل أبرحت ربّاً )
والمعنى على هذا . أبرح ربك وأبرح جارك . ثم جعل الفعل لغير الرب والجار كما تقول
: طبت نفساً أي : طابت نفسك . وهذا أبين من التفسير الأول وعليه يدل صدر البيت .
وأراد بالرب الملك الممدوح . وكل من ملك شيئاً فهو ربه . انتهى .
وقال الشارح المحقق : أبرحت أي : جئت بالبرح وصرت ذا برح والبرح : الشدة . فمعنى
أبرحت صرت ذا شدة وكمال أي : بالغت وكملت رباً . فهو نحو كفى زيد رجلاً أي : أبرح
جار هو أنت . . فالرب على قول الأعلم الممدوح وعلى قول الشارح نفس الشاعر ومعنى
البيت على هذا إنما هو بقطع
____________________
النظر
عما بعده وقبله وإلا فلا يناسب السياق . والمقدار الذي أورده س عجز للصدر الذي هو
: أقول لها حين جد الرحيل والفاء من تصرف النسّاخ فتكون التاء مكسورة والمعنى على ما
ذكره الأعلم والله أعلم وأورد قبله قول العباس بن مرداس السلمي : ( ومرة يحميهم
إذا ما تبددوا ** ويطعنهم شزراً فأبرحت فارساً ) قال الأعلم : المعنى فأبرحت من
فارس أي : بالغت وتناهيت في الفروسية وأصل أبرحت من البراح وهو المتسع من الأرض
المنكشف أي : تبين فضلك تبين البراح من الأرض .
وترجمة الأعشى ميمون تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين وترجمة قيس أيضاً تقدمت في
الشاهد الثاني بعد المائتين .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الثامن عشر بعد المائتين يا جارتا ما أنت جاره على أن جارة تمييز لأن ما
الاستفهامية تفيد التفخيم أي : كملت جارة . وهذا المصراع عجز وصدره : بانت لتحزننا
عفاره
____________________
والبيت
مطلع قصيدة للأعشى ميمون . . قال الشاطبي في شرح الألفية : أجاز الفارسي أن تكون
جارة في هذا البيت تمييزاً لجواز دخول من عليها لأن ما استفهام على معنى التعجب
فجارة يصح أن يقال فيها : ما أنت من جارة كما قال الآخر : ( يا سيداً ما أنت من
سيد ** موطّأ الأكتاف رحب الذّراع ) وروى أوله أبو علي في إيضاح الشعر : ( بانت
لطيّتها عراره ** يا جارة ما أنت جاره ) والطية بالكسر وتشديد الياء التحتية :
النية والقصد . وعرارة : امرأة وقال قبله في قول الشاعر : وأنت ما أنت في غبراء
مظلمة الظرف حال والعامل ما في قوله : ما أنت من معنى المدح والتعظيم كأنه قال :
عظمت حالاً في غبراء . وليس في الكلام ما يصح أن يكون عاملاً في الظرف غير ما
ذكرنا وإذا صح معنى الفعل وذلك من حيث ذكرنا كان قول الأعشى : جارة في موضع نصب
بما في ما أنت كما ذكرنا . انتهى .
ولا يصح أن تكون ما نافية كما زعمه العيني لأن نصب جارة على التمييز إنما هو من
الاستفهام التعجبي . وهذه عبارته : ما نافية وأنت مبتدأ وجارة خبر . ويروى : ما
كنت جاره فهذا يؤكد معنى النفي . ويجوز أن تكون ما استفهامية في موضع الرفع على
الابتداء وأنت ولا يخفى أن المعنى ليس على النفي وإنما هو على التعجب كما ذكره
الجماعة . و بانت : من البين وهو الفراق . وقوله : لتحزننا يجوز فتح التاء وضمها
____________________
فإنه
يقال حزنه يحزنه وهي لغة قريش وأحزنه يحزنه وهي لغة تميم وقد قرىء بهما . وحزن
يأتي لازماً أيضاً يقال : حزن الرجل فهو حزن وحزين من باب فرح يفرح . و عفارة بفتح
العين المهملة : اسم امرأة وهي فاعل لأحد الفعلين على سبيل التنازع . )
وقوله : يا جارتا الخ هو التفات من الغيبة إلى الخطاب . وجارة الرجل : امرأته التي
تجاوره في المنزل . . و ما : اسم استفهام مبتدأ عند س وأنت الخبر وعند الأخفش
بالعكس . وقال العيني : عفارة : امرأة يحتمل أن تكون هي الجارة أو غيرها فإن كانت
عينها فقد اتنقل من الإخبار إلى الخطاب والجارة هنا زوجته انتهى .
والظاهر أن الجارة عي عفارة وأنها عشيقته فتأمل . ثم رأيت في شرح شواهد الإيضاح
لأبي علي الفارسي لابن بري قال وأنشد : يا جارتا ما أنت جاره وقبله : بانت لتحزننا
عفاره بانت لطيتها عفارة هو لأعشى بني قيس و الجارة هنا زوجه قال ابن دريد و الطية
: المنزل الذي تنويه . وعفارة اسم امرأة ويحتمل أن تكون هي الجارة وغيرها فإن كانت
الجارة فقد انتقل من الإخبار إلى الخطاب . وقوله : يا جارتا يريد يا جارتي فأبدل
من الكسرة فتحة فانقلبت الياء ألفاً لتحركها وانفتاح ما قبلها ويجوز أن تكون ألف
الندبة لما وصلها حذف الهاء كأنه لما فقدها ندبها .
وقوله : ما أنت جاره ما نافية و أنت مبتدأ أو اسم ما و جارة إما في موضع نصب خبر
لما وإما في موضع رفع خبر أنت . ويروى : ما كنت
____________________
فهذا
يؤكد النفي كما قال تعالى ما هذا بشراً ويجوز أن تكون ما استفهاماً في موضع رفع
بأنها خبر أنت وجارة في موضع نصب على التغيير أي : ما أنت من جاره .
ويجوز أن تكون حالاً والعامل فيها معنى الكلام أي : كرمت جارة أو نبلت جارة .
ويجوز أن تكون ما مبتدأ وإن كانت نكرة لما فيها من معنى التفخيم والتعجب ولأنها
تقع صدراً غير أنه أوقعها على من يعقل فكان الوجه ما بدأنا به .
هذا كلامه برمته وتعسفه ظاهر .
وقال شارح آخر لأبيات الإيضاح : جلبه أبو علي شاهداً على أن جارة الموقوف عليها
يحتمل أن تكون تمييزاً لإمكان إدخال من عليها . ويحتمل أن تكون حالاً . ثم إنه أخذ
جميع الكلام الذي نقلناه من ابن بري . )
وترجمة الأعشى تقدمت الحوالة عليها في البيت الذي قبل هذا . وبعد هذا البيت : (
أرضتك من حسن ومن ** دلّ تخالطه غراره ) ( وسبتك حين تبسمت ** بين الأريكة
والستاره ) و الغرارة بفتح المعجمة : الغفلى كالغرة بالكسر . و الأريكة : السرير
المزين والجمع أرائك .
____________________
(
باب المستثنى ) أنشد فيه وهو الشاهد التاسع عشر بعد المائتين ( وبلدة ليس بها
طوريّ ** ولا خلا الجن بها إنسي ) على أن تقدم المستثنى على المنسوب والمنسوب إليه
شاذ . والأصل : ولا بها إنسي خلا الجن .
قال ابن الأنباري في الإنصاف : ذهب الكوفيون إلى أنه يجوز تقديم حرف الاستثناء في
أول الكلام نحو إلا طعامك ما أكل زيد نص عليه الكسائي وإليه ذهب الزّجّاج في بعض
المواضع واستدلوا بهذا البيت ونحوه . ومنعه البصريون وأجابوا عن البيت بأن تقديره
: وبلدة ليس بها طوري ولا إنسي ما خلا الجن . فحذف إنسياً وأضمر المستثنى منه وما
أظهره تفسير لما أضمره . وقيل : تقديره : ولا بها إنسي خلا الجن . فيها مقدرة بعد
لا وتقديم المستثنى فيه للضرورة فلا يكون فيه حجة .
وهذان البيتان من أرجوزة للعجاج . وقوله : وبلدة الواو فيه واو ربّ
____________________
والبلدة
: الأرض يقال : هذه بلدتنا أي : أرضنا . وروى أبو عبيد البكري في شرح نوادر القالي
والصاغاني في العباب : بفتح الخاء المعجمة والفاء والقاف وقال : الخفقة : المفازة
الملساء ذات آل .
قال أبو عبيد : هذا صحة إنشاده لأن قبله : وبلدة نياطها نطيّ أي : بعيد . وبعده :
للريح في أقرابها هويّ والأقراب : الجوانب . وجملة : ليس بها طوري صفة بلدة . و
طوري بمعنى أحد لا يكون إلا مع النفي كما هنا وهو في الأصل منسوب إلى طور الدار
قال شارح النوابغ الزمخشرية : طور الدار بالضم هو ما يمتد معها من فنائها وحدودها
تقول : أنا لا أطور بفلان ولا أطور طوره )
أي : لا أدور حوله ولا أدنو منه انتهى .
ولا وجه لقول أبي علي القالي في أماليه : إن طورياً منسوب إلى الطورة وهي في بعض
اللغات الطّيرة على وزن العنبة وهو ما يتشاءم به من الفأل الرديء . وقد رواه أبو
زيد في نوادره بهذا اللفظ . وكذلك صاحب الصحاح و العباب وغيرهم . ورواه أبو علي
القالي في أماليه طوئي على وزن طوعي قال : أنشدني أبو بكر بن الأنباري وأبو بكر بن
دريد للعجّاج : وبلدة ليس بها طوئيّ وهو بمعنى طوري . وزاد فيها لغتين أيضاً قال :
يقال : ما بها طؤويّ على مثال طعويّ وما بها طاويّ غير مهموز . وأورد فيها كلمات
كثيرة في هذا المعنى
____________________
تلازم
النفي كقولهم : ما في الدار أحد وما بها عريب وما بها ديّار . وكأنه والله أعلم
استقصى فيها جميع هذه الألفاظ .
وقوله : ولا الخ الواو عطفت جملة بها إنسي على جملة بها طوري المنفية بليس و لا
لتأكيد النفي إلا أنه فصل بين العاطف والمعطوف بجملة خلا الجن لضرورة الشعر . قال
ابن السرّاج في الأصول : وحكى عن الأحمر أنه كان يجيز : ما قام صغير ولا خلا أخاك
كبير . وإنما قاسه على قوله : ( وبلدة ليس بها طوري ** ولا خلا الجن ولا إنسي )
وليس كما ظن أداة استثناء ومثلها عدا يكونان فعلين وينصب ما بعدهما على المفعول به
لأن معناهما عند سيبويه جاوز وفاعلهما ضمير مصدر الفعل المتقدم على قول ومنه في
خلا ما أنشده ابن خروف وغيره : ولا خلا الجن بالنصب . ويكونان حرفين وينجرّ ما
بعدهما على أنهما حرفا جر ومنه في خلا قول الأعشى : ( خلا الله ما أرجو سواك وإنما
** أعدّ عيالي شعبة من عيالكما ) وهذا كله ما لم تتصل بهما ما المصدرية . فإن
اتصلت بهما فإن المختار النصب والجر قليل وتكون ما مع ما بعدها في تأويل مصدر
منصوب نصب غير وسوى عند ابن خروف ومصدر في موضع الحال عند السيرافي .
وإنسي : واحد الإنس بالكسر وهو البشر يفرق بينه وبين واحد بياء النسبة كروم وروميّ
.
فقوله : خلا الجن استثناء منقطع لأنه من غير جنس المستثنى منه .
وترجمة العجّاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين . )
____________________
وأنشد بعده وهو الشاهد العشرون بعد المائتين وهو من شواهد س : ( فإن تمس في غار
برهوة ثاوياً ** أنيسك أصداء القبور تصيح ) على أنه جعل الأصداء أنيساً مجازاً
واتساعاً . لأنها تقوم في استقرارها بالمكان وعمارته له مقام الأناسي .
وقوى سيبويه بهذا مذهب بني تميم في إبدال ما لا يعقل ممن يعقل إذ قالوا : ما في
الدار أحد إلا حمار فجعلوه بمنزلة ما في الدار أحد إلا فلان .
وهذا البيت من قصيدة لأبي ذؤيب الهذلي رصى بها ابن عمّ له قتل . مطلعها : ( وإن
دموعي إثره لكثيرة ** لو أن الدموع والزفير يريح ) ( فو الله لا أنسى ابن عم كأنه
** نشيبة ما دام الحمام ينوح ) إلى أن قال بعد أبيات ثلاثة : ( فإن تمس في رمس
برهوة ثاوياً ** أنيسك أصداء القبور تصيح ) ( على الكره مني ما أكفكف عبرة ** ولكن
أخلّي سربها فتسيح ) ( فما لك جيران وما لك ناصر ** ولا لطف يبكي عليك نصيح ) قوله
: فإن تمس يقال أمسى : إذا دخل في المساء وهو خلاف أصبح : إذا دخل في الصباح . قال
ابن القوطية : المساء ما بين الظهر إلى المغرب . والرمس : القبر قال في المصباح :
رمست الميت رمساً من باب قتل : دفنته . والرمس :
____________________
التراب
تسمية بالمصدر ثم سمي القبر به والجمع رموس . وأرمسته بالألف لغة . ورهوة : مكان
قال ياقوت في معجم البلدان : قال أبو عبيد : الرهوة : الجوبه تكون في محلة القوم
يسيل إليها ماء المطر .
وقال أبو سعيد : الرهو : ما اطمأن من الأرض وارتفع ما حوله قال : ولا رهوة شبه تلّ
يكون في متون الأرض على رؤوس الجبال ومساقط الطيور والصقور والعقبان . ورهوة طريق
بالطائف وقيل هو جبل في شعر خفاف بن ندبة وقيل عقبة في مكان يعرف . وقال الأصمعي :
رهوة في وثاويا خبر قوله : تمس وهو متعلق برهوة يقال ثوى بالمكان وفيه : إذا أقام
. وأنيسك مبتدأ وأصداء خبره والجملة حال من ضمير صاويا . وجملة تصيح صفة لأصداء
ولا يضر إضافته )
إلى المعرف باللام لأن اللام للجنس ومدخلها قريب من النكرة . والأنيس : المؤانس
وفعله أنست به إنساً من باب علم وفي لغة من باب ضرب والأنس بالضم اسم منه واستأنست
به وتأنست به : إذا سكن القلب ولم ينفر كذا في المصباح : والأصداء : جمع صدى
بالقصر وهو ذكر البوم وهو يسكن في القبور وقال الأعلم : هو طائر يقال له الهامة
يزعم الأعراب أنه يخرج من رأس القتيل إذا لم يدرك بثأره فيقول : اسقوني اسقوني حتى
يؤخذ بثأره . وهذا مثل وإنما يراد به تحريض وليّ المقتول على طلب دمه . فجعله جهلة
العرب حقيقة . انتهى .
وقوله : على الكره مني متعلق بقوله : أكفكف يقال : كفكفت الدمع والرجل : إذا كففته
ومنعته .
والعبرة بالفتح : الدمعة وفعله عبرت عينه كفرحت والسرب بفتح السين وسكون الراء
المهملتين : الطريق يقال خلّ له سربه .
وقوله : فما لك جيران الخ هذه الجملة جواب قوله فإن تمس . وجيران : جمع جار . ولطف
بفتح اللام والطاء المهملة هو الرقيق والملاطف . وهذا الكلام منه على طريق التحزن
والتحسر .
____________________
وقد تقدمت ترجمة أبي ذؤيب في الشاهد السابع والستين والله أعلم .
الشاهد الحادي والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : ( والحرب لا يبقى لجا
** حمها التخيل والمراح ) ( إلا الفتى الصبار في النج ** دات والفرس الوقاح ) على
أن الفتى وما بعده استثناء منقطع بدل من قوله : التخيل والمراح . والجاحم بتقديم
الجيم على الحاء المهملة : المكان الشديد الحرّ من جحمت النار فهي جاحمة : إذا
اضطرمت ومنه الجحيم . والتخيل : التكبر من الخيلاء . يقول : إن الحرب تزيل نخوة
المنخو .
وذلك أن أصحاب الغناء يتكرمون عن الخيلاء ويختال المتشبع فإذا جرّب فلم يحمد افتضح
وسقط والمراح بالكسر : النشاط . أي : أنها تكفّ حدة البطر النشيط والصبار : مبالغة
صابر .
والنجدة : الشدة والبأس . والوقاح بالفتح : الفرس الذي حافره صلب شديد ومنه
الوقاحة .
وهذان البيتان قد تقدم شرحهما مفصّلاً في الشاهد الحادي والثمانين في اسم ما
____________________
ولا
المشبهتين بليس .
وأنشد بعده وهو )
الشاهد الثاني والعشرون بعد المائتين ( عشية لا تغني الرماح مكانها ** ولا النبل
إلا المشرفي المصمم ) على أن ما بعد إلا وهو المشرفي بدل من الرماح والنبل
والاستثناء منقطع .
وأورده صاحب الكشاف أيضاً شاهداً على رفع الاسم الكريم في قوله تعالى : قل لا يعلم
من في السموات والأرض الغيب إلا الله وإنما رفع على لغة تميم . والحجازيون ينصبونه
مطلقاً .
وقد جاء هذا البيت في شعرين قافية أحدهما مرفوعة وقافية الآخر منصوبة . والأول هو
الشائع المستشهد به وقد ورد في كتاب سيبويه مغفلاً ولم ينسبه أكثر شراح شواهده .
والمنصوب جاء في قصيدة للحصين بن الحمام المري . أما الأول فهو لضرار بن الأزور
الصحابي من قصيدة قالها في يوم الردة : قال أبو محمد الأعرابي في فرحة الأديب :
أكتبنا أبو الندى : قال ضرار بن الأزور وهو فارس المحبّر في الردة لبني خزيمة وكان
خالد بن الوليد بعثه في خيل على البعوضة : أرض لبني تميم فقتل عليها مالك بن نويرة
فارس بني يربوع وبنو تميم تدعي أنه آمنه . فقاتل يومئذ ضرار
____________________
بن
الأزور قتالاً شديداً فقال في ذلك وبلغه ارتداد قومه من بني أسد : ( بني أسد قد
ساءني ما صنعتم ** وليس لقوم حاربوا الله محرم ) ( وأعلم حقاً أنكم قد غويتم **
بني أسد فاستأخروا أو تقدموا ) ( عصيتم ذوي أحلامكم وأطعتم ** ضجيماً وأمر ابن
اللقيطة أشأم ) ( وقد بعثوا وفداً إلى أهل دومة ** فقبح من وفد ومن يتيمم ) ( ولو
سألت عنا جنوب لخبّرت ** عشية سالت عقرباء بها الدم ) ( عشية لا تغني الرماح
مكانها ** ولا النبل إلا المشرفي المصمم ) ( فإن تبتغي الكفار غير منيبة ** جنوب
فإني تابع الدين فاعلموا ) ( أقاتل إذ كان القتال غنيمة ** ولله بالعبد المجاهد
أعلم ) ضجيم هو طليحة بن خويلد وكانت أمه حميرية أخيذة . وابن اللقيطة : عيينة بن
حصن .
وقوله : يا آل ثعلبة أراد ثعلبة الحلاف بن دودان بن أسد . وقال لنا أبو الندى :
عقرباء بالباء : أرض باليمامة . قال : وعقر ما بالميم باليمن وأتنشد لرجل من جعفي
في قتل مالم بنمازن أحد بني ربيعة بن الحارث : )
____________________
(
جدعتم بأفعى بالذهاب أنوفنا ** فملنا بأنفيكم فأصبح أصلما ) ( فمن كان محزوناً
بمقتل مالك ** فإنا تركناه صريعاً بعقرما ا . هـ ) وقوله : عشية سالت هو بتقدير
مضاف أي : لخبّرت خبر عشية سالت . وعشية الثانية بدل منها . وجنول فيما بعد هذا
منادى وهي امرأة .
والعشية واحدة العشي قال في المصباح : العشي قيل ما بين الزوال إلى الغروب ومنه
يقال للظهر والعصر صلاتا العشيّ وقيل هو آخر النهار وقيل العشي من الزوال إلى
الصباح وقيل العشي والعشاء من صلاة المغرب إلى العتمة . وجملة لا تغني الرماح الخ
في محل جر بإضافة عشية إليها . ومكانها ظرف لقوله لا تغني وهو العامل فيه . قال
العيني : الضمير في مكانها للحرب يدلّ عليه لفظ الجهاد لأنه لا يكون إلا بمكان
الحروب . وأغنيت عنك بالألف مغني فلان : إذا أجزأت عنه وقمت مقامه .
وحكى الأزهري : ما أغنى فلان شيئاً بالغين والعين أي : لم ينفع في مهم ولم يكف
مؤنة . وقوله : ولا النبل بالرفع عطفاً على الرماح . والنبل بالفتح : السهام
العربية وهي مؤنثة ولا واحد لها من لفظها بل الواحد سهم . وقوله : إلا المشرفي
بالرفع على لغة تميم بدل من الرماح والنبل وإن لم يكن من جنسهما مجازاً على ما
تقدم قبله . ولا وجه لما نقله ابن الأنباري عن بعضهم : من أن نصب المشرفي على
المعنى قال : كأنه أرادبقوله : لا تغني الرماح أي : لا تستعملها ولا تستعمل إلا
المشرفي . وهذا تعسف ظاهر . والمشرفي بفتح الميم هو السيف النمسوب إلى مشارف قال
البكري في معجم ما استعجم : قال الحربي : والمشارف قرى من قرى العرب تدنو من الريف
أحدها مشرف . وقال في موضع آخر : وهي مثل خيبر ودومة الجندل وذي المروة والرحبة .
____________________
وقال البكري في مؤتة أيضاً : وكان لقاؤهم يعني المسلمين الروم في قرية يقال لها
مشارف من تخوم البلقاء ثم انحاز المسلمون إلى مؤتة وهو موضع من أرض الشام من عمل
البلقاء .
فالسيف المشرفي إن كان منسوباً إلى الأول فالنسبة على القياس لأن الجمع يردّ إلى
الواحد فينسب إليه وإن كان منسوباً إلى الثاني فالنسبة على خلاف القياس .
وبهذا التحقيق يعرف ما في قول الصاغاني وغيره : والسيوف المشرفية منسوبة إلى مشارف
الشام قال أبو عبيدة : هي قرى من أرض العرب تدنو من الريف يقال : سيف مشرفي ولا
يقال مشارفي لأن الجمع لا ينسب إليه إذا كان على هذا الوزن . انتهى . )
وقال صاحب المصباح بعد أن نقل هذا وقيل هذا خطأ بل هي نسبة إلى موضع من اليمن .
وقا لابن الأنباري فيشرح المفضليات عند الكلام على هذا البيت : والمشرفي منسوب إلى
المشارف وهي قرى للعرب تدنو من الريف ويقال : بل هي منسوبة إلى مشرف رجل من ثقيف
فالقول الأول هو القول الأول من كلام البكري ويدل على الجمعية دخول اللام عليها في
كلامهما . والمصمم : اسم فاعل من صمم قال صاحب الصحاح : وصمم السيف : إذا مضى في
العظم وقطعه فإذا أصاب المفصل وقطعه . يقال : طبّق . قال الشاعر يصف سيفاً : يصمّم
أحياناً وحيناً يطبق ومثله قول ابن النباري : والمصمم الذي يبري العظم برياً حتى
كأنه وقع في المفصل من سرعة مضائه . والمطبق الذي يقع على المفصل ومنه قول الكميت
يصف
____________________
رجلاً
شبهه بالسيف : ( فأراك حين تهز عند ضريبة ** في النائبات مصمماً كمطبق ) أي : هو
يمضي في نفس العظم ويبريه وكأنه إنما طبق أي وقع على المفصل . فهذا الرجل حين يهز
لما ينوب من الخطوب كهذا السيف في مضائه أي : يركب معالي الأمور وشدادها ولا يثنيه
شيء كهذا السيف . وإنما كانت الرماح والنبل لا تغني لأن الحرب إذا كانت بالليل لا
تغني إلا السيوف لاختلاط القوم ومواجهة بعضهم بعضاً كذا قال العيني . وهذا من
تفسير العشية بالليل . وليس كذلك بل هو من شدة المحاربة حيث استقل عملهما فنازل
بالسيف : وذلك أن أول الحرب المناضلة بالسهام فإذا تقاربوا فالتراشق بالرماح فإذا
التقوا فالمجالدة بالسيوف .
فالشاعر يصف شدة المحاربة بالتقاء الفريقين فلم يفد حينئذ إلا التضارب بالسيوف .
وأما الثاني وهو الشعر المنصوب فمطلع القصيدة : ( جزى الله أفناء العشيرة كلها **
بدارة موضوع عقوقاً ومأثما ) ( بني عمنا الأدنين منهم ورهطنا ** فزارة إذ رامت بنا
الحرب معظما ) ( ولما رأيت الودّ ليس بنافعي ** وإن كان يوماً ذا كواكب مظلما ) (
يفلقن هاماً من رجال أعزة ** علينا وهم كانوا أعق وأظلما ) ( فليت أبا شبل رأى كرّ
خيلنا ** وخيلهم بين الستار فأظلما ) ( نطاردهم نستنقذ الجرد كالقنا ** ويستنقذون
السمهري المقوّما ) ( عشية لا تغني الرماح مكانها ** ولا النبل إلى المشرفي
المصمما ) ) ( لدن غدوة حتى إذا الليل ما ترى ** من الخيل إلا خارجيا مسوما )
____________________
وهذه
القصيدة مسطورة في المفضليات وعدتها واحد وأربعون بيتاً .
وأفناء العشيرة : أوباشهم يقال : هو من أفناء الناس : إذا لم يعلم ممن هو . و دارة
موضوع : اسم مكان وكذلك الستار وأظلم موضعان . وقوله : نطاردهم الخ هذا هو العامل
في عشية .
وروي : ( نقاتلهم نستنقذ الجرد كالقنا ** ويستودعون السمهري المقوّما ) وروى ابن
قتيبة : ( نحاربهم نستودع البيض هامهم ** ويستودعون السمهري المقوّما ) والجرد :
الخيل القصيرة الشعور وذلك مدح لها . والسمهري : القنا . والقوّم : المعدل المثقف
.
يقول : نحن نستنقذ الخيل الجرد منهم وهم يستنقذون الرماح منا بأن نطعنهم بها
ونتركها فيهم .
وقوله : لدن غدوة الخ ظرف لنطاردهم أيضاً . والخارجي من الخيل : الجواد في غير نسب
تقدم له كأنه نبغ بالجودة وكذلك الخارجي من كل شيء . والمسوّم : المعلم للحرب .
يقول : إن الناس انكشفوا في هذه الحرب فلم يبق إلا أهل هذه الخيل الأشداء الذين
سوّموا أنفسهم وخيلهم شجاعة وجراءة لأنه لا يثبت عند انهزام الناس إلا الأبطال .
وفي هذه القصيدة بيت من شواه سيبويه وأورده المرادي في باب إعراب الفعل من شرح
الألفية : ( ولولا رجال من رزام بن مازن ** وآل سبيع أو أسوءك علقما ) ( لأقسمت لا
تنفك مني محارب ** على آلة حدباء حتى تندّما ) أورده شاهداً على نصب أسوءك بإضمار
أن بعد أو . ورزام هو رزام بن مازن ثعلبة بن سعد بن ذبيان . ووهم العيني فزعم أنه
أبو حي من تميم قال : وهو رزام بن
____________________
مالك
بن عمرو بن تميم . وسبيع بالتصغير هو سبيع بن عمرو بن فتية مصغر فتاة بن أمة بن
بجالة بن مازن بن ثعلبة بن سعد بن ذبيان . وكان سبيع شريفاً وهو صاحب الرهن التي
وضعت على يديه في حرب عبس وذبيان ولما حضره الموت قال لابنه مالك بن سبيع : إن
عندي مكرمة لا تبيد أبداً إن احتفظت بهذه الأغيلمة . . وعلقم منادى مرخّم علقمة
وهو علقمة بن عبيد بن عبد بن فتية المذكور . . وآل سبيع بالجر عطفاً على مجرور من
. وأسوءك مؤول بمصدر معطوف على وقوله : لأقسمت لا تنفك الخ هو جواب لولا . وقوله :
لا تنفك الخ جواب القسم . ومحارب : )
قبيلة وهو محارب بن خصفة بن قيس بن عيلان . والآلة : الحالة والحدباء بالحاء
المهملة : الصعبة . والمعنى : لولا أن هؤلاء الرجال أو مساءتك لحملت على أمر عظيم
صعب لا تطمئن عليه إذا ركبته . وتندّم أصله تتندم بتاءين فحذف إحداهما .
وأما ضرار بن الأزور فهو مالك بن أوس بن جذيمة بن ربيعة بن مالك بن ثعلبة بن دودان
بن أسد بن خزيمة الأسدي . الفارس الشاعر الصحابي . أتى النبي صلى الله عليه وسلم
وأنشده : ( خلعت القداح وعفت القيا ** ن والخمر تقلية واستهالا )
____________________
(
وكرّي المحبر في غمرة ** وجهدي على المسلمين القتالا ) ( فيا ربّ لا أغبنن بيعتي
** فقد بعت أهلي ومالي بدالا ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : ربح البيع .
قال ابغوي : ولا أعلم لضرار غيرها ويقال : إنه كان له ألف بعير برعاتها فترك جميع
ذلك وحضر وقعة اليرموك وفتح الشام . وكان خالد بن الوليد بعثه في سرية فأغار على
حي من أسد فأخذوا امرأة جميلة فسأل ضرار أصحابه أن يهبوها له ففعلوا فوطئها ثم ندم
فذكر ذلك لخالد فكتب إلى عمر رضي الله عنه فكتب إليه : أن أرضخه بالحجارة فجاء
الكتاب وقد مات ضرار . وقيل : إنه ممن شرب الخمر مع أبي جندل فكتب فيهم أبو عبيدة
إلى عمر فكتب إليه عمر : أن ادعهم فسائلهم فإن قالوا إنها حلال فاقتلهم وإن زعموا
أنها حرام فاجلدهم ففعل فقالوا : إنها حرام فجلدهم .
وضرار هو الذي قتل مالك بن نويرة بأمر خالد بن الوليد كما تقدم شرحه مفصّلاً في
الشاهد السادس والثماني واختلف في وفاة ضرار فقال الواقدي : استشهد باليمامة .
وقال موسى بن عقبة : بأجنادين . وقيل : نزل حران فمات بها . والله أعلم .
وأما الحصين بن الحمام المري فهو جاهلي . وهو بضم الحاء وفتح الصاد المهملتين .
والحمام بضم الحاء المهملة وتخفيف الميم . وهو فارس شاعر .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو من بني مرة جاهلي يعد من أوفياء العرب . قال
أبو عبيدة : اتفقوا على أن أشعر المقلّين ثلاثة : المسيب بن علس والحصين بن الحمام
والمتلمّس .
____________________
وهذه نسبته كما في الجمهرة وشرح المفضليات : الحصين بن الحمام بن ربيعة بن مساب
بضم )
الميم وتخفيف السين بن حرام بن وائلة بن سهم بن مرة بن عوف بن سعد بن ذبيان بن
بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان بن مضر بن نزار .
الشاهد الثالث والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد س : ( ولا عيب فيهم غير أن
سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب ) على انه عند سيبويه استثناء منقطع جعل
كالمتصل لصحة دخول البدل في المبدل منه . وبينه الشارح المحقق أحسن بيان .
وقوله : أن سيوفهم الخ مؤول بمصدر مجرور أي : غير كون سيوفهم بها فلول الخ .
والفلول : جمع فلّ بفتح الفاء وهو كسر في حدّ السيف وسيف أفلّ بين الفلل يقال :
فلّه فانفلّ أي : كسره فانكسر وفللت الجيش أي هزمتهم . والقراع : المضاربة مصدر
قارعه يقال قرعته بالمقرعة : إذا ضربته بها وقرعت الباب : إذا طرقته . والكتائب :
جمع كتيبة وهي الطائفة المجتمعة من الجيش .
وهذا البيت مشهور قد تداوله العلماء في تصانيفهم وقد أورده علماء البديع
____________________
شاهداً
لتأكيد المدح بما يشبه الذمّ فإنه نفى العيب عن هؤلاء القوم على جهة الاستغراق ثم
أثبت لهم عيباً وهو تثلم سيوفهم من مضاربة الجيوش . وهذا ليس بعيب بل هو غاية
المدح فقد أكد المدح بما يشبه الذم . وأورده صاحب الكشاف أيضاً عند قوله تعالى :
لئلا يكون للناس عليكم حجة على أن الآية أشبه بتأكيد الذم بما يشبه المدح : عكس
البيت فإن إطلاق الحجة على قول الذين ظلموا ذم في صورة مدح لا أنه مدح في صورة ذم
.
وأورده سيبويه في باب ما لايكون إلا على معنى ولكن . قال النحاس : فرق سيبويه بين
هذا الباب وبين الباب الذي قبله لأن الذي قبله يجوز فيه الرفع والنصب والنصب أجود
وهذا الباب لا يجوز فيه عنده غلا النصب لنه ليس من الأول في شيء . وأجاز المبرد في
جميع ما في هذا الباب الرفع وكذا في : لا عيب فيهم غير أن سيوفهم انتهى .
وعلى قول المبرد فتكون غير بدلاً من الضمير المستقر في الظرف .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني مدح بها عمرو بن الحارث الأصغر بن الحارث
الأعرج بن الحارث الأكبر ملوك الشام الغسانيين وذلك لما هرب من النعمان بن المنذر
اللخمي من )
ملوك الحيرة . وليس الممدوح بها النعمان بن الحارث كما وهم شارح شواهد المغني
لتصريح الممدوح بها في القصيدة كما سيأتي . ومطلع القصيدة : ( كليني لهمّ يا أميمة
ناصب ** وليل أقاسيه بطيء الكواكب ) وتقدم شرح هذا البيت وسبب هروبه في الشاهد
السابع والثلاثين بعد المائة
____________________
مفصلاً
. وقال بعد ثلاثة أبيات شرحت هناك : ( لئن كان للقبرين قبر بجلّق ** وقبر بصيداء
التي عند حارب ) ( وللحارث الجفنيّ سيد قومه ** ليلتمسن بالجمع أرض المحارب )
البيت الأول من شواهد سيبويه أورده بنصب ما بعد إلا على الاستثناء المنقطع لأن حسن
الظن ليس من العلم . ورفعه جائز على البدل من موضع العلم وإقامة الظن مقام العلم
اتساعاً ومجازاً . وقوله : غير ذي مثنوية هو مصدر بمعنى الاستثناء في اليمين أي :
حلفت غير مستثن في يميني ثقة بفعل هذا الممدوح وحسن ظن به .
وروى أبو عبيدة : وما ذاك إلا حسن ظن بصاحب وعليه فلا شاهد فيه والإشارة لليمين .
. وجملة المصراع الثاني على الروايتين معترضة بين القسم وجوابه . وقوله : لئن كان
للقبرين الخ اللام الداخلة على إن موطئة للقسم أي : وطأت أن الجواب الذي بعد الشرط
للقسم فجملة قوله الآتي : ليلتمسن بالجمع الخ جواب القسم . وجواب الشرط محذوف دل
عليه جواب القسم واسم كان ضمير عمرو الممدوح المتقدم في قوله : ( علي لعمرو نعمة
بعد نعمة ** لوالده ليست بذات عقارب ) وأراد بالقبرين المقبورين : الحارث الأعرج
ابن الحارث الأكبر وهو الجفني الآتي ذكره . يقول : لئن كان عمرو ابن هذين الرجلين
المقبورين في هذين المكانين ليمضينّ أمره وليلتمسن أرض من حاربه . وجلّق بكسر
الجيم واللام المشددة هي الشام . وصيداء مدينة بالشام بالساحل .
وحارب : موضع وقيل اسم رجل .
____________________
وقوله : للحارث الجفني الخ بفتح الجيم وهو جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن ماء
السماء وهم الملوك الذين كانوا بالشام . وقوله : ليلتمسن هذا جواب القسم مؤكد
بالنون الخفيفة . وقوله : بالجمع أي : بجموع العساكر والجيوش . )
وقال بعدما ذكر : ( لهم شيمة لم يعطها الله غيرهم ** من الناس والأحلام غير عوازب
) ( مجلتهم ذات الإله ودينهم ** قويم فما يرجون غير العواقب ) والشيمة : الطبيعة .
وقوله : والأحلام الخ أي : لا تعزب عقولهم عنهم كما تعزب الماشية عن أهلها أي : لا
تغيب . وقوله : مجلتهم ذات الإله المجلة بفتح الميم والجيم : الكتاب لأنه يجلّ
ويعظّم وأراد به الإنجيل لأنهم كانوا نصارى . قال العسكري في كتاب التصحيف : قرأته
على ابن دريد : مجلتهم بالجيم وقال لي : سمعت أبا حاتم يقول : رواية الأصمعي
بالجيم قال : وهو كتاب النصارى .
وكذا كل كتاب جمع حكمة وأمثالاً فهو عند العرب مجلة ومن هذا سمى أبو عبيدة كتابه
الذي جمع فيه أمثال العرب المجلة . وروى أيضاً : محلتهم بالحاء المهملة أي :
منزلتهم بيت المقدس وأرض الشام ومنازل الأنبياء وهي القدس . وروى ابن السكيت :
مخافتهم يريد يخافون أمر الله . وذات الإله : كتابه . وقويم : مستقيم . وقوله :
فما يرجون الخ قال الأصمعي : أي : ما يطلبون إلا عواقب أمورهم فليس يرجون شيئاً من
أمر الدنيا وإنما يرجون ما بعد الموت .
____________________
وبعد البيت المستشهد به أعني قوله : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم ( تخيّرن من أزمان
يوم حليمة ** إلى اليوم قد جرّبن كل التجارب ) وأورده ابن هشام ف يالمغني على أن
من تأتي لابتداء الغاية في الزمان أيضاً وهو مذهب الكوفيين والأخفش والمبرد وابن
درستويه بدليل : من أول يوم .
وفي الحديث : فمطرنا من الجمعة إلى الجمعة . وهذا البيت . وقيل : التقدير : من مضي
أزمان ومن تأسيس أول يوم . وردّه السهيلي بأنه لو كان هكذا لاحتيج إلى تقدير
الزمان وتخيرن وجربن كلاهما بالبناء للمفعول والنون ضمير السيوف . والتجارب : جمع
تجربة . وكل منصوب على المصدر . وإلى متعلقة بقوله تخيّرن .
ويوم حليمة قال العسكري ف يالتصحيف : هو يوم كان بين ملوك الشام من الغسانيين
وملوك العراق قتل فيه المنذر غما جد النعمان أو أبوه وقيل في هذا اليوم ما يوم
حليمة بسرّ انتهى . )
وفي الدرة الفاخرة لحمزة الأصبهاني وهي الأمثال التي جاءت على وزن أفعل التفضيل
وكذلك في مستقصى الأمثال للزمخشري واللفظ للأول : أعز من حليمة هي بنت الحارث بن
أبي شمر الغساني الأعرج ملك عرب الشام وفيها
____________________
سار
المثل فقيل : ما يوم حليمة بسر أي : خفي .
وهذا اليوم هو اليوم الذي قتل فيه المنذر بن المنذر ملك عرب العراق فسار بعربها
إلى الحارث الأعرج الغساني وهو ابن الحارث الأكبر وكان في عرب الشام وهو أشهر أيام
العرب . وإنما نسب هذا اليوم إلى حليمة لأنها حضرت المعركة محضضة لعسكر أبيها
فتزعم العرب أن الغبار ارتفع في يوم حليمة حتى سدّ عين الشمس وظهرت الكواكب
المتباعدة من مطلع الشمس فسار المثل بهذا اليوم قالوا : لأرينك الكواكب ظهرا .
وأخذه طرفة فقال : ( إن تنوّله فقد تمنعه ** وتريه النجم يجري بالظهر اه ) وفي شرح
ديوان النابغة : سبب ذلك أن الملك كان في الضجاعم فأتى رجل منهم رجلاً من غسان
يقال له جذع فسأله الخراج فأعطاه ديناراً فقال : هات آخر وشدد عليه فاستأجله فلم
يفعل فلما ضيق عليه دخل جذع منزله فالتحف على سيفه ثم خرج فضرب به الضجعمي فقتله .
فقال القاتل : خذ من جذع ما أعطاك . ووثبت غسان ورأسوا عليهم رجلاً ثم أوقعوا
بالضجاعم فغلبتهم غسان وأخذت الملك منهم . . وأما حليمة فهي ابنة الغساني الذي رئس
عليهم وكانت من اجمل النساء فأعطاها طيباً وأمرها أن تطيّب من مرّ بها من جنده
فجعلوا يمرون بها وتطيبهم فمر بها شاب فلما طيبته تناولها فقبلها فصاحت وشكت ذلك
إلى أبيها فال : اسكتي فما في القوم أجلد منه حين فعل هذا بك واجترأ عليك فإنه إما
أن يبلي بلاء حسناً فأنت امرأته وإما أن يقتل فذاك أشد عليه مما تريدين به من
العقوبة فأبلى الفتى ثم رجع فزوّجه ابنته حليمة انتهى .
وفي القاموس : وحليمة بنت الحارث بن أبي شمر وجه أبوها جيشاً إلى المنذر بن ماء
السماء فأخرجت لهم مركناً من طيب وطيبتهم منه والمركن
____________________
بكسر
الميم : الإجانة التي تغسل فيها الثياب وسببه : أن غسان كانت تؤدي كل سنة إلى ملك
سليح دينارين من كل رجل وكان يلي ذلك سبطة بن المنذر السليحي فجاء سبطة يسأل
الدينارين من جذع بن عمرو الغساني فدخل جذع منزله فخرج مشتملاً بسيفه فضرب به سبطة
حتى برد وقال : خذ من جذع ما )
أعطاك . يضرب في اغتنام ما يجود به البخيل . وسليح كجريح : قبيلة باليمن . وجذع
بكسر الجيم وسكون الذال المعجمة ثم إن جيش الحارث توجه إلى المنذر فقالوا : أتينا
من عند صاحبنا وهو يدين لك ويعطيك حاجتك فتباشر هو وأصحابه وغفلوا بعض الغفلة فحمل
ذلك الجيش على المنذر فقتلوه . فقيل في ذلك اليوم : ما يوم حليمة بسر أي : بخفي .
فصار يضرب لكل أمر مشهور .
وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
وانشد بعده وهو الشاهد الرابع والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : ( فتىً
كملت أخلاقه غير أنه ** جواد فما يبقي من لمال باقيا ) لما تقدم بله . قال ابن جني
في إعراب الحماسة : أخبرنا أبو بكر محمد بن الحسن قراءة عليه عن أحمد بن يحيى قال
: لما أنشدته يعني ابن الأعرابي قول الشاعر : ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم
____________________
قال
: هذا استثناء قيس يقولون : غير أن هذا أشرف من هذا وهذا أطرف من هذا . يكون ( فتى
تمّ فيه ما يسرّ صديقه ** على أن فيه ما يسوء الأعاديا ) انقضت الحكاية . وهذا
الاستثناء على إغرابه جار مجرى الاستثناء المعهود ألا ترى أنه إذا قال : فتىً تمّ
فيه ما يسر صديقه جاز أن يظن أنه مقصور على هذا وحده فإذا قال : على أن فيه ما
يسوء عاديا أزال هذا الظن وصار معناه أن فيه مسرة لأوليائه ومساءة لأعدائه وليس
مقصوراً على أحد الأمرين . فهو إخراج شيء من شيء لخلاف الثاني الأول . وكذلك : فتى
كملت أخلاقه . . البيت لما كان إتلافه للمال عيباً عند كثير من الناس استثنى هذه
الحالة فأخرجها من جملة خلال المدح لمخالفتها إياها عندهم وعلى مذهبهم . وليس شيء
يعقد على أصله فيخرج عنه شيء منه في الظاهر إلا وهو عائد إليه وداخل فيه في الباطن
مع التأمل .
انتهى كلامه .
وأورده علماء البديع أيضاً في باب تأكيد المدح بما يشبه الذم .
وهذا البيت من أبيات للنابغة الجعدي رثى بها أخاه . وقد أوردها أبو تمام في باب
المراثي من )
الحماسة وهي من قصيدة . . وقبله : ( ألم تعلمي أني رزئت محارباً ** فما لك منه
اليوم شيء ولا ليا )
____________________
(
ومن قبله ما قد رزئت بوحوح ** وكان ابن أمي والخليل المصافيا ) ( فتى تم فيه مايسر
صديقه ** على أن فيه ما يسوء الأعاديا ) ( يقول لمن يلحاه في بذل ماله ** أأنفق
أيامي وأترك ماليا ) ( يدر العروق بالسنان ويشتري ** من الحمد ما يبقى وإن كان
غاليا ) قوله : ألم تعلمي الخ يخاطب امرأته . ومحارب قال أبو عبيد البكري في شرح
نوادر القالي : هو محارب بن قيس بن عدس من أشراف قومه . وهو تفجع وتوجع .
يقول : قد فجعنا به فأصبحنا لا نستمتع به ولا ننتفع بمكانه . ثم ذكر أنه قد فجع
قبله بأخيه وحوح وهو مأخوذ من قولهم وحوح الرجل : إذا ردد صوتاً في صدره وهو نحو
النحنحة .
وقوله : فتىً كملت الخ روي أيضاً : فتى كملت فيه المروءة ويجوز أن يحمل الفتى على
ابنه وعلى أخيه . . . قال المرزباني في الموشح : أخبرني الصولي عن أبي العيناء عن
الأصمعي قال : أنشدت الرشيد أبيات النابغة الجعدي من قصيدته الطويلة : فتى تم فيه
ما يسر صديقه فتى كملت أعراقه غير أنه ( أشم طويل الساعدين سميدع ** إذا لم يرح
للمجد أصبح غاديا ) فقال الرشيد : ويله لم لم يروحه في المجد كما أغداه ألا قال :
____________________
فقلت
: أنت والله يا أمير المؤمنين في هذا أعلم منه بالشعر .
ومن أبيات الغزل في هذه القصيدة ( بدت فعل ود فلما تبعتها ** تولت وبقت حاجتي في
فؤاديا ) ( وحلت سواد القلب لا أنا باغياً ** سواها ولا في حبها متراخيا ) قال
شارح أبيات الموشح : قوله فعل ذي ود إما مصدر لبدت لأن المصادر وما يشتق منها يعبر
عنها بلف الفعل قال تعالى : والذين هم للزكاة فاعلون أو لفعل محذوف أي : بدت وفعلت
فعل ذي ود أي فاعلةً فعله . وقال العيني : هو بتقدير : كفعل ذي ود والمعنى : فعلت
معي فعل ذي محبة . . . )
وقوله : وحلت سواد القلب هذا البيت من شواهد النحاة أوردوه شاهداً على عمل لا عمل
ليس في المعرفة وهو شاذ . وأجيب عنه بوجهين : أحدهما : أن الأصل لا أرى باغياً
فلما حذف الفعل برز الضمير فباغياً حال . والثاني : أن أنا مبتدأ والفعل المقدر
المذكور خبره .
وروي : لا أنا مبتغ سواها وعليه لا شاهد فيه .
وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس والعشرون بعد المائتين
____________________
على
أن ليس ولا يكون وخلا وعدا لا يستعملن في الاستثناء المفرغ وقد جاء التفريغ في ليس
كما في البيت فإن المستثنى منه محذوف أي : ما ترك الصنع شيئاً إلا جلداً وأعظماً .
فالمنصوب بعد ليس خبرها واسمها قد بينه الشارح . والرواية إنما هي فما ترك الصنع
الذي قد صنعته بالخطاب مع عمر بن عبد العزيز أراد بصنعه تقريب ضده : زيد بن أسلم
وما عامل به الأحوص من الجفاء . وقوله : ولا الغيظ عطف على الصنع . ثم ذكر الشارح
أن هذه الأفعال لم تستعمل إلا في الاستثناء المتصل . . أقول : قد وردت خلا في
الاستثناء المنقطع كقول العجاج وهو من أبياته كما مر شرحه : ( وبلدة ليس بها طوري
** ولا خلا الجن بها إنسي ) فإن قوله إنسي هو المستثنى منه والجن هو المستثنى وجنس
كل منهما مغاير لجنس الآخر .
والبيت من قصيدة للأحوص الأنصاري وتقدمت ترجمته في الشاهد الخامس والثمانين روى
صاحب الأغاني بسنده : أن عمر بن عبد العزيز لما ولي الخلافة أدنى زيد بن أسلم وجفا
الأحوص فقال له الأحوص :
____________________
(
ألست أبا حفص هديت مخبري ** أفي الحق أن أقصى وتدني ابن أسلما ) فقال عمر ذلك هو
الحق قال الزبير وأنشدنيها عبد الملك ابن الماجشون ( ألا صلة الأرحام أقرب للتقى
** وأظهر في أكفائه لو تكرما ) ( فما ترك الصنع الذي قد صنعته ** ولا الغيظ مني
ليس جلداً وأعظما ) ( وكنا ذوي قربى إليك فأصبحت ** قرابتنا ثدياً أجد مصرما ) (
وكنت لما أرجوه منك كبارق ** لوى قطره من بعد ما كان غيما ) ( وقد كنت أرجى الناس
عندي مودة ** ليالي كان الظن غيباً مرجما ) ) ( أعدك حرزاً إن جنيت ظلامة **
ومالاً ثرياً حين أحمل مغرما ) ( تدارك بعتبى عاتباً ذا قرابة ** طوى الغيظ لم
يفتح بسخط له فما ) وهذه القصيدة أرسلها إلى عمر وهو منفي بدهلك كان سليمان بن عبد
الملك قد نفاه لما تقدم في ترجمته فبقي هناك محبوساً مدة سليمان ثم ولي عمر بن عبد
العزيز فكتب إليه يستأذنه في القدوم ويمدحه فأبى أن يأذن له . وكان فيما كتب إليه
: ( أيا راكباً إما عرضت فبلغن ** هديت أمير المؤمنين رسائلي ) ( وقل لأبي حفص إذا
ما لقيته ** لقد كنت نفاعاً قليل الغوائل ) ( فكيف ترى للعيش طيباً ولذة ** وخالك
أمسى موثقاً في الحبائل )
____________________
وأنشد
بعده وهو ( وكل أبي باسل غير أنني ** إذا عرضت أولى الطرائد أبسل ) على أن غيراً
تستعمل في الاستثناء المتصل . وقد مر مافيه آنفاً .
وهذا البيت من قصيدة مشهورة للشنفرى تسمى لامية العرب مطلعها : ( أقيموا بني أمي
صدور مطيكم ** فإني إلى قوم سواكم لأميل ) ( فقد حمت الحاجات والليل مقمر ** وشدت
لطيات مطايا وأرحل ) ( وفي الأرض منأى للكريم عن الأذى ** وفيها لمن خاف القلى
متغزل ) ( لعمرك ما بالأرض ضيق على امرئ ** سرى راغباً أو راهباً وهو يعقل ) ( ولي
دونكم أهلون : سيد عملس ** وأرقط زهلول وعرفاء جيال ) ( هم الأهل لا مستودع السر
ذائع ** لديهم ولا الجاني بما جر يخذل ) وكل أبي باسل غير أنني ( وإن مدت الأيدي
إلى الزاد لم أكن ** بأعجلهم إذ أجشع القوم أعجل )
____________________
(
وما ذاك إلا بسطة عن تفضل ** عليهم وكان الأفضل المتفضل ) وهذه القصيدة قد شرحها
جماعة منهم الخطيب التبريزي والزمخشري وابن الشجري وابن أكرم . ولم يحضرني الآن
غير الأول والثاني : قال القالي في أماليه : إن القصيدة المنسوبة إلى الشنفرى التي
أولها : أقيموا بني أمي صدور مطيكم له هي من المقدمات في الحسن والفصاحة والطول .
وكان أقدر الناس على قافية . انتهى . )
وعدتها ثمانية وستون بيتاً وقد استشهد الشارح منها بستة أبيات أخر في باب الجمع
وفي الأفعال الناقصة وفي رب من حروف الجر وفي حروف الشرط . وقوله : أقيموا بني أمي
الخ يقال : أقام صدر مطيته . إذا جد في السير وكذلك إذا جد في أمر كان . يؤذن قومه
بالرحيل وأن غفلتهم عنه توجب مفارقتهم . و بني أمي : منادى وأضاف الأبناء إلى الأم
لأنها أشد شفقة كما قيل في قوله تعالى حكاية عن هرون : يا ابن أم . و أميل هنا
بمعنى مائل ونظيره كثير نحو أكبر وأوحد .
وقوله : فقد حمت الحاجات الخ يريد تنبهوا من رقدتكم فهذا وقت الحاجة ولا عذر لكم
فإن الليل كالنهار في الضوء والآلة حاضرة . و حمت بضم الحاء المهملة يقال : حم
الشيء بالبناء للمفعول أي : قدر وهيئ .
وأقمر الليل أي : أضاء . و الطية بكسر الطاء المهملة قال صاحب الصحاح : الطية
النية قال الخليل : الطية تكون منزلاً وتكون منتأى تقول : مضى لطيته أي : لنيته
التي انتواها وبعدت عنا طيته وهو المنزل الذي انتواه ومضى لطيته وطية بعيدة : أي
شاسعة .
____________________
وقوله : وفي الأرض منأى الخ المنأى : اسم مكان من نأى أي : بعد وهو متعلق قوله عن
الأذى . و القلى بكسر القاف : البغض وإن فتحتها مددت . ومتعزل بفتح الزاء : اسم
مكان من تعزله بمعنى اعتزله .
وقوله : ولي دونكم الخ أورد الشارح هذا البيت في باب الجمع . ودون هنا بمعنى غير .
و السيد بكسر السين : الذئب والأنثى سيدة وربما سمي به الأسد . و العملس بفتح
العين والميم واللام المشددة : القوي على السير السريع . وأراد بالأرقط النمر وهو
ما فيه سواد يشوبه نقط بيض . و الزهلول بضم الزاي : الأملس وفي العباب : يقال
للضبع عرفاء لكثرة شعر رقبتها . وأنشد هذا البيت . و جيأل على وزن فيعل : اسم
للضبع معرفة وتكون بدلاً من عرفاء وهو غير منصرف للعلمية والتأنيث .
وقوله : هم الأهل الخ أي : ما ذكرته من الوحوش هم الأهل لا غيرهم . وبين وجه
انحصار الأهلية فيهم دون من عداهم من الإنس بقوله : لا مستودع السر إلى آخره أي :
السر المستودع عندهم غير ذائع . والجاني : اسم فاعل من جنى عليه جناية أي : أذنب .
والباء سببية . وجر بمعنى جنى يقال : جر عليهم جريرةً أي : جنى عليهم جناية ويخذل
بالبناء للمفعول من خذلته )
وخذلت عنه من باب قتل والاسم الخذلان : إذا تركت نصرته وإعانته وتأخرت عنه .
فهو آب وأبي .
والباسل : الجريء الشجيع من بسل بسالة مثل ضخم ضخامة بمعنى شجع فهو باسل .
وقوله : غير أنني الخ استثناء منقطع . وعرضت من عرض له كذا من باب ضرب : أي : ظهر
.
وأولى : مؤنث الأول . والطريدة : ما طردت من صيد وغيره والمراد هنا الفرسان
ومطاردة الأقران في الحرب إذا حمل بعضهم على بعض يقال : هم فرسان الطراد . وأبسل :
أفعل تفضيل .
وقوله : وإن مدت الأيدي الخ وصف عدم شرهه على الطعام وصبره على الجوع . وهذا مدح
عند العرب . والزاد : ما يؤكل وأصله الطعام المتخذ
____________________
للسفر
. والباء في قوله : بأعجلهم زائدة دخلت في خبر الكون المنفي . وقد استشهد له شراح
الألفية بهذا البيت . وأجشع : أفعل تفضيل من الجشع بفتحتين وهو أشد الحرص وفعله من
باب فرح . وأعجل الأول بمعنى عجل بفتح فكسر لا أنه أفعل تفضيل كالثاني لأن مراده
أن ينفي العجلة كبير مدح . والشرط والجواب هنا كلهما حكاية حال ماضية ولذلك صح
وقوع لم في جواب الشرط .
وقوله : وما ذاك إلا بسطة الخ الإشارة راجعة إلى عدم مد يده إلى الزاد مستعجلاً
وقيل راجعة إلى مجموع ما مدح به نفسه . والبسطة : السعة . والتفضل : الإنعام يقال
: تفضل عليه وأفضل إفضالاً بمعنى . والأفضل خبر كان تقدم على اسمها وهو المتفضل .
والشنفرى شاعر جاهلي قحطاني من الأزد . وهو كما في الجمهرة وغيرها من بني الحارث
بن ربيعة بن الأواس بن الحجر بن الهنء بن الأزد . وهو بفتح الشين وآخره ألف مقصورة
وهو اسمه .
والأواس بفتح الهمزة . والحجر بفتح الحاء المهملة وسكون الجيم . والهنء بتثليث
الهاء وسكون النون وبعدها همزة .
وزعم بعضهم أن الشنفرى لقبه ومعناه عظيم الشفة وأن اسمه ثابت بن جابر . وهذه غلظ
كما غلظ العيني في زعمه أن اسمه عمرو بن براق بفتح الباء وتشديد الراء المهملة بل
هما صاحباه في التلصص وكان الثلاثة أعدى العدائين في العرب لم تلحقهم الخيل ولكن
جرى المثل بالشنفرى فقيل : أعدى من الشنفرى .
ومن حديثه ما ذكره أبو عمرو الشيباني كما نقله ابن الأنباري في شرح
____________________
المفضليات
وحمزة الأصبهاني في الدرة الفاخرة قال : أغار تأبط شراً وهو ثابت بن جابر والشنفرى
)
الأزدي وعمرو بن براق على بجيلة بفتح الباء وكسر الجيم . فوجدوا بجيلة قد أقعدوا
لهم على الماء رصداً فلما مالوا له في جوف الليل قال لهم تأبط شراً : إن بالماء
رصداً . وإني لأسمع وجيب قلوب القوم أي : اضطراب قلوبهم قالوا : والله ما نسمع
شيئاً ولا هو إلا قلبك يجب فوضع يده على قلبه فقال : والله ما يجب وما كان وجاباً
قالوا : فلا والله ما لنا بد من ورود الماء فخرج الشنفرى فلما رآه الرصد عرفوه
فتركوه فشرب ثم رجع إلى أصحابه فقال : والله ما بالماء أحد ولقد شربت من الحوض
فقال تأبط شراً : بلى لا يريدونك ولكن يريدونني .
ثم ذهب ابن براق فشرب ثم رجع فلم يعرضوا له فقال : ليس بالماء أحد فقال تأبط شراً
: بلى لا يريدونك ولكن يريدونني ثم قال للشنفرى : إذا أنا كرعت في الحوض فإن القوم
سيشدون علي فيأسرونني فاذهب كأنك تهرب ثم ارجع فكن في أصل ذلك القرن فإذا سمعتني
أقول : خذوا خذوا فتعال فاطلقني . وقال لابن براق : إني سآمرك إن تستأسر للقوم فلا
تبعد منهم ولا تمكنهم من نفسك .
ثم أقبل تأبط شراً حتى ورد الماء فلما كرع في الحوض شدوا عليه فأخذوه وكتفوه بوتر
وطار الشنفرى فأتى حيث أمره وانحاز ابن براق حيث يرونه فقال تأبط شراً : يا بجيلة
هل لكم في خير هل لكم أن تياسرونا في الفداء ويستأسر لكم ابن براق فقالوا : نعم
ويلك يا ابن براق إن الشنفرى قد طار فهو يصطلي نار بني فلان وقد علمت الذي بيننا
وبين أهلك فهل لك أن تستأسر ويياسرونا في الفداء فقال : أما والله حتى أروز نفسي
شوطاً أو شوطين .
فجعل يعدو في قبل الجبل ثم يرجع حتى إذا رأوا أنه قد أعيا وطمعوا فيه اتبعوه ونادى
تأبط شراً : خذوا خذوا فذهبوا يسعون في أثره فجعل يطعمهم ويبعد عنهم ورجع الشنفرى
إلى تأبط شراً فقطع وثاقه فلما رآه ابن براق قد قطع عنه انطلق وكر إلى تأبط شراً
فإذا هو قائم فقال : أعجبكم يا معشر بجيلة عدو
____________________
ابن
براق أما والله لأعدون لكم عدواً أنسيكموه ثم انطلق هو والشنفرى . انتهى .
ومن المشهورين في العدو السليك بن السلكة وهو تميمي من بني سعد . والسليك بالتصغير
: فرخ الحجلة والنثى سلكة بضم السين وفتح اللام وهي اسم أمه وكانت سوداء وإليها
نسب .
وذكر أبو عبيدة السليك في العدائين مع المنتشر بن وهب الباهلي وأوفى بن مطر
المازني . )
والمثل للسليك من بينهم فقيل : أعدى من السليك .
ومن حديثه فيما ذكره أبو عبيدة كما نقله حمزة الأصبهاني في الدرة الفاخرة : أن
السليك رأته طلائع لجيش بكر بن وائل جاؤوا متجردين ليغيروا على بني تميم ولا يعلم
بهم فقالوا : إن علم بنا السليك أنذر قومه فبعثوا إليه فارسين على جوادين فلما
هايجاه خرج يعدو كأنه ظبي فطارداه يوماً أجمع ثم قالا : إذا كان الليل أعيا فيسقط
فنأخذه .
فلما أصبحا وجدا أثره قد عثر بأصل شجرة وقد وثب وانحطمت قوسه فوجدا قطعة منها قد
ارتزت بالأرض فقالا : لعل هذا كان من أول الليل ثم فتر فتبعاه فإذا أثره متفاجاً
قد بال في الأرض وخدها فقالا : ماله قاتله الله ما أشد متنه والله لا نتبعه
فانصرفا . ووصل السليك إلى قومه فأنذرهم فكذبوه لبعد الغاية وجاء الجيش فأغاروا
عليهم .
رجعنا إلى حديث الشنفرى . روى الأصبهاني في الأغاني وابن الأنباري في شرح
المفضليات : أن الشنفرى أسرته بنو شبابة وهم حي من فهم بن عمرو بن قيس عيلان وهو
غلام صغير فلم يزل فيهم حتى أسرت بنو سلامان بن
____________________
مفرج
بسكون الفاء وآخره جيم رجلاً من فهم ثم أحد بني شبابة بفتح الشين المعجمة ففدته
بنو شبابة بالشنفرى فكان الشنفرى في بني سلامان بفتح المهملة يظن أنه أحدهم حتى
نازعته ابنة الرجل الذي كان في حجره وكان قد اتخذه ابناً فقال لها : اغسلي رأسي يا
أخية فأنكرت أن يكون أخاها فلطمته فذهب مغاضباً إلى الذي هو في حجره فقال له :
أخبرني من أنا فقال له : أنت من الأواس بن الحجر فقال : أما إني سأقتل منكم مائة
رجل بما اعتبدتموني ثم إن الشنفرى لزم دار فهم وكان يغير على بني سلامان على رجليه
فيمن تبعه من فهم وكان يغير عليهم وحده أكثر وما زال يقتل منهم حتى قتل تسعة
وتسعين رجلاً حتى قعد له في مكان أسيد بن جابر السلاماني بفتح الهمزة وكسر السين
ومع أسيد ابن أخيه وخازم البقمي وكان الشنفرى قتل أخا أسيد بن جابر فمر عليهم
الشنفرى فأبصر السواد بالليل فرماه وكان لا يرى سواداً إلا رماه فشك ذراع ابن أخي
أسيد إلى عضده فلم يتكلم وكان خازم منبطحاً يرصده فقطع الشنفرى بضربة أصبعين من
أصابع خازم وضبطه خازم حتى لحقه أسيد وابن أخيه فأخذوا سلاح الشنفرى وأسروه وأدوه
إلى أهلهم وقالوا له : أنشدنا فقال : إنما النشيد على المسرة فذهبت مثلاً . ثم
ضربوا يده فقطعوها ثم قالوا له حين أرادوا قتله أين نقبرك فقال : ) ( لا تقبروني
إن قبري محرم ** عليكم ولكن أبشري أم عامر ) ( إذا احتملت رأسي وفي الرأس أكثري **
وغودر عند الملتقى ثم سائري ) ( هنالك لا أرجو حياةً تسرني ** سجيس الليالي مبسلاً
بالجرائر ) وكانت حلفة الشنفرى على مائة قتيل من بني سلامان فبقي عليه منهم رجل
إلى أن قتل . فمر رجل من بني سلامان بجمجمته فضرها برجله فعقرته فتم به عدد
____________________
المائة
. . وذرع خطو الشنفرى يوم قتل فوجد أول نزوة نزاها إحدى وعشرين خطوةً والثانية سبع
عشرة خطوةً . . .
وكان حرام بن جابر أخو أسيد بن جابر المذكور قتل أبا الشنفرى ولما قدم منى وبها
حرام بن جابر فقيل للشنفرى : هذا قاتل أبيك فشد عليه فقتله ثم سبق الناس على رجليه
وقال : ( قتلت حراماً مهدياً بملبد ** ببطن منى وسط الحجيج المصوت ) وقيل في سبب
قتل الشنفرى غير هذا وهو مسطور في شرح المفضليات والأغاني .
وأنشد بعده وهو الشاهد السابع والعشرون بعد المائتين وهو من شواهد س : ( في ليلة
لا نرى بها أحداً ** يحكي علينا إلا كواكبها ) على أن قوله كواكبها بالرفع بدل من
الضمير في يحكي الراجع إلى أحد مع أن مرجع الضمير ليس معمولاً للابتداء أو أحد
نواسخه . وأما نرى فهي بصرية والمبصر هو أحد وكواكبها لا أنها قلبية فتكون من
النواسخ خلافاً لسيبويه فيهما أي : في اشتراط مرجع الضمير أن يكون معمولاً
للابتداء أو ناسخه
____________________
وفي
جعله نرى قلبية .
هذا محصلما نقله الشارح المحقق عن سيبويه وليس في كلام سيبويه في هذا المقام واحد
منهما ولعل ما نقله الشارح ثابت في موضع آخر من كتابه . وأما عبارته هنا فهي هذه :
وتقول ما مررت بأحد يقول ذاك إلا عبد الله وما رأيت أحداً يفعل ذلك إلا زيداً .
هذا وجه الكلام .
وإن حملته على الإضمار الذي في الفعل فقلت : غلآ زيد فرفعت فعربي قال الشاعر : (
في ليلة لا نرى بها أحداً ** يحكي علينا إلا كواكبها ) وكذلك ما أظن أحداً يقول
ذلك إلا زيداً . وإن رفعت فجائز حسن . وإنما اختير النصب ها )
هنا لأنهم أرادوا أن يجعلوا المستثنى بمنزلة المبدل منه ولا يكون بدلاً إلا من
منفي لأن المبدل منه منصوب منفي ومضمره مرفوع فأرادوا أن يجعلوا المستثنى بدلاً من
أحد لأنه هو المنفي وجعلوا يقول ذلك وصفاً للمنفي . وقد تكلموا بالآخر لأن معناه
معنى المنفي إذ كان وصفاً لمنفي . انتهى كلام سيبويه .
وهو صريح في عدم اشتراط واحد منهما يدلك عليه عطف قوله : وكذلك ما أظن أحداً يقول
ذلك إلا زيداً على قوله : ما رأيت أحداً يفعل ذلك إلا زيداً فإنه سوى بين الفعل
القلبي والفعل البصري وغيرهما .
ومعنى قوله : تكلموا بالآخر أي : تكلموا بالرفع في المستثنى .
وكذلك في شرح أبيات سيبويه للنحاس والأعلم : قال النحاس : قال محمد بن يزيد : أبدل
الكواكب من المضمر في يحكي ولو أبدله من أحد لكان أجود لأن أحداً منفي في اللفظ
والمعنى والذي في الفعل بعده منفي في المعنى .
قال : ومثل ذلك ما علمت أحداً دخل الدار إلا زيداً وإلا زيد النصب على البدل من
أحد وعلى أصل الاستثناء والرفع على البدل من المضمر انتهى .
قال ابن هشام في المغني في القاعدة التي يعطى الشيء فيها حكم ما أشبهه في معناه من
الباب الثامن : قولهم إن أحداً لايقول ذلك فأوقع أحد في الإثبات لأنه نفس الضمير
المستتر في يقول والضمير في سياق النفي فكأن أحداً كذلك وقال :
____________________
في
ليلة لا نرى بها أحداً فرفع كواكبها بدلاً من ضمير يحكي لأنه راجع إلى أحد وهو
واقع في سياق غير الإيجاب فكان الضمير كذلك .
وقال أيضاً في باب الاستثناء من الجهة الخامسة من الباب الخامس : إن قلت ما رأيت
أحداً يقول ذلك إلا زيد إن رفع زيد فرفعه من وجه وهو كونه بدلاً من ضمير يقول ومنه
هذا البيت . وإن نصب فنصبه من وجهين على البدلية من أحد وعلى الاستثناء . فإن قلت
: ما أحد يقول ذلك إلا زيد فرفعه من وجهين : كون زيد بدلاً من أحد وهو المختار
وكونه بدلاً من ضميره ونصبه من جهة وهو على الاستثناء وسيأتي بيان هذا في الشرح
قريباً .
وقد نقل الدماميني هنا ما اعترض به الشارح المحقق على سيبويه ولم يزد عليه بشيء .
)
وقال ابن الشجري في أماليه : رفع كواكبها على البدل من المضمر في يحكي ولولا
احتياجه إلى تصحيح القافية كان النصب فيها أولى من ثلاثة أوجه : إبدالها من الظاهر
الذي تناوله النفي على الحقيقة والثاني : نصبها على أصل باب الاستثناء كقراءة ابن
عامر : ما فعلوه إلا قليلاً منهم والثالث : أنه استثناء من غير الجنس كقولك : ما
في الدار أحد إلا الخيام . وأهل الحجاز مجمعون فيه على النصب وعلى ذلك أجمع القراء
في قوله تعالى : مالهم به من علم إلا اتباع الظن انتهى .
وقوله : يحكي علينا الحكاية بمعنى الرواية . وعلى بمعنى عن وقد يقال ضمن يحكي معنى
ينم .
قالهما ابن هشام في الباب الأول من المغني .
وهذا البيت نسبه الشارح المحقق إلى عدي بن زيد موافقة لشراح شواهد سيبويه ولم
ينسبه سيبويه في كتابه إلى أحد وإنما أورده غفلاً . وقد تصفحت ديوان عدي بن زيد
مرتين فلم أجده فيه وإنما هذا البيت من أبيات لأحيحة بن الجلاح
____________________
الأنصاري
أثبتها له الأصبهاني في الأغاني وهي : ( يشتاق قلبي إلى مليكة لو ** أمسى قريباً
لمن يطالبها ) ( ما أحسن الجيد من مليكة وال ** لبات إذ زانها ترائبها ) ( يا
ليتني ليلة إذا هجع ال ** ناس ونام الكلاب صاحبها ) ( في ليلة لا نرى بها أحداً **
يحكي علينا إلا كواكبها ) ( ولتبكني ناقة إذا رحلت ** وغاب في سربخ مناكبها ) (
ولتبكني عصبة إذا اجتمعت ** لم يعلم الناس ما عواقبها ) وبهذه الأبيات عرف أن
القافية مرفوعة .
وقوله : لو أمسى الخ لو للتمني واسم أمسى ضمير القلب ومن موصولة بمعنى : التي .
ومليكة بالتصغير : اسم امرأة . وقوله : ما أحسن الجيد ما تعجبية . واللبة بفتح
اللام : موضع القلادة من الصدر . والترائب : جمع تريبة وهي عظام الصدر ما بيت
الترقوتين إلى الثدي .
وقال ابن الشجري : اللبة : الموضع الذي عليه طرف القلادة . والترائب واحدتها تريبة
وقيل تريب وهو الصدر وإنما جمعهما لما حولهما كأنه سمّى ما يجاور اللبة لبّة وما
يجاور التربية تربية كما قالوا : شابت مفارقه . وقوله : يا ليتني ليلة الخ صاحبها
خبر ليت وليلة ظرف )
لصاحبها وإذا بدل منها بدل اشتمال والمضير مقدّر أي : هجع الناس فيها .
وقوله : في ليلة لا نرى بها . . . الخ في ليلة بدل من قوله إذا وجملة لا نرى بها
الخ صفة ليلة ونرى بالنون يوروى بالتاء وهو قريب . وجملة يحكي علينا : صفة أحداً .
وروي بدله : يسعى علينا من سعى به إلى الوالي : إذا وشى به ونمّ عليه .
وقوله : تبكني هو أمر الغائب . والقينة بالفتح : الأمة مغنية كانت كما هنا أو غير
مغنية .
والمزهر بكسر الميم : العود الذي يضرب به من آلات الملاهي . والقهوة : الخمر .
وقوله : إذا رحلت بالبناء للمفعول
____________________
من
رحلت البعير رحلاً من باب نفع : إذا شددت عليه رحله وهو أصغر من القتب .
وقوله : وغاب في سربخ الخ السربخ بفتح السين وسكون الراء المهملتين وفتحالموحدة
وآخره خاء معجمة : الأرض الواسعة . وقوله : ما عواقبها ما استفهامية مبتدأ
وعواقبها الخبر والجملة في موضع مفعولي علم المعلّق عن العمل بالاستفهام .
وقال ابن الشجري في أماليه مشيراً إلى أن هذا البيت لأحيحة بن الجلاح بقوله :
والبيت الذي أنشده سيبلويه شاهداً على جواز الرفع من مقطوعة لرجل من الأنصار . وروي
أنه لما أدخلت حبابة على يزيد بن عبد الملك دخلت وعليها ثياب معصفرة وبيدها دفّ
وهي تصفقه بيدها وتغني بهذه الأبيات : ( ما أحسن الجيد من مليكة وال ** لّبات إذ
زانها ترائبها ) ( يا ليتني ليلةً إذا هجع ال ** ناس ونام الكلاب صاحبها ) ( في
ليلة لا نرى بها أحداً ** يحكي علينا إلا كواكبها ) ثم قال ابن الشجري : ووقع في
أكثر نسخ كتاب سيبويه غير منسوب إلى شاعر مسمّى ووجدته في كتاب لغويّ منسوباً إلى
عدي بن زيد وتصفحت نسختين من ديوان شعر عديّ فلم أجد فيهما هذه المقطوعة بل وجدت
له قصيدة على هذا الوزن وهذه القافية أولها : ( لم أر مثل الأقوام في غبن الأيام
** ينسون ما عواقبها ) ( يرون إخوانهم ومصرعهم ** وكيف تعتاقهم مخالبها ) ( فما
ترجّي النفوس من طلب الخير ** وحب الحياة كاذبها ) ثم قال : قوله : في غبن الأيام
يدلّ على أنهم قد استعملوا الغبن المتحرك الأوسط في البيع )
والأشهر غبنه في البيع غبناً بسكون وسطه والأغلب على الغبن المفتوح أن يستعمل في
الرأي وفعله غبن يغبن مثل فرح يفرح يقال : غبن رأيه والمعنى : في رأيه . ومفعول
الغبن في البيت محذوف أي : في غبن الأيام إياهم . ومما استعمل فيه الغبن المفتوح
الأوسط في البيع قول الأعشى :
____________________
(
لا يقبل الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر ) وقوله : ما عواقبها ما
استفهامية وينسون معلّق كما علّق نقيضه وهو يعلمون والتقدير : ينسون أيّ شيء
عواقبها . ومعنى قوله : وحب الحياة كاذبها أن حب النفوس للحياة قد يستحيل بغضاً
لما يتكرر عليها من الشدائد والآفات التى يتمنى صاحبها الموت كما قال المتنبي : (
كفى بك داء أن ترى الموت شافياً ** وحسب المنايا أن يكنّ أمانيا اه ) وبعد أن نسب
هذه الأبيات صاحب الأغاني لأحيحة بن الجلاح بيّن منشأها فقال : إن تبّعاً الأخير
وهو أبو كرب بن حسان بن تبّع بن أسعد الحميري أقبل من اليمن يريد الشرق كما كانت
التبابعة تفعل فمرّ بالمدينة فخلّف بها ابنه ومضى حتى قدم العراق فنزل بالمشقّر
فقتل ابنه بالمدينة غيلة فبلغه الخبر فكرّ راجعاً حتى دخل المدينة وهو مجمع على
إخرابها وقطع نخلها واستئصال أهلها وسبي الذرّية فنزل بسفح أحد فاحتفر بها بئراً
في التي يقال لها إلى اليوم : بئر الملك ثم أرسل إلى أشراف أهل المدينة ليأتوه
فكان ممن أرسل إليه زيد بن ضبيعة وابن عمّه زيد بن أمية وابن عمه زيد بن عبيد
وكانوا يسمون الأزياد وأحيحة بن الجلاح فلما جاء رسوله قال الأزياد : غنما أرسل إلينا
ليملّكنا على أهل يثرب فقال أحيحة : والله ما دعاكم لخير وكان يقال إن مع أحيحة
تابعاً من الجن يعلمه الخبر لكثرة صوابه لأنه كان لا يظن شيئاً إلا كان كما يقول
فخرجوا إليه وخرج أحيحة ومعه قينة له وخباء وخمر فضرب الخباء وجعل فيه القينة
والخمر ثم استأذن على تبّع فأذن له ة وأجلسه على زربيّة تحته وتحدث معه وسأله عن
أمواله بالمدينة فجعل يخبره عنها فخرج من عنده فدخل خباءه فشرب الخمر وقرض أبياتاً
وامر القينى أن تغنيه بها وجعل تبّع عليه حرساً وكانت قينته تدعى مليكة فقال :
الأبيات المتقدمة . فلم تزل القينة تغنيه بذلك يومه وعامّة ليلته فلما نام الحرس
____________________
قال
لها : إني ذاهب إلى أهلي فشدّي عليك الخباء فإذا جاء رسول الملك فقولي : هو نائم
فإذا أبوا إلا أن يوقظوني فقولي : قد رجع إلى أهله أرسلني إلى الملك برسالة فإن
ذهبوا بك إليه فقولي : يقول لك )
أحيحة اغدر بقينة أو دع ثم انطلق فتحصّن في أطمه الضحيان فأرسل تبّع من جوف الليل
إلى الأزياد فقتلهم .
وأرسل إلى أحيحة ليقتله فخرجت إليهم القينة فقالت : هو راقد فانصرفوا وترددوا
عليها مراراً كل ذلك تقول : هو راقد ثم عادوا فقالوا : لتوقظنّه أو لندخلن عليك
قالت : فإنه قد رجع إلى أهله وأرسلني إلى الملك برسالة فذهبوا بها إلى الملك
وأبلغته الرسالة فجرّه له كتيبة من خيله ثم أرسلهم في طلبه فوجدوه قد تحصّن في
أطمه فحاصروه ثلاثاً فكان يقاتلهم بالنهار ويرميهم بالنبل والحجارة ويرمي إليهم في
الليل بالتمر .
فلما مضت الثلاث رجعوا إلى تبع فقالوا : بعثتنا إلى رجل يقاتلنا بالنهار ويضيفنا
في الليل فتركه وأمرهم أن يحرقوا نخله وشبّت الحرب بين أهل المدينة : اوسها
وخزرجها ويهودها وبين تبّع وتحصنوا في الآطام فخرج رجل من أصحاب تبّع حتى جاء بني
عدي بن النجار وهم متحصنون في أطمهم فدخل حديقة من حدائقهم فرقي بها عذقاً منها
يجدّها فاطلع إليه رجل من بني عدي من الأطم فنزل إليه فضربه بمنجل حتى قتله ثم
ألقاه في بئر فلما انتهى ذلك لى تبّع زاده غيظاً وحنقاً وجرد إلى بني النجار جريدة
من خيله فقاتلهم بنو النجار . . . فبينا يريد تبع إخراب المدينة اتاه حبران من
اليهود فقالا : أيها الملك انصرف عن هذه البلدة فإنها محفوظة وإنها مهاجر نبي من
بني إسماعيل اسمه أحمد يخرج من هذا الحرم . فأعجبه ما سمع منهما وكفّ عن أهلها .
انتهى ما نقلته من الأغاني مختصراً .
والأطم قال في الصحاح : هو مثل الأجم يخفف ويثقّل والجمع آطام وهي حصون لأهل
المدينة والواحدة أطمة بفتحات . والضحيان بفتح الضاد المعجمة وسكون الحاء المهملة
وبعدها ياء مثناة تحتية : اسم حصن لأحيحة
____________________
وقد
بينه صاحب الأغاني بعد هذا فقال : وكان لأحيحة أطمان أطم في قومه يقال له المستظل
وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعاً أبا كرب الحميري وأطمه الضحيان بالعصبة في أرضه
التي يقال لها الغابة بناه بحجارة . وكانت الآطام عزّهم ومنعتهم وحصونهم التي
يتحرزون فيها من عدوهم . انتهى كلامه .
وقد خالف بين كلاميه فقال هناك : تحصّن بأطمه الضحيان . وقال في موضع آخر : تحصن
في أطمه المستظل .
وأحيحة هو أحيحة بن الجلاح بن الحريش بن جحجبى بن كلفة بن عوف بن عمرو بن مالك بن
)
وأحيحة بضمّ الهمزة وبالحاءين المهملتين : مصغّر الأحيحة وهو الغيظ وحزازة الغمّ .
والجلاح بضم الجيم وتخفيف اللام وآخره حاء مهملة وهو في اللغة السيل الجراف . والحريش
بفتح الحاء وكسر الراء المهملتين وآخره شين معجمه وهو نوع من الحيات أرقط . وجحجبى
بحاء مهملة ساكنة بين جيمين مفتوحتين وبعد الموحدة ألف مقصورة وهذه المادة غير
مذكورة في الصحاح قال صاحب القاموس : جحجب العدو : أهلكه وفي الشيء : تردد وجاء
وذهب . وجحجب : اسم . وجحجبى : حي من الأنصار انتهى .
وكلفة بضم الكاف وسكون اللام .
وكان أحيحة سيد الأوس في الجاهلية وكانت أم عبد المطلب بن هاشم تحته . والمنذر بن
محمد بن عقبة بن أحيحة صحابي شهد بدراً وقتل يوم بئر معونة كذا في الجمهرة . وعد
عبدان في الصحابة محمد بن عقبة هذا لكنه نسبه إلى جده فقال : محمد بن أحيحة . وقال
: بلغني أنه أول من سمي محمداً وأظنه أحد الأربعة الذين سموا محمداً قبل مولد
النبي صلى الله عليه وسلم . وأبوه كان زوج سلمى أم عبد المطلب .
قال ابن الأثير : من يكون أبوه تزوج أم عبد المطلب مع طول عمر عبد المطلب كيف تكون
له صحبة مع النبي صلى الله عليه وسلم هذا بعيد ولعله محمد بن المنذر بن عقبة بن
أحيحة الذي ذكروا أباه فيمن شهد بدراً . قال ابن حجر
____________________
في
الإصابة : وفيه نظر لأنهم لم يذكروا للمنذر ولداً اسمه محمد انتهى .
والصواب ما في الجمهرة وبه يزول الإشكال .
قال صاحب الأغاني : وكانت عند أحيحة سلمى بنت عمرو بن زيد بن لبيد بن خداش إحدى
نساء بني عدي بن النجار له منها عمرو بن أحيحة ثم أخذها هاشم بعد أحيحة فولدت له
عبد المطلب بن هاشم وكانت امرأةً شريفة لا تنكح الرجال إلا وأمرها بيدها وإذا كرهت
من رجل شيئاً تركته .
وكان أحيحة كثير اللمال شحيحاً عليه يبيع بيع الربا بالمدينة حتى كاد يحيط
بأموالهم وكان له تسع وتسعون بئراً كلها ينضح عليها وكان له أطمان : أطم في قومه
يقال له المستظل وهو الذي تحصن فيه حين قاتل تبعاً الحميري وأطمه الضحيان بالعصبة
في أرضه التي يقال لها الغابة بناه بحجارة سود ويزعمون أنه لما بناه أشرف هو وغلام
له ثم قال : لقد بنيت حصناً )
حصيناً ما بنى مثله رجل من العرب أمنع منه ولقد عرفت موضع حجر منه لو نزع وقع
جميعاً .
فقال غلامه : أنا أعرفه قال : فأرنيه يا بني قال : هو هذا وصرف إليه رأسه فلما رأى
أحيحة أنه قد عرفه دفعه من رأس الأطم فوقع على رأسه فمات . وإنما قتله لئلا يعرف
ذلك الحجر أحد . فلما بناه قال : ( بنيت بعد مستظل ضاحيا ** بنيته بعصبة من ماليا
) ( للستر مما يتبع القواضيا ** أخشى ركيبا أو رجيلا غاديا ) وسيأتي إن شاء الله
تعالى تتمة الكلام عليه في شرح شواهد الشافية عند شرح قوله : أخشى ركيباً أو
رجيلاً غاديا . فإنه من شواهده وشواهد
____________________
الكشاف
أيضاً . ولم يعرف أحد تتمته ولا أصله ممن كتب على الكشاف وغيره .
واعلم أن جملة من سمي بمحمد في الجاهلية ذكرهم ابن حجر في شرح البخاري . وهذا
كلامه : قال عياض : حمى الله عز وجل هذا الاسم أن يسمى به أحد قبله وإنما سمى بعض
العرب محمداً قرب ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم لما سمعوا من الكهان والأحبار أن
نبياً سيبعث في ذلك الزمان يسمى محمداً فرجوا أن يكونوا هم فسموا أبناءهم بذلك وهم
ستة لا سابع لهم . كذا قال .
وقال السهيلي في الروض الأنف : لا يعرف في العرب من تسمى محمداً قبل النبي صلى
الله عليه وسلم إلا ثلاثة : محمد بن سفيان بن مجاشع ومحمد بن أحيحة بن الجلاح
ومحمد بن حمران بن وسبق السهيلي إلى هذا القول أبو عبد الله بن خالويه في متاب ليس
. وهو حصر مردود . وقد جمعت أسماء من تسمى بذلك في جزء مفرد فبلغوا نحو العشرين
لكن مع تكرير في بعضهم ووهم في بعض فتلخص منه خمسة عشر نفساً .
وأشهرهم محمد بن عدي بن ربيعة التميمي السعدي . وقد سئل محمد بن ربيعة والسائل
ابنه قال له : كيف سماك أبوك في الجاهلية محمداً قال : سألت أبي عما سألتني فقال :
خرجت رابع أربعة من بني تميم أنا أحدهم وسفيان بن مجاشع ويزيد بن عمرو بن ربيعة
وأسامة بن مالك بن حبيب بن العنبر نريد ابن جفنة الغساني بالشام فنزلنا على غدير
دير فأشرف علينا الديراني فقال لنا : إنه سيبعث منكم وشيكاً نبي فسارعوا إليه .
فقلنا : ما اسمه قال : محمد . )
فلما انصرفنا ولد لكل منا ولد فسماه محمداً .
وقال ابن سعد عن علي بن محمد عن مسلمة بن محارب عن قتادة بن السكن قال : كان في
بني تميم محمد بن سفيان بن مجاشع قيل لأبيه : إنه سيكون نبي في العرب اسمه محمد
فسمى ابنه محمداً . فهؤلاء الأربعة ليس في السياق ما يشعر بأن فيهم من له صحبة إلا
محمد بن عدي .
____________________
قال ابن سعد لما ذكره في الصحابة : عداده في أهل الكوفة . وذكر عبدان المروزي أن
محمد بن أحيحة بن الجلاح أول من تسمى محمداً في الجاهلية وكأنه تلقى ذلك من قصة تبع
لما حاصر المدينة وخرج إليه أحيحة المذكور هو والحبر الذي كان عندهم بيثرب فأخبره
الحبر أن هذا بلد نبي يبعث يسمى محمداً . فسمى ابنه محمداً وذكر البلاذري منهم
محمد بن غقبة بن أحيحة فلا أدري : أهما واحد نسب مرةً إلى أبيه ومرةً إلى جده أم
هما اثنان . . أقول : الصواب أنهما واحد نسب مرةً إلة أبيه ومرةً إلى جده كما تقدم
بيانه .
ثم قال ابن حجر : ومنهم محمد بن براءالبكري ذكره ابن حبيب . وضبط البلاذري أباه
فقال : محمد بن بر بتشديد الراء ليس بعدها ألف بن طريف بن عتوارة بن عامر بن ليث
بن بكر بن عبد مناة بن كنانة ولهذا نسبوه أيضاً العتواري .
وغفل ابن دحية فعد فيهم محمد بن عتوارة وهو هو نسب إلى جده الأعلى . ومنهم محمد بن
اليحمدي الأزدي ذكره المفجع البصري في كتاب المنقذ . ومحمد بن خولي الهمداني .
ذكره ابن دريد . ومنهم محمد بن حمران بن أبي حمران واسمه ربيعة بن مالك الجعفي
المعروف بالشويعر ذكره المرزباني فقال : هو أحد من سمي في الجاهلي محمداً وله قصة
مع امرئ القيس . ومنهم محمد بن خزاعي علقمة بن حرابة السلمي من بني ذكوان ذكره ابن
سعد عن علي بن محمد عن سلمة بن الفضل عن محمد بن إسحاق قال : سمي محمد ين خزاعي
طمعاً في النبوة .
وذكر الطبراني أن أبيرهة الحبشي توجه وأمره أن يغزو بني كنانة فقتلوه وكان
____________________
ذلك
من أسباب ( فذلكم ذو التاج منا محمد ** ورايته في حومة الموت تخفق ) ومنهم محمد بن
عمر بن مغفل بضم أوله وسكون المعجمة وكسر الفاء ثم لام وهو والد هبيب بموحدتين مصغر
وهو على شرط المذكورين فإن لولده صحبةً . ومات هو في الجاهلية . ومنهم محمد بن
الحارث بن حديج بن حويص ذكره أبو حاتم السجستاني في كتاب المعمرين وذكر له قصةً مع
عمر وقال : إنه أحد من تسمى محمداً في الجاهلية . ومنهم محمد )
الفقيمي ومحمد الأسيدي ذكرهما ابن سعد ولم ينسبهما بأكثر من ذلك . . فعرف بهذا وجه
الرد على الحصر الذي ذكره القاضي عياض .
وعجب من السهيلي كيف لم يقف على ما قاله القاضي مع كونه قال قبله وقد تحرر لنا من
أسمائهم قدر الذي ذكره القاضي عياض مرتين بل ثلاث مرات فإنه ذكر في الستة الذين
جزم بهم : محمد بن مسلمة وهو غلط فإنه ولد بعد ميلاد النبي صلى الله عليه وسلم
ففضل له خمسة . وقد خلص لنا خمسة عشر والله أعلم . انتهى ما قال ابن حجر .
وقال زين الدين العراقي : قلت : عده أعني عياضاً محمد بن مسلمة فيه نظر من حيث
أتنه ولد بعده بعشر سنين ولكنه صحيح من حيث أنه لم يكن ظهرت
____________________
النبوة
والله أعلم .
وأنشد بعده وهو ( قلما عرس حتى هجته ** بالتباشير من الصبح الأول ) على أن أبا علي
قال : إن قلما قد تجيء بمعنى إثبات الشيء القليل كما في هذا البيت والكثير أن تكون
للنفي الصرف . وهذا كلام أبي علي في الإيضاح الشعري قال : وأما قول لبيد : قلما
عرس حتى هجته فإن قولهم قلما يستعمل على ضربين : أحدهما : أن يكون بمعنى النفي لا
يثبت به شيء والآخر : أن يكون خلاف كثر يثبت به شيء قليل . فمن الأول قولهم : قلما
سرت حتى أدخلها فتنصب الفعل معه بعد حتى كما تنصب في قولك : ما سرت حتى أدخلها
ومنه : قلما سرت فأدخلها فتنصب معه الفعل بعد الفاء كما تفعل ذلك بالنفي ومنه قلّ
رجل جاءني إلا زيد كما تقول : ما جاءني إلا زيد فهذا في هذه المواضع بمنزلة النفي
.
ولو أردت نفي كثر لجاز الرفع في الفعل بعد حتى كما تقول : سرت قليلاً حتى أدخلها .
ولو أجري هذا الضرب مجرى الأول على معنى أن القليل لم يعتدّ به لقلته لكان ذلك
قياساً على كلامهم ألا تراهم قالوا : ما أدري أأذن أو قام فجعل الفعل غير معتد به
والبيت مما قد ثبت فيه التعريس ولم بنفه ألبتّة يدلك على ذلك قول ذي الرّمّة :
____________________
(
زار الخيال لميّ هاجعاً لعبت ** به التنائف والمهرية النّجب ) انتهى . بيانه : أن
ذا الرمّةّ أراد بالهاجع المعرس نفسه . والهاجع : النائم . ولعبت به : ترامت به
بلدة إلى بلدة . والمهرية بالفتح : الإبل المنسوبة إلى مهرة وهي حي باليمن .
والنّجب : جمع نجيب : )
كرام الإبل . والتعريس : الإقامة في آخر الليل . ومعرساً : صفة هاجعاً . أي :
زارني خيال ميّ وأنا معرّس نائم . وجملة : في بياض الصبح وقعته صفة لقوله : معرساً
. يريد الوقعة التي ينامها عند الصبح لأن كل من سار ليلته فذلك وقت إراحته ونومه .
ويروى : وسائر الليل . ومنجذب : خبر سائر أي : ماض .
وقوله : إلا ذاك استثناء للتعريس من السير وهذا وجه الدليل . ويروى أيضاً : في
سواد الليل .
والتفسير في السير والليل والسواد سواء . وهذا الشعر من قصيدة طويلة لذي الرمة
مطلعها : ما بال عينك منها الماء ينسكب وهذه القصيدة أول ديوانه .
واعلم أن أبا علي قد تكلم هنا على أقل وقلّ وقلما بكلام جيد قد اختصره الشارع
المحقق أحببت أن أنقله هنا برمّته تتميماً للفائدة : قال : اعلم أنهم قالوا : أقل
رجل يقول ذلك وأقل امرأة تقول ذلك وأقل امرأتين تقولان ذلك محملوا الصفة فيها على
المضاف إليه أقل لا على أقل . فإن قال قائل : ما موضع تقول ذلك وتقولان ذلك فالقول
فيه : أن موضعه جرّ على ما عليه استعمالهم ولا يجوز أن يكون موضعه رفعاً لأنه لو
كان رفعاً لكان ينبغي أن يكون محمولاً على أقل إما أن يكون وصفاً أو خبراً .
فإن قلت : إذا كان أقل مبتدأ فما خبره فالقول فيه : أنه لا يخلو من أن يكون مضمراً
متروك الإظهار والاستعمال كما كان خبر الاسم بعد لولا كذلك . أو
____________________
يكون
قد استغني عن الخبر بالصفة الجارية على المضاف أقل إليه وصار أقل لا خبر له لما
فيه من معنى النفي كما أن قلما في قولهم : ( قلما ** وصال على طول الصدود يدوم )
غير مسند إلى فاعل لما فيه من معنى النفي فكما صار قل غير مسند إلى فاعل كذلك أقل
غير مسند إلى خبر لأن كل واحد منهما قد جرى مجرى صاحبه ألا ترى أنهم قالوا قل رجل
يقول ذلك إلا ويد كما قالوا : ما رجل يقول ذلك إلا زيد وقالوا : أقل رجل يقول ذلك
إلا زيد فأبدلوا زيداً من أقل وأجروه مجرى قل رجل يقول ذلك إلا زيد ألا ترى أنه لم
يبدل من رجل المجرور بل أجري مجرى قل رجل فأما صفة الاسم الذي يضاف إليه أقل فإنه
يكون فعلاً أو ظرفاً لأن الظرف كالفعل والفاعل ألا ترى أنه في صلة الموصول كالفعل
: في استقلال الموصول )
به وقال أبو الحسن : لو قلت أقل رجل ذي جمّة أو نحو ذلك لم يحسن .
قال أبو علي : وإنما امتنع هذا لأن أقل قد أجري مجرى حرف النفي فلم يظهر له خبر
كما أن قل جرى مجراه فلم يسند إلى فاعل . فإذا علمت أنه قد أجري مجرى حرف النفي
بما ذكرت وبأنهم قالوا : قل رجل يقول ذلك إلا زيد كان قولهم : أقل رجل يقول ذلك
أقل فيه بمنزلة حرف النفي وحرف النفي ينبغي أن يدخل على كلام تام والكلام التام
الفعل والفاعل وما حكمهما من الظروف وليس المبتدأ وخبره مما يجري مجرى الفعل
والفاعل هنا .
ألا ترى أن أبا الحسن يقول : لو قلت أقل رجل وجهه حسن لم يحسن . فدل
____________________
ذلك
على أنهم جعلوا أقل بمنزلة ما وما حقها أن تنفي فعل الحال في الأصل ويؤكد ذلك أنه
صفة والصفة ينبغي أن تكون مصاحبة للموصوف فكما لا تدخل ما في نفي الفعل إلا على
فعل وفاعل كذلك ينبغي أم يكون الوصف الواقع بعد الاسم المضاف إليه أقل فعلاً
وفاعلاً أو ظرفاً لأن الظرف كالفعل .
وإذا كانت كذلك فلو أوقعت جملة من ابتداء وخبر بعده لم يحسن لأن ما في الأصل لا
تنفيها إنما تنفي الفعل ولو أوقعت صفة لا معنى للفعل فيها نحو ذي جمة وما أشبهها
مما لا يشابه الفعل لم يجز .
ولو أوقعت الصفة المشابهة للفعل نحو ضارب وصالح لم يحسن في القياس أيضاً ألا ترى
أن هذا موضع جملة واسم الفاعل لا يسد مسد الجملة ولذلك لم تستقل الصلة به واسم
الفاعل في صفة الاسم المجرور بربّ أحسن منه في صفة الاسم المضاف إليه أقل . لأن
ربّ وما انجر به من جملة كلام ألا ترى أن الفعل الذي يتعلق به مراد وإن كان قد
يترك من اللفظ كما أن ما يتعلق به الكاف من قولك : الذي كزيد كذلك : فإذا كانت
كذلك كانت فضلة والفضلة لا تمتنع أن توصف بالصفات التي لا تناسب الفعل والتي
تناسبه وليس صفة المضاف إليه أقل كذلك ألا ترى أن أقل بمنزلة حرف النفي كما كان قل
كذلك وحكم حرف النفي أن يدخل على جملة .
وجه جواز وصف الاسم المضاف إليه اقل بصالح ونحوه هو أن هذا الضرب قد أجري مجرى
الجمل في غير هذا الموضع ألاترى أن سيبويه قد أجاز حكاية عاقلة لبيبة ونحوها إذا
سمي بها فجعله في ذلك بمنزلة الجمل حيث كان في حكمها من حيث كان حديثاً ومحدثاً
عنه وقد )
جرى هذا النحو مجرى الفعل والفاعل أيضاً في الأسماء المسمى بها الفعل فكذلك فيما
ذكرنا .
والأقيس فيما يجرّ بربّ أن يوصف بفعل وفاعل لأن أصل رب وإن كان كما ذكرنا فقد صار
عندهم بمنزلة النفي ألا ترى أنها لا تقع إلا صداراً كما أن النفي كذلك وأن المفرد
بعد قل دل على أكثر من واحد وهذا مما يخنص به النفي ونحوه فإذا كان كذلك صار ذلك
الأمر كالمرفوض وصار الحكم لهذا الذي
____________________
عليه
الاستعمال الآن . وقد صار كانفي بما لزمه بما ذكرنا كما صار أقل رجل بمنزلة ذلك
فكما أن حكم صفة المضاف إليه أقل أن يكون على ما ذكرنا كذلك حكم ما انجر برب .
ومما يدل على أن أقل منزل منزلة النفي امتناع العوامل الداخلة على المبتدأ من
الدخول عليه امتناعها من الدخول على ما لزمه حرف النفي . ومما جرى مجرى أقل رجل
فيما ذكرنا قولهم : خطيئة يوم لا أصيد فيه ألا ترى أن الكلام محمول على على ما
أضيف خطيئة إليه كما كان محمولاً على ما أضيف أقل إليه ولم يعد على خطيئة مما بعده
ذكر كما لم يعد على أقل شيء مما بعده .
وقياس خطيئة أن تمتنع العوامل الداخلة على المبتدأ والخبر من الدخول عليها كما
امتنعت من الدخول على أقل لاتفاقهما فيما ذكرت وفي المعنى ألا ترى أنه يريد ما يوم
لا أصيد فيه إلا الخطيئة فصار كقولهم أقل من جهة المعنى ومن جهة حمل ما بعدها على
ما أضيف إليه من دونها . والقياس فيها وفي أقل أن يكون ما جرى بعدهما من الكلام قد
سد مسد الخبر وصار معنى أقل امرأتين تقولان ذلك ما امرأتان تقولان ذلك وكذلك خطيئة
فحمل الكلام على المعنى فلم يحتج إلى إضمار خبر كما لم تحتج إليه في قولك : أذاهب
أخواك وما أشبهه . انتهى وبيت الشاهد من قصيدة طويلة للبيد بن ربيعة الصحابي عدة
أبياتها خمسة وثمانون بيتاً ولا بد من ذكر أبيات متصلة به ليتضح معناه وهي : (
ومجود من صبابات الكرى ** عاطف النمرق صدق المبتذل ) ( قال هجدنا فقد طال السرى **
وقدرنا إن خنى الدهر غفل )
____________________
(
يتقي الأرض بدف شاسف ** وضلوع تحت صلب قد نحل ) ( قلما عرس حتى هجته ** بالتباشير
من الصبح الأول ) ( يلمس الأحلاس في منزله ** بيديه كاليهودي المصل ) ) ( يتمارى
في الذي قلت له ** ولقد يسمع قولي حيهل ) ( فوردنا قبل فراط القطا ** إن من وردي
تغليس النهل ) قوله : ومجود من صبابات الخ الواو واو رب والمجود : الذي جاده
النعاس وألح عليه حتى أخذه فنام من الجود بالفتح وهو المطر الغزير يقال : أرض
مجودة أي : مغيثة وجيدت الأرض : إذا مطرت جوداً . وقال أعرابي : المجود : الذي قد
جاده العطش أي : غلبه كذا في شرح أبي الحسن الطوسي . وهذا لا يناسب قوله : صبابات
الكرى فإن الكرى النوم وصبابته بقيته .
والجيد ما ذكره صاحب القاموس : من أن الجواد كغراب : النعاس وجاده الهوى : شاقه
وغلبه وقوله : عاطف النمرق صفة مجود والإضافة لفظية يريد : عطف نمرقته وثناها فنام
.
والنمرقة مثلثة النون : الوسادة والطنفسة فوق الرحل وهي المرادة هنا والطنفسة
مثلثة الطاء والفاء وبكسر الطاء وفتح الفاء وبالعكس : البساط . وقوله : صدق
المبتذل بفتح الصاد أي : جلد قوي لا يغير عند ابتذاله نفسه ولا يسقط ولا يجوز أن
يقال صدق المبتذل إلا إذا امتهن ووجد صادق المهنة يوجد عنده ما يحب ويراد .
____________________
وفي القاموس : الصدق : الصلب المستوي من الرماح والرجال والكامل من كل شيء وهي
صدقة . والمبتذل : مصدر بمعنى الابتذال وهو ضد الصيانة يقال : سيف صدق المبتذل أي
: ماضي الضريبة . وقوله : قال هجدنا الخ قال : هو متعلق رب . والتهجيد من الأضداد
. يقال : هجده إذا نومه أي : دعنا ننام وهو المراد هنا وهجده : إذا أيقظه . والفاء
للتعليل . والسرى بالضم : سير عامة الليل . وقوله : وقدرنا أي : وقدرنا على ورود
الماء وذلك إذا قربوا منه .
وفي القاموس ة بيننا ليلة قادرة : هينة السير لا تعب فيها . والخنى بفتح المعجمة
والقصر : الآفة والفساد أي : إن غفل عنا فساد الدهر فلم يعقنا . وقيل : قدرنا أي :
على التهجيد وقيل : على السير . وقوله : يتقي الأرض الخ أخبر عن صاحبه النعسان
بأنه يتقي الأرض أي : يتجافى عنها . والدف بفتح الدال : الجنب . وروي : يتقي الريح
. والشاسف بتقديم المعجمة على المهملة : اليابس ضمراً وهزالاً وقد شسف كنصر وضرب
وكرم شسوفاً ويكسر : إذا يبس ونحل جسمه كمنع وعلم ونصر وكرم نحولاً : ذهب من مرض
أو سفر .
وقوله : قلما عرّس الخ ما المتصلة بقلّ كافة لها عن طلب الفاعل وجاعلة إياها
بمنزلة ما النافية في الأغلب وهنا لإثبات القلة كما تقدم وما تتصل بأفعال ثلاثة
فتكفها عن طلب الفاعل وهي )
قلما وطالما وكثر ما وينبغي أن تتصل بالأولين كتابة . والتعريس : النزول في آخر
الليل للاستراحة والنوم ومثله الإعراس . و هجته : أيقظته من النوم وهاج يهيج يجيء
لازماً ومتعدياً يقال هاج : إذا ثار وهجته : إذا أثرته . وحتى هنا حرف جر بمعنى
إلا الاستثنائية أي : ما عرس إلا أيقظته أي : نام قليلاً ثم أيقظته وأكثر دخولها
على المضارع كقوله : ( ليس العطاء من الفضول سماحة ** حتى تجود وما لديك قليل )
____________________
وقوله
: بالتباشير أي : بظهورها و التباشير : أوائل الصبح وهو جمع تبشير ولا يستعمل إلا
جمعاً قال في القاموس : التباشير البشرى وأوائل الصبح وكل شيء وطرائق على الأرض من
آثار الرياح وآثار بجنب الدابة من الدبر والبواكر من النخل وألوان النخل أول ما
ترطب .
انتهى .
ولكونه مشتركاً بين هذه المعاني بين المراد بقوله : من الصبح . و الأول صفة
التباشير وهو بضم الهمزة وفتح الواو جمع أولى مؤنث الأول كالكبر جمع كبرى . وقد
جاء هذا المصراع الثاني في شعر النابغة الجعدي وهو : ( وشمول قهوة باكرتها ** في
التباشير من الصبح الأول ) والنابغة وإن كان عصري لبيد إلا أنه أسن منه كما بيناه
في ترجمتها وقد عيب هذا البيت على النابغة قال صاحب تهذيب الطبع : وأما الأبيات
المستكرهة الألفاظ المتفاوتة النسج القبيحة العبارة التي يجب الاحتراز منها كقول
النابغة الجعدي : ( وشمول قهوة باكرتها ** في التباشير من الصبح الأول ) يريد
بالتباشير الأول من الصبح . وعابه المرزباني أيضاً في كتابه الموشح .
وقوله : يلمس الأحلاس فاعل يلمس ضمير المجود . واللمس : الطلب وفعله من بابي قتل
وضرب . و الأحلاس : جمع حلس بالكسر وهو كساء رقيق يكون على ظهر البعير تحت رحله .
أي : يطلبها بيديه وهو لا يعقل من غلبة النعاس . وقوله : كاليهودي المصل قال
الطوسي في شرحه كأنه يهودي يصلي في جانب يسجد على جبينه . هذا كلامه .
واليهودي يسجد على شق وجهه وأصل ذلك أنهم لما نتق الجبل فوقهم قيل لهم : إما أن
تسجدوا وإما أن يلقى عليكم فسجدوا على شق واحد مخافة أن يسقط عليهم الجبل فصار
عندهم سنة إلى اليوم . وقوله : يتمارى في الذي قلت له الخ )
____________________
هذا البيت أورده الشارح في اسم الفعل وهناك يشرح إن شاء الله تعالى . التماري في
الشيء والامتراء فيه : المجادلة والشك فيه يقال : ماريت الرجل أماريه مراء وممارة
: إذا جادلته والمرية : الشك . قال الطوسي : يقول : قال له الصبح والنجاء قد أصبحت
ونحو هذا من الكلام .
وحيهل : أي : أسرع وأعجل .
قال السيد المرتضى في أماليه : غرر الفوائد ودرر القلائد : قد قال الناس في وصف
قلة النوم .
ومواصلة السرى والإدلاج وشعث السارين فأكثروا فمن أحسن ما قيل في ذلك قول لبيد .
وأنشد هذه الأبيات الخمسة وأورد لها نظائر جيدة .
وقوله : فوردنا قبل فرّاط القطا الخ القطا : مشهور بالتبكير والسبق إلى الماء .
وفرّاط القطا : أوائلها وهو جمع فارط يقال : فرطت القوم أفرطهم فرطاً من باب نصر
أي : سبقتهم إلى الماء .
وقوله : إن من وردي الخ أي : من عادتي . والتغليس : السير بغلس وهو ظلمة آخر الليل
يقال : غلسنا الماء أي : وردناه بغلس . والنهل : الشربة الأولى والعلل : الشربة
الثانية . قال الطوسي : قال وترجمة لبيد تقدمت في الشاهد الثاني والعشرين بعد
المائة ومطلع هذه القصيدة : ( إن تقوى ربنا خير نفل ** وبإذن الله ريثي والعجل ) (
أحمد الله فلا ند له ** بيديه الخير ما شاء فعل ) ( من هداه سبل الخير اهتدى **
ناعم البال ومن شاء أضل ) قوله : خير نفل هذه رواية الأصمعي وروى أبو عبيدة : خير
النفل والنفل : الفضل والعطية كذا قال الطوسي : واستشهد صاحب الكشاف بهذا البيت في
سورة الأنفال على أن النفل بالتحريك الغنيمة . وأصله الزيادة ولهذا يقال
____________________
هذا
نفل أي : فضل وزيادة ومنه النافلة في الصلاة . والريث مصدر رثت أريث : إذا أبطأت .
قال السيد المرتضى في أماليه : وممن قيل أنه على مذهب الجبر من المشهورين لبيد بن
ربيعة العامري واستدل بقوله : ( إن تقوى ربنا خير نفل ** وبإذن الله ريثي والعجل )
( من هداه سبل الخير اهتدى ** ناعم البال ومن شاء أضل ) وإن كان لا طريق إلى نسب
الجبر إلى مذهب لبيد إلا هذان البيتان فليس فيهما دلالة على )
ذلك . وأما قوله : وبإذن الله ريثي والعجل فيحتمل أن يريد بعلمه كما يتأول عليه
قوله تعالى : وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله أي : بعلمه . وإن قيل في هذه
الآية أنه أراد : بتخليته وتمكينه وإن كان لا شاهد لذلك في اللغة أمكن مثله في قول
لبيد .
وأما قوله : من هداه سبل الخير الخ فيحتمل أن يكون مصروفاً إلى بعض الوجوه التي
يتأول عليها الضلال والهدى المذكوران في القرآن مما يليق بالعدل ولا يقتضي الإجبار
اللهم إلا أن يكون مذهب لبيد في الإجبار معروفاً بغير هذه الأبيات فلا يتأول له
هذا التأويل بل يحمل على مراده على موافقة المعروف من مذهبه . انتهى كلامه .
وأنشد بعده وهو الشاهد التاسع والعشرون بعد المائتين وما اغتره الشيب إلا اغترارا
____________________
على
أن ما بعد إلا مفعول مطلق مؤكد للفعل قبله .
ووجه الشارح المحقق صحة التفريغ في المفعول المطلق المؤكد . وقوله : إن ابن يعيش
قال : أصله وما اغتره اغتراراً إلا الشيب فقدم وأخر . فهذا القول إنما هو لأبي علي
الفارسي وابن يعيش مسبوق به . قال ابن هشام في المغني : قال الفارسي : إن إلا قد
توضع في غير موضعها مثل : إن نظن إلا ظناً . وقوله : لأن الاستثناء المفرغ لا يكون
في المفعول المطلق التوكيدي لعدم الفائدة فيه . وأجيب : بان المصدر في الآية
والبيت نوعي على حذف الصفة أي : إلا ظناً ضعيفاً وإلا اغتراراً ضعيفاً .
انتهى .
وكذا قال الخفاف الإشبيلي في شرح الجمل قال : وهذا عندي أن تكون إلا في موضعها
ويكون مما حذف فيه الصفة لفهم المعنى كأنه قال : إن نظن إلا ظناً ضعيفاً وما اغتره
الشيب إلا اغتراراً بيناً . وهذا أولى لأنه قد ثبت حذف الصفة ولم يثبت وضع إلا في
غير موضعها . وهذا جواب ثان لكن جواب الشارح المحقق أدق . وهذا المصراع عجز وصدره
: أحل له الشيب أثقاله وأحل أنزل والإحلال : الإنزال . والأثقال : جمع ثقل بفتحتين
وهو متاع المسافر وحشمه .
والبيت من قصيدة للأعشى ميمون وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين من
أوائل )
الكتاب . وهذا مطلع القصيدة : ( أأزمعت من آل ليلى ابتكارا ** وشطت على ذي هوى أن
تزارا )
____________________
وأنشد
بعده وهو الشاهد الثلاثون بعد المائتين على أن الفراء يجيز النصب على الاستثناء
المفرغ نظراً إلى المقدر واستدلالاً بهذا البيت . فإن المستثنى منه محذوف تقديره :
ومالي نوق إلا ثمانيا . ورده الشارح المحقق بما ذكره .
أقول : هذا البيت من قصيدة نونية طويلة عدتها ثلاثة وسبعون بيتاً لعروة بن حزام
العذري .
والبيت قد تحرف على من استشهد به وروايته هكذا : ( يكلفني عمي ثمانين بكرةً ** وما
لي يا عفراء غير ثمان ) وروي أيضاً : ( يكلفني عمي ثمانين ناقةً ** وما لي والرحمن
غير ثمان ) وعلى هذا فالاستثناء على الطريقة المألوفة .
وهذه القصيدة ثابتة في ديوانه أقل مما ذكرنا وعدتها على ما فيه ثلاثة وثلاثون
بيتاً وأوردها بالعدد الأول القالي في آخر ذيل أماليه وفي أول نوادره . وقد ترجمنا
عروة بن حزام مع عفراء العذريين وذكرنا حكايتهما مفصلة في الشاهد السادس والتسعين
بعد المائة .
____________________
والقصيدة غرامية فلا بأس بإيرادها لانسجامها ورقتها وأخذها بمجامع القلوب . قال القالي
في الذيل وفي النوادر . قال أبو بكر : وقصيدة عروة النونية يختلف الناس في أبيات
منها ويتفقون على بعضها فأول الأبيات المجمع عليها وما يتلوها مما لا يختلف فيه
أنشدني جميعه أبي رحمه الله عن أحمد بن عبيد وغيره وعبد الله بن خلف الدلال عن أبي
عبد الله السدوسي وأبو الحسن بن براء عن الزبير بن بكار وألفاظهم مختلطة بعضها
ببعض : ( خليليّ من عليا هلال بن عامر ** بصنعاء عوجا اليوم وانتظراني ) ( ولا
تزهدا في الأجر عندي وأجملا ** فإنكما بي اليوم مبتليان ) ( ألم تعلما أن ليس
بالمرخ كله ** أخ وصديق صالح فذراني ) ( أفي كل يوم أنت رام بلادها ** بعينين
إنساناهما غرقان ) ( ألا فاحملاني بارك الله فيكما ** إلى حاضر الروحاء ثم دعاني )
) ( على جسرة الأصلاب ناجية السرى ** تقطّع عرض البيد بالوخدان ) ( ألمّا على
عفراء إنكما غداً ** لشحط النوى والبين معترفان ) ( فيا واشيي عفرا دعاني ونظرة **
تقرّ بها عيناي ثمّ كلاني ) ( أغرّكما مني قميص لبسته ** جديد وبردا يمنة زهياني )
( متى ترفعا عني القميص تبيّنا ** بي الضر من عفراء يا فتيان ) ( وتعترفا لحماً
قليلاً وأعظما ** دقاقاً وقلباً دائم الخفقان ) ( على كبدي من حب عفراء قرحة **
وعيناي من وجد بها تكفان ) قال أبو بكر : قال بعض البصريين : ذكّر المعرض لأنه
أراد : وعفراء عني الشخص المعرض . وقال الكوفيون : ذكره بناء على التشبيه أي :
وعفراء عني مثل المعرض كما تقول العرب : عبد الله الشمس منيرة يريدون مثل الشمس في
حال إنارتها . ( فيا ليت كل اثنين بينهما هوىً ** من الناس والأنعام يلتقيان ) (
فيقضي حبيب من حبيب لبانة ** ويرعاهما ربي فلا يريان )
____________________
ويروى
: فيسترهما ربي على أن الأصل يسترهما فسكّن الراء لكثرة الحركات . ( هوى ناقتي
خلفي وقدامي الهوى ** وإني وإياها لمختلفان ) ( هواي أمامي ليس خلفي معرّج ** وشوق
قلوصي في الغدوّ يمان ) ( هواي عراقي وتثني زمامها ** لبرق إذا لاح النجوم يمان )
( متى تجمعي شوقي وشوقك تظلعي ** وما لك بالعبء الثقيل يدان ) ( يقول لي الأصحاب
إذ يعذلونني ** أشوق عراقي وأنت يمان ) ( وليس يمان للعراق بصاحب ** عسى في صروف
الدهر يلتقيان ) ( تحملت من عفراء ما ليس لي به ** ولا للجبال الراسيات يدان ) (
كأن قطاة علّقت بجناحها ** على كبدي من شدة الخفقان ) ( فقالا : نعم نشفى من الداء
كله ** وقاما مع العوّاد يبتدران ) ( فما تركا من رقية يعلمانها ** ولا سلوة إلا
وقد سقياني ) ( ولا شفيا الداء الذي بي كله ** وما ذخرا نصحاً وما ألواني ) (
فقالا : شفاك الله والله ما لنا ** بما ضمّنت منك الضلوع يدان ) ) ( فرحت من
العراف تسقط عمتي ** عن الرأس ما ألتاثها ببناني ) ( معي صاحبا صدق إذا ملت ميلة
** وكان بدفي نضوتي عدلاني ) ( فيا عمّ يا ذا الغدر لا زلت مبتلىً ** حليفاً لهمّ
لازم وهوان ) ( غدرت وكان الغدر منك سجية ** فألزمت قلبي دائم الخفقان ) (
وأورثتني غمّاً وكرباً وحسرةً ** وأورثت عيني دائم الهملان ) ( فلا زلت ذا شوق إلى
من هويته ** وقلبك مقسوم بكل مكان ) ( وإني لأهوى الحشر إذ قيل إنني ** وعفراء يوم
الحشر ملتقيان ) ( ألا يا غرابي دمنة الدار بيّنا ** أبا لهجر من عفراء تنتحبان )
( فإن كان حقاً ما تقولان فاذهبا ** بلحمي إلى وكريكما فكلاني )
____________________
(
كلاني أكلاً لم ير الناس مثله ** ولاتهضما جنبيّ وازدرداني ) ( ألا لعن الله
الوشاة وقولهم ** فلانة أمست خلّة لفلان ) ( إذا ما جلسنا مجلساً نستلذه ** تواشوا
بنا حتى أملّ مكاني ) ( تكنّفني الواشون من كل جانب ** ولو كان واش واحد لكفاني )
( ولو كان واش باليمامة داره ** أحاذره من شؤمه لأتاني ) ( يكلفني عمي ثمانين بكرة
** وما لي والرحمن غير ثمان ) ( فيا ليت محيانا جميعاً وليتنا ** إذا نحن متنا
ضمّنا كفنان ) ( ويا ليت أنّا الدهر في غير ريبة ** خليّان نرعى القفر مؤتلفان ) (
فو الله ما حدثت سرك صاحباً ** أخاً لي ولا فاهت به الشفتان ) ( سوى أنني قد قلت
يوماً لصاحبي ** ضحىً وقلوصانا بنا تخدان ) ( ضحيّا ومسّتنا جنوب ضعيفة ** نسيم
لريّاها بنا خفقان ) ( تحملت زفرات الضحى فأطقتها ** وما لي بزفرات العشيّ يدان )
( فيا عمّ لا أسقيت من ذي قرابة ** بلالاً فقد زلّت بك القدمان ) ( ومنيتني عفراء
حتى رجوتها ** وشاع الذي منّيت كل مكان ) ( فو الله لولا حب عفراء ما التقى ** علي
رواقا بيتك الخلقان ) ( رواقان خفاقان لا خير فيهما ** إذا هبّت الأرواح يصطفقان )
) ( ولم أتبع الأظعان في رونق الضحى ** ورحلي على نهّاضة الخديان ) ( لعفراء إذ في
الدهر والناس غرة ** وإذ خلقانا بالصبا يسران ) ( لأدنو من بيضاء خفاقة الحشا **
بنية ذي قاذورة شنآن ) ( كأن وشاحيها إذا ما ارتدتهما ** وقامت عناناً مهرة سلسان
)
____________________
(
يعضّ بأبدان لها ملتقاهما ** ومثناهما رخوان يضطربان ) ( وتحتهما حقفان قد ضربتهما
** قطار من الجوزاء ملتبدان ) ( أعفراء كم من زفرة قد أذقتني ** وحزن ألجّ العين
في الهملان ) ( وعينان ما أوفيت نشزاً فتنظرا ** بمأقيهما إلا هما تكفان ) ( فهل
حاديا عفراءإن خفت فوتهاعليّ إذا ناديتمرعويان ** ضروبان للتالي القطوف إذا ونى )
( فما لكما من حاديين رميتما ** بحميّ وطاعون ألا تقفان ) ( وما لكما من حاديين
كسيتما ** سرابيل مغلاة من القطران ) ( فويلي على عفراء ويلاً كأنه ** على الكبد
والأحشاء حرّ سنان ) قال أبو بكر : أخبرني أبي عن الطوسيّ قال : أراد بقوله :
ملتقى نعم وألالا شفتيها لأن الكلمتين في الشفتين تلتقيان . وروي : ( ألا حبّذا من
حب عفراء ملتقى ** نعام وبرك حيث يلتقيان ) وقيل : هما موضعان . ( لو أن أشد الناس
وجداً ومثله ** من الجن بعد الإنس يلتقيان ) ( فيشتكيان الوجد ثمّت أشتكي ** لأضعف
وجدي فوق ما يجدان ) ( فقد تركتني ما أعي لمحدّث ** حديثاً وإن ناجيته ونجاني ) (
ة وقد تركت عفراء قلبي كأنه ** جناح غراب دائم الخفقان )
____________________
وأنشد
بعده وهو
الشاهد الحادي والثلاثون بعد المائتين ( مهامهاً وخروقاً لا أنيس بها ** إلا
الضوابح والأصداء والبوما ) على ان النصب فيه قليل كقوله : لا أحد فيها إلا زيداً
.
وفيه أن البيت من الاستثناء المقطع فإن الضوابح وما بعده ليست من جنس الأنيس بخلاف
المثال فإنه استثناء متصل .
والبيت قد أنشده الفرّاء للنصب على الانقطاع كما نقله السيد المرتضى في أماليه عند
الكلام على قول النبي صلى الله عليه وسلم : لا يموت لمؤمن ثلاثة من الأولاد فتمسّه
الناء إلا تحلة القسم قال : الاستثناء منقطع كأنه قال : فتمسه الناء لكن تحلة
اليمين أي : لكن ورود النار لا بدّ منه فجرى مجرى قول العرب : سار الناس إلا
الأثقال وأنشد الفرّاء : مهامهاً وخروقاً لا أنيس بها وهذا البيت آخر أبيات عدتها
أحد عشر بيتاً للأسود بن يعفر وهي في آخر المفضليات : ( قد أصبح الحبل من أسماء
مصروما ** بعد ائتلاف وحب كان مكتوما ) ( واستبدلت محلة مني وقد علمت ** أن لن
أبيت بوادي الخسف مذموما ) ( عفّ صليب إذا ما جلبة أزمت ** من خير قومك موجوداً
ومعدوما )
____________________
(
لما رأت أن شيب الرأس شامله ** بعد الشباب وكان الشيب مسؤوما ) ( صدّت وقالت : أرى
شيباً تفرّعه ** إن الشباب الذي يعلو الجراثيما ) ( كأن ريقتها بعد الكرى اغتبقت
** صرفاً تخيرها الحانون خرطوما ) ( سلافة الدّن مرفوعاً نصائبه ** مقلد الفغو
والريحان ملثوما ) ( وقد ثوى نصف حول أشهراً جدداً ** بباب أفّان يبتار السلاليما
) ( وسمحة المشي شملال قطعت بها ** أرضا يحار بها الهادون ديموما ) مهامها وخروقاً
لا أنيس بها قوله : قد أصبح الحبل هو الوصل . والمصروم : المقطوع . وقوله :
واستبدلت خلة الخ الخلة : الخليل وهو في الأصل مصدر ولهذا يكون للواحد والجمع
والمؤنث . قال الأصمعي : الخسف : الذل وأصله أن تبيت الدابة على غير علف ثم أطلق
على من أقام على ذل .
وقوله : عفّ صليب . إلى آخره الصليب : الجلد على المصائب الصبور على النوائب .
والجلبة )
بضم الجيم وبالموحدة : القحط . وروي : إذا ما أزمة أزمت و الأزمة : الشدة وأزمت :
اشتدت من باب ضرب و أصل الأزم العض بالأسنان يقول : أنا صبور على النوائب في الجدب
حيث لا يقوم أحد بحق ينوبه لشدة الزمان . و الموجود : الحي والمعدوم : الميت .
وقوله : وكان الشيب مسؤوماً قال الضبي : مسؤوم : مملول مفعول من سئمته سآمة إذا
مللته .
وقوله : أرى شيباً تفرعه قال الضبي : تفرّعه أي : ثار في فروعه وفرع كل شيء :
أعلاه .
والجرثومة بالضم : أصل الشجرة تجمع إليها الرياح التراب . يريد : أن الشباب يعلو
ويرتفع ما لا يقدر عليه الشيوخ وإنما هذا مثل . وقوله : كأن ريقتها الخ اغتبقت من
الغبوق وهو شرب العشيّ . والصرف : ما لم يمزج . والحانون : جمع حان بالمهملة وهو
الخمّار . والخرطوم : أول ما
____________________
قال
الأصمعي : إنما خص الغبوق لأنه أقرب من نومها قال : وإنما خص الحانين لأنهم أبصر
بالخمر من غيرهم . وقوله : سلافة الدّنّ الخ قال الضّبّي : أراد بالمرفوع نصائبه
الإبريق يقلد الريحان .
ونصائبه : قوائمه . والغفو بفتح الفاء وسكون الغين المعجمة : ضرب من النبت يكون
طيباً وقد قيل إنه الحنّاء وهو الفاغية .
وقال أحمد : نصائبه ما انتصب عليه الدن من أسفله وهو شيء محدد دقيق يجعل له ذلك
ليرفع الدّنّ للريح والشمس . بقول : قلّد الريحان وهذا مثل يقول من طيب رائحته كأنه
قلد الريحان والمسك ولذلك ذكر الغفو يريد ريح الريحان . ويروى : الريحان نصباً
وخفضاً .
وقوله : وقد ثوى نصف حول الخ باب أفان بفتح الهمزة وتشديد الفاء : موضع . ويبتار :
يختبر ويمتحن . والسلاليم : ما يتصل به إلى حاجته . وروي : يبتاع . والمعنى :
يصونها في مكان مرتفع .
وأنكر أحمد ما قال الضبي في الإبريق وقال : لم يذكر الإبريق بعد وإنما ثوى نصف حول
ليشتري الخمر أي : فهو يطلبها لم يشترها بعد وكيف يجعلها في الأباريق وإنما هو
يبتار : يصعد سلماً بعد سلم لأنها وضعت على السطوح لبروز الشمس والريح .
وقوله : حتى تناولها الخ قال الضبي الصهباء من عنب أبيض والصافية : الخالصة .
والتجار : جمع تاجر وهم تجار الخمر . والتراجيم : خدم من خدم الخمارين ويقال :
يريد التراجمة لأن وقوله : وسمحة المشي الواو واو رب . والسمحة : السهلة .
والديموم : القفر التي لا ماء فيها ولا علم . والشملال : السريعة .
وقوله : مهامهاً . . الخ هو بدل من قوله : أرضاً في البيت السابق . والمهمه :
القفر . والأنيس : من )
يؤنس به وإليه . والضوابح : جمع ضابح بالضاد المعجمة وبالموحدة والحاء المهملة وهو
الثعلب والضباح بالضم : صوته . والأصداء : جمع صدى وهو ذكر البوم . والخروق : جمع
خرق
____________________
بفتح
الخاء المعجمة وآخره قاف وهي الفلاة التي تنخرق فيها الرياح .
وترجمة الأسود بن يعفر تقدمت في الشاهد الرابع والستين .
وأنشد بعده وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : ولا
أمر للمعصي إلا مضيعا هذا عجز . وصدره : أمرتكم أمري بمنعرج اللوى لما تقدم قبله .
وقوله : وقال الخليل : مضيعاً حال الخ بهذا يسقط قول الأعلم حيث قال في شرح شواهد
سيبويه : الشاهد فيه نصب مضيع على الحال من الأمر وهو حال من النكرة وفيه ضعف لأن
أصل الحال أن يكون للمعرفة انتهى .
وأقول : إن جعل حالاً من الضمير المستقر في قوله : للمعصي فإنه خبر لا النافية فلا
يرد عليه ما ذكر .
وقال النحاس : ويجوز أن يكون حالاً للمضمر التقدير : إلا أمراً في حال تضييعه فهو
حال من نكرة .
أقول : هذا التقدير يقتضي أن يكون مضيعاً صفةً لا حالاً .
وقال الأعلم : ويجوز نصبه على الاستثناء والتقدير : إلا أمراً مضيعاً . وفيه قبح
لوضع الصفة موضع الموصوف .
أقول : لا قبح فإن الموصوف كثيراً ما يحذف لقرينة .
____________________
وقال ابن الأنباري في شرح المفضليات : الآستثناء منقطع ولو رفع في غير هذا الموضع لجاز
بجعله خبراً للا .
أقول : يجب حينئذ أن يقال ولا أمراً للمعصي بالتنوين إلا هذا مذهب البغداديين .
وهذا البيت من أبيات للكلحية العريني وقد شرحناها وذكرنا موردها مفصلاً وترجمناه
في )
وأنشد بعده وهو الشاهد الثالث والثلاثون بعد المائتين ( رأيت الناس ما حاشا قريشاً
** فإنا نحن أفضلهم فعالا ) على أن الأخفش روى حاشا موصولة بما المصدرية .
قال ابن عقيل في شرح التسهيل : وسيبويه منع من دخول ما على حاشا قال : لو قلت
أتوني ما حاشا زيداً لم يكن كلاماً . وأجازه بعضهم على قلة . . وأخطأ العيني حيث
زعم أن ما هنا نافية فإن مراد الشاعر تفضيل قومه على ما عدا قريشاً لا تفضيل قومه
على قريش أيضاً .
وقياسه على قول النبي صلى الله عليه وسلم : أسامة أحب الناس إلي ما حاشا فاطمة .
في أن ما نافية كما قال صاحب المغني يرده أنه صرح أن ما في البيت مصدرية فإنه قال
: وتوهم ابن مالك أن ما في الحديث ما المصدرية وحاشا الاستثنائية فاستدل به على
أنه قد يقال قام القوم ما حاشا زيداً كما قال
____________________
رأيت
الناس ما حاشا قريشاً . . البيت انتهى كلام المغني .
ورأيت : من الرؤية القلبية تطلب مفعولين والثاني هنا محذوف تقديره دوننا أو الجملة
هي المفعول الثاني والفاء زائدة كما قال الدحاميني وزعم : العيني وتبعه السيوطي في
شواهد المغني : أن رأيت من الرأي ولهذا اكتفى بمفعول واحد . وهذا لا معنى له هنا .
فتأمل .
وروي أيضاً : فأما الناس ما حاشا قريشاً فالفاء في المصراع الثاني فاء الجواب .
والفعال : بفتح الفاء قال ابن الشجري في أماليه : هو كل فعل حسن : من حلم أو سخاء
أو إصلاح بين الناس أو نحو ذلك . فإن كسرت فاؤه صلح لما حسن من الأفعال وما لم
يحسن .
وهذا البيت قال العييني وتبعه السيوطي : إنه للأخطل من قصيدة . وقد راجعت ديوانه
مرتين ولم أجده فيه ورأيت فيه أبياتاً على هذا الوزن يهجو بها جريراً ويفتخر بقومه
فيها وليس فيها هذا البيت وأول تلك الأبيات : ( لقد جاريت يا ابن أبي جرير **
عذوماً ليس ينظرك المطالا ) والله أعلم بحقيقة الحال .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الرابع والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : ( سبحانه ثم سبحاناً
نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودي والجمد )
____________________
على
أن سبحان الله فيه بمعنى سبحاناً . يريد : أن سبحان غير علم لمجيئه نكرةً كما هنا
ومعرفاً بالإضافة وباللام كما بينه في باب العلم . ويأتي الكلام عليه إن شاء الله
.
وأنشده سيبويه على أن تنكيره وتنوينه ضرورة والمعروف فيه أن يضاف أو يجعل مفرداً
معرفة كقوله : سبحان من علقمة الفاخر وهذا البيت من أبيات لورقة بن نوفل قالها
لكفار مكة حين رآهم يعذبون بلالاً على إسلامه وهي : ( لقد نصحت لأقوام وقلت لهم :
** أنا النذير فلا يغرركم أحد ) ( لا تعبدن إلهاً غير خالقكم ** فإن دعيتم فقولوا
: دونه حدد ) ( سبحان ذي العرش لا شيء يعادله ** رب البرية فرد واحد صمد ) (
سبحانه ثم سبحاناً نعوذ به ** وقبلنا سبح الجودي والجمد ) ( مسخر كل من تحت السماء
له ** لا ينبغي أن يناوي ملكه أحد ) ( لم تغن عن هرمز يوماً خزائنه ** والخلد قد
حاولت عاد فما خلدوا ) ( ولا سليمان إذ دان الشعوب له ** الجن والإنس تجري بينها
البرد ) ( لا شيء مما ترى تبقى بشاشته ** يبقى الإله ويودي المال والولد ) قوله :
دونه حدد بفتح الحاء والدال المهملتين قال صاحب الصحاح : دونه حدد أي : منع .
وأنشد هذا البيت . وهو من الحد بمعنى المنع أي : قولوا : نحن نمنع أنفسنا من عبادة
إله غير الله . . وقوله : نعوذ به أي : كلما رأينا أحداً يعبد غير الله عذنا
برحمته وسبّحناه حتى يعصمنا من الضلال وروى الرياشيّ : نعود له بالدال المهملة
واللام أي : نعاوده مرة بعد أخرى . والجوديّ : جبل بالموصل وقيل بالجزيرة كذا ورد
في التفسير قال
____________________
أبو
عبيد في المعجم : روي أن السفينة استقلت بهم في اليوم العاشر من رجب واستقرت على
الجودي يوم عاشوراء من المحرّم . )
وروى سعيد عن قتادة أن البيت بني من خمسة أجبل : من طور سيناء وطور زيتا ولبنان
والجوديّ وحراء . والجمد بضم الجيم والميم وتخفف الميم أيضاً بالسكون .
قال أبو عبيد : هو جبل تلقاء أسنمة قال نصيب : ( وعن شمائلهم أنقاء أسنمة ** وعن
يمينهم الأنقاء والجمد ) وقال في أسنمة : بفتح الألف وسكون السين وضم النون وكسرها
معاً وقال عمارة بن عقيل : هي أسنمة بضم الهمزة والنون وقال : هي رملة أصفل
الدهناء على طريق فلج وأنت مصعد إلى مكة وهو نقاً محدّد طويل كأنه سنام انتهى .
وروي أيضاً : وقبل سبّحه الجوديّ . . الخ بضمّ لام قبل . . وقوله : لا ينبغي أن
يناوي الخ أي : يعادي وناواه : عاداه وأصله الهمز لأنه من النوء وهو النهوض . وروي
: أن يساوى أي : لا يعادله .
وقوله : ولا سليمان إذ دان الخ دان بمعنى ذلّ وأطاع . والشعوب : جمع شعب بفتح
فسكون وهو ما تشعّب أي : تفرّق من قبائل العرب والعجم وبيّنه هنا بقوله : الجن
والإنس وضمير بينها للشعوب . والبرد بضمتين . جمع بريد وهو الرسول . وقوله : ويودي
المال الخ يقال أودى الشيء أي : هلك فهو مود .
ورقة بن نوفل يعدّ من الصحابة : وقد ألّف أبو الحسن برهان الدين إبراهيم البقاعيّ
الشافعي تأليفاً في إيمان ورقة بالنبي وصحبته له صلى الله عليه وسلم ولقد أجاد في
جمعه وشدد الإنكار على من أنكر صحبته وجمع فيه الأخبار التي
____________________
نقلت
عن ورقة رضي الله عنه بالتصريح بإيمانه بالنبي صلى الله عليه وسلم وسروره بنبوته
والأخبار الشاهدة له بأنه في الجنة وما نقله العلماء من الأحاديث في حقه وما ذكروه
في كتبهم المصنفة في أسماء الصحابة وسمي تأليفه : بذل النصح والشفقة للتعريف بصحبة
السيد ورقة وقال في ترجمته : هو ورقة بن نوفل بن أسد بن عبد العزى بن قصيّ يجتمع
مع النبي صلى الله عليه وسلم في جدّ جده .
قال الزبير بن بكار : كان ورقة قد كره عبادة الأوثان وطلب الدين في الآفاق وقرأ
الكتب وكانت خديجة رضي الله عنها تسأله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم فيقول لها
: ما أراه إلا نبي هذه المة الذي بشر به موسى وعيسى .
وقال ابن كثير : قال ابن إسحاق : وكانت خديجة بنت خويلد بن أسد بن عبد العزى ذكرت
)
لورقة وكان ابن عمها وكان نصرانياً قد تتبع الكتب وعلم من علم الناس ما ذكر لها
غلامها يعني ميسرة من أمر الراهب يعني الذي قال لما نزل محمد صلى الله عليه وسلم
تحت شجرة قريبة من الراهب في السفرة التي سافرها لخديجة إلى الشام : ما نزل تحت
هذه الشجرة إلا نبي وما كان ميسرة يرى منه إذ كان الملكان يظلانه فقال ورقة : إن
كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة وقد عرفت أنه كائن لهذه الأمة نبي
ينتظر هذا زمانه . قال : فجعل ورقة يستبطئ الأمر ويقول : حتى متى وقال في ذلك : (
لججت وكنت في الذكرى لجوجاً ** لهمّ طالما بعث النشيجا ) ( ووصف من خديجة بعد وصف
** فقد طال انتظاري يا خديجا ) ( ببطن المكتين على رجائي ** حديثك إن أرى منه
خروجا )
____________________
(
بما خبرتنا من قول قسّ ** من الرهبان أكره أن يعوجا ) ( بأن محمداً سيسود يوماً **
ويخصم من يكون له حجيجا ) ( فيلقى من يحاربه خساراً ** ويلقى من يسالمه فلوجا ) (
فيا ليتني إذا ما كان ذاكم ** شهدت وكنت أولهم ولوجا ) ( أرجّي بالذي كرهوا جميعاً
** إلى ذي العرش إن سفلوا عروجا ) ( وهل أمر السفاهة غير كفر ** بمن يختار من سمك
البروجا ) ( فإن يبقوا وأبق تكن أمور ** يضج الكافرون لها ضجيجا ) ( وإن أهلك فكل
فتى سيلقى ** من الأقدار متلفة خروجا ) ومات ورقة في فترة الوحي رضي الله عنه قبل
نزول الفرائض والأحكام .
وقال الزبير في كتاب نسب قريش : ورقة بن نوفل لم يعقب وقال رسول الله صلى الله
عليه وسلم : لا تسبوا ورقة فإني رأيته في ثياب بيض . وهو الذي يقول : ( ارفع ضعيفك
لا يحر بك ضعفه ** يوماً فتدركه العواقب قد نما )
____________________
(
يجزيك أو يثني عليك وإن من ** أثنى عليك بما فعلت كمن جزى ) ومرّ ببلال بن رباح
رضي الله عنه وهو يعذب برمضاء مكة فيقول : أحد أحد فوقف عليه فقال : أحد أحد والله
يا بلال ونهاهم عنه فلم ينتهوا فقال : والله لئن قتلتموه لأتخذنّ قبره حنانا وقال
: )
الأبيات التي شرحناها وفيها بيت الشاهد .
وقد نسب هذه الأبيات إلى ورقة السهيلي أيضاً وكذا الحافظ أبو الربيع الكلاعيّ في
سيرته .
وقال السهيلي : قوله : حنانا أي : لأتخذنّ قبره منسكاً ومترحما والحنان : الرحمة .
وقد وقع بيت الشاهد في كتاب س غير معزوّ إلى واحد واختلف شرّاح شواهده فأكثرهم قال
: إنها لأمية بن أبي الصلت وقال بعضهم : إنها لزيد بن عمرو بن نفيل . والصواب ما
قدمناه .
وحاصل ما ذكره البقاعيّ في شأن ورقة بن نوفل : أنه ممن وحّد الله في الجاهلية فخالف
قريشاً وسائر العرب في عبادة الأوثان وسائر أنواع الإشراك وعرف بعقله الصحيح أنهم
أخطؤوا دين أبيهم إبراهيم الخليل عليه السلام ووحّد الله تعالى واجتهد في تطلب
الحنيفية دين إبراهيم ليعرف أحب الوجوه إلى الله تعالى في العبادة .
فلم يكتف بما هداه إليه عقله بل ضرب في الأرض ليأخذ علمه عن أهل العلم بكتب الله
المنزلة من عنده الضابطة للأديان فأداه سؤاله أهل الذكر الذين أمر الله بسؤالهم
إلى أن اتبع الدين الذي أوجبه الله في ذلك الزمان وهو الناسخ لشريعة موسى عليه
السلام : دين النصرانية ولم يتبعهم في التبديل بل في التوحيد وصار يبحث عن النبي
صلى الله عليه وسلم الذي بشر به موسى وعيسى عليهما السلام .
____________________
فلما أخبرته ابنة عمّه الصدّيقة الكبرى خديجة رضوان الله عليها بما رأت وأخبرت به
في شأن النبي صلى الله عليه وسلم من المخايل : بإظلال الغمام ونحوها ترجى أن يكون
هو المبشر به وقال في ذلك أشعاراً يتشوق فيها غاية التشوق إلى إنجاز الأمر الموعود
لينخلع من النصرانية إلى دينه لأنه كان قال لزيد بن عمرو بن نفيل لما قال لهم
العلماء : إن أحب الدين إلى الله دين هذا المبشر به : أنا أستمر على نصرانيتي إلى
أن يأتي هذا النبي فلما حقق الله الأمر وأوقع الإرهاصات : بالسلام من الأشجار
والأحجار على النبي صلى الله عليه وسلم وبمناداة إسرافيل عليه السلام للنبي صلى
الله عليه وسلم مع الاستتار منه وخاف النبي صلى الله عليه وسلم من ذلك فاشتد خوفه
فنقل ذلك إلى ورقة بن نوفل رضي الله عنه اشتد سروره بذلك وثبته وشد قلبه وشجعه .
فلما بدا له الأمر بفراغ نوبة إسرافيل وأتاه جبريل عليه السلام وفعل ما أمره الله
به : من شق صدره الشريف وغسل قلبه وإيداعه الحكمة والرحمة وما شاء الله وتبدّى له
جبريل وأنزل عليه بعض القرآن وأخبره به قفّ شعر ورقة )
وسبح الله وقدّسه وعظم سروره بذلك وشهد أنه أتاه الناموس الأكبر الذي كان يأتي
الأنبياء قبله عليهم السلام وشهد أنه الذي أنزل عليه كلام الله وشهد أنه نبي هذه
الأمة وتمنى أن يعيش إلى أن يجاهد معه . هذا مع ما له بالنبي عليه الصلاة والسلام
وزوجه الصدّيقة خديجة ومن شعره : ( أتبكر أم أنت العشية رائح ** وفي الصدر من
إضمارك الحزن قادح ) ( لفرقة قوم لا أحب فراقهم ** كأنك عنهم بعد يومين نازح ) (
وأخبار صدق خبّرت عن محمد ** يخبّرها عنه إذا غاب ناصح ) ( فتاك الذي وجّهت يا خير
حرة ** بغور وبالنجدين حيث الصحاصح ) ( إلى سوق بصرى في الركاب التي غدت ** وهنّ
من الأحمال قعص دوالح )
____________________
(
يخبّرنا عن كل حبر بعلمه ** وللحق أبواب لهن مفاتح ) ( بأن ابن عبد الله أحمد مرسل
** إلى كل من ضمت عليه الأباطح ) ( وظني به أن سوف يبعث صادقاً ** كما أرسل
العبدان : هود وصالح ) ( وموسى وإبراهيم حتى يرى له ** بهاء ومنشور من الذكر واضح
) ( ويتبعه حياً لؤيّ بن غالب ** شبابهم والأشيبون الجحاجح ) ( فإن أبق حتى يدرك
الناس أمره ** فإني به مستبشر الودّ فارح ) ( وإلا فإني يا خديجة فاعلمي ** عن
أرضك في الأرض العريضة سائح ) ومن شعره أيضاً : ( وجبريل يأتيه وميكال فاعلمي **
من الله وحي يشرح الصدر منزل ) ( يفوز به من فاز فيها بتوبة ** ويشقى به العاتي
الغرير المضلّل ) ( فريقان منهم فرقة في جنانه ** وأخرى بأجواز الجحيم تغلّل ) (
فسبحان من تهوى الرياح بأمره ** ومن هو في الأيام ما شاء يفعل ) ( ومن عرشه فوق السماوات
كلها ** وأقضاؤه في خلقه لا تبدّل ) ومن شعره أيضاً : ( يا للرجال وصرف الدهر
والقدر ** وما لشيء قضاه الله من غير ) ( جاءت خديجة تدعوني لأخبرها ** وما لنا
بخفي الغيب من خبر ) ) ( جاءت لتسألني عنه لأخبرها ** أمراً أراه سيأتي الناس من
أخر ) ( فخبّرتني بأمر قد سمعت به ** فيما مضى ن قديم الدهر والعصر ) ( بأن أحمد
يأتيه فيخبره ** جبريل أنك مبعوث إلى البشر ) ( فقلت علّ الذي ترجين ينجزه ** لك
الإله فرجّي الخير وانتظري ) ( وأرسليه إلينا كي نسائله ** عن أمره ما يرى في
النوم والسهر ) ( فقال حين أتانا منطقاً عجباً ** يقفّ منه أعالي الجلد والشعر ) (
ثم استمر فكاد الخوف يذعرني ** مما يسلّم ما حولي من الشجر ) ( فقلت : ظني وما
أدري أيصدقني ** أن سوف يبعث يتلو منزل السور )
____________________
(
وسوف أبليك إن أعلنت دعوتهم ** من الجهاد بلا منّ ولا كدر ) وأنشد بعده وهو الشاهد
الخامس والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد سيبويه : سبحان من علقمة الفاخر هذا
عجز وصدره : أقول لمّا جاءني فخره على أن ترك تنوين سبحان ليس لأنه غير منصرف
للعلمية وزيادة الألف والنون بل لأجل بقائه على صورة المضاف لما غلب استعماله
مضافاً والأصل سبحان الله فحذف المضاف إليه للضرورة .
وهذا ردّ على سيبويه ومن تبعه في زعمه أن سبحان علم غبر منصرف . ويأتي إن شاء الله
تعالى بقية الكلام عليه في باب العلم .
قال الراغب : قوله : سبحان من علقمة الفاخر تقديره : سبحان علقمة على التهكم فزاد
فيه من ردّاً إلى أصله وقيل : أراد سبحان الله من أجل علقمة فحذف المضاف إليه اه .
أقول : والوجه الأول ضعيف لغة وصناعة : أما الأول فلأن العرب لا يستعملونه إلا
مضافاً إلى الله ولم يسمع إضافته إلى غيره وأما صناعة فلأن من لا تزاد في الواجب
عند البصريين وسبحان في البيت للتعجب ومن داخلة على المتعجب منه والأصل فيه أن
يسبح الله تعالى )
عند رؤية العجيب من صنائعه ثم كثر حتى استعمل في كل متعجب منه .
____________________
قال بعضهم : يستلزم التنزيه التعجب من بعد ما نزّه عنه من المنزه فكأنه قيل
ماأبعده منه فقد يقصد به التنزيه أصلاً والتعجب تبعاً كما في سبحان الذي أسرى
بعبده وقد يقصد به التعجب ويجعل تنزيهه تعالى ذريعة له فيسبح الله عند رؤية العجيب
من صنائعه . ثم كثر حتى استعمل عند كل تعجب من شيء كما في : سبحانك هذا بهتان عظيم
اه . والمعنى أعجب من علقمة إذ فاخر عامر بن الطفيل .
وهذا البيت من قصيدة لأعشى ميمون قبحه الله تعالى هجا بها علقمة بن علاثة الصحابي
رضي الله عنه ومدح ابن عمه عامراً المذكور لعنه الله تعالى وغلّبه عليه في الفخر .
وسبب هذه القصيدة أن علقمة بن علاثة الصحابي نافر ابن عمه عامر بن الطفيل عدو الله
والمنافرة : المحاكمة في الحسب والشرف فهاب حكام العرب أن يحكموا بينهما بشيء كما
تقدم في الشاهد السادس والعشرين ثم أن الأعشى مدح الأسود العنسي فأعطاه خمسمائة
مثقال ذهباً وخمسمائة حللاً وعنبراً فخرج فلما مرّ ببلاد بني عامر وهم قوم علقمة
وعامر خافهم على ما معه فأتى علقمة بن علاثة فقال له : أجرني قال : قد أجرتك من
الجن والإنس قال الأعشى : ومن الموت قال : لا .
فأتى عامر بن الطفيل فقال له : أجرني قال : قد أجرتك من الجن والإنس قال الأعشى :
ومن الموت قال عامر : ومن الموت أيضاً قال : وكيف تجيرني من الموت قال : إن مت في
جواري بعثت إلى أهلك الدية قال : الآن علمت أنك قد أجرتني فحرّضه عامر على تنفيره
على علقمة فغلّبه عليه بقصائد فلما سمع نذر ليقتلنه إن ظفر به فقال الأعشى هذه
القصيدة .
ومطلعها :
____________________
(
شاقك من قتلة أطلالها ** بالشط فالجزع إلى حاجر ) ( لو أسندت ميتاً إلى نحرها **
عاش ولم ينقل إلى قابر ) ( حتى يقول الناس مما رأوا ** يا عجباً للميت الناشر ) (
دعها فقد أعذرت في ذكرها ** واذكر خنى علقمة الخائر ) ( يحلف بالله : لئن جاءه **
عنّي نباً من سامع خابر ) ( ليجعلني ضحكة بعدها ** خدعت يا علقم من ناذر ) )
إلى أن قال : ( إن الذي فيه تماريتما ** بيّن للسامع والناظر ) ( ما جعل الجدّ
الظنون الذي ** جنّب صوب اللجب الماطر ) ( مثل الفراتي إذا ما جرى ** يقذف
بالبوصيّ والماهر ) ( أقول لمّا جاءني فخره ** سبحان من علقمة الفاخر ) ( علقم لا
تسفه ولا تجعلن ** عرضك للوارد والصادر ) ( وأول الحكم على وجهه ** ليس قضائي
بالهوى الجائر ) ( حكّمتموه فقضى بينكم ** أبلج مثل القمر الباهر ) ( لا يأخذ
الرشوة في حكمه ** ولا يبالي غبن الخاسر ) ( سدت بني الأحوص لا تعدهم ** وعامر ساد
بني عامر ) ( قد قلت شعري فمضى فيكما ** فاعترف المنفور للنافر ) وهي قصيدة طويلة
: ومنها :
____________________
وسيأتي
شرحه مع أبيات في باب أفعل التفضيل .
وقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن رواية هذه القصيدة ولهذا لم أذكرها كلها .
قال السيوطي في شرح شواهد المغني . وعلقمة بن علاثة صحابيّ قدم على رسول الله صلى
الله عليه وسلم وهو شيخ فأسلم وبايع وروى حديثاً واحداً . أخرج ابن منده وابن
عساكر من طريق الأعمش عن أبي صالح قال : حدثني علقمة بن علاثة قال : أكلت مع رسول
الله صلى الله عليه وسلم رؤوساً . واستعمله عمر بن الخطاب على حوران فمات بها .
وأخرج أبو نعيم والخطيب وابن عساكر عن محمد بن مسلمة قال : كنت عند النبي صلى الله
عليه وسلم وعنده حسان فقال : يا حسان أنشدنا من شعر الجاهلية ما عفا الله لنا فيه
فأنشده حسان قصيدة الأعشى في علقمة بن علاثة : ( علقم ما أنت إلى عامر ** الناقض
الأوتار والواتر ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم : يا حسان لا تنشدني مثل هذا بعد
اليوم فقال حسان : يا رسول الله ما يمنعني من رجل مشرك هو عند قيصر أن أذكر هجاء
له فقال : يا حسان إني ذكرت عند قيصر وعنده أبو سفيان بن حرب وعلقمة بن علاثة فأما
أبو سفيان فلم يترك فيّ )
وأما علقمة فحسن القول وإنه لا يشكر الله من لا يشكر الناس . فقال حسان : يا رسول
الله وقال وكيع في الغرر عن الزهري : قال : رخّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في
الأشعار كلها إلا هاتين الكلمتين : التي قال أمية بن أبي الصلت في أهل
____________________
بدر
: ( ماذا ببدر فالعقنقل ** من مرازبة جحاجح ) والتي قال الأعشى في علقمة بن علاثة
: شاقك من قتلة أطلالها .
انتهى ما رواه السيوطي .
قال شارح ديوان الأعشى محمد بن حبيب وكذلك ابن قتيبة في كتاب الشعراء : إن علقمة
بن علاثة لما نذر بدم الأعشى جعل له على كل طريق رصداً فاتفق أن الأعشى خرج يريد
وجهاً ومعه دليل فأخطأ به الطريق فألقاه على ديار بني عامر بن صعصعة فأخذه رهط
علقمة بن علاثة فأتوه به فقال له علقمة : الحمد لله الذي أمكنني منك فقال الأعشى :
( أعلقم قد صيّرتني الأمور ** إليك وما أنت لي منقص ) ( فهب لي ذنوبي فدتك النفوس
** ولا زلت تنمو ولا تنقص ) فقال قوم علقمة : يا علقمة : اقتله وأرحنا منه والعرب
من شرّ لسانه فقال علقمة : إذاّ تطلبوا بدمه ولا يغسل عني ما قاله ولا يعرف فضلي
عند القدرة فأمر به فحلّ وثاقه وألقى عليه حلة وحمله على ناقة وأحسن عطاءه وقال :
انج حيث شئت وأخرج معه من بني كلاب من يبلغه مأمنه فقال الأعشى بعد ذلك : ( علقم
يا خير بني عامر ** للضيف والصاحب والزائر ) ( والضاحك السن على همّة ** والغافر
العثرة للعاثر )
____________________
وترجمة
علقمة بن علاثة تقدمت في الشاهد السادس والعشرين وترجمة عامر بن الطفيل في الشاهد
الثامن والستين بعد المائة .
وقتلة : اسم امرأة . والشط : جانب النهر وموضع . والخنى : الفحش . والخاتر :
الغادر . وقوله : ما جعل الجدّ الخ ما نافية . والجدّ بضم الجيم : البئر القديمة
التي لا يدرى أفيها ماء أم لا .
والصوب : المطر . واللجب بفتح اللام وكسر الجيم : السحاب والفراتي يعني الفرات
المعروف أو الماء المعروف . والبوصيّ بضم الموحدة : ضرب من السفن . والماهر السابح
. يريد أن البئر التي )
بها ماء ليست كالبحر الذي تجري فيه السفن وغيرها . وجملة سبحان من علقمة الفاخر
مقول القول . والفاخر بالخاء المعجمة . والمنفور : المفضول . والنافر : الفاضل .
وأنشد بعده وهو الشاهد السادس والثلاثون بعد المائتين هذا عجز وصدره : ولا أرى
فاعلاً في الناس يشبهه على أن المبرد استدل به على فعلية حاشى بتصرفه .
قال ابن الأنباري في مسائل الخلاف : ذهب الكوفيون إلى أن حاشا في الاستثناء فعل
ماض وذهب بعضهم إلى أنه استعمل استعمال الأدوات وذهب
____________________
البصريون
إلى انه حرف جر وذهب أبو العباس المبرد إلى أنه يكون فعلاً ويكون حرفاً . أما
الكوفيون فاحتجوا على فعليته بالتصرف كقول النابغة : ( وما أحاشي من الأقوام من
أحد ** ) وبأن لام الخفض تتعلق به قال تعالى : حاش لله وحرف الجر إنما يتعلق
بالفعل لا بالحرف وبأن الحذف يلحقه فإنهم قالوا في حاشا لله : حاش لله . واستدل
البصريون على حرفيته بأنّ لا يقال ما حاشا زيداً كما يقال ما خلا زيداً وما عدا
عمراً وبأن نون الوقاية لا تلحقه فلا يقال حاشاني ولو كان فعلاً لقيل . وأجابوا عن
قول الكوفيين بالتصرف بأن أحاشي مأخوذ من لفظ حائى وليس متصرفاً منه كما يقال :
بسمل وهلل وحمدل وسبحل وحوقل : إذا قال بسم الله ولا إله إلا الله والحمد لله
وسبحان الله ولا حول ولا قوة إلا بالله وكذلك يقال : لبّي إذا وقولهم : إن لام
الجر تتعلق به قلنا : لا نسلّم فإنها زائدة لا تتعلق بشيء . وأما قوله تعالى : حاش
لله فليس لهم فيه حجة فإن حاش فيه ليست للإستثناء وإنما هي للتنزيه .
وقولهم : لحقه الحذف قلنا : جوابه من وجهين : أحدهما أن الأصل حاش لله والألف في
حاشا حدثت زيادتها والثاني أن الحرف يدخله الحذف كثيراً كربّ وإن يلحقهما التخفيف
وكقولك : سَوْ أفعل في سوف أفعل ويقال : فيه سف أفعل أيضاً اه كلامه مختصراً .
وبهذا وبكلام الشارح المحقق يرد على ابن هشام في المغني قوله أن أحد أوجه حاشا أن
تكون فعلاً متعدياً متصرفاً تقول : حاشيته بمعنى استثنيته ودليل تصرّفه قوله : )
ولا أحاشي من الأقوام من أحد وهذا البيت من قصيدة طويلة للنابغة الذبياني مدح بها
النعمان بن المنذر ملك الحيرة وقد تقدم شرح أبيات منها في الشاهد التاسع والثمانين
بعد المائة .
____________________
وقبله : ( فتلك تبلغني النعمان إن له ** فضلاً على الناس في الأدنى وفي البعد ) (
ولا أرى فاعلاً في الناس يشبهه ** ولا أحاشي من الأقوام من أحد ) ( إلا سليمان إذ
قال الإله له ** قم في البرية فاحددها عن الفند ) وقوله : فتلك تبلغني الإشارة إلى
الناقة التي وصفها في أبيات شرحت هناك . وقوله : ولا أحاشي أي : لا أستثني أحداً
ممن يفعل الخير فأقول حاشا فلان . ومن زائدة وأحد مفعول . . .
وقوله : إلا سليمان هذا استثناء من قوله : من أحد أو بدل من موضع أحد والمراد به
سليمان بن داود عليهما السلام وإذ تعليلية . وقوله : إذ قال الإله له الخ يريد
لكونه نبياً إذ الخطاب إنما يكون مع الأنبياء إنما خص بالذكر من الأنبياء سليمان
لأنه كان له الملك مع النبوة . يريد : لا يشبهه أحد ممن أوتي الملك إلا سليمان
النبي .
وقوله : فاحددها أي : امنع البرية والحدّ : المنع ورجل محدود : ممنوع والحداد :
السجان لأنه يمنع . والفند بفتح الفاء والنون : خطأ الرأي والصنيع وقال ابن
الأعرابي : الفند : الظلم .
وترجمة النابغة تقدمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده وهو
الشاهد السابع والثلاثين بعد المائتين وهو من شواهد س :
____________________
لم
يمنع الشرب منها غير أن نطقت هذا صدر البيت وأنشده بتمامه في باب الظروف وتمامه :
على أن غير إذا أضيفت إلى إن أو أن المشددة فلا خلاف في جواز بنائها على الفتح . .
فإن قلت : أن حرف والحرف لا يضاف إليه قلت : قال ابن هشام في حواشي الألفية : إنهم
جعلوا ما يلاقي المضاف من المضاف إليه كأنه المضاف إليه ونظيره تعليل الزمخشري
البناء في يوم لا تملك بإضافة يوم إلى لا والحروف مبنية مع علمنا بأن أحداً لا
يتخيل الإضافة إلى الحرف .
وجعل بعضهم المضاف إليه مجموع أن نطقت حمامة أي : جملتها .
قال الدماميني في شرح المغني المزج : سأل بعض الناس كيف أضيفت غير لمبني مع ان هذا
المضاف إليه في تقدير معرب وهو النطق فلم تضف في الحقيقة إلا لمعرب فقلت : المعرب
إنما هو الاسم الذي يؤول به وأما الحرف المصدري وصلته فمبني ألا تراهم يقولون :
المجموع في موضع كذا . . . إلى آخر ما بيّنه . وظاهره جواز بناء غير عند إضافتها
إلى أحد اللفظين من المبنيات لا غير . وقد عمّم سيبويه وغيره في إضافتها إلى كل مبني
قال ابن هشام في المغني في غير أنه يجوز بناؤها على الفتح إذا أضيفت لمبني كقوله :
لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت وقوله : ( لذ بقيس حين يأبى غيره ** تلفه بحراً
مفيضاً خيره ) وذلك في البيت الأول أقوى لأنه انضم إلى الإبهام والإضافة لمبني
تضمن غير
____________________
معنى
إلا وقال في الأمور التي يكتسبها الاسم بالإضافة من الباب الرابع : إن البناء يكون
في ثلاثة أبواب : أحدها : أن يكون المضاف مبهماً كغير ومثل ودون . الثاني : ان
يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه إذ نحو ومن خزي يومئذ . الثالث : أن يكون
المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه فعل مبني سواء كان البناء أصلياً كقوله : على
حين عاتبت المشيب أو عارضاً كقوله : )
على حين يستصبين وكذلك يجوز البناء إذا كان المضاف إليه فعلاً معرباً أو جملة
إسمية على الصحيح اه .
وقد بين الشارح المحقق علة البناء في الظروف وفي الإضافة .
وقد ذهب الكوفيون إلى جواز بناء غير في كل موضع يحسن فيه إلا سواء أضيفت إلى متمكن
أو غير متمكن . وقد بسط الكلام ابن الأنباري في مسائل الخلاف على مذهبهم وذكر ما
ردّ به البصريون عليهم مفصلاً ومن أحب الاطلاع عليه فلينظر هناك .
وهذا البيت من قصيدة لأبي قيس بن الأسلت . وقبله :
____________________
(
تعطيك مشياً وإرقالاً ودأدأة ** إذا تسربلت الآكام بالآل ) ( تردي الإكام إذا صرّت
جنادبها ** منها بصلب وقاح البطن عمّال ) لم يمنع الشرب منها غير أن نطقت قوله :
ارعويت أي : رجعت . والوجناء : الناقة الشديدة وقيل العظيمة الوجنتين . والشملال
بالكسر : الخفيفة السريعة . وضمير فيها للدار . يريد : أنه طال وقوفه على دار
حبيبته وليس فيها أحد . والإرقال : مصدر أرقلت الناقة : إذا أسرعت وكذلك الدأدأة
مصدر دأدأت بمعناه وهما نوع من العدو .
وقوله : إذا تسربلت الخ الظرف متعلق بقوله تعطيك يريد : وقت اشتداد الحر في
الظهيرة لأن الآكام وهي الجبال إنما تتسربل بالآل وهو السراب عند الظهيرة .
والسربال : القميص وتسربل أي : لبس سربالاً والآكام فاعله وهو جمع أكم بضمتين
كأعناق جمع عنق وهو جمع إكام بالكسر مثل كتب جمع كتاب والإكام أيضاً جمع أكم
بفتحتين مثل جبال جمع جبل وأكم أيضاً جمع أكمة بفتحات . يقول : إنها نشيطة في
العدو وقت الهاجرة .
وقوله : تردي الإكام الخ من ردى الفرس بالفتح يردي ردياً وردياناً : إذا رجم الأرض
رجماً بين العدو والمشي الشديد . والإكام بالكسر : جمع أكم بفتحتين كما تقدم والأكمة
: الجبل الصغير .
وإذا متعلق بقوله تردي . و صرّت : صوتت . والجنادب : جمع جندب وهو نوع من الجراد
يصوّت عند اشتداد الهاجرة .
وقوله : بصلب أي : بخفّ صلب سديد . والوقاح بالفتح هو الصلب ومنه الوقاحة لصلابة
الوجه . يريد : ان خفها ظهره وبطنه صلب . وعمال بالفتح مبالغة عامل وهو المطبوع
على )
العمل .
وقوله : لم يمنع الشرب منه . . . الخ ضمير منها راجع للوجناء والشرب مفعول يمنع
وغير فاعله لكنه بني على الفتح جوازاً لإضافته إلى مبني . وروي الرفع أيضاً .
ونطقت : صوتت وصدحت عبر عنه بالنطق مجازاً . وفيّ : بمعنى على . وذات بالجر صفة
لغصون لا بالرفع صفة لحمامة كما وهم ابن المستوفى في شرح شواهد المفصل . والأوقال
: جمع وقل بفتح
____________________
الواو
وسكون القاف قال الدينوري في كتاب النبات : قال أبو عبد الله الزبير بن بكار :
المقل إذا كان رطباً لم يدرك فهو البهش فإذا يبس فهو الوقل والدوم : شجر المقل .
وأنشد هذا البيت اه .
وبهذا التفسير قد أصاب المحزّ وطبّق المفصل وبه يضمحل التعسف الذي ارتكبه شراح
الشواهد . قال ابن السيرافي في شرح شواهد إصلاح المنطق : يريد لم يمنعها أن تشرب
إلا أنها صوتت حمامة فنفرت . يريد : أنها حديدة النفس يخامرها فزع وذعر لحدة نفسها
. وذلك وأبو قيس بن الأسلت قال صاحب الأغاني : لم يقع إليّ اسمه . والأسلت لقب
أبيه واسمه عامر بن جشم بن وائل بن زيد بن قيس بن عمارة بن مرة بن مالك بن الأوس .
. وهو شاعر من شعراء الجاهلية . وكانت الأوس قد أسندت إليه حربها يوم بعاث وجعلته
رئيساً عليها فكفى وساد .
وأسلم عقبة بن أبي قيس واستشهد يوم القادسية . وكان يزيد بن مرداس السلمي قتل قيس
بن أبي قيس في بعض حروبهم فطلبه بثأره هارون بن النعمان بن الأسلت حتى تمكّن من
يزيد بن مرداس فقتله بقيس وهو ابن عمه ولقيس يقول أبوه أبو قيس بن الأسلت : ( أقيس
إن هلكت وانت حيّ ** فلا تعدم مواصلة الفقير ) وقال هشام بن الكلبي : كانت الأوس
قد أسندوا أمرهم في يوم بعاث إلى أبي قيس بن الأسلت فقام في حربهم وآثرها على كل
أمر حتى شحب وتغير ولبث أشهراً لا يقرب امرأته ثم إنه جاء ليلة فدقّ على امرأته
ففتحت له فأهوى إليها
____________________
بيده
فدفعته وأنكرته فقال : أنا أبو قيس فقالت : والله ما عرفتك حتى تكلمت فقال في ذلك
أبو قيس القصيدة التي أولها : ( قالت ولم تقصد لقيل الخنى ** مهلاً فقد أبلغت
أسماعي ) ( استنكرت لوناً له شاحباً ** والحرب غول ذات أوجاع ) ( من يذق الحرب يجد
طعمها ** مرّاً وتتركه بجعجاع ) ( أسعى على جلّ بني مالك ** كل امرئ في شأنه ساعي
) ) ( لا نألم القتل ونجزي به ال ** أعداء كيل الصاع بالصاع ) اه . كلام الأغاني .
وقال ابن حجر في الإصابة : أبو قيس بن الأسلت اسمه صيفيّ وقيل : الحارث وقيل : عبد
الله وقيل : صرمة وقيل غير ذلك . . واختلف في إسلامه . فقال أبو عبيد القاسم بن
سلام في ترجمة ولده عقبة بن أبي قيس : كان أبو قيس يحض قومه على الإسلام وذلك بعد
أن اجتمع بالنبي صلى الله عليه وسلم وسمع كلامه .
وكان يتألّه في الجاهلية ويدعي الحنيفية وكان يقول : ليس أحد على دين إبراهيم إلا
أنا وزيد بن عمرو بن نفيل . وكان يذكر صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأنه يهاجر
إلى يثرب . وشهد وقعة بعاث وهو يوم للأوس على الخزرج وكانت قبل الهجرة بخمس سنين .
____________________
وزعموا أنه لما حضره الموت أرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم يقول له : قل لا
إله إلا الله أشفع لك بها فسمع يقول ذلك وقيل : قال : والله لا أسلم إلى سنة فمات
قبل الحول على رأس عشرة أشهر من الهجرة بشهرين . وقد جاء عن ابن إسحق : أنه هرب
إلى مكة فأقام بها مع قريش إلى عام الفتح اه . باختصار .
روى صاحب الأغاني بسنده إلى المبرد قال : قال لي صالح بن حسان : أنشدني بيتاً
خفراً في امرأة خفرة شريفة فقلنا : قول حاتم : ( يضيء لها البيت الظليل خصاصه **
إذا هي يوماً حاولت أن تبسما ) فقال : هذه من الأصنام أريد أحسن من هذا قلنا : قول
الأعشى : ( كأن مشيتها من بيت جارتها ** مرّ السحابة : لا ريث ولا عجل ) فقال :
هذه خرّاجة ولاجة قلنا : بيت ذي الرمة : ( تنوء بأخراها فلأياً قيامها ** وتمشي
الهوينى من قريب فتبهر ) فقال : ليس هذا مما أردت إنما وصف هذه بالسمن وثقل البدن
فقلنا : ما عندنا شيء .
فقال : قول أبي قيس بن الأسلت :
____________________
(
ويكرمها جاراتها فيزرنها ** وتعتلّ عن إتيانهن فتعذر ) ( وليس لها أن تستهين بجارة
** ولكنها منهنّ تحيا وتخفر ) ثم قال : أنشدوني أحسن بيت وصفت به الثريا : قلنا :
بيت ابن الزبير الأسديّ : ) ( وقد لاح في الغور الثريا كأنما ** به راية بيضاء
تخفق للطعن ) قال : أريد أحسن من هذا قلنا : بيت امرئ القيس : قال : أريد أحسن من
هذا قلنا : بين ابن الطثرية : ( إذا ما الثريا في السماء كأنها ** جمان وهي من
سلكه فتسرّعا ) قال : أريد أحسن من هذا قلنا : ما عندنا شيء قال : قول أبي قيس بن
الأسلت : ( وقد لاح في الصبح الثريا لمن رأى ** كعنقود ملاّحيّة حين نوّرا ) قال :
فحكم له عليهم في هذين المعنيين بالتقدم . انتهى .
وهذا البيت الأخير من أبيات علم المعاني ولأجله أوردت هذه الحكاية . ( تتمة : )
البيت الشاهد كونه لابن الأسلت هو ما ذكره أبو حنيفة الدينوري في كتاب النبات وهو
من معرفة الأشعار أديب غير منازع فيها . وقد نسبه الزمخشري في الأجاجي إلى الشماخ
وقد راجعت ديوانه فلم أجده فيه .
____________________
ونسبه بعض شراح شواهد كتاب سيبويه لرجل من كنانة . ونسبه بعض فضلاء العجم في شرح
أبيات المفصل تبعاً للزمخشري في شرح أبيات الكتاب لأبي قيس بن رفاعة الأنصاري .
أقول : لم يوجد في كتب الصحابة من يقال له أبو قيس بن رفاعة وإنما الموجود قيس بن
رفاعة وهو واحد أو اثنان . قال ابن حجر في الإصابة في القسم الأول : قيس بن رفاعة
الواقفي من بني واقف بن امرئ القيس بن مالك بن الأوس الأنصاري . ذكره المرزباني في
معجم الشعراء وقال : أسلم وكان أعور وأنشد له : ( أنا النذير لكم مني مجاهرة ** كي
لا نلام على نهي وإنذار ) ( من يصل ناري بلا ذنب ولا ترة ** يصل بنار كريم غير
غدار ) ( وصاحب الوتر ليس الدهر يدركه ** عندي وإني لدرّاك لأوتاري )
____________________
ثم
قال ابن حجر : قيس بن رفاعة بن الهميس بن عامر بن عانس بن نمير الأنصاري ذكره
العدوي وقال : كان شاعراً وأدرك الإسلام فأسلم .
وذكره ابن الأثير فقال : كان من شعراء العرب . قلت : يحتملأن يكون الذي قبله .
انتهى .
قلت : كيف يكون هو الذي قبله مع اختلاف النسبين والظاهر أنهما اثنان . والله أعلم
. )
وأنشد بعده وهو الشاهد الثامن والثلاثون بعد المائتين ( غير أني قد أستعين على اله
** مّ إذا خفّ بالثويّ النجاء ) على أن غيراً يجوز أن تكون مبنية على الفتح
إضافتها إلى أن المشددة ويجوز أن تكون منصوبة وهذا البيت من قصيدة الحارث بن حلّزة
اليشكري وهي سابعة المعلّقات السبعة وأولها : ( آذنتنا ببينها أسماء ** ربّ ثاو
يملّ منه الثواء ) ( آذنتنا ببينها ثم ولّت ** ليت شعري متى يكون اللقاء )
____________________
(
بعد عهد لها ببرقة شمّا ** ء فأدنى ديارها الخلصاء ) ( لا أرى من عهدت فيها فأبكى
الي ** وم دلهاً وما يردّ البكاء ) ( وبعينيك أوقدت هند النا ** ر أصيلاً تلوي بها
العلياء ) ( أوقدتها بين العقيق وشخصي ** ن بعود كما يلوح الضياء ) ( فتنوّرت
نارها من بعيد ** بخزاز هيهات منك الصلاء ) ( غير أني قد أستعين على اله ** مّ إذا
خفّ بالثوي النجاء ) ( بزفوف كأنها هقلة أ ** مّ رئال دوية سقفاء ) قوله : آذنتنا
أي : أعلمتنا . والبين : الفراق . وأسماء : حبيبته . والثاوي : المقيم يقال : ثوى
يثوي ثواء وثواية : إذا قام وروى جماعة من اللغويين أثوى بمعناه وأنكرها الأصمعي .
ويملّ بالبناء للمفعول من الملل وهو الضجر والسأم . وهذا المصراع الثاني من قبيل
إرسال المثل .
وقوله : بعد عهد لها الخ البرقة بالضم : رابية فيها حجارة يخلطها رمل وطين وشماء :
اسم أكمة . وأدنى : أقرب . والخلصاء : موضع أيضاً يقول : عزمت على فراقنا بعد أن
لقيتها ببرقة شمّاء والخلصاء هي أقرب ديارها إلينا .
ثم اورد بيتين آخرين فيهما أسامي أماكن معطوفة على الخلصاء لا فائدة في إيرادها .
____________________
وقوله : لا أرى من عهدت الخ دلهاً أي : باطلاً وهو مفعول مطلق وقيل : هو من قولهم
دلّهني أي : حيّرني فهو تمييز . يقول : لا أرى في هذه المواضع من عهدت وهي أسماء
فأنا أبكي اليوم بكاء باطلاً او ذاهب العقل . وما استفهامية للإنكار أي : لا يردّ
البكاء شيئاً على صاحبه .
يعني : لما خلّت هذه المواضع منها بكيت جزعاً لفراقها مع علمي أنه لا فائدة في
البكاء . )
وروي أيضاً : ( لا أرى من عهدت فيها فأبكي ** أهل ودّي وما يردّ البكاء ) أي :
فأنا أبكي أهل مودتي شوقاً إليهم حين نظرت إلى منازلهم الخالية وروي أيضاً : وما
يحير البكاء من أحاره بالمهملة أي : رجعه .
وقوله : وبعينيك أوقدت الخ أي : وترى بعينيك أو بمرأى عينيك يقال : هو مني بمرأى
ومسمع أي : حيث أراه وأسمعه . والمعنى : أوقدت النار تراها لقربها منك . وهند ممن
كانت تواصله بتلك المنازل . وأصيلاً : ظرف بمعنى العشي وروي بدله أخيراً أي : في
آخر عهدك بها . يقول : والعلياء بالفتح : ما ارتفع من الأرض وإنما يريد العالية
وهي أرض الحجاز وما والاها من بلاد قيس . ويقال : قد ألوت الأرض بالنار تلوي بها
إلواء أي : رفعتها وكذلك الناقة : ألوت : إذا رفعت ذنبها فلوّحت به .
وقوله : أوقدتها بين العقيق الخ العقيق وشخصان قال الأخفش : شخصان : أكمة لها
قرنان ناتئان وهما الشعبتان . والعود هو عود البخور . وأراد بالضياء ضياء الفجر
وقيل ضياء السراج .
وقوله : فتنوّرت نارها الخ يقال : تنورت النار : إذا نظرتها بالليل لتعلم : أقريبة
هي أم بعيدة أكثيرة أم قليلة وخزاز بفتح الخاء المعجمة والزاءين المعجمتين : موضع
.
وقوله : هيهات الخ يقول : رأيت نارها فطمعت أن تكون قريبة وتأملتها
____________________
فإذا
هي بعيدة بخزار فلما يئست منها قلت : هيهات أخبر أنه رآها بالعلياء ثم أخبر أنه
رآها بين العقيق وشخصين ثم بخزاز وهو جبل . والصلاء : مصدر صلا النار وصلي بالنار
يصلى صلاء . إذا ناله حرها .
وقوله : غير أني قد أستعين . . الخ بنقل حركة الهمزة إلى دال قد وخف فلان للمضي
إذا تحرك لذلك يقال : خف يخف خفة . والثوي مبالغة ثاو أي : مقيم . والنجاء بفتح
النون والجيم : المضي يقال : منه نجا ينجو نجاءً ونجواً . والباء للتعدية . أي :
إذا اضطر المقيم للسفر وأقلقه السير والمضي لعظم الخطب وشدة الخوف .
وبهذا البيت خرج من صفة النساء وصار إلى صفة ناقته على طريقة الاستثناء المنقطع من
قوله فتنورت أو من قوله وما يرد البكاء أي : وما يرد على بكائي بعد أن تباعدت عني
فاهتممت )
بذلك لكني أستعين على همي بهذه الناقة الآتي وصفها فيما بعد . فغير الاستثناء
المنقطع وفتحتها إما حركة إعراب وإما فتحة بناء بنيت لإضافتها إلى مبني فتكون
حينئذ في محل نصب .
وقوله : بزفوف كأنها الخ الباء متعلقة بأستعين . والزفوف بفتح الزاي المعجمة
وبفاءين أراد به الناقة السريعة من الزفيف وهو السرعة وأكثر ما يستعمل في النعام .
شبّه ناقته في وطاءتها وسرعتها بنعامة تزفّ والزفيف مثل الدفيف وذلك أن النعامة
إذا عدت نشرت جناحيها ورفعت ذنبها ومرّت على الأرض أخفّ من الريح وربما ارتفعت من
الأرض لخفتها . والزفيف للنعام والدفيف للطير يقال : زفّ النعام يزف زفاً وزفيفاً
ودفّ الطير يدفّ دفّاً ودفيفاً .
والهقلة بكسر الهاء وسكون القاف : أنثى النعام والهقل ذكره .
والرئال بكسر الراء المهماة فعدها همزة مفتوحة : جمع رأل بفتح الراء وسكون الهمزة
وهو ولد النعام . والدويّة بتشديد الواو منسوبة إلى الدوّ وهي الأرض البعيدة
الواسعة وهو صفة أمّ وكذلك سقفاء من السقف بفاء بعد قاف وهو طول في انحناء والذكر
أسقف . يقول : أستعين على إزالة همي بناقة مسرعة مكأنها في إسراعها نعامة لها
أولاد طويلة منحنية لا تفارق المفاوز .
____________________
وقد تقدمت ترجمة الحارث بن حلّزة مع شرح أبيات من هذه المعلقة في الشاهد الثامن
والأربعين في باب التنازع .
وأنشد بعده وهو
الشاهد التاسع والثلاثون بعد المائتين وهو من شواهد س : ( أنيخت فألقت بلدة فوق
بلدة ** قليل بها الأصوات إلا بغامها ) على أن إلا صفة للأصوات وهي وإن كانت معرفة
بلام الجنس فهي شبيهة بالمنكر . ولما كانت إلا الوصفية في صورة الحرف الاستثنائي
نقل إعرابها الذي تستحقه إلى ما بعدها فرفع بغامها إنما هو بطريق النقل من إلا
إليه . والمعنى : أن صوتاً غير بغام الناقة قليل في تلك البلدة وأما بغامها فهو
كثير .
قال الشارح المحقق : ويجوز في البيت أن تكون إلا للإستثناء وما بعدها بدلاً من
الأصوات لن في قليل معنى النفي . والمعنى على هذا : ما في تلك البلدة من جنس
الأصوات إلا بغامها بخلاف المعنى الأول فإنه يقتضي أن يكون فيها صوت غير البغام
لكنه قليل بالنسبة إلى البغام .
قال : ومذهب سيبويه جواز وقوع إلا صفة مع صحة الاستثناء .
نسب ابن هشام في المغني هذا الجواز إلى جماعات من النحويين ثم قال : وقد يقال إنه
مخالف لمثال سيبويه : لو كان معنا رجل إلا زيد لغلبنا ولقوله تعالى : لو كان فيهما
آلهة إلا الله لفسدتا قال : فلا يجوز في إلا هذه أن تكون للإستثناء من جهة المعنى
إذ التقدير حينئذ : لو كان فيهما آلهة ليس فيهم الله لفسدتا وذلك
____________________
يقتضي
بمفهومه أنه لو كان فيهما آلهة فيهم الله لم يفسدا وليس ذلك المراد . ولا من جهة
اللفظ لأن آلهة جمع منكّر في الإثبات فلا عموم له فلا يصح الاستثناء منه لو قلت
قام رجل إلا زيد لم يصح اتفاقاً . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمة وقبله : ( ألا خيّلت ميّ وقد نام صحبتي ** فما نفّر
التهويم إلا سلامها ) ( طروقاً وجلب الرحل مشدودة به ** سفينة برّ تحت خدي زمامها
) ( أنيخت فألقت بلدة فوق بلدة ** قليل بها الأصوات إلا بغامها ) قوله : ألا خيلت
مي الخ خيلت أي : رأينا منها خيالاً جاء في المنام . وميّ : اسم محبوبته .
وجملة قد نام الخ حالية . والتهويم : مفعوله مصدر هوّم الرجل : إذا هزّ رأسه من
النعاس .
وسلامها : فاعل نفر يقول : نفر نومنا حين سلّم الخيال علينا .
وقوله : طروقاً الخ الطروق : مصدر طرق أي : أتى ليلاً وهو من باب قعد . يريد :
خيلت )
طروقاً . وجلب الرحل : بكسر الجيم وضمها : عيدانه وخشبه وهو مبتدأ ومشدودة خبره
وسفينة نائب فاعل الخبر وبه أي : بالجلب . وأراد بسفينة البرّ الناقة . وزمامها
مبتدأ وتحت خدّي خبره . والجملة : صفة سفينة يريد : أنه كان نزل عن ناقته آخر
الليل وجعل زمامها تحت خده ونام .
____________________
وقوله : أنيخت فألقت . الخ هو مجهول أنختها أي : أبركتها . والبلدة الأولى : الصدر
والثانية : الأرض . أي : أبركت فألقت صدرها على الأرض . والضمير في أنيخت وألقت
وبغامها راجع إلى سفينة برّ المراد بها الناقة . و قليل بالجرّ صفة سببية للبلدة
الثانية . والأصوات : فاعل قليل والرابط ضمير بها .
ويجوز رفع قليل على انه خبر الأصوات والجملة صفة . و البغام : بموحدة مضمومة بعدها
غين معجمة قال صاحب الصحاح : بغام الظبية : صوتها وكذلك بغام الناقة : صوت لا تفصح
به وقوله : يمانية في وثبها الخ بالتخفيف أي : هذه الناقة منسوبة إلى اليمن .
والوثب بالمثلثة وثب وثباً ووثوباً : إذا ظفر . والعجرفية : الجفاء وركوب الرأس
وهو أن يسير سيراً مختلطاً . وإطلاها : خاصرتاها مثنى إطل بكسر الهمزة . وأودى :
ذهب وهلك . يقول : هي في ضمرها هكذا شديدة فكيف تكون قبل الضمر وترجمة ذي الرمّة
تقدمت في الشاهد الثامن من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو
الشاهد الأربعون بعد المائتين وهو من شواهد س :
____________________
(
وكل أخ مفارقه أخوه ** لعمر أبيك إلا الفرقدان ) على أن إلا صفة لكل مع صحة جعلها
أداة استثناء ونصب الفرقدين على الاستثناء كما هو الشرط في وصفية إلا .
قال ابن هشام في المغني : والوصف هنا مخصص فإن ما بعد إلا مطابق لما قبلها لأن
المعنى : كل أخوين غير هذين الكوكبين متفارقان . وليس إلا استثنائية وإلا لقال :
إلا الفرقدين بالنصب لأنه بعد كلام تام موجب كما هو الظاهر مع كونه لمستغرق وهو كل
أخ كما نصب الشاعر في هذا البيت وهو من أبيات مذكورة في مختار أشعار القبائل لأبي
تمام صاحب الحماسة لأسعد الذهلي وهو : ( وكل أخ مفارقه أخوه ** لشحط الدار إلا
ابني شمام ) قال أبو عبيد القاسم في أمثاله : ابني شمام هنا : جبلان . وهو بفتح
الشين المعجمة وكسر الميم كحذام .
وفي المرصع لابن الأثير : ابنا شمام جبلان في دار بني تميم مما يلي دار عمرو بن
كلاب وقيل : شمام هو جبل . وابناه : رأساه وأنشد الخليل : ( وإنكما على غير
الليالي ** لأبقى من فروع ابني شمام اه ) وقال حمزة الأصبهاني في أمثاله التي جاءت
على أفعل : ابنا شمام : هضبتان في أصل جبل يقال له : شمام .
وعند ابن الحاجب في البيت الشاهد شذوذ من ثلاثة أوجه : أحدهما : أنه اشترط في وقوع
إلا صفة تعذر الاستثناء وهنا يصح لو نصبه .
وثانيهما : وصف المضاف والمشهور وصف المضاف إليه . وثالثهما : الفصل بين الصفة
والموصوف بالخبر وهو قليل .
____________________
قال صاحب المقتبس : وفي البيت تخريج يتراءى لي غير بعيد عن الصواب وهو أن يجعل
قوله : مفارقه أخوه : صفة لكل وصاغ ذلك لكونه نكرة إذ أضافته لفظية ثم يجعل إلا
الفرقدان خباً للمبتدأ الموصوف ولا يخرج جعلها خبراً عن الوصفية لأن الخبر أيضاً
صفة حقيقية . )
فتكون إلا في قوله تعالى : إلا الله لفسدتا صفة نحوية . وفي البيت صفة معنوية
وبهذا الوجه يخرج الكلام عن تخلل الخبر بين الصفة والموصوف .
وتقدير البيت على ما ذكرت : وكل أخ مفارق أخاه مغاير للفرقدين أي : ليس على صفتهما
لأنهما لا يفترقان منذ كانا . انتهى .
ورده السيد عبد الله في شرح اللب بقوله : ولا يجوز أن يجعل مفارقه صفة وإلا
الفرقدان خبراً حتى يتخلص من هذه الفسادات كما قيل لفساد المعنى . ووجهه أن المراد
الحكم من على كل أخ بأنه مفارق أخاه في الدنيا سوى الفرقدين فإنهما لا يفترقان إلا
عند فناء الدنيا وليس المعنى على ما ذكره فإنه يقتضي مفهومه : أن كل أخ لا يفارق
أخاه مثل الفرقدين في اجتماع الشمل . وليس في الدنيا أخوان لا يفترقان . فتأمل .
وفي البيت تخاريج أخر : إحداهما للكوفيين نقله عنهم ابن الأنباري في مسائل الخلاف
: أن إلا هنا بمعنى الواو وهي تأتي بمعناه كثيراً كقوله تعالى : لئلا يكون للناس
عليكم حجة إلا الذين ظلموا أي : ولا الذين ظلموا لا تكون لهم
____________________
أيضاً
حجة وقوله تعالى : لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم أي : ومن ظلم لا
يحب أيضاً الجهر بالسوء منه وكذا قال السيد المرتضى في أماليه في أحد أوجه إلا في
قوله تعالى : خالدين فيها ما دامت السموات والأرض إلا ما شاء ربك إن إلا بمعنى
الواو وأورد هذا البيت وغيره شاهداً لمجيء إلا بمعنى الواو وأجاب البصريون أن إلا
في البيت بمعنى غير وفي الآيات للاستثناء المنقطع .
ثانيها ما ذهب إليه الكسائي . أن أصله إلا أن يكون الفرقدان وقد رد سيبويه هذا
القول كما بينه الشرح المحقق .
قال أبو علي في الإيضاح الشعري : أنشد سيبويه هذا البيت وقال : لا يجوز أن يكون
قوله : إلا الفرقدان على تقدير إلا أن يكون الفرقدان . وإنما لم يجز هذا لأنك لا
تحذف الموصول وتدع الصلة لأن الصلة تذكر للتخصيص والإيضاح للموصول فإذا حذفت
الموصول لم يجز حذفه وذكرك ما يكون إيضاحاً له .
ونظير ذلك أجمعون في التوكيد لا يجوز أن تذكره وتحذف المؤكد . فإن قلت : لم لا
يكون كالصفة والموصوف في جواز حذف الموصوف وذكر الصفة وكذلك تحذف الموصول وتذكر
الصلة قلت : لم يكن في هذا كالوصف إذا كان مفرداً ألا ترى أن الوصف إذا كان مفرداً
كان )
كالموصوف في الإفراد وإذا كان مثله جاز وقوعه مواقع الموصوف من حيث كان مفرداً
مثله مع استقباح لذلك .
فأما الصلة فلا تقع مواقع المفرد من حيث كانت جملاً كما لم يجز أن تبدل الجمل من
المفرد من حيث كان البدل في تقدير تكرير العامل والعامل في المفرد لا يعمل في لفظ
الجملة فكذلك لا يجوز أن تحذف الموصول وتقيم الصلة مقامه . فإن قلت : هلاّ جاز
حذفها كما جاز حذف الصلات وإبقاء الموصولة كقوله : بعد اللتيا والتي قلت : إبقاء
الموصول وحذف الصلة أشبه من عكس ذلك لأن
____________________
الموصول
مفرد وليس كالصلة التي هي جملة فكذلك جاء في الشعر ولم يمتنع كما لا يمتنع أن يذكر
المؤكد ولا يذكر التأكيد . ولو ذكرت أجمعون ونحوه ولم تذكر المؤكد لم يجز .
انتهى كلام أبي علي ولكثرة فوائده نقلناه برمّته .
ثالثهما ما نقله بعض شرّاح أبيات المفصل من فضلاء العجم وهو أن إلا هنا بمعنى حتى
والمعنى : كل أخ مفارقه أخوه حتى إن الفرقدين مع شدة اجتماعهما وكثرة مصاحبتهما
يفرق كل واحد منهما عن صاحبه فما ظنك بغيرهما قال : وعلى هذا تكون إلا مستعملة
استعمال حتى للمناسبة بين الاستثناء والغاية ويكون ذلك كقولهم : مات الناس حتى
الأنبياء . هذا كلامه وليس المعنى على ما زعمه وفيه تعسف أيضاً .
رابعها : ما ذكره ابن الأنباري في مسائل الخلاف : أن إلا هنا للاستثناء المنقطع
قال : أراد لكن الفرقدان فإنهما لا يفترقان على زعمهم في بقاء هذه الأشياء . هو
غير متبادر منه وهو كقول الأعلم في شرح أبيات الكتاب : وهذا على مذهب الجاهلية مع
أن قائل هذا البيت صحابي كما سيأتي .
وسبقهما المبرد في الكامل فإنه بعد أن نسب البيت لعمرو بن معد يكرب اعتذر عنه فقال
: وهذا البيت قاله قبل أن يسلم . ثم أورد عقبه بيت أبي العتاهية دليلاً على ما
فهمه بقوله : وقال اسماعيل بن القاسم : ( ولم أر ما يدوم له اجتماع ** سيفترق
اجتماع الفرقدين ) ونحن نقول : محمل هذا البيت أنهما يفترقان عند قيام الساعة .
ولكل وجهة . والفرقدان : نجمان قريبان من القطب لا يفارق أحدهما الآخر .
وبقي في البيت احتمال وجه آخر لم أر من ذكره وهو أن تكون إلا للاستثناء والفرقدان
)
منصوب بعد تمام الكلام الموجب لكنه بفتحة مقدرة على
____________________
الألف
على لغة من يلزم المثنى الألف في الأحوال الثلاثة وهي لغة بني الحارث بن كعب .
والله أعلم .
وقوله : وكل أخ مفارقه أخوه قال الفاليّ في شرح اللباب : يحتمل وجوهاً من الإعراب
: أحدها : أن يكون كل مبتدأ ومفارقه خبره وأخوه فاعل مفارقه . والثاني : أن يكون
كل مبتدأ ومفارقه مبتدأ ثانياً وأخوه خبره والحملة خبر الأول . الثالث : أن يكون
كل مبتدأ وأخوه مبتدأ ثانياً ومفارقه خبر المقدم والجملة خبر الأول . الرابع : أن
يكون كل مبتدأ ومفارقه بدلاً منه وأخوه خبر كلّ أي : مفارق كل أخ أخوه . الخامس :
ان يكون مفارقه بدلاً من كل وأخوه مبتدأ وكل أخ مفارقه خبر مقدم انتهى .
وقوله : لعمر أبيك مبتدأ خبره محذوف تقديره : قسمي . والجملة معترضة . وهذا البيت
جاء في شعرين لصحابيين : أحدهما : عمرو بن معد يكرب انشده الجاحظ في البيان
والتبيين له وكذا نسبه إليه المبرّد في الكامل وصاحب جمهرة الأشعار وغيرهم وتقدمت
ترجمته في الشاهد الرابع والخمسين بعد المائة .
الثاني حضرمي بن عامر الأسدي : قال الآمدي في المؤتلف والمختلف : هو حضرمي بن عامر
بن مجمّع بن موعلة بن هشام بن ضب بن كعب بن القين بن مالك بن ثعلبة بن دودان بن
أسد . وهو شاعر فارس سيد وله في كتاب بني أسد أشعار وأخبار حسان وهو القائل :
____________________
(
ألا عجبت عميرة أمس لمّا ** رأت شيب الذؤابة قد علاني ) إلى أن قال : ( وذي فخم
عزفت النفس عنه ** حذار الشامتين وقد شجاني ) ( قطعت قرينتي عنه فأغنى ** غناه فلم
أراه ولم يراني ) ( وكل قرينة قرنت بأخرى ** ولو ضنت بها ستفرّقان ) ( وكل أخ
مفارقة أخوه ** لعر أبيك ألا الفرقدان ) ( وكل إجابتي إياه أني ** عطفت عليه خوّار
العنان اه ) والذؤابة : الخصلة من الشعر . والفخم : بفتح الفاء وسكون الخاء
المعجمة : التعظم والاستعلاء ومثله الفخيمة بالتصغير . وعزفت بالعين المهملة
والزاي والفاء أي : صرفت . وحذار : مفعول )
لأجله لقوله عزفت . وجملة وقد شجاني أي : أحزنني حالية .
وقوله : قطعت قرينتي هو جواب ربّ المقدّرة في قوله : وذي فخم . ومعناه كل نفس
مقرونة بأخرى ستفارقها . وضنّت : بخلت . وقوله : وكل إجابتي كلّ : فعل ماض من
الكلال . ويروى : وكان إجابتي إياه .
وحضرمي بفتح الحاء المهملة وسكون الضاد المعجمة وبعد الراء ميم مكسورة بعدها ياء
مشددة . ومجمّع بوزن اسم الفاعل من جمع تجميعاً . وموألة بفتح الميم وسكون الواو
وبعدها همزة مفتوحة قال في القاموس : وبنو موألة كمسعدة : بطن وهو مفعلة اسم مكان
من وأل إليه يئل بمعنى لجأ وخلص والموئل : الملجأ .
____________________
وضبطه ابن حجر في الإصابة مولة بفتحات وأورد حمام بدل هشام وأورد باقي النسب كما
ذكرنا وقال : ذكره ابن شاهين وغيره في الصحابة . وروى أبو يعلى وابن نافع من طريق
محفوظ بن علقمة عن حضرمي بن عامر الأسدي وكانت له صحبة أن رسول الله صلى الله عليه
وسلم قال : إذا بال أحدكم فلا يستقبل الريح ولا يستنجي بيمينه قال السيوطي في شرح
شواهد المغني : ولم أقف لحضرمي على رواية غير هذا الحديث .
قال ابن حجر : وروى ابن شاهين من طريق المدائني عن جماعة أنهم قالوا : وفد بنو أسد
بن خزيمة وفيهم حضرمي بن عامر وضرار بن الأزور وسلمة وقتادة وأبو مكعت . فذكر
الحديث في قصة إسلامهم وكتب لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً . قال :
فتعلّم حضرمي بن عامر سورة عبس وتولى فزاد فيها : وهو الذي أنعم على الحبلى فأخرج
منها نسمة تسعى فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : لا تزد فيها .
وأخرجه من طريق منجاب بن الحارث من طرق ذكر فيها أن السورة سبح اسم ربك الأعلى :
وروى عمر بن شبّة بإسناد صحيح إلى أبي وائل قال : وفد بنو أسد فقال لهم النبي صلى
الله عليه وسلم : من أنتم قالوا : نحن بنو الزنية أحلاس الخيل قال : بل أنتم بنو
الرشدة فقالوا : لا ندع اسم أبينا وذكر قصة طويلة .
وقال المرزباني في معجمه : كان حضرمي يكنى أبا كدام ولما سأله عمر بن الخطاب عن
شعره في حرب الأعاجم أنشده أبياتاً حسنة في ذلك .
وروى أبو عليّ القاليّ من طريق ابن الكلبي قال : كان حضرمي بن عامر عاشر عشرة من
إخوته )
فماتوا فورثهم فقال فيه ابن عم له يقال له جزء بن مالك : يا حضرمي ورثت تسعة إخوة
فأصبحت ناعماً فقال حضرمي من أبيات :
____________________
(
إن كنت قاولتني بها كذباً ** جزء فلاقيت مثلها عجلا ) فجلس جزء على شفير بئر هو
وإخوته وهم أيضاً تسعة فانخسفت بهم فلم ينج غير جزء فبلغ ذلك حضرمي بن عامر فقال :
كلمة وافقت قدرا وأبقت حقدا انتهى ما أورده ابن حجر في الإصابة .
وهذا البيت الذي نقله عن أبي القاليّ هو أحد أبيات ثلاثة أوردها ابن السيد
البطليوسي في شرح شواهد أدب الكاتب وهي : ( يزعم جزء ولم يقل جللا ** أني تروّحت
ناعماً جذلا ) ( أفرح أن أرزأ الكرام وأن ** أورث ذوداً شصائصاً نبلا ) وجزء بفتح
الجيم وسكون الزاي وثالثه همزة وهومنادى في البيت الثاني . والجلل هنا بمعنى
الحقير ويأتي بمعنى العظيم أيضاً وهو من الأضداد . وتروّح بالحاء المهملة : صار ذا
راحة .
وناعم : وصف من النعيم وهو الخفض والدّعة والمال . وجذلان بمعنى فرحان من الجذل
بفتحتين وهو الفرح . وأزننتني : اتهمتني يقال : زننته وأزننته بكذا : إذا اتهمته
به ونسبته إليه .
وقوله : أفرح أراد أأفرح على معنى التقرير والإنكار فترك ذكر الهمزة وهو يريدها
حين فهم ما أراد وهذا قبيح وإنما يحسن حذفها مع أم .
وقد أورده صاحب الكشاف في تفسيره دليلاً على حذف همزة الاستفهام .
والرزء براء مضمومة وزاي ساكنة بعدها همزة قال صاحب القاموس : رزأه ماله كجعله
وعمله رزْاً بالضم : أصاب منه شيئاً . فالمفعول الثاني في البيت محذوف أي : أرزأ
الكرام مالهم . وأورث بالبناء للمفعول .
____________________
والذود من الإبل : دون العشرة وأكثر ما يستعمل في الإناث . والشصائص التي لا ألبان
لها الواحد شصوص بفتح المعجمة وإهمال الصادين يقال : شصّت الناقة وأشصت .
والنبل بفتح النون والموحدة : الصغار قال في القاموس : والنبل محركة : عظام
الحجارة والمدر ( تتمة : ) أورد الآمدي في المؤتلف والمختلف اثنين من الشعراء ممن
اسمه حضرمي أحدهما هذا )
الصحابي .
والثاني حضرمي بن الفلندح بفتح الفاء واللام وسكون النون وفتح الدال وآخره حاء
مهملة قال : هو أخو بني حرام بن عوف المشجعي . وبنو مشجعة بن تيم بن النمر بن وبرة
أخو كلب بن وبرة شاعر وهو القائل : ( إذا نفحت من نحو أرضك نفحة ** رياح الصبا يا
قيل طاب نسيمها ) ( كأنك في الجلباب شمس نقيّة ** تجوّب عنها يوم دجن غيومها )
انتهى .
وقيل مرخّم قيلة بالقاف اسم امرأة ولا أعرف هل هو إسلامي أو لا . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده وهو الشاهد الحادي والأربعون بعد المائتين ( ولم يبق سوى العدوان
دنّاهم كما دانوا ** صفحنا عن بني ذهل ) ( عسى الأيام أن يرجع ** ن قوماً كالذي
كانوا ) ( فلما صرّح الشر ** فأمسى وهو عريان ) ( ولم يبق سوى العدوا ** ن دنّاهم
كما دانوا ) ( مشينا مشية الليث ** غدا والليث غضبان ) ( بضرب فيه توهين ** وتخضيع
وإقران ) ( وطعن كفم الزقّ ** غدا والزقّ ملآن ) ( وبعض الحلم عند الجه ** ل للذلة
إذعان ) وفي الشر نجاة حي ن لا ينجيك إحسان )
الصفح : العفو وحقيقته أعرضنا عنهم وأوليناهم صفحة عنقنا . وروي :
____________________
عن
بني هند وهي هند بنت مرّ بن أدّ أخت تميم . وقوله : عسى الأيام الخ قال المرزوقيّ
: لا يجوز أن يكون الذي بمعنى الذين لأن الموصول والصلة يصير صفة لقوم آخرين
كالقوم المذكورين بل التقدير : أن يرددن دأب القوم كائناً كالدأب الذي كانوا عليه
.
وفي هذا الوجه يجوز أن يكون الذي للجنس كما قال تعالى : والذي جاء بالصدق وصدق به
ثم قال : أولئك . والفصل بين هذا الوجه والوجه الأول أنه أمّل في الوجه الأول أنهم
إذا عفوا عنهم أدّبتهم الأيام وردّت أحوالهم كأحوالهم فيما مضى : في الاتفاق
والتوادّ وفي الوجه الثاني أمّل أن ترجع الأيام أنفسهم إذا صفحوا عنهم كما عهدت :
سلامة صدور وكرم عهود انتهى .
ومعنى يرجعن : يرددن من باب فعل وفعلته يقال : رجع فلان رجوعاً ومرجعاً ورجعاناً
ورجعته رجعاً والعائد محذوف أي : كالذي كانوه وهو خبر كان .
وهذا البيت أورده ابن هشام في المغني على ان بعضهم استدل به على أن المعرفة إذا
أعيدت نكرة كانت عينها على القاعدة المشهورة .
وصرّح بمعنى انكشف ويأتي أيضاً متعدّياً بمعنى كشفه . وجملة وهو عريان خبر أمسى
وذكر العريان مثل لظهور الشرّ . وروي : فأضحى وهو عريان وهذه احسن لأن الشيء في
الضحى وقوله : ولم يبق سوى العدوان معطوف على قوله صرّح .
____________________
وقوله : دنّاهم . . الخ جواب لما . والعدوان : الظلم الصريح . والدين : الجزاء .
وأورد البيضاوي هذا البيت في قوله تعالى : مالك يوم الدين على أن الدين الجزاء .
والمعنى : لما أصرّوا على البغي وأبوا أن يدعوا الظلم ولم يبق إلا أن نقاتلهم
ونعتدي عليهم كما اعتدوا علينا جازيناهم بفعلهم القبيح كما ابتدؤونا به . وإطلاق
المجازاة على فعلهم مشاكلة على حد قوله تعالى : فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه .
وقوله : مشينا مشية الخ هذا تفصيل لما أجمله في قوله دنّاهم وتفسير لكيفية
المجازاة . وكرّر الليث ولم يأت به مضمراً تفخيماً وتعظيماً .
والمعنى : مشينا إليهم مشية الأسد ابتكر وهو جائع . وكنى عن الجوع بالغضب لأنه
يصحبه .
وغدا بمعجمة فمهملة ولا يجوز بمهملتين لأن الليث لا يكون ماشياً عادياً في حال .
فإن قيل : اجعله من العدوان قلت : الليث لا يمشي في حال عدوانه وإنما يشدّ شدّاً
ويجوز على رواية )
شددنا شدة الليث على أنه من العدوان .
وقوله : بضرب فيه توهين الخ الباء تتعلق بمشينا . والتوهين : التضعيف . والإقران :
مواصلة لا فتور فيها . وروي : والتأييم : جعل المرأة أيّماً والأيّم هي التي قتل
زوجها أو مات . والإرنان من الرنين والبكاء يقال : رنّ وأرنّ .
وقوله : وطعن كفم الزقّ الخ غذا بمعجمتين بمعنى سال يقال : غذا يغذو غذواً والاسم
الغذاء أي : وطعن في اتساعه وخروج الدم منه كفم الزق إذا سال بما فيه وهو مملوء .
وجملة إذا مع ضميره بتقدير قد حالية .
وقوله : وبعض الحلم الخ الإذعان : الانقياد يقال : أذعن لكذا : إذا انقاد له وأذعن
بكذا : إذا أقرّ به . اعتذر في هذا البيت عن تركهم التحلم مع الأقرباء بأنه كان
يفضي إلى الذل .
____________________
وقوله : وفي الشر نجاة الخ أراد في دفع الشر ويجوز أن يريد وفي عمل الشر نجاة كانه
يريد : وفي الإساءة مخلص إذا لم يخلّصك الإحسان .
والفند الزمّاني اسمه شهل بن شيبان بن ربيعة بن زمّان الحنفي . فهو منسوب إلى جد
أبيه .
وشهل بالشين وليس في العرب شهل بالمعجمة إلا هو وشهل بن أنمار من قبيلة بجيلة .
وزمّان بكسر الزاي وتشديد الميم هو إما فعلان من زممت أو فعّال من الزمن . والفند
بكسر الفاء وسكون النون : القطعة من الجبل وإنما لقّب به لأن بكر بن وائل بعثوا
إلى بني حنيفة في حرب البسوس لينصروهم فأمدّوهم به وكتبوا إليهم : قد بعثنا إليكم
بثلثمائة فارس فلما أتى بكراً وهو مسنّ قالوا : وما يغني هذا العشبة قال : أو ما
ترضون أن أكون لكم فنداً تأوون إليه فلقب به . . . والعشبة بفتحات العين المهملة
والشين المعجمة والتاء الموحدة : الشيخ الكبير ويقال : العشمة بالميم بدل الموحدة كذا
في إعراب الحماسة لابن جنّي .
وفي الأغاني : كان الفند أحد فرسان ربيعة المشهورين المعدودين شهد حرب بكر وتغلب
وقد قارب المائة سنة فأبلى بلاء حسناً . وإنما لقّب فنداً لأن بكر بن وائل بعثوا
إلى بني حنيفة يستنصرونهم . وذكر الحكاية التي ذكرناها ثم قال : فوجّهوا إليهم
بالفند الزمّاني في سبعين رجلاً وكتبوا إليه : إنا قد بعثنا إليكم ألف رجل .
وانشد بعده وهو )
الشاهد الثاني والأربعون بعد المائتين
____________________
(
تجانف عن جو اليمامة ناقتي ** وما عدلت عن أهلها لسوائكا ) على أن خروج سواء عن
الظرفية شاذ خاص بالشعر وإذا خرجت كانت بمعنى غير .
وقد استفتى بعضهم من جملة أسئلة أربعة : هل تكون سواء بمعنى غير فأجابه أبو نزار
الملقب بملك النحاة بأنه قد نص على أنها لا تأتي إلا ظرف مكان وأن استعمالها اسماً
متصرفاً بوجوه الإعراب بمعنى غير خطأ .
ونقل ابن الشجري في أماليه صورة الاستفتاء الأسئلة الأربعة وما أجاب به أبو نزار
وجواب الإمام أبي منصور الجواليقي واستجهل أبا نزار وذمّه وخطّأه تبعاً للجواليقي
وأصاب هو أيضاً عن الأسئلة وقال في سوى : وأما سوى فإن العرب استعملتها استثناء
وهي في ذلك منصوبة على الظرف بدلالة أن النصب يظهر فيها إذا مدّت فإذا قلت أتاني
القوم سواءك فكأنك قلت مكانك .
واستدلّ الأخفش على أنها ظرف بوصلهم الاسم الناقص بها في نحو : أتاني الذي سواك .
والكوفيون يرون استعمالها بمعنى غير . وأقول : إدخال الجارّ عليها في قول الأعشى :
وما قصدت من أهلها لسوائكا يخرجها عن الظرفية . وإنما استجازت العرب ذلك فيها
تشبيهاً لها بغير من حيث استعملوها استثناء . وعلى تشبيهها بغير قال أبو الطيب : (
أرض لها شرف سواها مثلها ** لو كان مثلك في سواها يوجد ) رفع سوى الأولى بالابتداء
وخفض الثانية بفي فأخرجهما من الظرفية . فمن خطّأه فقد خطّأ الأعشى في قوله :
لسوائكا ومن خطأ الأعشى في لغته التي جبل
____________________
عليها
وشعره يستشهد به في كتاب الله تعالى فقد شهد على نفسه بأنه مدخول العقل ضارب في
غمرة الجهل . ومن العجب أن هذا الجاهل يقدم على تخطئة سلف النحويين وخلفهم وتخطئة
الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين ولا يؤثر عنه انه قرأ مصنفاً في النحو
إلا مقدمة من تأليف عبد القاهر الجرجاني قيل : إنها لا تبلغ أن تكون في عشر أوراق
وقيل إنه لا يملك من كتب النحو واللغة ما مقداره عشر أوراق وهو مع ذلك يردّ بقحّته
على الخليل وسيبويه إنها لوصمة اتسم بها زماننا هذا لا يبعد عارها ولا ينقضي
شنارها . )
وإنما طلب بتلفيق هذه الأهواس أن تسطّر فتوى فيثبت خطّه فيها مع خط غيره . فيقال :
أجاب أبو نزار بكذا وأجاب غيره بكذا وقد أدرك لعمر الله مطلوبه وبلغ مقصوده ولولا
إيجاب حق من أوجبت حقه والتزمت وفاقه واحترمت خطابه لصنت خطي ولفظي عن مجاورة خطه
ولفظه : انتهى كلام ابن الشجري .
واجاب الجواليقي بقوله : وأما سوى فلم يختلفوا في أنها تكون بمعنى غير تقول : رأيت
سواك أي : غيرك . وحكى ذلك أبو عبيد عن أبي عبيدة . وقال الأعشى : ( وما قصدت من
أهلها لسوائكا ** ) أي : لغيرك وهي أيضاً غير ظرف وتقدير الخليل لها بالظرف في
الاستثناء بمعنى مكان وبدل لا يخرجها عن ان تكون بمعنى غير . وفيها لغات : إذا
فتحت مدّت لا غير وإذا ضمت قصرت لا غير وإذا كسرت جاز المد والقصر أكثر . وما يحمل
المتكلم بالقول الهراء إلا فشوّ الجهل .
انتهى .
وقد حكى ابن الأنباري في مسائل الخلاف مذهب البصريين والكوفيين
____________________
مفضّلاً
فلا بأس بإيراده مجملاً . قال : ذهب الكوفيون إلى أن سواء تكون اسماً وتكون ظرفاً
واحتجوا على أنها تكون اسماً بمنزلة غير ولا تلزم الظرفية انهم يدخلون عليها حرف
الخفض قال المرّار بن سلامة العجليّ : ( ولا ينطق الفحشاء من كان منهم ** إذا
جلسوا منا ولا من سوائنا ) وقال الآخر : وما قصدت من أهلها لسوائكا وقال أبو دواد
: ( وكل من ظن أن الموت مخطئه ** مجلل بسواء الحق مكذوب ) وقال الآخر : ( أكرّ على
الكتيبة لا أبالي ** أفيها كان حتفي أم سواها ) وروي عن بعض العرب أنه قال : أتاني
سواؤك فرفع . وذهب البصريون إلى أنها لا تكون إلا ظرفاً واحتجوا بأنها ما استعملت
في اختيار الكلام إلا ظرفاً قالوا : مررت بالذي سواك .
فوقوعها صلة يدلّ على ظرفيتها بخلاف غير . وقولهم : مررت برجل سواك أي : برجل مكانك
)
أي : يغني غناءك ويسدّ مسدك . والذي يدل على تغاير سوى وغير ان سوى لا تضاف إلا
إلى معرفة نحو مررت برجل سواك وسوى العاقل ولو قلت : سوى عاقل لم يجز ولو قلت غير
عاقل جاز . ويدل على ظرفية سوى أن العامل يتعداها قال لبيد :
____________________
(
وابذل سوام المال إ ** ن سواءها دهماً وجونا ) فنصب سواءها على الظرف ودهماً بأن .
. وأجابوا عن الأبيات بأنه إنما جاز ذلك لضرورة الشعر وعندنا يجوز خروجها عن
الظرفية في ضرورة الشعر ولم يقع الخلاف في حال الضرورة وإنما استعملوها بمنزلة غير
في الضرورة لأنها في معناها وليس شيء يضطرون إليه إلا ويحاولون له وجهاً . وأما
رواية : أتاني سواؤك فرواية تفرّد بها الفرّاء عن أبي ثروان وهي رواية شاذة غريبة
فلا يكون فيها حجة . انتهى .
والبيت الشاهد من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها هوذة بن علي بن ثمامة الحنفي ومطلعها
: ( أحيّتك تيّاً أم تركت بدائكا ** وكانت قتولاً للرجال كذلكا ) ( وأقصرت عن ذكرى
البطالة والصبا ** وكان سفيهاً ضلّة من ضلالكا ) ( وقامت تريني بعد ما نام صحبتي
** بياض ثناياها وأسود حالكا ) ثم وصف الفقر والفاقة في أبيات . . إلى أن قال : (
إلى هوذة الوهّاب أهديث مدحتي ** أرجّي نوالاً فاضلاً من عطائكا ) ( تجانف عن جوّ
اليمامة ناقتي ** وما عمدت من أهلها لسوائكا ) ( ألمّت بأقوام فعافت حياضهم **
قلوصي وكان الشرب فيها بمائكا ) ( فلما أتت آطام جوّ وأهله ** أنيخت فألقت رحلها
بفنائكا ) ( سمعت برحب الباع والجود والندى ** فألقيت دلوي فاستقت برشائكا ) ( وما
ذاك إلا أن كفيك بالندى ** يجودان بالإعطاء قبل سؤالكا ) ( فتىً يحمل الأعباء لو
كان غيره ** من الناس لم ينهض بها متماسكا ) ( وأنت الذي عودتني أن تريشني ** وانت
الذي آويتني في ظلالكا )
____________________
(
وإنك فيما نابني بي مولع ** بخير وإني مولع بثنائكا ) ( وجدت عليّاً بانياً فورثته
** وطلقاً وشيبان الجواد ومالكا ) ( ولم يسع في العلياء سعيك ماجد ** ولا ذو إناً
في الحيّ مثل إنائكا ) ) ( وفي كل عام أنت جاشم رحلة ** تشدّ لأقصاها عزيم عزائكا
) قوله : أحيّتك الهمزة للآستفهام والتحية معروفة . وتيّاً بفتح المثناة الفوقية
وتشديد المثناة التحتية الظاهر أنه اسم محبوبته وقد تغزل بها في أكثر قصائده كقوله
: ( تذكرت تياً وأترابها ** وقد أخلفت بعض ميعادها ) وقوله : ( عرفت اليوم من تيّا
مقاما ** بجوّ او عرفت لها خياما ) وقيل : إنها اسم إشارة بمعنى هذه . وأراد بالأسود
الحالك شعرها .
وقوله : تجانف عن جوّ . . الخ أصله تتجانف بتاءين من الجنف وهو الميل . وجوّ بفتح
الجيم وتشديد الواو : اسم اليمامة في الجاهلية حتى سماها الحميري لما قتل المرأة
التي تسمى اليمامة باسمها وقال الملك الحميري : ( وقلنا فسموها اليمامة باسمها **
وسرنا وقلنا لا نريد إقامه ) وقال الأعشى في مدح الحنفيّ أيضاً وهو صاحب اليمامة
ويذمّ الحارث بن
____________________
وعلة
: ( وإن امرأً قد زرته بعد هذه ** بجوّ لخير منك نفساً ووالدا ) كذا في معجم ما
استعجم للبكري . وروي : عن جلّ اليمامة وفي الروايتين حذف مضاف فالأول عن أهل جو
اليمامة والثاني عن جلّ أهل اليمامة أي : معظم أهلها . يعني : أنه لم يقصد سواه من
أهل اليمامة . وضمير أهلها لليمامة . وجعل الميل عن غير هوذة إلى هوذة فعل الناقة
وإنما هو فعل صاحبها . واللام في لسوائكا بمعنى إلى غيرك .
قال صاحب التصحيف : قال أبو عبيد : لا يكون سواء وسوى اسما هو صفة وقال في قوله :
وما قصدت من أهلها لسوائكا قال الزجّاج : سواء زيد وعمرو في معنى ذوا سواء وسواء
عنده مصدرن وإنما هو لمكان سوائكا . انتهى .
وقال ابن ولاد في المقصور والممدود : سوى بمعنى غير مكسور الأول مقصور يكتب بالياء
وقد يفتح أوله فيمد ومعناه معنى المكسور قال الأعشى بفتح ومد : وما قصدت من أهلها
لسوائكا وقوله : وجدت علياً بانياً الخ علي أبوه وطلق وشيبان ومالك أعمامه . وقوله
: لما ضاع فيها )
من قروء نسائكا يعني الغزوة التي شغلته عن وطء نسائه في الطهر .
وهذه القصيدة تشبه أشعار المحدثين والمولّدين في الرقة والانسجام ولهذا أوردنا
أكثرها .
وترجمة الأعشى تقدمت في الشاهد الثالث والعشرين من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد بعده وهو خالط من سلمى خياشيم وفا على ان أصله وفاها فحذف المضاف إليه .
قال أبو علي في إيضاح الشعر : اعلم أن أبا الحسن الأخفش قال في قول الراجز : خالط
من سلمى خياشيم وفا إن التقدير : وفاها فحذف المضاف إليه . وكذلك قال في قوله :
ليس غير : إن التقدير ليس غيره . وحكى بعضهم أن من الناس من قد لحّنه . والتلحين
ليس بشيء لاحتماله ما قال أبو الحسن وفيه قول آخر : انه جاء على قول من لم يبدل من
التنوين الألف في النصب ولكن جعل النصب في عدم إبدال التنوين ألفاً كالجر والرفع
كما جعلوا النصب في نحو : كفى بالنأي من أسماء كاف مثل الجر والرفع . وكذلك جعل
النصب مثلهما في نحو قوله :
____________________
وآخذ
من كل حي عصم أي : عصماً . وهذه اللغة وإن لم يحكها سيبويه فقد حكاها أبو الحسن
وغيره . ووجهها من القياس ما أعلمتك . فإذا جاز أن يقدر على هذه اللغة قدرناه
عليها وكانت الألف في الكلمة التي هي بدل من عين الفعل وجاز ذلك لأنه ليس يبقى
الاسم المتمكن على حرف . ألا ترى أن الألف منقلبة عن العين فصار في ذلك كالأسماء
التي لما أمن إلحاق التنوين بها جاز أن تبقى على حرفين أحدهما حرف لين : كقوله :
ذو التي في معنى الذي وذا وتا ونحو ذلك مما جاء على حرفين أحدهما حرف لين لما لم
يكن مما يلحقه التنوين .
فكذلك خياشيم وفا لا يمتنع أن يكون على حرفين أحدهما حرف لين على الوجه الذي
ذكرناه . انتهى .
وبسط هذا الكلام في التذكرة القصريّة وأطال وأطاب في المسائل العسكرية .
وهذا البيت من أرجوزة للعجّاج مطلعها : ) ( يا صاح ما هاج العيون الذرفا ** من طلل
أمسى يحاكي المصحفا ) ( رسومه والمذهب المزخرفا ** جرّت عليه الريح حتى قد عفا )
والبيت الأول من شواهد شروح الألفية في التنوين إلى أن قال : ( خالط من سلمى
خياشيم وفا ** صهباء خرطوماً عقاراً قرقفا ) والخياشيم : جمع خيشوم وهو أقصى الأنف
. والصهباء : فاعل خالط وهي الخمر سميت به للونها وهو الصهبة وهي الشقرة .
والخرطوم : السلافة في الأساس : وشرب الخرطوم أي : السلافة لأنها أول ما ينعصر .
والعقار بالضم : الخمر . سميت بذلك لأنها عاقرت العقل على قول .
يصف طيب نكهتها كأن فيها خمراً . وإنما جمع الخياشيم باعتبار أجزائه وأطرافه .
وحيث
____________________
كان
الأصل فاها فحذف المضاف إليه ينبغي أن يكون خياشيم كذلك أيضاً أي : خياشيمها وفاها
.
وترجمة العجاج تقدمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو الشاهد الرابع والأربعون بعد المائتين ولا سيما يوماً بدارة جلجل
على أنه روي بنصب يوم بعد لا سيما .
وقد ذكر الشارح المحقق ما قيل في توجيهه . وهذا عجز وصدره : ألا رب يوم صالح لك
منهما وسي بمعنى مثل وأصله سيو وقال ابن جني : سوى من سويته فتسوى فلما اجتمع حرفا
العلة وسبق أحدهما بالسكون قلبت الواو ياء وأدغمت في الياء .
ويجوز في الاسم الذي بعدها الجر والرفع مطلقاً والنصب أيضاً إذا كان نكرة وقد روي
بهن في قوله : ولا سيما يوم . والجر أرجحها وهو على الإضافة وما إما زائدة وإما
نكرة غير موصوفة ويوم بدل منها . والرفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف والجملة صلة ما
إن كانت موصولة أو صفتها إن كانت نكرةً موصوفة تقديره : لا مثل الذي هو يوم أو لا
مثل شيء هو يوم .
وسي في الوجهين نكرة لأنه بمعنى مثل فلا يتعرف في الإضافة لتوغله في
____________________
الإبهام
ولهذا جاز دخول لا التي لنفي الجنس . وضعف الرفع بحذف العائد المرفوع مع عدم الطول
في نحو لا سيما )
زيد وأما في البيت فقد طالت الصلة أو الصفة بالجار والمجرور بعد يوم فإنه صفته
وبإطلاق ما على من يعقل . كذا قال ابن هشام في المغني وفيه : أنه لا مانع من
الإطلاق قال تعالى : والسماء وما بناها . والأرض وما طحاها . ونفس وما سواها ولهذا
لم يتعرض له الشارح المحقق .
وعلى الجر والرفع ففتحة سي إعراب لأنه مضاف فيكون اسم لا والخبر محذوف أي : لنا .
قال ابن هشام : وعند الأخفش ما خبر للا . ويلزمه قطع سي عن الإضافة من غير عوض .
قيل : وكون خبر لا معرفةً . وجوابه أنه يقدر ما نكرة موصوفة أو يكون قد رجع إلى
قول سيبويه في لا رجل قائم : إن ارتفاع الخبر بما كان مرتفعاً به لا بلا النافية .
وفي الهتيات للفارسي : إذا قيل : قاموا لا سيما زيد فلا مهملة وسي حال أي : قاموا
غير مماثلين لزيد في القيام . ويرده صحة دخول الواو وهي لا تدخل على الحال المفردة
وعدم تكرار لا وأما من نصب فقد تكلفوا لتوجيهه : فقيل : إنه تمييز ثم قيل : ما
نكرة تامة مخفوضة بالإضافة وكأنه قيل : ولا مثل شيء ثم جيء بالتمييز . ففتحة سي
إعراب أيضاً . وقال الفارسي : ما حرف كاف لسي عن اللإضافة فأشبهت اللإضافة في :
على التمرة مثلها زبداً . ففتحتها على هذا بناء . وقيل : منصوب بإضمار فعل أي :
أعني يوماً . وقد بينه الشارح المحقق . وقيل : على الاستثناء . وقيل منصوب على
الظرف ويكون صلةً لها . كذا في شرح اللب .
وأما انتصاب المعرفة نحو : ولا سيما زيداً فقد منعه الجمهور وقال ابن الدهان : لا
أعرف له وجهاً . وقد وجهه الشارح المحقق بأنه تمييز . وقال ابن هشام : ووجهه بعضهم
بأن ما كافة وأن لا تنزلت منزلة إلا في الاستثناء ورد بأن المستثنى مخرج وما بعدها
داخل من باب الأولى .
وأجيب بأنه مخرج مما أفهمه الكلام السابق من مساواته لما قبلها . وعلى هذا فيكون
استثناء منقطعاً انتهى .
____________________
وأورد أيضاً على جعلها للاستثناء بأنها لو كانت بمعنى إلا لما جاز دخول الواو
العاطفة عليه كما لا يجوز دخولعا على إلا واجب بان المعنى لا سيما خصوصاً فكأنه
قال : وخصوصاً فكأنه قال : أي : فأخص هذا اليوم من سائر الأيام خصوصاً لكونه أبلغ
في الخطوة منها فهو في المعنى مقدر بفعل ينصبه . وإنما أطلق عليه أنه بمنزلة إلا
نظراً إلى المعنى لأن الاستثناء أيضاً تخصيص . وإنما أدخل الواو نظراً إلى المعنى
أنه مقدر بجملة أي : وأخص هذا اليوم لأنه ليس )
مثل الأيام الصالحة بل هو أفضل . كذا في شرح اللباب .
وقد جعلها الشارح واو الاعتراض وبين المعنى ثم ذكر ان قولهم : ولا سيما قد تحذف
واوها وقد تخفف ياؤها كقوله : ( فه بالعقود وبالأيمان لا سيما ** عقد وفاء من أعظم
القرب ) لكن قال ثعلب : من استعمله على خلاف ما جاء في قوله : ولا سيما يوم بدارة
جلجل فهو مخطئ .
تتمة : في شرح التسهيل : قد يقع بعد ما ظرف نحو : يعجبني الاعتكاف لا سيما عند
الكعبة قال : ( يسرّ الكريم الحمد لا سيما لدى ** شهادة من في خيره يتقلّب ) وقد
تقع جملة فعلية كقوله : ( فق الناس ف يالخير لا سيما ** ينيلك من ذي الجلال الرضا
) والغالب وصلها بالاسمية . وقال المرادي : إنه وقع بعدها الجملة الشرطية فما كافة
بناء على أن الشرطية لا تكون صلة للموصول . وفيه كلام في شروح الكشاف .
____________________
وهذا كما حكى الجوهري : فلان يكرمني لا سيما إن زرته . ولا يصح جعل ما زائدة لأنه
يلزم إضافة سيّ إلى الجملة الشرطية ولا يضاف إلى الجمل إلا أسماء الزمان .
وقد يقع بعدها جملة مقترنة بالواو فعلية كما وقع في عبارة الكشاف : لا سيما وقد
كان كذا واسمية كما في قول صاحب المواقف : لا سيما والهمم قاصرة .
وفي شرح التسهيل : إنه تركيب غير عربي وكلام الشارح يخالفه . وفي شرح المواقف أن
قوله : والهمم قاصرة مؤوّل بالظرف نظراً إلى قرب الحال من ظرف الزمان فصحّ وقوعها
صلة لما .
وهذا من قبيل الميل إلى المعنى والإعراض عن ظاهر اللفظ أي : لا مثل انتفائه في
زمان قصور الهمم . وهذا لا يرضاه نحويّ كيف والجملة الحالية في محل النصب والصلة
لا محل لها .
وهذا البيت من معلقة امرئ القيس المشهورة . وهذه أبيات منها : ( وإن شفائي عبرة لو
سفحتها ** فهل عند رسم دارس من معوّل ) ( كدأبك من أم الحويرث قبلها ** وجارتها
أمّ الرباب بمأسل ) ( إذا قامتا تضوّع المسك منهما ** نسيم الصبا جاءت بريّا
القرنفل ) ) ( فاضت دموع العين مني صبابة ** على النحر حتى بلّ دمعي محملي )
____________________
(
ألا ربّ يوم صالح لك منهما ** ولا سيما يوماً بدارة جلجل ) ( فظلّ العذارى يرتمين
بلحمها ** وشحم كهدّاب الدمقس المفتل ) ( ويوم دخلت الخدر خدر عنيزة ** فقالت : لك
الويلات إنك مرجلي ) ( تقول وقد مال الغبيط بنا معاً : ** عقرت بعيري يا امرأ
القيس فانزل ) ( فقلت لها : سيري وأرخي زمامه ** ولاتبعديني من جناك المعلّل )
البيتان الأولان قد تقدم شرحهما في باب الحال في الشاهد التاسع والتسعين بعد
المائة .
وقوله : إذا قامتا الخ ضمير المثنى لأم الحويرث وأم الرباب . وتضوع : فاح متفرقاً
. والمسك يذكّر ويؤنث وكذلك العنبر ومن أنّثه ذهب به إلى معنى الريح ورواه تضوع
المسك على أنه فعل مضارع أصله تتضوع بتاءين . ونصب نسيم الصبا لأنه قام مقام نعت
لمصدر محذوف قال ابن هشام في المغني في بيان كيفية التقدير : إنه إذا استدعي
الكلام تقدير موصوف وصفة مضافة مثلاً فلا يقدر أن ذلك حذف دفعة واحدة بل على
التدريج نحو : تضوع المسك منهما
____________________
نسيم
الصبا أي : تضوعاً مثل تضوع نسيم الصبا أي تضوعا مثل تضوع نسيم الصبا . انتهى .
وأورد صاحب تحرير التحبير هذا البيت في باب الاتساع وهو أن يأتي الشاعر ببيت يتسع
فيه التأويل على قدر قوى الناظر فيه وبحسب ما تحتمله ألفاظه : فإن هذا البيت اتسع
النقاد في تأويله : فمن قائل : تضوع المسك منهما تضوع نسيم الصبا وهذه هو الوجه
عندي ومن والريّا : الرائحة الطيبة لا غير . وجملة جاءت الخ بتقدير قد حال من
الصبا . ونسيم الصبا هبوبها بضعف . قال الدينوري في كتاب النبات : القرنفل أجود ما
يؤتى به من بلاد الصين . وقد كثر مجيء الشعر بوصف طيبه . . وأنشد هذاالبيت ثم قال
: وقالوا : قد أخطأ امرؤ القيس فإنه لا يقال تضوع المسك حتى كأنه ريّا القرنفل
إنما كان ينبغي أن يقول : تضوع القرنفل حتى كأنه ريا المسك . انتهى .
وقد تبعه الإمام الباقلاني في كتاب إعجاز القرآن قال : وفيه خلل لأنه بعد أن شبّه
عرفها بالمسك شبّه ذلك بنسيم القرنفل . وذكر ذلك بعد المسك نقص . وكذلك قوله : إذا
قامتا تضوّع المسك منهما . ولو أراد أن يجوّد أفاد أن بهما طيباً على كل حال .
فأما في حال القيام فقط فذلك تقصير . وقوله : نسيم الصبا في تقدير المنقطع عن
المصراع الأول . انتهى . )
والعيبان الأخيران ليسا كما زعمه فتأمل .
وقوله : ففاضت دموع العين الخ فاضت : سالت . والصبابة : رقة الشوق ونصبها على أنها
مفعول له . والمحمل بكسر الأول : السير الذي يحمل به السيف قال شراح المعلقة :
ومما يسأل عنه هنا أن يقال : كيف يبلّ
____________________
الدمع
محمله وإنما المحمل على عاتقه فيقال : قد يكون منه على صدره فإذا بكى وجرى عليه
الدمع ابتلّ وقال الإمام الباقلاني : قوله : مني استعانة ضعيفة عند وقوله : على
النحر حشو آخر لأن قوله : بلّ دمعي محملي يغني عنه . ثم قوله : حتى بلّ دمعي الخ
إعادة ذكر الدمع حشو آخر وكان يكفيه أن يقول : حتى بلّت محملي . فاحتاج لإقامة
الوزن إلى هذا كله . ثم تقديره أنه قد أفرط في إفاضة الدمع حتى بلّ محمله تفريط
منه وتقصير ولو كان أبدع لكان يقول : حتى بلّ دمعي مغانيهم وعراصهم . ويشبّه أن
يكون غرضه إقامة الوزن والقافية لأن الدمع يبعد أن يبلّ المحمل وإنما يقطر من
الواقف والقاعد على الأرض . أو على الذيل . وإن بلّه فلقلته وأنه لا يقطر . وأنت
تجد في شعر المتأخرين ما هو أحسن من هذا البيت انتهى .
وقوله : ألا ربّ يوم صالح . . الخ ربّ هنا للتكثير ومنهما أي : من أمّ الحويرث
وأمّ الرباب .
وروي : ألا ربّ يوم لك منهن صالح أي : من النساء وفيه الكف وهو حذف النون من
مفاعيلن . والمعنى : ألا رب يوم لك منهن سرور وغبطة بوصال النساء وعيش ناعم معهن .
وقوله : ولا سيما الخ أي : وليس يوم من تلك الأيام مثل يوم دارة جلجل فإن هذا
اليوم كان أحسن الأيام وأفضلها . يريد : التعجب من فضل هذا اليوم . ودارة جلجل بضم
الجيمين : اسم غدير قال البكري في معجم ما استعجم : قال أبو قال الإمام الباقلاّني
: وهذا البيت خال من المحاسن والبديع خاو من المعنى
____________________
وليس
له لفظ يروق ولا معنى يروع من طباع السوقة فلا يرعك تهويله باسم موضع غريب .
وقوله : ويوم عقرت الخ يوم معطوف على يوم في قوله : ولا سيما يوم لكنه بني على
الفتحة لإضافته إلى مبني أو هو منصوب بتقدير : اذكر . والعقر : الضرب بالسيف على
قوائم البعير وربما قيل عقره : إذا نحره . والعذارى : البنات الأبكار . والرحل :
كل شيء يعدّ للرحيل : من وعاء للمتاع ومركب للبعير وحلس ورسن . والمتحمّل : اسم
مفعول أي : المحمول . )
وأورد ابن هشام هذا البيت في المغني على أن لام للعذارى للتعليل . وقوله : فيا
عجباً الألف بدل من الياء فإنها تبدل في النداء إليها جوازاً . ويقال : كيف يجوز
أن ينادى العجب وهو مما لا يجيب ولا يفهم فالجواب : أن العرب إذا أرادت أن تعظم
أمر الخبر جعلته نداء .
قال سيبويه : إذا قلت يا عجباً كأنك قلت : تعال يا عجب فإن هذا من إبانك . فهذا
أبلغ من قولك تعجبت . والمعنى : انتبهوا للعجب كذا في شروح المعلقة .
وقال الإمام الباقلاّني : قال بعض الأدباء : قوله يا عجبا يعجّبهم من سفهه في
سبابه من نحره ناقته لهنّ . وإنما أراد ألا يكون الكلام من هذا المصراع منقطعاً عن
الأول وأراد أن يكون الكلام ملائماً له . وهذا الذي ذكره بعيد وهو منقطع عن الأول
وظاهر أنه يتعجب من تحمّل العذارى رحله . وليس في هذا تعجّب كبير ولا في نحر
الناقة لهن تعجب . وإن كان يعني به أنهن حملن رحله وأن بعضهن حملته فعبر عن نفسه
برحله فهذا قليلاً يشبه أن يكون عجباً . لكن الكلام لا يدلّ عليه . ولو سلم البيت
من العيب لم يكن فيه شيء غريب ولا معنى بديع أكثر من سفاهته مع قلة معناه وتقارب
أمره ومشاكلته طبع المتأخرين .
____________________
ومن
أول القصيدة لم يمرّ له بيت رائع وكلام رائق .
وقوله : فظل العذارى الخ يرتمين : يناول بعضهن بعضاً . والهدّاب بالضم والتشديد هو
الهدب وهو طرف الثوب الذي لم يتم نسجه . والمقس : الحرير الأبيض ويقال له القز .
قال الإمام الباقلاني : هذا البيت يعدونه حسناً ويعدون التشبيه مليحاً واقعاً .
وفيه شيء : وذلك انه عرّف اللحم ونكّر الشحم فلا يعلم أنه وصف شحمها وذكر تشبيه
أحدهما بشيء واقع وعجز عن تشبيه القسمة الأولى فمرّت مرسلة وهذا نقص في الصنعة
وعجز عن إعطاء الكلام حقه . وفيه شيء آخر من جهة المعنى : وهو أنه وصف طعامه
لضيوفه بالجودة وهذا قد يعاب وقد يقال : إن العرب تفتخر بذلك ولا تراه عيباً وإنما
الفرس هم الذين يرون هذا عيباً شنيعاً . وأما تشبيه الشحم بالدمقس فشيء يقع للعامة
ويجري على ألسنتهم فليس بشيء قد سبق إليه . وإنما زاد المفتل للقافية وهذا مفيد .
ومع ذلك فلست أعلم العامة تذكر هذه الزيادة . وفيه شيء آخر : وهو أن تبجحه بما
أطعم الأحباب مذموم وإن سوغ التبجح بما أطعم الأضياف إلا أن يورد الكلام مورد
المجون على طرائق أبي نواس في المزاح والمداعبة . )
وقوله : ويوم دخلت الخ هو معطوف على يوم عقرت . والخدر بالكسر : الهودج هنا . وخدر
عنيزة بدل منه . وعنيزة بالتصغير : لقب ابنة عمه فاطمة . وفيه ردّ على من زعم أنه
لم يسمع تلقيب الإناث . وأنشد ابن هشام هذا البيت في بحث النون من المغني على ان
التنوين اللاحق لعنيزة تنوين الضرورة وهو التنوين اللاحق لما لا ينصرف .
وقوله : مرجلي : اسم فاعل من أرجلته إذا صيّرته راجلاً ورجل الرجل يرجل من باب علم
: إذا صار راجلاً . وقوله : لك الويلات فيه قولان :
____________________
أحدهما
: ان يكون دعاء منها عليه إذ كانت تخاف عليه أن يعقر بعيرها . والثاني : أن يكون
دعاء منها له على الحقيقة كما تقول العرب للرجل إذا رمى فأجاد : قاتله الله ما
أرماه وحقيقة مثل هذا أنه يجري مجرى المدح والثناء .
وقال الإمام الباقلاني : دخلت الخدر خدر عميزة ذكره تكريراً لإقامة الوزن لا فائدة
فيه غيره ولا ملاحة ولا رونق . وقوله : فقالت لك الخ الكلام مؤنث من كلام النساء
نقله من جهته إلى شعره وليس فيه غير هذا . انتهى .
وقوله : تقول وقد مال الخ الغبيط بفتح المعجمة : الهودج بعينه وقيل : قتب الهودج
وقيل : مركب من مراكب النساء . وعقرت هنا بمعنى جرحت ظهره قال الإمام الباقلاني :
كرر قوله سابقاً بقوله : تقول وقد مال الخ ولا فائدة فيه غير تقدير الوزن وإلا
فحكاية قولها الأول كاف .
وهو في النظم قبيح لأنه ذكر مرة فقالت ومرة تقول في معنى واحد وفصل خفيف . وفي
المصراع الثاني أيضاً تأنيث من كلامهن . انتهى .
طعنه الأول غير وارد لأنه من باب الإطناب بسطه ثانياً للتلذذ والإيضاح . وقوله
ثانياً تقول غير معيب لأنه من حكاية الحال الماضية وقد عدّ حسناً .
ثم قال الباقلاني : وذكر أبو عبيدة أنه قال : عقرت بعيري ولم يقل ناقتي لأنهم
يحملون النساء على ذكور الإبل لأنها أقوى . وفيه نظر لأن الأظهر أن البعير اسم
للذكر والأنثى . واحتاج إلى ذكر البعير لإقامة الوزن .
وقوله : فقلت لها سيري الخ جناها : ما اجتنى منها من القبل . والمعلل : الملهى
الذي يعلله ويتشفى به . وروي بفتح اللام أي : الذي علل بالطيب أي طيّب مرة بعد مرة
من العلل بفتحتين وهو الشرب الثاني . ومعنى
____________________
البيت
: أنه تهاون بأمر الجمل في حاجته فأمرها أن تخلّي زمامه ولا تبالي بما أصابه . قال
الباقلاني : هذا البيت قريب النسج ليس له معنى بديع ولا لفظ شريف )
والمراد باليوم في هذه المواضع مطلق الوقت والزمان وإلا فجميع هذه الأمور قد صدرت
في يوم واحد كما يعرف من خبر يوم دارة جلجل وقد رواه ابن الأنباري في شرح المعلقة
قال : كان من حديثه على ما حدّث ابن رألان عن أبي شفقل راوية أبي فراس همام بن
غالب الفرزدق أنه قال : لم أر أروى من الفرزدق لأخبار امرئ القيس وأشعاره وخرجنا
يوماً إلى المربد بعقب طشّ قد وقع واتصل به خبر نسوة أشراف قد خرجن إلى متنزه لهن
قال : سر بنا حتى قرب من مجتمعهن فخلفني وصار إليهن فلما رأينه قلن : قد علمنا أنا
لن نفوتك .
فلم يزل يومه الأطول يحدثهن ويفاكههن وينشدهن إلى ان ولّى النهار ثم انصرف إليّ
فقال : سر بنا . فلم أر يوما قط أشبه بيوم دارة جلجل من يومنا هذا ثم أنشأ يحدّث
حديث يوم دارة جلجل . فقال : حدثني الثقة أن حي امرئ القيس تحملوا وهو يومئذ شاب
حديث السن يهوى ابنة عم له يقال لها : فاطمة ويكنة عنها بعنيزة وتخلف النساء وفيهن
فاطمة وارتحل امرؤ القيس لا يرى الحي مسيره إلى أن نأى عن الحي فأخفى شخصه بقرب
غدير يعرف بدارة جلجل وقال لمن كان معه : سيمرّ النساء بالغدير فلا بد أن يتبردن
فيه .
وأمعن الحي في المسير وارتحل النساء بعدهم فمررن على الغدير ولا يدرين أن وراءهن
أحداً فنزلن وعند الغدير شجرة فأنخن إبلهن إلى تلك الشجرة ونزعن ثيابهن فدخلن
الغدير وجاء امرؤ القيس فأخذ ثيابهن وقال : لا تأخذ امراة منكن ثيابها حتى تخرج
كما هي فناشدنه الله وطلبن إليه حتى طال يومهن وخشين أن
____________________
يفوتهن
المنزل فجعلن يخرجن واحدة واحدة حتى بلغ إلى فاطمة فرآها واستمتع بالنظر إليها ثم
قلن له : قد أتعبتنا فاجلس فجلس ينشدهن ويحدثهن ويشرب من شراب معه فقالت إحداهن :
أطعمنا لحماً . فقام إلى مطيّته فنحرها وأطعمهن من لحمها وشرب حتى انتشى . حتى إذا
أرادوا الرواح قالت امرأة منهن : أتدعن امرأ القيس يهلك فقالت فاطمة : فككن رحله
واحملنه معكن وأنا أحمله معي في هودجي ففعلن فجعل يميل رأسه إليها فيقبلها وجعل
هودجها يميل بها وهي تنادي به وتقول : قد عقرت بعيري فانزل حتى إذا بلغ قريباً من
الحي كمن في غمض من الأرض . وسار النساء حتى لحقن برحالهن . انتهى .
وروى ابن عبد ربه في العقد الفريد نحواً من هذا مع بعض مخالفة . ونصه . قال
الفرزدق : أصابنا بالبصرة ليلاً مطر جود فلما أصبحت ركبت بغلتي وسرت إلى المربد
فإذا أنا بآثار )
دوابّ فاتبعت الأثر حتى انتهيت إلى بغال عليها رحال موقوفة على غدير فأسرعت إلى
الغدير فإذا فيه نسوة مستنقعات في الماء فقلت : لم أر كاليوم أشبه بيوم دارة جلجل
وانصرفت مستحيياً فنادينني : يا صاحب البغلة ارجع نسألك عن شيء .
فرجعت إليهن فقعدن في الماء إلى حلوقهن ثم قلن : بالله لمّ أخبرتنا ما كان من حديث
دارة جلجل قلت : حدثني جدي وأنا يومئذ غلام حافظ أن امرأ القيس كان عاشقاً لابنة
عمه فاطمة ويقال لها عنيزة وأنه طلبها زماناً فلم يصل إليها حتى كان يوم الغدير
وهو يوم دارة جلجل : وذلك أن الحي تحملوا فتقدم الرجال وتخلف الخدم والثقل فلما
رأى ذلك امرؤ القيس تخلف بعد ما سار مع رجال قومه غلوة فكمن في غامض حتى مر به
النساء وفيهن عنيزة فلما وردن الغدير قلن : لو نزانا فاغتسلنا في هذا الغدير فذهب
عنا بعض الكلال فنزلن في الغدير ونحين العبيد ثم تجرّدن فوقفن فيه فأتاهن امرؤ
القيس فأخذ ثيابهن فجمعها
____________________
وقعد
عليها وقال : والله لا أعطي جارية منكن ثوبها ولو قعدت في الغدير يومها حتى تخرج
متجردة فتأخذ ثوبها فأبين ذلك عليه حتى تعالى النهار وخشين أن يقصّرن عن المنزل
الذي يردنه فخرجن جميعاً غير عنيزة فناشدته الله أن يطرح ثوبهان فأبى فخرجت فنظر
إليها مقبلة ومدبرة وأقبلن عليه فقلن له : إنك عذبتنا وحبستنا وأجعتنا . قال : فإن
نحرت لكنّ ناقتي أتأكلن معي قلن : نعم فجرد سيفه فعرقبها ونحرها ثم كشطها وجمع
الخدم حطباً كثيراً فأجّجن ناراً عظيمة فجعل يقطع أطايبها ويلقي على الجمر ويأكلن
ويأكل معهن ويشرب من فضلة خمر كانت معه ويغنيهن وينبذ إلى العبيد من الكباب فلما
أرادوا الرحيل قالت إحداهن : أنا أحمل طنفسته وقالت الأخرى : أنا أحمل رحله
وأنساعه .
فتقسمن متاعه وزاده وبقيت عنيزة لم تحمل شيئاً فقال لها : يا ابنة الكرام لا بدّ
أن تحمليني معك فإني لا أطيق المشي فحملته على غارب بعيرها فكان يجنح إليها فيدخل
رأسه في خدرها فيقبلها فإذا امتنعت مال هودجها فتقول : عقرت بعيري فانزل . . وكان
الفرزدق أروى الناس لأخبار امرئ القيس وأشعاره وذلك أن امرأ القيس رأى من أبيه
جفوة فلحق بعمه شرحبيل بن الحارث وكان مسترضعاً في بني دارم فأقام فيهم . وهم رهط
الفرزدق . انتهى .
وقد روى أيضاً خبر هذا اليوم أبو زكريا يحيى بن علي الخطيب التبريزي في شرح هذه
المعلقة )
على وجه مجمل .
وترجمة امرئ القيس تقدمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده وهو الشاهد الخامس والأربعون بعد المائتين
____________________
(
فأنت طلاق ** والطلاق أليّة ثلاثاً ومن يخرق أعق وأظلم ) على أن الواو في قوله :
والطلاق ألية اعتراضية والجملة اعتراض للتقوية والتسديد بين قوله : فأنت والأليّة
: اليمين . أراد أن الطلاق يلزم المطلق كما يلزم الوفاء بمضمون اليمين . والرواية
الصحيحة : والطلاق عزيمة ووقع في أكثر النسخ المصراع الأول فقط اكتفاء بشهرة الشعر
.
وقد نقل السعد كلام الشارح هنا في بحث الجملة الحالية من المطوّل قال الفناري في
حاشيته : قوله : فأنت طالق والطلاق ألية آخره : بهاء المرء ينجو من شباك الطوامث .
الشباك : الحبائل . والطوامث : الحيّض من طمثت المرأة : حاضت . وفي وقع هذه الجملة
متوسطة بين أجزاء كلام واحد كما هو الظاهر من كلامه نوع خفاء إذ الظاهر أن قوله :
بها المرء الخ كلام مستقل . وقيل : آخر المصراع المذكور : ثلاثاً ومن يخرق أعق
وأظلم لكن الرواية في هذا البيت عزيمة مكان أليّ . ولعل فيه رواية اخرى لم أطلع
عليها . انتهى .
وقال بعضهم : هذا الاعتراض على مذهب الزمخشري فإن الاعتراض عنده ما يساق لنكتة سوى
رفع الإبهام . ويكون لا محلّ لها .
وهذا البيت مبني على مسألة فقهية . وأوّل من تكلم عليه الإمام محمد بن الحسن أو
الكسائي على اختلاف سيذكر .
____________________
ونقل ابن هشام في المغني الجواب وبحث فيه وزاد ثم تكلم عليه السيد معين الدين
الإيجي في رسالة أفردها وزاد على ابن هشام فيما استنبطه . وكل منهما لم ير ما كتبه
عليه أبو علي الفارسي في المسائل القصرية وقد تنبّه لما قالاه وردّه فينبغي أن
نورد كلام كل منهم على حدة لكن نقدم ابتداء ذكر السائل والمجيب أولاً فنقول : قال
أبو علي الفارسي : حدثنا الشيخ أبو الحسن الكرخي عن يحيى بن الحريش الرقي قال : )
أرسلني الكسائي إلى محمد بن الحسن أسأله عن الجواب في هذه الأبيات : ( إن ترفقي يا
هند فالرفق أيمن ** وإن تخرقي يا هند فالخرق أشأم ) ( فأنت طلاق والطلاق عزيمة **
ثلاثاً ومن يجني أعق وأظلم ) ( فبيني بها أن كنت غير رفيقة ** فما لامرئ بعد
الثلاث مقدم ) قا ل : فأتيت محمد بن الحسن بالأبيات فقال : إن نصب الثلاث فهي ثلاث
تطليقات وإن رفع الثلاث فهي واحدة كأنه أراد أن يخبر أن عزيمة الطلاق ثلاث . قال :
فرجعت إلى الكسائي فأخبرته بقول محمد فتعجب من فطنته . انتهى .
وهذا هو المسطور في كتب الحنفية كالمبسوط وشرح الكنز للزيلعي لكن ذكروا أن رسول
الكسائي إلى محمد هو ابن سماعة . ولا مخالفة لجواز أن يكونا ذهبا معاً برسالة
الكسائي وكل وقال ابن هشام في المغني : كتب الرشيد ليلة إلى القاضي أبي يوسف صاحب
أبي حنيفة يسأله عن قول القائل وأنشد الأبيات فقال : ماذا يلزمه إذا رفع الثلاث
وإذا نصبها قال أبو يوسف : فقلت : هذه مسألة نحوية فقهية ولا آمن الخطأ إن قلت
فيها برأيي . فأتيت الكسائي وهو في فراشه فسألته فقال : إن رفع ثلاثاً طلقت واحدة
لأنه قال أنت طالق ثم أخبر أن الطلاق التام ثلاث وإن
____________________
نصبها
طلقت ثلاثاً لأن معناه : أنت طالق ثلاثاً وما بينهما جملة معترضة . فكتبت بذلك إلى
الرشيد فأرسل إلي بجوائز فوجّهت بها إلى الكسائي . انتهى ملخصاً . هذا كلامه .
وقال السيد معين الدين : قد وجدت في كتاب من كتب النحو أن المسألة قد وقعت بين
الإمام محمد والكسائي بحضرة الرشيد فقال الكسائي : أنت يا محمد تزعم أن الماهر في
علم يمكن أن يستنبط من العلوم وأنت ماهر في الفقه فاستنبط من هذا البيت . فقال :
في نصب العزيمة ورفع الثلاث طلقة وفي رفعها ونصب الثلاث ثلاث . فقال الكسائي :
أصبت والقول ما قلت .
انتهى .
والرفق من باب قتل : خلاف الخرق والعنف وخرق خرقاً من باب فرح : إذغ عمل شيئاً فلم
يرفق فيه فهو أخرق وهي خرقاء والاسم الخرق بالضم . وأيمن وصف بمعنى ذي يمن وبركة
لا والعزيمة قال الكرماني في شرح البخاري : هي في الأصل عقد القلب على الشيء
استعمل لكل أمر محتوم . وفي الاصطلاح : ضد الرخصة . وفعله من باب ضرب يقال : عزم
على الشيء )
وعزمه عزماً بمعنى عقد ضميره على فعله . وقال النووي : حقيقة العزم حدوث رأي وخاطر
في الذهن لم يكن . والعزم والنية متقاربان يقام أحدهما مقام الآخر . ويجني مضارع
جنى على قومه جناية : أذنب ذنباً يؤاخذ به . وروى الجماعة : ومن يخرق فقال ابن
يعيش : من شرطية .
ورد عليه الدماميني بأنه يلزمه حذف الفاء والمبتدأ من جملة الجزاء والتقدير : فهو
أعق وأظلم وليس هذا بمتعين لجواز أن تكون موصولة وتسكين القاف للتخفيف كقراءة أبي
عمرو : وما يشعركم . بإسكان الراء . وأعق خبر من الموصولة فلا حذف ولا ضرورة ولا
قبح . انتهى .
والذي ذكره الجعبري : أن وجه الإسكان فيه طلب التخفيف عند اجتماع ثلاث
____________________
حركات
ثقال من نوع واحد أو نوعين . ويخرق ليس منهما . وأما التسكين في قوله : فاليوم
أشرب غير مستحقب فقد قيل أنه للضرورة . . وقوله : أعق من العقوق وهو ضد البر .
وقوله : فبيني بها الخ هي أمر من البينونة وهي الفراق وضمير بها للثلاث أي : كوني ذات
طلاق بائن بهذه التطليقات الثلاث لكونك غير رفيقة . فأن مفتوحة الهمزة مقدر قبلها
لام العلة .
ومقدم : مصدر ميمي أي : ليس لأحد تقدم إلى العشرة والألفة بعد إيقاع الثلاث . كذا
قال الدماميني . وأجاز بعضهم أن يكون مقدم بمعنى مهر مقدم أي : ليس له بعد الثلاث
مهر يقدمه لمطلقته ثلاثاً إلا بعد زوج آخر . فيكون اسم مفعول . هذا كلامه .
وأما ما بحثه ابن هشام بعد الجواب المذكور فهذا نصه : أقول : إن الصواب أن كلاً من
الرفع والنصب محتمل لوقوع الثلاث ولوقوع الواحدة : أما الرفع فلأن أل في الطلاق
إما لمجاز الجنس وإما للعهد الذكري أي : وهذا الطلاق المذكور عزيمة ثلاث . فعلى
العهدية تقع الثلاث وعلى الجنسية تقع واحدة .
وأما النصب فلأنه محتمل لأن يكون على المفعول المطلق وحينئذ يقتضي وقوع الثلاث إذ
المعنى : فأنت طالق ثلاثاً ثم اعترض بينهما بقوله والطلاق عزيمة ولأن يكون حالاً
من الضمير المستتر في عزيمة وحينئذ لا يلزم وقوع الثلاث لأن المعنى : والطلاق
عزيمة إذا كان ثلاثاً فإنما يقع ما نواه . هذا ما يقتضيه اللفظ مع قطع النظر عما
بعده فإنه يعين الثلاث . انتهى كلامه .
____________________
وقال الفناري في حاشية المطول : قد انتصر جدنا شمس الدين الفناري للكسائي وأبي
يوسف حيث قال : ولقائل أن يقول : إنما لم يعتبر الكسائي وأبو يوسف حين ارتفاع
الثلاث كون اللام )
للعهد لأن ثلاث وعزيمة لا يصح أن يكونا خبرين عن الطلاق المعهود فإن الطلاق رخصة
وليس بعزيمة . وكذا حين انتصاب الثلاث لايصح أن يكون ثلاثاً حالاً من ضمير عزيمة
لما قلنا . فلم يتعين أيضاً قال اللهم إلا أن تحمل العزيمة على المعنى اللغوي .
والعرف أملك . وفيه بحث : أما أولاً فلأنه لا دخل في لزوم المحذور المذكور لجعل
اللام للعهد إذ منشؤه عدم اجتماع الثلاث والعزيمة وهذا الاجتماع لازم على تقدير الحمل
على مجاز الجنس اللهم إلا أني يراد الحمل على الجنس المطلق ويجعل الإخبار بالعزيمة
والثلاث بالنظر إلى أنواع الطلاق .
وأما ثانياً : فالأملك في مثله هو العرف العام فالظاهر أن المعنى : الطلاق الذي
ذكرت ليس بلغو ولا لعب بل هو معزوم عليه . نعم الكلام على تقدير جعل ثلاثاً حالاً
من المستتر في عزيمة محتمل لوقوع الثلاث بأن يكون المعنى والطلاق الذي ذكرته إذ
كان ثلاثاً . فتأمل . انتهى .
ونازعه الدماميني في الأخير فقال : الكلام محتمل لوقوع الثلاث على تقدير الحال
أيضاً بأن تجعل أل للعهد الذكري كما تقدم له في أحد وجهي الرفع . كأن قال :
والطلاق الذي ذكرت معزوم عليه حال كونه ثلاثاً . ولا يقدر حينئذ إذاكان بل إذ كان
.
وأما كلام السيد معين الدين فإنه قال : الشعر يحتما اثني عشروجهاً لأن اللام إما
للجنس وغما للعهد وعزيمة إما مرفوع وإما منصوب وثلاث إما مرفوع وإما منصوب على الحال
أو على المفعول المطلق فخرج من ضرب أربعة في
____________________
ثلاثة
: اثنا عشر لكن أربعة منها تركيب باطل . أما الثمانية فعلى تقدير أم اللام للجنس
إما أن يكون عزيمة وثلاث مرفوعين فيلزمه على ما قال ابن هشام واحدة والظاهر أنه
يلزمه ثلاث إذ ليس الطلاق عنده إلا عزيمة ثلاث وطلاقه فرد مما ادعاه . وإما أن
يكون عزيمة منصوباً وثلاث مرفوعاً فيلزمه واحدة وهو أحد وجهي الإمام محمد وفيه أن
ذا الحال مبتدأ .
وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث حالاً من المستتر في عزيمة يلزمه واحدة وهو وجه
ثان لابن هشام وللإمام لكن في كلام الإمام إبهام لأنه يحتمل أن يكون ثلاث مفعولاً
مطلقاً وحينئذ يلزمه ثلاث وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث مفعولاً مطلقاً فيلزمه
ثلاث وهو ثالث وجوه ابن هشام . فهذه وجوه أربعة .
وعلى تقدير أن اللام للعهد إما أن يكون عزيمة وثلاث مرفوعين كأنه قال : فأنت طلاق
وهذا الطلاق عزيمة ثلاث فيلزمه ثلاث وهو رابع وجوه ابن هشام . وإما أن يكون عزيمة
منصوباً )
وثلاث مرفوعاً فيلزمه ثلاث . وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث منصوباً حالاً من
المستتر فيلزمه ثلاث . وإما أن يكون عزيمة مرفوعاً وثلاث مفعولاً مطلقاً فيلزمه
ثلاث . فهذه أربعة أخرى فتكون ثمانية .
واما الأربعة التي فسدت لأجل الإعراب فهي : بتقدير أن اللام للجنس إما أن يكون
عزيمة منصوباً وثلاث حالاً من المستتر أو مفعولاً مطلقاً . وبتقدير أن اللام للعهد
إما ان يكون عزيمة منصوباً وثلاث حالاً من المستتر أو مفعولاً مطلقاً . وعلى
الوجهين وهو أنه حال يلزمه واحدة وعلى الوجهين الآخرين يلزمه ثلاث . هذا كلامه .
وقد كتب ابن قاسم العبادي على مواضع من هذ الرسالة فكتب عند قوله : الشعر يحتمل
اثني عشر وجهاً : لا بد على سائر التقادير في وقوع أصل الطلاق عند الشافعية من
النية كما هو ظاهر لأن أنت طلاق من الكنايات عندهم .
وكتب عند قوله : والظاهر أنه يلزمه ثلاث : قد يمنع من هذا الظاهر عند الشافعية أن
: أنت طلاق كناية عندهم وشرط تأثير الكناية في أصل الوقوع والعدد
____________________
النية
ولا يقوم مقام النية ما اقترن بالكناية مما يدل على الوقوع أو العدة من القرائن
ولهذا صرحوا بعدم الوقوع بقوله أنت بائن بينونة محرمة ولا تحلين لأي أبداً إذا لم
ينو . وحينئذ فالقياس في قول الشاعر : فأنت طلاق عدم الوقوع رأساً إن لم ينو . فإن
نوى الطلاق الثلاث وقع الثلاث وإن نوى أصل الطلاق فقط فالقياس وقوع واحدة .
وقوله : والطلاق عزيمة ثلاث على تقدير رفع عزيمة وثلاث وكون أل في الطلاق للجنس لا
يصلح لتقييد الطلاق الذي أوقعه بالثلاث لأنه إن أراد أن جنس الطلاق ليس إلا الثلاث
فهو غير صحيح إذ الجنس موجود في الواحدة والثنتين أيضاً وغن أراد أن الجنس قد يكون
في الثلاث فهذا لا يقتضي تقييد هذا الطلاق الواقع بالثلاث فليتأمل .
وما ذكرناه لا ينافيه قول الروض : فإن قال أنت بائن ثلاثاً ونوى الطلاق الثلاث
وقعن أي : الثلاث . انتهى .
لأنه قيد البينونة التي نوى بها الطلاق بالثلاث وما ذكر لا تقييد فيه ولا ارتباط
فيه للثلاث بالطلاق الذي أوقعه . فليتامل .
وكتب عند قوله : وطلاقه فرد مما ادعاه قد يقال : ما ادعاه ليس بصحيح بظاهره إذ جنس
)
الطلاق لا ينحصر في الثلاث فلا يلزم ان يكون طلاقه فرداً من جنس الثلاث نعم إن قصد
ذلك بأن قصد طلاقاً من أفراد الثلاث فمسلّم فليتامل . .
وكتب عند قوله : وفيه أن ذا الحال مبتدأ : قد يقال هذا لا يرد لأن المراد ان هذا
التقدير والحمل يقتضي هذا الحكم وأما أن هذا التقدير ضعيف فشيء آخر لا ينافي ذلك .
. وكتب عند قوله : وحينئذ يلزمه ثلاث : هذا ظاهر إن أريد المفعول المطلق من طالق
لا من الطلاق .
وكتب شيخنا الشهاي الخفاجي عند بيانه للأربعة التي فسدت لأجل الإعراب : وما ادعاه
من بطلان الوجوه الأربعة إذا رفع الطلاق ونصب عزيمة وثلاث على الحالية أو
المفعولية غير مسلم
____________________
هذا
ما وقفت عليه مما كتب على هذا الشعر . وكلامهم دائر على ان ثلاثاً إما مفعول مطلق
لطلاق المنكر أو المعرف وإما حال من الضمير المستتر .
ومنع الكلّ أبو علي في المسائل القصرية ومنع كونه تمييزاً أيضاً وعيّن أن يكون
ثلاثاً مفعولاً مطلقاً إما لعزيمة أو لطلقت محذوفاً وإما ظرف لعزيمة . وحقق أن
مفاد البيت الطلاق الثلاث لا غير و هذا كلامه : قوله : ( فأنت طلاق والطلاق عزيمة
** ثلاث ) لا يخلو إذا نصبت ثلاثاً أن يكون متعلقاً بطلاق أو غيره فلا يجوز أن
يكون متعلقاً بطلاق لأنه إن كان متعلقاً به لم يخل من أن يكون طلاق الأول أو
الثاني فلا يجوز أن يكون متعلقاً بطلاق الأول لأن الطلاق مصدر فلا يجوز ان يتعلق
به شيء بعد العطف عليه ولا يجوز ان ينصب ثلاث بطلاق الثاني لأنه قد أخبر عنه للفصل
.
فإذا بطل الوجهان جميعاً ثبت أنه متعلق بغيره : فيجوز ان يكون متعلقاً بعزيمة أي :
أعزم ثلاثاً ولم يحتج إلى ذكر الفاعل لأن ما تقدم من قوله : فأنت طلاق قد دلّ على
الفاعل ألا ترى أن معناه : أنت ذات طلاق اي : ذات طلاقي أي : قد طلقتك .
فلا فصل بين انت ذات طلاقي وبين قد : طلقتك لما أضفت المصدر إلى الفاعل استغنيت عن
إظهار المفعول لجري ذكره في الكلام فحذفته كما استغنيت من ذكر المفعول في قوله :
والحافظين فروجهم والحافظات فلم يحتج إلى ذكر الفاعل في عزيمة إذ كان مصدراً
كالنذير والنكير وكما لم يحتج إليه في قوله تعالى : او إطعام في يوم ذي مسبغة
يتيماً لتقدم ذكره فلذلك لم يحتج إلى ذكر الفاعل في عزيمة فصار كأنه قال : أنت
طلاق والطلاق عزيمتي ثلاثاً أي : أعزمه )
ثلاث . فيكون ثلاثاً المنصوب متعلقاً بعزيمة أو يكون تعلقه به على جهة
____________________
الظرف
كأنه قال : أعزم ثلاث مرات أو ثلاث تطليقات فإذا كان كذلك وقع ثلاثاً تطليقات
لتعلق الثلاث بما ذكرناه ولا يجوز ان يكون أقلّ من ذلك لتعلقه بالعزيمة . والأشبه
فيمن نصب ثلاثاً أن يكون الطلاق الثاني المعرف باللام يراد به الطلاق المنكور الذي
تقدم ذكره أي : ذلك الطلاق عزمته أي : عزمت عليه ثلاثاً . فإذا كان كذلك لم يتجه
إلا إلى الإيقاع للثلاث .
وأما إذا رفع ثلاثاً أمكن أن يكون المراد : الطلاق عزيمة ثلاث أي : جنس الطلاق ذو
عزيمة ثلاث وأمكن أن يكون طلاقي ذو عزيمة ثلاث . فإذا امكن أن يكون المراد به
طلاقه خاصة وأمكن أن يكون غير طلاقه ولكن جنس الطلاق لم يوقع به شيءاً حتى يتيقن
ذلك بإقرار من المطلق أنه أراد ذلك فأما إذا لم يقترن إلى هذا اللفظ الذي يحتمل
الطلاق الخاص والطلاق العام شيء يدلّ به أنه يريد به طلاقه خاصة لم نوقعه .
والأشبه في قولهم : واحدة واثنتان وثلاث في الطلاق وإيصالهم إياه بهن أن يكون
مراراً فينتصب على أنه ظرف من الزمان يقوي ذلك قوله تعالى : الطلاق مرتان والمعنى
: الطلاق في مرتين إلا أنه اتسع فيه فأقيم مقام الخبر كما أقيم ظرف الزمان مقام
الفاعل في قولهم : سير عليه طوران وسير عليه مرتان وشهران فكذلك قوله مرتان . وإذا
كان كذلك كان قولهم : أنت طالق واحدة كانك قلت : أنت طالق مرة وأنت طالق ثنتين أي
: مرتين . وكذلك ثلاثاً . فيكون ذلك ظرفاً من الزمان .
ويجوز فيمن نصب ثلاثاً في البيت أن لا يحمله على عزيمة ولكن يحمله على فعل مضمر
كأنه لما لم يجز أن يحمله على طلاق الأول ولا على طلاق الثاني وكان المعنى والمراد
أن يكون يكون الثلاث محمولاً على الطلاق أضمر طلقت . ودلّ عليه ما تقدم من ذكر
الطلاق فكأنه قال : طلقتك ثلاثاً . فأما حمل الثلاث على التفسير في قولهم : أنت طالق
ثلاثاً فليس ذلك من مواضع التفسير ألا ترى أن التفسير جميع ما كان منتصباً منه فقد
نص النحويون على جواز إدخال من فيه وأن منه ما يردّ
____________________
إلى
الجمع ومنه ما يقر على الواحد كقولهم : عشرون من الدراهم ولله دره من رجل . ولا
يجوز ذلك في هذا ألا ترى انه لا يستقيم : انت طالق من واحد ولا من العدد ولا ما
أشبه ذلك فإذا كان كذلك لم يكن تفسيراً .
وأيضاً فإن التفسير لا يجوز أن يكون معرفاً والتعريف في هذا غير ممتنع تقول : انت
طالق )
الثلاث وأنت طالق الثنتين او الطلقتين . فإذا كان كذلك كان ظرفاً والظرف يكون تارة
معرفة وتارة نكرة .
وقد تقول : أنت طالق من ثلاث ما شئت فيكون ما شئت معرفة كانك قلت : الذي شئته
فيكون معرفة . ولو كان تفسيراً لم تقع المعرفة في هذا الموضع .
ولا يجوز أن ينتصب على أنه حال لأنه لو كان حالاً لم يجز أن يقع خبراً للأبتداء في
قوله : الطلاق مرتان كما لا يكون الحال خبراً للمبتدأ . ولو قلت : قمت خلفك فنصبت
خلفك على تقدير الحال أي : قمت ثابتاً فيه لم يجز الإخبار عنه لأن الحال لا يكون
خبر مبتدأ .
فإن قلت : يكون قوله : والطلاق عزيمة اعتراضاً بين الصلة والموصول وتحمل ثلاثاً
على الطلاق الأول قيل : لا يجوز أن تحمله على الاعتراض .
كما أن قوله : وأقرضوا الله قرضاً حسناً في قولنا اعتراض الا ترى أن ذلك اعتراض
بين الخبر والمخبر عنه وكذلك قوله تعالى : قل إن الهدى هدى الله اعتراض بين
المفعول الذي هو أن يؤتى أحد . ولا يعترض بين الطلاق وثلاث لأنه لا مثل له يشبه به
.
____________________
هذا كله كلام أبي عليّ وقد حذفنا منه بعض ما يستغنى عنه . وفي منعه الاعتراض رد
على كمل الجزء الثالث ويليه الجزء الرابع وأوله باب خبر كان وأخواتها والحمد لله
وحده
____________________
عبس
فقتله . وإنّما مدح حيًّ ذبيان لتحملهم الديات إصلاحاً لذات البين .
وضمير كان و طوى لحصين بن ضمضم . و الكشح الخاصرة يقال : طوى كشحه عن فعلةٍ إذا
أضمرها في نفسه . و المستكنّة : المستترة أي : أضمر على غدرة مستترة لأنّه كان قد
أضمر قتل ورد بن حابس فإنّه كان قتل أخاه هرم بن ضمضم .
وقوله : فلا هو أبداها . . الخ المعنى : فلم يظهرها ولم يتقدّم فيها قبل مكانها .
ويروى : ولم يتجمجم بجيمين أي : لم يتنهنه عمّا أراد مّما كتم . وتكون لا مع
الماضي بمنزلة لم مع المضارع في المعنى كقوله تعالى : فلا اقتحم العقبة أي : لم
يقتحمها . وقال أميّة بن أبي الصّلت : الرجز ( إن تغفر اللّهمّ تغفر جمّا ** وأيّ
عبدٍ لك لا ألمّا ) أي : لم يلمّ بالذنب . وقوله : وكان طوى هو عند المبّرد بإضمار
قد أي : قد طوى .
قال : لأنّ كان فعل ماض فلا يخبر عنه إلاّ باسم أو بما ضارعه . قال : ولا يجوز كان
زيد قام )
لأنّ زيد قام يغنيك عن كان . وخالفه أصحابه فقالوا : الماضي قد ضارع الاسم أيضاً
فهو يقع خباً لكان كما يقع الاسم والفعل المستقبل
____________________
وأمّا
قولك كان زيد قام فإنّما جيء بكان لتؤكّد أن الفعل لما مضى .
وقد تقدّم في الشاهد السادس والخمسين بعد المائة أول باب الاشتغال شرح هذين
البيتين مع أبياتٍ كثيرة من هذه المعلقة وذكرنا سبب نظمها بما لا مزيد عليه إن شاء
الله تعالى .
ويقدم أيضاً ترجمة زهير بن أبي سلمى في الشاهد الثامن والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والأربعون بعد المائتين ) البسيط ( أضحت خلاءً
وأضحى أهلها احتملوا ** أخنى عليها الذي أخنى على لبد ) على أنّ خبر أضحى يجوز أن
يكون فعلاً ماضياً بدون قد فأهلها اسم أضحى وجملة احتملوا في محل نصب على أنها خبر
أضحى ولا تقدّر قد كما ذهب إليه ابن مالك خلافاً للمبرّد كما تقدّم بيانه .
وهذا البيت من قصيدةً للنّابغة الذُّبيانيّ مدح بها النعمان بن المنذر واعتذر إليه
مما بلغه عنه وهي من الاعتذاريّات وقد ألحقوها لجودتها بالمعلقات السبع . وهذا
أوّلها : ( يا دار ميّة بالعلياء فالسّند ** أقوت وطال عليها سالف الأبد
____________________
)
( وقفت فيها اصيلاً كي أسائلها ** عيّت جواباً وما بالرّبع من أحد ) ( إلاّ أواريّ
لأياً ما أبيّنها ** والنؤي كالحوض بالمظلومة الجلد ) ( ردّت عليه أقاصيه ولبّده
** ضرب الوليدة بالمسحاة في الثّأد ) أضحت خلاءً أهلها احتملوا . . . . . . . . .
. . . البيت قوله : يا دار ميّة الخ قال الأصبهانيّ في الأغاني : قال الأصمعيّ :
يريد يا أهل دار ميّة . وقال القراء : نادى الديار لا أهلها أسفاً عليها وتشوّقاً
إليها . وقال : أقوت ولم يقل أقويت لأنّ من شأن العرب أن يخاطبوا الشيء ثم يتركوه
ويكنون عنه . هـ . العلياء بالفتح والمد : المكان المرتفع من الأرض . قال ابن السكّيت
: قال بالعلياء فجاء بالياء لأنّه بناها على عليت بالكسر . و السّند : سند الوادي
في الجبل وهو ارتفاعه حيث يسند )
فيه أي : يصعد . و أقوت : خلت من أهلها .
____________________
و
السالف : الماضي . و الأبد : الدّهر . ويأتي الكلام على هذا البيت إن شاء الله تعالى
بأكثر من هذا في الفاء من حروف العطف .
قوله : وقفت فيها الخ الأصيل ما بعد الظّهر إلى الغروب وروي أصيلاناً مصغر أصلان
وهو جمع الكثرة إذا صغر ردّ إلى مفرده . وروي : وقفت فيها طويلاً أي : وقوفاً
طويلاً .
وقوله : عيّت يقال : عييت بالأمر إذا لم تعرف وجهه . وجواباً قيل منصوب على المصدر
أي : عيّت أن تجيب وما بها أحدٌ . و الرّبع : المنزل في الربيع ثم كثر حتّى قيل كل
منزل ربع .
وقوله : إلاّ أواريّ بالنصب لأنّه استثناء منقطع . و النّؤي معطوف عليه . وروي :
إلاّ أواريّ بالرفع على أنّه بدل من موضع قوله : من أحد الواقع فاعلاً للظرف
والأواريّ هي الأواخيّ جمع آريّ وآخيّة بالمد والتشديد فيهما . والآريّ : محبس
الدّابة والآخية قطعة من حبل يدفن طرفاه في الأرض وفيه عصيّة أو حجر فتظهر منه مثل
عروة تشدّ إليه الدّابّة وقد تسمى الآخية آرياً وفعلهما آريت الدابّة وأخيّتها بتشديد
الثاني . واللأي بفتح اللام وسكون الهمزة : البطء يقال : فعل كذا بعد لأي أي : بعد
شدّة لأياً والتأى أي : أبطأ إبطاءً . والمعنى : بعد بطء تعرّفتها .
والنّؤي بضم النون وسكون الهمزة : حفيرة حول الخباء والبيت يجعل ترابها حاجزاً
حولهما لئلاّ يصل إليهما ماء المطر . والمظلومة : الأرض التي قد حفر فيها في غير
موضع الحفر . و الجلد بفتح الجيم واللام : الأرض الغليظة الصّلبة من غير حجارة
وإنّما قصد إلى الجلد لأنّ الحفر فيها يصعب فيكون ذلك أشبه شيءٍ بالنؤي .
____________________
قال ابن السّكّيت : إنّما قال بالمظلومة لأنهم مرّوا في تربةٍ فحفروا فيها حوضاً
وليست بموضع حوض فجعل الشيء في غير موضعه .
وهذا البيت يأتي الكلام عليه أيضاً إن شاء الله في خبر ما ولا .
وقوله : ردّت عليه أقاصيه الخ أقاصيه نائب فاعل ردّت والضمير للنّؤي . و الأقاصي :
الأطراف وما بعد منه أي : والأقصى على الأدنى ليرتبع . و لبّدة : سكّنه أي : سكنّه
حفر وقوله : خلّت سبيل أتيّ الخ الأتيّ : السّيل الذي يأتي ويقال للنهر الصغير .
يقول : لما انسدّ سبيل السّيل سهّلت له طريقاً حتّى جرى أي : تركت الأمة سبيل
الماء في الأتيّ ورفعته أي : قدّمت الحفر إلى موضع السّجفين أوصلته إليهما . وليس
الترفيع هنا من ارتفاع العلوّ بل هو من )
قولهم : ارتفع القوم إلى السلطان . و السّجفان : ستران رقيقان يكونان في مقدّم
البيت . و النّضد بفتح النون والضاد المعجمة : ما نضد من متاع البيت .
وقوله : أضحت خلاء الخ أي : أضحت الدار . و الخلاء بالفتح والمد : المكان الذي لا
شيء به . و احتملوا : حمّلوا جمالهم وارتحلوا . قال في الصحاح : وأخنى عليه الدّهر
: أتى عليه وأهلكه . ومنه قول النّابغة : أخنى عليها الذي أخنى على لبد ولبد : آخر
نسور لقمان بن عاد وهو منصرف لأنّه ليس بمعدول وفي المثل : أعمر من لبد .
قال الزّمخشريّ : وهو نسر لقمان العاديّ سمّاه لبداً معتقداً فيه أنه أبدٌ فلا
يموت ولا يذهب ويزعمون أنه حين كبر قال له : انهض لبد فأنت نسر الأبد .
____________________
قال في الصحاح : وتزعم العرب أنّ لقمان هو الذي بعثته عادٌ في وفدها إلى الحرم يستسقي
لها فلما أهلكوا خيّر لقمان بين بقاء سبعة أنسرٍ كلما هلك نسر خلف بعده نسر فاختار
أضحت خلاءً وأضحى أهلها احتملوا . . . البيت ولقمان هو ممن آمن بهودٍ عليه السلام
وهلك قومه لكفرهم به عليه السلام فأهلكهم الله تعالى بالرّيح سبع ليال وثمانية
أيّام حسوما فلم تدع منهم أحداً وسلم هودٌ ومن آمن معه . وأرسلت عليهم يوم
الأربعاء فلم تدر الأربعاء وعلى الأرض منهم حيّ .
وأما لقمان المذكور في القرآن فهو غيره قال صاحب الكشّاف : هو لقمان بن باعوراء
ابن أخت أيّوب أو ابن خالته وقيل : كان يفتي قبل مبعث داود فلمّا بعث قطع الفتوى
فقيل له فقال : ألا أكتفي إذا كفيت وقيل : كان قاضياً في بني إسرائيل . وأكثر
الأقاويل أنه كان حكيماً ولم يكن نبياً .
____________________
وعن
ابن عبّاس رضي الله عنهما : لقمان لم يكن نبياً ولا ملكاً ولكن كان راعياً أسود
فرزقه الله العتق ورضي قوله ووصيّته فقصّ أمره في القرآن ليتمسّكوا بوصيته .
وقال عكرمة والشّعبي : كان نبيّا . وقيل : خيّر بين النّبوّة والحكمة . وعن ابن
المسّيب : كان أسود من سودان مصر خياطاً . وعن مجاهد : كان عبداً أسود غليظ
الشّفتين متشقق القدمين . وقيل : كان نجاراً وقيل كان راعياً وقيل : كان يختطب
لموالاة كل يوم حزمة . هـ .
وهو متأخر عن لقمان العاديّ لأن هوداً متقدمٌ على أيوب وداود يقال للعاديّ : لقمان
)
وانشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والأربعون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
البسيط ( قد قيل ذلك إن حقّا وإن كذباً ** فما اعتذارك من شيء إذا قيلا ) على أنّ
كان تحذف مع اسمها بعد إن الشرطيّة أي : إن كان ذلك حقاً وإن كان كذباً جعله صاحب
اللباب من قبيل : النّاس مجزيّون بأعمالهم : إن خيراً فخير وإن شرّاً فشرّ في
الوجوه الأربعة .
____________________
قال
شارحه الفالي : يجوز فيه أربعة أوجه : رفعهما ونصبهما ورفع الأوّل ونصب الثاني
وبالعكس . وتقدير الرفع فيهما : إن وقع حقٌ وإن وقع كذبٌ أو إن كان فيه أي : في
المقول حقّ وإن كان فيه كذب . ونصبهما على أنّهما خبر كان والتقدير : إن كان
المقول حقاً وإن كان المقول كذباً وأما رفع أحدهما ونصب الآخر فيظهر من بيان
نصبهما ورفعهما . وإنّما قال : منه لأن الوجوه الأربعة كانت في الشرط والجزاء وهو
إن خيراً فخير وفي البيت الوجوه في الشرطين وهما إن حقاً وإن كذباً .
وهذا البيت من قصيدةٍ للنّعمان بن المنذر أوّلها : ( شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا
** تكثر عليّ ودع عنك الأقاويلا ) ( فقد رميت بداءٍ لست غاسله ** ما جاور السّيل
أهل الشّام والنّيلا ) ( فما انتفاؤك منه ما قطعت ** هوج المطيّ به أكناف شمليلا )
( قد قيل ذلك إن حقاً وإن كذباً ** فما اعتذارك من شيءٍ إذا قيلا ) ( فالحق بحيث
رأيت الأرض واسعةً ** وانشر بها الطرف إن عرضاً وإن طولا ) قوله : شرّد برحلك أي :
أبعده وارتحل عني . وقوله : فقد رميت روي بدله : فقد ذكرت به والرّكب حامله وضمير
به وحامله للبرص المذكور . وقوله : شمليلا قال البكريّ في معجم
____________________
ما
استعجم : هو بكسر أوله وإسكان ثانيه بعده لام مكسورة على وزن فعليل بلد وانشد هذا
البيت . ومن العجائب تفسير العينيّ إيّاه بالناقة الخفيفة وكأنّه يكتب من غير أن
يتصورّ المعنى .
والسبب في هذه الأبيات هو ما رواه الحسن الطوسيّ في شرح ديوان لبيد والمفضّل بن
سلمة )
في الفاخر وابن خلف في شرح أبيات سيبويه وقد تداخل كلام كل منهم في الآخر أنّ وفد
بني عامر منهم طفيل بن مالك وعامر بن مالك أتوا النعمان بن المنذر أول ما ملك في
أسارى من بني عامر يشترونهم منه ومعهم ناس من بني جعفر ومعهم لبيدٌ وهو غلامٌ صغير
فخلّفوه في رحالهم ودخلوا على النّعمان فوجدوا عنده الربيع بن زياد العبسيّ وكان
نديم النّعمان قد غلب على حديثه ومجلسه فجعل الربيع يهزأ يهم ويسخر منهم لعداوة
غطفان وهوازن فغاظهم ذلك فرجعوا بحال سيّئة فقال لهم لبيد : إنّكم تنطلقون بحال
حسنة ثم ترجعون وقد ذهب ذاك وتغير . قالوا : خالك وكانت أمّ لبيد عبسيّة كلّما
أقبل علينا بوجهه صدّه عنّا بلسان بليغ مطاع .
فقال لهم لبيد : فما يمنعكم من معارضته قالوا : لحسن منزلته عند النعمان . قال :
فانطلقوا بي معكم . فأزمعوا أن يذهبوا به وحلقوا رأسه وألبسوه حلّةً وغدا معهم
فانتهوا إلى النعمان وربيع معه وهما يأكلان طعاماً وقيل تمراً وزبداً فقال لبيد :
أبيت اللعن وإن رأيت أن تأذن لي في الكلام . فأذن له فأنشد : الرجز ( مهلاً أبيت
اللّعن لا تأكل معه ** إنّ استه من برص ملمّعه ) ( وإنّه يدخل فيها إصبعه **
يدخلها حتّى يواري أشجعه )
____________________
كأنما
يطلب شيئاً ضيّعه وسيأتي شرح هذه الأبيات إن شاء الله تعالى في ربّ من حروف الجرّ
.
فرفع النّعمان يده وأفّف وقال : كفّ ويلك يا ربيع إني أحسبك كما ذكر . فقال الربيع
: إنّ الغلام لكاذب . فترك النّعمان مؤاكلته وقال : عد إلى قومك . فمضى الرّبيع
لوقته وتجرّد وأحضر من شاهد بدنه وأنه ليس فيه سوء ولحق بأهله وأرسل إلى النعمان
بأبيات منها : البسيط ( لئن رحلت ركابي لا إلى سعةٍ ** ما مثلها سعةٌ عرضاً ولا
طولا ) ( ولو جمعت بني لخمٍ بأسرتها ** لم يعدلوا ريشةً من ريش قتميلا ) وروى :
شمويلا فأجابه النّعمان : ( شرّد برحلك عنّي حيث شئت ولا ** تكثر عليّ ودع عنك
الأقاويلا ) الأبيات : والنّعمان بن المنذر هو آخر ملوك الحيرة تقدّمت ترجمته في
الشاهد الخامس والخمسين بعد )
____________________
المائة .
وأمّا الرّبيع فهو الرّبيع بن زياد العبسيّ قال الزّمخشريّ في مستقصى الأمثال :
أنجب من بنت الخرشب هي فاطمة الأنماريّة ولدت لزياد العبسيّ الكملة : ربيعاً
الكامل وعمارة الوهّاب وقيس الحفاظ وأنس الفوارس .
وقيل لها : أيّ بنيك أفضل فقالت : ربيع بل عمارة بل قيس بل أنس ثكلتهم إن كنت
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والأربعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : البسيط
( أبا خراشة أمّا أنت ذا نفر ** فإنّ قومي لم تأكلهم الضّبع ) على أن أصل أما أنت
: لأن كنت . كما شرحه الشارح المحقق وبيّن مختاره وسيأتي في الشاهد الذي يليه ذكر
من وافقه .
وهذا البيت ونحوه اختلف في تخريجه أهل البلدين قال أبو عليّ في البغداديات : قال
سيبويه : سألته يعني الخليل عن قوله : أما أنت منطلقاً أنطلق معك فرفع وهو قول أبي
عمرو حدّثنا به يونس يريد أنّه رفع أنطلق ولم يجزمه على أنّه جزاء . وحكى أبو عمر
الجرميّ عن الأصمعيّ فيما أظنّ المجازاة بأمّا المفتوحة الهمزة وزعم أنّه لم يحكه
غيره . وهذا الذي حكاه أبو عمر يقويّه الذي ذكرنا وهو : أبا خراشة أمّا أنت ذا
نفرٍ
____________________
لأنه
ليس في البيت ما يحمل عليه أن فيتعلق به كما أنها في قولهم أما أنت منطلقاً أنطلق
معك فإن قلت : يكون متعلقاً بفعل مضمر يفسّره ما بعده فالجواب ما يكون تفسيراً لا
يعطف به على المفسّر ألا ترى أنّك تقول : إن زيداً ضربته ولا يجوز إن زيداً فضربته
فإذا لم يجز كانت الفاء في فإنّ قومي جواب شرط وأنت مرتفع بفعل مضمر .
فإن قلت : قد تزاد الفاء كما حكى أبو الحسن : أخوك فوجد فاحملها في البيت على هذا
ليصحّ إضمار الفعل المفسّر وفي حمل البيت عليه تقويةٌ لما ذهب إليه سيبويه من أن
أمّا في البيت إنّما هي أن الناصبة ضمّت إليها ما إلاّ أن القول بزيادتها ليس من
مذهبي هـ .
وقال ابن الحاجب في اماليه : دخول الفاء هنا في المعنى كدخولها في جواب الشرط لأنّ
قولك )
لأن كنت منطلقاً انطلقت بمعنى قولك : إن كنت منطلقاً انطلقت لأن الأول سببٌ للثاني
في المعنى فلمّا كان كذلك دخلت دلالةً على السّبييّة كما تدخل في جواب الشرط فلهذا
المعنى جاءت الفاء بعد الشرط المحقّق والتعليل وهي لهما جميعاً في المعنى . هـ .
وقال ابن خلف : قال عليّ بن عبد الرّحمن : عندي فيه وجهٌ آخر وهو أن تجعل الفاء
جواباً لما دلّ عليه حرف النّداء المقدّر من التنبيه والإيقاظ كأنّه قال : تنبّه
وتيقظ . فإنّ قومي لم تأكلهم الضبّع . وفيه نظر .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصل : الفاء لتعليل لم أذلّ المقدّر والمعنى
: ويجوز أن أن تكون الفاء جزاء الشرط في قوله : أمّا أنت بناءً على مذهب الكوفييّن
: من أنّ أصل أن في هذا إن المكسورة التي للجزاء وأنّها إنّما تفتح إذا دخلت عليها
ما ليلها الاسم .
ويجيزون أمّا زيد قائماً أقم معه بفتح الهمزة هـ .
وقال عليّ بن عبد الرّحمن : وفي البيت عندي حذف يقوم من بقّيته الدّلالة
____________________
عليه
وهو بطرت أو بغيت أو فخرت وبه يتعلق الجارّ ثمّ استأنف فقال : إن قومي الخ .
وقوله : أبا خراشة بضم الخاء المعجمة منادى بحذف حرف النّداء المقدّر .
وأبو خراشة كنيةٌ واسمه خفاف بن ندبة بضمّ الخاء المعجمة وتخفيف الفاء . وندبة
بفتح النون وسكون الدال بعدها موحّدة وهي اسم أمّه اشتهر بها . و خفاف صحابيّ شهد
فتح مكّة مع النّبي صلّى الله عليه وسلم ومعه لواء بني سليم وشهد حنيناً والطائف
أيضاً وهو ممن ثبت على إسلامه في الرّدّة وهو أحد فرسان قيس وشعرائها .
وكان أسود حالكاً وهو أحد أغربة العرب الثلاثة وهو ابن عمّ الخنساء الصّحابيّة
الشّاعرة وتأتي له ترجمة أبسط ممّا هنا في محله إن شاء الله تعالى . و أنت اسم
لكان المحذوفة و ذا نفر خبرها . وعند ابن جنّي هما معمولان لما الواقعة عوضاً من
الفعل ومصلحة للّفظ لتزول مباشرة أن الاسم وهذه عبارته في الخصائص : فإن قلت : بم
ارتفع وانتصب : أنت منطلقاً قيل بما لأنها عاقبت الفعل الرافع النّاصب فعملت عمله
من الرفع والنّصب وهذه طريقة أبي عليّ وجلّة أصحابنا من قبل أنّ الشيء إذا عاقب
الشيء ولي من الأمر
____________________
ما
كان المحذوف يليه من ذلك الظرف إذا تعلّق بالمحذوف فإنّه يتضمّن الضمير الذي كان
فيه ويعمل ما كان يعمله : من نصبه الحال والظرف وعلى ذلك صار قوله : فاه إلى فيّ
من )
قوله : كلمته فاه إلى فيّ ضامناً للضمير الذي كان في جاعلاً لّما عاقبه . هـ .
قال ابن خلف : وعلى هذا يلغز فيقال : هل تعرف ما في كلام العرب رافعةً للاسم وناصبه
للخبر وليست بالنافية التي يعملها أهل الحجاز بل هي موجبةٌ لا نافية .
وروى أبو خليفة الدّينوريّ في كتاب النبات وتبعه ابن دريد في الجمهرة : أبا خراشة
أما كنت ذا نفرٍ وعليها فلا شاهد في البيت وما زائدة . وهذه الرواية تؤيّد قول
الكوفييّن القائلين إن المفتوحة شرطيّة يجازى بها .
ومن الغرائب ما نقله صاحب نفحات الأرج في شرح أبيات الحجج عن الأصمعيّ أنّ العرب
تجازي بأنت فتقول : ما أنت منطلق أنطلق معك . وهذا نادر ولا يعتبر فإن المجازاة لا
تقع إلاّ على الفعل وأمّا الأسماء فإنّها لا يصحّ عليها المجازاة . كذا في شرح
أبيات الموشح . و النفر قال الفرّاء : نفر الرجل : رهطه ويقال لعدّة من الرّجال من
ثلاثة إلى عشرة وهذا هو المشهور . و الضّبع قال حمزة الأصبهاني في أمثاله التي على
وزن أفعل عند قوله : أفسد من الضّبع : إنها إذا وقعت في الغنم عاثت ولم تكتف بما
يكتفي به الذئب . ومن إفسادها وإسرافها فيه استعارت العرب اسمها للسنة المجدبة
فقالوا : أكلتنا الضبع .
____________________
وقال ابن الأعرابيّ : ليس يريدون بالضّبع السنة وإنّما هو أنّ الناس إذا أجدبوا
ضعفوا عن الانتصار وسقطت قواهم فعاثت فيهم الضباع والذّئاب فأكلتهم ومنه قوله :
أبا خراشة أما أنت ذا نفر . . . . . . . . . . . . البيت أي : إنّ قومي ليسوا
بضعافٍ تعيث فيهم الضباع والذئاب . وإذا اجتمع الذّئب والضبع في الغنم سلمت الغنم
ومنه قولهم اللهمّ ذئباً وضبعاً أي : اجمعهما في الغنم لأنّ كلاًّ منهما يمنع
صاحبه هـ .
وهذا البيت من أبيات للعبّاس بن مرداس السّلميّ لا للهذليّ كما زعم بعض شرّاح
أبيات المفصل .
وبعده : ( السّلم تأخذ منها ما رضيت به ** والحرب يكفيك من أنفاسها جرع ) وهذا
البيت استشهد به البيضاوي عند قوله تعالى : ادخلوا في السّلم كافةً على أنّ السّلم
)
تؤنث كالحرب . قال صاحب الصحاح : السلم الصلح تفتح وتكسر وتذكّر وتؤنث .
وكذلك استشهد بن ابن السّكّيت في إصلاح المنطق قال التّبريزيّ في أيضاح الإصلاح :
الجرع : جمع جرعة : وهي ملء الفم . يخبره أنّ السلم هو
____________________
فيها
وداع ينال من مطالبه ما يريد فإذا جاءت الحرب قطعته عن لذاته وشغلته بنفسه هـ .
وهذا تحريضٌ على الصلح وتثبيط على الحرب . وأراد بأنفاسها أوائلها و من في
الموضعين ابتدائية .
والعباس بن مرداس صحابيّ أسلم قبل فتح مكة بيسير وهو ممن حرّم الخمر على نفسه في
الجاهلية وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخمسون بعد المائتين ) البسيط ( إمّا أقمت وأمّا أنت
مرتحلاً ** فالله يكلأ ما تأتي وما تدر ) على أنه يدل لصحة قول الكوفيين : كون أن
المفتوحة الهمزة أداة شرط مجيء الفاء في جوابها مع عطف أما أنت على إما أقمت بكسر
الهمزة .
قد صوّب ابن هشام أيضاً في المغني رأي الكوفيين كما صوّب الشارح المحقّق واستدلّ
لهم بعين ما استدل به الشارح وهذا من توافق الخاطر كما يقال
____________________
قد
يقع الحافر موضع الحافر .
وهذه عبارته : ويرجح مذهب الكوفييّن عندي أمور : أحدها توارد إن المفتوحة
والمكسورة على المحلّ الواحد والأصل التوافق وقرئ بالوجهين في قوله تعالى : أن
تضلّ إحداهما و لا يجر منكم شنآن قوم أن صدوكم أفنضرب عنكم الذكر صفحاً أن كنتم
قوماً مسرفين . وروي بالوجهين قوله : الطويل الثاني مجيء الفاء بعدها كثيراً كقوله
: أبا خراشة أما أنت ذا نفر . . . . . . . . . . . . . . البيت الثالث عطفها على
أن المكسورة في قوله : إما أقمت وأما أنت مرتجلا . . . . . . . . . . . . . البيت
)
الرواية بكسر إن الأولى وفتح الثانية . فلو كانت المفتوحة مصدريّة لزم عطف المفرد
على الجملة . وتعسّف ابن الحاجب في توجيه ذلك فقال : لما معنى
____________________
قولك
إن جئتني أكرمتك وقولك أكرمك لإتيانك إيّاي واحداً صحّ عطف التعليل على الشرط في
البيت . وكذلك تقول : إن جئتني وأحسنت إليّ أكرمتك ثم تقول : إن جئتني ولإحسانك
إليّ أكرمتك وتجعل الجواب لهما هـ .
وما أظنّ أنّ العرب فاهت بذلك يوماً . انتهى كلام ابن هشام .
وكلام ابن الحاجب الذي نقله هو في الإيضاح شرح المفصل وقد اختصر كلامه وهذه عبارته
: وقد روي قوله : إمّا أقمت وأما أنت مرتحلا . . . . . . . . . . . . البيت بكسر
الأول وفتح الثاني : أمّا كسر الأوّل فلأنّه شرط فوجب كسره ودخول ما عليه كدخولها
في قولك : أمّا أنت منطلقاً . وقد تقدّم ذكره .
وقوله : فالله يكلأ ما تأتي الخ فجواب الشرط معلّل بقوله : أمّا أنت مرتحلا . وصحّ
أن يكون لهما جميعاً من حيث كان الشرط والعلّة في معنى واحد ألا ترى أن قولك إن
أتيتني أكرمتك .
بمعنى قولك : أكرمتك لأجل إتيانك فإذا ثبت أنّ الشرط والتّعليل بمعنى واحدٍ صحّ أن
تعطف أحدهما على الآخر وتجعل الجواب لهما جميعاً في المعنى فصار مثل قولك : إن
أكرمتني وأحسنت إليّ أكرمتك وإلاّ أنّه وضع موضع أحسنت إليّ لفظ التعليل فصار كأنك
قلت : إن أكرمتني فلأجل إتيانك فأنا أكرمك . وذلك سائغ . هذا كلامه .
وقد ناقش الدّمامينيّ كلام ابن هشام في الأدلّة الثلاثة بالتعسّف كما لا يخفى على
من تامله . و الكلاءة بالفتح والمدّ : الحفظ و ما موصولة والعائد محذوف أي : ما
تأتيه وما تذره . و تذر بمعنى تترك وقد أماتوا ماضيه ومصدره واسم فاعله واسم
مفعوله كيدع .
وهذا البيت مع استفاضته في كتب النحو لم أظفر بقائله ولا بتتمته والله أعلم به .
____________________
وانشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والخمسون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل ( ومن عضةٍ ما ينبتن شكيرها ) على أن زيادة ما للتأكيد بمنزلة اللام
ولأجلها جاز تأكيد الفعل بالنون . وسيأتي نقل كلام سيبويه في آخر الشاهد السابع
والأربعين بعد التسعمائة في نون التوكيد .
قال الصاغانيّ تبعاً لصاحب وغيره : الشكير : ما ينبت حول الشجرة من أصلها قال : (
إذا مات منهم ميتٌ سرق ابنه ** ومن عضةٍ ما ينبتنّ شكيرها ) يريد أنّ الابن يشبه
أباه فمن رأى هذا ظنه فكأن الابن مسروق .
وفي فعله يقال : شكرت الشجرة تشكراً من باب فرح أي : خرج منها الشّكير . وهذا
التفسير منقول من تهذيب الأزهري .
وأورد الزمخشريّ المصراع الثاني في أمثاله وقال : و العضة بالهاء والتاء جميعاً .
و الشكير : الورق .
وكذلك اقتصر ابن هشام في حواشي التسهيل عليه لكنّه قال : هذا مثلٌ
____________________
لمن
أظهر خلاف ما أبطن . و العضة : شجرة و شكيرها : شوكها وقيل صغار ورقها . يعني أنّ
كبار الورق إنّما تنبت من صغارها أي : ما ظهر من الصغار يدلُّ على الكبار هـ .
وهذا التفسير مبني على قطع النظر عن المصراع الأوّل .
وقوله : سرق ابنه اختلف في ضبطه فالجمهور على أنّه بالبناء للمفعول بتقدير سرق منه
وضبطه الخطيب التّبريزيّ بالبناء للفاعل على تقدير سرق ابنه صورته وشمائله .
وضبطه بعضهم : شرف ابنه بالمعجمة والفاء والبناء للمعلوم من الشرف وهو المجد ولا
يخفى ركاكته . و العضة : واحدة العضاه عضاهة وعضهة بكسر فسكون وعضة بحذف الهاء
الأصلية كما حذف من الشّفة هـ . وعلى هذا فالعضة في المثل بالتاء لا بالهاء .
وروى الأسود أبو محمد الأعرابيّ هذا البيت في كتاب السّلة والسّرقة على ما تقدّم
وقال : ومثل آخر : ( ومن عضةٍ ما ينبتنّ شكيرها ** قديماً ويقتطّ الزّناد من
الزّند ) ولم يورد شرّاح أبيات سيبويه هذا المصراع في شواهده . )
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والخمسون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
الرجز
____________________
من
لد شولاً فإلى إتلائها على أنّ كان قد تحذف بعد لد كما هنا والتقدير : من لد كانت
شولاً .
قد ذكر الشارح في الظروف أنّ لدن بجميع لغاتها معناها أوّل غاية زمان أو مكان
وقلّما يفارقها من فإذا أضيفت إلى الجملة تمحّضت للزمان لأنّ ظروف المكان لا يضاف
منها إلى الجملة إلاّ حيث .
ويجوز تصدير الجملة بحرفٍ مصدريّ لما لم يتمحّض لدن في الأصل للزمان فنصب هنا
شولاً لأنّه أراد الزّمان ولد إنّما يضاف إلى ما بعده من زمان يتصل به أو مكان إذا
اقترنت به إلى والشّول لا يكون زماناً ولا مكاناً فلما لم يجز أن يضاف لد إليها
نصبها على أنّها خير لكان المقدّرة . و الشّول بفتح الشين المعجمة وسكون الواو :
اسم جمع شائلة بالناء وهي الناقة التي ارتفع لبنها وجفّ ضرعها وأتى عليها من
نتاجها سبعة أشهر وثمانية . واسم كان المقدّرة ضمير النوق في كلامٍ تقدّم قبله
وأضمرت كان هنا لوقوعها في مثله كثيراً وحذفت نون لدن لكثرة الاستعمال .
وقيل شولاً هنا مصدر شالت الناقة بذنبها أي : رفعته للضّراب فهي شائل بغير تاء
والجمع شوّل كراكع وركع فيكون التقدير : من لدن شالت شولاً فليس فيه حذف كان مع
اسمها بل هو من باب حذف عامل المصدر المؤكّد . والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة
كجئتك صلاة العصر .
قال أبو عليّ : الأشبه أن يكون المصدر في نحو هذا على فعلان فلذلك لم يقوّه سيبويه
قال ابن هشام في شرح شواهده : وقد يرجّح كونه من باب حذف عامل المصدر المؤكد وردّ
بأنه من لد شولٍ بالخفض ولا يقال من لد النّوق فإلى إتلائها .
____________________
ويجاب بأن التقدير من لدن شولان شول أو زمان شول أو كون شول فحذف المضاف .
والتقدير الأخير أولى ليتّحد المعنى في الروايتين ولكن يحتاج على هذا التقدير إلى
الخبر أي : )
موجودة . فإن قدّر الكون مصدر كان التامّة لم يحتج إلى ذلك ولكن لا يقع التوفيق
بين الروايتين في التقدير . وقد يرجّح الثاني برواية الجرمي من لد شولا بغير تنوين
على أنّ أصله شولاء بالمد ومن الغريب أنّ بعضهم زعم أن انتصاب شولاً بعد لد على
التمييز أو التشبيه بالمفعول به كانتصاب غدوة بعدها في قولهم لدن غدوةٌ وأنه لا
تقدير في هذا البيت . وهذا مردود باتفاقهم على اختصاص هذا الحكم بغدوة وأنه لم
يسمع غدوة مع حذف النون من لدن هـ .
وتقدير الشارح المحقّق كان بدون أنّ المصدرية هو الصّواب خلافاً لسيبويه فإنّه قال
: التقدير من لد أن كانت شولاً .
قال ابن الدهّان : الحامل له على هذا التقدير أنّ لدن لا تضاف عنده إلى الجمل وردّ
هذا الحامل بلزوم أن يقدّر سيبويه أن في قوله : الطويل لدن شبّ حتّى شاب سود
الذّوائب ونحوه وهو كثير وذلك بعيد .
واختلف فب تقدير سيبويه : قال الشاطبيّ في شرح الألفيّة فقيل هو تقديرٌ معنوي لا
إعرابيّ لأنّ شولاً يصير على ذلك التقدير من صلة أن والموصول لا يحذف ويبقى بعض
الصلة نصّ عليه سيبويه في باب الاستثناء في قوله : إلاّ
____________________
الفرقدان
وإنّما التقدير : من لد كانت أي : من لد كونها شولاً لأن الجملة تقدّر بالمصدر إذا
أضيف إليها الظرف . هذا مأخذ ابن خروف وابن الضّائع وابن عصفور وهو رأي الناظم .
وظاهر السّيرافيّ وجماعة أنّه تقديرٌ إعرابيٌّ لأنّه قدّرها بأن كما قدّرها سيبويه
: من لد أن كانت شولاً . قال : والمصادر تستعمل في معنى الأزمنة نحو مقدم الحاج
وخلافة المقتدر وصلاة العصر . وهذا رأي الشّلوبين وابن أبي غالب قال ابن مالك :
وعندي أن تقدير أن مستغنى عنها كما يستغنى عنها بعد مذ هـ .
وفي القول الثاني نظر فإنّ الإشكال باقٍ بحاله ولم يجيبوا عنه . فتأمّل .
وقوله : فإلى إتلائها بكسر الهمزة هو مصدر أتلت الناقة إذا تلاها ولدها أي : تبعها
فهي متلية والولد تلو بكسر فسكون والأنثى تلوة والجمع أتلاء بالفتح .
وهذا البيت من الرجز المشطّر وهو من الشواهد الخمسين التي لا يعرف قائلها ولا
تتمتها . والله أعلم . )
____________________
(
المنصوب بلا التي لنفي الجنس ) أنشد فيه وهو ( الشاهد الثالث والخمسون بعد
المائتين ) : البسيط ( أودى الشّباب الذي مجدٌ عواقبه فيه نلذُّ ولا لذّات للشّيب
) على أن جمع المؤنث السالم يبنى على الفتح مع لا بدون تنوين كلذّات في البيت
فإنّه مبنيّ مع لا على الفتح ورواه شرّاح الألفيّة بالفتح والكسر كما يجوز مثله في
الجمع المؤنث السالم المبنيّ مع لا .
وهذا البيت من قصيدة لسلامة بن جندل السّعديّ عدّتها اثنان وثلاثون بيتاً وهي
مسطورة في المفضّليّات أوّلها : ( أودى الشّباب حميداً ذو التّعاجيب ** أودى وذلك
شأؤٌ غير مطلوب ) ( ولى حثيثاً وهذا الشّيب يطلبه ** لو كان يدركه ركض اليعاقيب )
أودى الشّباب الذي مجدٌ عواقبه . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
قوله
: أودى أي : ذهب واضمحلّ و حميداً حالٌ من الشباب أي : محموداً . وكرّر أودى
للتأكيد والمراد به التحسّر والتفجع لا الإخبار المجرّد . قال ابن الانباريّ :
التعاجب العجب يقال : إنّه جمع لا واحد له .
وروى : ذو الأعاجيب جمع أعجوبة والمعنى : كان الشباب كثير العجب يعجب الناظرين
إليه ويروقهم . واسم الإشارة لمصدر أودى . والشّأو مهموز الوسط : الطّلق . يقال :
جرى الفرس شأواً أو شأوين أي : طلقاً أو طلقين ويأتي بمعنى السّبق أيضاً يقال
شأوته أي : سبقته . يقول : وذلك الإبداء شأوه سابق قد مضى لا يدرك ولا يطلب . وروى
بدل أودى ولّى .
وقوله : ولّى حثيثاً الخ أي : ذهب الشباب وأدبر حثيثاً سريعاً . وجواب لو محذوف أي
: لطلبته ولكنه لا يدرك . و اليعاقيب جمع يعقوب وهو ذكر الحجل وخصّ اليعقوب لسرعته
.
قال ابن الأنباريّ : وقال عمارة : اليعاقيب يعنى به ذوات العقب من الخيل . و العقب
أن يجيء جريٌ بعد جري .
وروى أبو عمرو : ركض اليعاقيب بالنصب . يقول : لو أدرك طالب الشباب شبابه بركضٍ )
كركض اليعاقيب لطلبه ولكن الشباب إذا ولّى لم يدرك . ويقال : إن معناه ولّى الشباب
حثيثاً ركض اليعاقيب وهذا الشّيب يتبعه . ويروى : جري اليعاقيب .
وقوله : أودى الشباب . . الخ قال ابن الأنباريّ : يقول : ذهب الشباب الذي إذا
تعقبت أموره وجد في عواقبه الخير إمّا بغزو أو رحلة أو وفادة إلى ملك . وعواقبه :
أواخره .
وقال أحمد : قوله مجدٌ عواقبه أي : آخر الشباب محمود ممجّد إذا حلّ الشيب وذكر
الشباب فحمد الشباب لذمّه والمجد : كرم الفعل وكثرة العطاء . يقال في مثل : في كلّ
شجر نارٌ واستمجد المرخ والعفار أي : كثرت ناراهما . وإنّما يمجد الرّجل بفعله
وإنّما يمكنه الفعال وهو شابُّ قويٌّ نشيط .
____________________
وقوله
: فيه نلدّ بفتح اللام أي : إنّما تكون اللّذاذة والطّيب في الشباب والجملة
استئناف بيانيّ . و الشّيب بالكسر : جمع أشيب وهو الذي ابيضّت لحيته يريد ليس في
الشّيب ما ينتفع به إنّما فيه الهرم والعلل . وإنّما جمع اللّذّة لأنه أراد أنواع
اللّذائذ .
وروي أيضاً : ذاك الشباب الذي مجدٌ عواقبه . ولم يرو أحدٌ إنّ الشّباب بدل أودى
فيما رأينا . وزعم ابن هشام في شرح شواهده أن الرواية بإنّ وأن ابن الناظم حرّفه
فرواه أودى الشّباب قال : ولولا أنّ لبقي قوله فيه نلذ غير مرتبط بشيء . وهذا كما
ترى عسفٌ في الرواية وتخطئة للمصيب .
وقوله : يومان يوم الخ قال ابن الأنباريّ عن الرستميّ : فسّر العواقب بقوله :
يومان وبما بعده في البيتين فقال : يومٌ في المجالس خطيباً ويوم سير إلى الأعذاء
والكبير يعجز عن هذا . و المقامة بالفتح : المجلس وروى أبو عمرو بالضم بمعنى
الأغقامة . و الأندية : الأفنية . والنديّ والنّادي : المجلس .
قال أحمد : أراد به اللّهو والتنعّم و تأويب : صفة سير وهو السّرعة في السير
والإمعان فيه يقال : أوّب الرجل في سفره تأويباً إذا أمعن . وقال أحمد : أوّب :
وصل الليل بالنهار مع الإمعان .
وفي هذه القصيدة أبيات من شواهد أدب الكاتب وغيره . و سلامة هذا قال يعقوب بن
السّكّيت : هو سلامة بن جندل بن عبد عمرو بن عبيد بن الحارث بن مقاعس بن عمرو بن
كعب بن سعد بن زيد مناة بن تميم قال : وكان من فرسان العرب المعدودين وأشدّائهم
المذكورين هـ . )
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : سلامة بن جندل جاهليّ قديم وهو من فرسان تميم
المعدودين وأخوه أحمر بن جندل من الشعراء والفرسان وكان عمرو بن كلثوم أغار على
حيٍّ من بني سعد بن زيد مناة فأصاب فيهم وكان
____________________
فيمن
أصاب الأحمر بن جندل . وكان سلامة أحد نعّات الخيل وأجود شعره قصيدته التي أوّلها
: ( أودى الشّباب حميداً ذو التّعاجيب ** أودى وذلك شأوٌ غير مطلوب ) وأنشد بعده
وهو ( الشاهد الرابع والخمسون بعد المائتين ) البسيط ( لو لم تكن غطفانٌ لا ذنوب
لها ** إذن للام ذوو أحسابها عمرا ) على أنّ لا هنا زائدة مع أنّ النكرة بعدها
مبينة معها على الفتح . قال ابن عصفور في المقرّب : أنشد أبو الحسن الأخفش : لو لم
تكن غطفان . . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت والمعنى لها ذنوب إليّ .
وعمل لا الزائدة شاذّ .
وقد تكلّم أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة على هذا البيت بكلام فيه قلاقة
وهو قوله : يعترض في هذا البيت معترضٌ فيقول : الكلام إيجاب ومعناها أنّ لغطفان
ذنوباً فكان الكلام إيجاباً و لا لا تدخل على الإيجاب . فوجه ما قاله أنه لم يرد
هذا وإنّما أراد بقوله لا ذنوب لها أنّ الكلام الأوّل قد تمّ وتقضّى فأتى بالجملة
الثانية وهي الجحد فجعلها خبراً للنكرة حيث كانت جملة .
ومثل ذلك في الجحد قد قالت العرب : كان زيد يقوم أبوه فقد جعل يقوم أبوه جملة في
موضع الخبر وإن كان جحداً فكذلك جاز له أن يجعل النفي في موضع خبر الإيجاب وإن كان
إيجاباً .
ولا يلزم تأويل من تأوّل هذا فقال : إن المعنى ذلك لأنّه
____________________
وجه
من القياس وهو ما ذكرنا فلا يلزمه التأويل لأن أيضاً ينساع على ذلك فيجعل إيجاباً
لأنّ الإيجاب والنفي جميعاً إخبارٌ فلك أن تجعل كل واحد خبراً عن الآخر من حيث كان
ذلك في الجحد . هذا كلامه .
وهذا البيت من قصيدة للفرزدق هجا بها عمر بن هبيرة الفرازيّ أوّلها : ( يا أيها
النابح العاوي لشقوته ** إليك أخبرك عمّا تجهل الخبرا ) )
لو لم تكن غطفان . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت إلى أن قال : ( جهز فإنك
ممتازٌ ومنتجعٌ ** إلى فزارة عيراً تحمل الكمرا ) ( إنّ الفزاريّ ما يشفيه من قرمٍ
** أطايب العير حتّى ينهش الذّكرا ) ( إنّ الفزاريّ لو يعمى فيطعمه ** أير الحمار
طبيب أبرأ البصرا ) النابح والعاوي من نبح الكلب وعوى بمعنى صوّت . و إليك اسم فعل
وأصل معناه : ضمّ رحلك وثقلك إليك واذهب عني . و أخبرك جزم في جوابه والخبر مفعول
أخبرك و عمّا وقوله : لو لم تكن غطفان الخ لا من حيث المعنى زائدة واصل الكلام لو
لم تكن ذنوبٌ لغطفان وجملة لا ذنوب لها خبر الكون . و غطفان أبو قبيلة ممنوع من
الصرف للعلميّة والزيادة وصرفه هنا للضرورة . وهو غطفان بن سعد بن قيس بن عيلان
وهو الجدّ الأعلى لفزارة لأنّ فزارة هو فزارة بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان .
وفزارة اسمه عمرو ضربه أخٌ له ففزره فسمّي فزارة .
وأراد بالذّنب الإساءة أي : لو كانت غطفان غير مسيئة إليّ للام أشرافها عمر ابن
هبيرة في تعرّضه إليّ ومنعوه عنّي . وعمر عامل من عمّال سليمان بن عبد الملك من
بني أميّة . وقوله : إذن للام الخ جواب لو الشرطيّة وكثيراً ما يصدّر جوابها بإذن
واللام للتأكيد و اللّوم التعنيف .
وروى أيضاً :
____________________
إليّ
لام ذوو أحسابها عمرا و ذوو فاعل لام جمع ذو بمعنى صاحب . و الأحساب : جمع حسب وهو
ما يعد من المآثر وهو مصدر حسب على وزن كرم .
قال ابن السّكّيت : الحسب والكرم يكونان في الإنسان وإن لم يكن لآبائه شرف . ورجل
حسيب : كريم بنفسه . قال : وأمّا المجد والشرف فلا يوصف بهما الشخص إلاّ إذا كان
فيه وفي آبائه . وقال الأزهريّ : الحسب الشرف الثابت له ولآبائه . و عمر مفعول لام
والألف للإطلاق .
وقوله : جهّز فإنك الخ الممتار : اسم فاعل من امتار الميرة لنفسه بالكسر وهي
الطعام .
ومارهم ميراً من باب باع إذا أتاهم بالميرة . و منتجع بمعنى منتفع وأصله من انتجع
القوم إذا )
ذهبوا لطلب الكلأ في موضعه وإلى متعلقة بجهّز و عيرا مفعول جهّز وهو بكسر المهملة
: القافلة قالوا : واصل العير الإبل التي تحمل الميرة ثم غلب على كل قافلة : و
الكمر بفتح الكاف والميم : جمع كمرة .
قال صاحب المصباح الكمرة الحشفة وزناً ومعنّى وربّما أطلقت الكمرة على جملة الذكر
مجازاً .
والقرم بفتحتين مصدر قرم اللّحم من باب فرح إذا اشتدّت شهوته له . و من للتعليل و
أطايب : فاعل يشفيه جمع أطيب . و العير بفتح المهملة : الحمار الوحشي . وحتّى
بمعنى إلاّ . و النّهس مصدر نهست اللّحم من بابي ضرب ونفع إذا أخذته بمقدّم
الأسنان والمعروف بالسين المهملة وروي بالمعجمة أيضاً .
وبنو فزارة يرمون بأكل أير الحمار وبسرقة الجار وبنيك الإبل كما قال سالم بن دارة
: الرجز وسرق الجار ونيك البعران
____________________
و
الجردان بضم الجيم : وعاء قضيب الحمار . وسيأتي إن شاء الله شرح هذا مفصلاً في باب
المثنى .
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والخمسون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الطويل
( بكت جزعاً واسترجعت ثمّ آذنت ** ركائبها أن لا إلينا رجوعها ) على أن لا يجوز
عدم تكريرها مع المفصول عند المبّرد وابن كيسان كما في البيت وعند غيرهما شاذّ .
وقد أنشده سيبويه ومن تبعه على عدم تكرير لا مع المعرفة وهو الوجه .
قال أبو عليّ في المسائل المنثورة : إذا كان بعد لا معرفة ارتفعت المعرفة
بالابتداء وهو قولك : لا أبوك فيرتفع بالابتداء ويكون خبره مضمراً وتكون لا جواباً
كأنّه قال : هل أبي فقال : لا أبوك . فنفى أن يكون أباه .
وأما قول الشاعر : بكت جزعاً واسترجعت . البيت فرفع رجوعها بالابتداء وأضمر الخبر
كأنّه قال : موجود أو واقع وجعل إلينا تبييناً مثل قوله سبحانه إنّي لكما لمن
النّاصحين هـ .
وزعم صدر الأفاضل في التحبير كما نقله عنه بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل
وبعضٌ آخر في شرح أبيات الموشح أنّ لا هنا ليست بالنافية للجنس إنّما هي التي تدخل
على الفعل المضارع . و رجوعها
____________________
مرفوع
على أنه فاعل فعل مضمر تقديره ألاّ ترى أنّه لو لم تضمر فيه الوقوع للزم التناقص
وهذا لأنّ الإيذان يقتضي ألاّ يكون الرجوع في الحال متحققاً كما يقال : هذه
العارضة تؤذن بالاستسقاء إذا لم يكن واقعاً ولو لم يضمر الفعل فيه لاقتضت لا أن
يكون انتقاء الرجوع في الحال متحقّقاً هـ .
ولا يخفى أن هذا ليس من المواضع التي يحذف فيها الفعل ويبقى الفاعل . ويندفع ما
عدّه تناقصاً بجعل خبر رجوعها اسم فاعل من الوقوع . فتأمّل .
وقوله : بكت جزعاً هو مفعول مطلق نوعيُّ أي بكاء جزع ويجوز أن يكون مفعولاً لأجله
.
وروى : قضت وطراً واسترجعت وفي الاسترجاع هنا قولان : أحدهما : أنّه من الاسترجاع
عند المصيبة وهو قول إنا لله وإنا إليه راجعون .
وثانيهما : أنه طلب الرّجوع من الرّحيل لكراهة فراق الأحبّة .
وقوله : ثم آذنت الخ ركائبها فاعل آذنت جمع ركوبة وهي الراحلة التي تركب . و آذنت
بمعنى أشعرت وأعلمت . جعل تهيؤ الإبل للرّكوب عليها كأنّه إعلامٌ منها بالفراق .
وفي إسناد )
الإيذان للرّكائب دون الحبيبة أمرٌ لطيف لا يخفى حسنه . وقال بعضهم : فيه حذف مضاف
أي : وقوله : أن لا إلينا الخ أن هنا مفسّرة للإيذان وهي الواقعة بعد جملة فيها
معنى القول دون حروفه . وقال شرّاح أبيات المفصّل إنّما هي المخفّفة من الثقيلة
قالوا : والأصل بأنه والضمير للشأن .
والبيت ظاهره إخبارٌ ومعناه : تأسف وتحسّر . وهو من أبيات سيبويه الخمسين التي لا
يعرف قائلها . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والخمسون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الطويل
( وأنت امرؤٌ منّا خلقت لغيرنا ** حياتك لا نفعٌ وموتك فاجعُ ) على أنّ لا يجوز
عدم تكريرها مع المنكّر غير المفصول مع إلغائها عند المبرّد وابن كيسان وعند
غيرهما شاذّ .
قال الأعلم : وسوّغ الإفراد هنا أنّ ما بعده يقوم مقام التكرير في المعنى لأنّ
قوله وموتك فاجع دلّ على أنّ حياته لا تضرّ . يقول : هو منّا في النسب إلاّ أن
نفعه لغيرنا فحياته لا تنفعنا لعدم مشاركته لنا وموته يفجعنا لأنّه أحدنا هـ .
وقوله : لا نفعٌ هو مبتدأ وخبره محذوف أي : فيها والجملة خبر قوله حياتك . وأكثر
الرواية على إسقاط الواو أوّله على أنه مخروم وهو الصواب لأنّه لم يتقدمه شيء حتى
تكون الواو عاطفة .
وهذا البيت نسبه شرّاح أبيات الكتاب لرجل من بني سلول ونسبه العسكريّ في كتاب
____________________
وزاد
الحصريّ بعده بيتين وهما : الطويل ( وأنت على ما كان منك ابن حرّةٍ ** أبيٌّ لما
يرضى به الخصم مانع ) ( وفيك خصالٌ صالحاتٌ يشينها ** لديك جفاءٌ عنده الودُّ ضائع
) قوله : وأنت على ما كان الخ أي : أنت مع ما كان منك إلينا من سوء المعاملة ابن
حرّة أبيّ ذو حميّة مانع لما يرضى به الخصم .
قال بعض فضلاء العجمى في شرح أبيات المفصّل : المقول فيه هذا الشعر هو الحضنين بن
)
المنذر وقائله الضحّاك بن هنام هـ .
وضبط العسكريّ ابن هنّام بفتح الهاء والنون المشدّدة وقد وقع في بعض كتب الأدب
مصحفاً بهمّام بالميم بدل النون .
وشذّ ياقوت الحمويّ فنسبه في محتضر جمهرة الأنساب إلى جنف بن مالك ابن الحارث بن
ثعلبة وينتهي نسبه إلى قضاعة إحدى قبائل اليمن .
وضبط العسكري في كتاب التصحيف المتعلق بعلم الحديث الحضين بن المنذر بقوله : حضين
الحاء مضمومة غير معجمة والضاد معجمة مفتوحة ونون هو حضين ابن المنذر أبو ساسان
الرّقاشيّ من سادات ربيعة وكان صاحب راية أمير المؤمنين عليّ يوم صفيّن وفيه ( لمن
رايةٌ سوداء يخفق ظلّها ** إذا قيل قدّمها حضين تقدّما ) ثم ولاّه إصطخر وكان يبخل
وفيه يقول زياد الأعجم : الطويل ( يسدّ حضينٌ بابه خشية القرى ** بإصطخر والشّاة
السّمين بدرهم )
____________________
وفيه
يقول الضحّاك بن هنّام : الطويل ( وأنت امرؤٌ منّا خلقت لغيرنا ** حياتك لا نفعٌ
وموتك فاجع ) وروى الحديث عن عثمان وعليّ وعن مجاشع بن مسعود والمهاجر بن قنفذ .
وروى عنه الحسن وعبد الله بن الداناج وعبد العزيز بن معمر وعليّ بن سويد بن منجوف
.
ولا أعرف من يسمّى حضيناً بالضاد المعجمة غيره وغير من ينسب إليه من ولده . ومن
أولاده : يحيى بن حضين وساسان بن حضين وعياض بن حضين . وفي يحيى يقول الفرزدق :
مجزوء الرمل ( واصرف الكأس عن الفا ** تر يحيى بن حضين ) انتهى ما أورده العسكريّ
.
وأنشد بعده : ( من صدّ عن نيرانها ** فأنا ابن قيس لا براح ) على أن لا هنا بمهنى
ليس ولهذا لم تكرّر . قال الشارح المحقّق : قد تقدّم أنه لم يثبت عمل لا عمل ليس .
وهذا مخالف لقول أبي عليّ في المسائل المنثورة إنّ لا في هذا البيت أريد بها ليس
والخبر )
محذوف أي : لنا وكذلك قوله في الجحيم حين لا مستصرخ أراد لنا اه .
وهذا البيت قد تقدّم الكلام عليه في الشاهد الحادي والثمانين في اسم ما ولا
المشبهتين بليس .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والخمسون بعد المائتين ) وهو من أبيات سيبويه :
البسيط ( تركتني حين لا مالٍ أعيش به ** وحين جنّ زمان النّاس أو كلبا ) على أنّ
عدم تكرّر لا في مثل هذا شاذ .
وأنشده س على إضافة حين إلى المال وإلغاء لا وزيادتها في اللفظ . وهذه عبارة س :
اعلم أنّ لا قد تكون في بعض المواضع هي والمضاف إليه بمنزلة اسم واحد وذلك قولهم :
أخذته بلا ذنب وغضبت من لا شيء وذهبت بلا عتاد والمعنى ذهبت بغير عتاد . وتقول إذا
قللّت الشيء : ما كان إلاّ كلاشيء وإنّك ولا شيئاً سواءٌ . ومن هذا النحو قول
الشاعر : تركتني حين لا مال أعيش به . . . . . . . . . . . . البيت انتهى وجوّز
أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة الحركات الثلاث في مال قال : الجرّ على
الإضافة والرفع على أن تضيف حين إلى الجمل و لا عاملة عمل ليس والنصب تجعله كما
كان مبنياً و و جنّ بضم الجيم من الجنون يقال : أجنّه الله بالألف فجنّ بالبناء
للمفعول فهو مجنون . و كلبا الكلب : مصدر كلب كلباً فهو كلبٌ من باب تعب وهو داءٌ
يشبه الجنون يأخذه فيعقر الناس .
ويقال لمن يعقره كلب أيضاً . وكلب الزمان : شدّته : وضرب الجنون والكلب مثلاً
لشدّة الزّمان .
وهذا البيت من قصيدةٍ لأبي الطفيل عامر بن وائلة الصحابيّ رثى بها ابنه طفيلاً .
____________________
وهذه أبيات منها : ( خلّى طفيلٌ عليّ الهمّ فانشعبا ** وهدّ ذلك ركني هدّةً عجبا )
( وابني سميّة لا أنساهما أبداً ** فيمن نسيت وكلّ كان لي وصبا ) ( فاملك عزاءك إن
رزءّ نكبت به ** فلن يردّ بكاء المرء ما ذهبا ) ( وليس يشفي حزيناً من تذكره **
إلاّ البكاء إذا ما ناح وانتحبا ) ( فإن سلكت سبيلاً كنت سالكها ** ولا محالة أن
يأتي الذي كتبا ) ) ( فما لفظتك من ريّ ولا شبعٍ ** ولا ظللت بباقي العيش مرتقبا )
فارقتني حين لا مال أعيش به . . . . . . . . . . . البيت روى الأصبهانيّ بسنده في
الأغاني أنّ أبا الطّفيل دعيّ إلى مأدبة فغنّت فيها قينة بهذا الشعر فبكى أبو
الطفيل حتّى كاد يموت . وفي رواية أخرى : فجعل ينشج ويقول : هاه هاه طفيل وأراد
بابني سميّة عبّاداً وعبيد الله ابني زياد بن سميّة . و الوصب : المرض . و العزاء
بالمدّ : الصبر .
وقوله : فما لفظتك من ريّ الخ ما رميتك في القبر لأجل أكلك وشربك بخلاً . و أبو
الطفيل هو عامر بن وائلة بن عبد الله بن عمير بن جابر بن حميس ابن جديّ بن سعد بن
ليث بن بكر بن عبد مناة بن كنانة بن خزيمة بن مدركة بن الياس بن مضر بن نزار .
وغلبت عليه كنيته . ومولده عام أحد وأدرك من حياة النبيّ صلى الله عليه وسلم ثماني
سنين ومات سنة مائة وهو آخر من مات مّمن رأى النبيّ صلى الله عليه وسلم . وقد روي
عنه نحو أربعة أحاديث وكان محبّاً في علي
____________________
رضي
الله عنهما وكان من أصحابه في مشاهدة وكان ثقةً مأموناً يعترف بفضل الشيخين إلاّ
أنّه كان يقدّم عليّاً . توفي سنة مائة من الهجرة . ولما قتل علي رضي الله عنه
انصرف إلى مكّة فأقام بها حتى مات وقيل أقام بالكوفة ومات بها والأوّل أصحّ .
وقد ذكره ابن أبي خيثمة في شعراء الصّحابة . وكان فاضلاً عاقلاً حاضر الجواب
فصيحاً .
وكان يتشيّع في عليّ ويفضله وهو شاعر محسن وهو القائل : الطويل ( أيدعونني شيخاً
وقد عشت حقبةً ** وهنّ من الأزواج نحوي نوازع ) ( وما شاب رأسي من سنين تتابعت **
عليّ ولكن شيبتني الوقائع ) وقال صاحب الأغاني : كان أبو الطفيل مع أمير المؤمنين
عليّ رضي الله عنه وروى عنه .
وكان من وجوه شيعته وله منه محلٌّ خاص يستغنى بشهرته عن ذكره .
ثم خرج طالباً بدم الحسين رضي الله عنه مع المختار بن أبي عبيد وكان معه حتّى قتل
المختار . ولّما استقام لمعاوية أمره لم يكن شيء أحبّ إليه من لقاء أبي الطفيل فلم
يزل يكاتبه ويلطف له حتّى أتاه فلما قدم عليه جعل يكلّمه ودخل عليه عمرو بن العاص
ومعه نفر فقال لهم معاوية : أما تعرفون هذا هذا فارس صفيّن وشاعرها خليل أبي الحسن
. ثم أنشد من شعره . )
قالوا : نعم هو أفحش شاعر وألأم جليسا فقال معاوية : يا أبا الطفيل أتعرفهم قال :
ما أعرفهم بخير ولا أبعدهم من شرّ ثم قال له معاوية : ما بلغ من حبّك لعليّ قال :
حبّ أمّ موسى لموسى قال : فما بلغ من بكائك عليه قال : بكاء العجوز الثّكلى
والشّيخ الرّقوب وإلى الله أشكو التقصير قال معاوية : لكنّ أصحابي هؤلاء لو كانوا
سئلوا عنّي ما قالوا فيّ ما قلت في صاحبك . قالوا : إذاً والله ما نقول الباطل
فقال لهم معاوية : لا والله ولا الحقّ تقولون .
____________________
ولّما رجع محمّد بن الحنفية من الشام حبسه ابن الزّبير في سجن عارم فخرج إليه جيش
من الكوفة عليهم أبو الطفيل حتّى أتوا السجن فكسروه وأخرجوه وكتب ابن الزبير إلى
أخيه مصعب أن يسيّر نساء كلّ من خرج لذلك فأخرج مصعب مع النساء أمّ الطفيل امرأة
أبي الطفيل وابناً له صغيراً يقال له يحيى فقال في ذلك : المتقارب ( إن يك سيّرها
مصعب ** فإنّي إلى مصعب مذنب ) ( أقود الكتيبة مستلئما ** كأنّي أخو عرّة أجرب ) (
عليّ دلاصٌ تخيّرتها ** وفي الكفّ ذو رونق مقضب ) ( فلو أنّ يحيى به قوةٌ ** فيغزو
مع القوم أو يركب ) ( ولكنّ يحيى كفرخ العقا ** ب في الوكر مستضعفٌ أزغب ) ولما
دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزّبير بمكة . قال : أصبحت كما قال الشاعر
: ( فإن تصبك من الأيّام جائحةٌ ** لا أبك منك على دنيا ولا دين ) قال : وما ذاك
يا أعرج قال : هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس وعبيد الله أخوه يطعم الناس فما
بقيّا لك . فأحفظه ذلك فأرسل صاحب شرطته عبد الله بن مطيع فقال انطلق إلى ابني
عبّاس فقل لهما : أعمدتما إلى راية ترابيّة قد وضعها الله فنصبتماها بدّدا عنّي
جموعكما ومن ضوى إليكما من ضلاّل أهل العراق
____________________
وإلاّ
فعلت وفعلت فقال له ابن عبّاس : قل لابن الزّبير : يقول لك ابن عبّاس : ثكلتك أمّك
والله ما يأتينا من النّاس إلاّ رجلان : طالب فقه أو طالب ( لا درّ درُّ اللّيالي كيف
تضحكنا ** منها خطوبٌ أعاجيب وتبكينا ) ( ومثل ما تحدث الأيّام من غيرٍ ** يا بن
الزّبير عن الدّنيا تسلّينا ) ( كنّا نجيء ابن عبّاس فيقبسنا ** علماً ويكسبنا
أجراً ويهدينا ) ( ولا يزال عبيد الله مترعةً ** جفانه مطعماً ضيفاً ومسكينا ) ) (
فالبرّ والدّين والدّنيا بدارهما ** ننال منها الذي نبغي إذا شينا ) ( إنّ النّبي
هو النّور الذي كشفت ** به عمايات باقينا وماضينا ) ( ورهطه عصمةٌ في ديننا ولهم
** فضلٌ علينا وحقّ واجب فينا ) ( ولستفاعلمهأولادنا بهم رحماً ** يا ابن الزّبير
ولا أولى به دينا ) ( فقيم تمنعهم منّا وتمنعنا ** منهم وتؤذيهم فينا وتؤذينا ) (
لن يؤتي الله من أخزى ببعضهم ** في الدّين عزّاً ولا في الأرض تمكينا ) وأنشد بعده
وهو ( الشاهد الثامن والخمسون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الرجز ( حنّت قلوصي
حين لا حين محن ) على أنّ الشاعر أضاف حين الأول إلى الجملة كما تقول : حين لا رجل
في الدار أي : حين لا حين حنينٌ حاصل .
قال الأعلم : الشاهد فيه نصب حين بلا التبرئة وإضافة حين إلى الجملة
____________________
وخبر
لا محذوف والتقدير حين لا حين محنٍّ لها أي : حنّت في غير وقت الحنين . ولو جررت
الحين على إلغاء لا جاز . و القلوص : النّاقة الشّابة بمنزلة الجارية من الأناسيّ
. و حنينها : صوتها شوقاً إلى أصحابها . والمعنى أنّها حنّت إليها على بعدٍ منها
ولا سبيل لها إليها . انتهى .
وقدّر ابن الشجريّ الخبر لنا بالنون والصواب ما قبله .
وجوّز أبو علي في المسائل المنثورة الحركات الثلاث في حين الثاني : النصب على
إعمال لا عمل إنّ والرفع على إعمالها عمل ليس والجرّ على إلغائها وإضافة حين
الأوّل إلى الثاني .
وقال أبو عليّ في التذكرة القصرية لا يقدّر للا هذه في رواية النصب خبر فإنه قال
عند الكلام على قولهم : ألا ماء بارد : قال المازنيّ : يرفع بارد على أنه خبر
ويجوز على قياس قوله أن يرتفع لأنّه صفة ماء ويضمر الخبر .
ويجوز نصبه على قوله أيضاً على أنه صفة والخبر مضمر ويجوز على قياس سيبويه ومن عدا
المازني ألا ماء بارد بلا تنوين إلاّ أنّك لا تضمر لها خبراً لأنها مع معمولها
الآن بمنزلة اللفظة الواحدة كقولهم : جئت بلا مال وغضبت من لا شيء أي : بفتحهما
فلا يلزمك إضمار الخبر )
في هذه المسألة .
ومثله قوله : حنّت قلوصي حين لا حين محن أضاف حين إليهما كما تضيفه إلى المفرد .
وقد يحتمل هذا عندي أن يكون إضافة إلى جملة والخبر محذوف كما يضاف أسماء الزمان
إلى الجمل وذلك لأنّ حنت ماض فحين بمعنى إذ وهي مما يضاف إلى المبتدأ والخبر .
فأما قوله حين لا حين فالثاني غير الأوّل لأنّ الحين يقع على الكبير واليسير من
الزمان قال : الطويل
____________________
تطلقه
حيناً وحيناً تراجع ولا زائدة ولا تكون غير زائدة لما في ذلك من النقض . وقالوا في
قوله تعالى : تؤتى أكلها كلّ حين : ستّة أشهر فيكون على هذا حين حين من إضافة
البعض إلى الكلّ نحو : حلقة فضّة وعيد السّنة وسبت الأسبوع فلا يكون إضافة الشيء
إلى نفسه . ومثله قول الفرزدق : الوافر ( ولولا يوم يومٍ ما أردنا ** جزاءك
والقروض لها جزاء ) فيومٌ الأوّل وضح النّهار والثاني البرهة كالتي في قوله : ومن
يولهم يومئذ دبره والأمر يومئذ لله .
وأنشد أبو عمرو : مجزوء الكامل ( حبّذا العرصات يوماً ** في ليالٍ مقمرات ) فقال
يوماً في ليال أراد المرّة دون العاقب لليل . انتهى .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف قائلها ولا تتمة لها . والله
أعلم بحقيقة الحال .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والخمسون بعد المائتين ) وهو من أبيات سيبويه :
البسيط ( ما بال جهلك بعد الحلم والدّين ** وقد علاك مشيبٌ حين لا حين ) على أنّ
الأولى أن تكون لا فيه زائدة لفظاً ومعنى .
قال سيبويه : إنّما أراد حين حين ولا بمنزلة ما إذا ألغيت .
قال الأعلم : وإنّما أضاف الحين إلى الحين لأنّه قدر أحدهما بمعنى التوقيت فكأنه
قال : حين وقت حدوثه ووجوبه هذا تفسير سيبويه . ويجوز أن يكون المعنى : ما بال
جهلك بعد الحلم والدين حين لا حين جهلٍ وصبا فتكون لا لغواً في اللفظ دون المعنى
انتهى .
ولم يتنبّه ابن الشّجريّ في أماليه لمراد سيبويه بعد نقل عبارته ففهم أنّ لا زائدة
لفظاً فقط فقال : حين الأوّل مضاف إلى الثاني وفصلت لا بين الخافض والمخفوض
كفصلهما في جئت بلا شيء كأنه قال : حين لا حين لهو فيه ولعب أو نحو ذلك من الإضمار
لأنّ المشيب يمنع من اللهو واللعب . هذا كلامه وقد أورده في معرض الشرح لكلام
سيبويه .
وقد طبّق المفصّل أبو عليّ الفارسيّ في الحجة في الكلام على آخر سورة الفاتحة قال
: لا فيه زائدة والتقدير : وقد علاك مشيبٌ حين حين وإنّما كانت زائدة لأنّك إن قلت
: علاك مشيبٌ حيناً فقد أثبتّ حيناً علاه فيه المشيب . فلو جعلت لا غير زائدة لوجب
أن تكون نافية على حدّها في قولهم : جئت بلا مال فنفيت ما أثبت من حيث كان النفي
بلا عاماً منتظماً لجميع الجنس فلمّا لم يستقم حمله على النفي للتدافع العارض في
ذلك حكمت بزيادتها فصار التقدير : حين حين .
____________________
وهذه الإضافة من باب حلقة فضة : لأنّ الحين يقع على الزمان القليل كالساعة ونحوها
يدلّ على ذلك قوله : تطلقه حيناً وحيناً تراجع ويقع على الزمان الطويل كقوله تعالى
: هل أتي على الإنسان حين من الدّهر وعلى ما هو أقصر من ذلك كقوله تعالى : تؤتى
أكلها كل حينٍ فصار حين حين كقول الآخر : ( ولولا يوم يومٍ ما أردنا ** جزاءك
والقروض لها جزاء ) وليس هذا كقوله : )
حنّت قلوصي حين لا حين محن لأنّه في قوله لا حين محن نافٍ حيناً مخصوصاً لا ينتفي
بنفيه جميع الأحيان كما كان ينتفي بالنفي العامّ جميعها فلم يلزم أن تكون لا زائدة
في هذا البيت كما لزم لزيادتها في حين لا حين .
فهذا الحرف يدخل في النّكرة على وجهين : أحدهما أن يكون زائداً كما مرّ في بيت
جرير والآخر أن يكون غير زائد . فإذا لم يكن زائداً كان على ضربين : أحدهما : أن
تكون لا مع الاسم بمنزلة اسم واحد نحو خمسة عشر و نحو غضبت من لا شيء فلا مع الاسم
المنكور في موضع جرّ بمنزلة خمسة عشر ولا ينبغي أن يكون من هذا الباب قوله : حنّت
قلوصي حين لا حين محن لأن حين هنا منصوب نصباً صحيحاً لإضافته ولا يجوز بناء
المضاف مع لا كما جاز بناء المفرد معها وإنّما حين في البيت مضافة إلى جملة كما
أنها في قوله تعالى : حين لا يكفون عن وجوههم النّار إلاّ أنّ الخبر محذوف وخبر لا
____________________
يحذف
كثيراً . ونظير هذا في حذف الخبر من الجملة المضاف إليها ظرف الزمان قولهم : كان
هذا إذ ذاك . و الآخر أن لا تعمل في اللفظ ويراد بها معنى النفي فتكون صورتها صورة
الزيادة ومعنى النفي فيه مع هذا صحيح كقول النابغة : البسيط وقال الشمّاخ : الوافر
( إذا ما أدلجت وصفت يداها ** لها إدلاج ليلة لا هجوع ) وقال رؤبة : الرجز وقد
عرفت حين لا اعتراف وبيت الكتاب .
تركتني حين لا مالٍ أعيش به البيت وهذا الوجه عكس ما جاء فيما أنشده أبو الحسن من
قول الشاعر : ( لو لم تكن غطفان لا ذنوب لها ** إليّ لامت ذوو أحسابها عمرا ) ألا
ترى أنّ لا في المعنى زائدة وقد عملت وفي قوله : ليلة لا هجوع وبابه معنى النفي
فيه صحيحٌ ولم تعمل انتهى كلام أبي عليّ . )
____________________
وهذا البيت مطلع قصيدة لجرير بن الخطفى هجا بها الفرزدق وبعده : البسيط ( للغانيات
وصالٌ لست قاطعه ** على مواعيد من خلفٍ وتلوين ) ( إنّي لأرهب تصديق الوشاة بنا **
وأن يقول غويّ للنّوى بيني ) ( ماذا يهيجك من دارٍ تباكرها ** أرواح مخترق هوج
الأفانين ) وجرير قد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع من أول الكتاب والخطاب لنفسه .
وقد التزم الإتيان بالحال بعد ما بال فجملة وقد علاك مشيبٌ حال والظرف الأول متعلق
بجهلك والثاني متعلق بقوله علاك .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الستّون بعد المائتين ) الرجز ( في بئر لا حور سرى وما
شعر ) على أنّ لا فيه زائدة لفظاً ومعنى أوّل من قال بزيادتها في هذا البيت أبو
عبيدة وتبعه جماعة منهم ابن دريد في الجمهرة قال فيها : ومن أمثالهم : حورٌ في
محارة يضرب للرجل الذي لا يعرف وجه أمره وأنشد هذا البيت وقال : لا هنا لغو .
ومنهم أبو منصور الأزهريّ في التهذيب إلاّ أنّه قال : حور أصله حؤور مهموز فخفّفه
الشاعر بحذف الهمزة .
ومنهم صاحب الصحاح قال فيه : حار يحور حوراً وحؤوراً : رجع . يقال حار بعدما كار
ونعوذ بالله من الحور بعد الكور أي : من النقصان بعد الزيادة .
____________________
وكذلك
الحور بالضم .
وفي المثل حورٌ في محارةٍ : أي : نقصان يضرب للرجل إذا كان أمره يدبر . و الحور
أيضاً : الاسم من قولك طحنت الطّاحنة فما أحارت شيئاً أي : ما ردّت شيئاً من
الدّقيق . والحور أيضاً : الهلكة .
في بئر لا جورٍ سرى وما شعر ولا زائدة .
ومنهم صاحب العباب ونقل كلام الصحاح برمتّه وزاد في المثل قولهم : حور في محارة
هذا خلاف ما روى ابن الأعرابيّ أنّه بفتح الحاء قال ابن الأعرابيّ : يقال : فلانٌ
حور في محارة هكذا سمعته بفتح الحاء يضرب مثلاً للشيء الذي لا يصلح أو كان صالحاً
ففسد . )
ومنهم الزّمخشريّ في تفسيره وفي مفصله قال : لا في سورة القيامة في قوله تعالى :
لا أقسم زائدة كما زيدت في هذا البيت . ومنهم ابن الشجريّ في أماليه قال : ومما
زيدت فيه قول العجّاج : في بئر لا حور سرى وما شعر معناه في بئر حورٍ أي : في بئر
هلاك .
وذهب جماعة إلى أنّ لا هنا نافية لا زائدة أوّلهم الفرّاء قال في آخر سورة الفاتحة
من تفسيره : إذا كانت غير في معنى سوى لم يجز أن تكرّ عليها لا ألا ترى أنّه لا
يجوز عندي سوى عبد الله ولا زيد .
وقد قال بعض من لا يعرف العربيّة إنّ معنى غير في الحمد معنى سوى وإنّ لا صلّة في
الكلام في بئر لا حورٍ سرى وما شعر
____________________
وهذا
غير جائز لأن المعنى وقع على ما لا يتبيّن فيه عمله فهو جحدٌ محض وإنّما يجوز أن
تجعل لا صلة إذا اتّصلت بجحد قبلها وأراد في بئر لا حور فلا هي الصحيحة في الجحد لأنّه
أراد في بئر ماء لا يحير عليه شيئاً كأنك قلت إلى غير رشد توجّه وما درى والعرب
تقول : طّحنت الطّاحنة فما أحارت شيئاً أي : لم يتبيّن لها أثر عمل . انتهى .
وتبعه ابن الأعرابيّ في نوادره .
ومنهم ابن جنّي قال في الخصائص قال ابن الأعرابيّ في قوله : في بئرٍ لا حورٍ سرى
وما شعر أراد حؤور أي : في بئر لا حؤور ولا رجوع قال : فأسكنت الواو الأولى وحذقت
لسكونها وسكون الثانية بعدها .
ورأيت في شرح شواهد الموشّح والمفصّل قال صدر الأفاضل : الحور هنا : جمع حائر من
حار إذا هلك . ونظيره على ما حكاه الغوريّ قُتل : جمع قاتل وبُزل جمع بازل وقُرح
جمع قارح . ويحتمل أن يكون اسم جمع حائر أي هُلّك وقيل هي بئر سكنها الجنّ . انتهى
.
وهذا البيت من أرجوزة طويلة للعجّاج وهي نحو مائتي بيت مدح بها عمر بن عبيد الله
بن معمر وكان عبد الملك بن مروان قد وجّهه لقتال أبي فديك الحروريّ فأوقع به
وبأصحابه ومطلعها : الرجز ) ( قد جبر الدّين الإله فجبر ** وعوّر الرّحمن من ولّى
العور ) ( فالحمد لله الذي أعطى الشّبر ** موالي الحقّ أن المولى شكر ) إلى أن قال
: ( واختار في الدّين الحروريّ البطر ** في بئر لا حورٍ سرى وما شعر )
____________________
بإفكه
حتّى رأى الصبّح جشر الجبر : أن تغني الرجل من فقره أو تصلح عظمه من كسر يقال :
جبر العظم جبرا وجبر العظم بنفسه جبوراً أي : انجبر وقد جمعهما العجّاج . و عوّر
بفتح المهملة وتشديد الواو أي : أفسد الله من ولاّه الفساد . و الشّبر : بفتح
الشين المعجمة والموحّدة الخير ويروى الحبر : بفتح المهملة والموحّدة وهو السرور .
وموالي الخير بفتح الميم يريد العبيد وهو مفعول ثان لأعطى وروي موالي بضم الميم
فيكون من صفة الله ونصبه على المدح . و المولى بالفتح : العبد . و الحروريّ أراد
به أبا فديك بالتصغير الخارجيّ .
قال في الصحاح : وحروراء : اسم قرية يمد ويقصر نسبت إليها الحرورية من الخوارج كان
أوّل وقوله : بإفكه الخ الباء سببية متعلقة بقوله سرى و الإفك الكذب مأخوذ من
أفكته إذا صرفته . وكلّ أمرٍ صرف عن وجهه فقد أفك . و جشر الصبّح بالجيم والشين
المعجمة يجشر جشوراً إذا انفلق وأضاء .
وروى : حتّى إذا الصبّح جشر وملخّص هذه القصّة كما في نهاية الأرب في فنون الأدب
للنّويريّ أنّ أبا فديك وهو من الخوارج واسمه عبد الله بن ثور بن قيس بن ثعلبة بن
تغلب غلب على البحرين في سنة اثنتين وسبعين من الهجرة فبعث خالد بن عبد الله
القسريّ أمير البصرة أخاه أمية بن عبد الله في جندٍ كثيف فهزمه أبو فديك وأخذ
جاريةٍ له فاتّخذها لنفسه فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك فأمر عبد الملك عمر بن
عبيد الله بن معمر أن يندب النّاس مع أهل الكوفة والبصرة ويسير إلى قتاله فانتدب
عشرة آلاف وسار بهم .
وجعل أهل الكوفة على الميمنة وعليهم محمّد بن موسى بن طلحة بن عبيد الله وأهل
البصرة على الميسرة وعليهم عمر بن موسى بن عبيد الله بن معمر وهو ابن أخي عمر وجعل
خيله في )
القلب وساروا حتّى انتهوا إلى البحرين فاصطفّوا
____________________
للقتال
. فحمل أبو فديك وأصحابه حملة رجل واحدٍ فكشفوا ميسرة عمر حتّى أبعدوا إلاّ
المغيرة بن المهلّب وفرسان الناس فإنّهم مالوا إلى صفّ أهل الكوفة بالميمنة ثم رجع
أهل الميسرة وقاتلوا واشتدّ قتالهم حتّى دخلوا عسكر الخوارج وحمل أهل الميمنة حتّى
استباحوا عسكر الخوارج وقتلوا أبا فديك وحصروا أصحابه حتّى نزلوا على الحكم فقتل
منهم نحو ستّة آلاف وأسر ثمانمائة . ووجدوا جارية أميّة بن عبد الله حبلى من أبي
فديك وعادوا إلى البصرة وذلك في سنة ثلاث وسبعين من الهجرة اه .
وبما ذكرنا يطبّق المفصل ويصاب المحزّ .
ولّما لم يقف شرّاح الشواهد على ما مرّ قالوا بالتخمين ورجموا بالظنون منهم بعض
فضلاء العجم قال في شرح أبيات المفصل وتبعه في شرح شواهد الموشّح : قيل يصف فاسقاً
أو كافراً .
والمعنى على الأوّل أنّ الفاسق سرى بأفكه وأباطيله في بئر المهلكة من المعاصي وما
علم لفرط غفلته إذا صار فيها حتّى إذا انفلق الصّبح وأضاء الحقّ وانكشف ظلمات
الشّبه واطلع علم معاينة لكن لم ينفعه ذلك العلم .
وعلى الثاني : أن الكافر سرى بإفكه وبطلانه في ورطة الهلاك من كفره وما شعر بذلك
لإعراضه عن الآخرة حتّى إذا قامت القيامة علم أنه كان خابطاً في ظلمات الكفر ولكنه
لا خوّاض في المهالك سالك في مسالك الجنّ . وهذا مّما تتمدّح به العرب وأشعارهم
ناطقة بذلك . ومعنى قوله : بإفكه أنه يكذب نفسه إذا حدّثها بشيء ولا يصدقها فيه
ويقول لها : إن الشيء الذي تطلبينه بعيد لتزداد جدّاً في طلبه ولا تتوانى فيه
ولذاك قال لبيد : الرمل
____________________
(
اكذب النّفس إذا حدّثتها ** إنّ صدق النّفس يزري بالأمل ) والمعنى : سار ليلاً هذا
الرجل لجرأته وجلادته في مهاوي الهلاك أو في المواضع الخالية التي يسكنها الجنّ
حتّى أضاء الصبّح وما شعر به ذلك الذي ألقى بيده في المهالك وهو غافل عن ذلك لعدم
مبالاته . وهذا المعنى أشبه بمذهب العرب . هذا كلامه .
وترجمة العجّاج تقدّمت في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والستون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
الرجز ( لا هثيم اللّيلة للمطيّ ) على أن لا النافية للجنس لا تدخل على العلم وهذا
مؤوّل إمّا بتقدير مضاف وهو مثل وإمّا بتأويل العلم باسم الجنس . وقد بيّنهما
الشارح المحقّق .
وقد أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً على
أنّه على تقدير مثل ملء الأرض فحذف مثل كما حذفت من لا هيثم اللّيلة .
قال الفاضل اليمنيّ : وقد اعترض هذا بوجهين : أحدهما : التزم العرب تجرّد الاسم
المستعمل عن الألف واللام ولم يجوّزوا قضية ولا أبا الحسن كما جوّزوا ولا أبا حسن
ولو كانت إضافة مثل منوّية لم يحتج إلى ذلك .
____________________
والثاني : إخبار العرب عن المستعمل ذلك الاستعمال بمثل كقول الشاعر : الطويل (
تبكي على زيدٍ ولا زيد مثله ** بريءٌ من الحمّى سليم الجوانح ) أقول : لا يضر هذا
الالتزام فإنّه واردٌ على أحد الجائزين فإنّ أل للمح الأصل والغالب عدم ذكرها مع
أنّها علامة لفظيّة للتعريف . وتعريف العلميّة وإن كان أقوى منها إلاّ أنّه معنوي
فلو وجدت مع لا لكان القبح ظاهراً .
ثم رأيت في تذكرة أبي حيّان ما نصّه : قال الفرّاء من قال قضيّة ولا أبا حسن لها
لا يقول ولا أبا الحسن لها بالألف واللام لأنّها تمحّض التعريف في ذا المعنى وتبطل
مذهب التنكير . وقال : إنّما أجزنا لا عبد الله لك بالنصب لأنّه حرف مستعمل يقال
لكلّ أحد عبد الله ولا نجيز لا عبد الرحمن ولا عبد الرحيم لأن استعمال لم يلزم
هذين كلزومه الأول . وكان الكسائي يقيس عبد الرحمن وعبد العزيز على عبد الله وما
لذلك صحّة اه .
وأما جعله بتأويل اسم الجنس فقد قال سيبويه : وقالوا قضية ولا أبا حسن لها قال
الخليل : نجعله نكرة . فقلت : كيف يكون هذا وإنّما أرادوا عليّاً عليه السلام فقال
: لأنّه لا يجوز لك أن تعمل لا إلاّ في نكرة فإذا جعلت أبا حسن نكرة حسن لك أن
تعمل لا وعلم المخاطب أنّه قد دخل في هؤلاء المنكورين . و هيثم اسم رجل كان حسن
الحداء للإبل وقيل كان جيّد الرّعية والسياق يدلّ للأوّل كما )
يظهر . وكذلك قال بعض شرّاح أبيات المفصّل : المراد هيثم بن الأشتر وكان مشهوراً
بين العرب بحسن الصوت في حدائه الإبل وكان أعرف أهل زمانه بالبيداء والفلوات وسوق
الإبل . و للمطيّ خبر لا وهو ظرف مستقر عامل في اللّيلة وبعده : ولا فتى مثل ابن
خبيري
____________________
ّ
قال الصّاغانيّ في العباب : ذكر مثل هنا يعيّن أن يكون ما قبله بتقدير لا مثل هيثم
وابن خبيريّ : قال ابن الكلبيّ في جمهرة نسب عذرة : فمن بني ضبيس جميل بن عبد الله
بن معمر بن الحارث بن خبيريّ بن ظبيان اه .
وجميل هذا هو صاحب بثينة المشهور وهو المراد بابن خبيريّ : فيكون نسب إلى أحد
أجداده . ومدحه بالفتوّة لأنّه كان شجيعاً يحمي أدبار المطيّ من الأعداء .
وقال بعضهم : المراد بابن خبيريّ عليّ رضي الله عنه والإضافة للملابسة . وهذا لا
أصل له .
وقيل : أراد به مرحبا وهو الذي بارزه عليّ رضي الله عنه يوم خيبر فقتله .
وهذا الشاهد من أبيات سيبويه الخمسين التي لم يعيّن قائلها . وقد أورد هذين
البيتين أبو عبيد في الغريب المصنّف مع أبيات قبلهما وهي : الرجز ( قد حشّها
اللّيل بعصلبيّ ** مهاجر ليس بأعرابيّ ) ( أروع خرّاج من الدّوّيّ ** عمرّسٍ كالمرس
الملويّ ) قال الصاغانيّ في العباب : العصلبيّ بفتح العين وسكون الصاد المهملتين :
الشديد الباقي على المشي والعمل . وأنشد الأبيات على الفرّاء في نوادره لبعض بني
دبير بضم الدال وفتح الموحدة مصغراً وهي قبيلة من بني أسد .
وقال شارح شواهد الغريب ابن السّيرافيّ : يقال حشّ النّار يحشّها حشّاً إذا بالغ
في إيقادها وإحمائها . وإنما يريد أنّ الإبل قد رميت برجل عصلبيّ يسرع سوقها ولا
يدعها تفتر كما تحشّ النّار . وحشّ بحاء مهملة وشين معجمة .
ويروى :
____________________
قد
لفّها اللّيل أي : الليل جعل هذا الرّجل ملتفاً بها . وإنّما نسب الفعل إلى اللّيل
لأنّ الليل حمله على الجدّ في السير . وجعله مهاجراً والمهاجر الذي هاجر إلى
الأمصار من البادية فأقام بها وصار من أهلها )
ليكون سيره أشدّ . و خصّ المهاجر لأنّه من أهل المصر الذي يقصده فله بالمصر ما
يدعوه إلى إسراع السير ويجوز أن يكون خصّ المهاجر لأنّه أعلم بالأمور من الأعرابيّ
وأبصر بما يحتاج إليه . و الأروع : الحديد الفؤاد . و الدّوّيّ : جمع دوّيّة يريد
أنّه ذو هداية وبصر بقطع الفلوات والخروج منها . و العمرّس : الشديد بفتح العين
والميم وتشديد الراء وبالسين المهملات . و الدّوّيّ بتشديد الواو والياء قال في
الصحاح : الدوّ والدوّيّ : المفازة وكذلك الدوّيّة لأنّها مفازة مثلها فنسبت إليها
كقولهم دهرٌ دوّار ودوّاريّ . وعرف بهذا السّياق أنّه مدحٌ لهيثم في جودة حدائه
المنشط للإبل في سيرها وأنّه لا يقوم أحدٌ مقلمه ولا يسدّ مسدّه في حدائها .
وظهر منه أيضاً أن المراد لا مثل هيثم لا تأويله باسم الجنس لشهرته في صفة الحداء
فتأمّل .
وزعم بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل أنّ هذا الكلام تأسّف وتحسرّ عليهما .
وكأنّه فهم أنهما ماتا والشعر مرثية فيهما . أو هما غائبان عن المطيّ في تلك اللّيلة
. تتمة قال أبو حيّان في تذكرته : قال الكسائيّ في قول العرب لا أبا حمزة لك : أبا
حمزة نكرة ولم ينصب حمزة لأنه معرفة . لكنّهم قدّروا أنّه آخر الاسم المنصوب بلا
فنصب الآخر كما تفتح اللام في لا رجل . وقال : سمعت العرب تقول : لا أبا زيد لك
ولا أبا محمد عندك فعلّة نصبهم محمداً وزيداً أنّهم جعلوا أبا محمد وأبا زيد اسماً
واحداً وألزموا آخره نصب النّكرة . انتهى .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والستّون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الوافر
( أرى الحاجات عند أبي خبيب ** نكدن ولا أميّة في البلاد ) على أن التقدير إمّا :
ولا أمثال أميّة في البلاد وإمّا : ولا أجواد في البلاد لأنّ بني أميّة قد اشتهروا
بالجود . فأوّل العلم باسم الجنس لشهرته بصفة الجود .
وهذا البيت من أبيات لعبد الله بن الزّبير الأسديّ قالها في عبد الله بن الزّبير
بن العوّام وكان شديد البخل قال الحصريّ في زهر الآداب قال أبو عبيدة : وفد عبد
الله بن الزّبير الأسديّ على عبد الله بن الزّبير بن العوّام فقال : يا أمير
المؤمنين إنّ بيني وبينك رحماً من قبل فلانة الكاهليّة وهي عمّتنا وقد ولدتكم فقال
ابن الزّبير : هذا كما وصفت وإن فكرت في هذا وجدت النّاس كلّهم يرجعون إلى أب واحد
وإلى أمّ واحدة .
فقال : يا أمير المؤمنين إنّ نفقتي قد ذهبت . قال : ما كنت ضمنت لأهلك أنّها تكفيك
إلى أن ترجع إليهم . قال : يا أمير المؤمنين إنّ ناقتي قد نقبت ودبرت . قال له :
أنجد بها يبرد خفّها وارقعها بسبتٍ واخصفها بهلبٍ وسر عليها البردين تصحّ . قال :
إنّما جئتك مستحملاً ولم آتك مستوصفاً فلعن الله ناقة حملتني إليك قال ابن الزّبير
: إنّ وراكبها . فخرج وهو يقول :
____________________
(
أرى الحاجات عند أبي خبيبٍ ** نكدن ولا أميّة في البلاد ) ( من الأعياص أو من آل
حربٍ ** أغر كغرّة الفرس الجواد ) ( ومالي حين أقطع ذات عرقٍ ** إلى ابن الكاهليّة
من معاد ) ( وقلت لصحبتي : أدنوا ركابي ** أفارق بطن مكة في سواد ) فبلغ شعره هذا
عبد الله بن الزّبير فقال : لو أعلم أنّ لي أمّاً أخسّ من عمّته الكاهليّة لنسبتي
إليها . وكان ابن الزّبير يكنى أبا بكر وأبا خبيب .
قال الصّوليّ : أخذ المعتصم من محمد بن عبد الملك الزيات فرسا أشهب كان عنده
مكيناً و كان به ضنيناً فقال يرثيه : الكامل ( قالوا جزعت فقلت إنّ مصيبةً ** جلت
رزيّتها وضاق المذهب ) قال أبو بكر الصّوليّ : هكذا أنشدنيه ابن المعتز على أنّ
إنّ بمعنى نعم وأنشد النّحويون : الكامل ) ( قالوا كبرت فقلت إنّ وربّما ** ذكر
الكبير شبابه فتطرّبا ) وكذا نقل السّيوطيّ في تاريخ الخلفاء . وهذه الحكاية عن
تاريخ ابن عساكر من طريق أبي عبيدة .
وقوله : إنّ ناقتي قد نقبت في الصحاح : ونقب البعير بالكسر : إذا رقت أخفافه .
ودبر البعير بالكسر وأدبره القتب إذا جرحه وهي الدّبرة بفتحات . وأنجد إذا أخذ في
بلاد نجد .
وهو من بلاد العرب وهو خلاف الغور وتهامة وكلّ ما ارتفع من تهامة إلى أرض العراق
فهو نجد . ونجد موصوف بالبرد . و السّبت =
4.
|
مجلد 4.خزانة الأدب ولب
لباب لسان العرب
عبد القادر بن عمر البغدادي
= بكسر السين وسكون الموحدة : جلود البقر
المدبوغة بالقرظ تحذى منه النعال السّبتيّة . و الهلب بضم الهاء : شعر الخنزير
الذي يخرز به الواحد هلبة وكذلك ما غلظ من شعر الذنب وغيره . و البردان : العصران
وكذلك الأبردان وهما الغداة والعشيّ ويقال ظلاّهما . ومستحملاً أي : طالباً أن
تحملني على دابة . وأبو خبيب بضم الخاء المعجمة وفتح الموحدة الأولى كنية عبد الله
بن الزّبير كني بأكبر أولاده قال الثعالبيّ في لطائف المعارف : كان له ثلاث كنى :
أبو خبيب وأبو بكر وأبو عبد الرحمن وكان إذا هجي كني بأبي خبيب .
ونكدن من نكد نكداً من باب تعب فهو نكد إذا تعسّر . ونكد العيش نكداً إذا اشتدّ .
و أميّة : أبو قبيلة من قريش وهما أميّتان : الأكبر والأصغر ابنا عبد شمس بن عبد
مناف أولاد علّة فمن أميّة الكبرى أبو سفيان بن حرب والعنابس والأعياص . وأميّة
الصغرى هم ثلاثة إخوة لأمٍّ اسمها عبلة يقال لهم العبلات بالتحريك . و الأعياص
بإهمال الأوّل والآخر هم من قريش أولاد أميّة ابن عبد شمس الأكبر وهم أربعة :
العاص وأبو العاص والعيص وأبو العيص . و ذات عرق بالكسر : ميقات أهل العراق وهو من
مكّة نحو مرحلتين ويقال هو من نجد الحجاز . والصّحبة أراد به الأصحاب وهو في الأصل
مصدر . وادنوا بفتح الهمزة : أمر مسند لجماعة الذكور من الإدناء و ركابي : إبلي .
وأفارق مجزوم في جواب الأمر . وعبد الله بن الزّبير بفتح الزاي وكسر الموحدة قد
تقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع والعشرين بعد المائة .
وروى الاصبهاني في الأغاني هذه الأبيات لعبد الله بن فضالة بن شريك ابن سليمان بن
خويلد وأنهى نسبه إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس بن مضر . )
____________________
قال : وعبد الله بن فضالة هو الوافد على ابن الزّبير والقائل له : إنّ ناقتي قد
نقبت وذكر القصة بعينها إلى قوله فقال له ابن الزّبير : إنّ وراكبها . فانصرف وهو
يقول : ( أقول لغلمتي شدّوا ركابي ** أجاوز بطن مرّ في سواد ) ( فمالي حين أقطع
ذات عرق ** إلى ابن الكاهليّة من معاد ) ( وكل معّبد قد أعلمته ** مناسمهنّ طلاّع
النّجاد ) أرى الحاجات عند ابي خبيب . . . . . . . . . البيتين ثم قال الأصبهانيّ
: وذكر ابن حبيب أنّ هذا الشعر لأبيه فضالة مع ابن الزّبير وزاد فيها : ( شكوت
إليه أن نقبت قلوصي ** فردّ جواب مشدّود الصّفاد ) ( يضنّ بناقة ويروم ملكا **
محالٌ ذاكم غير السّداد ) ( وليت إمارة وبخلت لمّا ** وليتهم بملكٍ مستفاد ) ( فإن
وليت أميّة أبدلوكم ** بكلّ سميدعٍ واري الزّناد ) ( من الأعياص أو من آل حربٍ **
أغرّ كغرّة الفرس الجواد ) ( إذا لم ألقهم بمنّى فإنّي ** بجوّ لا يهشّ له فؤادي )
( سيدنيني لهم نصّ المطايا ** وتعليق الأداوى والمزاد ) ( وظهر معبّد قد أعلمته **
مناسمهنّ طلاّع النّجاد ) مع أبيات ثلاثة آخر . قال ابن حبيب : فلمّا ولي عبد
الملك بعث إلى فضالة يطلبه فوجده قد مات فأمر لورثته بمائة ناقة تحمّل أوقارها
برّاً وتمراً .
قال : والكاهليّة التي ذكرها هي بنت جبيرة من بني كاهل بن اسد وهي أم
____________________
خويلد بن اسد بن وزعم بعض
فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل أنّ الكاهليّة هي أم عبد الله بن الزّبير وهذا
لا أصل له . وزعم أيضاً أن ابن الزّبير صاحب هذه الأبيات اسمه عبد الله بن فضالة
ونقله عن صدر الأفاضل .
وقوله : أقول لغلمتي هو بكسر المعجمة : جمع غلام . و بطن مرّ بفتح الميم : موضع
بقرب مكّة شرّفها الله . وقوله : في سواد أي : في ظلام اللّيل . و نصّ المطايا :
مصدر مضاف إلى مفعوله من نصصت الدّابّة : استحثثها واستخرجت ما عندها من السّير .
و الأداوى بفتح الواو : جمع إداوة بالكسر وهي المطهرة . و المزاد بالفتح : جمع مزادة
وهي شطر الرّواية )
والقياس كسر الميم لأنّها آلة يستقى فيها وهي مفعلة من الزّاد لأنّه يتزوّد فيها
الماء . والطريق المعبّد من التعبيد وهو التذليل . و المناسم : جمع منسم كمجلس :
طرف خفّ الإبل . و طلاّع حال من ضمير المطايا جمع طالعة . و النّجاد بكسر النون
بعدها جيم : جمع نجد ككلب وكلاب وهو ما ارتفع من الأرض . و الصّفاد بكسر الصاد :
ما يوثق به الأسير من قدٍّ وقيد وغلّ أي : أجابني بجواب عاجز مقيّد لا يقدر على
شيء . و السّميدع بفتح السين : السّيد الذي يسهل الوصول إليه . و جوّ بفتح الجيم
وتشديد الواو : اسم موضع . و فضالة بن شريك الأسدي بفتح الفاء أورده ابن حجر في
الإصابة من المخضرمين الذين أدركوا النبيّ صلى الله عليه وسلم ولم يعلم اجتماعهم
به .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث والستون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
الطويل
____________________
( فلا أب وابنا مثل مروان
وابنه ) هذا صدرٌ وعجزه : إذا هو بالمجد ارتدى وتأزّرا على أنّه عطف الابن بالنصب
على لفظ اسم لا المبني ويجوز رفع المعطوف باعتبار محلٌ لا واسمها فإنّهما في محلّ
رفع على الابتداء . وإنّما جاز الرفع لأنّ لا إذا لم تتكرّر في المعطوف وجب فتح
الأول وجاز في الثاني النصب والرفع .
قال أبو عليّ في المسائل البصرية : مثل يحتمل أن يكون صفة وأن يكون خبراً . فإن
جعلته صفةً احتمل أمرين : يجوز أن تنصبه على اللفظ لأنّ اللفظ منصوب فتحمله عليه
وإن حملته على الموضع هنا كان أقبح منه في غير هذا الموضع وذاك أنّك لما عطفت
بالنصب فقد أنبأت أنّه منصوب فإذا رفعته بعد ذلك كان قبيحاً لأنّك كأنّك حكمت
برفعه بعد ما حكمت وهذا عندي أقبح من أن تحمل الأسماء المبهمة على المعنى ثم ترجع
إلى اللفظ لأنّ الاسم كما يعلم منه الإفراد فقد يعلم منه الجمع فتكون دلالته على
ذا كدلالته على ذا ولا يعلم من الرفع النصب ولا من النّصب الرفع فلهذا يستحسن حمل
الصفة هنا على اللفظ . فإن قلت : فصفة )
أيّ الاسمين هو فإنّا لا نقول صفة أحدهما ولكن صفتهما جميعاً ألا ترى أنّه قد أضيف
إلى مروان وعطف ابن عليه فكأنّه قال مثلهما ألا ترى أنّ العطف بالواو نظير التثنية
فكما أنّ مثلهم في قوله تعالى : إنّكم إذاً مثلهم خبر عن جميع الأسماء حيث كان
مضافاً إلى ضمير الجمع كذلك يكون مثل وصفاً للاسمين جميعاً وتضمر الخبر إذا جعلته
صفة .
فإن جعلت مثلاً الخبر رفعت لا غير ولم تضمر شيئاً ومثل ذلك : البسيط
____________________
ولا كريم من الولدان مصبوح
وقد يستقيم أن تجعله هنا وصفاً على الموضع وتضمر ولا يقبح من حيث قبح في قوله :
فلا أب وابنا . فأما : إذا هو بالمجد ارتدى فالعامل في إذا أضمرت . انتهى كلام أبي
علي .
وقال ابن هشام في شرح شواهده : وروى ابن الأنباريّ : إذا ما ارتدى بالمجد ثم
تأزّرا ورواية سيبويه أولى لأن الائتزار قبل الارتداء . والواو لا ترتيب فيها
بخلاف ثمّ و المجد : العزّ والشرّف ورجل ماجد : كريم شريف . و ارتدى : لبس الرداء
. و تأزّر : لبس الإزار : الثّوب الذي يستر النصف الأسفل و الرداء : ما يستر النصف
الأعلى .
قال الأعلم : مدح مروان بن الحكم وابنه عبد الملك بن مروان وجعلهما لشهرة مجدهما
كاللابسين له المرتديين به وجعل الخبر على أحدهما وهو يعنيهما اختصاراً لعلم
السامع اه .
ولقد كذب الشاعر في هذا المدح فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلم قال في حقّ مروان :
الوزغ بن الوزغ .
وهذا البيت من أبيات سيبويه الخمسين التي لا يعرف لها قائل .
وقال ابن هشام في شواهده : إنّه لرجل من عبد مناة بن كنانة والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والستون بعد المائتين ) وهو من شواهد سيبويه :
البسيط ( ألا طعان إلا فرسان عاديةٍ ** إلاّ تجشّؤكم حول التنانير ) على أن لا إذا
تقدمها همزة الاستفهام تعمل كعملها مجردةً منها .
قال سيبويه : واعلم أنّ لا في الاستفهام تعمل فيها بعدها كما تعمل فيه إذا كانت في
الخبر فمن ذلك قوله : ألا طعان . . البيت .
وقال ابن هشام في المعني ألا تأتي للتوبيخ والإنكار كقوله : ألا طعان ألا فرسان .
. . البيت وللتمني كقوله : الطويل ( ألا عمر ولّى مستطاعٌ رجوعه ** فيرأب ما أثأت
يد الغفلات ) ولهذا نصب يرأب لأنّه جواب تمنّ مقرون بالفاء . وللاستفهام عن النفي
كقوله : البسيط
____________________
ألا اصطبار لسلمى أم لها
جلدٌ وفي هذا البيت ردٌّ على من أنكر وجود هذا القسم وهو الشّلوبين . وهذه الأقسام
الثلاثة مختصّة بالدخول على الجملة الاسميّة وتعمل عمل لا التبرئة ولكن تختصّ التي
للتمنّي بأنها لا خبر لها لفظاً ولا تقديراً بأنها لا يجوز مراعاة محلّها مع اسمها
وبأنّها لا يجوز إلغاؤها ولو تكررت .
أمّا الأوّل فلأنّها بمعنى أتمنّى وأتمنّى لا خبر له وأمّا الأخيران فلأنّهما
بمنزلة ليت . وهذا كلّه قول سيبويه ومن وافقه اه . باختصار .
وزعم الزجاجيّ في الجمل أنّ ألا في هذا البيت للتمنّي . وليس كذلك لأنّ البيت من
الهجو ولو كان تمنّياً لما كان ذمّاً .
وهذا البيت من أبيات لحسّان بن ثابت الصّحابيّ رضي الله عنه هجا بها بني الحارث بن
كعب المذحجيّ جعلهم أهل أكل وشرب لا أهل غارة وحرب يقول : لا خيل تعدون بها على
الأقران ولا طعان لكم في نحور الشّجعان إلاّ الأكل والجشاء عند التنانير فليس لكم
رغبةٌ في طلب المعالي وإنّما فعلكم فعل البهائم .
كما قال الآخر : الكامل ( إنّي رأيت من المكارم حسبكم ** أن تلبسوا حرّ الثّياب
وتشبعوا ) ) ( فإذا تذوكرت المكارم مرّةً ** في مجلس أنتم فتقنّعوا )
____________________
وزعم اللّخميّ في شرح
أبيات الجمل أنّ الاستفهام هنا للتقرير قال : قرّرهم على ما علم من أمرهم . فيكون
المقرر النفي وما بعده . و طعان : مصدر طاعن بالرّمح . و الفرسان : جمع فارس . و
عادية بالمهملة والنصب : صفة لفرسان وقيل حال منه والخبر محذوف أي : لكم وهو من
عدا عليه بمعنى اعتدى والمصدر العدوان . والعرب تتمدّح به باعتبار ما يلزمه من
الشجاعة . وقيل : هو من العدو أي : الجري وقيل هو بالمعجمة من الغدوّ وهو التبكير
لأنّ العرب تبكر للغارة والحرب . قال النحّاس : وعند أبي الحسن الأول هو الأحسن
لأنّ العادية تكون بالغداة وغيرها . وروي بالرفع على الروايتين على أنّه صفة
لفرسان على الموضع وقيل خبر .
وقوله : إلاّ تجشّؤكم بالنصب على الاستثناء المنقطع قيل : ويجوز رفعه على البدل من
موضع ألا طعان على لغة تميم . قال النحّاس : هذا غلط والصواب عند أبي الحسن النصب
. و التجشّؤ : خروج نفسٍ من الفم ينشأ من امتلاء المعدة يقال : تجشّأ تجشّؤاً
وتجشئة مهموز والاسم الجشاء بضم الجيم وفتح الشين . قال الأصمعيّ : ويقال الجشاء
على فعال كأنّه من باب العطاس والسعال .
قال اللّخميّ : وروي : إلاّ تحشؤكم بالحاء المهملة مأخوذ من المحشأ وهو الكساء
الغليظ الذي والمحشأ على وزن مفعل والجمع المحاشئ بالهمز على وزن مفاعل . و
التّنانير : جمع تنّور وهو ما يخبز فيه الخبز .
والأبيات هذه برمتّها : البسيط ( حار بن كعبٍ ألا أحلام تزجركم ** عنّا وأنتم من
الجوف الجماخير ) ( لا عيب بالقوم من طولٍ ولا عظمٍ ** جسم البغال وأحلام العصافير
)
____________________
( كأنّهم قصبٌ جوفٌ مكاسره
** مثقّب فيه أرواح الأعاصير ) ( دعوا التّخاجؤ وامشوا مشيةً سجحا ** إنّ الرجال
أولو عصبٍ وتذكير ) ( لا ينفع الطّول من نوك القلوب ولا ** يهدي الإله سبيل المعشر
البور ) ( إنّي سأنصر عرضي من سراتكم ** إنّ الحماس نسيٌّ غير مذكور ) ( ألفى أباه
وألفى جدّه حبسا ** بمعزلٍ عن معالي المجد والخير ) )
ألا طعان ألا فرسان عاديةٍ . . . . . . . . . . . . . البيت كذا في شرح أبيات
الجمل لابن السيد وغيره من رواية محمد بن حبيب لديوان حسّان .
وقوله : حار بن كعب هو مرخّم حارث وبه استشهد الزّجاجيّ في جمله . و الأحلام :
العقول جمع حلم بالكسر . و الجوف بضم الجيم : جمع أجوف وهو الخالي الجوف . و
الجماخير : جمع جمخور بضم الجيم والخاء المعجمة بينهما ميم ساكنة هو العظيم الجسم
الخوّار .
وقوله : لا عيب بالقوم روي أيضاً : لا بأس بالقوم . يريد أنّ أجسامهم لا تعاب وهي
طويلة عظيمة ولكنّها كأجسام البغال لا عقول لها . هكذا رواه الناس ورواه الزمخشريّ
: جسم الجمال وأحلام الخ عند قوله تعالى : حتى يلج الجمل في سمّ الخياط على أنّ
الجمل مثلٌ في عظم الجرم وهذا مثل قول بعضهم : الوافر ( وقد عظم البعير بغير لبٍّ
** فلم يستغن بالعظم البعير ) وقال آخر : الطويل ( فأحلامهم حلم العصافير دقةً **
وأجسامهم جسم الجمائل أو أجفى )
____________________
وهذان البيتان أوردهما
سيبويه على رفع الجسم والأحلام على إضمار مبتدأ لما أراد من تفسير أحوالهم دون
القصد إلى الذم .
والتقدير أجسامهم أجسام البغال وأحلامهم أحلام العصافير : عظماً وحقارة . ويجوز أن
يريد لا أحلام لهم كما أنّ العصفور لا حلم له ولو قصد به الذمّ فنصبه بإضمار فعل
لجاز .
قال ابن خلف : ذكر سيبويه هذا الشعر بعد أبيات أنشدها وذكر فيها أسماءً قد نصبت
على وقوله : ولم يرد أن يجعله شتماً يريد أنّه لم يجعله شتماً من طريق اللفظ إنّما
هو شتمٌ من طريق المعنى وهو أغلظ من كثير من الشتم . وأفرد الجسم وهو يريد الجمع
ضرورة كقوله : الرجز في حلقكم عظمٌ وقد شجينا وقوله : كأنهم قصب الخ هو جمع قصبة و
الجوف جمع أجوف كما مرّ . و مكاسره مبتدأ جمع مكسر أي : محلّ الكسر و مثقب خبره و
الأرواح : جمع ريح . و التخاجؤ بعد المثناة الفوقية خاء معجمة وبعدها جيم بعدها
همزة هو مشي فيه تبختر . و المشية السّجح )
بضم السين المهملة والجيم بعدها حاء مهملة : السّهلة الحسنة . و أولو عصب : أصحاب
شدّة خلق يقال : رجل معصوب الخلق أي : مدمجه . والتذكير : كونهم على خلقة الذكور .
و النّوك بضم النون : الحماقة . و البور : جمع بائر وهو الهالك . و الحماس بكسر
الحاء المهملة بعدها ميم فرقة من بني الحارث بن كعب . و النّسيّ : المنسيّ الخامل
الذكر .
____________________
وقوله : حبسا بالبناء للمفعول من الحبس . و المجد : الشرف . و الخير بكسر المعجمة
: الكرم .
وسبب هجو حسّان بني الحارث أنّ النّجاشيّ وهو من رهط الحارث بن كعب هجا بني ( لستم
بني النّجّار أكفاء مثلنا ** فأبعد بكم عنّا هنالك أبعد ) ( فإن شئتم نافرتكم عن
أبيكم ** إلى من أردتم من تهامٍ ومنجد ) قال السّكريّ في ديوان حسّان : ذكروا أنّ
الأنصار اجتمعوا في مجلس فتذاكروا هجاء النّجاشيّ إيّاهم فقالوا : من له فقال
الحارث بن معاذ بن عفراء : حسّان له .
فأعظم ذلك القوم فتوجّه نحوه والقوم كلّهم معظمٌ لذلك فلمّا دخل عليه كلّمه فقال :
أين أنتم هم ابني عبد الرحمن قال : إيّاك أردنا قد قاوله عبد الرحمن فلم يصنع
شيئاً . فوثب وقال : كن وراء الباب واحفظ ما ألقي . فضربته زافرة الباب فشجتّه على
حاجبه فقال : بسم الله ثم قال : اللهم اخلف فيّ رسولك اليوم صلى الله عليه وسلم
قال الحارث : فعرفت حين قالها ليغلبنّه . فدخل وهو يقول : الكامل ( أبني الحماس
أليس منكم ماجدٌ ** إنّ المروءة في الحماس قليل )
____________________
( يا ويل أمّكم وويل أبيكم
** ويلاً تردّد فيكم وعويل ) إلى أن قال : فاللؤم حلّ على الحماس فما لهم كهلٌ
يسود ولا فتىً بهلول ثم مكث طويلاً في الباب يقول : والله ما بلغت ما أريد . ثم
ألقى عليّ : حار بن كعبٍ ألا أحلام ثم قال للحارث : اكتبها صكوكا فألقها إلى غلمان
الكتّاب قال الحارث : ففعلت فما مرّ بنا بضع وخمسون ليلةً حتّى طرقت بنو عبد
المدان حسّان بالنّجاشيّ موثقاً فقال حسّان لبنته : نادي بأبيات أطم حسّان ليأتيك
قومك فيحضروا . فلم يبق أحدٌ إلاّ جاء ومعه السّلاح .
فلما اجتمع النّاس وضع له منبر ونزل وفي يده مخصرة فقام عبد الله بن عبد المدان
فقال : يا )
ابن الفريعة جئناك بابن أخيك فاحكم فيه برأيك فأتى بالنّجاشيّ فأجلس بين يديه
واعتذر القوم فقال حسّان لابنته : هاتي البقيّة التي بقيت من جائزة معاوية . فأتته
بمائة دينار إلاّ دينارين فقال : دونك هذه يا ابن أخي . وحمله على بغلةٍ لعبد
الرحمن فقال له ابن الديّان : كنّا نفتخر على النّاس بالعظم والطّول فأفسدته علينا
. قال : كلاّ أليس أنا الذي أقول : الوافر ( وقد كنّا نقول إذا رأينا ** لذي جسمٍ
يعدّ وذي بيان ) ( كأنك أيّها المعطى بياناً ** وجسماً من بني عبد المدان ) انتهى
ما أورده السكّريّ .
وعبد المدان : هو ابن الديّان بن قطن بن زياد بن الحارث بن مالك بن ربيعة بن مالك
بن كعب بن الحارث بن كعب بن عمرو بن علة بضم المهملة وخفّة اللام
____________________
ابن جلد بفتح الجيم وسكون
اللام ابن مالك بن أدد .
وترجمة حسّان بن ثابت تقدّمت في الشاهد الحادي والثلاثين . و النجاشي اسمه قيس بن
عمرو من رهط الحارث بن كعب وكان فيما روي ضعيف الدين : ذكر أنه شرب الخمر في رمضان
وثبت خبره عند عليّ عليه السلام فجلده مائة سوطٍ فلمّا رآه قد زاد على الثمانين
صاح به : ما هذه العلاوة يا أبا الحسن فقال عليّ رضي الله عنه : لجراءتك على الله
في رمضان .
قال ابن هشام اللّخميّ في شرح أبيات الجمل : روي أنّه لما هاجى النّجاشيّ عبد
الرحمن بن حسّان أعانه أبوه بالشعر المذكور .
وروي من طريق أخرى أنّه لما مضت مدّة لمهاجاة عبد الرحمن بن حسان للنّجاشيّ علم
بذلك أبوه حسّان فقال له : يا عبد الرحمن أرني ما جرى بينك وبين الحارثي . فأنشده
لنفسه وللحارثيّ فقال له : يا عبد الرحمن إنّي أراه قد أكلك فهل تحبّ أن أعينك قال
: نعم يا أبت . فقال حسّان الأبيات المذكورة .
ثم ذكر بقيّة القصّة من كتاف النّجاشيّ وعفو حسّان عنه . والله أعلم أيّ ذلك كان .
تتمة كون البيت الشاهد لحسّان هو ما رواه السكّريّ وغيره من جملة الأبيات المذكورة
إلاّ ابن السيرفيّ والزّمخشريّ فإنّه رواه في شرح أبيات سيبويه من قصيدة لخداش بن
زهير يخاطب بها )
بعض بني تميم من أجل مسابقةٍ كانت بينهم وبين كرز ابن ربيعة وهو من رهط خداش وأوّل
القصيدة : البسيط
____________________
( أبلغ أبا كنف إمّا عرضت
له ** والأبجرين ووهباً وابن منظور ) ( ألا طعان ألا فرسان عاديةٍ ** إلاّ تجشّؤكم
حول التنانير ) ( ثم احضرونا إذا ما احمر أعيننا ** في كلّ يوم يزيل الهام مذكور )
( تلقوا فوارس لا ميلاً ولا عزلا ** ولا هلابيج روّاثين في الدّور ) ( تلقوا
أسيداً وعمراً وابن عمّهما ** ورقاء في النّفر الشّعث المغاوير ) ( من آل كرز غداة
الروّع قد عرفوا ** عند القتال إلى ركنٍ ومحبور ) ( يحدون أقرانهم في كلّ معتركٍ
** طعناً وضرباً كشقٍّ بالمناشير ) وهي قصيدة تزيد على عشرين بيتاً أوردها أبو
محمد الأعرابيّ في فرحة الأديب وقال : كان من قصّة هذا الشعر أنّ أوّل ما هاج بين
قريش وبين بني عامر ابن صعصعة أن كرز بن ربيعة بن عمرو بن عامر بن ربيعة بن عامر
بن صعصعة راهن أسيداً وعمراً وعبد الله بني العرقة من بني تيم بن غالب وهم تيمٌ
الأدرم على فرسٍ لهم يقال له البرق والسّبق ثلاثون ناقة .
وجعلوا المدى والمضمار إلى كرز فجعل المدى ما بين السّجسج إلى ذات الفلج وحمل كرز
على فرسه المجالد بن زهير بن ربيعة بن عمرو بن عامر فجاء سابقاً وهلك البرق فأخذ
السّبق وناشدوه في ردّه فأبى فلبثوا قريباً من سنتين ثم ركب بنو العرقة فلقوا أسيد
بن مالك وعمرو بن مالك وعثمان بن أسيد من بني
____________________
عامر بن ربيعة بأسفل
العقيق في إبل لهم فيها بكرة يقال لها العنب عشراء فطردوا الإبل فاستقبلها عثمان
بن أسيد ينفر بثوبه وبعث أمةً نحو أبيه وعمه مغوثاً فركب أبوه فرساً كبيرة وركب
عمّه بنتها فرساً صعبة .
فلمّا لحق بالقوم قال عمرو بن مالك : أعلمونا من أنتم قالوا : قريش قالوا : وأيّهم
قالوا : بنو العرقة . قالوا : فهل كان منا حدث قالوا : لا إلاّ يوم البرق فقال لهم
: احبسوا العنب احبسوا العنب احبسوا اللّقحة لقحة من لا يغدر فقال لهم عمرو : لا
والله لا ترضع منها قادماً ولا آخراً قال : إنّا لا نرضع الإبل ولكن نحتلبها .
وحمل عليه فقتله وحمل أسيد بن مالك على أسيد بن العرقة فقتله فقال في ذلك : الرجز
( إنّي كذاك اضرب الكميّ ** ولم يكن يشقى بي السّميّ ) )
فذلك يوم العنب .
وقال خداش بن زهير في ذلك : المتقارب ( كذاك الزّمان وتصريفه ** وتلك فوارس يوم
العنب ) ثم وقع بينهم بعد ذلك التغاور والقتال فقال في ذلك خداش بن زهير القصيدة
التي منها : ألا طعان ألا فرسان عادية البيت
____________________
وخداش بن زهير شاعر جاهليّ
وقيل مخضرم كما يأتي في الشاهد الرابع والعشرين بعد الخمسمائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والستون بعد المائتين ) البسيط ( ألا سبيل إلى خمر
فأشربها ** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج ) على أن ألا فيه للتمني . ولهذا سمّيت
قائلة هذا البيت المتمنّية وضرب بها المثل فقيل : أصبّ من المتمنية وضرب به المثل
أيضاً فقيل أدنف من المتمني كما يجيء شرحه .
قال ابن برّيّ في شرح أبيات الإيضاح للفارسي : وقبله : ( يا ليت شعري عن نفسي
أزاهقةٌ ** منّي ولم أقض ما فيها من الحاج ) وأنشده الفارسيّ على أن خبر ليت محذوف
. قال ابن برّيّ : والبيت لفريعة بنت همّام وتعرف بالذلفاء وهي أمّ الحجّاج .
انتهى .
وقال حمزة الأصبهانيّ في الدّرّة الفاخرة : وأما قولهم أصبّ من المتمنية فإنّ هذا
المثل من أمثال أهل المدينة سار في صدر الإسلام . والمتمنية : امرأة مدينة عشقت
فتىً من بني سليم يقال له نصر بن الحجّاج بن علاط وكان أحسن أهل زمانه صورةً فضنيت
من أجله ودنفت
____________________
فقال أحمد بن أعنم في
الفتوح كان السبب في ذلك : أنّ امرأة من أهل المدينة يقال لها الذّلفاء هويت نصر
بن الحجّاج فأرسلت إليه ودعته إلى نفسها فزجرها ولم يوافقها فبينا عمر ذات ليلة
يعسّ في بعض سكك المدينة إذ سمع نشيد شعرٍ من دار فوقف يسمع فإذا الذّلفاء تقول :
ألا سبيل إلى خمر فأشربها البيت فلما سمع عمر الشعر أمر الذلفاء فأخرجت من منزلها
فحسبها فعلمت الذّلفاء أنّه قد سمعها )
وهي تنشد الشعر فكأنها أنفت على نفسها أن يعاقبها فكتبت إليه : قل للإمام الذي
تخشى بوادره الأبيات الآتية فلما نظر عمر في الأبيات أطلقها من الحبس وأرسل إلى
نصر فحلق جمّته ونفاه إلى البصرة .
قال حمزة الأصبهاني : قال النسّابون : هذه المتمنية هي الفريعة بنت همّام أم
الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ وكانت حين عشقت نصراً تحت المغيرة بن شعبة واحتجوا في
ذلك بحديث رووه وهو أنّ الحجّاج حضر مجلس عبد الملك يوماً وعروة بن الزّبير يحدّثه
ويقول : قال أبو بكر كذا وسمعت أبا بكر يقول كذا يعني أخاه عبد الله بن الزّبير
فقال له الحجّاج : عند أمير المؤمنين تكنّي أخاك المنافق لا أمّ لك فقال له عروة :
يا ابن المتمنية ألي تقول لا أمّ لك وأنا ابن إحدى عجائز الجنّة : صفيّة كذا قال
ابن الأثير في المرصّع : ابن المتمنية هو الحجّاج بن يوسف الثّقفيّ من قول أمّه :
ألا سبيل إلى خمرٍ فاشربها . . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
وقد ذكر خبرها مع نصر
جماعةٌ منهم الجاحظ في كتاب المحاسن والمساوي وأبو القاسم الزجاجيّ في أماليه
الوسطى وأبو الحسن علي بن محمد المدائني في كتاب المغرّبين وحمزة الأصبهانيّ في
أمثاله والسهيليّ في الرّوض الأنف وإسماعيل بن هبة الله الموصليّ في كتاب غاية
السّائل إلى معرفة الأوائل وقد جمعت بين ما اتفقوا عليه وبين ما انفردوا به .
وقالوا : أوّل من عسّ باللّيل في الإسلام عمر بن الخطاب رضي الله عنه فبينا يعسّ ليلةً
سمع امرأة تقول : ( ألا سبيل إلى خمرٍ فأشربها ** أم لا سبيل إلى نصر بن حجّاج ) (
إلى فتىً ماجد الأخلاق ذي كرمٍ ** سهل المحيّا كريمٍ غير فجفاج ) كذا رواهما
الجاحظ . وروي المدائني البيت الثاني مع بيتين آخرين لرجل من ولد الحجّاج بن علاط
وهما : ( تنمية أعراق صدق حين تنسبه ** ذي نجداتٍ عن المكروب فرّاج ) ( سامي
النّواظر من بهزٍ له كرمٌ ** تضيء سنته في الحالك الدّاجي ) ( إلى فتىً ماجد
الأعراق مقتبلٍ ** تضيء صورته في الحالك الدّاجي ) ( نعم الفتى في سواد اللّيل
نصرته ** ليائس أو لملهوفٍ ومحتاج ) )
وزاد المدائنيّ :
____________________
( يا منيةً لم أرب فيها
بضائرةٍ ** والنّاس من صادق فيها ومن داجي ) ثم قال : وقال قومٌ : هذا الشعر مصنوع
إلاّ البيت الأول .
فقال عمر : من هذه المتمنية فلزمها هذا الاسم واستلبه نساء المدينة فضربن به المثل
وقلن : أصب من المتمنية .
وقال الزجاجيّ : د لما أنشدت : ألا سبيل إلى خمر فاشربها . . . . . . . . . . . .
البيت قالت لها امرأة معها : من نصر بن حجّاج قالت : رجلٌ وددت أنّه معي في ليلةٍ
من ليالي الخريف في اطول ليلة من ليالي الشتاء وليس معنا أحد فدعا بها عمر فضربها
بالدّرة ضرباتٍ ثم سأل عنها فلم يخبر عنها إلاّ بخير فلما كان من الغد أرسل إلى
نصر بن حجّاج فأحضره وله شعرة فقال : إنّه ليتمثّل بك ويغني بك وأمر بشعرته فحلقت
ثم راح إلأيه بالعشيّ فرآه في الحلاق أحسن منه الشّعر فقال : لا تساكنّي في بلدة
فاختر أيّ البلدان شئت فكتبت المرأة إلى عمر : البسيط ( قل للإمام الذي تخشى
بوادره ** مالي وللخمّر أو نصر بن حجّاج ) ( إنّي عنيت أبا حفص بغيرهما ** شرب
الحليب وطرف قاصر ساجي ) ( لا تجعل الظّنّ حقّاً أو تيقّنه ** إنا السبيل سبيل
الخائف الرّاجي ) ( إن الهوى زمه التقوى فخّيسه ** حتّى أقرّ بإلجام وإسراج ) فبعث
إليها عمر : لم يبلغنا عنك إلاّ خير
____________________
وقال حمزة : فلما أصبح عمر
أحضر المتمنى فلما رآه بهره جماله فقال له : أنت تتمنّاك الغانيات في خدورهنّ لا
أمّ لك أما والله لأزيلنّ عنك الجمال ثم دعا بحجّام فحلق جمّته ثم تأمّله فقال :
أنت محلوقاً أحسن فقال : وأيّ ذنب لي في ذلك فقال : صدقت الذنب لي إذا تركتك في
دار الهجرة .
ثم أركبه جملاً وسيرّه إلى البصرة وكتب به إلى مجاشع بن مسعود السّلميّ : بأنّي قد
سيّرت المتمنى نصر بن حجّاج السّلميّ إلى البصرة . )
وكما قالوا بالمدينة : أصبّ من المتمنية قالوا بالبصرة : أدنف من المتمنى وذلك أن
نصر بن حجّاج لما ورد البصرة أخذ النّاس يسألون عنه ويقولون : أين المتمنى الذي
سيّره عمر فغلب هذا الاسم عليه بالبصرة كما غلب ذلك الاسم على عاشقته بالمدينة .
ومن حديث هذا المثل الثاني : أنّ نصراً لما نزل البصرة أنزله مجاشع بن مسعود منزله
من أجل قرابته وأخدمه امرأته شميلة وكانت أجمل امرأةٍ بالبصرة فعلقته وعلقها وخفي
على كلّ واحد منهما خبر الآخر لملازمة مجاشع لضيفه وكان مجاشعٌ أميّاً ونصرٌ
وشميلة كاتبين فعيل صبر نصر فكتب على الأرض بحضرة مجاشع : إنّي أحببتك حبّاً لو
كان فوقك لأظلّك أو تحتك لأقلك . فوقعت تحته غير محتشمة : وأنا كذلك . فقال مجاشع
لها : ما الذي كتب فقالت : كتب كم تحلب ناقتكم . فقال : وما الذي كتبت قالت : كتبت
وأنا . فقال مجاشع : ما هذا لهذا بطبق فقالت : أصدقك إنّه كتب كم تغلّ أرضكم .
فقال مجاشع ما بين كلامه وجوابك هذا أيضاً قرابة ثم كفأ على الكتابة جفنة ودعا
بغلام من الكتّاب فقرأه عليه فالتفت إلى نصر فقال : يا ابن عمّ ما سيّرك عمر إلى
خير قم فإنّ وراءك أوسع لك . فنهض مستحيياً وعدل إلى منزل بعض السّلمييّن ووقع
لجنبه وضني
____________________
من حبّ شميلة ودنف حتّى
صار رحمةً وانتشر خبره فضرب نساء البصرة به المثل فقلن : أدنف من المتمنّى .
ثم إنّ مجاشعاً وقف على خبر علّة نصر فدخل عليه عائداً فلحقته رقّة لما رأى به من
الدّنف فرجع إلى بيته وقال لشميلة : عزمت عليك لّما أخذت خبزاً فلبكته بسمن ثمّ
بادرت به إلى نصر .
فبادرت به إليه فلم يكن به نهوض فضمّته إلى صدرها وجعلت تلقمه بيدها فعادت قواه
وبرأ كأن لم تكن به قلبه فقال بعض عوّاده : قاتل الله الأعشى حيث قال : السريع (
لو أسندت ميتاً إلى نحرها ** عاش ولم ينقل إلى قابر ) فلمّا فارقته عاوده النّكس
ولم يزل يتردّد في علّته حتّى مات منها . كذا قال حمزة وصاحب الأوائل .
وقال المدائنيّ : إن عمر لما أخرج نصراً من المدينة إلى البصرة قال نصر : يا أمير
المؤمنين أعلمهم أنّك إنّما أخرجتني لهذا الشّعر لا لغيره .
وروي عن قتادة أن نصراً لما أتى البصرة دخل مجاشع بن مسعود عائداً له وعنده شميلة
بنت جنادة بن أبي أزيهر فجرى بينهما كلامٌ ولم يفهم منه مجاشع إلاّ كلمةً واحدة من
نصر : قال : وأنا . )
فلما خرج نصرٌ قال لها : ما قال لك قالت : قال لي : كم لبن ناقتكم هذه فأخبرته قال
: ما هذا جواب كلامه وأرسل إلى نصر فسأله وأعظم عليه فقال : قالت لي إنّي أحبّك
حبّاً شديداً لو كان فوقك لأظلّك ولو كان تحتك لأقلّك فقلت : وأنا . قال : فأنزل
لك عنها قال : أذكّرك الله أن يبلغ هذا مع ما فعل
____________________
بي وأما حديث العامّة
فيقولون : كتبت له في الأرض هذا الكلام فقال : وأمّا الزّجّاج فإنّه قال بعد ما
قرأ خطّها : ثم التفت إليه فقال : يا أخي إن يكن الطّلاق ثلاثاً فهي طالقٌ ألفاً
فقال : وهي طالقٌ إن جمعني وإيّاها بيتٌ أبدا ثمّ ارتحل إلى فارس .
وقال في امرأة مجاشع : كانت امرأته يقال لها خضراء بني سليم وكانت من أجمل النساء
. وهي أوّل من لبس الشّفوف .
وحكى السّهيليّ في الروض الأنف هذه الحكاية على خلاف ما تقدّم قال : الحجّاج بن
علاط وهو والد نصر الذي حلق عمر رأسه ونفاه من المدينة فأتى الشام فنزل على أبي
الأعور السّلميّ فهويته امرأته وهويها وفطن أبو الأعور لذلك بسببٍ يطول ذكره
فابتنى له قبّة في أقصى الحيّ فكان بها فاشتدّ ضناه بالمرأة حتّى مات كلفاً بها
وسميّ المضنى وضربت به الأمثال .
وذكر الأصبهانيّ في كتاب الأمثال له خبره بطوله . انتهى .
قال المدائنيّ وصاحب الأوائل : وبعد أن أقام نصرٌ بالبصرة حولاً كتب إلى عمر رضي
الله عنه : الطويل ( لعمري لئن سيّرتني أو حرمتني ** وما نلت ذنباً إنّ ذا لحرام )
( ومالي ذنبٌ غير ظنٍّ ظننته ** وفي بعض تصديق الظّنون أثام ) ( ظننت بي الظّنّ
الذي ليس بعده ** بقاءٌ ومالي في النّديّ كلام ) ( وأصبحت منفيّاً على غير ريبةٍ
** وقد كان لي بالمكّتين مقام ) ( ويمنعني ممّا تظنّ تكرّمي ** وآباء صدقٍ سالفون
كرام ) ( ويمنعها ممّا تمنّت صلاحها ** وطول قيامٍ ليلها وصيام ) ( فهاتان حالانا
فهل أنت راجعي ** وقد جبّ منّي كاهلٌ وسنام )
____________________
قال الجاحظ : ردّه عمر بعد
هذه الأبيات لما وصف له من عفّته .
وقال صاحب الأوائل : فلما وصلت الأبيات إلى عمر ونظر فيها كتب إلى أبي موسى
الأشعريّ )
وأمره بالوصاة به إن أحبّ أن يقيم بالبصرة وإن أحبّ الرّجوع إلى المدينة فذاك إليه
. قال : فاختار الفتى المقام بالبصرة فلم يزل مقيماً بها إلى أن خرج أبو موسى إلى
محاربة أهل الأهواز فخرج معه نصر بن حجّاج في الجيش وحضر معه فتح تستر . انتهى .
وروى الزجّاجيّ في أماليه أن نصراً أرسل هذه الأبيات إلى عمر حين نفاه إلى البصرة
فبعث إليه عمر : أن لا رجعة . فارتحل إلى البصرة فنزل على مجاشع إلى آخر الحكاية .
هذا ما طلّعت عليه ولا يخفى ما فيه من جميع الجهات حتى في البيت الشاهد فالرواية
المتقدمة هي رواية الجاحظ وحمزة الأصبهانيّ والسّهيليّ . ( هل من سبيلٍ إلى خمرٍ
فأشربها ** أم من سبيلٍ إلى نصر بن حجّاج ) وروى صاحب الأوائل : ( هل من سبيلٍ إلى
خمر فأشربها ** أم هل سبيلٌ إلى نصر بن حجّاج ) وهاتان الرّوايتان لا يناسبان
تسمية المرأة بالمتمنّية وتسمية نصر بالمتمنّى . وروى الزّجاجيّ المصراع هكذا : أم
هل سبيل إلى نصر بن حجّاج ورواه أبو عليّ الفارسيّ في إيضاح الشعر عن أبي عبيدة :
أو لا سبيل إلى نصر بن حجّاج
____________________
على أنّ أو بمعنى الواو .
قال : تمنّتهما جميعاً وجعله مثل أو في قوله : ( وكان سيّان ألاّ يسرحوا عنماً **
أو يسرحوه بها واغبرّت السّوح ) وأشربها منصوب بأن مضمرة بعد الفاء في جواب
التّمنّي .
وأنشد بعده : الوافر ( ألا رجلاً جزاه الله خيراً ** يدلّ على محصّلةٍ تبيت ) على
أنّ يونس قال : أصله ألا رجل فنوّن للضرورة وألا عنده فيه للتّمنّي .
وعند الخليل ليست للتمنّي وإنّما هي للتحضيض ورجلاً منصوب بفعل محذوف تقديره : ألآ
ترونني رجلاً بضم تاء ترونني .
وقد تقدم شرح هذا البيت مفصّلاً في الشاهد الثالث والستين بعد المائة .
وفي هذا البيت تضمين لأن خبر تبيت في بيت بعده وهو : )
____________________
( ترجّل لمّتي وتقمّ بيتي
** وأعطيها الإتاوة إن رضيت ) وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والستون بعد
المائتين ) وهو من شواهد س : البسيط ( ويلمّها في هواء الجوّ طالبةً ** ولا كهذا
الذي في الأرض مطلوب ) على أنّ قوله : مطلوب عطف بيان لاسم لا المضاف : فإن الكاف
اسمٌ مضاف لاسم الإشارة في محل نصب بلا على أنه اسمها وقد تبعه البيان بالرفع
باعتبار أنّ لا مع اسمها في محلّ رفع على الابتداء والخبر محذوف أي : موجود ونحوه
. ويجوز أن يكون مطلوب صفة اسم لا ولا يضرّ إضافة الكاف إلى اسم الإشارة فإنها
بمعنى مثل وهي لا تتعرّف بالإضافة إلى المعرفة . هذا محصّل ما قاله الشارح المحقق
.
وفيه أنّهم قالوا : إنّ البيان يكون في الجوامد والصفة تكون في المشتقّات فكيف لا
يكون فرق بين البيان والوصف .
وقد أورد سيبويه هذا البيت من باب الوصف لا غير . قال الأعلم : الشاهد فيه رفع
مطلوب حملاً على موضع الكاف لأنّها في تأويل مثل وموضعها موضع رفع وهو بمنزلة لا
كزيد رجل .
ونقل ابن السراج في الأصول عن سيبويه أنّ اسم لا في مثل هذا محذوف والكاف حرف وهذا
كلامه : وتقول لا كزيد رجلٌ لأنّ الآخر هو الأوّل ولأنّ زيداً رجل وصار لا كزيد
كأنّك قلت : لا أحد كزيد ثم قلت رجل كما تقول
____________________
لا مال له قليل ولا كثير
على الموضع . وقال امرؤ القيس : ويلمّها في هواء الجوّ طالبة . . . . . . . . . .
. البيت كأنه قال : ولا شيء كهذا ورفع على الموضع وإن شئت نصبت على التفسير كأنه
قال : لا احد كزيد رجلاً .
قال سيبويه : ونظير لا كزيد في حذفهم الاسم قولهم : لا عليك وإنما يريدون لا بأس
عليك ولا شيء عليك ولكنه حذف لكثرة استعمالهم إياه . انتهى .
واعلم أنّه يجوز أن يكون مطلوب مبتدأ مؤخراً واسمٍ لا بمعنى ليس والظرف قبله الخبر
. قال النحاس في شرح أبيات الكتاب ناقلاً عن أبي الحسن الأخفش : هذا هو الجيد . )
وقوله : ويلمّها . الخ هذا في صورة الدعاء على الشيء والمراد به التعجب والضمير
المؤنث مفسّر بالتمييز أعني طالبةً المراد بها العقاب وهو تمييز عن النسبة الحاصلة
بالإضافة وقد أوضحها الشارح المحقق في باب التمييز . ومعنى الكلام : ما أشدّ طيران
هذه العقاب في هواء وويل إذا أضيفت فالوجه النصب كقولك ويل زيد لكنها هنا مضمومة
اللام أو مكسورة والأصل ويلٌ لأمّها .
قد تقدم شرح جميع هذا مفصّلاً في الشاهد الحادي عشر والثاني عشر بعد المائتين .
وهذه رواية النحاة وأما الثابت في ديوان امرئ القيس فهوّ : لا كالتي في هواء الجوّ
طالبة البيت و الهواء : الشيء الخالي و الجوّ : ما بين السماء والأرض فهو من قبيلٍ
إضافة الصفة إلأى موصوفها . وأراد بالمطلوب الذئب فإنه وصف عقاباً تبعت ذئباً
لتصيده فتعجّب منها في شدّة طلبها وتعجّب من الذئب أيضاً في سرعته وشدّة هربه منها
.
____________________
وهذا البيت من قصيدة لامرئ القيس وهي : البسيط ( الخير ما طلعت شمسٌ وما غربت **
مطلبٌ بنواصي الخيل معصوب ) ( قد أشهد الغارة الشّعواء تحملني ** جرداء معروقة
اللّحيين سرحوب ) ( كأنّها حين فاض الماء واختلفت ** صقعاء لاح لها بالسّرحة
الذّيب ) ( فأبصرت شخصه من دون مرقبةٍ ** ودون موقعها منه شناخيب ) ( فأقبلت نحوه
في الرّيح كاسرةً ** يحثّها من هواء الجوّ تصويب ) ( كالدّلو بتّت عراها وهي
مثقلةً ** إذ خانها وذمٌ منها وتكريب ) ( لا كالتي في هواء الجوّ طالبةً ** ولا
كهذا الذي في الأرض مطلوب ) ( كالبرق والرّيح مرٌّ منهما عجبٌ ** ما في اجتهادٍ عن
الإسراح تغبيب ) ( فأدركته فنالته مخالبها ** فانسلّ من تحتها والدّفّ مثقوب )
وقوله : الخير ما طلعت الخ الخير مبتدأ و مطّلب خبره ووزنه مفتعل من الطلب فأبدل
وأدغم : و ما مصدرية ظرفية . و معصوب خبر بعد خبر بمعنى مشدود والباء متعلقة بما
قبلها أو بما بعدها ويضمر لأحدهما فهو من التجاذب كقوله تعالى : تثريب عليكم اليوم
يغفر الله لكم . وهذا يشبه
____________________
الحديث وهو : الخيل معقودٌ
بنواصيها الخير إلى يوم القيامة . )
وقوله : قد اشهد الغارة الخ و قد هنا للتكثير و أشهد : أحضر . و الشّعواء بالعين
المهملة : المتفرقة الفاشية . و الجرداء : الفرس القصيرة الشعر . و معروفة اللحيين
أي : قليلة لحم اللّحيين بفتح اللام وهما العظمان اللذان ينبت عليهما الأسنان . و
السرحوب بضم المهملتين : الطويلة الظهر السريعة . وهذا الوصفان مدحٌ في الخيل .
وقوله : كأنها حين فاض الضمير للفرس أي : كأنها حين عرقت فأملأ عرقها . واختلفت أي
: استقت ماءً يريد كأنّها استقت ماءً من شدّة عرقها أو معناه تردّدت هنا وهنا فإنّ
الاختلاف و صقعاء خبر كأنّها وهي العقاب بيضاء الرأس قال في الصحاح : والأصقع من
الخيل والطير وغيرهما : الذي في وسط رأسه بياض يقال : عقابٌ صقعاء والاسم الصّقعة
انتهى . و لاح : ظهر . و السّرحة : شجرة . وقيل موضع يقول : كانت العقاب واقفه
تبصر صيداً فلاح لها الذئب .
وقوله : فأبصرت شخصه الخ المرقبة بالفتح : الموضع العالي الذي يرقب فيه العدوّ .
وموقع العقاب الموضع الذي هي واقفة عليه . و الشّناخيب : رؤوس الجبال أي : بين
موقعها من الذئب وبينه رؤوس جبال عالية .
وقوله : فأقبلت نحوه الخ أي : نحو الذئب . و كسر الطائر : إذا صفّ جناحيه . و
التصويب : الانصباب .
وقوله : صبّت عليه الخ الأمم بفتحتين : القرب يقال : أخذت ذلك من أمم . و الأشقين
: جمع أشقى . وهذا المصراع من إرسال المثل .
وقوله : كالدلو بتّت عراها الخ شبّه هويّ العقاب بسرعة هويّ الدّلو الملأى إذا
انقطع حبلها . و بتّت قطعت من البتّ . و العرا : جمع عروة . و الوذم بفتح الواو
والذال المعجمة : السيور التي بين آذان الدلو وأطراف العراقيّ وهي العيدان
المصلّبة تشدّ من أسفل الدّلو إلى قدر ذراع أو ذراعين من حبل الدلو مما
____________________
يلي الدّلو فإن انقطع
حبلها تعلّقت بالوذم . و التكّريب : شدّ الكرب بفتحتين وهو الحبل الذي يشدّ في وسط
العراقيّ ثمّ يثنّى ثم يثلّث ليكون هو الذي يلي الماء فلا يعفن الحبل الكبير .
وقوله : لا كالتي في هواء الجوّ طالبة الخ قال ابن رشيق في العمدة : هذا البيت عند
دعبل أشعر بيت قالته العرب وبه قدّمه على الشعراء . )
وقوله : كالبرق والريح الخ يقول : إنّ العقاب والذئب مرّهما وسرعتهما كالبرق
والريح . و التغبيب : الفتور والتقصير يقال : غبّب فلان في الحاجة إذا لم يبالغ
فيها وهو من الغبّ بالغين المعجمة بعدها موحدة .
وقوله : فأدركته فنالته الخ و انسلّ أي : انفلت و الدّفّ بفتح الدال وتشديد الفاء
: الجنب يعني أفلت الذئب من العقاب ونجا لكن ثقبت جنبه .
وترجمة امرئ القيس قد تقدّمت في الشاهد التاسع والأربعين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والستون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الكامل (
لا كالعشيّة زائراً ومزورا ) على أنّ زائراً قيل منصوب على تقدير فعل أي : لا أرى
كعشية اليوم زائراً . وإنما لم يجعل الكاف اسماً ل لا مضافاً إلى العشيّة ويكون
زائراً عطف بيان للكاف تبعه على اللفظ أو صفةً على طرز البيت الذي قبله لأنّ
الزّائر غير العشية فلما كان الثاني غير الأوّل لعدم صحّة الحمل جعلت لا نافية
للفعل المقدّر دون كونها نافية للجنس .
____________________
وصاحب هذا القيل هو سيبويه وهذا نصّه : وأما قول جرير : لا كالعشيّة زائراً ومزورا
فلا يكون إلاّ نصباً من قبل أنّ العشيّة ليست بالزائر وإنما أراد لا أرى كالعشيّة
زائراً كما تقول ما رأيت كاليوم رجلاً فكاليوم مثل قولك في اليوم لأنّ الكاف ليست
باسم . وفيه معنى التعجّب كما قال تالله رجلاً وسبحان الله رجلاً إنّما أراد تالله
ما رأيت رجلاً وسبحان الله ما رأيت رجلاً لكنه يترك إظهار الفعل استغناء لأنّ
المخاطب يعلم أنّ هذا الموضع إنّما يضمر فيه هذا الفعل لكثرة استعمالهم إيّاه انتهى
.
قال الأعلم : اصله لا أرى زائراً ومزوراً كزائر العشيّة ومزورها فحذف اختصاراً
للعلم كما قالوا : ما رأيت كاليوم رجلاً أي : كرجل أراه اليوم . ولا تجيزن في هذا
رفع الزائر لأنّه غير العشيّة وليس بمنزلة لا كزيد رجل لأنّ زيداً من الرجال انتهى
. )
وقد نقل أبو العباس ثعلب في أماليه قاعدةً لحذف الفعل مع الظرف الزمانيّ قال : حكى
الكسائيّ نزلنا المنزل الذي البارحة والمنزل الذي آنفا والمنزل الذي أمس . فيقولون
في كلّ وقت شاهدوه من قرب ويحذفون الفعل وحده كأنّهم يقولون : نزلنا المنزل الذي
نزلنا أمس والذي نزلناه اليوم اكتفوا بالوقت من الفعل إذ كان الوقت يدّل على الفعل
وهو قريب . ولا يقولون الذي يوم الخميس ولا الذي يوم الجمعة .
وكذا يقولون : لا كاليوم رجلاً . ولا كالعشيّة رجلاً ولا كالسّاعة رجلاً فيحذفون
مع الأوقات التي هم فيها . وأباه الفرّاء مع العلم . وهو جائز وأنشد : لا كالعشية
زائراً ومزورا
____________________
وكلّ ما كان فيه الوقت
فجائز أن يكون بحذف الفعل معه لأنّ الوقت القريب يدل على فعل لقربه . انتهى .
وقد قدّر أبو عليّ الفارسيّ في المسائل المنثورة فعلين قال : نصب زائراً لأنّ
الفعل مقدّر فكأن تقديره : لا أرى زائراً ومزوراً له كرجل أراه العشيّة . فنصبه
على الفعل وحذف ذلك لما في الكلام من الدّلالة عليه .
ويجوز الرفع هاهنا وهو قبيح لأنّ الزّائر ليس هو العشية ويجوز رفعه كأنّك أردت
كصاحب العشيّة فحذفت صاحباً وجعلت العشيّة إذا رفعتهما دلالة على ما حذفت .
هذا وقد اعترض عليهم الشارح المحقّق في إخراجهم لا هذه عن الباب مع قولهم إنّ
الأصل كزائر العشيّة بتقدير المضاف قال : مع تقديرهم هذا صار الآخر هو الأصل
الأوّل كما في قولك : لا كالعشيّة عشيّةٌ و عشيّةً فيجوز أن يكون زائراً تابعاً
على اللفظ . وهذا حقّ لا ينبغي العدول عنه و أل في العشيّة للعهد الحضوريّ كقوله
تعالى : اليوم أكملت لكم دينكم و العشيّة قال ابن الأنباريّ : مؤنّثة وربّما
دكّرتها العرب على معنى العشيّ .
وقال بعضهم : العشيّة واحدة جمعا عشيّ و العشيّ قيل : ما بين الزوال إلى الغروب
ومنه يقال للظهر والعصر صلاتا العشيّ وقيل هو آخر النهار وقيل من الزّوال إلى
الصبّاح وقيل العشيّ وهذا المصراع عجز وصدره :
____________________
يا صاحبيّ دنا الصبّاح
فسيرا والبيت من قصيدة لجرير بن الخطفى يهجو بها الأخطل النّصرانيّ مطلعها :
الكامل ) ( صرم الخليط تباينا وبكوراً ** وحسبت بينهم عليك يسيرا ) وفيها بيتان من
شواهد الكشّاف أحدهما : في سورة مريم وهو : ( إنّي إذا مضرٌ عليّ تحدّبت ** لاقيت
مطلع الجبال وعورا ) على أنّ اطّلع في قوله تعالى : اطّلع الغيب بمعنى ارتقى من
قولهم اطّلع الجبل . ومطّلع الجبل مصعده ومرتقاه . و وعور : جمع وعر وهو المكان
الخشن الصعب ونصبه إما على أنه مفعول لاقيت ومطّلع الجبال ظرف وإما حال من الجبال
على أنّ المطّلع مصدر أو حال من المطّلع بتقدير تعدّده إضافته إلى متعدّد . وروي
وعورا بفتح الواو : بمعنى أنه من الفخر بمكان لا ينال . و الثاني : في الملائكة
وهو : ( مشق الهواجر في القلاص مع السّرى ** حتّى ذهبن كلاكلاً وصدورا ) أورده عند
قوله تعالى : فلا تذهب نفسك عليهم حسرات . والرواية المعروفة :
____________________
وكذا أنشده سيبويه قال
الأعلم : الشاهد في نصب كلاكلاً بقوله ذهبن نصب التمييز لا نصب التشبيه بالظرف .
وعبر سيبويه عما أراد من نصب هذا ونحوه على التّمييز بذكره الحال لما بين التّمييز
والحال من المناسبة بوقوعهما نكرتين بعد تمام الكلام وتبيينهما للشيء المقصود من
النوع تقول ذهب زيد ظهراً وصدراً وتغيّر وجهاً وجسماً تريد ذهب ظهره وصدره وتغيّر
وجهه وجسمه .
فعبّر سيبويه عن التّمييز بالحال . وعلى هذا يجرى سائر الأبيات انتهى . و المشتق :
الترقيق والإهزال . و الهواجر : جمع هاجرة وهي نصف النهار وقت اشتداد الحرّ . و
السّرى : سير الليل . و من في الرواية الثانية بمعنى مع . و الكلاكل : جمع كلكل
كجعفر وهو الصّدر وعطف عليه الصدر للتفسير أو أنه أراد بالكلكل أعلى الصدر .
وصف رواحل أنضاها دؤوب السير في الهواجر والليل حتّى ذهب لحوم صدرها .
وترجمة جرير قد تقدّمت في الشاهد الرابع في أوّل الكتاب .
وأنشد بعده : يا تيم تيم عديٍّ وهو قطعة من بيت هو : البسيط )
____________________
وقد تقدّم شرحه مفصّلاً في الشاهد الثاني والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والستون بعد المائتين ) الطويل ( وقد مات شمّاخ
ومات مزرّدٌ ** وأيّ كريمٍ لا أباك مخلّد ) على أن إضافة أبا إلى الضمير بدون
اللام شاذّة لا يقاس عليها . قال ابن السرّاج في الأصول : والشاعر قد يضطّرّ فيحذف
اللام ويضيف قال الشاعر : الوافر ( أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ** ملاقٍ لا أباك
تخوّفيني ) وقال الآخر : ( وقد مات شمّاخٌ ومات مزرّدٌ ** وأيّ كريمٍ لا أباك
مخلّد ) وكذا أنشدهما المبرد في الكامل .
قال أبو عليّ في التذكرة قال أبو عثمان : لم يجيء في باب النفي مثل لا أباك مضافاً
بغير لام إلاّ هذا وحده . وأنشد البيتين .
ولا يخفى أن هذا البيت من قصيدةٍ عينيّة لمسكين الدّارميّ وليس فيها الضرورة .
____________________
وأيّ كريم لا أبا لك يمنع وهي قصيدة أورد فيها شعراء كلّ منهم نسب قبره إلى بلده
ومسقط رأسه وذكر حال الشعراء المتقدّمين وأنّهم ذهبوا ولم يبق منهم أحدٌ يصغّر أمر
الدنيا ويحقّره .
وهذه أبيات منها : الطويل ( ولست بأحيا من رجالٍ رأيتهم ** لكلّ امرئ يوماً حمامٌ
ومصرع ) ( دعا ضابئاً داعي المنايا فجاءه ** ولما دعوا باسم ابن دارة أسمعوا ) (
وحصنٌ بصحراء الثّويّة بيته ** ألا إنّما الدّنيا متاعٌ يمتّع ) ( وأوس بن مغراء
القريعيّ قد ثوى ** له فوق أبياتالرّياحيّ مضجع ) ( ونابغة الجعديّ بالرّمل بيته
** عليه صفيحٌ من رخامٍ مرصّع ) ( وما رجعت من حميريّ عصابةٌ ** إلى ابن وثيلٍ
نفسه حين تنزع ) ( أرى ابن جعيلٍ بالجزيرة بيته ** وقد ترك الدّنيا وما كان يجمع )
) ( بنجران أوصال النّجاشيّ أصبحت ** تلوذ به طيرٌ عكوفٌ ووقّع ) ( وقد مات شمّاخٌ
ومات مرزّدٌ ** وأيّ عزيز لا أبا لك يمنع ) ( أولئك قومٌ قد مضوا لسبيلهم ** كما
مات لقمان بن عادٍ وتبّع ) قوله : ونابغة الجعديّ الخ هذا البيت من شواهد سيبويه
وأراد بالرمل رمل بني جعدة وهي رمالٌ وراء الفلج من طريق البصرة إلى مكّة . وابن
وثيل هو سحيم ابن وثيل بن حميريّ . وكعب بن جعيل دفن بجزيرة ابن عمر لأنّها بلاد
بني تغلب
____________________
ودفن النّجاشيّ بنجران
لأنّه من اليمن بلاد بني الحارث بن كعب .
وقوله : وفد مات شمّاخ ومات مزرّد هما أخوان لأب وأمّ وصحابيان وشاعران .
وقد تقدّمت ترجمة الشمّاخ في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة .
واسمه معقل بن ضرار والمزرّد اسمه يزيد بن ضرار وإنّما سمّي مزرّداً بقوله :
الطويل . ( فقلت تزرّدها عبيد فإنّني ** لدرد الموالي في السّنين مزرّدٌ ) ولهما
أخ آخر شقيقهما وهو جزء بن ضرار بفتح الجيم وسكون الزاي بعدها همزة . ومات الشمّاخ
وجزءٌ متهاجرين .
وسبب ذلك على ما روى الكلبيّ أنّ الشمّاخ كان يهوى امرأةً من قومه يقال لها كلبة
بنت جوّال وكان يتحدّث إليها ويقول فيها الشعر فخطبها فأجابته وهمّت أن تتزوجه ثم
خرج إلى سفرٍ له فتزوّجها أخوه جزء فآلى الشمّاخ أن لا يكلمه أبداً وهجاه بقصيدته
التي يقول فيها : الطويل ( لنا صاحبٌ قد خان من أجل نظرةٍ ** سقيم فؤاد حبّ كلبة
شاغلة ) وقوله : لا أبا لك جملة اعتراضيّة بين أيّ عزيز وهو موصوف وبين يمنع وهو
صفة لأيّ .
وكذلك يخلّد ومخلّد على تلك الرواية .
قال المبرّد في الكامل : لا أبا لك هي كلمة فيها جفاء وغلظة والعرب تستعملها عند
الحث على أخذ الحقّ والإغراء وربّما استعملتها الجفاة من
____________________
الأعراب عند المسألة
والطلب فيقول القائل للأمير والخليفة : انظر في أمر رعيّتك لا أبا لك .
وسمع سليمان بن عبد الملك رجلاً من الأعراب في سنة مجدبة يقول : الرجز ( ربّ
العباد ما لنا وما لكا ** قد كنت تسقينا فما بدا لكا ) أنزل علينا الغيث لا أبا
لكا )
فأخرجه سليمان أحسن مخرج . فقال : أشهد أنّه لا أبا له ولا ولد ولا صاحبة وأشهد أن
الخلق جميعاً عباده وهو الأحد الصمد .
وقال رجلٌ من بني عامر بن صعصعة أبعد من هذه الكلمة لبعض قومه : الكامل ( أبني
عقيلٍ لا أبا لأبيكم ** أبيّ وأيّ بني كلابٍ أكرم ) اه .
وقال ابن هشام في شرح بانت سعاد عند قوله : البسيط اعلم أنّ قولهم : لا أبا له
كلامٌ يستعمل كناية عن المدح والذمّ ووجه الأوّل أن يراد نفي النّظير الممدوح بنفي
أبيه ووجه الثاني أن يراد أنّه مجهول النسب . والمعنيان محتملان هنا أمّا الثاني
فواضح لأنّهم لما لم يغنوا عنه شيئاً أمرهم بتخلية سبيله ذامّاً لهم وأمّا الأوّل
فعلى وجه الاستهزاء انتهى .
____________________
وزاد عليه شارحها البغداديّ قال : تقول العرب لا أبا لك ولا أب لك يستعمل في
التفجّع والتعجّب ويقال في المدح والذم وربّما قالوا لا أباك وهو نادر . وأمّا لا
أمّ لك فلا يقال إلاّ في الذّم وحده دلّ على ذلك استقراء كلام العرب .
وقال ابن جنّي في الخصائص : إن قلت إنّ الألف في لا أبا لك تؤذن بالإضافة والتعريف
واللام تؤذن بالفضل والتنكير فقد جمعت على الشيء الواحد في الوقت الواحد معنيين
ضدّين وهما التعريف والتنكير . وهذا كما ترى متدافعان قلت : الفرق واضح فإنّه كلام
جرى مجرى المثل فإنّك لا تنفي في الحقيقة أباه وإنما تخرجه مخرج الدعاء عليه أي :
أنت عندي مّمن يستحقّ أن يدعى عليه بفقد أبيه . كذا فسّره أبو عليّ وكذلك هو
لمتأمّله ألا ترى أنه قد أنشد توكيداً لما رآه من هذا المعنى فيه قوله : الطويل
وتترك أخرى فردةً لا أخا لها ولم يقل لا أخت لها ولكن لّما جرى هذا الكلام على
أفواههم لا أبا لك ولا أخا لك قيل مع المؤنّث على حدّ ما يكون عليه مع المذكّر
فجرى نحواً من قولهم لكلّ أحدٍ : من ذكر وأنثى واثنين واثنتين وجماعة : الصّيف
ضيّعت اللبن على الأنيث لأنّه كذا جرى أوّله .
وأما قوله : ( أبا لموت الذي لا بدّ أنّي ** ملاقٍ لا أباك تخوّفيني ) )
فقد قال شارح أبي عليّ الفارسيّ : هو لأبي حيّة النّميريّ قاله أبو عمرو قال :
جلبه أبو عليّ شاهداً على حذف هذه اللام ضرورة فثبوت الألف في أبا دليل الإضافة
والتعريف ووجود اللام دليل الفصل والتنكير . حذف لام الجرّ وهو
____________________
يريدها ولولا أنّها في حكم
الثّابت في اللفظ لما عملت لا لأنّها لا تعمل إلاّ في نكرة . فأمّا دلالة الألف
فيه وحذف النون من نحو لا يدي بها لك على إرادة الإضافة فلأنّ وجود العمل مانعٌ
فيها من اللفظ فضعف اقتضاء المعنى مع وجود المانع اللفظيّ . فإنّ هذا مثلٌ لم يقصد
به نفي الأب وإنّما قصد به الذمّ . وكذلك لا يدي لك إنّما المراد لا طاقة لك بها .
وهو قياس من النّحويين على قولهم لا أبا لك . وفي الكتاب : لا أبا فاعلم لك وفيه
دليل على أنّه ليس بمضاف . ويجوز أن تكون الألف لام الكلمة كما قال : الرجز فأمّا
قوله تخوّفيني فإنّه أراد تخوفينني فحذف إحدى النونين : فقيل حذف الأولى كما حذف
الإعراب في قول امرئ القيس : السريع فاليوم أشرب غير مستحقبٍ
____________________
وقال المبّرد حذف الثانية
وهو أولى لأنّها إنما زيدت مع الياء لتقي الفعل من الكسرة والأولى علامة الرفع
انتهى كلامه .
وإذا كان الأمر كذلك علم أنّ قولهم لا أبا لك إنّما فيه تعادي ظاهره واجتماع صورتي
الفصل والوصل والتعريف والتنكير لفظاً لا معنى . . . . ونحن إنّما عقدنا فساد
الأمر وصلاحه على المعنى كأن يكون الشيء الواحد في الوقت الواحد قليلاً كثيراً .
هذا ما لا يدّعيه مدّع .
ويؤكد عندك خروجه مخرج المثل كثرته في الشعر وأنّه يقال لمن له أب ولمن ليس له أب
. وهو دعاء في المعنى لا محالة وإن كان في اللفظ خبراً ولو كان دعاءً مصرّحاً
وأمراً مغنيّاً لما جاز أن يقال لمن لا أب له لأنّه إذا كان لا أب له لم يجز أن
يدعى عليه بما هو فيه لا محالة فيعلم أنّه لا حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنّه لا
حقيقة لمعناه مطابقة للفظه وإنّما هي خارجة مخرج المثل قال عنترة : الكامل ( فاقني
حياءك لا أبا لك واعلمي ** أنّي امرؤٌ سأموت إن لم أقتل ) ( ألق الصّحيفة لا أبا
لك إنّه ** يخشى عليك من الحباء النّقرس ) وقال : ) ( أبا لموت الذي لا بدّ أنّي
** ملاقٍ لا أباك تخوّفيني ) أراد : لا أبا لك فحذف اللام .
____________________
وقال جرير : يا تيم تيم عديّ لا أبا لكم وهذا أقوى دليل على كونه مثلاً لا حقيقة .
ألا ترى أنه لا يجوز أن يكون لتيم كلّها أبٌ واحد ولكن معناه كلّكم أهل للدّعاء
عليه والإغلاظ له .
وقال الحطيئة : الطويل ( أقلّوا عليهم لا أبا لأبيكم ** من اللوم أو سدّوا المكان
الذي سدوا ) فإن قلت : فقد أثبت الحظيئة في هذا البيت ما نفيته في البيت قبله فجعل
للجماعة أباً واحداً وأنت قلت إنّه لا يكون لجماعة تيم أبٌ واحد . قيل : الجواب
عنه من وجهين : أحدهما : أنّه مثلٌ لا يريد حقيقة الأب وإنّما غرضه الدّعاء مرسلاً
ففحّش بذكر الأب .
والآخر : يجوز أن يريد بأبيكم الجمع أي : لا أبا لآبائكم يريد الدّعاء على آبائهم
من حيث ( فلمّا تبيّنّ أصواتنا ** بكين وفدّيننا بالأبينا ) انتهى كلامه باختصار .
وأنشد بعده :
____________________
يا بؤس للجهل ضرّاراً
لأقوام هذا عجز وصدره : قالت بنو عامرٍ خالوا بني أسدٍ وقد تقدّم شرحه مفصلاً في
الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والستون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : البسيط (
كأن أصوات من إيغالهنّ بنا ** أواخر الميس إنقاض الفراريج ) على أنّه قد فصل
لضرورة الشعر بالظرف بين المتضايفين . والأصل : كأن أصوات أواخر الميس من إيغالهنّ
بنا إنقاض الفراريج .
في الأصول لبن السرّاج : وقبيح أن تفصل بين الجارّ والمجرور فتقول لا أخا هذين
اليومين لك .
____________________
قال سيبويه : هذا يجوز في ضرورة الشعر لأنّ الشاعر إذا اضطّر فصل بين المضاف إليه
. وأنشد هذا البيت . و من للتعليل و الإيغال : الإبعاد يقال أوغل في الأرض إذا
أبعد فيها حكاه ابن دريد قال : وكل داخلٍ في شيءٍ دخول مستعجل فقد أوغل فيه .
وقال الأصمعيّ في شرح هذا البيت : الإيغال : سرعة الدخول في الشيء يقال أوغل في
الأمر : إذا دخل فيه بسرعة . والضمير للإبل في بيت قبله . و الأواخر : جمع آخره
بوزن فاعله وهي قال ابن حجر في فتح الباري : هو بضمّ أوله ثم همزة ساكنة وأما
الخاء فجزم أبو عبيد بكسرها وجوّز الفتح وأنكر ابن قتيبة الفتح وعكس ذلك ابن مكّيّ
فقال : لا يقال مقدم ومؤخر بالكسر إلاّ في العين خاصة وأمّا في غيرها فيقال بالفتح
فقط . ورواه بعضهم بفتح الهمزة وتشديد الخاء . انتهى .
وقال صاحب الصحاح : ومؤخر العين مثل مؤمن : الذي يلي الصّدغ ومقدمها : الذي يلي
الأنف ومؤخرة الرحل أيضاً لغة قليلة في آخره الرحل وهي التي يستند الراكب إليها .
قال يعقوب : ولا تقل مؤخرّة انتهى . و الميس : بفتح الميم : شجر يتخذ منه الرحال
والأقتاب وإضافة الأواخر إليه كإضافة خاتم فضّة . و الإنقاض : مصدر أنقضت الدّجاجة
: إذا صوّتت وهو بالنون والقاف والضاد المعجمة وروي بدله : أصوات الفراريج جمع
فرّوجة وهي صغار الدّجاج . يريد أنّ رحالهم جدد وقد طال سيرهم فبعض الرحل يحكّ
بعضاً فتصوّت مثل أصوات الفراريج من شدّة السير واضطراب الرحل .
وهذا البيت من قصيدة لذي الرّمّة . ومن أبيات هذه القصيدة قوله : البسيط )
____________________
( وراكد الشّمس أجّاج نصبت
له ** حواجب القوم بالمهريّة العوج ) ( تلوي الثّنايا بأحقيها حواشيه ** ليّ
الملاء بأبواب التّفاريج ) أي : ربّ يوم راكد الشّمس أي : لا تكاد شمسه تزول من
طوله . وأراد بالأجّاج أنّ ذلك اليوم له توهّج واشتعال كالأجّاج بالضم وهو اللهب .
وقوله : نصبت له الخ أي : استقبلته بحواجب القوم . و المهريّة الإبل المنسوبة إلى
مهرة . و العوج التي ضمرت فاعوجّت .
وقوله : إذا تنازع الخ إذا ظرف لقوله نصبت أي : ربّ يوم نصبت له حواجب القوم إذا
تنازع الخ . وأخطأ من جعلها شرطيّة وجعل جوابها البيت الذي بعدها . و الجالان
بالجيم : جانبا بلدٍ مجهل . و قذف بفتح القاف والذال : البعيد . أراد أن الجالين
تنازعا أطراف طريق مطّرد بالحرّ أي : كأنّه ماء يجيء ويذهب يتبع بعضه بعضاً يعني
السّراب فإنّه يطّرد كالماء ونسجه من الحرّ .
وقوله : تلوي الثّنايا فعل وفاعل و وحواشيه مفعول . و الثّنايا : الطّرق في الجبال
. و الأحقى : جمع حقو بفتح فسكون : الوسط وأصل الحقو الخصر وموضع شدّ الإزار
والباء بمعنى على . و الحواشي : الأطراف والنّواحي . والضمير راجع إلى المطّرد
المراد به السّراب . و ليّ الملاء : كطيّها وهو مصدر تشبيهي لقوله تلوي . و الملاء
بالضم والمدّ : الملحفة إذا كانت و التفاريج كما في العباب عن ابن الأعرابيّ :
فتحات الأصابع واحدها تفراج بالكسر وخروق الدّرابزين أيضاً . وأنشد هذا البيت وقال
: الثنايا الطرق في الجبال . يقول : الثنايا تلوي حواشي السّراب أي : بلغ السّراب
أوساط الثّنايا . و حواشيه : أطرافه قال شارح الديوان : الثّنايا تلوي أي : تلفّ
حواشي
____________________
السّراب بأوساطها كما يلوى
الملاء بالمصاريع وقيل الدّرابزين : وما سمعت أنّ الملاء يلوى بمصاريع الأبواب
انتهى .
وجوابه أنّ مراد الشاعر أنّ الستائر توضع وتربط على الدّرابزين وأبوابها للتجمّل
كما يفعله الأغنياء .
وهذا البيت أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : يكور اللّيل على النّهار ويكوّر
النّهار على اللّيل على تشبيه كلّ منهما باللباس الذي يكوّر ويلفّ على اللابس فإنّ
أحدهما لّما كان غاشياً للآخر أشبه اللباس الملفوف على لابسه في ستره إيّاه
واشتماله عليه وتغطيّه به )
كما شبّه ذو الرّمّة طيّ الهضاب حواشي السّراب بطيّ السّتائر بالأبواب .
وقد أخطأ شارح شواهد التفسيرين في قوله : تلوي الثّنايا جواب إذا في البيت الذي
قبله .
فتأمل .
وترجمة ذي الرّمّة قد تقدّمت في الشواهد الثامن في أوائل الكتاب .
____________________
أنشد فيه وهو الشاهد السبعون بعد المائتين وهو من شواهد س : الوافر ( وما إن طبّنا
جبنٌ ولكن ** منايانا ودولة آخرينا ) على أنّ ما الحجازيّة إذا زيد بعدها إن لا
تعمل عمل ليس كما في هذا البيت .
قال الأعلم : إن كافة لما عن العمل كما كفت ما إن عن العمل . والطّبّ بالكسر هاهنا
بمعنى العلّة والسبّب أي : لم يكن سبب قتلنا الجبن وإنّما كان ما جرى به القدر من
حضور المنية وانتقال الحال عنّا والدّولة .
وقال في الصحاح : تقول ما ذلك بطبّي أي : دهري وعادتي . وانشد هذا البيت للكميت .
وهذه النسبة غير صحيحة كما يأتي بيانه قريباً . و الجبن : ضدّ الشّجاعة وهو مصدر
جبن جبناً كقرب قرباً فهو جبانٌ أي : ضعيف القلب .
والجبن المأكول فيه ثلاث لغات أجودها سكون الباء والثانية ضمّ الباء للاتباع
والثالثة وهي أقلّها التشديد كذا في المصباح . و المنايا : جمع منيّة وهي الموت
لأنّها مقدّرة مأخوذة من المنا بوزن العصا وهو
____________________
القدر يقال : مني له أي :
قدّر بالبناء للمفعول فيهما .
روى السيّد علم الهدى المرتضى في أماليه أنّ مسلماً الخزاعيّ ثمّ المصطلقيّ قال :
شهدت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وقد أنشده منشد قول سويد بن عامر المصطلقي :
البسيط ( لا تأمننّ وإن أمسيت في حرمٍ ** إنّ المنايا بكفّي كلّ إنسان ) ( واسلك
طريقك تمشي غير مختشعٍ ** حتّى يبيّن ما يمني لك الماني ) ( فكلّ ذي صاحبٍ يوماً
يفارقه ** وكلّ زادٍ وإن أبقيته فان ) ( والخير والشّرّ مقرونان في قرنٍ ** بكلّ
ذلك يأتيك الجديدان ) فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لو أدركته لأسلم
انتهى . )
وأنشد في الصحاح لهذا المعنى قوله : حتّى تلاقي ما يمني لك الماني وف يحواشيه :
أوّله : ( ولا تقولن لشيءٍ سرف أفعله ** حتّى تبيّن ما يمني لك الخ ) قال : والبيت
لأبي قلابة الهذليّ . والله أعلم . و الدولة بالفتح : الغلبة في الحرب وبالضم تكون
في المال وقيل هما بمعنىً ودالت الأيّام تدول وروى ابن هشام في السيرة بدله :
وطعمة آخرينا .
____________________
وفيه مع ذكر الجبن ما لا يخفى .
وأورد ابن قتيبة في ترجمة خفاف بن ندبة من كتاب الشعراء قوله : الوافر ( فلم يك
طبّهم جبنٌ ولكن ** رميناهم بثالثة الأثاقي ) قال : وهذا مّما يسأل عنه .
أقول : ثالثة الأثافيّ هي الجبل لأنّه يجعل حجران إلى جنبه فيكون الثالث فيقول :
كانوا شجعاناً ليس فيهم جبن ولحكن رميناهم بداهية عظيمة مثل الجبل .
وقد روى أبو عبيدة البيت هكذا : ( فلمّا أن أبوا إلاّ علينا ** رميناهم بثالثة
الأثافي ) وهذا البيت من أبيات لفروة بن مسيك المراديّ رواها أهل السير كابن هشام
والكلاعيّ وغيرهما وهي : ( فإن نغلب فغلاّبون قدماً ** وإن نغلب فغير مغلّبيبنا )
( وما إن طبّنا جبنٌ ولكن ** منايانا وطعمة آخرينا ) ( كذاك الدّهر دولته سجالٌ **
تكرّ صروفه حيناً فحينا )
____________________
( إذا انقلبت به كرّات دهر
** فألقيت الألى غبطوا طحينا ) ( فمن يغبط بريب الدّهر منهم ** يجد ريب الزّمان له
خؤونا ) ( فلو خلد الملوك إذن خلدنا ** ولو بقي الكرام إذن بقينا ) ( فأفنى ذلكم
سروات قومي ** كما أفنى القرون الأوّلينا ) )
قوله : فغير مغلبينا المغلّب المغلوب مراراً . و السّجال بالكسر : مصدر ساجل بساجل
بمعنى ناوب قال الميدانيّ في أمثاله : المساجلة أن تصنع مثل صنيع صاحبك من جري أو
سقي وأصله من السّجل وهي الدّلو فيها ماء قلّ أو كثر . وحقيقة السّجال المغالبة
بالسّقي بالسّجل ومنه المباراة والمفاخرة والمعارضة . و تكرّ : ترجع . و الصّروف :
الحوادث . و الغضارة بالفتح : الخير والخصب . و ألفيت : وجدت . و غبطوا بالبناء
للمفعول من الغبطة اسم من غبطته غبطاً من باب ضرب إذا تمنّيت مثل ما ناله من غير
أن تريد زواله عنه لما أعجبك منه وعظم عندك و ريب الدّهر : ما يحدث منه . و الخؤون
بفتح المعجمة : مبالغة الخائن .
وقوله : فأفنى ذلكم الإشارة لكرّات الدّهر وحوادثه . و السّروات جمع شراة بفتح
السين و فروة بن مسيك صحابيّ أسلم عام الفتح وذلك أنه لما افتتح رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم مكّة ودانت له قريش عرفت العرب أنّهم لا طاقة لهم بحربه فدخلوا في
دين الله أفواجاً فقدمت عليه وفود العرب . وممن قدم فروة بن مسيك المراديّ قدم إلى
المدينة وكان رجلاً له شرف فأنزله سعد بن عبادة عليه ثم غدا على رسول الله صلّى
الله عليه وسلّم وهو جالس في المجلس فسلّم عليه ثم قال : يا رسول الله أنا لمن
ورائي من قومي . قال : اين نزلت يا فروة قال : على سعد بن عبادة . قال : بارك الله
على سعد بن عبادة .
____________________
وكان يحضر مجلس رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ويتعلّم القرآن وفرائض الإسلام .
وكان بين مراد وهمدان قبيل الإسلام وقعةٌ أصابت فيها همدان من مراد وكان يقال لذلك
اليوم يوم الرّزم فقال له رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : يا فروة هل ساءك ما
أصاب قومك يوم الرّزم . قال : يا رسول الله من ذا يصيب قومه مثل ما أصب قومي لا
يسوؤه فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : أما إنّ ذلك لم يزد قومك في الإسلام
إلاّ خيراً .
وفي ذلك اليوم قال فروة هذه الأبيات . واستعمله رسول الله صلى الله عليه وسلّم على
مراد وزبيد ومذحج وبعث معه خالد بن سعيد بن العاصي على الصدقة وكتب فيها كتاباً لا
يعدوه إلى غيره وكان خالدٌ معه في بلاده حتّى توفّي رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
. كذا في وذكر الواقديّ أنّ عمر بن الخطاب رضي اله عنه استعمله أيضاً على صدقات
مذحج . وذكر )
غيره أنه انتقل إلى الكوفة فسكنها .
وأخرج ابن سعد أنّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أجاز فروة باثنتي عشرة أوقيّة
وحمله على بعير نجيب وأعطاه حلّة من نسج عمان .
وفروة : بفتح الفاء وسكون الراء بعدها واو ومسيك : بضم الميم وفتح السين وسكون
الياء ومراد : قبيلة باليمن .
فإن قلت : كيف اعترف بالانهزام مع ما فيه من العار قلت : هذا موقوف على سماع قصتّه
فإن أصحاب المعاني لا يقدرون على فهم مثل هذا إلا بقصّته .
وهي كما رواها أبو محمد الأعرابيّ في فرحة الأديب : أنّه كان صنم مرادٍ
____________________
في أعلى وأنعم وهما بطنان
من مراد فقالت أشرافٌ من مراد : ما بال آلهتنا لا تكون ف يعرانيننا فأرادوا انتزاع
الآلهة منهم فخرجوا منهم فأتوا بني الحارث فاستجاروا بهم وأ سلتن مراد إلى بني
الحارث : أن أخرجوا إخوتنا من داركم وابعثوا إلينا برجلين منكم لنقتلهما بصاحبنا
وكانت مراد تطلب بني الحارث بدم فلمّا رأى الحصين بن يزيد بن قنان أنّ مراداً قد
ألحت في طلب أصحابهم هابهم وهلم أنه لا طاقة له بهم .
وكانت مراد إذا قتل منهم رجلٌ قتلوا به رجلين وكانوا لا يأخذون الدية إلاّ مضاعفة
فسار حصين بن يزيد وهو رئيس بني الحارث إلى عمير ذي مرّان فسأله أن يركب معه إلى
أرحب فيصلح بينه وبينهم ويسألهم الحلف على مراد لأنه كان بينه وبين أرحب دماء .
فركب معه إليهم فأصلح بينهم وسألهم أن ينصروه ويحالفوه على مراد فقال الحصين : يا
معشر أرحب إنّي لست بأسعد بهلاك مرادٍ منكم وكانت أرحب تغاور مراداً قبل ذلك
فحالفته أرحب وغدوا فسار حصين بن يزيد ببني الحارث وسارت البادية من همدان وعليهم
يزيد بن ثمامة الأرحبي الأصمّ .
وأقبلت مراد كأنّهم حرّة سوداء يدفّون دفيفاً وعليهم الحارث بن ظبيان المثلّم وكان
يكنى أبا قيس الأنعمي .
فاقتتلوا بموضع يقال له الرزم إلى جنب أياء قتالاً شديداً فتضعضعت بنو
____________________
الحارث وأقبل عليهم الحصين
فقال : يا بني الحارث والله لئن لم تضربوا وجوه مرادٍ بالسّيوف حتّى يخلوا لكم
العرصة لأتركنكم تنفلون في العرب )
ثم أقبل على بادية همدان فقال : يا معشر همدان الصبّر الصبر لا تقول مراد إنا
لجأنا إلى عدد همدان وعزّها فلم يغنوا عنّا فاقتتل القوم قتالاً شديداً فقتل
الحصين وصبر الفريقان جميعاً فتهيأت بنو الحارث للفرار وتضعضعت أرحب وقد كانوا
أحضروا النساء معهم فجعلوهن خلف ظهورهم فلمّا رأت أرحب النساء قد بدت خلاخيلها
للفرار عادوا للقتال وقالوا : لا نفرّ حتّى يفرّ يغوث وصبروا للقوم وصبرت بنو
الحارث معهم فانهزمت مراد واستذرع القتل فيهم وسبوا نسءً من نسائهم فأدرك الإسلام
وهن في دور همدان .
وقتل يومئذٍ المثلّم رئيس مراد وعزيز وقيس ونمران وسميّ المراديون . وقتل في ذلك
اليوم الحصين بن يزيد الحارثي .
قال في ذلك يزيد بن ثمامة الأرحبي : الطويل ( لقد علم الحيّ المصبّح أنّني ** بجنب
أياء غير نكس مواكل ) ( تركت عزيزاً تحجل الطّير حوله ** وغشيّت قيساً حدّ أبيض
قاصل ) ( ونمران قد قضيت منه حزازةً ** على حنقٍ يوم التفاف القبائل ) ( عكبٌّ
شفيت النّفس منه وحارثٌ ** بنافذةٍ في صدره ذي عوامل ) ( وأردت سميّاً في المكرّ
رماحنا ** وصادف موتاً عاجلاً غير آجل )
____________________
وبهذه القصة يعرف معنى
قوله : وذلك أن مراداً لم تدر عليهم دائرة قبل يوم الرّزم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والسبعون بعد المائتين ) البسيط ( بني غدانة ما إن
أنتم ذهباً ** ولا صريفاً ولكن أنتم الخزف ) على أنه قد جاءت إن بعد ما غير كافّة
. وقد بيّنه الشارح المحقّق .
قال ابن هشام في شرح شواهده : النصب رواية يعقوب بن السكّيت والرفع رواية الجمهور
على أنّ إن كافّة لما عن العمل . قال : وزعم الكوفيّون على رواية النصب أنّ إن
نافية مؤكدة لا كافّة . ويلزمهم أن لا يبطل عملها كما لا يبطل عملها إذا تكرّرت
على الصّحيح بدليل قوله : الرجز
____________________
( لا ينسك الأسى تأسّياً
فما ** ما من حمامٍ أحدٌ معتصماً ) ومعنى هذا البيت : لا ينسك ما أصابك من الحزن
على من فقدته أن تتأسّى بمن سبقك مّمن فقد أحبابه فليس أحدٌ ممنوعاً من الموت .
ومن زعم أنّ ما إذا تكرّرت يبطل عملها جعل منفيّ ما الأولى محذوفاً أي : فما ينفعك
الحزن واستشهد شرّاح الألفيّة بهذا البيت على رواية رفعه على أنّ إن فيه كافّة . و
بني غدانة منادى بتقدير يا و غدانة بضم الغين المعجمة : حيٌّ من يربوع من بني تميم
. و الصّريف بفتح الصاد والراء المهملتين قال ابن السّكّيت : هو الفضّة . وأنشد
هذا البيت . و الخزف بفتح المعجمتين قال ثعلب في أماليه : هو ما عمل من طين وشوي
بالنّار حتّى يكون فخاراً . وأنشد هذا البيت .
ولم أر من نسب هذا البيت لقائله مع كثرة الاستشهاد به في كتب النحو واللّغة والله
أعلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والسبعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : البسيط
____________________
( إلاّ أواريّ ما إن لا
أبينها ) على أنّ الفرّاء أنشده بالجمع بين ثلاثة أحرف نافية والرواية : لأياً ما
أبينها .
هذه الرواية أنشدها الفرّاء في تفسيره المسمّى بمعاني القرآن في أواخر سورة يونس
عند قوله تعالى : فلولا كانت قرية آمنت فنفعها إيمانها إلاّ قوم يونس . وهذا نص
كلامه : في قراءة أبيّ فهلاّ لأنّ معناها أنّهم لم يؤمنوا ثم استثنى قوم يونس
بالنصب على الانقطاع مما قبله ألا ترى أنّ ما بعد إلاّ في الجحد يتبع ما قبلها
فتقول : ما قام أحدٌ إلاّ أبوك لأنّ الأب من الأحد : فإذا قلت : ما فيها أحد إلاّ
كلباً وحماراً نصبت لأنّها منقطعةٌ مما قبل إلاّ إذ لم يكن من شكله ولا جنسه :
كذلك كان قوم يونس منقطعين من قوم غيره من الأنبياء .
ولو كان الاستثناء هاهنا وقع على طائفة منهم لكان رفعاً . وقد يجوز الرفع كما أنّ
المختلف ف الجنس قد يتبع فيه ما بعد إلاّ ما قبل إلاّ كما قال الشاعر : الرجز
____________________
والنّصب في قوله تعالى :
ما لهم به من علم إلاّ اتباع الظّنّ لا ينسب إلى العلم . وأنشدونا بيت النابغة
بالنصب : . . . . . . . . . . . . . . وما بالربع من أحد إلاّ أواريّ ما إن
أبيّنها . . . . . . . . . . . .
قال الفرّاء : جمع هذا البيت بين ثلاثة أحرفٍ من حروف الجحد : لا وإن وما . والنصب
في هذا النوع المختلف من كلام أهل الحجاز والاتباع من كلام تميم . انتهى كلام
الفرّاء .
وأراد اجتماعها على سبيل التوكيد لا أنّ الثاني نافٍ للنفي فيثبت والثالث نافٍ للثاني
فينفى . وقد أورد الفرّاء في تفسيره الرواية التي ذكرها الشارح في أواخر سورة
النساء عند قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم إلاّ من أمر بصدقةٍ قال : من في
موضع خفضٍ ونصبٍ : الخفض إلاّ فيمن أمر بصدقة .
والنّجوى هاهنا رجال كما قال تعالى : وإذ هم نجوى ومن جعل النّجوى فعلاً كما قال
تعالى : ما يكون من نجوى ثلاثةٍ فمن حينئذ في موضع رفع .
وأما النّصب فأن تجعل النّجوى فعلاً فإذا استثنيت الشيء من خلافه كان الوجه النصب
كما ) ( . . . . . . . . . . . ** وما بالربّع من أحد ) ( إلاّ أواريّ لأياً ما
أبنّيها ** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد )
____________________
وقد تكون في موضع رفع وإن
ردّت على خلافها قال الشاعر : ( وبلدةٍ ليس بها أنيس ** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس
) انتهى .
وإنّما سقنا كلامه في الموضعين برمّته للتبرّك وليعلم طرز تفسيره فإنه لقدمه قلّما
يطلع عليه أحد .
وقد أورده الزّجّاجيّ بهذه الرواية أيضاً في تفسيره المعروف بمعاني القرآن في سورة
البقرة عند قوله تعالى : إنكم ظلمتم أنفسكم ياتّخاذكم العجل قال : الظّلم في
اللّغة : وضع الشيء في غير موضعه العرب تقول : من أشبه أباه فما ظلم معناه لم يقع
الشبه غير موقعه ويقال : ظلم فلان سقاءه إذا شرب وسقى منه قبل إدراكه وأراض مظلومة
إذا حفر فيها ولم يكن حفر فيها قبل وإذا جاء المطر يقربها ويتخطّاها .
قال النابغة : ( إلاّ أورايّ لأياً ما أبينّها ** والنّؤي كالحوض بالمظلومة الجلد
) وأورده الزّجّاج أيضاً عند قوله تعالى : ولو أنّا كتبنا عليهم أن اقتلوا أنفسكم
أو اخرجوا من دياركم . قال : وأما رفع إلاّ قليلٌ منهم فعلى البدل
____________________
من الواو والمعنى ما فعله
إلاّ قليل .
والنصب جائز في غير القرآن على معنى ما فعلوه أستثني قليلاً منهم . وعلى ما
فسّرناه في نصب الاستثناء فإن كان في النفي نوعان مختلفان فالاختيار النصب والبدل
جائز تقول : ما بالدار أحدٌ إلاّ حماراً .
قال النابغة الذّبيانيّ : البسيط ( وقفت فيها أصيلالا أسائلها ** عيّت جواباً وما
بالربّع من أحد ) إلاّ أواريّ لأيّا ما أبنيها . . . . . . . . . . . . . . الخ
فقال : ما بالربّع من أحد أي : ما بالربع أحدٌ إلاّ أواريّ . لأنّ الأواريّ ليست
من الناس . وقد يجوز الرفع على البدل وإن كان من غير جنس الأوّل كما قال الشاعر :
( وبلدةٍ ليس بها أنيس ** إلاّ اليعافير وإلاّ العيس ) )
فجعل اليعافير والعيس بدلاً من الأنيس . وجائز أن يكون جعل أنيس ذلك البلد
اليعافير والعيس . انتهى كلامه .
وقد رويا كلاهما إلاّ الأواريّ معرّفاً ومنكراً . قال أبو البقاء في شرح الإيضاح
حكى عبد القاهر عن شيخه عبد الوارث ابن أخت أبي عليّ أنه قال : الجيّد أن يروى
إلاّ الأواريّ بالألف واللام ليكون الفتح خالصاً . وإذا نكّر جاز أن يكون بدلاً من
أحد ولكن لم يكسر لأنه غير منصرف انتهى .
وقوله : وإذا نكّر جاز أن يكون بدلاً من أحد هذا الجواز ممنوع عند البصريين . وقد
بينّه ابن السيّد في شرح الجمل قال : ويروى عن الكسائيّ أنّه أجاز خفض الأواريّ
على البدل من لفظ أحد . وهذا عند البصرييّن خطأ لأنّه يصير التقدير : وما بالربّع
إلاّ من أورايّ فتكون من زائدة في الواجب . ومن لا تزاد
____________________
إلاّ في النفي . ولو أنّها
من التي تدخل على الموجب والمنفيّ لجاز ذلك كقولك : ما أخذت من أحد إلاّ زيدٍ
درهماً .
وهذا البيت من قصيدةٍ للنّابغة الذّبيانيّ مدح بها النّعمان بن المنذر واعتذر إليه
مما بلغه عنه .
وهذا مطلع القصيدة : ( يا دار ميّة بالعلياء فالسند ** أقوت وطال عليها سالف الأبد
) ( وقفت فيها أصيلاناً أسائلها ** عيّت جواباً وما بالربّع من أحد ) إلاّ
الأواريّ لأياً . . . . . . . . . . . . البيت وقد تقدّم شرح أبيات كثيرة منها في
عدّة مواضع .
وقد أورد سيبويه هذه الأبيات الثلاثة قال الأعلم : الشاهد في قوله : إلاّ الأواريّ
بالنصب على الاستثناء المنقطع لأنّها من غير جنس الأحدين . والرفع جائز على البدل
من الموضع .
والتقدير : وما بالربّع أحد إلاّ الأواريّ . على أن يجعل من جنس الأحدين اتساعاً
ومجازاً انتهى .
قال ابن السّيد : الرفع على البدل من موضع من أحد . لأنّ من زائدة وأحد مرفوعٌ في
المعنى وإن كان مخفوضاً في اللفظ وليست ببدل من موضع الجارّ وحده .
ولا من موضع المجرور وحده ولكنّها بدل من موضعهما معاً .
والبيت الأوّل يأتي شرحه إن شاء الله في الفاء من حروف العطف .
وقوله : وقفت فيها البيتين وصف أن دار ميّة خلت من أهلها فسألها
____________________
توجّعاً تذكراً لمن حلّ )
بها فلم تجبه إذ لا مجيب بها ولا أحد فيها إلاّ الأواريّ وهي محابس الخيل واحدها
آريّ وهو من تأرّيت بالمكان : إذا تحسّبت به . و اللأي : البطء . والمعنى :
تبيّنتها بعد بطء لتغيّرها . و النّؤي : حاجز حول الخباء يدفع عنه الماء ويبعده
وهو من نأيت إذا بعددت . وشبّهه في استدارته بالحوض . و المظلومة أرض حفر فيها
الحوض لغير إقامة لأنّها في فلاة فظلمت بذلك وغنّما أراد أنّ حفر الحوض لم يعمق
فذلك أشبه للنّؤي ولذلك جعلها جلداً وهي الصّلبة .
هذا ما قاله الأعلم إجمالاً وأما تفصيلاً فقوله : أصيلاناً منصوب على الظرف وفيه
ثلاثة الثاني : أنّه تصغير أصلان وهو جمع أصيل كرغفان جمع رغيف . وردّه أن جمع
الكثرة لا يصغّر إلاّ بردّه إلى المفرد .
الثالث : أنّه مصغّر اصلان أيضاً لكن أصلاناً اسمٌ مفرد بمعنى الأصيل مثل التّكلان
والغفران .
حكى هذين القولين شارح الدّيوان واللّخميّ .
وروى أيضاً : أصيلالا بإبدال النون لاماً . والأصيل : الوقت بعد العصر إلأى المغرب
. وروى أيضاً : وقفت فيها أصيلا كي أسائلها وروى أيضاً : وقفت فيها طويلاً كي
أسائلها وهو إمّا بتقدير وقوفاً طويلاً وإمّا بتقدير وقتاً طويلاً . وقوله :
أسائلها الجملة حال : إمّا من تاء وقفت فهي جارية على من هي له وإمّا من ضمير فيها
فتكون لغير من هي له .
وإنّما جاز الوجهان لأنّ في أسائلها ضميراً راجعاً إلى السائل وضميراً راجعاً
للمسؤول واستتر الضمير مع جريان الحال على غير من هي له لأنّ الفعل يستتر فيه ضمير
الأجنبيّ وغيره لقوّته في الإضمار . فعلى الأوّل تقديره مسائلها وعلى الثاني
____________________
مسائلها أنا بإظهار الضمير
. ولا يجوز أن تكون الجملة حالاً من الضميرين على حدّ لقيته راكبين لاختلاف
العاملين ولما في ذلك من التناقص . كذا قال ابن السيد .
وقوله : عيّت استئناف بيانيٌّ وقيل حال بتقدير قد من ضمير الدار في أسائلها . يقال
: عييت بالأمر بالكسر : إذا لم تعرف وجهه وروى أيضاً : أعيت بالألف أي : عجزت . و
جواباً : إمّا تمييز محوّل عن الفاعل أي : عيّ جوابها ثم اسند الفعل إلى ضمير
الدار . )
وهذا كقوله : وقفت برسميها فعيّ جوابها وإمّا منصوب بنزع الخافض أي : عيّت أن تجيب
جواباً . وفيه نظر ظاهر .
وقوله : وما بالربّع الخ قال ابن السيّد جعلتها لا محلّ لها من الإعراب وإن شئت
كانت حالاً من ضمير عيّت المستتر أو من ضمير أسائلها ويلزم على هذا تقدير ضمير
صاحب الحال أي : وما بالربّع منها . وعند الكوفيّين أل في الرّبع معاقبة للضمير أي
: وما بربعها انتهى . و الربّع بالفتح : محلّة القوم ومنزلهم أينما كان . والمربع
كجعفر : منزلهم في الرّبيع خاصة . ولم يصب اللّخمي في قوله : الربع المنزل في
الرّبيع خاصّة ثم كثر في كلامهم حتّى قيل لكل منزل ربع وقوله : من أحد من زائدة
وأحد فاعل الظرف .
إلاّ الأورايّ لأياً ما أبيّنها
____________________
الأواريّ يقال لها
الأواخيّ أيضاً وهما آريّةً وآخيّة بمدّ الهمزة وتشديد الياء فيهما وهي التي تحبس
بها الخيل من وتد وحبل . واللأي قال ابن السيّد : هو مصدر لم يستعمل منه فعل إلاّ
بالزيادة يقال : التأى ولا يقال : لأى .
والمظلومة فيها أقوال : قيل : هي الأرض حفر فيها ولم يكن بها حفرٌ قبل ذلك وقيل :
هي التي أتاها سيلٌ من أرض أخرى وقيل : هي أرض مطرت في غير وقتها وشعر النابغة
يقتضي الأوّل .
وقال ابن السّكّيت : إنّما قيل بالمظلومة لإنّهم مرّوا في برّيّة فحفروا فيها
حوضاً وليس بموضع حفر فجعلوا الشيء في غير موضعه . و الجلد بفتح الجيم واللام :
الأرض الصّلبة من غير حجارة قال ابن السيّد : وخصّها بذلك لأنّها إذا كانت صلبة
تعذر الحفر فيها فلم يعمق الحفر فيها فهو أولى لتشبيه النؤي به .
وفي رواية : الأواريّ والنّؤي بالرفع على لغة تميم بالإبدال من موضع من أحد وذلك
على ثلاثة أوجه : الأوّل : أنّه أراد ما بالربّع إلاّ الأواريّ فذكر من أحدٍ
تأكيداً وكأنّه في التقدير : ما بالربّع شيء أحدٌ ولا غيره إلاّ الأواريّ .
والوجه الثاني : أنّه جعل الأواريّ من جنس أحد على المجاز كما تقول تحيّته السّيف
وما أنت إلاّ أكلٌ وشرب فجعل التّحية السيف وجعله الأكل والشرب مجازاً . )
والوجه الثالث : أنّه خلط من يعقل بما لا يعقل ثم غلّب من يعقل فقال : وما بالربّع
من أحد وهو يريد من يعقل وما لا يعقل ثم أبدل الأواريّ من لفظٍ اشتمل عليه وعلى
غيره .
والقولان الأوّلان لسيبويه والثالث للمازنيّ .
وقوله : كالحوض قال ابن السيّد : يحتمل وجهين : إنّ جعلت النّؤي مرفوعاً بالابتداء
فالظرف خبره وإن جعلته مرفوعاً بالعطف على الأواريّ فالظرف حال من النّؤي كم نصب
____________________
النّؤي بالعطف على
الأواريّ وعامل الحال إذا نصب النؤي معنى الاستثناء وإذا رفع فمعنى الاستقرار في
قوله بالربّع .
وقوله : بالمظلومة حال من الحوض والعامل ما في الكاف من معنى التشبيه . فإن قلت :
أيّ ما هي في قوله لأيا ما أبينها قلت : هي كالتي في قوله تعالى : إنّ الله لا
يستحي أن يضرب مثلاً ما بعوضةٌ قال صاحب الكشّاف : وما هذه إبهاميّة وهي التي إذا
اقترنت باسم نكرة أبهمته إبهاماً وزادته شياعاً وعموماً كقولك : أعطني كتاباً ما
تريد أيّ كتاب كان أو صلة للتأكيد كالتي في قوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم انتهى
.
فالمعنى أنّ هذا الربع لخلوه من الأاهل قد سفت الرّيح عليه التراب حتّى خفيت
الأواريّ فيه فلا تظهر للناظر بادئ بدء وإنّما يستبينها ببطء بعد التأمّل .
فإن قلت : رواية الفراء تناقص رواية الجمهور فإنّ روايته ذ ريحة في نفي استبانة
الأواريّ وحينئذ لا معنى لستثناء الأواريّذ . قلت : هي بتقدير ما أبينها بسرعةٍ بل
ببطء فتطابق رواية الجمهور ويصحّ الاستثناء .
فإن قلت : هل يصحّ ما في رواية الجمهور نافية قلت : لا لأنّ المعنى خينئذ أنّ
الأواريّ لم أتبينّها ببطء بل بسرعة . وهذا خلاف مراد الشاعر فتأمّل . وفي ذكر
الأواريّ دلالة على أنّ أهل الرّبع ذوو عزّ وشجاعة لا قتنائهم الخيل . والله أعلم
.
وترجمة النّابغة الذّبيانيّ قد تقدّمت في الشاهد الرابع بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث والسبعون بعد المائتين ) الطويل
____________________
( وما الدّهر إلا منجوناً
بأهله ** وما صاحب الحاجات إلاّ معذبا ) على أن يونس استدلّ به على إعمال ما مع
انتقاض نفيها ب إلاّ .
وأجيب بأن المضاف محذوف من الأوّل أي : يدور دوران منجنون و يدور خبر المبتدأ فحذف
هو والمصدر وأقيم منجنون مقام المصدر .
وأنّ الثاني أصله وما صاحب الحاجات إلاّ يعذّب معذّباً أي : تعذيباً ف يعذّب خبر
المبتدأ فحذف وبقي مصدره . فلا عمل لما في الوضعين .
وخرّجه صاحب اللب على أنّه بتقدير : وما الدّهر إلاّ يشبه منجنونا وما صاحب
الحاجات إلاّ يشبه معذباً فهما منصوبان بالفعل الواقع خبراً ومعذّب على هذا اسم
مفعول وهذا أقلّ كلفةً .
وقال شارح اللبّ السيّد عبد الله : ويجوز أن يكون أي منجنونا منصوباً على الحال
والخبر محذوف أي : وما الدّهر موجوداً إلاّ مثل المنجنون لا يستقرّ في حاله . وعلى
هذا تكون عاملة قبل انتفاض نفيها . وكذا يكون التقدير في الثاني أي : وما صاحب
الحاجات موجوداً إلاّ معذّباً .
ولا تقدّر هنا مثل لأنّ الثاني هو الأوّل .
وقال ابن هشام في شرح شواهده : وجوّز ابن بابشاذ أن يكون الأصل : إلاّ كمنجنون ثم
حذف الجارّ فانتصب المجرور . ومن زعم أن كاف التشبيه لا يتعلق
____________________
بشيء فهذا التخريج عنده
باطل إذ كان حقه أن يرفع المجرور بعد حذفها لأنّه كان في محلّ رفع على الخبريّة لا
في موضع رفع باستقرارٍ مقدّر فإذا ذهب الجارّ ظهر ما كان للمحلّ . انتهى .
وعندي أن يكون من قبيل تاويل من قرأ : ونحن عصبةً بالنصب أي : نرى عصبة . والظاهر
أن هذا اسهل .
ورواية البيت كذا هي الرواية المشهورة ورواه ابن جنّي في المحتسب عند قراءة ابن
مسعود : إن كلّ إلاّ ليوفينهم من سورة هود : ( أرى الدّهر إلاّ منجنوناً بأهله **
وما طالب الحاجات إلاّ معلّلا ) قال : معنى هذه القراءة ما كلّ إلاّ والله
ليوفينهم كقولك : ما زيد إلاّ لأضربنه أي : ما زيد إلاّ مستحقٌ لن يقال فيه هذا .
ويجوز فيه وجه ثان : وهو أن تكون إن مخفّفة من الثقيلة وتجعل إلاّ )
زائدة . وقد جاء عنهم ذلك قال : أي : الدّهر منجنوناً بأهله يتقلّب بهم فتارة
يرفعهم وتارة يخفضهم . انتهى .
قال ابن هشام في المغني : إنّما المحفوظ : وما الدّهر . ثم إنّ ثبتت روايته فيتخرج
على أنّ أرى جوابٌ لقسم مقدّر وحذفت لا كحذفها في : تالله تفتؤ تذكر ودلّ على ذلك
الاستثناء المفرغ . انتهى .
وهذا البيت نسبه ابن جنيّ في كتاب ذا القد لبعض العرب . و المنجنون : الدولاب الذي
يستقى وهو مؤنث .
____________________
قال ابن جنيّ في شرح تصريف
المازنيّ المسمّى بالمنصف : ليس منجنون من دوات الخمسة هذا محال لأجل تكرير النون
وإنما هو مثل حندقوق ملحق بعضر فوط . ولا يجوز أن تكون الميم زائدة : لأنّا لا
نعلم في الكلام مفعلولا ولا يجوز أن تكون الميم والنون جميعاً زائدتين علة أن تكون
الكلمة ثلاثية من لفظ الجنّ من جهتين .
إحداهما : أنك كنت تجمع في أول الكلمة زيادتين وليس الكلمة جارية على عفل مثل
منطلق ومستخرج .
والأخرى : أنّا لا نعلم في الكلام منفعولا فيحمل هذا عليه . ولا يجوز أيضاً أن
تكون النون وحدها زائدة : لأنها قد ثبتت في الجمع في قولهم : مناجين ولو كانت
زائدة لقيل مجاجين فإذا لم يجز أن تكون الميم وحدها زائدة ولا النون وحدها زائدة
ولا أن يكونا كلتاهما زائدتين لم يجز إلاّ أن يكونا أصلين وتجعل النون لاماً
مكرّرة وتكون الكلمة مثل حندقوق بعضر فوط .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والسبعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : البسيط
( فأصبحوا قد أعاد الله دولتهم ** إذ هم قريشٌ وإذ ما مثلهم بشر )
____________________
بأن سيبويه حكى أن بعض
الناس ينصب مثلهم خبراً ل ما و بشر اسمها . وهذا لا يكاد يعرف . وقيل : إن خبر ما
محذوف أي : إذ ما في الدنيا بشر ومثلهم حال من بشر وانتصابه عند الكوفيّين على
الظرف أي : في مثل حالهم وفي مثل مكانهم من الرفعة .
قول سيبويه مبني على إعمال ما والقولان بعده مبنيّان على إهمالها قال سيبويه :
وهذا لا يكاد يعرف كما أنّ لات حين مناص ك ذلك . وربّ شيء هكذا .
قال السّيرافيّ : يعني أنّ نصب مثلهم بشر على تقديم الخبر قليل كما أنّ لات حين
مناص بالرفع قليل لا يكاد يعرف انتهى .
وقال أبو جعفر النحّاس : يذهب سيبويه إلى أنّه نصب مثلهم على أنّه خبر وإن كان
مقدماً فكأنه يجيز ما قائماً زيد . أقول : كيف ينصبونه مقدماً قال النحّاس : سألت
أبا إسحاق عمّا قاله المبرّد فقال : إنّه لعمري من بني تميم . ولكنه مسلم قد قرأ
القرآن وقرأ فيه : ما هنّ أمّهاتهم فرجع إلى لغة من ينصب فلا معنى للتشنيع بأنه من
بني تميم . انتهى .
أقول : من نصب لا ينصب مع تقدّم الخبر فلا يصحّ هذا جواباً . وقيل : أراد الفرزدق
أن يتكلّم بلغة الحجاز فغلط وهذا باطل فإن العربيّ لا يمكن أن يغلط لسانه وإنما
الجائز غلطه في المعاني .
وقال الأعلم : والذي حمله عليه سيبويه أصحّ عندي وإن كان الفرزدق تميمياً : لأنّه
أراد أن يخلّص المعنى من الاشتراك : وذلك أنه لو قال فيه إذ ما مثلهم بشر بالرفع
لجاز أن يتوهّم أنه من باب ما مثلك أحداً إذا نفيت عنه الإنسانية والمروءة فإذا
____________________
قال : ما مثلهم بشر بالنصب
لم يتوهم ذلك وخلص المعنى للمدح دون توهّم الذمّ فتأمّله تجده صحيحاً .
والشعر موضع ضرورة ويحتمل فيه وضع الشيء في غير موضعه دون إحراز فائدة فكيف مع
وجود ذلك . وسيبويه ممن يأخذ بتصحيح المعاني وإن اختلفت الألفاظ فكذلك وجّهه على
هذا وإن كان غيره أقرب إلى القياس . انتهى . )
يريد بتخليص المدح أنك إذا قلت ما مثلك أحداً فنفيت الأحديّة احتمل المدح والذمّ
فإن قال ابن هشام في شرح شواهده : وفيه نظر فإنّ السياق يعيّن الكلام للمدح .
وقال في الردّ على المبرد أحمد بن محمد بن ولاّد : إنّ الرّواة عن الفرزدق وغيره
من الشعراء قد تغير البيت على لغتها . وترويه على مذاهبها مما يوافق لغة الشاعر
ويخالفها ولذلك كثرت الروايات في البيت الواحد .
ألا ترى أنّ سيبويه قد يستشهد ببيتٍ واحد لوجوهٍ شتّى وإنّما ذلك على حيب ما
غيّرته الرّواة بلغاتها لأن لغة الراوي من العرب شاهدٌ كما أنّ قول الشاعر شاهد
إذا كانا فصيحين .
فمن ذلك ما أنشده سيبويه : الطويل ( بدا لي أنّي لست مدرك ما مضى ** ولا سابقٍ
شيئاٍ إذا كان جائيا )
____________________
ورواه أيضاً : ولا سابقاً
في موضع آخر . وكذلك قول الأعور الشّنّيّ : المتقارب ( فليس يآتيك منهيها ** ولا
قاصرٌ عنك مأمورها ) بالرفع والجر . وهذا كثير جداً . انتهى .
وفيه أنّ بيت الفرزدق ليس على لغة الحجاز ولا على لغة تميم وغيرها فكيف يكون من
قبيل لغة الراوي فتأمّل .
والقول الأوّل من القولين هو المازنيّ وتبعه المبرّد وقال : كأنّمثلهم صفةٌ لبشر
فلمّا قدّم عليه صار قال السيد عبد الله في شرح اللب : وفيه نظر لأنّ الحال فضلة
يتمّ الكلام بدونها وهاهنا لا يتمّ الكلام بدون مثلهم فلا يكون حالاً .
وردّه ابن هشام أيضاً في شرح شواهده بأنّ معاني الأفعال لا تعمل مضمرة . والكوفّيون
القائلون بنصب مثل على الظرف يقولون : اصله ما بشر في مكانٍ مثل مكانهم ثم أنيبت
الصفة عن الموصوف والمضاف إليه عن المضاف .
قال ابن هشام : وردّ بأنّ الصفة إنّما تخلف الموصوف إذا اختصّت بجنسه ولهذا جاز
رأيت كاتباً وامتنع رأيت طويلاً .
وبقي تخريج آخر لم يذكره الشارح المحقق وهو أنّ مثلهم خبر ما التميميّة لكن بني
مثل على الفتح إضافته إلى مبنّي فإنّ المضاف إذا كان مبهماً كغير ومثل ودون واضيف
إلأى مبنيّ بني كقوله تعالى : إنّه لحقٌّ مثل ما أنكم تنطقون فيمن فتح مثل أو
كقراءة بعضهم : أن يصيبكم مثل )
ما أصاب بالفتح . وهذا
____________________
أقرب الأقوال .
وزعم ابن مالك أنّ ذلك لا يكون في مثل لمخالفتها للمبهمات بأن تثنّى وتجمع .
وقوله : إذ هم قريش الخ إذ في الموضعين للتعليل . وبه استشهد ابن هشام في هذا
البيت في المغني .
وهذا البيت من قصيدة للفرزدق يمدح بها عمر بن عبد العزيز الأموي . وهذه أبيات منها
: البسيط ( تقول لمّا رأتني وهي طيّبةٌ ** على الفراش ومنها الدّلّ والخفر ) (
أصدر همومك لا يقتلك واردها ** فكلّ واردةٍ يوماً لها صدر ) إلى أن قال : (
فعجنتها قبل الأخيار منزلةً ** والطّيّبي كلّ ما التأثت بها الأزر ) ( إذا رجا
الركب تعريساً ذكرت لهم ** عيشاً يكون على الأيدي له درر ) ( وكيف ترجون تغميضاً
وأهلكهم ** بحيث تلحس عن أولادها البقر ) ( سيروا فإنّ ابن ليلى عن أمامكم **
وبادروه فإن العرف يبتدر ) إلى أن قال : ( وما أعيد لهم حتّى أتيتهم ** أزمان
مروان إذ في وحشها غرر ) ( فأصبحوا قد أعاد الله دولتهم ** إذ هم قريشٌ وإذ ما
مثلهم بشر ) ( ولن يزال إمامٌ منهم ملكٌ ** إليه يشخص فوق المنبر البصر )
____________________
( إن عاقبوا فالمنايا من
عقوبتهم ** وإن عفوا فذوو الأحلام إن قدروا ) قوله : ومنها الدلّ والخفر الدلّ
بفتح الدال : مصدر دلّت المرأة من بابي ضرب وتعب .
وتدللّت تدلّلاً والاسم الدّلال وهو جرأتها في تكسر وتغنج كأنها مخالفة وليس بها
خلاف .
كذا في المصباح . و الخفر بفتح المعجمة وهو شدّة الحياء .
وقوله : أصدر همومك أي : اصرفها عنك يقال : صدر القوم وأصدرناهم إذا صرفتهم .
وقوله : فكل واردة تعليل لقوله أصدر .
وقوله : فعجتها قبل الأخيار الخ يقال : عجت النّاقة أعوجها : إذا عطفت رأسها
بالزمام والضمير للناقة . )
وهذا البيت أورده ابن قاسم في شرح الألفيّة على أنّ الطّيبي صفة مشبّهة مضافة إلى
مضاف وقوله : إذا رجا الرّكب الخ التعريس : النزول في آخر الليل للاستراحة والنوم
.
وقوله : بحيث تلحس أي : في موضع لا نبات به ولا ماء .
وابن ليلى هو عمر بن عبد العزيز بن مروان بن الحكم بن أبي العاص بن أميّة بن عبد
شمس ابن عبد مناف . وليلى هي أمّه وهي بنت عاصم بن عمر بن الخطاب رضيّ الله عنه .
____________________
و العرف بالضم : المعروف .
وقوله : إذ في وحشها غرر الغرر بالكسر : جمع غرّة وهي الغفلة . يريد أن وحشها لا
يدعرها أحد فهي في غرّة من عيشها يقال : هو في غرّة من العيش إذا كان في عيش ليس
فيه كدر ولا خوف . و أزمان : نائب فاعل أعيد . و أتيتهم خطاب لعمر بن عبد العزيز .
وضمير وحشها للمدينة المنوّرة .
قال ابن خلف : مدح الفرزدق بهذا الشعر بن عبد العزيز . وكان قد ولي المدينة . يقول
: وما أعيد لأهل المدينة ولمن بها من قريش أزمانٌ مثل أزمان مروان في الخصب
والسّعة حتى وليت أأنت عليهم فعاد لهم مثل ما كانوا فيه من الخير حين كان مروان
والياً عليهم فأصبحوا بولايتك عليهم قد أعاد الله نعمتهم عليهم .
وقال الأعلم : مدح بالشعر بني أميّة فقال : كان ملك العرب في الجاهلية لغير قريش
وسائر مضر وكانوا أحقّ به لفضلهم على البسر فقد أصبحوا والإسلام فيهم فعاد إليهم
ما رجع عن غيرهم بما كان واجباً لهم بفضلهم انتهى .
والمعنى هو الأوّل ويدلّ له قوله : قد أعاد الله نعمتهم فإنّ نعمتهم كانت منقطعة
بعزل مروان )
وأعيدت أليهم بتولية عمر بن عبد العزيز عليهم فإنّ العود رجوع الشيء إلى الشيء بعد
انفصاله عنه .
وأمّا قوله : فعاد إليهم بعد ما خرج عن غيرهم فهذا انتقال لا عود .
وقوله : قد أعاد الله نعمتهم هذه الجملة خبر صار .
والعجب من العيبيّ في قوله صار من الأفعال الناقصة وجعله هذه الجملة حالاً مع أنه
لم يعيّن الخبر .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والسبعون بعد المائتين ) الوافر ( لو أنّك يا حسين
خلقت حرّا ** وما بالحرّ أنت ولا الخليق ) على أن فيه دليلاً على جواز تقديم الخبر
المنصوب إذ الباء لا تدخل إلاّ على الخبر المنصوب .
وعلى هذا بني أبو عليّ والزمخشريّ امتناع دخولها على ما التميمية وأجازه الأخفش .
قال أبو عليّ في إيضاح الشعر : أمّا ما انشده بعض البغداديين : ( أما والله عالم
كل غيبٍ ** وربّ الحجر والبيت العتيق ) ( لو أنّك يا حسين خلقت حرّا ** وما بالحرّ
أنت ولا الخليق ) فإنّه يكون شاهداً على ما حكاه أبو عمرو في نصب خبر ما مقدّما .
ومن دفع ذلك أمكن أن يقول إن الباء دخلت على المبتدأ وحمل ما على أنها ما التميمية
. ويقوى أن ما حجازيّة أنّ أنت أخصّ من الحرّ فهو أولى بأن يكون الاسم ويكون الحرّ
الخبر . انتهى .
____________________
أقول : من يدفع ذلك يقول : إنّ الباء زيدت في خبر ما التميمية ولا يذهب أن مذخولها
مبتدأ . والصحيح أنّها تزاد في خبر ما على اللّغتين وهو ظاره كلام سيبويه في باب
الاستثناء في مسألة ما زيد بشيء إلاّ شيء لا يعبأ به .
قال الشاطبيّ في شرح الألفيّة : والأصحّ ما ذهب إليه سيبويه من أوجه : أحدها : أنّ
بني تميم يدخلونها فغي الخبر فيقولون : ما زيد بقائم فإذا لم يدخلوها رفعوا .
قال ابن خروف : إنّ بني تميم يرفعون ما بعدها بالابتداء والخبر ويدخلون الباء في
الخبر لتأكيد النفي . ثم حكى عن الفرّاء أنّه قال : أنشدتني امرأةٌ . ) ( أما
والله أن لو كنت حرّا ** وما بالحرّ أنت ولا العتيق ) قال : فأدخلت الباء فيما يلي
ما . فإن ألغيتها رفعت . انتهى .
وقد أنشد سيبويه للفرزدق وهو تميمي : الطويل ( لعمرك ما معن بتارك حقّه ** ولا
منسئٌ معنٌ ولا متيسّر ) وهو كثير في أشعارهم لمن بحث عنه .
والثاني : أن الباء إنما دخلت على الخبر بعد ما لكونه منفيّاً لا لكونه خبراً منصوباً
ولذلك دخلت في خبر لم يكن ولم يدخل في خبر كنت . وإذا ثبت أن المسوّغ لدخولها
إنّما هو النفي فلا فرق بين منفي منصوب المحل ومنفيّ مرفوع المحل .
والثالث : أنّه قد ثبت دخول الباء مع إبطال العمل ومع أداةٍ لا عمل لها البتة نحو
قوله : المتقارب . ( لعمرك ما إن أبو مالكٍ ** بواهٍ ولا بضعيف قواه )
____________________
وأنشد الفارسيّ في
التّذكرة للفرزدق : الطويل ( يقول إذا اقلولى عليها وأقردت ** ألا هل أخو عيشٍ
لذيذٍ بدائم ) وإنّما دخلت بعد هل لشبهها بحرف النفي فدخلوها بعد النفي المحض وهو
ما التميميّة أحقّ .
قال ابن مالك : لأن شبه ما بها أكمل من شبه هل بها . ثم ذكر ما حكى الفرّاء عن
كثيرٍ من أهل نجد . أنهم يجرّون الخبر بعدما بالباء وإذا أسقطوا الباء رفعوا .
قال ابن مالك : وهذا دليل واضحٌ على أن دخول الباء جارّة للخبر بعد ما لا يلزم منه
كون الخبر منصوب المحل بل جاز أن يقال هو منصوب المحلّ وأن يقال هو مرفوع المحلّ
وإن كان المتكلم به حجازياً فإنّ الحجازيّ قد يتكلم بغير لغته وغيره يتكلّم بلغته
. إلاّ أنّ الظاهر أنّ محلّ المجرور نصبٌ إن كان المتكلم حجازياً ورفعٌ إن كان
تميمياً أو نجدياً .
قال : فمن دخول اللغة التميمية في الحجازية كسر هاء الغائب بعد كسرة أو ياء ساكنة
وإدغام نحو : ولا يضارّ كاتبٌ ولا شهيدٌ ورفع الله من قوله تعالى : قل لا يعلم من
في السموات والأرض الغيب إلاّ الله لأنّ اللغة الحجازيّة به وفيه بالضم ولا يضارر
بالفكّ وإلاّ الله بالنصب لأنّ الاستثناء منقطع .
قال : وإذا جاز للحجازيّ أن يتكلم باللغة التميميّة جاز للتميميّ أن يتكلم باللغة
الحجازيّة بل )
التميميّ بذلك أولى لوجهين :
____________________
أحدهما : أنّ الحجازية
أفصح وانقياد غير الأفصح لموافقة الأفصح أكثر وقوعاً من العكس .
والثاني : أنّ معظم القرآن حجازيّ والتميميّون متعبّدون بتلاوته كما أنزل ولذلك لا
يقرأ أحد منهم ما هذا بشر إلاّ من جهل كونه منزلاً . هذا ما قاله وفيه نظر لا يليق
بهذا الموضع . انتهى ما أورده الشّاطبي .
وروى الفرّاء هذا البيت في تفسيره كذا : ( أما والله أن لو كنت حرّا ** وما بالحرّ
أنت ولا العتيق ) أنشده في سورة الجنّ عند قوله تعالى : وإن استقاموا على الطّريقة
.
قال : قد اجتمع الفرّاء على كسر إنّا في قوله تعالى : فقالوا إنّا سمعنا قرآناً
عجيباً واختلفوا فيما بعد ذلك فقرؤوا : وأنا وإنّا إلى آخر السورة فكسروا بعضاً
وفتحوا بعضاً . فأمّا الذين فتحوا كلّها فإنّهم ردّوا أنّ على قوله : فآمنا به
وآمنا بكلّ ذلك ففتحت أنّ لوقوع الإيمان ويقويّ النصب قوله تعالى : وأن لو
استقاموا فينبغي لمن كسر أن يحذف أن من لو لأنّ إنّ إذا خفّفت لم تكن في حكاية ألا
ترى أنّك تقول : أقول لو فعلت لفعلت ولا تدخل أن .
وأما الذين كسروا كلّها فهم في ذلك يقولون : وأن لو استقاموا فكأنهم أضمروا يميناً
مع لو وقطعوها عن النسق فقالوا : والله أو لو استقاموا . والعرب تدخل أن في هذا
الموضع مع اليمين وتحذفها قال الشاعر : الطويل فأقسم لو شيء أتانا رسوله
____________________
وأنشدني آخر : أما والله
أن لو كنت حرّا . . . . . . . . . . . البيت ومن كسر كلّها ونصب وأنّ المساجد لله
خصّه بالوحي وجعل وأن لو مضمرة فيها اليمين على ما وصفت لك . انتهى .
وكذا أورده ابن هشام في المغني في بحث أن وجعلها زائدة قال : ومن مواضع زيادتها أن
تقع بين لو وفعل القسم مذكوراً كقوله : فأقسم أن لو التقينا وأنتم . . . . . . . .
. . . . .
أو متروكاً كقوله : )
وهذا قول سيبويه وغيره . وفي مقرب ابن عصفور : أنّها في ذلك حرف جيء به لربط
الجواب بالقسم . ويبعده أنّ الأكثر تركها والحروف الرابطة ليست كذلك انتهى .
ونقضه الدّمامينيّ باللام الداخلة على الجواب المنفيّ كقولك : الوافر
____________________
ولو نعطى الخيار لما
افترقنا فإنّها حرف رابط والأكثر تركها نحو : ولو شاء ربّك ما فعلوه انتهى .
وأنشده المراديّ أيضاً كذا في شرح الألفيّة شاهداً على أنّ أن رابط لجواب القسم .
وقوله : أما والله عالم كلّ غيب . . . الخ أما بالتخفيف حرف تبينه يستفتح به
الكلام وجواب القسم محذوف أي : لقاومتك أو في بيتٍ آخر .
وقوله : لو أنّك يقرأ بنقل فتحه الألف من أنّك إلى واو لو . والحرّ من الرجال :
الكريم الأصل الذي خلص من الرّق مطلقاً وساء كان رّق العبودية أو رّق النفس بأن
تستخدمه في الرذّائل . و الخليق : الجدير واللائق أي : ولا أنت جدير بأن تكون
حرّاً . و العتيق على رواية الفرّاء وغيره هو الكريم والأصيل . والذي خلص من الرقّ
عتيق أيضاً . ولذكره بجنب الحرّ حسن وهذان البتان لم أعرف قائلهما . وقال العينيّ
في البيت الشاهد : أنشده سيبويه ولم يعزه إلى أحد . أقول : لم ينشده سيبويه ولا
وقع في كتابه . وصوابه أنشده الفرّاء فإنّه أوّل من استشهد به .
والله أعلم وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والسبعون بعد المائتين ) المتقارب
____________________
( لعمرك ما إن أبو مالك **
بوانٍ ولا بضعيف قواه ) على أنّ الباء تزاد بعد ما النافية المكفوفة بإن اتفاقاً .
وهذا يدلّ على أنّه لا اختصاص لزيادة الباء في خبر ما الحجازيّة .
وهذا البيت أول أبياتٍ للمتنخّل الهذليّ يرثي بها أباه وبعده : ( ولا بألدّ له
نازعٌ ** يغاري أخاه إذا ما نهاه ) ( ولكنّه هيّنٌ ليّنٌ ** كعالية الرّمح عردٌ
نساه ) ( إذا سدته سدت مطواعةً ** ومهما وكلت إليه كفاه ) ( ألا من ينادي أبا
مالكٍ ** أفي أمرنا هو أم في سواه ) ( أبو مالكٍ قاصرٌ قفره ** على نفسه ومشيعٌ
غناه ) وقوله : لعمرك ما إن الخ اللام لام الابتداء وفائدتها توكيد مضمون الجملة .
و عمرك بالفتح بمعنى حياتك مبتدأ خبره محذوف أي : قسمي . وجملة ما إن أبو مالك الخ
جواب القسم و أبو مالك هو أبو الشاعر . واسمه عويمر لأنّ المتنخّل اسمه مالك بن
عويمر كما يأتي قريباً .
ولم يصب ابن قتيبة في كتاب الشعراء في زعمه أنه يرثي أخاه أبا مالك عويمراً . وان
: اسم فاعل من ونى في الأمر ونى وونياً من بابي تعب ووعد بمعنى ضعف وفتر .
وروي بدله واهٍ وهو أيضاً اسم فاعل من وهى من باب وعد بمعنى ضعف وسقط . و القوى :
جمع قوّة خلاف الضعف قال في الصحاح : ورجل
____________________
شديد القوى أي : شديد أسر
الخلق . يريد أن أباه كان جلداً شهماً لا يكل أمره إلى أحد ولا يؤخره لعجزه إلى
وقت آخر .
وقوله : ولا بألدّ الخ الألدّ : الشديد الخصومة من اللّدد بفتحتين وهو شدّة
الخصومة .
قال السكّريّ في شرح أشعار هذيل هنا وتبعه السيّد المرتضى في أماليه : ومعنى له
نازعٌ أي : خلق سوء ينزعه من نفسه يريد أنه من نزعت الشيء من مكانه من باب ضرب
بمعنى قلعته ويجوز أن يكون من قولهم لعلّ له عرقاً نزع أي : مال بالشبه . ويقولون
أيضاً : العرق نزّاع .
ونزع إلى أبيه ونحوه في الشبه أي : ذهب . وهذا عندي أولى .
وقوله : يغاري أخاه قال السكّريّ وتبعه السيّد المرتضى : أي : يلاحي ويشارّ من
غاريت )
بين الشيئين إذا واليت بينهما .
قال أبو عبيدة : وهو من غري بالشيء يغرى به . أقول : كونه من غري فلان إذا تمادى
في غضبه أولى . وروي بدله : يعادي من العدواة ضدّ الصّداقة . وهذا وما قبله كلاهما
داخلان تحت النفي .
وقوله : كعالية الرّمح الخ عالية الرمح : ما دخل في السنان إلى ثلثه ومعنى : كونه
لينّا كعالية الرّمح أنّه إذا دعي أجاب بسرعةٍ كعالية الرّمح فإنه إذا هزّ الرّمح
اضطرب وانهزّ للينه بخلاف غيره من الأخشاب فإنه لا يتحرك طرفها إذا هزّت لصلابتها
ويبسها .
وقوله : عرد نساه العرد بفتح العين وسكون الراء المهملتين : الشديد . والضمير لأبي
مالك . و النّسا قال الأصمعيّ : بالفتح مقصور : عرق يخرج من الورك فيستبطن الفخذين
ثم يمرّ بالعرقوب حتّى يبلغ الحافر فإذا سمنت الدابّة انفلقت فخذاها بلحمتين
عظمتين وجرى النّسا بينهما واستبان . وإذا هزلت الدابّة اصطربت الفخذان وماجت
الرّبلتان وخفي النّسا .
وإذا قالوا : إنّه لشديد النّسا فإنّما يريدون به النّسا نفسه كذا في الصحاح . قال
السكّريّ : أراد غليظ موضع النسا .
____________________
وقوله : إذا سدته سدت الخ قال السيّد المرتضى : ومعنى سدته من المساودة التي هي
المساررة والسّواد هو السّرار كأنه قال : إذا ساررته طاوعك وساعدك . وقال قوم : هو
من وقوم ينشدونه : إذا سسته سست مطواعةً ولم أجد ذلك في رواية . انتهى .
وهذه الرواية أثبتها أبو تمام صاحب الحماسة في مختار أشعار القبائل . و سته من سست
الرعيّة سياسة . و المطواع : الكثير الطوع أي : الانقياد والتاء لتأكيد المبالغة .
واقتصر السكّريّ على المعنى الثاني فقال : يقول إذا كان لك السؤدد عليه أطاعك ولم
يحسدك .
ومهما وكلت إليه أي : مهما تركته وإيّاه كفاه . انتهى .
والسّواد بالكسر كالسّرار وزناً ومعنى .
وهذا البيت يأتي شرحه إن شاء الله في الجوازم . وقوله : أفي أمرنا هو الخ يعني
غيبته عنا ألنفعنا كما كان تعوّد أم لشيء آخر كالموت . وهذا كلام المتولّه الذي
حصل له ذهول لعظم ما )
أصابه .
وقال السكّريّ : هذا منه توجّع أراد من ينادي أبا مالك فيسأله أمضى أم قد ذهب
وأمره يصير إلينا أم يذهب وقال الباهليّ : أمرنا أمره .
وقوله : قاصر فقره على نفسه هو من القصر وهو الحبس . و المشيع : من الإشاعة وهي
الإذاعة . يريد أنّه إذا افتقر أخفى فقره وإذا أثرى أذاع غناه ليقصد من كلّ جهة
وهذا من شرف النفس .
وهذه الأبيات على هذا الترتيب للمتنخّل الهذليّ رواها ابن قتيبة في كتاب الشعراء
والسكّريّ في أشعار هذيل والسيّد المرتضى في أماليه والأصبهانيّ
____________________
في أغانيه . وروى أبو
تّمام في مختار أشعار البائل البيت الشاهد مع بيتين آخرين لذي الإصبع العدوانيّ
هكذا : ( وما إن أسيدٌ أبو مالكٌ ** بوانٍ ولا بضعيفٍ قواه ) ( ولكنّه هيّنٌ ليّنٌ
** كعالية الرّمح عردٌ نساه ) ( فإن سسته سست مطواعةً ** ومهما وكلت إليه كفاه )
وأسيد بفتح الهمزة وكسر السين المهملة . و المتنخّل بكسر الخاء المشددة اسم فاعل
من تنخّل يقال تنخّلته أيّ : تخيّرته كأنّك صفتيه من نخالته . والمتنخل لقبٌ واسمه
مالك وهو جاهليّ .
ونسبته : مالك بن عويمر بن عثمان بن خنيس بن عادية بن صعصعة بن كعب بن طابخة أخو
بني لحيان بن هذيل بن مدركه . شاعرٌ محسّن من شعراء هذيل .
قال الآمديّ : والمتنخّل السّعديّ شاعر أيضاً ولم يقع إليّ من شعره شيءٌ . واستشهد
( يا زبرقان أخا بني خلفٍ ** ما أنت ويب أبيك والفخر ) ومن شعر المتنخّل الهذليّ
أنشده أبو عبيد البكريّ في شرح نوادر القالي وليس موجوداً في رواية السكّريّ :
البسيط
____________________
( لا ينسئ الله منّا
معشراً شهدوا ** يوم الأميلح لا عاشوا ولا مرحوا ) ( عقّوا بسهمٍ فلم يشعر له أحدٌ
** ثمّ استفاؤوا وقالوا حبذا الوضح ) قال البكريّ : هذا من شعر يهجو به ناساً من
قومه كانوا مع أبيه حجّاجاً يوم قتل . وقوله : لا ينسئ الله أي : لا يؤخر الله
موتهم من الإنشاء وهو التأخير . )
قال أبو العبّاس ثعلب : التّعقية : سهم الاعتذار . قال ابن الأعرابيّ : أصل هذا أن
يقتل الرجل رجلاً من قبيلته فيطلب القاتل بدمه فتجتمع جماعة من الرؤساء إلى أولياء
المقتول بديةٍ مكملة ويسألونهم العفو وقبول الدية فإن كان أولياؤه ذوي قوّة أبوا
ذلك وإلاّ قالوا لهم : بيننا وبين خالقنا علامةٌ للأمر والنّهي فيقول الآخرون : ما
علامتكم فيقولون : أن نأخذ سهماً فنرمي به نحو السماء فإن رجع إلينا مضرّجاً بالدم
فقد نهينا عن أخذ الدية وإن رجع كما صعد فقد أمرنا بأخذها . وحينئذ مسحوا لحاهم
وصالحوا على الدية . وكان مسح اللّحية علامةً للصّلح قال الأسعر الجعفي : قال ابن
الأعرابيّ : ما رجع ذلك السّهم قطّ إلاّ نقيّاً ولكنهم يعتذرون به عند الجهّال
انتهى . و عقّوا بضم القاف وفتحها لأنّه جاء من بابين فإنه يقال : عقّ بالسهم إذا
رمي به نحو السماء وذلك السهم يسمّى عقيقة بقافين ويقال له أيضاً : سهم الاعتذار .
فعقّوا بضم القاف . ويقال : عقّى بسهمه تعقية : إذا رماه في الهواء . فعقّوا بفتح
القاف .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والسبعون بعد المائتين ) الوافر ( ندمت على لسان
كان منّي ** فليت بأنّه في جوف عكم ) على أنّ الباء قد تزاد بعد ليت كما هنا .
قال أبو زيد في نوادره : الباء زائدة والوجه فليت أنّه .
قال أبو عليّ في التذكرة القصرية : وجه زيادة الباء في اسم ليت شبه ليت لنصبها
ورفعها بالفعل والفعل يصل تارةً بنفسه وأخرى بالباء قال تعالى : ألم يعلم بأنّ
الله يرى ويعلمون أنّ الله هو الحقّ المبين .
ومثله في أنه لما أشبه الفعل عديّ تعديته تارةً بنفسه وأخرى بحرف الجر يا زيد
وبالزيد .
فإن قلت : فهل يكون على إضمار اسم ليت كقوله : الطويل ( ألا ليت أنّي يوم تدنو
منيّتي ** شممت الذي ما بين عينيك والفم ) فغن ذلك لا يستقيم لئلا يبتدأ بأنّ
مفتوحة .
وسدّ الظرف في خبر أنّ مسدّ خبر ليت كما سدّ في قولك علمت أن زيداً في الدار مسدّ
)
المفعول الثاني . وجواز حذف الخبر في ليت وأنّ وبابه بوقوع الجمل أخباراً لها .
انتهى .
وقال في الحجة عند قوله تعالى : ولكنّ الشّياطين كفروا من سورة البقرة : فأما ما
أنشده أبو زيد :
____________________
ندمت على لسان فات منّي
البيت فيحتمل أمرين : أحدهما : أن تكون الباء زائدة وتكون أنّ مع الجارّ في موضع
نصب ويكون ما جرى في صلة أنّ قد سدّ مسدّ خبر ليت كما أنّها في ظننت أنّ زيداً
منطلق كذلك .
ويحتمل أن الهاء مرادة ودخلت الباء على المبتدأ كما دخلت في بحسبك أن تفعل ذلك .
ولا يمتنع هذا من حيث امتنع الابتداء بأنّ لمكان الباء ألا ترى أنّ أنّ قد وقعت
بعد لولا في نحو قولك : لولا أنّك منطلق ولم يجر ذلك الامتناع مجرى أنّك منطلق
بلغني لأنّ المعنى الذي له لم يبتدأ بالمفتوحة مع لولا معدوم . انتهى كلامه .
وروى شارح ديوان الحطيئة : فليت بيانه فلا شاهد فيه .
وهذا البيت من أبيات للحطيئة قالها لأبي سهم عود بن مالك بن غالب . وهي أربعة
أبيات في ديوانه . ( فيا ندمي على سهم بن عوذٍ ** ندامة ما سفهت وضلّ حلمي ) (
ندمت ندامة الكسعيّ لمّا ** شريت رضا بني سهمٍ برغميّ ) ( ندمت على لسانٍ فات منّي
** فليت بأنّه في جوف عكم ) ( هنالكم تهدّمت الرّكايا ** وضمّنت الرّجا فهوت بذميّ
) قوله : فيا ندمي قال أبو عمر الجرمي : أراد فيا ندامتاه فحذف الهاء
____________________
لما وصل الكلام .
ويروى : يا ندمي بإسقاط الفاء . و ندامة بالنصب وما مصدريّة أي : ندامة سفهى ويشهد
له الرواية الأخرى وهي ندامة أن سفهت وقد رواها شارح ديوانه . و السّفه : طيشٌ
وخفّة عقل . و الحلم بالكسر : العقل . و الكسعيّ : رجلٌ جاهليّ كانت له قوس رمى
عليها باللّيل حميراً من الوحش فظنّ أنه أخطأ وكان قد أصاب فغضب فكسرها فلمّا أصبح
رأى الحمير مجدلّةٌ فندم على كسر قوسه .
فضرب به المثل فقيل : أندم من الكسعيّ و : ندمت ندامة الكسعيّ .
وشرح هذا المثل مفصّل في أمثال حمزة والميدانيّ والزمخشريّ . )
وشريت هنا بمعنى بعت . يقول : بعت رضاهم برغمٍ منّي .
وقوله : ندمت على لسان الخ قال شارح الديوان : اللسان هاهنا الكلام فيكون مجازاً
أطلق وقال ابن الأنباريّ في شرح المفضّليات : اللسان هاهنا الرسالة أورده نظيراً
لمطلع قصيدة مرقش الأكبر : المتقارب ( أتتني لسان بني عامرٍ ** فجلت أحاديثها عن
بصر ) وقد تكلّم أبو عليّ في الإيضاح الشعريّ على اللسان بكلام مبسوط على قول يزيد
بن الحكم : الطويل لسانك لي أريٌ وعينك علقم وشرّك مبسوطٌ وخيرك ملتوي وقد تقدم
هذا البيت في قصيدته مشروحةً في الشاهد الثمانين بعد المائة فأحببت أن أورده هنا
لحسنه قال : ليس يخلو اللسان من أحد المعنيين إمّا أن يكون الجارحة أو التي بمعنى
الكلام كقوله عزّ وجلّ : وما أرسلنا من رسولٍ إلاّ بلسان
____________________
قومه كأنّ المعنى : بلغتهم
. ومما يقويّ ذلك إفراد اللسان حيث أريد به الحارجة قال عزّ وجلّ : واختلاف
ألسنتكم وألوانكم .
وأنشد أبو زيد : ندمت على لسانٍ كان منّي . . . . . . . . . . . البيت فبهذا يعلم
أنه لا يريد به الحارجة لأنّ النّدم لا يقع على الأعيان إنّما يقع على معانٍ فيها
. فإن قلت : فقد قال : فليت بأنّه في جوف عكم إنّما يكون العين . قيل : هذا اتّساع
وإنّما أراد فليته كان مطويّاً لم ينتشر كما قال أوس : البسيط ( ليس الحديث بنهى
بينهنّ ولا ** سرّ يحدّثنه في الحيّ منشور ) فليس المنشور هنا كقولك نشرت الثوب
الذي هو خلاف طويته وغنّما يريد إنه لا يذاع ولا يشاع فاتسع .
وكذلك قوله : البسيط إنّي أتاني لسانٌ لا أسرّ به انتهى المراد منه .
وتقدّم بقيّة هذا على بيت ابن الحكم هناك . ومراد أبي عليّ بالاتساع الاستخدام
فإنّ اللسان )
أريد بظاهره معنى وبضميره معنىً آخر كقوله : الوافر
____________________
( إذا نزل السّماء بأرض
قومٍ ** رعيناه وإن كانوا غضابا ) وكان هنا تامة بمعنى حدث وجرى ويروى بدله فات
منّي . و العكم بكسر المهملة : العدل وقال شارح الديوان : هو مثل الجوالق .
وقوله : هنا لكم الخ أي : عند ذلك القول الذي صدر منّي في حقهم . و الرّكايا :
الآبار جمع قال في الصحاح : وكلّ شيء جعلته في في وعاء فقد ضمنته إياه . والرّجا
بالجيم قال شارح الديوان : هو جانب البئر من داخل و جولها بالضم : جوانبها من خارج
. و الرّجا : النّاحية من كلّ شيء قال أبو زيد : الرّجا هنا بمعنى الأرجاء .
يريد أنه مفرد معرّف بللام وقع موقع الجمع لأنّ البئر لها نواح . يقول : عندما صدر
منّي قولٌ في حقهم كأنّ الآبار تهدّمت وسقطت عليّ بجميع نواحيها بسبب ذميّ . وروى
بذمّ بالتنكير .
قال شارح ديوانه : أي : بذمّ الرّكايا .
وقال أبو عليّ في التذكرة : يقول كالذي حفر بئراً وهو حين حفرها لم يقدّر أنها تقع
على فساد فلمّا أن حفرها وقع على فساد فبناها على ذلك وتهدّم ما بنى وكان قبل ذلك
يأمل التمام لما يريد . فمثل هذا لّما أن مدح على رجاء تمام للمدح فأخلف فهوى بذّم
. انتهى .
ثم رأيت ديوان الحطيئة جمع أبي سعيد السكّريّ من رواية محمد بن حبيب وقبل هذه
الأبيات قصيدةٌ في ذمّ بني سهم بن عوذ بن مالك بن غالب بن قطيعة بن عبس وهم بنو عمّه
منها : الطويل ( ولو وجدت سهمٌ على الغيّ ناصراً ** لقد حلبت فيه زماناً وصرّت ) (
ولكن سهماً أفسدت دار غالبٍ ** كما أعدت الجرب الصّحاح فعّرت )
____________________
قال السكّريّ : كان من
حديث هذه القصيدة أنّ بني مالك بن غالب وهم رهط الحطيئة وبني سهم بن عوذ بن مالك
بن غالب أغاروا وفيهم سمير المخزوميّ ورئيسهم قدامة بن علقمة ومعهم المسّيب على
هوازن فأصابوا سبياً وإبلاً فتنازع المسيّب وسمير في الإبل فأمرته بربع منها فأخذه
فوجده بعد أنجب بعير في الناس وهو الرّواح .
ثم إن سميراً خرج بنفر من قومه حتّى أتوا الإبل فأطردوها وقال الوليدة : أخيري
مولاك أنه قد ذهب بالإبل فلما أتى المسيّب الخبر ركب بأصحابه فالتقوا فاقتتلوا
قتالاً شديداً فقتل منهم )
أربعة نفر وذهب بها سمير .
وكان قال هذه الأبيات قبل أن يذهب بها سميرً فلما ذهب بها سمير ندم الحطيئة مما
قال فقال : فيا ندمي على سهم بن عوذٍ الأبيات الأربعة قال السكّريّ : أراد باللسان
الشعر يريد : وددت أنّ الشعر الذي قلت فيهم كان مخبوءاً في جوالق . و الرّجا : ما
بين رأس البئر إلى أسفلها فجعله هاهنا أسفلها .
وقوله : وضمنت الرّجا يريد أنّها تهدّمت فصار أعلاها في أسفلها . فلذلك جعل جعل
أسفلها تضمّن أعلاها . وهذا مثل . و هوت بذمّ : سقطت مذمومة انتهى كلامه .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والسبعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الطويل
( مشائيم ليسوا مصلحين عشيرة ** ولا ناعب إلاّ يبين غرابها ) على أنّ ناعبٍ عطف
بالجرّ على مصلحين المنصوب على كونه خبر ليس لتوهّم الباء فإنّها تجوز زيادها في
خبر ليس ويسمّى هذا في غير القرآن العطف على التوهمّ وفي القرآن العطف على المعنى
.
وأنشده سيبويه ف يموضعين بروايتين الأول أنشده ولا ناعباً بالنصب للعطف على مصلحين
استشهد به على نصب عشيرة ب مصلحين لأنّ النون فيه بمنزلة التنوين في واحده وكلاهما
يمنع من الإضافة ويوجب نصب ما بعده والثاني بجرّ ناعب على توهّم الباء في خبر ليس
.
ولم يجز المبّرد إلاّ نصب ناعب قال : لأنّ حرف الجر لا يضمر .
وقد بيّن سيبويه ضعفه وبعده مع أخذه لذلك عن العرب سماعاً فلا معنى للردّ عليه .
وأورده صاحب الكشّاف نظيراً لقوله تعالى : كيف يهدي الله قوماً كفروا
____________________
بعد إيمانهم وشهدوا أنّ
الرّسول حقّ قال : شهدوا معطوف على ما في إيمانهم من معنى الفعل فهو من قبيل عطف
الفعل على المصدر بتقدير أن إذ المعنى بعد أن آمنوا وشهدوا كما جرّ الشاعر ناعباً
بتوهّمك الباء في خبر ليس .
وهذا البيت من قصيدةٍ عدّتها ستّة وعشرون بيتاً للأخوص اليربوعيّ وهذه أبيات منها
)
أنشدها الجاحظ في كتاب البيان : ( وليس بيربوع إلى العقل حاجةٌ ** سوى دنس يسودّ
منه ثيابها ) ( فكيف بنوكى مالكٍ إن غفرتم ** لهم هذه أم كيف بعد خطابها ) مشائيم
ليسوا مصلحين عشيرة . . . . . . . . . . . . البيت ( فإن أنتم لم تقتلوا بأخيكم **
فكونوا غايا بالأكف عيابها ) ( سيخبر ما أحدّثتم في أخيكم ** رفاقٌ من الآفاق شتّى
إيابها ) قال أبو محمد الأسود الأعرابيّ في فرحة الأديب : هذا الشعر لقتال كان بين
بني يربوع وبين بني دارم . فأراد بقوله مشائيم بني دارم بن مالك لا بني يربوع .
وكان من قصة هذا الشعر أنّ ناساً من بني يربوع وبني دارم اجتمعوا على القرعاء فقتل
بينهم رجلٌ من بني غدانة يكنى أبا بدر فقالت بنو يربوع : والله لا نبرح حتّى ندرك
ثأرنا فقالت بنو فقالت بنو غدانة : نحن نفعل . فأخرجوا خمسين فحلفوا كلّهم إلاّ
رجلاً : أنّ الذي قتل أبا بدرٍ عبيد بن زرعة فقال الباقي من الخمسين : أليس تدفعون
إلينا
____________________
عبيداً إذا أنا أكملت
الخمسين قالوا : لا ولكنّا نديه لأنّا لا ندري من قتله . فقال الباقي عند ذلك وهو
أبو بيض الغدانيّ : والله لا أكملهم أبداً ولا يفارقنا عبيد حتّى نقتله فقام ضرار
بن القعقاع بن معبد بن زرارة وشيبان بن حنظلة بن بشر بن عمرو فكفلا بعبيد فدفعته
بنو غدانة إليهما فلما جنّهم اللّيل قال ضرار وشيبان لعبيد : انطلق حيث شئت .
وغدت بنو غدانة على بني دارم فقالوا لهم : إنّ صاحبكم قد هرب ولكن هذه ولكن هذه
الدّية فاقبلوها من إخوتكم ولا تطلبوا غير ذلك فتكونوا كجادع أنفه ولو علمنا مكان
صاحبكم قصدنا إليه . فلمّا سمعهم الأخوص يذكرون الدية قال : دعوني أتكلّم يا أبا
خولة .
فقال هذه الأبيات من قصيدة .
قوله : وليس بيربوع إلى العقل الخ يقول : إنّ العقل لا ينفعهم بل يضرّهم ويكسبهم
عاراً . و نوكى : بالفتح جمع أنوك كأحمق وحمقى وزناً ومعنى أي : كيف العشرة معهم .
ويروى بدل خطابها سبابها بالكسر : مصدر سابّه أي : شاتمه . و مشائيم : جمع مشؤوم
كمقصور قال في الصحاح وقد شأم فلان قومه يشأمهم فهو شائم : إذا جرّ عليهم الشؤم
وقد شئم عليهم فهو مشؤوم : إذا صار شؤماً عليهم وقوم مشائيم . )
وقال السيد المرتضى رحمه الله تعالى : إنّ العرب لا تعرف هذا وإنّما هو من كلام
أهل الأمصار . وإنّما تسميّ العرب من لحقه الشّؤم مشؤوماً كما في قول علقمة بن
عبدة : البسيط ( ومن تعرّض للغربان يزجرها ** على سلامته لا بدّ مشؤوم )
____________________
و عشيرة الرجل : بنو أبيه
الأدنون . قال الأعلم : نسبهم إلى الشؤم وقلّة الصلاح والخير فيقول : لا يصلحون
أمر العشيرة إذا فسد ما بينهم ولا يأتمرون بخير فغرابهم لا ينعب إلاّ بالتشتيت
والفراق .
وهذا مثل للتعصّم منهم والتشؤّم . و النّعيب بالعين المهملة : صوت الغراب ومدّه
عنقه عند ذلك ومنه يقال ناقة نعوب : إذا مدّت عنقها في السير .
وقال ابن السيرافيّ في شرح شواهد إصلاح المنطق : يقال نعب الغراب : إذا صاح . وهم
يتشاءمون بصوت الغراب .
وإنّما ذكر هذا على طريق المثل وإن لم يكن غراب كما يقال فلان مشؤوم الطائر ويقال
طائر الله لا طائرك . انتهى .
وقال ابن خلف : وقولهم : أشأم من غراب البين فإنّما لزمه هذا الاسم لأنّ الغراب
إذا بان أهل الدار لنجعةٍ وقع في مواضع بيوتهم يتلمس ما يأكله فتشاءموا به
وتطيّروا منه إذ كان لا يعتري منازلهم إلاّ إذا بانوا فسمّوه غراب البين .
ثم كرهوا إطلاق ذلك الاسم مخافة الزّجر والطيرة فعلموا أنّه نافذ البصر صافي العين
حتى قالوا : أصفي من عين الغراب كما قالوا : أصفى من عين الديك فسمّوه الأعور
كنايةً كما كنّوا عن الأعمى فسمّوه أبا بصير وكما سمّوا الملدوغ سليماً والفيافي
مفاوز . وهذا كثير .
ومن أجل تشاؤمهم بالغراب اشتقوا من اسمه الغربة والاغتراب والغريب . وليس في الأرض
شيء مّما يتشاءمون به إلاّ الغراب عندهم أنكد منه .
____________________
وذكر بعض أصحاب المعاني أن نعيب الغراب يتطيّر منه ونغيقه يتفاؤل به وأنشد قول
جرير الكامل ( إنّ الغراب بما كرهت مولعٌ ** بنوى الأحبّة دائم التّشحاج ) ( ليت
الغراب غداة ينعب دائباً ** كان الغراب مقطّع الأوداج ) )
ثم أنشد في النّغيق : الوافر ( تركت الطّير عاكفةً عليه ** وللغربان من شبعٍ نغيق
) قال : ويقال نغق الغراب إذا قال : غيق غيق . فيقال نغق بخير . ونعب نعيباً . إذا
قال غاق غاق .
فيقال عندها نعب ببين . قال : ومنهم من يقول نغق ببين وأنشد في ذلك : البسيط أبقى
فراقهم في المقلتين قذىً أمسى بذاك غراب البين قد نغقا قال : وبعض العرب قد يتيمنّ
بالغراب فيقال : هم في خيرٍ لا يطار غؤابه أي : يقع الغراب فلا ينفّر لكثرة ما
عندهم فلولا تيمنّهم به لكانوا ينفّرونه .
وقال الدافعون لهذا القول : الغراب في هذا المثل السواد واحتجوا بقول النابغة :
الكامل ( ولرهط حرّاب وزيدٍ سورةٌ ** في المجد ليس غرابها بمطار ) أي : من عرض لهم
لم يمكنه أن ينفّر سوادهم لعزّهم وكثؤتهم .
وقوله : فكونوا بغايا الخ البغايا جمع بغيّ يقال : بغت المرأة بغاء بالكسر والمد
أي : زنت فهي بغيٌّ . و العياب بكسر المهملة : جمع عيبة بفتحها وهي ما يجعل فيه
الثياب .
وقوله : سيخبر ما أحدثتم الخ المآب : المرجع أي : إذا رجعت الرفاق
____________________
تفرّقت في كل وجه وانتشر
فيهم قبح صنيعكم ونقله من سمعه إلى من لم يسمعه .
والأخوص بالخاء المعجمة يقال : رجل أخوص بيّن الخوص أي : غائر العينين وقد خوص
بالكسر وأما الأحوص بالحاء المهملة فليس هذا وكثيراً ما يصحف به . والحوص : ضيق في
قال الآمديّ في المؤتلف والمختلف : الأخوص بالخاء المعجمة اسمه زيد ابن عمرو بن
قيس بن عتّاب بن هرميّ بن رياح بن يربوع بن حنظلة بن مالك بن زيد مناة بن تميم
شاعر فارس .
وهو القائل : الطويل ( وكنت إذا ما باب ملكٍ قرعته ** قرعت بآباءٍ ذوي شرفٍ ضخم )
( بأبناء عتّابٍ وكان أبوهم ** إلى الشّرف الأعلى بآبائه ينمي ) ( وهم ملكوا
الأملاك آل محرّقٍ ** وزادوا أبا قابوس رغماً على زعم ) ( وقادوا بكرةٍ من شهاب
وحاجبٍ ** رؤوس معدّ في الأزمّة والخطم ) ( أنا ابن الذي ساد الملوك حياته ** وساس
الأمور بالمروءة والحلم ) ( وكنّا إذا قومٌ رمينا صفاتهم ** تركنا صدوعاً بالصّفاة
التي نرمي ) ) ( حمينا حمى الأسد التي لشبولها ** تجرّ من الأقران لحماً على لحم )
( ونرعى حمى الأقوام غير محرّمٍ ** علينا ولا يرعى حمانا الذي نحمي ) وله في كتاب
بني يربوع أشعارٌ جياد مما تنخلّته من قبائلهم . انتهى .
وكتب أبو محمد بن عبد الله ابن برّيّ النّحوي في هامشه أنّ صاحب المؤتلف والمختلف
لم يذكر الأخوص الرياحي وهو قيس بن زيد بن عمرو بن عتاب ابن رياح . قال :
____________________
مشائيم ليسوا مصلحين
عشيرةً . . . . . . . . . . . البيت وفيه أن الأخوص الرّياحيّ نسب تارةً إلى جدّه
الأدنى وهو رياح وتارة إلى جدّه الأعلى وهو يربوع .
وقدّم ابن برّيّ بعض الأسماء على بعضها والصواب ما أثبته الآمديّ .
ويؤيده ما قاله ياقوت في مختصر جمهرة الأنساب فإنّه لما ذكر أولاد هرميّ ابن رياح
قال : ومنهم عتّأب بن هرميّ بن رياح وهو ردف النّعمان والمنذر أبيه .
ومن ولده الأخوص الرّياحيّ إسلامي . والله أعلم .
ثم رأيت في ضالّة الأديب لأبي محمد الأعرابيّ شعراً له يتعلق بإبل الصدقة فعلم
أنّه إسلاميّ وهو معاصر لسحيم بن وثيل .
وانشد بعده : الوافر ( معاري إنّنا فأسجح ** فلسنا بالجبال ولا الحديدا ) على أنّ
قوله الحديدا معطوف على محل قوله بالجبال فإنّه ف يمحل نصبٍ لأنّه خبر ليس والباء
زائدة .
____________________
و معاوي : منادى مرخّم
معاوية بن أبي سفيان .
وقد تقدّم شرحه مفصّلاً في الشاهد التاسع والسبعون بعد المائتين : المنسرج ( إن هو
مستولياً على أحد ** إلاّ على أضعف المجانين ) على أن المبرد أجاز إعمال إن
النافية عمل ليس واستشهد بهذا البيت : فهو اسمها ومستولياً خبرها . وإن كما
النافية الحجازية في الحكم لا تختص في العمل بنكرةٍ دون معرفة بل تعمل فيهما .
قال ابن هشام في المغني : أجاز الكسائيّ والمبرّد إعمال إن عمل ليس وقرأ سعيد بن
جبير : )
وسمع من أهل العالية : إن أحدٌ خيراً من أحد إلاّ بالعافية . و إنّ ذلك نافعك و لا
ضارّك .
انتهى .
وقال في شرح شواهده : كذا خرّج ابن جنّي قراءة سعيد بن جبير فظنّ أبو حيّان أن
تخريجها على ذلك يوقع في تناقص القراءتين فإنّ الجماعة يقرؤون بتشديد النون وفتحها
ورفع عباد وأمثالكم وذلك إثبات وقراءة سعيد على هذا
____________________
التخريج نفيٌ . فخرّجها
على أنّها المؤكدة خفّفت ونصبت الجزأين كقوله : الطويل ولم يثبت الأكثرون إعمالها
النصب في الجزأين وتأوّلوا ما أوهم ذلك . ثم إن القائلين به لم يذكروه إلاّ مع
التشديد لا مع التخفيف . ثمّ إنّ التناقص الذي توهّمه مدفوع لأنّهم أمثالهم في
أنهم مخلوقون وليسوا أمثالهم في الحياة والنطق .
وقراءة سعيد على هذا التخريج أقوى في التشنيع عليهم من قراءة الجماعة ويؤيدها ما
بعدها من قوله تعالى : ألهم أرجل يمشون بها . . . الأبيات . انتهى .
وقال ابن الشجريّ في أماليه : إذا كانت إن نافية فسيبويه لا يرى فيها إلاّ رفع
الخبر . وإنّما حكم بالرفع لأنّها حرف جحد يحدث معنى في الاسم والفعل كألف
الاستفهام وكما لم تعمل ما التميميّة وهو رفاقٌ للقياس . ولما خالف بعض العرب
القياس فأعملوا ما لم يكن لنا أن نتعدّى القياس في غير ما وغير سيبويه أعمل إن على
تشبيهها بليس كما استحسن ذلم ف يما واحتجّ بأنه لا فرق بين إن وما في المعنى إذ
هما لنفي ما في الحال وتقع بعدهما جملة الابتداء كما تقع بعد ليس .
وأنشد : ( إن هو مستولياً على أحدٍ ** إلاّ على حزبه الملاعين )
____________________
وهو قول الكسائيّ والمبرّد
. ووافق الفرّاء في قوله سيبويه . انتهى .
إلا على حزبه المناحيس قال ابن هشام : وفي البيت شاهد على مسألة أخرى وهي أن
انتفاض النفي بعد الخبر لا يقدح في العمل . )
ومثله في ذلك قول الآخر : الطويل ( إن المرء ميتاً بانقضاء حياته ** ولكن بأن يبغي
فيخذلا ) وهذا الشاهد مع كثرة دورانه في كتب النحو لم يعلم له قائل . والله أعلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثمانون بعد المائتين ) الطويل ( ولات ساعة مندم ) على
أنّ الفرّاء قال : لا يختصّ عمل لات بلفظ الحين بل تكون مع الأوقات كلّها . وأنشد
هذا الشعر .
أقول : لعلّ الفرّاء قال ما نقله الشارح المحقق عنه في غير تفسيره وأما في تفسيره
فإنّه لم يتعرض لهذا ولا لغيره أيضاً .
وروي هذا الشعر على أنّ لات فيه حرف جرّ وهذه عبارته في سورة ص عند تفسير قوله
تعالى : فنادوا ولات حين مناص : يقول ليس حين فرار . و النوص : التّأخر . ومن
العرب من يضيف لات فيخفض أنشدوني :
____________________
ولات ساعة مندم ولا أحفظ
صدره . والكلام أن ينصب بها في معنى ليس لأنشدوني المفضّل : الوافر فهذا نصب .
وأنشد بعضهم : الخفيف ( طلبوا صلحنا ولات أوانٍ ** فأجبنا أن ليس حين بقاء ) فخفض
أوانٍ . فهذا خفض . انتهى كلام الفرّاء .
فظهر من كلامه أنّه ليس فيه تقييد معمول لات بزمان ولا غيره .
وقد نقل عنه ابن هشام في المغني تبعاً لأبي حيّان في الارتشاف خلاف ما نقله الشارح
المحقق قال : اختلف في معمولها : فنصّ الفرّاء على أنها لا تعمل إلاّ في لفظ الحين
وهو ظاهر قول سيبويه وذهب الفارسيّ وجماعة إلى أنها تعملفي الحين وفيما رادفه . ثم
قال بعد هذا : زعم الفرّاء أنّ لات تستعمل حرفً جارّاً لأسماء الزمان خاصة .
قال الدمامينيّ : بين نقل ابن هشام ونقل الرضيّ عن الفرّاء تخالف . فإن قلت : هلا
حملت نقل )
الرّضي عن الفرّاء : أنها تكون مع الأوقات على ما إذا كانت عاملة للجرّ كما نقله
المصنف هنا وحملت حكاية كلام المصنف أوّلاً أنها لا تعمل إلاّ في لفظ الحين على ما
إذا كانت عاملة عمل ليس فلا يكون بين النقلين تعارض . قلت : لا لأنّ الرضيّ لما
ذكر عنه أنّها تعمل في الأوقات أنشد :
____________________
ولات ساعة مندم أقول : قد
وقع هذا الشعر في كلام الشارح المحقق مجملاً لا يعلم ها هو منصوب أو مجرور وبان لك
من نقلنا لكلام الفرّاء أنّ الرواية عنه عن العرب الجرّ فكيف تكون الرواية فيه
النصب نعم روي النصب عن غير الفرّاء وبه أورده ابن الناظم وابن عقيل في شرح
الألفية فتكون ساعة خبر لات واسمها محذوف .
ويجوز الرفع بقلّة على أنها اسم لات والخبر محذوف فيقدّر في الأوّل : ولات ساعة لك
ساعة مندم أو ولات الساعة ساعة مندم . وقدر الشارح المحقّق في الى ية أي : لات
الحين حين مناص .
فإن قلت : إنّهم قالوا لات لا تعمل إلاّ في اسم زمان منكّر فكان الظاهر في البيت
التقدير الأوّل وفي الآية نحو ما قدّره الشاطبيّ وهو ولات حين ينادون فيه حين مناص
.
قلت : إنّهم قالوا منهم ابن هشام في المغنيّ : إن لات لاتعمل في معرفة ظاهرة
فمفهومة أنها أ تعمل في معرفة مقدّرة .
ونقل ناظر الجيش في شرح التسهيل عن شرح الكافية لابن مالك : لا بدّ من تقدير
المحذوف معرفةً لأنّ المراد نفي كون الحين الحاضر حيناً ينوصون فيه أي : يهربون أو
يتأخّرون وليس المراد نفي جنس حين المناص ولذلك كان رفع الحين الموجود شاذّاً
لأنّه محوج إلى تكلف مقدر يستقيم به المعنى مثل أن يقال معناه ليس حين مناص
موجوداً لهم عند تناديهم ونزول ما بهم به المعنى مثل أن يقال معناه ليس حين مناص
موجوداً لهم عند تناديهم ونزول ما بهم إذ قد كان لهم قبل ذلك حين مناص فلا يصحّ
نفي جنسه مطلقاً بل مقيّداً .
وقول الشارح المحقق وتعمل عمل ليس بكسع التاء أي : بلحاقها للات وتبعها إيّاها .
قال الصاغانيّ في العباب في فصل الكاف من باب الهمزة : كسأ القوم وكسعهم : إذا
تبعهم .
وهذه عبارة مألوفة للنحاة قديماً وحديثاً . قال ابن مالك في التسهيل هنا : وتكسع
بالتاء فتختصّ بالحين أو مرادفه . )
____________________
وقول الشاطبيّ : كسعت بالتاء أي : ضرب في عجزها بها فيه تكلّف للمناسبة . وكذلك
قول شارح اللباب : يقال كسعت فلاناً : إذا ضربت دبره بيدك أو بصدر قدمك . أو من
كسعت الناقة إذا ضربت خلفها بالماء البارد ليترادّ اللبن في ضرعها . انتهى .
ويقدّر في الساعة نحو لات ساعة مندم ساعةً لك . وقدّر الشارح المحقق في الآية
تبعاً لأبي عليّ في المسائل المنثورة أي : لات حين مناص حاصلاً . وفيه أنهم قالوا
: إنّ عمل لات مختصٌّ بالحين اسماً وخبراً .
قال ابن مالك : الرجز فالظاهر نحو ما قدّره الشاطبيّ أي : ولات حين مناص حيناً
ينادون فيه . وقد جاء عمل لات في غير الحين شذوذاً في قول الحماسيّ : الكامل ( لهفي
عليك للهفةٍ من خائفٍ ** يبغي جوارك حين لات مجير ) ولا ينبغي حمل الآية على هذا .
فإن قلت : اجعل حاصلاً صفة زمان محذوف أي : حيناً حاصلاً ونحوه قلت : شرط هذا
اختصاص الصفة بالموصوف وما هنا ليس كذلك .
ثم قال الشارح المحق : ولا يجوز أن يقال بإضمار اسمها لأنّ الحروف لا يضمر فيها .
____________________
أقول : يريد الردّ على المصنف في الإيضاح فإنّه عبّر هناك بالإضمار دون الحذف .
وهذا شيء قد سبقه سيبويه فيه فإنه كثيراً ما يطلق لفظ الأغضمار على الحذف .
وكذلك فعل صاحب اللبّ قال : واسم لات حين محذوف أو مضمر لجريها مجرى الفعل في
إلحاق التاء عند الخليل وسيبويه .
وقال السيد شارحه : فإنّه لما ألحقت التاء صارت شبيهة بليس صورة ومعنى فحسن إضمار
الاسم فيها كما في ليس .
وحمل ابن خروف كلام سيبويه على التجوزّ لا على حقيقة الإضمار بناء على أنّها عنده
فالأول فيه أربعة مذاهب : أحدها : أنها كلمة واحدة فعل ماض وفيه قولان : أحدهما
أنّها في الأاصل بمعنى نقص من قوله تعالى : لا يلتكم من أعمالكم شيئاً فإنه يقال
لات يليت كما يقال ألت يألت وقد قرئ بهما ثم استعملت للنفي كما أنّ قلّ كذلك قاله
أبو ذرّ الخشنيّ في شرح كتاب سيبويه نقله )
عنه أبو حيان في الارتشاف وابن هشام في المغني والقول الثانيّ : أنّ أصلها ليس
أبدلت سينها تاء كما قالوا ستّ والأصل سدس بدليل التصغير على سديس والتكسير على
أسداس فصارت ليت ثم انقلبت الياء أافتً لتحركها في الأصل وانفتاح ما قبلها إذ
أصلها عندهم ليس بكسر الياء فصارت لات فلمّا تغيرت اختصت بالحين .
____________________
والمذهب الثاني أنّها كلمتان : لا النافية والتاء لتأنيث اللفظ كما شرحه الشارح
المحقق وهذا مذهب الجمهور . و الثالث أنّها حرف مستقلّ ليس أصلها ليس ولا لا نقله
الشاطبيّ في شرح الألفيّة . الرابع أنّها كلمة وبعض كلمة وذلك أنّها لا النافية
والتاء زائدة في أول الحين . ونسب هذا إلى أبي عبيد وابن الطّراوة .
قال ابن هشام في المعني : واستدلّ أبو عبيد بأنّه وجدها في الإمام وهو مصحف عثمان
بن عفّان مختلطة بحين في الخطّ . ولا دليل فيه في الخطّ من أشياء خارجةٍ عن القياس
.
ويشهد للجمهور أنه يوقف عليها بالتاء والهاء ورسمت منفصلة من الحين وأن التاء قد
تكسر على أصل حركة التقاء الساكنين .
وهو معنى قول الزمخشريّ : وقرئ بالكسر على البناء كجير . انتهى . ولو كان فعلاً
ماضياً لم يكن للكسر وجه .
وأما الاختلاف في عملها ففيه أربعة مذاهب أيضاً : أحدها أنّه لا تعمل شيئاً فإن
وليها مرفوع فمبتدأ حذف خبره أو منصوب فمفعول بفعل محذوف وهو قول الأخفش والتقدير
عنده في الآية : لا أرى حين مناص وعلى قراءة الرفع ولا حين مناص كائن لهم . الثاني
: أنها تعمل لا التبرئة وهو عمل إنّ . وهذا قولٌ آخر للأخفش والكوفيّين . الثالث :
أنّها حرف جرّ عند الفرّاء على ما نقل عنه . الرابع : أنّها تعمل عمل ليس وهو قول
الجمهور . قال أبو حيّان في الارتشاف : والعطف على خبر لات عند من أعملها إعمال
ليس كالعطف على خبر ما الحجازية لات حين جزع ولات حين طيش ولات حين قلق بل حين
____________________
صبر تنصب في الأولى وترفع
في الثانية كما كان في ما )
ولا النافية . ثم قال : وقد جاءت لات غير مضاف إليها حين ولا مذكور بعدها حين ولا
ما رادفة في قول الأافوة الأوديّ : الرمل ( ترك النّاس لنا أكنافهم ** وتولّوا لات
لم يغن الفرار ) قال ناظر الجيش في شرح التسهيل : وهذا يدلّ على أن لات لا تعمل
وإنّما هي في هذا البيت حرف نفي مؤكد بحرف النفي الذي هو لم . ولو كانت عاملةً لم
يجز حذف الجزأين بعدها كما لا يحذفان بعد ما ولا العاملتين عمل ليس .
والبيت الشاهد الذي قال الفرّاء لا احفظ صدره رواه مع صدره ابن السكّيت في كتاب
الأضداد وهو : ( ولتعرفنّ خلائقاً مشمولةً ** ولتندمنّ ولات ساعة مندم ) قال فيه
قال ابن الأعرابيّ : يقال : أخلاق مشمولة أي : مشؤومة وأخلاق سوء .
وأنشد : ولتعرفنّ خلائقاً مشمولةً . . . . . . . . . . . . البيت ويقال أيضاً رجل
مشمول الخلائق أي : كريم الأخلاق . قال : وأنشد أبو عمرو لرجل من بني ( كأن لم أعش
يوماً بصبهاء لذّةٍ ** ولم أند مشمولاً خلائقه مثلي ) . . . انتهى و أند بالنون
قال أبو حنيفة الدّينوري في كتاب النبات : ناديت الرجل
____________________
مثل نادمت وهو المجالسة
ولم أند : لم أجالس . والنادي منه هو المجلس . وأنشد هذا البيت .
وزعم الشاطبيّ أنّ هذا البيت برمتّه رواه الفراء عن المفضّل . وهذا لا أصل له
وإنما الذي رواه عن المفضّل البيت الذي بعده كما هو ظاهر من نقل عبارة الفرّاء .
ورأيت ابن عقيل وغيره ذكر للبيت الشاهد روايةً غير ما نقلناه جعله صدراً وتمّمه
بعجز كذا : الكامل ( ندم البغاة ولات ساعة مندمٍ ** والبغي مرتع مبتغيه وخيم )
وقال : هو لرجل من طيئ أي : ولات الساعة ساعة مندم . وهذا هو المشهور المتداوال في
كتب النحو .
وقال العينيّ : قائله محمد بن عيس بن طلحة بن عبيد الله التيميّ ويقال مهلهل ابن
مالك )
الكنانيّ . والله أعلم بحقيقة الحال .
وانشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والثمانون بعد المائتين ) الكامل ( العاطفون تحين
ما من عاطف ** والمطعمون زمان أين المطعم ) على أنّ أبا عبيد زعم أنّ التاء في
قولهم لات حين مناص من تمام حين كما في هذا البيت .
____________________
ومثله لصاحب اللب وغيره قال : وعن أبي عبيد : تحين لغة في حين ولا لنفي الجنس .
أقول : إنّ أبا عبيد لم يذهب إلى هذا وإنما هو قول للأموي نقله عنه في كتابه في
اللغة المشهور بالغريب المصنف وهذه عبارته فيه : وقال الأحمر : تالآن في معنى الآن
وأنشدنا : الخفيف ( نوّلي قبل نأي داري جمانا ** وصلينا كما زعمت تالآنا ) وكذلك
قال الأمويّ وأنشد لأبي وجزة : ( العاطفون تحين ما من عاطفٍ ** والمفضلون يداً إذا
ما أنعموا ) قال : وإنّما هو حين قال : ومنه قوله تعالى : ولات حين مناص معناه لا حين
مناص . انتهى كلامه .
فعلم به أنّ القول بكون لات حين هو لا تحين والتاء زائدة إنّما هو قول الأمويّ لا
أبي عبيد وإن اشتهر النقل عنه . وقد ردّه الشارح المحقّق ولم يبين موقع التاء في
هذا البيت .
وقد رأيت في تخريجه وجهين : أحدهما : ذكره ابن جنّي في سرّ الصناعة وسبقه ابن
السيرافيّ في شرح شواهد الغريب المصنف وأبو عليّ في المسائل المنثورة : وهو أنّها
في
____________________
الأصل هاء السكت لاحقة
لقوله العاطفون اضطرّ الشاعر إلى تحريكها فأبدلها تاء وفتحها .
قال ابن جنّي : أراد أن يجريه في الوصل على حدّ ما يكون عليه في الوقف وذلك أنه
يقال في الوقف هؤلاء مسلمونه وضاربونه فتلحق الهاء لبيان حركة النون كما أنشدوا :
الرجز ( أهكذا يا طيب تفعلونه ** أعللاً ونحن منهلونه ) فصار التقدير العاطفونه ثم
إنّه شبه هاء الوقف بهاء التأنيث فلما احتاج إقامة الوزن إلأى حركة الهاء قلبها
بتاء كما تقول في الوقف : هذا طلحه فإذا وصلت صارت الهاء تاء فقلت )
هذا طلحتنا . وعلى هذا قال العاطفونه .
ويونس بصحّة هذا قول الرّاجز : الرجز ( من بعد ما وبعد مت ** صارت نفوس القوم عند
الغلصمت ) أراد : وبعد ما فأبدل الألف في التقدير هاء فصارت بعدمه ثم إنّه أبدل
الهاء تاء لتوافق بقيّة القوافي التي يليها وشجّعه شبه الهاء المقدرة في قوله
وبعدمه بهاء التأنيث في طلحة وحمزة ولما كان يراهم قد يقولون في الوقف : هذا طلحت
وحمزت قال هو أياً وبعدمت فأبدل الهاء المبدلة من الألف تاء .
وليس شيء مما يضطرون إليه إلاّ وهم يحاولون به وجهاً . فإذا جاز أن تشبه هاء
وبعدمه بتاء الائيث حتى يقال فيها وبعدمت جاز أيضاً أن تشبه هاء العاطفونه بهاء
التأنيث فيقال العاطفونت وفتحت التاء كما فتحت في آخر ربّت وثمّت . انتهى مختصراً
.
قال ابن السيرافيّ : ويجوز أن ينشد العاطفونه بإسكان الهاء فيكون قد أضمر
____________________
وجعل مستفعلن في موضع
متفاعلن . وأظنّ أنّ الرّواة غيّروه وحرّكوه طلباً لأن يكون الجزء تاماً على الأصل
. انتهى .
والوجه الثاني ذكره ابن مالك في التسهيل وتبعه شارح اللبّ : وهو أن التاء بقيّة
لات فحذفت لا وبقيت التاء . قال : وقد يضاف إلى لات حين لفظاً أو تقديراً وربّما
استغنى مع التقدير عن لا بالتاء .
ومثّل ابن عقيل للأوّل بقوله : الوافر أي : أذيتي ومثّل للثاني بقوله : الوافر (
تذكّر حبّ ليلى لات حنيناً ** وأمسى الشّيب قد قطع القرينا ) أي : حين لات حين
تذكر .
ومثّل للثالث بقوله : العاطفون تحين ما من عاطفٍ . . . . . . . . . . . البيت أي :
حين لات حين ما من عاطف فحذف حين ولا .
هذا كلامهما ولا يخفى تعسّفه . وتخريج هذا البيت على زيادة التاء أسهل وأقل كلفة
من هذين التخريجين وإن كان لا يطّرد زيادة التاء في كل موضع فيه لا . وهذه التاء
زيادتها غير مطّردة )
وغير لازمة .
وقد سمع زيادتها مع لفظ الآن أيضاً قال أبو زيد في نوادره : سمعت من يقول حسبك
تالآن يريد الآن .
وقال ابن الأحمر : ( نولّي قبل نأي داري جمانا ** وصلينا كما زعمت تالآنا ) أي :
كما زعمت الآن . و نوّلي : أمر من النّوال وهو القبلة . و جمانا
____________________
: منادى مرخّم جمانة بضم
وهذا البيت الشاهد من قصيدةٍ لأبي وجزة السّعديّ مدح بها آل الزّبير بن العوّام
لكنه مركب من مصراعي بيتين وقع في صحاح الجوهريّ هكذا فتبعه الشارح المحقق وغيره .
والذي في ديوانه كذا : الكامل ( وإلى ذرا آل الزّبير بفضلهم ** نعم الذّرا في
النّائبات لنا هم ) ( العاطفون تحين ما من عاطفٍ ** والمسبغون يداً إذا ما انعموا
) ( واللاحقون دفانهم قمع الذّرا ** والمطعمون زمان أين المطعم ) ( والمانعون من
الهضيمة جارهم ** والحاملون إذا العشيرة تغرم ) و الذّرا بالفتح : كلّ ما استترت
به يقال : أنا في ظلّ فلان وفي ذراه أي : في كنفه وستره . و النائبات : شدائد
الدّهر وحوادثه . وفي واللام متعلقان بالذّرا لأنّه بمعنى الملتجأ . و هم هو
المخصوص بالمدح . و العطف : الشفقة والتحنّن . و تحين ظرف للعاطفون والتاء زائدة
أو أنّها متصلة بما قبلها على أنّها هاء السكت كما بيّناه وعلى هذين القولين ما
نافية وحين مضافة إلى الجملة المنفيّة فإن من زائدة . و عاطف مبتدأ خبره محذوف أي
: يوجد ونحوه أو أنه بقيّة لات و حين خبرها واسمها محذوف كما قال ابن مالك . وفيه
غرابةٌ حيث يحذف العامل ويبقى منه حرف وينظر على هذا في حين هل هي مضافة إلى
الجملة المنفيّة أو أنّ ما ليست نافية فإن كانت نافية انتقض النفي الأوّل بها .
وهذا غير مراد الشاعر . وإن كانت غير نافية فينظر من أي أنواع ما هي . وبالجملة :
كون التاء بقيّة لات يشكل عليه معنى البيت وإعرابه ولا داعي إلى هذا كله .
وقال ناظر الجيش : وتخريج البيت على ما ذكره المصنّف لا يتعقّل لأنّه يكون المعنى
هم العاطفون وقت ليس الحين حين ليس ثمّ عاطف . )
____________________
وروى صاحب الغريب المصنّف : المفضلون بدل المسبغون من الإفضال وهو الإنعام والجيّد
هو الأوّل . و اليد : النعمة .
يقول : هم يعطفون على من سألهم واحتاج إليهم إذا اشتدت الأحوال وأجدب الزمان ولم
يجد المسترفد رافداً وإذا أنعموا أوسعوا على المنعم عليه إفضالاً ونائلاً .
وقوله : اللاحقون الخ أي : والمتبعون يقال : لحقته ولحقت به من باب تعب لحاقاً
بالفتح إذا تبعته وأدركته وألحقته بالألف مثله ولحقه الثمن لحوقاً : لزمه فاللحوق
: اللزوم واللّحاق : الإدراك . كذا في المصباح . و الجفان بالكسر : جمع جفنة
بالفتح وهي القصعة الكبيرة للطعام . و القمع بفتح القاف و الذّرا بالضم : جمع ذروة
بضم الذال وكسرها : أعلى السنام إنّما خصّة لأنّه أطيب لحم الإبل عندهم . و زمان
ظرف للمطعمون وهو مضاف للجملة بعده لكن بتقدير مضاف أي : زمان سؤال أين المطعم .
ورواه الأمويّ على ما نقله أبو عبيد في الغريب المصنّف : والمطعمون زمان ما من
مطعم فيكون في البيت على هذه الرواية إقواء . مدحهم بأنّهم يطعمون الفقراء أطيب
اللحم في أيّام القحط والجدب وفي الزمان الذي يتسلءل الناس عن الكرماء المطعمين
للطعام .
وقوله : المانعون الخ الهضمية : المظلمة فعليه بمعنى فاعلة من هضمت الشيء إذا
كسرته . و الحاملون : من حمل الدّية . يقول : إن وزّعت دية قتيل على عشيرته حملها
عنهم ودفعها من ماله .
وتركيب بيت من بيتين ونحوه في الاستشهاد شائع عند المصنّفين يفعلونه قصداً إما
لأنّ المعنى متفرقاً يكون في أبيات وإمّا لأنّ في أحد المصراعين قلاقة معنى أو لغة
فيحتضرونه بأخذ مصراعين منه كما فعل ابن الشجريّ وابن هشام في المغني في
____________________
قوله : الطويل ( وناهدة
الثّديين قلت لها اتّكي ** فقالت على اسم الله أمرك طاعة ) والأصل هكذا : الطويل (
وناهدة الثّديين قلت لها اتّكي ** على الرّمل من جنباته لم توسّد ) ) ( فقالت على
اسم الله أمرك طاعةٌ ** وإن كنت قد كلّفت ما لم أعوّد ) فأخذ منهما مصراعين ولم
يتنبه لهذا أحد من شرّاح المغني . وكما فعل الزمخشريّ في المفصّل وغيره كابن هشام
في المغني في قوله : الكامل ( حاشا أبا ثوبان إنّ له ** ضنّاً على الملحاة والشّتم
) وهو من قصيدة مسطورة ف يالمفضليات والأصل : ( حاشا أبو ثوبان إنّ أبا ** ثوبان
ليس ببكمةٍ فدم ) ( عمرو بن عبد الله إنّ به ** ضنّاً على الملحاة والشّتم )
____________________
و أبو وجزة هو بفتح الواو
وسكون الجيم بعدها زاي معجمة يقال رجل وجز أي : سريع الحركة وامرأة وجزة .
وأبو وجزة اسمه يزيد بن عبيد وقيل ابن أبي عبيد . وهو شاعر ومحدث ومقرئ كذا قال
الصاغانيّ في العباب .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو من بني سعد بن بكر بن هوازن أظآر النّبيّ صلى
الله عليه وسلّم وكان شاعراً مجيداً وهو الذي روى الخبر في استسقاء عمر بن الخطّاب
رضي الله عنه : وتوفّي بالمدينة سنة ثلاثين ومائة وهو أوّل من شّبب بعجوز .
أقول : أبو وجزة إنّما هو من بني سليم بالتصغير وإنّما نشأ في بني سعد فغلب عليه
نسبهم .
وقال صاحب التقريب والتهذيب : أبو وجزة السعدي المدنيّ الشاعر ثقة وذكره ابن سعد
في الطبقة الرابعة من التابعين ثم ذكر مشايخه وتلاميذه .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والثمانون بعد المائتين ) الخفيف ( طابوا صلحنا
ولات أوان ** فأجبنا أن ليس حين بقاء ) على أن أصله عند المبرّد والسيرافيّ : ولات
أوان طلبوا فحذفت الجملة وبني أوان على السكون أو على الكسر ثم أبدل التنوين من
المضاف إليه كما في يومئذ .
____________________
قال ابن هشام في المغني : قرئ ولات حين مناصٍ بخفض الجين فزعم الفرّاء أن لات
تستعمل حرفاً جارّاً لأسماء الزمان خاصة وأنشد : طلبوا صلحنا ولات أوانٍ وأجيب عن
البيت بجوابين : أحدهما : على إضمار من الاستغراقيّة . ونظيره في بقاء عمل الجارّ
مع حذفه وزيادته قوله : الوافر ألا رجلٍ جزاه الله خيراً والثاني : أن الأصل :
ولات أوان صلح ثم بنى المضاف لقطعه عن الإضافة وكان بناؤه على الكسر لشبهه بنزال
وزناً ولأنّه قدّر بناءه على السكون ثم كسر على أصل التقاء الساكنين كأمس ونوّن
للضرورة وقال الزمخشريّ : للتعويض كيومئذ . ولو كان كما زعم لأعرب لأن العوض ينزّل
منزلة المعوّض منه .
وعن القراءة بالجواب الأوّل وهو واضح وبالثاني وتوجيهه : أنّ الأصل حين مناصهعم ثم
نزّل قطع المضاف إليه من مناص منزلة قطعه من حين لاّتحاد المضاف والمضاف إليه قاله
الزمخشريّ . وجعل التنوين عوضاً من المضاف إليه ثم بنى إضافته إلى غير متمكن .
انتهى .
____________________
والأولى أن يقال : إنّ التنزيل المذكور اقتضى بماء الحين ابتداء وإنّ المناص معرب
وإن كان قد قطع عن الإضافة بالحقيقة لكنه ليس بزمان فهو ككل وبعض . انتهى كلام ابن
هشام . أقول : تقدير المضاف إليه جملة هو المناسب لتشبيه أوان بيومئذ في البناء
وغي كون التنوين بدلاً من المضاف إليه وأما تقديره مفرداً ثم تعليل بنائه بقطعه عن
الإضافة كما صنع ابن هشام تبعاً لغيره ففيه أنّ ما ذكره مختص بالظروف النّسبيّة
ويكون بناؤها حينئذ على الضمّ وأما أوان فإنّه ظرف متصرف كما يأتي قريباً وليس
مضموماً كقبل وبعد . )
ويجوز أن يقدّر المضاف إليه ولات أوان نصطلح فإنّ المنفيّ في الحقيقة هو أوان
الصلح أو يقدّر جملة اسمية أي : ولات أوان صلحنا ممكن فأوان خبر لات وهو منصوب
لفظاً أو مبني على الفتحة إضافته إلى مبنيّ واسمها محذوف أي : ولات الأوان .
قال أبو عليّ في المسائل المنثورة : قال أبو العبّاس المبّرد : أوان هنا مبنية
لأنّ أوان تضاف إلى المبتدأ والخبر فكأنك حذفت منه المبتدأ والخبر فنونّت ليعلم
أنّك قد اقتطعت الإضافة منه .
ولم يرتض ابن جنّي في الخصائص كون التنوين عوضاً عن الجملة كيومئذ وفرّق بينهما
بأن إذ ظرف ناقص وأوان ظرف متصرّف . قال : وتأوّل أبو العبّاس المبرّد قول الشاعر
: طلبوا صلحنا ولات أوانٍ . . . . . . . . . . . . . . . البيت على أنه حذف المضاف
إليه أوان فعوض التنوين عنه على حد قول الجماعة في تنوين إذ .
وهذا ليس بالسهل وذلك أنّ التنوين في نحو هذا إنّما دخل فيما لا يضاف إلى الواحد
أي : المفرد وأما أوان فمعرب ويضاف إلى الواحد كقوله : الطويل
____________________
( فهذا أوان العرض حيّ
ذبابه ** زنانيره والأزرق المتلمس ) وقد كسّروه على آوانه وتكسيرهم إيّاه يبعده عن
البناء لأنّه أخذٌ به في شقّ التصريف والتصرّف .
وكذا قال في سرّ الصناعة : ذهب أبو العبّاس إلى أن كسرة أوان ليست إعرابً ولا هي
علماً للجرّ ولا أنّ التنوين الذي بعدها هو التابع لحركات الإعراب وإنما تقديره
عنده أنّ أوان بمنزلة إذ في أنّ حكمه أن يضاف إلى الجملة نحو قولك : جئتك أوان قام
زيد وأوان الحجاج أمير أي : إذ ذاك كذلك فلمّا حذف المضاف إليه أوان عوّض من
المضاف إليه تنويناً .
والنون عنده كانت في التقدير ساكنة كسكون ذال إذ فلمّا لقيها التنوين ساكناً كسرت
النون لالتقاء الساكنين . فهذا شرح هذه الكلمة وقوله هذا غير مرضيّ لأنّ أواناً قد
يضاف إلى الآحاد نحو قوله : ارجز هذا أوان الشدّ فاشتدّي زيم وقوله : فهذا أوان
العرض وغير ذلك . فإن قيل : فإذا كان الأمر كذلك فهلاّ حركوا النون في يومئذ وأوان
لسكونها وسكون )
____________________
الذال والنون قبله ولم يحرّكوهما لذلك دونه فالجواب : أنّهم لو فعلوا ذلك لوجب أن
يقولوا إذن فيشبه التنوين الزائد النون الأصيّلة .
وايضاً فلو فعلوا ذلك في إذ لما أمكنهم أن يفعلوه في اوان لأنّهم لو آثروا إسكان
النون لما قدروا على ذلك لأنّ الألف ساكنة قبلها وكان يلزمهم من ذلك أن يكسروا
النون لسكونها وسكون فإن قيل : فلعلّ على هذا كسرهم النون من أوان إنّما هو
لسكونها وسكون الألف قبلها دون أن يكون كسرهم ذال إذ لسكونها وسكون التنوين بعدها
.
فعلى هذا ينبغي أن يحمل كسر النون من أوان لئلا يختلف الباب ولأن أوان أيضاً لم
ينطق به قبل لحاق التنوين لنونه فيقدّر مكسور النون لسكونها وسكون الألف قبلها
وإنّما حذف منه المضاف إليه وعوّض منه التنوين عقيب ذلك فلم يوجد له زمن يلفظ به
بلا تنوين فيلزم القضاء بأن نونه إنّما كسرت لكون الألف قبلها فاعرف ذلك من مذهب
أبي العبّاس .
وأمّا الجماعة غيره وغير أبي الحسن فعندهم أنّ أوان مجرورة بلات وأنّ ذلك لغة
شاذّة . وروينا عن قطرب قال : قراءة عيسى : ولات حين مناصٍ بالجر . انتهى كلامه .
وهذا حقّ لا شبهة فيه فالوجه كون لات فيه حرف جرّ كما نقله الفرّاء في قوله : ولات
ساعة . وفي هذا البيت أيضاً .
وكذلك نقله أبو عليّ في المسائل عن أبي عمر الجرمي . واستشكله أبو عليّ بأنّ حروف
الجرّ لا بدّ أن تتعلّق بشيء ولات هنا لا تتعلق بشيء كما بيّنه الشارح وجوابه :
أنّ لنا حروف جرّ لا تتعلق بشيء منها لولا في نحو قوله : لولاي ولولاه فليكن هذا
منها .
وقول ابن هشام : وزعم الفرّاء أن لات تجرّ أسماء الزّمان خاصة تقدم النّقل عنه قبل
هذا
____________________
وقوله : وأجيب عن البيت
بجوابين : أحدهما : على إضمار من الخ هذا الجواب فاسد لأنّ تقدير من يقتضي أن لا
يكون لها معمول وإذا لم يكن لها معمول اقتضى كونها غير عاملة .
والجواب إنّما هو لبيان عملها .
ومن الغريب قول أبي حيّان على ما نقله السّمين في إعرابه : إن من المقدّرة
ومجرورها موضعهما رفع على أنهما اسم لات . قال : كما تقول ليس من رجل قائما والخبر
محذوف . هذا كلامه .
وقوله : وعن القراءة بالجواب الأوّل . وهذا الجواب لا يصحّ هنا أيضاً لما بيّنّاه
. )
وقوله : وتوجيهه أنّ الأصل حين مناصهم الخ وهذا الأصل لا يصحّ لأنّ معمول لات لا
يجوز إضافته إلاّ إلى نكرة .
ودعوى أن المضاف وهو حين اكتسب البناء من المضاف إليه ففيها أنّ شرط اكتساب البناء
بالإضافة في مثله أن يكون المضاف زماناً مبهماً والمضاف إليه إما إذ أو فعل أو
جملة اسمية وماص ليس واحداً منها . ثم إنّ البناء إنّما سمع فيما ذكرنا على الفتح
لا على الكسر .
ونقل السّمين في إعرابه عن الأخفش أنّه خرّج البيت على حذف مضاف أي : ولات حين
أوان فبقي المضاف إليه مجروراً بعد حذف المضاف . وردّ عليه مكّي بأنّه كان ينبغي
أأن يقوم وأجاب عنه السّمين بأن بقاء مثله على الجرّ قليل ومنه قراءة من قرأ :
والله يريد الآخرة بجرّ الى خرة .
أقول : تقدير هذا المضاف لا قرينة تدلّ عليه وإن صحّ إضافة حين إلى أوان بجعل
الحين عاماً والأوان خاصّاً بحمله على أوان الصلح .
ثم قال السمين : وقال الزجّاج : الأصل ولات أواننا فحذف المضاف إليه فوجب ألاّ
يعرب وكسره لالتقاء الساكنين . قال أبو حيّان : ومنه أخذ الزمخشري قوله أصله ولا
أوان صلح .
____________________
أقول : عبارة الزجاج في تفسيره : ومن خفض جعلها مبنيّة مكسورة لالتقاء السّاكنين
كما قالوا فداء لك فبنوه على الكسر . ولما قال ولات أوان جعله على معنى ليس حين
أواننا فلمّا حذف المضاف إليه بنى على الوقف ثم كسر لالتقاء الساكنين . والكسر
شاذّ شبيه بالخطأ عند البصريّين . انتهى .
وهذا البيت من قصيدة لأبي زبيدٍ الطّائيّ النّصرانيّ . سببها ما حكاه أبو عمرو
الشيبانيّ وابن الأعرابيّ قالا : نزل رجلٌ من بني شيبان اسمه المكاء برجلٍ من طيّئ
فأضافه وسقاه فلمّا سكر وثب إليه الشّيبانيّ بالسيف فقتله وخرج هارباً .
وافتخر بنو شيبان بذلك فقال أبو زبيد هذه القصيدة . وهذه أبيات منها : الخفيف (
ولعمري لعارها كان أدنى ** لكم من تقى وحسن وفاء ) ( ظل ضيفاً أخوكم لأخينا ** في
صبوحٍ ونعمةٍ وشواء ) ( لم يهب حرمة النّديموحقت ** يا لقومي للسّوءة السّواء )
____________________
( فاصدقوني وقد خبرتم وقد
ثا ** بت إليكم جوائب الأنباء ) ) ( هل علمتم من معشرٍ سافهونا ** ثمّ عاشوا صفحاً
ذوي غلواء ) ( كم أزالت رماحنا من قتيلٍ ** قاتلونا بنكبة وشقاء ) ( بعثوا حربنا
إليهم وكانوا ** في مقامٍ لو أبصروا ورخاء ) ( ثمّ لمّا تشذّرت وأنافت ** وتصلوا
منها كريه الصّلاء ) ( طلبوا صلحنا ولات أوانٍ ** فأجبنا أن ليس حين بقاء ) (
ولعمري لقد لقوا أهل بأسٍ ** يصدقون الطّعان عند اللّقاء ) ( ولقد قاتلوا فما جبن
القو ** م عن الأمهات والأبناء ) إلى أن قال : ( فاصدقوني أسوقةٌ أم ملوكٌ ** أنتم
والملوك أهل علاء ) ( أبديءٌ أن تقتلوا إذ قتلتم ** أم لكم بسطةٌ على الأكفاء ) (
فلحا الله طالب الصّلح منّا ** ما اطاف المبسّ بالدّهناء ) ( إننا معشرٌ شمائلنا
الصّب ** ر ودفع الأسى بحسن العزاء ) ( ولنا فوق كلّ مجدٍ لواءٌ ** فاضلٌ في
التّمام كلّ لواء ) ( فإذا ما استطعتم فاقتلونا ** من يصب يرتهن بغير فداء )
المكّاء بضم الميم وتشديد الكاف : اسم الشيبانيّ القاتل . و عارها : عار الضّربة .
وقوله : لم يهب حرمة النّديم الخ أورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : كيف يواري
سوءة أخيه على أنّ السوءة ما يقبح كشفه . و السّوءة
____________________
السّواء على وزن الليلة
الليلاء : الحصلة القبيحة . و يهب : من الهيبة والخوف .
والمعنى : أنه لم يعظم حرمة الصاحب وحقّت تلك الحرمة بأن تهاب . ثم نادى قومه
ليعجّبهم من النظر إلى هذه الفضيحة التي هي هتك حرمة النديم .
وروي : ولكن بدل قوله : و حقّت . وقد وقع العجز شاهداً في الكشّاف قال الطّيبيّ :
إنّي لم أظفر بصدره ولا بقائله . و جوائب الأنباء : جمع جائبة من الجواب وهو القطع
. قال في الصحاح : يقال هل جاءكم جائبة خبر أي : خبر يجوب الأرض من بلد إلى بلد .
وقوله : سافهونا من السّفه وهو ضدّ الحلم . و صفحاً : غعراضاً منهم . و ذوي حال من
)
الواو في عاشوا . و الغلواء بضم المعجمة : النشاط ومرح الشباب .
وقوله : لو أبصروا لو للتمنّي . و رخاء : معطوف على مقام . و تشذّرت بالشين والذال
المعجمتين قال في الصحاح : يقال : تشذّر فلان : إذا تهيّأ للقتال وتشذّر القوم في
الحرب : أي تطاولوا . و أنافت : زادت . و تصلّوا : من صلي بالنار صلّى من باب تعب
: وجد حرّها . و الصّلاء كتاب : حرّ النار .
وقوله : طلبوا صلحنا الخ هو جواب لّما . ومن العجائب قول العينيّ : طلبوا فعل
وفاعله مستتر فيه ولات أوان في محل الحال من الصلح .
وقوله : فأجبنا معطوف على طلبوا وأن مصدريّة يقال : أجابه بكذا . وقال السيوطيّ :
هي تفسيريّة . و حين خبر ليس أي : ليس الحين حين بقاء . و البقاء : اسم من قولهم
أبقيت على فلان إبقاء : إذا رحمته وتلطّفت به . والمشهور أنّ الاسم منه البقيا
بالضم والبقوى بالفتح .
وقال العينيّ وتبعه السّيوطيّ : المعنى بقاء الصلح .
وقوله : أبديءٌ الهمزة للاستفهام الإنكاريّ و بديء بالهمز كبديع وزناً ومعنى . و
تقتلوا بالبناء للمفعول و قتلتم بالبناء للفاعل .
____________________
وقوله : فلحا الله أي : قبح الله .
وقوله : ما أطاف الخ ما : مصدرية ظرفيّة . وأطاف وطاف بمعنى دار حول الشيء . و
المبسّ : حاديّ الإبل وهو في الأصل اسم فاعل من أبسست الإبل : إذا زجرتها . و
الدهناء : موضع في بلاد بني تميم . و يصب ويرتهن كلاهما بالبناء للمفعول . و أبو
زبيد اسمه المنذر بن حرملة من طيئ . قال أبو حاتم في كتاب المعمرين وابن قتيبة في
كتاب الشعراء وغيرهما : عاش أبو زبيد مائة وخمسين سنة وكان نصرانيّاً غيره . وكان عثمان
بن عفّان يقرّبه ويدنيّ مجلسه .
وكان مغرىً بوصف الأسد بعبارات مهولة تزعج السّامع حتّى كأنّه يشاهد الأسد في
حضوره فقال له عثمان رضي الله عنه يوماً : إنّي لأحسبك جباناً . فقال : كلاً يا
أمير المؤمنين ولكن رأيت منه منظراً وشهدت منه مشهداً لا يبرح ذكره يتردّد ويتجدّد
في قلبي .
____________________
ثمّ وصف ما شاهد منه ونقل كلامه برمتّه صاحب الأغاني إلى أن قال له عثمان رضي الله
)
عنه : اسكت قطع الله لسانك قد أرعبت قلوب المؤمنين .
وقال الطبريّ : كان أبو زيد في الجاهلية مقيماً في أخواله بني تغلب بالجزيرة وفي
الإسلام منقطعاً إلى الوليد بن عقبة بن أبي معيط في ولاية الجزيرة وولاية الكوفة
ولم يزل به الوليد حتّى أسلم وحسن إسلامه .
هذا كلامه وهو خلاف ما قال العلماء : أنّه مات على نصرانيّته .
قال صاحب الأغاني : ولّما وفد أبو زبيد إلى الوليد بن عقبة أيام ولايته الكوفة
أنزله دار عقيل بن أبي طالب على باب المسجد فاستوهبها منه فوهبها له فكان ذلك أوّل
ما طعن به على الوليد لأنّ أبا زبيد كان يخرج منها إلى الوليد فيسمر عنده ويشرب
معه ويشقّ الجامع وهو سكران فلما شهد على الوليد بشرب الخمر عزله عثمان عن الكوفة
وحدّه في الخمر .
وقال ابن قتيبة : ولما اعتزل الوليد بن عقبة عليّاً ومعاوية صار إلى الرّقة وكان
أبو زبيد ينادمه .
وقال صاحب الأغاني : ومات الوليد قبل أبي زبيد فمرّ أبو زبيد بقبره فوقف ثم قال :
الكامل . ( يا هاجري إذ جئت زائرة ** ما كان من عاداتك الهجر ) ( يا صاحب القبر
السّلام على ** من حال دون لقائه القبر ) ثم انصرف . وكان يجيء إلى قبره فيشرب
عنده ويصبّ الشراب على قبره ويبكي . وبقي أبو زبيد إلى أيام معاوية .
قال أبو حاتم وغيره : كان يجعل له في كل يوم أحد طعامٌ كثير ويهيأ له شرابٌ كثير
ويذهب أصحابه يتفرقون في البيعة ويحملنه النساء فيضعه في ذلك المجلس فيشرب
والنّصارى حوله فجاءه الموت فقال : الطويل
____________________
( إذا جعل المرء الذي كان
حازماً ** يحلّ به حلّ الحوار ويحمل ) ( فليس له في العيش خير يريده ** وتكفينه
ميتاً أعفّ وأجمل ) ( أتاني رسول الموت يا مرحباً به ** لآتيه وسوف والله أفعل )
ثم مات فجاءه اصحابه فوجدوه ميتاً فدفن على البليخ وهو موضع إلى جانب قبر الوليد
بن عقبة . وفي ذلك يقول أشجع السّلميّ وقد مرّ بقبرهما : الوافر ( مررت على عظام
أبي زبيدٍ ** وقد لاحت ببلقعة صلود ) ) ( وكان له الوليدج نديم صدقٍ ** فنادم قبره
قبر الوليد ) وأنشد بعده : ألا رجلٍ على أنّ رجلاً مجرور بمن المقدّرة . وهو قطعة
من بيت وهو : ( ألا رجلٍ جزاه الله خيراً ** يدلّ على محصّلةٍ تبيت ) وذكر الشارح
المحقّق هناك أن رجل يروى ألا رجلاً وبالرفع وبالجرّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث والثمانون بعد المائتين ) الكامل
____________________
( حنّت نوار ولات هنّا
حنّت ** وبدا الذي كانت نوار أجنّت ) على أنّ هنّا في الأصل للمكان استعير للزمان
وهو مضاف إلى الجملة الفعلية وهو حنت .
يريد أن لات مع هنّا عاملة عمل ليس أيضاً لا مهملة وإلاّ لما احتاج إلى هذا
التأويل في هنّا . واعلم أنّ هنّا بفتح الهاء وكسرها مع تشديد النون ححاهما
السيرافيّ وقال : الكسر رديء .
ووهم العينيّ هنا فضبط الهاء بالضم وتبعه السيوطيّ في شرح شواهد المغني . وهي عند
أهل اللغة قاطبة اسم إشارة للقريب وعند ابن مالك للبعيد .
قال صاحب الصحاح : هنّا بالفتح والتشديد معناه هاهنا وهنّاك أي : هناك . قال :
الرجز ( لمّا رأيت محمليها هنّا ** محدّرين كدت أن أجنّا ) ومنه قولهم : تجمعوا من
هنّا ومن هنّا أي : من هاهنا ومن هاهنا . انتهى .
ومن لازم اسم الإشارة التعريف وعدم إضافته إلى شيء وقد ورد في الشعر كثيراً لات
هنّا فالتزم أبو عليّ الفارسيّ وتبعه ابن مالك إهمال لات لأنّها لا يصحّ إعمالها
في معرفة ومكان وقالا : إذا دخلت لات على هنّا كانت مهملة وكانت هنّا منصوبة على
الظرف في موضع رفع على الخبر لمبتدأ بعدها سواء كان اسماً نحو : الخفيف لات هنّا
ذكرى جبيرة
____________________
وأورد عليه ابن هشام في
المغني وفي شرح شواهده أنّ فيه الجمع بين معموليها وإخراج هنّا )
عن الظرفيّة وإعمال لات في معرفة ظاهرة وفي غير الزمان وهو جملة النائبة عن المضاف
وحذف المضاف إلى جملة . انتهى .
وذهب بعض شرّاح المفصّل إلى أنّ هنّا خبر لات واسمها محذوف وأنّ هنّا بمعنى الحين
والتقدير ليس الحين حين حنينها .
وهذا مراد الشارح المحقّق : فقوله : إنّ هنّا في الأصل للمكان استعير للزمان قصد
به الردّ على أبي عليّ ومن تبعه بأنّ هنّا ليست على أصلها حتّى يلزم المحذور بل قد
استعيرت للزمان فهي ظرف بمعنى حين وكان أصلها الإشارة للمكان فتوسّع فيها فجعلت
مجرّدة للزمان .
والمعنى في جميع ما ورد شاهد له فتيقى لات على ما عهد لها من العمل عند سيبويه ومن
وقوله : وهو مضاف إلى الجملة أراد به الردّ على ابن عصفور : بأنّ هنّا خبر لات لا
اسمها وأنّها مضافة إلى الجملة بعدها لا أنّ الجملة خبر لات بتقدير مضاف .
والشارح المحقّق قد أخذ كلامه هذا من الإيضاح لابن الحاجب فإنّه قال في فصل إضافة
أسماء الزمان إلى الجمل : هنّا في قوله : لولات هنّا حنّت البيت محمول على الزمان
لأمور : أحدها : أنّ لا التي لنفي الجنس المكسوعة بالتّاء لا تدخل إلاّ على
الأحيان .
والثاني : أنّ المعنى إنكار الحنين بعد الكبر وذلك إنّما ينحقّق بالزمان لا
بالمكان .
والثالث : أنّه لو جعل للمكان لم يصحّ إضافته إلى الفعل إذ لم يضف من أسماء المكان
إلى الأفعال إلاّ الظروف غير المتمكنة كحيث . انتهى .
وقد ذهب ابن الخبّاز أيضاً في النهاية إلى هنّا مضافةٌ إلى الجملة بعدها .
نقله عنه ابن هشام في شرح شواهده وردّه بأن اسم الإشارة لا يضاف . وهذا الردّ غير
متّجه فإنّ من يجعلها مضافة إلى الجملة كالزمخشري في المفصّل لم يقل
____________________
إنّها اسم إشارة مضافة إلى
الجملة إذ من القواعد أنّ أسماء الإشارة لا تصحّ إضافتها إلى شيء وإنّما هي عنده
مجردّة لمعنى الحين .
وبما ذكرنا يسقط أيضاً توقّف الدّمامينيّ في شرح التسهيل عندما نقل كلام الشارح
هناك وقال : قوله : وهو مضاف إلى الجملة إن كان مع التزام أنه اسم إشارة فمشكل
لأنه لا يضاف وإن كان مع ادّعاء التجرّد عنها فيحتاج إلى نقل هـ .
ومنه تعلم فساد كلام الشاطبيّ أيضاً وجعله هنّا اسم إشارة للزمان مع إعمال لات
فإنّه قال : )
فإن قيل من شرط لات عملها في زمان منكّر .
وقولهم ولات هنّا حنّت ونحوه هنّا فيه معرفة وهي إشارة للمكان . . فالجواب أنّ
هنّا لا تختصّ بالإشارة إلى المكان بل قد يراد بها الزمان ومن ذلك هذه المواضع
فإنّ معناها الإشارة إلى الزمان أي : ذكرى جبيرة ليس في هذا الزمان وحنينها ليس في
هذا الوقت . وأمّا عملها في المعرفة فإنّها عند ابن مالك غير عاملة في هذه المواضع
هـ .
فغن قلت : كيف التزم الشارح المحقّق أن يضاف هنّا إلى الجملة وقد وقع بعدها المفرد
في قول الأعشى : الخفيف ( لات هنّا ذكرى جبيرة أم من ** جاء منها بطائف الأهوال )
وفي قول الطّرمّاح : الخفيف ( لات هنّا ذكرى بلهنية الدّه ** ر وأنّي لذي السّنين
المواضي ) قلت : ذكرى مفعول مطلق عامله محذوف أي : لات هنّا أذكر ذكرى جبيرة
فالجملة محذوفة و الحنين : الشوق ونراع النفس إلى الشيء . والتاء من حنّت وأجنّت
مكسورة
____________________
للوزن . و نوار : فاعل
حنّت مبنيّ على الكسر في لغة الجمهور وعند تميم معرب لا ينصرف وهو من أسماء النساء
مأخوذ من نارت المرأة تنور : إذا نفرت من الريبة وجمع نوار بالضم . وجملة ولات
هنّا حنّت حال من نوار .
قال ابن هشام : وتكون حالاً إذا وقعت بعد الواو . و بدا بمعنى ظهر . و نوار الثاني
قد وضع موضع الضمير . و أجنّت بالجيم : أخفت وسترت .
وبعد هذا البيت بيت ثانٍ لا ثالث له وهو : الكامل ( لما رأت ماء السّلى مشروباً **
والفرث يعصر في الإناء أرنّت ) و السّلى بفتح السين المهملة والقصر هي الجلدة
الرقيقة التي يكون الولد فيها من المواشي وهي المشميمة له . و الفرث بالفتح :
السّرجين ما دام في الكرش . و أرنّت من الرّنّة وهو الصوت يقال : رنّت ترنّ رنيناً
وأرنّت إرناناً : إذا صاحت . وإنّما صاحت نوار وبكت لأنّها تيقنت في تلك المفازة
الهلاك حيث لا ماء إلاّ ما يعصر من فرث الإبل وما يخرج من المشيمة من بطونها .
وهذان البيتان اختلف في قائلهما : )
فقيل : شبيب بن جعيل التغلبيّ وهو جاهليّ . وإليه ذهب الآمدي في المؤتلف والمختلف
قال : وشبيب هذا كان بنو قتيبة الباهليّون أسروه في حرب كانت بينهم وبين بني تغلب
فقال شبيب هذين البيتين لما رأى أمّه نوار أرنّت وهي بنت عمرو بن كلثوم .
____________________
وقيل : هو حجل بن نضلة وهو جاهليّ أيضاً . وهو قول أبي عبيد وتبعه ابن قتيبة في
كتاب الشعراء وأبو عليّ في المسائل البصرية قالوا : قالهما في نوار بنت عمرو بن
كلثوم لما أسرها يوم طلح فركب بها الفلاة خوفاً من أن يلحق . والله أعلم .
ومنه تعرف أنّه لا وجه لقول ابن الحاجب المتقدّم هنّا : إنّ معنى البيت إنكار
الحنين بعد الكبر وذلك إنّما يتحقّق بالزمان لا بالمكان .
قال ابن قتيبة والآمدي : قد نقص حرف من فاضلة البيت الثاني وبعض الناس يسمّون هذا
إقواء لأنّه نقص من عروضه قوّة وكان يستوي البيت بأن يقول متشرّباً .
يقال أقوى فلان الحبل : إذا جعل إحدى قواه أغلظ من الأخرى . والمشهور أنّ الأغقواء
كما قال أبو عمرو بن العلاء وهو اختلاف الإعراب في القوافي : وذلك أن تكون قافية
مرفوعة واخرى مجرورة . وبعض الناس يسمّي هذا الاختلاف الإكفاء هـ . و جعيل بضم
الجيم وفتح العين المهملة . و التّغلبيّ بالمثناة من فوق بعدها غين معجمة . و عمرو
بن كلثوم هو صاحب المعلقة إحدى المعلقات السبع وقد تقدّمت ترجمته .
____________________
و حجل بفتح المهملة وسكون
الجيم . و نضلة بفتح النون وسكون الضاد المعجمة . تتمة قال بعض فضلاء العجم في شرح
شواهد المفصّل عند شرح هذا البيت : نوار اسم لابنة عبد شمس وكانت قد عشقت ملكاً
فهمّ الملك بأن يوقع بعبد شمس فشعرت نوار بذلك وآذنت أباها فقال رجل من أقربائها :
حنّت نوار أي : اشتاقت إلى من تحبه وليس الوقت وقت الحنين والاشتياق إليه لظهور
العداوة بيننا وظهر الذي كانت هذه المرأة أجنّته وسترته من الاشتياق .
هذا كلامه وهو خطأ فاحش وما قاله شرحٌ لمثل : وهو حنّت ولات هنت وإنّي لك مقروع .
وقد خبط خبط عشواء أيضاً في بيانه كما يعلم وجهه مما سيأتي .
وهذا المثل أورده الجوهريّ في مادة ليت وفي مادة هنن وزعم أنه شعر وليس كذلك وغنما
)
هو نثر . قال : يقال : هنّ يهنّ هنيناً أي : حنّ .
وذكره أبو عبيد في مثاله والرواية عنده حنّت ولات هنّت إلى آخره قال : يضرب مثلاً
لمن يتهم في حديثه ولا يصدق .
وأوّل من قاله مازن بن مالك بن عمرو بن تميم لابنة اخيه الهيجمانة بنت العنبر ابن
عمرو بن تميم حين أخبرت أباها أنّ عبد شمس بن سعد بن زيد مناة يريد أن يغير عليهم
فاتّهمها مازن لأن عبد شمس كان يهواها وكانت تهواه فقال مازن هذه المقالة . انتهى
كلامه .
وأورده صاحب اللباب للردّ على أبي عبيد في زعمه أنّ تاء لا تحين من الحين . قال
شارحه الفالي : وجه الاستدلال أنّ التاء دخلت مع لا على هنّت فليس جزءاً من الحين
وهنّت بمعنى حنّت و مقروع : لقب عبد شمس بن سعد وفيه
____________________
يقول مازن بن مالك في
الهيجمانة بنت العنبر بن تميم .
حنّت ولات هنّت وأنّي لك مقروع وهو مثل وأصله أنّ الهيجمانة بنت الهنبر كانت تعشق
عبد شمس وكان يلقّب بمقروع فأراد أن يغير على قبيلة الهيجمانة وعلمت بذلك فأخبرت
أباها فقال مازن : حنّت ولات هنّت أي : اشتاقت وليس وقت اشتياقها . ثمّ رجع من
الغيبة إلى الخطاب فقال : وأنّي لك مقروع أي : من أين تظفرين به . يضرب لمن يحنّ
إلى مطلوبه قبل أوانه . انتهى .
وفي هذا المثل شيءٌ لم يتنبّه له وهو أنّ لات فيه لا اسم لها ولا خبر لأنّها دخلت
على فعل ماض فتكون مهملة كما تقدّم .
وقول صاحب القاموس تبعاً لصاحب العباب : لا تكون لات إلاّ مع حين وقد تحذف وهي
مرادة كقوله : حنّت ولات هنّت وأنّي لك مقروع فإن أراد أنّ الزمان المحذوف معمولها
فهذا غير صحيح لأنّه لا يجوز حذف معمولي لات كما لا يجوز جمعهما .
وإن أراد أنّها مهملة وأنّ الزمان لا بدّ منه لتصحيح استعمالها فغير صحيح أيضاً
لأنّها إذا أهملت ذخلت على غير الزمان أيضاً كما تقدّم بيت الأفوه الأوديّ عن أبي
حيّان . والله تعالى أعلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والثمانون بعد المائتين ) الطويل ( أفي أثر
الأظعان عينك تلمح ** نعم لات هنّا إنّ قلبك متيح )
____________________
على أنّ هنّا فيه ظرف زمان
مقطوع عن الإضافة والأصل لات هنّا تلمح فحذف تلمح لدلالة ما قبله عليه فهنّا في
موضع نصب على أنّه خبر لات هنّا ذكرى جبيرة حذفت الجملة وبقي أثرها كما تقدم بيانه
في البيت الذي قبل هذا .
فإن قلت : لو كان هنّا مقطوعة عن الإضافة كما زعم الشارح المحقّق لوجب أن يلحقها
التنوين عوضاً من المضاف إليه الجمليّ كما قال هو في باب الإضافة : إنّ الظروف
التي فيها معنى النسبة كقبل وبعد إن قطعت عن الإضافة بنيت على الضم وإن كانت غير
ذلك وجب إبدال التنوين عوضاً من المضاف إليه كإذ وأوان .
وقال في شرح بيت لات أوانً قبل هذا : ولا يعوّض التنوين في المبنيات من المضاف
إليه إلاّ إذا كان جملة .
فإن قلت : أيّ ضرورة إلى ادّعاء حذف الجملة المضاف إليها هنّا مع أنه لم يقل به
أحد ولا ابن الحاجب .
قلت : لّما حقّق أن هنّا قد تجردت لظرف الزمان كان الظرف لا بدّ له من مظروف
والنفي في الحقيقة متوجّه إليه ولولا اعتباره لما كان معنىً لقولنا لات هنّا إذ لا
فائدة في نفي الظرف .
وهذا المحذوف ملحوظ أيضاً عند من جعل هنّا إشارة للمكان فإنّه لا يتم المعنى بدونه
إذ لا بدّ للإشارة من مشار إليه فيكون المنفيّ في الحقيقة هو المشار إليه .
هذا ما أمكنني أن أفهم في كلامه في لات هنّا ولله درّه ما ادق نظره وألطف فكره
وفوق كلّ ذي علم عليم . والله أعلم .
____________________
وهذا البيت مطلع قصيدةٍ للراعي عدّتها سبعة وخمسون بيتاً مدح بها بشر بن مروان
المروانيّ .
وبعده : ( ظغائن مينافٍ إذا ملّ بلدةً ** أقام الرّكاب باكرٌ مترّوح ) فقوله : أفي
أثر الأظعان الهمزة للاستفهام وفي متعلّق بقوله تلمح وقدّم لأنه هو المستفهم عنه .
)
قال ابن الأثير في النهاية : الظّعينة المرأة واصل الظّعينة الرّاحلة التي ترحل
ويظعن عليها أي : يسار وقيل للمرأة ظعينة لأنّها تظّعن مع الزوج حيثما ظعن أو
لأنّها تحمل على الراحلة إذا ظعنت وقيل الظعينة المرأة في الهودج ثمّ قيل للهودج
بلا امرأة ظعينة وجمعها ظعن وظعائن وأظعان وظعن يظعن ظعناً بالتحريك : إذا سار .
انتهى . و اللّمح : الإبصار الخفيف قال صاحب الصحاح : لمحه وألمحه إذا أبصره بنظر
خفيف . و نعم : إعلام للمستفهم السائل . و المتيح بكسر الميم وسكون المثنّاة
الفوقيّة وفتح المثنّاة التحتيّة قال ابن حبيب في شرح ديوان جران العود : المتيح
الذي يأخذ في كلّ جهة وهو مفعل كأنّه أتيح له إتاحة أي : قدّر .
وقال ابن دريد في الجمهرة رجل متيح : إذا كان قلبه يميل إلى كلّ شيء . وكلاهما
أنشد هذا البيت . و الميناف بكسر الميم بعدها ياء أصلها الهمز قال في العباب رجل مثناف
أي : سائر في أول النهار وقال الأصمعيّ : رجل مئناف : يرعى ماله أنف الكلأ يقال :
أنفت الإبل أنفاً : إذا وطئت كلأ أنفاً بضم الألف والنون أي : عشياً لم يرع ولم
يدس بالأرجل . و البلدة : الأرض . و أقامه من موضعه : خلاف أقعده . و الرّكاب :
الإبل التي يسار عليها
____________________
ومعنى البيت أن الشاعر
خاطب نفسه لما رآها ملتفتة إلى حبائبها ناظرةً إلأى آثارها بعد الرحيل فاستفهمها
بهذا الكلام ثم أجاب جازماً بأنّ عينها ناظرة إلى أثرهنّ . وسفّهها في هذا الفعل
بأن اللمح ليس صادراً في وقته لأنّ صاحبهن ملتزم أسفار ومقتحم أخطار شأنه الذهاب
وعدم الإياب فلا ينبغي لها أن تكتسب من النظرة شدائد الحسرة .
وقوله : إنّ قلبك متيح استئناف بيانيّ وقع جواباً لسؤال عن سببٍ خاص نشأ من الجملة
المنفية كأن نفسه قالت له : هل أنا في هذا الفعل متيح فأجابها بالجملة المؤكدة .
وقوله : ظعائن ميناف أي : هنّ ظعائن والجملة الشرطية صفة لميناف . وجملة : أقام
الخ جواب إذا . و باكرٌ فاعل أقام أي : سائق باكر مترّوح : أي شأنه سوق الإبل
بالغداة والرّواح .
فإن قلت : كيف يرتبط الجدواب بالشرط مع خلّوه عن ضمير الميناف قلت : هو بتقدير
أقام الركاب بأمره . ثم وصف رحيل الميناف ونزوله ومنازله في أبيات كثيرة . )
ونرجمة الراعي قد تقدّمت في الشاهد الثالث والثمانين بعد المائة .
____________________
باب المجرورات الإضافة أنشد فيها : على أنّ ذا اللام في أصل الوضع لواحد معين وقد
يستعمل بلا إشارة إلى معيّن كالئيم فإنّ المراد منه لئيم من اللؤماء أيّ لئيمٍ كان
.
وتمامه : فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني وقد تقدّم الكلام عليه في الشاهد الخامس
والخمسين .
وأنشد بعده : الطويل
____________________
( علا زيدنا يبوم النّقا
رأس زيدكم ** بأبيض ماضي الشّفرتين يماني ) على أنّ العلم إذا أضيف نكّر بجعله
واحداً من جملة من سمّي بذلك اللفظ كزيد فإنّه معرفة بالعلميّة ولّما أضيف نكّر
واكتسب التعريف من الإضافة .
وقد تقدّم الكلام عليه أيضاً في الشاهد الثامن عشر بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والثمانون بعد المائتين ) : الكامل ( إن قلت خيراً
قال شرّاً غيره ) على أنّ السّرّاج نقض به ما قاله ابن السّريّ وهو أبو إسحاق
إبراهيم بن السّريّ الشّهير بالزجّاج من أن غير إذا أضيفت إلى معرّف له ضدّ واحد
تعرّفت كقولك : عليك بالحركة غير السكون .
ووجه النّقض : أنّ غيراً في البيت قد اضيفت إلى ضمير الخير وهو ضدّ الشر ولم
تتعرّف بدليل وقوعها صفة لقوله شرّاً .
ونقض عليه أيضاً بقوله تعالى : نعمل صالحاً غير الذي كنّا نعمل .
وأجاب الشارح المحقّق بأنّ غيراً فيهما بدل لا صفة ويجوز أن تكون صفةً على الأكثر
الأغلب وهو عدم تعرّفها بالمضاف إليه . هذا كلامه وما نسبه إليهما لم أره في
كلامهما .
____________________
أما ابن السّريّ فهذه عبارته في تفسير الفاتحة : وقوله تعالى : غير المغضوب عليهم
فيخفض على ضربين : على البدل من الذين كأنّه قال : صراط غير المغضوب عليهم ويستقيم
أن يكون غير المغضوب عليهم من صفة للنكرة تقول مررت برجلٍ غيرك فغيرك صفة لرجل
كأنّك قلت : مررت برجل آخر .
ويصلح أن يكون معناه مررت برجلليس بك وأنّما وقع ههنا صفة للذين لأنّ الذين ههنا
ليس بمقصود قصدهم فهو بمنزلة قولك إنّي لأمرّ بالرجل مثلك فأكرمه . انتهى كلامه .
فعلم منه أن وقوع غير صفةً للذين لتأويل الذين بما يقرب به من النكرة وهو كون
المعرّف الجنسي قريباً من النكرة لا لكونها وقعت بين ضدّين كما نقل عنه الشارح
المحقّق .
وأما ابن السرّاج فقد قال في باب الإضافة من الأصول : وأمّا مثل وغير وسوى فإنهنّ
إذا أضفن إلى المعارف لم يتعرّفن لأنّك إذا قلت مثل زيد فمثله كثير : واحدٌ في
طوله وآخر في علمه وآخر في صناعته وآخر في حسنه . وهذا يكاد يكون بلا نهاية .
وكذلك غير إذا قلت غير زيد فهو غير زيد . فهذا وما أشبهه لا يتعرّف بالإضافة . فإن
أردت مثل زيد المعروف بشبه زيد كان معرفة . انتهى .
فليس فيه ردّ ولا شعر . )
وقد نسب ابن هشام في المغني إلأى ابن السرّاج ما نسبه الشارح المحقّق إلى ابن
السريّ . ( إنّ امرأ مولاه أدنا داره ** فيما ألمّ وشرّه لك بادي )
____________________
( إن قلت خيراً قال شرّاص
غيره ** أو قلت شرّاً مدةً بمداد ) ( فلئن أقمت لأظعننّ لبلدةٍ ** ولئن ظعنت
لأرسين أوتادي ) ( كان التفرّق بيننا عن مئرةٍ ** فاذهب إليك فقد شفيت فؤادي )
وقوله : إن امرأ مولاه الخ والمولى هنا يجوز أن يكون ابن العمّ وأن يكون الناصر
وأن يكون الجار و أدنا بمعنى أضعف وأذلّ ومن الدناءة فسهّل . و في للسببيّة و ألمّ
من اللّمم وهو مقاربة الذنب . و بادي : ظاهر . و مولاه مبتدأ وأدنا خبره والجملة
صفة لاسم إنّ وخبرها الجملة الشرطيّة وهو قوله : إن قلت خيراً الخ . وقلت في
الموضعين بفتح التاء . وقوله : مدّه الخ أي : زاده بزيادة متصلة .
وقوله : فلئن أقمت الخ هذا التفاف من الغيبة إلى الخطاب . وقوله : لأرسين النون
الخفيفة للتأكيد . و الإرساء : الإثبات يقال رسا الشيء يرسو : إذا ثبت وأرساه :
أثبته . وأراد بأوتاده أوتاد الخيمة . وإرساؤها كناية عن الإقامة . و المئرة بكسر
الميم وسكون الهمزة هي العدواة قال أبو زيد : مأرت بين القوم مأراً وماءرت والأسود
بن يعفر شاعر جاهليّ تقدّمت ترجمته في الشاهد الرابع والستين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والثمانون بعد المائتين ) الطويل ( أماويّ إنّي
ربّ واحد أمّه ** أجرت فلا قتلٌ عليه ولا أسر ) على أن واحد أمّه نكرة لا يتعرّف
بالإضافة وإن أضيف إلى المعرفة لتوغله
____________________
في الإبهام إذ لا ينحصر
بالنسبة إلى مضاف إليه معيّن إذ بعد الإضافة لا يتعيّن المضاف أيضاً فيه نظير غيرك
ومثلك ولذلك وقع مجروراً لربّ .
والشارح المحقّق نسب جعله منكراً إلى بعض العرب واستدلّ له بدخول ربّ عليه فإنّها
لا تدخل إلاّ على نكرة . وغيره نسب التنكير إلى بعض النّحاة ويؤيّده قول ابن
الأنباريّ في الزاهر : إنّ الفرّاء وهشاماً قالا : نسيج وحده وعيير وحده وواحد
أمّه نكرات .
والدليل على هذا أنّ العرب تقول : ربّ نسيج وحده قد رأيت وربّ واحد أمّه قد أجرت .
واحتجّ هشتامٌ بقول حاتم : أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه . . . . . . . . . . . البيت
قال شارح اللباب وغيره : والأكثر أن يكون معرفة على قياس الإضافة إلى المعارف
وأمّا وروده نكرةً فنادر إنّما جاء في الشعر .
وقول الشارح المحقّق : وليس العلّة في تنكيرهما ما قال بعضهم إنّ واحد مضاف إلى
أمّ إلى آخره هو كلام عبد القاهر الجرجانيّ قال : والضمير المتصل ببطن وأمّ لا
يجوز أن يعود إلى نفس واحد وعبد لأنّ المضاف يكتسب من المضاف إليه التعريف فإذا
كان تعريف أمّ بإضافتها إلى ضمير الواحد كان التماس تعريف الواحد منها محالاً وكان
بمنزلة تعريف الشيء بنفسه فوجب أن يعود الضمير إلى شيء غير عبد وواحد يجوز أن تقول
: زيد عبد بطنه فيكون تعريف عبد بغير ضميره .
قال : فإّذا قلت جاءني واحد أمّه وعبد بطنه جاز أن يكون معرفة بأن يتقدّم الذكر
كأنك قلت جاءني الكامل النبيل الذي عرفته .
وإذا جعل نكرة فعلى أنه يوصف به نكرة محذوفة كما في البيت كأنّه قال إنسانٌ واحد
أمّه بمنزلة قولك : ربّ إنسان عزيز معظّم لأنّ ربّ لا تدخل على المعارف . انتهى
كلامه .
وقوله : أماويّ الخ الهمزة للنداء و ماويّ منادى مرخّم ماويّة وهي زوجة حاتم . )
____________________
والماويّة في اللغة : المرآة التي يرى فيها الوجه كأنّها منسوبة إلى الماء فإنّ
النسبة إلى الماء مائيّ وماويّ . و ربّ هنا لإنشاء التكثير والعامل في محلّ
مجرورها أجرت بالجيم والراء المهملة بمعنى أمّنته مما يخاف يقال : استجاره أي :
طلب منه أن يحفظه فأجاره . وروى بدله : أخذت قال الزمخشريّ في أمثاله عند قوله
أجود من حاتم : كان إذا قاتل غلب وإذا غنم أنهب وإذا غنم أنهب وإذا سئل وهب وإذا
ضرب بالقدح سبق وإذا أسر أطلق وإذا أثرى أنفق .
وكان أقسم بالله لا يقتل واحد أمّه . انتهى .
وروى صاحب اللباب المصراع الثاني هكذا : قتلت فلا غرم عليّ ولا جدل من جدل عليه :
إذا صال عليه بالظّلم . وليس كذلك فإنّ البيت من قصيدة رائيّة وهي : ( أماويّ قد
طال التّجنّب والهجر ** وقد عذرتني في طلابكم عذر ) ( أماويّ إنّ المال غادٍ
ورائحٌ ** ويبقى من المال الأحاديث والذّكر ) ( أماويّ إنّي لا اقول لسائلي ** إذا
جاء يوماً حلّ في مالنا النّزر ) ( أماويّ إمّا مانعٌ فمبيّنٌ ** وإمّا عطاءٌ لا
ينهنهه الزّجر ) ( أماويّ ما يغني الثّراء عن الفتى ** إذا حشرجت يوماً وضاق بها
الصّدر )
____________________
( تري أنّ ما انفقت لم يك
ضائري ** وأنّ يدي ممّا بخلت به صفر ) ( أماويّ إنّي ربّ واحد أمّه ** أخذت فلا
قتلٌ عليه ولا أسر ) ( وقد علم الأقوام لو أنّ حاتماً ** أراد ثراء المال كان له
وفر ) ( أماويّ إنّ المال مالٌ بذلته ** فأوّله شكرٌ وآخره ذكر ) ( وإنّي لا آلو
بمالي صنيعةً ** فأوّله زادٌ وآخره دخر ) ( يفكّ به العاني ويؤكل طيّباً ** وما إن
يعريّه القداح ولا القمر ) ( ولا أظلم ابن العمّ إن كان إخوتي ** شهوداً وقد اودى
بإخوته الدّهر ) ( غنينا زماناً بالتّصعلك والغنى ** وكلاّ سقاناه بكأسيهما الدّهر
) ( فما زادنا بأواً على ذي قرابةٍ ** غنانا ولا ازرى بأحسابنا الفقر ) ( وما ضرّ
جاراً يا ابنة القوم فاعلمي ** يجاورني أن لا يكون له ستر ) ( بعينيّ عن جارات
قومي غفلةٌ ** وفي السّمع منّي عن أحاديثها وقر ) )
قوله : وقد عذرتني الخ عذرته فيما صنع من باب ضرب : رفعت عنه اللوم فهو معذور أي :
غير ملوم . والاسم العذر بالضم .
وقوله : حلّ في مالنا النزر أي : القلّة . و نهنهه : كفّه ومنعه .
وقوله : إذا حشرجت يوماً الخ أورد صاحب الكشّاف هذا البيت عند تفسير قوله تعالى :
كلاً إذا بلغت التّراقي على إضمار النفس قبل الذكر لذلالة الكلام عليه كما أضمرها
الشاعر في حشرجت . و الحشرجة أوله مهملة وآخره جيم : الغرغرة عند الموت وتردّد
النفس .
____________________
و الصّدى : ما يبقى من
الميت في قبره قاله المبرد في الكامل عند قول النّمر بن تولب الصحابيّ : الطويل (
أعاذل إن يصبح صداي بقفرةٍ ** بعيداً نآني صاحبي وقريبي ) ( تري أنّ ما ابقيت لم
أك ربّه ** وأنّ الذي أنفقت كان نصيبي ) وقوله : لا آلو أي : لا أقصّر . و العاني
: الأسير .
وقوله : وما إن يعرّيه أي : يفنيه . و القداح : قداح الميسر . و القمر بالفتح :
المقامرة .
وقوله : غنينا غني كفرح : عاش وغنى بالمكان : أقام به . و البأو بالموحدة وسكون
الهمزة الكبر والفخر يقال : بأوت على القوم أبأى باواً .
وسبب هذه القصيدة هو ما رواه الزجاجيّ في أماليه الوسطى قال : : أخبنا ابن دريد
قال : أخبرني عبد الرحمن عن عمه وابو حاتم عن أبي عبيد قالا : كانت امرأةٌ من
العرب من بنات ملوك اليمن ذات جمال وكمال وحسب ومال فآلت أن لا تزوّج نفسها إلاّ
من كريم ولئن خطبها لئيم لتجدعنّ أنفه فتحاماها الناس حتّى انتدب لها زيد الخيل
وحاتم بن عبد الله وأوس بن حارثة بن لأم الطائيّون فارتحلوا إليها فلمّا دخلوا
عليها قالت : مرحباً بكم ما كنتم زوّاراً فما الذي جاء بكم قالوا : جئنا زوّاراً
خطّاباً قالت : أكفاء كرام .
فأنزلتهم وفرّقت بينهم وأسبغت لهم القرى وزادت فيه فلما كان في اليوم الثاني بعثت
بعض حواريها متنكرة في زي سائلة تتعرّض لهم فدفع إليها زيد وأوسٌ شطر
____________________
ما حمل إلى كلّ واحدٍ
منهما فلمّا صارت إلى رجل حاتمٍ دفع إليها جميع ما كان من نفقته وحمل معها جميع ما
حمل إليه فلمّا كان في اليوم الثالث دخلوا عليها فقالت : ليصف كلّ واحد )
منكم نفسه في شعره فابتدر زيد وانشأ يقول : البسيط ( هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي
** عند الطّعان إذا ما احمرّت الحدق ) ( وجاءت الخيل محمرّاً بوادرها ** بالماء
يسفح من لبّاتها العلق ) ( والخيل تعلم أنّي كنت فالاسها ** يوم الأكسّ به من نجدة
روق ) ( والجار يعلم أنّي لست خاذله ** إن ناب دهرٌ لعظم الجار معترق ) ( هذا
الثّناء فإن ترضي فراضيةٌ ** أو تسخطي فإلى من تعطف العنق ) وقال أوس بن حارثة :
إنّك لتعلمين أنّا أكرم أحساباً وأشهر أفعالاً من أن نصف أنفسنا لك أنا الذي يقول
فيه الشاعر : الوافر ( إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ** ليقضي حاجتي ولقد قضاها ) (
فما وطئ الحصى مثل ابن سعدى ** ولا لبس النّعال ولا احتذاها ) وأنا الذي عقّت
عقيقته وأعتقت عن كلّ شعرةٍ فيها عنه نسمة .
____________________
ثم أنشأ يقول : الطويل ( فإن تنكحي ماويّة الخير حاتماً ** فما مثله فينا ولا في
الأعاجم ) ( فتىً لا يزال الدّهر أكبر همّه ** فكاك أسيرٍ أو معونة غارو ) ( وإن
تنكحي زيداً ففارس قومه ** إذا الحرب يوماً أقعدت كلّ قائم ) ( وصاحب نبهان الذي
يتّقى به ** شذا الأمر عند المعظم المتفاقم ) ( وإن تنكحيني تنكحي غير فاجر ** ولا
جارفٍ جرف العشيرة هادم ) ( ولا متّقٍ يوماً إذا الحرب شمّرت ** بأنفسها نفسي كفعل
الأشائم ) ( وإن طارق الأاضياف لاذ برحله ** وجدت ابن سعدى للقرى غير عاتم ) ( فأي
فتىً أهدى لك الله فاقبلي ** فإنّا كرامٌ من رؤوس أكارم ) أماويّ قد طال التّجنّب
والهجر وقد عذرتني في طلابكم عذر إلى أن انتهى إلى آخر القصيدة وهي مشهورة فقالت :
أما انت يا زيد فقد وترت العرب وبقاؤك مع الحرّة قليل . وأمّا أنت يا أوس فرجل ذو
ضرائر والدخول عليهنّ شديد . وأمّا أنت يا حاتم فمرضيّ الخلائق محمود الشيم كريم
النفس وقد زوّجتك نفسي . هـ ما رواه الزجلجيّ . )
وقد روى صاحب الأغاني هذا الخبر على غير هذا قال : إن معاوية تذاكروا عنده ملوك
العرب حتّى دكروا الزّبّاء وماويّة فقال معاوية : إنّي لأحبّ أن أسمع حديث ماوية
وحاتم فقال رجل من القوم : أفلا أحدّثك به فقال معاوية : بلى . فقال : إن ماوية
كانت ملكة وكانت تتزوج من ارادت وإنّها بعثت يوماً غلماناً لها وأمرتهم أن يأتوها
بأوسم من يجدونه من الحيرة فجاؤوا بحاتم فأكرمته وبعد ان رحل عنها دعته نفسه إليها
فأتاها يخطبها فوجد عندها النابغة ورجلاً من الأنصارمن النبيت فقالت : انقلبوا إلى
رحالكم وليقل كلّ منكم شعراً يذكر فيه فعاله ومنصبه فإنّي أتزوج أكرمكم واشعركم .
____________________
فانصرفوا فنحر كلّ واحد منهم جزوراً ولبست ماويّة ثياباً لأمةٍ لها فأعقبتهم فأتت
النّبيتيّ فاستطعمته من جزوره فأطعمها ثيل جزوره أي : وعاء قضيبه فاخذته ثم أتت
نابغة بني ذبيان فاستطعمته فأطعمها ذنب جمله فأخذته ثم أتت حاتماً وقد نصب قدره
فاستطعمته فقال لها : قريّ حتى أعطيك ما تنتفعين به . فأعطاها من العجز والسّنام
ومثلها من المخدّش وهو عند الحارك ثم انصرفت فأرسل إليها كلّ واحدٍ ظهر جمله وأهدى
حاتم إلى جاراتها مثل ما أهدى إليها .
وصبّحوها فاستنشدتهم فأنشدها النّبيتيّ : البسيط ( هلاّ سألت النّبيتيين ما حسبي
** عند الشّتاء إذا ما هبّت الرّيح ) وبعده أبيات ثلاثة . ثم قالت : أنشدنا يا
نابغة فأنشدها : البسيط ( هلاّ سألت بني ذبيان ما حسبي ** إذا الدّخان تغشّى
الأشمط البرما ) وبعده بيتان ثم قالت : يا أخا طّيئ أنشدنا . فأنشدها : ( أماويّ
قد طال التّجنّب والهجر ** وقد عذرتني في طلابكم العذر ) إلى آخر القصيدة .
فلمّا فرغ حاتمٌ من إنشاده دعت بالغداء وكانت قد أمرت إماءها أن يقدّمن إلى كلّ
رجل ما كان أطعمها فقدّمن إليهم ما كانت أمرتهنّ أن يقدّمنه فنكّس النّبيتيّ
والنابغة رأسيهما فلما نظر حاتم ذلك رمى بالذي قدّمته إليهما وأطعمهما مّما قدّم
إليه فتسلّلا منها .
وقالت : إنّ حاتماً أكرمكم وأشعركم . فلما خرجا قالت : يا حاتم خلّ سبيل امرأتك
فأبى فزودته . فلما انصرف عنها ماتت امرأته فعاد إليها فتزوّجها فولدت له عديّاً .
وقد كان عديّ )
أسلم وحسن إسلامه هـ مختصراً .
____________________
والصّحيح أن عديّاً من امرأته نوار لا من ماويّة . والله أعلم .
وترجمة حاتم الطّائيّ قد تقدّمت في الشاهد التاسع والسبعين بعد المائة .
وأنشده بعده : ولقد أمرّ على اللئيم يسبّني تمامه : فمضيت ثّمت قلت لا يغنيني وقد
تقدّم قريباً .
وأنشد بعده هو ( الشاهد السابع والثمانون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الكامل
( لمّا أتى خبر الزّبير تواضعت ** سور المدينة والجبال الخشّع ) على أنّ سوراً اكتسب
التأنيث من المدينة ولهذا أنث له الفعل .
قال الأعلم في شرح شواهد س : إنّ السّور وإن كان بعض المدينة لا يسمّى مدينة كما
يسمّى بعض السنين سنة ولكن الاتساع فيه متمكن لأنّ معنى تواضعت المدينة وتواضع سور
المدينة متقارب .
____________________
وذهب أبو عبيدة معمر بن المثنّى إلى أنّ السّور جمع سورة وهي كلّ ما علا وبها سمّي
سور المدينة سوراً . وعلى هذا لا شاهد في البيت .
قال السيرافيّ : والجبال الخشّع مبتدأ وخبرٌ عند بعضهم أي : وصارت الجبال خاشعة
متضائلة لأنّه لا مدح في قولنا تواضعت الجبال المتضائلة بل تواضعت الجبال الشامخة
لكنّه وصفها بما آلت إليه .
وقال بعضهم : هو معطوف على سور المدينة والخشّع صفة له ولم يرد أنّها كانت خشّعاً
قبل بل هي خشّع لموته الآن .
وأراد : لما أتى خبر قتل الزّبير وتواضعت وقعت إلى الأرض . و الخشّع : التي قد
لطئت بالأرض . )
وهذا البيت من قصيدة لجرير عدّتها مائة وعشرون بيتاً هجا بها الفرزدق وعدّد فيها
معايبه منها أنّ ابن جرمور المجاشعيّ وهو من رهط الفرزدق قتل الزّبير بن العوّام
غيلةً بعد انصرافه من وقعة الجمل فهو ينسبهم إلى أنّهم غدروا به لأنّهم لم يدفعوا
عنه .
يقول : لّما وافى خبر قتل الزّبير إلى مدينة الرسول صلّى الله عليه وسلّم تواضعت
هي وجبالها وخشعت حرناً له . وهذا مثل وإنّما يريد أهلها . وقبل هذا البيت :
الكامل ( إنّ الرّزيّة من تضمّن قبره ** وادي السّباع لكلّ جنبٍ مصرع ) وبعده : (
وبكى الزّبير بناته في مأتمٍ ** ماذا يردّ بكاء من لا يسمع ) ووادي السباع على
أربعة فراسخ من البصرة . ثم إنّ ابن جرموز قدم على أمير المؤمنين علي رضي الله عنه
وهنأه بالفتح وأخبره بقتله ال .ّبير فقال له عليّ : أبشر بالنار سمعت رسول
____________________
وفي ذلك قال ابن جرموز :
المتقارب ( أتيت عليّاً برأس الزّبير ** وقد كنت أحسبها زلفه ) ( فبشّر بالنّار في
قتله ** فبئس بشارة ذي التّحفه ) ثم إن ابن جرموز جاء إلى مصعب بن الزّبير وكان
والياً على العراق من قبل أخيه عبد الله فقال : اقتلني بالزّبير فكتب في ذلك إلى
أخيه فكتب إليه عبد الله : أنا لا أقتله بالزّبير ولا بشسع نعله . فلم يقتله ومضى
ابن جرموز من عند مصعب .
وقصّة مقتل الزّبير مفصّلة في التّواريخ .
وترجمة جرير قد تقدّمت في الشاهد الرابع من أول الكتاب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والثمانون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الوافر
( إذا بعض السنين تعرّقتنا ** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم ) لما تقدّم قبله وهو
أنّ بعضاً اكتسب التأنيث مّما بعده بالإضافة ولهذا قال تقرّقتنا بالتأنيث .
قال ابن جنّي في سرّ الصناعة عندما أنشد قول الشاعر : البسيط
____________________
سائل بني أسدٍ ما هذه
الصّوت إنّما أنّثه لأنّه أراد الاستغائة . وهذا من قبيح الضرورة أعني تانيث
المذكّر لأنّ التذكير هو الأصل بدلالة أنّ الشيء مذكّر وهو يقع على المذكّر
والمؤنث فعلمت بهذا عموم التذكير وأنّه هو الأصل الذي لا ينكسر . ونظير هذا في
الشذوذ قوله وهو من أبيات الكتاب : إذا بعض السّنين تعرّقتنا . . . . . . . . . .
. البيت وهذا أسهل من تأنيث الصّوت قليلاً لأنّ بعض السنين سنة وهي مؤنثة وهي من
لفظ وزاد المبّرد في الكامل على هذا الوجه وجهاً آخر فقال : قوله : إذا بعض
السّنين تعرّقتنا يفسّر على وجهين : أن يكون ذهب إلى أنّ بعض السّنين يؤنّث لأنّه
سنة وسنون . والأجود أن يكون الخبر في المعنى عن المضاف إليه فأقحم المضاف إليه
توكيداً لأنّه غير خارجٍ من المعنى .
وفي كتاب الله عز وجلّ : فظلت أعناقهم لها خاضعين والخضوع بيّن في الأعناق فأخبر
عنهم فأقحم الأعناق توكيداً وكان أبو زيد الأنصاريّ يقول :
____________________
أعناقهم : جماعتهم والأوّل
قول عامّة النّحويّين . انتهى المراد منه . و بغض : فاعل فعل محذوف يفسّره
تعرّقتنا المذكور يقال تعرقت العظم : إذا أكلت ما عليه من اللّحم . يريد أنها
أذهبت أموالنا ومواشينا . و السّنة هنا : القحط والجدب : ضدّ الخصب والرّخاء . و
كفى بمعنى أغنى يتعدّى إلى مفعولين أوّلهما الأيتام وثانيهما فقد ومصدره الكفاية
قال )
تعالى : وكفى الله المؤمنين القتال أي : كفى الأيتام فقد آبائهم لأنّه أنفق عليهم
واعطاهم ما وأراد أن يقول : كفى الأيتام فقد أبائهم فلم يمكنه فقال : فقد أبي
اليتيم لأنّه ذكر الأيتام أوّلاً ولكنّه أفرد حملاً على المعنى لأنّ الأيتام هنا
اسم جنس فواحدها ينوب مناب جمعها وبالعكس . وكان المقام مقام الإضمار فأتى بالاسم
الظاهر .
وهذا البيت من قصيدة لجرير مدح بها هشام بن عبد الملك بن مروان . ( وأنت إذا نظرت
إلى هشامٍ ** عرفت نجار منتخبٍ كريم ) ( يرى للمسلمين عليه حقّاً ** كفعل الوالد
الرؤف الرّحيم ) ( إذا بعض السّنين تعرّقتنا ** كفى الأيتام فقد أبي اليتيم ) و
النجار بكسر النون وبعدها جيم : الأصل .
وقوله : يرى للمسلمين عليه حقّاً له مثله في قوله أيضاً : الطويل ( وإنّي لأستحي
أخي أن أرى له ** عليّ من الحقّ الذي لا يرى ليا ) قال المبّرد في الكامل : هذا
بيت يحمله الناس على خلاف معناه وإنّما تأويله إنّي لأستحي أخي أن يكون له عليّ
فضلٌ ولا يكون لي عليه فضلٌ ومنّي
____________________
إليه مكافأة فأستحي أن أرى
له عليّ حقّاً بما فعل إليّ ولا أفعل إليه ما يكون لي به عليه حقّ . وهذا من مذاهب
الكرام .
وأما قول عائد الكلب الزّبيريّ لعبد الله ابن حسن بن حسن بن عليّ رضي الله عنهم :
( له حقّ وليس عليه حقّ ** ومهما قال الحسن الجميل ) ( وقد كان الرّسول يرى حقوقاً
** عليه لغيره وهو الرّسول ) فإنّه ذكره بقلّة الإنصاف فقال : يرى له حقّاً على
الناسولا يرى لهم عليه حقاً من أجل نسبه بالرّسول صلّى الله عليه وسلّم .
وقد قيل لعليّ بن الحسين بن عليّ رضي الله عنهم : ما بالك إذا سافرت كتمت نسبك أهل
الرّفقة فقال : أكره أن آخذ برسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما لا أعطي مثله .
وأنشده بعده وهو ( الشاهد التاسع والثمانون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الرجز
____________________
( مرّ الليالي أسرعت في
نقضي ** أخذن بعضي وتركن بعضي ) إلى أنّ مرّ اكتسب التأنيث من المضاف إليه ولهذا
قال : أخذن .
وسيبويه جعل محلّ الشاهد أسرعت ففي البيت قد اكتسب المذكّر فيه التأنيث بوجهين :
أحدهما : التأنيث فقط وهو بالنظر إلى قوله أسرعت .
وثانيهما : التأنيث والجمعيّة وهو بالنظر إلى قوله أخذن وكان المناسب للشارح
المحقّق أن يضمّ هذا البيت الذي بعده أو يوافق سيبويه ومن تبعه .
ويروى : طول اللّيالي قال ابن خلف : الشاهد فيه أنّه قال : أسرعت فأنّث الضمير
الذي هو فاعل أسرعت . ويجب أن يكون مذكراً لأنذه ينبغي أن يعود إلى المبتدأ
والمبتدأ مذكّر وهو الطّول . وإنّما أنّثه لأنّه أضاف الطّول إلى اللّيالي وليس
الطّول شيئاً غيرها فأخلص الخبر لليالي دون الطّول . فقد بان وهذا ناظرٌ إلى الوجه
الثاني من وجهي كلام المبّرد المنقول عنه في البيت السابق .
وقال أبو عليّ الفارسيّ في التّكرة القصريّة : قول ذي الرّمّة : الطويل
____________________
( مشين كما اهتزّت رماحٌ
تسفهت ** أعاليها مرّ الرّياح النّواسم ) أحسن من قوله : طول اللّيالي أسرعت في
نقضي لأنّ الريح لا تكون ريحاً إلاّ بمرورها ومدافعة الهواء بعضه بعضاً فحسن أن
تجعل هي هو .
وليس طول اللّيالي كذلك لأنّ اللّيل قد يكون ليلاً وإنم لم يكن طويلاً . انتهى .
وفيه نظر : فإنذه ليس مراد الشاعر أنّ الليالي الطّوال دون القصار أسرعت في نقضه
وإنّما يريد تكرار الزّمان لياليه وأيّامه طالت اللّيالي أو قصرت والزمان لا ينفك
عن التّكرار كما لا تنفكّ الريح عن الهبوب والمرور . وهذا لازم فتأمّل .
وروي البيت : إنّ اللّيالي أسرعت ورواه الجاحظ أيضاً في البيان : )
أرى اللّيالي أسرعت وروى المصراع الثاني هكذا أيضاً : نقضن كلّي ونقضن بعضي و
النقض : هدم البناء حجراً فحجرا وهذان البيتان من أجوزة للأغلب العجليّ ذكرهما أبو
حاتم في كتاب المعمّرين وأورد بعدهما : ( حنين طولي وحنين عرضي ** أقعدنني من بعد
طول نهضي ) وكان الأغلب العجليّ مّمن عمّر عمراً طويلاً في الجاهليّة والإسلام .
اسلم واستشهد بوقعة نهاوند .
____________________
وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين بعد المائة .
وزعم أبو محمد الأعربيّ في فرحة الأديب انّ هذا الرجز ليس للأغلب وإنّما هو من
شوارد الرّجز لا يعرف قائله . ومن حفظ حجّةٌ على من لم يحفظ .
وقد رواه للأغلب صاحب الأغاني أيضاً قال أبو محمد وهو كذا : الرجز ( أصبحت لا يحمل
بعضي بعضي ** منفّهً أروح مثل النّقض ) ( مرّ اللّيالي أسرعت في نقضي ** طوين طولي
وطوين عرضي ) وأنشد بعده وهو ( الشاهد التسعون بعد المائتين ) الوافر ( وما حبّ الدّيار
شغفن قلبي ** ولكن حبّ من سكن الدّيارا ) على أنّ المضاف وهو حبّ اكتسب التأنيث
والجمعيّة بإضافته إلى الديار وهو جمع دارٍ وهو مؤنث سماعيّ . وهذا واضح .
وقد يكتسب المضاف الجمعية فقط كقوله : الطويل ( وكم ذدت عنّي من تحامل حادثٍ **
وسورة أيّام حززن إلى اللّحم ) فسورة اكتسبت الجمعيّة من إضافتها إلى أيّام ولهذا
أعيد الضمير من حززن
____________________
جميعاً . والفرق بينه وبين
ما حبّ الديار شغفن أنّ هذا اكتسب التانيث بصفته أعني الجمعيّة فلم يتمحض لاكتساب
الجمعية كما في : وسورة أيام حززن .
وبقي أشياء لم يذكرها الشارح المحقّق مما تكسبه الإضافة منها تذكير المؤنّث عكس ما
ذكره كقوله : البسيط ومنها الظرفيّة نحو قوله تعالى : تؤتى أكلها كلّ حين . ومنها
المصدرية نحو قوله تعالى : وسيعلم الذين ظلموا أيّ منقلبٍ ينقلبون . فأيّ : مفعول
مطلق ناصبه ينقلبون ويعلم معلّق عن العمل معلّق عن العمل بالاستفهام . ومنها وجوب
التصدّر نحو : غلام من عندك ونحو صبيحة أيّ يوم سفرك ونحو : غلام أيّهم أكرمت ونحو
: غلام أيّهم أنت أفضل والبيت الشاهد لجنون بني عامر .
وقبله : ( أمرّ على الدّيار ديار ليلى ** أقبل ذا الجدار وذا الجدارا ) وهما بيتان
لا ثالث لهما .
روي أنّه كان إذا اشتد شوقه إلى ليلى يمرّ على آثار المنازل التي كانت تسكنها
فتارة يقبّلها وتارة يلصق بطنه بكثبان الرّمل ويتقلّب في حافاتها وتارة يبكي وينشد
هذين البيتين . و الديّار : المنازل قال الكرمانيّ في شرح شواهد الموشّح : قال أبو
____________________
حاتم : الدّيار : العساكر
والخيام لا البنيان والعمران وإنّ الدّار العمران والبنيان وعليه قوله تعالى في
سورة هود : فأصبحوا في ديارهم جاثمين أي : في عساكرهم وخيامهم وفي سورة الأعراف
والعنكبوت : )
قال محمد بن جعفر في كتاب دارات العرب : اعلم أنّهم يقولون لدار الردل التي سكنها
دارة ويجمعونها دارات ودور وديار .
وذا اسم إشارة . وشغف الهوى قبله شغفاً من باب نفع والاسم الشّغف بفتحتين : بلغ
شغافة بالفتح وهو غشاؤه . و المجنون : اسمه قيس بن معاذ ويقال قيس بن الملّوح أحد
بني جعدة ابن كعب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة ويقال بل هو من بني عقيل بالتصغير ابن
كعب بن ربيعة .
وهو من أشعر الناس على أنّهم قد نسبوا إليه شعراً كثيراً رقيقاً يشبه شعره كقول
أبي صخر الهذليّ : الطويل ( فيا هجر ليلى قد بلغت به المدى ** وزدت على ما لم يكن
بلغ الهجر )
____________________
( ويا حبّها زدني جوىً كلّ
ليلةٍ ** ويا سلوة العشّاق موعدك الحشر ) وقال الجاحظ : ما ترك الناس شعراً
مجهولاً لقائل فيه ذكر ليلى إلاّ نسبوه إلى المجنون ولا فيه لبنى إلاّ نسبوه لقيس
بن ذريح .
وفي الأغاني : اختلف في وجوده : فذهب قومٌ إلى أنه مستعار لا حقيقة له وليس له في
بني عامر أصل ولا نسب .
وقال الأصمعيّ : رجلان ما عرفا في الدنيا إلاّ بالاسم : مجنون بني عامر وابن
القرّيّة وإنّما وضعهما الرواة . قيل له : فمن قال هذه الأشعار المنسوبة إليه قال
فتىً من بني مروان كان يهوى امرأةً منهم فقال فيها الشعر وخاف الظهور فنسبه إلى
المجنون وعمل له أخباراً وأضاف إليها ذلك فحمله الناس وزادوا فيه .
وقال الذهبيّ في تاريخ الإسلام انكر بعض الناس ليلى والمجنون وهذا دفعٌ بالصدر
فليس من لا يعلم حجّة على من يعلم ولا المثبت كالنافي .
وعلى القول بوجوده اختلف في اسمه : فقيل مهدي وقيل قيس بن معاذ وقيل غير ذلك .
والأصحّ أنّه قيس بن الملّوح بن مزاحم بن قيس بن عديّ بن ربيعة بن جعدة بن كعب ابن
ربيعة )
بن عامر بن صعصعة وصاحبته ليلى بنت مهديّ أم مالك العامريّة .
قال ابن قتيبة : وكان المجنون وليلى صاحبته يرعيان البهم وهما صبيّان فعلقها علاقة
الصبيّ وقال : الطويل ( تعلّقت ليلى وهي غرّ صغيرة ** ولم يبد للأتراب من ثديها
حجم ) ثم نشأ وكان يجلس معها ويتحدّث في ناس من قومه وكان ظريفاً جميلاً روايةً
للشعر حلو الحديث فكانت تعرض عنه وتقبل بالحديث على غيره حتّى شقّ
____________________
ذلك عليه وعرفته فقالت :
الوافر ( كلانا مظهر للنّاس بغضاً ** وكلّ عند صاحبه مكين ) ( تبلّغنا العيون بما
رأينا ** وفي القلبين ثم هوىً دفين ) ثم تمادى به الأمر حتّى ذهب عقله وهام مع
الوحش وصار لا يلبس ثوباً إلاّ خرّقه ولا يعقل إلاّ أن تذكر له ليلى فإذا ذكرت عقل
واجاب عن كلّ ما يسأل عنه .
ثم إنّ قوم ليلى شكوا منه للسلطان فأهدر دمه وترحّل قومها من تلك الناحية فأشرف
فرأى ديارهم بلاقع فقصد منزلها وألصق صدره به وجعل يمرّغ خديّه على التراب ويقول
الأشعار . ثم إنّ أباه قيّده فجعل يأكل لحم ذراعيه ويضرب نفسه ويعض لسانه وشفتيه
فأطلقه .
وروي أنّ نوفل بن مساحق لّما جاء ساعياً على صدقات بني عامر رأى المجنون يلعب
بالتّراب وهو عريان فقال لغلام له : خذ ثوباً وألقه عليه . فقالوا له : ألا تعرفه
قال : لا . قالوا : هذا المجنون قيس بن الملّوح كلّمه فجعل يجيبه بغير ما يسأله
عنه فقالوا له : إن أردت أن يكلّمك كلاماً صحيحاً فاذكر له ليلى . فقال : أتحبّ
ليلى فأقبل عليه يحدّثه عنها وينشده شعره فيها فقال له : أتحبّ أن أزوّجكما قال :
وتفعل ذاك قال : نعم اخرج معي حتّى أقدم بك على قومها فأخطبها لك .
فارتحل معه ودعا له بكسوة فلبسها وراح معه كأصحّ أصحابه فلمّا قرب من قومها تلقّوه
بالسّلاح وقالوا : والله يا ابن مساحق لا يدخل المجنون لنا بيتاً أو نقتل عن آخرنا
وقد أهدر لنا السّلطان دمه فأقبل بهم وأدبر فأبوا عليه فقال
____________________
له : انصرف . فقال : أين
ما وعدت قال : رجوعك بالخيبة أهون عليّ من سفك الدّماء . )
ثم هام على وجهه في الفلوات وأنس بالوحوش فكان لا يأكل إلاّ ما تنبت الأرض من
البقول ولا يشرب إلاّ مع الظّباء وطال شعر جسده ورأسه وألفته الوحوش وكان يهيم
حتّى يبلغ حدود الشام فإذا ثاب عقله سأل عن نجد فيقال : وانى نجد فيدلّونه على
طريق نجد فيتوجّه نحوه .
وكان بأهله يأتونه بالطّعام والشراب فربّما أكل منه . وفي بعض الأيّام أتوه
بالطعّام فلم يروه فانطلقوا يفتشونه فرأوه ملقىً بين الأحجار ميتاً فاحتملوه إلى
الحيّ فغسّلوه ودفنوه وكثر بكاء النساء عليه . وكان في مدّة ابن الزّبير .
وكانت ليلى تحبّه أيضاً محبّة شديدة . حكى ابن قتيبة قال : خرج رجلٌ من بني مرّة
إلى ناحية الشام والحجاز مما يلي تيماء والسراة بأرض نجد بغية له فإذا هو بخيمة قد
رفعت له عظيمةٍ وقد أصابه المطر فعدل إليها فتنحنح فإذا أمرٌ كثير عظيم فقالت :
سلوا هذا الرّاكب من أين أقبل فقال : من ناحية نجد . فقالت : يا عبد الله وأيّ
بلاد نجد وطئت قال : كلّها .
قالت : فيمن نزلت منهم قال : بني عامر .
فتنفست الصّعداء ثم قالت : بأيّ بني عامر قال : ببني الحريش . قالت : فهل سمعت
بذكر فتىً منهم يقال له قيسٌ ويلقب بالمجنون قال : إي والله قد أتيته فرأيته يهيم
مع الوجش ولا يعقل شيئاً حتّى تذكر له ليلى فيبكي وينشد أشعاراً يقولها فيها .
فرفعت السّتر بيني وبينها فإذا شقّة قمرٍ لم تر عيني مثلها قط فلم تزل تبكي وتنتحب
حتّى ظننت أنّ قلبها قد تصدّع فقلت : يا أمة الله اتّقي الله فو الله ما قلت بأساً
فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكاء والنحيب ثم قالت : الطويل ( ألا ليت شعري
والخطوب كثيرةٌ ** متى رحل قيسٍ مستقلٌّ فراجع )
____________________
( بنفسي من لا يستقل برحله
** ومن هو إن لم يحفظ الله ضائع ) ثم بكت حتّى غشي عليها فلمّا أفاقت قلت : من أنت
يا أمة الله قال : أنا ليلى المشؤومة عليه غير المواسية له . قال : فو الله ما
رأيت مثل حزنها عليه ولا مثل جزعها . ولا مثل وجدها .
وأنشد بعده : يا سارق اللّيلة أهل الدّار )
قد تقدّم الكلام عليه في الشاهد الرابع والسبعين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والتسعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الرجز (
ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل ** طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل ) على أنّ ساعات كان في
الأصل مفعولاً فيه فاتّسع فيه فألحق بالمفعول به واضيف إليه طبّاخ .
فكسرة التاء من ساعات كسرة جرّ وزاد الكسل منصوب على أنّه مفعول طبّاخ لأنّه معتمد
على موصوفه .
قال الأعلم : الشاهد فيه إضافة طبّاخ إلى ساعات على تشبيهها بالمفعول
____________________
به لا على أنّها ظرف ولا
تجوز الإضافة إليها وهي ظرف لأنّ الظرف يقدّر فيه حرف الوعاء وهو في والإضافة إلى
الحرف غير جائزة وإنما يضاف إلى الاسم . ولما أضاف الطبّاخ إلى الساعات اتّساعاً
ومجازاً عدّاه إلى الزاد لأنّه المفعول به في الحقيقة . انتهى .
وقول ثعلب في أماليه : إضافة طبّاخ إلى ساعات لا تجوز إلاّ في الشعر ممنوع .
وقال ابن برّيّ في شرح أبيات الإيضاح لأبي عليّ : لا بد أن تقدّر الساعات تنزّلت
منزلة المفعول به حتى كأنها مطبوخة عن كان الطبّخ في المعنى إنّما هو للزاد كما
تصير اللّيلة في قوله : يا سارق اللّيلة أهل الدّار بمنزلة المفعول حتّى كأنّها
مسروقة . ولما خفض ساعات بإضافة طبّاخ إليها انتصب زاد على المفعول به لأنّه
المطبوخ في الحقيقة .
ومن خفض زاد الكسل قدّر الساعات ظرفاً فاصلاً بين المضاف والمضاف إليه على قولهم
في الرواية الأخرى : يا سارق اللّيلة أهل الدّار انتهى كلامه .
وأورده الفرّاء في تفسيره عند قوله تعالى : فلا تحسبنّ الله مخلف وعده رسله قال :
اضيفت مخلف إلى الوعد ونصبت الرسل على التأويل . وإذا كان الفعل يقع على شيئين
مختلفين مثل )
كسوتك الثوب وأدخلتك الدار تبدأ بغضافة الفعل إلى الرجل فتقول : هو كاسي عبد الله
ثوباً ومدخله الدار ويجوز هو كاسي الثوب عبد الله ومدخل الدار زيداً جاز ذلك لأنّ
الفعل قد يأخذ الدار كأخذه عبد الله .
____________________
( ترى الثّور فيها مدخل
الظّلّ رأسه ** وسائره بادٍ إلى الشّمس أجمع ) فأضاف مدخل إلى الظلّ وكان الوجه أن
يضيف مدخل إلى الرأس .
ومثله : ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعلّ . . . . الخ ومثله قول الآخر : يا سارق اللّيلة
أهل الدّار يريد : يا سارق أهل الدّار اللّيلة فأضاف سارقاً إلى اللّيلة ونصب أهل
الدار . وكان بعض النحويين ينصب الليلة ويخفض أهل الدار . انتهى المراد منه .
وقال ابن الشجريّ في أماليه وغيره : وروي بجرّ زاد أيضاً على أنّ طباخاً قد أضيف
إليه وفصل بينهما الظرف وهو ساعات فتكون الكسرة فيه نائبة عن الفتحة وهو منصوب لا
مجرور .
قال : ومثل هذا جائز في الشعر كقوله : يا سارق اللّيلة أهل الدّار يريد : يا سارق
أهل الدار الليلة . انتهى .
وقال ابن خلف : ويجوز أن يكون زاد الكسل بدل اشتمال من موضع ساعات ألا ترى أن
الزّاد تبيينٌ لما يطبخ في الساعات وهي مشتملة على الزاد وغيره ويجوة أيضاً نصب
زاد بفعل دلّ عليه طبّاخ أي : يطبخ زاد الكسل . هذا كلامه فتأمّله .
وقوله : مشمعل صفة لمجرور ربّ بعد وصفه بقوله لسليمى . و المشمعلّ : الجادّ في
الأمر الخفيف في جميع ما أخذ فيه من العمل وهو مشدّد اللام إلاّ أنّه سكّنها للشعر
.
____________________
قال المبّرد في الكامل : أمر مصعب بن الزّبير رجلاً من بني أسد بن خزيمة يقتل مرّة
بن محكان السعديّ فقال مرّة : الطويل ( بني أسدٍ إن تقتلوني تحاربوا ** تميماً إذا
الحرب العوان اشمعلت ) ) ( ولست وإن كانت إليّ حبيبةً ** بباكٍ على الدّنيا إذا ما
تولت ) قال المبّرد : واشمعلت : ثارت فأسرعت .
وأنشد : ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل و طبّاخ صفة ثالثة لمجرور ربّ . و الكرى :
النعاس . و الكسل بفتح الكاف وكسر السين بمعنى الكسلان إلاّ أنّ في كسلان مبالغة
ليست في الكسل وهو المتثاقل المتواني . يقول : إذا كسل أصحابه عن طبخ الزاد عند
نزولهم آخر الليل وغلبة النعاس عليهم كفاهم ذلك وشمّر في خدمتهم . وصفة بالنشاط
والمضيّ في الأمور وقت كسل أصحابه وفتورهم . والعرب تفتخر بمثل هذا .
وروى المبرد في الكامل هذا الرجز كذا : الرجز ( ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل ** أروع
في السّفر وفي الحيّ غزل ) طبّاخ ساعات . . . . . إلى آخره و الأروع : السيد الذي
يروعك عظمته وعزّته . و السّفر : جمع سافر كصحب جمع صاحب يقال : سفرت أي : خرجت
إلى السفر فأنا سافر وقوم سفر . و غزل بفتح الغين وكسر الزاي المعجمتين يقال :
رجلٌ غزل : أي صاحب غزل وهو محادثة النساء ومراودتهنّ . وهذا الإعراب هو مقتضى هذه
الرواية وستأتي الرواية الأصلية .
____________________
وقد نسب المبرد هذا الرجز إلى الشمّاخ بن ضرار وهو من رجز لجبّار بن جزء أخي
الشمّاخ يتعلق بعمّه الشمّاخ . وهذا مدحٌ فيه .
وهو من جملة أوجازٍ لجماعة لها حكايةٌ مسطورة في آخر ديوان الشمّاخ محصّلها : أنّ
الشمّاخ أقبل من مصر ومعه أولاد إخوته في ناس من قومه منهم جندب بن عمرو وكان
الشمّاخ وأصحابه يبغضونه لأنّه كان يتحدّث إلى امرأة الشمّاخ حتّى إذا كانوا
قريباً من تيماء على رأس ماء يقال له ثجر بفتح المثلثة وسكون الجيم قال الشمّاخ لحسن
بن مزرد : انزل أحد بالقوم وكانوا كذلك يفعلون : ينزل الرجل فيسوق بأصحابه ويرتجز
بهم وأمره أن يعرّض بامرأة جندب فقال : الرجز ( خليل خودٍ غرّها شبابه ** إلى آخر
الرّجز ) )
فنزل جندب وحدا بالقوم وعرّض بامراة الشمّاخ وكانت أمّ صبيّ واسمها سليمى فقال :
الرجز طيف خيالٍ من سليمى هائجي إلى أن قال : الرجز ( يا ليتني غير حارج ** قبل
الرّواح ذات لون باهج )
____________________
( أمّ صبيّ قد حبا أو دارج
** غرثى الوشاح كزّة الدّمالج ) فغضب الشمّاخ لما عرّض بامرأته فنزل وساق بالقوم
ورجز رجزين عرّض فيهما بامرأة جندب إلى أن نزل وحدا جماعة من طرف هذا وجماعة من
قبل ذاك وكلّ رجل يتعصب لصاحبه إلى أن تواثبوا بالسيوف .
وكان معهم رجل من بني أسد فاقتحم بينهم فقال : يا قوم نهشت نهشت فلم يزالوا يسقونه
السّمن واللّبن حتّى لهوا عن قتالهم فأصبحوا وقد سكنوا . وهذا رجز جبّار ابن أخي
الشمّاخ بتمامه : قالت سليمى لست بالحادي المدل ما لك لا تملك أعضاد الإبل المدل :
الذي أدلّ بقوةٍ على شدّة السير . يقول : مالك تتخلف عن الإبل لا تكون عند أعضادها
. وهذا خطاب لجندب بأنه ضعيف لا جلد له .
ربّ ابن عمّ لسليمى مشمعل يحبه القوم وتشناه الإبل أراد بابن العمّ زوجها الشمّاخ
. ويحبّه القوم لأنه يعينهم ويخدمهم مساعدة . و تشنؤه الإبل : أي تبغضه لأنّه
يسوقها سوقاً عنيفاً بالحداء . و يحبّه : جواب ربّ العامل في محل مجرورها .
في الشّول وشواشٌ وفي الحيّ رفل طبّاخ ساعات الكرى زاد الكسل أحوس وسط القوم
بالرّمح الخطل الشّول بالفتح : الإبل التي شوّلت ألبانها أي : رفعته . و الوشواش
بمعجمتين : الخفيف المتسرّع . )
يريد أنه خفيف جلد في السّفر يخدمنها ويراعيها وفي الإقامة في الحيّ متنعم متحملّ
. والجملتان اسميتان
____________________
وقد روي بدل هذا البيت ما
نقلناه عن المبّرد . وقوله : طبّاخ بالرفع خبر مبتدأ محذوف أي : هو طبّاخ كما هو
الظاهر من السيّاق بخلاف ما تقدّم . وفي طبّاخ مبالغة دون طابخ . و الأحوس
بمهملتين : الرجل الشديد الذي لا يبرح عند القتال . و الخطّل بفتح الخاء وكسر
الطاء الطويل جداً فوق القدر . ( عاذلتي أبقي قليلاً من عذل ** وإن تقولي هالك أقل
أجل ) عاذلتي : منادى . و العذل : اللوم . ومن متعلّقة بمحذوف . و هالك أي : أنت
هالك . و أجل : بمعنى نعم . ( قربت عنساً خلقت خلق الجمل ** لا تشتكي ما لقيت من
العمل ) قربت بالتكلم والبناء للفاعل . و العنس بالنون : الناقة الصّلبة .
مولع يقرو صريماً قد نقل يريد : أن ناقته ضمرت فاسترخت نسوعها أي : سيورها . ونهل
السّوط بدفّيها أي : بجنبيها .
وعلّ أي : ضربت بالسوط مرّة بعد مرّة . و المولّع بصيغة اسم المفعول : الثور
الوحشيّ شبّه ناقته في حال كلالها وتعبها بالثور الوحشيّ في حال ما رأى الصياد وقد
أمسى الليل عليه فهو يسرع أشدّ ما يمكن . و يقرو بالقاف يقال : قروت البلاد قرواً
وقريتها واستقريتها : إذا تتبعتها تخرج من أرض إلى أرض . و الصّريم : القاطع يريد
رفيقه الذي صرمه ونقل رجله عنه فسبقه .
____________________
( صبّ عليه قانصٌ لمّا غفل
** والشّمس كالمرآة في كفّ الأشل ) مقلدات القدّ يقرون الدّعل قانص : فاعل صبّ أي
: أرسل قانصٌ على الثور لّما غفل كلاباً . وجملة : والشمس كالمرآة حال إمّا من
قانص أو من فاعل غفل أو من ضمير عليه وهما ضمير الثور يريد في حالة أنّ الشمس قد
تنكبت للمغيب . والأشلّ : الذي يبست يده فلا يمسكها إلاّ منكّسة . و المقلدات
بصيغة اسم المفعول يريد كلاباً عليها قلائد من السيّور وهو مفعول صبّ . )
ولم يزد العبّاسيّ شارح شواهد التلخيص على قوله : اختلف في قائل هذا البيت فقيل
للشمّاخ وقيل لأخيه وقيل لأبي النّجم وقيل لابن المعتز .
وجبّار قائل هذا الرجز هو بفتح الجيم والباء الموحّدة ومعناه ذو الجبرية والعظمة
يقال : قوم فيهم جبرية بفتح الباء أي : عظمة وكبر .
ونسبه تقدّم في ترجمة عمّه الشمّاخ في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والتسعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الطويل
____________________
( ضروبٌ بنصل السّيف سوق
سمانها ) هذا صدر وعجزه : إذا عدموا زاداً فإنك عاقر على أنّ أبنية المبالغة
لكونها للاستمرار لا لأحد الأزمنة عملت . ف ضروب مبالغة ضارب وقد عمل النصب في سوق
على المفعولية .
قال ابن ولاّد : سألت أبا إسحاق الزجّاج : لم صار ضروبٌ ونحوه يعمل وهو بمنزلة ما
استقرّ وثبت وضاربٌ لا يعمل إذا كان كذلك فقال : لأنك تريد أنّها حالة ملازمة هو
فيها ولست تريد أنه أفعل مرّة واحدة وانقضى الفعل كما تريد في ضارب فإذا قلت : هذا
ضروبٌ رؤوس الرجال فإنما هي حال كان فيها فنحن نحكيها .
قال ابن عصفور : هذا هو الصحيح والدليل على صحّته قول أبي طالب : ضروب بنصل السّيف
الخ لأنّه مدح به أبا أميّة بن المغيرة بما ثبت له واستقرّ وحكى الحال التي كان
فيها من عقر الإبل إذا عدم الزاد . ولو أراد المضيّ المحض ولم يرد حكاية حاله لما
ساغ الإتيان بإذا لأنّها للمستقبل .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : نصل شفرته أي : حدّه الذي يقطع به فلذلك أضافه
)
إلى السيف كلّه نصلاً . و سوق : جمع ساق . و السّمان : جمع سمينة . والضمير للإبل
. وعقر البعير بالسيف عقراً : ضرب قوائمه . لا يطلق العقر في غير القوائم .
وكانوا يعقرون الناقة إذا أرادوا نحرها : إمّا لتبرك فيكون أسهل لنحرها أو ليعاجل
الرجل ذلك فلا تمنعه نفسه من عقرها فيكون قد عاجلها لئلاّ تأمره بغير ما في نفسه .
و ضروب : خبر مبتدأ محذوف أي : هو ضروب . فقوله : فإنّك عاقر التفات .
____________________
قال بعضهم : ولو قدّر أنت ضروب لكان الالتفات معدوماً فيه ويكون إنّك عاقر على
مقتضى الظاهر . وإذا شرطيّة تجزم في الشعر . وجملة عدموا شرطها في محلّ جزم وهي
العامل في إذا والجملة المقرونة بالفاء جوابها .
ولا يجوز أن يكون عاقر عاملاً في إذا لأنّ ما بعد إنّ لا يعمل فيما قبلها لأنّها
حرف والحرف لا يتقدّم معموله ولا معمول معموله عليه . وقيل إذا هنا شرطيّة غير
جازمة .
قال ابن هشام في المعني : وفي ناصبها مذهبان : أحدهما : أنّه شرطها وهو قول
المحقّقين فتكون بمنزلة متى وحيثما وأيّان . وقول أبي البقاء إنّه مردود بأنّ
المضاف إليه لا يعمل في المضاف غير وارد لأنّ إذا عند هؤلاء غير مضافة كما يقوله
الجميع إذا جزمت كقوله : الكامل وإذا تصبك خصاصةٌ فتجملّ والثاني : أنه ما في
جوابها من فعل أو شبهه وهو قول الأكثرين . انتهى .
وعلى هذا اقتصر اللّخميّ في شرح أبيات الجمل فقال : العامل في إذا فعل محذوف دلّ
عليه عاقر والتقدير : إذا عدموا زاداً عقرت . ولا يجوز أن يعمل في إذا عاقر لأنّه
لا يعمل ما بعد إنّ فيما قبلها .
____________________
والعجب من العينيّ هنا فإنّه بعد أن ذهب إلى أنّها شرطيّة جازمة قال : والعامل
فيها فعل محذوف دلّ عليه عاقر أي : عقرت . ولا يخفى تعسّفه . وقيل إذا ظرفيّة
وليست شرطيّة وعاملها ضروب . وهذا ركيك والأوّل هو البليغ .
وهذا البيت من قصيدةٍ لأبي طالبٍ عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم رثى بها أبا
أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم وكان ختنه فخرج تاجراً إلى الشام
فمات بموضع يقال له : سرو )
سحيم فرثاه أبو طالب بهذه القصيدة .
كذا في شروح أبيات سيبويه وأبيات الجمل وغيرها إلاّ أنّ في بعض نسخ ما ذكرنا سقطاً
من الكتاب وهو أنهم حذفوا المضاف من أبي أميّة والصواب إثباته كما يأتي بيانه .
وغلظ بعضهم فزعم أنّها مدحٌ في مسافر بن أبي عمرو .
وأفحش من هذا القول قول ابن الشجريّ في أماليه إنّها مدحٌ في النّبيّ صلّى الله
عليه وسلّم .
والقصيدة هذه : الطويل ( كأنّ فراشي فوقه نار موقدٍ ** من اللّيل أو فوق الفراش
السّواجر ) ( على خير حافٍ من قريش وناعلٍ ** إذا الخير يرجى أو إذا الشّرّ حاضر )
( ألا إنّ زاد الرّكب غير مدافعٍ ** بسرو سحيمٍ غيّبته المقابر )
____________________
( بسرو سحيم عارفٌ ومناكرٌ
** وفارس غاراتٍ خطيبٌ وياسر ) ( تنادوا بأن لا سيّد الحيّ فيهم ** وقد فجع
الحيّان كعبٌ وعامر ) ( وكان إذا يأتي من الشام قافلاً ** تقدّمه تسعى إلينا
البشائر ) ( فيصبح أهل الله بيضاً كأنّما ** كستهم حبيراً ريدةٌ ومعافر ) ( ترى
داره لا يبرح الدّهر عندها ** مجعجعة كومٌ سمانٌ وباقر ) ( إذا أكلت يوماً أتى
الغد مثلها ** زواهق زهمٌ أو محاضٌ بهازر ) ( ضروبٌ بنصل السّيف سوق سمانها ** إذا
عدموا زاداً فإنّك عاقر ) ( فإلاّ يكن لحمٌ غريضٌ فإنّه ** تكبّ على أفواههنّ
الغرائر ) ( فيا لك من ناعٍ حبيت بألّةٍ ** شراعيّةٍ تصفرّ منها الأظافر ) الغائر
: من غار الماء في الأرض غوراً : ذهب فيها . و الشؤون : جمع شأن وهو عرق ينحدر من
الرأس إلى الحاجب ثم إلى العين ومنه تجيء الدموع . و الأعاور : جمع أعور من عورت
العين من باب تعب : نقصت أو غارت . و السّواجر : جمع ساجر بكسر الجيم وهو الموضع
الذي يأتي عليه السّيل فيملؤه . يريد كثرة الدموع .
وقوله : ألا إنّ زاد الرّكب الخ زاد الركب : لقب أبي أميّة قال الزّبير بن بكّار
في أنساب قريش : كان أزواد الرّكب من قريش ثلاثة : أحدهم : مسافر بن أبي عمرو بن
أميّة بن عبد شمس . )
وثانيهم : زمعة بن الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى .
وثالثهم : أبو أميّة بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم . وإنّما قيل لهم أزواد
الرّكب لأنهم كانوا إذا سافروا لم يتزوّد معهم أحد . و سحيم بضمّ السين وفتح الحاء
المهملتين : موضع و سروه : أعلاه . كذا قال ابن السيد وغيره .
____________________
وليس هذا اللفظ في معجم ما استعجم ولا في معجم البلدان . والموجود في الأول سخيم
بالخاء المعجمة على وزنه قال : هو مخلاف بن مخاليف اليمن تنسب إليه الخمور الجيدّة
.
وقال في مادة سرو : والسّرو ارتفاع وهبوط بين حزن وسهل وسرو حمير أعلى بلاد حمير .
وقوله : بسرو سحيم عارف الخ عارف مبتدأ والظرف قبله خبره وما بعده معطوف على عارف
وحذف حرف العطف من خطيب ضرورة . و العارف من عرف على القوم يعرف من باب قتل عرافة
بالكسر فهو عارف أي : مدبّر أمرهم وقائم بسياستهم . و مناكر : اسم فاعل من ناكرة
أي : قاتله . وخطيب القوم هو المتكلم عنهم . و الياسر : اللاعب بقداح الميسر وهو
قمار العرب وتسمّى الأزلام . وكان الميسر منقبةٌ في الجاهليّة يلعبون به في أيّام
الجدب والقحط وكان الغالب يفرق ما اخذه على الفقراء . و القافل : الرّاجع من السفر
. و البشائر : جمع بشارة .
وأراد بأهل الله قريشاً وكانت العرب تسمّيهم أهل الله لكونهم أرباب مكّة . و بيض :
جمع أبيض والبياض لعزّته عند العرب لغلبة السمرة عليهم يستعيرونه لحسن الحال
والجودة . و الحبير بفتح المهملة وكسر الموحدة : ثياب ناعمة كانت تصنع باليمن . و
ريدة بفتح الراء وسكون المثناة التحتية : بلدة من بلاد اليمن . و معافر بفتح الميم
وكسر الفاء وبينهما عين مهملة : حيّ من همدان في اليمن إليهم تنسب الثياب
المعافريّة .
وقوله : مجعجعة اسم فاعل من جعجعت الإبل إذا صوّتت و الجعجعة
____________________
: أصواتها إذا اجتمعت وهي
حال من كوم جمع كوماء كصحراء وهي الناقة العظيمة السنام .
وقال ابن السيد وغيره من شرّاح الشواهد : المجعجعة المصروعة وعليه فهي اسم مفعول .
ومن العجائب قول العينيّ هنا : مجعجعة من الجعجعة وهي صوت الرحى . و الباقر : اسم
لجماعة )
البقر كالجامل لجماعة الجمال .
وقوله : إذا أكلت يوماً . . الخ الغد منصوب على الظرفيّة وهو اليوم الذي يلي يومك
. و مثلها : حال من زواهق وهي جمع زاهقة وهي السّمينة . و الزّهم : الكثيرات الشحم
جمع زهمة بفتح فكسر وكلاهما بالزاي المعجمة . و المخاض : الحوامل من الإبل واحدها
خلفة من غير لفظها . و البهازر : جمع بهزرة كحيدرة وهي العظيمة الجسم .
وقوله : ضروبٌ بنصل السيف الخ السياق والسباق يمنع أن يكون تقديره أنت ضروب كما
زعمه بعضهم . و الغريض بإعجام الطرفين : الطريّ من اللحم . و تكبّ : تصبّ . و
الغرائر : جمع غرارة وهي العدل يكون فيها الدقيق والحنطة وغسيرهما .
وقوله : فيا لك من ناع الخ هذا تعجبّ . و النّاعي : الذي يخبر بموت الإنسان . و
حبيت : خصصت من الحباء وهو العطّية . و الألّة بفتح الهمزة واللام المشددة وهي
الحربة . و شراعيّة بالكسر لا بالضم كما ضبطه العينيّ . قال صاحب الصحاح : ورمح
شراعيّ أي : وقال ابن السيد وتبعه ابن خلف : الشّراعيّة التي قد أشرعت للطّعن أي :
صوّبت وسدّدت .
وقوله : تصفر منها الخ أي : تموت منها لأنّ الميت يصفرّ ظفره دعاءٌ على من أخبر
بموت أبي أميّة بالقتل .
____________________
و أبو أميّة اسمه كنيته
تقدم ذكر نسبه قريباً مات في الجاهليّة وكان زوج أخت أبي طالب وهي عاتكة بنت عبد
المطلّب بن هاشم عمّه النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم .
قال الزّبير بن بكّار في أنساب قريش : كان عند أبي أمية بن المغيرة ابن عبد الله
بن عمر بن مخزوم أربع عواتك : عاتكة بنت عبد المطلب وهي أمّ زهير وعبد الله وهو
الذي قال للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم : لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا
وقريبة الكبرى وعاتكة بنت جذل الطّعان وهي أم أمّ سلمة والمهاجر . وعاتكة بنت عتبة
بن ربيعة وهي أم قريبة الصغرى . وعاتكة التميميّة وهي بنت قيس بن سعد بن زمعة بن
نهشل بن دارم وهي أم أبي الحكم درج وأمّ مسعود قتل يوم بدر كافراً وربيعة وهشامٍ
الأكبر وصفيّة .
وكان زهير بن أبي أميّة من رجال قريش وكان عبد الله بن أبي أميّة شديد الخلاف على
المسلمين ثم خرج مهاجراً من مكّة يريد النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم فلقيه
بالطّلوب بين السّقيا )
والعرج هو وأبو سفيان بن الحارث بن عبد المطلب فأعرض عنهما رسول الله صلّى الله
عليه فقال عليّ بن أبي طالب لأبي سفيان بن الحارث : ائت رسول صلّى الله عليه وسلّم
من قبل وجهه وقل له ما قال إخوة يوسف ليوسف : تا لله لقد آثرك الله علينا وإن كنّا
لخاطئين فإنّه لا يرضي أن يكون أحد أحسن منه قولاً . ففعل ذلك أبو سفيان فقال له
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : لا تثريب عليكم اليوم يغفر الله لكم وهو أرحم
الرّاحمين وقبل منهما وأسلما .
وهو أخو أمّ سلمة لأبيها وشهد مع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم فتح مكّة
____________________
وحنين . وقتل يوم الطائف
شهيداً . وقتل هشام بن أبي أميّة يوم أحد كافراً . وأسلم المهاجر وزهير . وولد
زهير معبداً وقتل يوم الجمل وعبد الله بن زهير . وولدت قريبة الكبرى لزمعة بن
الأسود بن المطلب بن أسد بن عبد العزّى . وولدت قريبة الصغرى عبد الله وأمّ حكيم
ابني عبد الرحمن بن أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه .
وترجمة أبي طالب عمّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم تقدّمت في الشاهد الحادي
والتسعين .
وأنشد بعده : الطويل بمنجردٍ قيد الأوابد هيكل على أنّ قيداً بمعنى مقيّد فإضافته
إلى الأوابد لفظيّة لم تكسبه تعريفاً ولهذا وقع نعتاً لمنجرد .
وهذا عجز وصدره : أي : أخرج غدوةً للصيّد و الوكنة : عشّ الطائر الذي يبيض فيه . و
المنجرد من الخيل : الماضي في السير . و الأوابد : جمع آبدة بالمدّ وهي الوحوش
يريد أنّ هذا الفرس من سرعته يلحق الوحوش فيصير لها بمنزلة القيد .
وهذا البيت من معلّقة امرئ القيس تقدّم شرحه والكلام على قيد الأوابد بلاغة
وإعراباً في الشاهد الخامس والثمانين بعد المائة .
____________________
وأنشد بعده : يا سارق اللّيلة أهل الدّار على أنّ إضافة سارق إلى اللّيلة بمعنى في
أي : يا سارقا في اللّيلة .
وقد تقدّم الكلام على هذا في الشاهد الثالث والتسعون بعد المائتين الطويل ) (
لحافي لحاف الضيّف والبرد برده ) على أنّ أل في البرد عند الكوفيّين عوض من المضاف
إليه والتقدير : ويردي برده . وهو المناسب لقوله : لحافي لحاف الضّيف .
وهذا صدره وعجزه : ولم يلهني عنه غزالٌ مقنّع وبعده : ( أحدّثه إنّ الحديث من
القرى ** وتعلم نفسي أنّه سوف يهجع ) وهذان البيتان أوردهما أبو تّمام في باب
الأضياف من الحماسة لمسكين الدّارميّ إلاّ أنّه روى المصراع الشاهد : لحافي لحاف
الضّيف والبيت بيته .
وكذلك رواه جميع من سيذكر من رواته منهم ابن الأثير في المثل السائر وقال : الغزال
استعارة للمرأة الحسناء .
____________________
ومنهم السيّد المرتضى في أماليه وقال : ومعنى أحدثه إن الحديث من القرى أي : أصبر
على حديثه وأعلم أنّه سوف ينام ولا أضجر بمحادثته فأكون قد محقت قراي . والحديث
الحسن من تمام القرى .
وقال التبريزيّ : أي تعلم نفسي وقت هجوعه فلا أكلّمه . يريد أنّه يحدثه بعد
الإطعام كأنّه يسامره حتّى تطيب نفسه فإذا رآه يميل إلى النوم خلاّه .
ولم أقعد إليه أسائله قلت : هذا إشارة إلى ابتداء النزول وذلك وقت الاشتغال
بالضيافة وهذا يريد بحديثه بعد الإطعام .
ومنهم الأعلم الشنتمريّ في حماسته إلاّ أنّه روى المصراع الأخير : وتكلأ عيني عينه
حين يهجع و تكلأ : تحرس و الكلاءة : الحراسة والحفظ . والعين الأوّل حاسّة البصر
والثاني بمعنى الذات .
ومنهم أبو زيد في نوادره ومنهم الجاحظ في البيان والتبيين إلاّ أنهما زادا على
البيتين قبلهما )
بيتين آخرين وهما : ( أرى كلّ ريحٍ تسكن مرّةً ** وكلّ سماءٍ ذات درّ ستقلع )
____________________
( فإنك والأضياف في بردةٍ
معاً ** إذا ما تبض الشّمس ساعة تنزع ) لحافي لحاف الضّيف . . . . . . . . . . . .
. . . . . البيتين قال أبو زيد : تبضّ أي : تجري إلى المغرب أي : أمرهم لازم لك
كأنّك أنت وهم في بردة . وهو بالضاد المعجمة قال صاحب الصحاح : وبضّ الماء بيضّ
بضيضاً أي : سال قليلاً قليلاً . و تنزع : تذهب من نزع إلى كا : إذا مال إليه وذهب
. وأراد بالسماء السحاب . والدّرّ القطر . و الإقلاع : الكفّ عن الشيء يقال : أقلع
عمّا كان عليه .
والكاف من قوله فإنّك الخ مكسورة لأنّه خطاب مع امرأته .
وقوله : ولم يلهني أي : لم يشغلني . و المقنّع : اسم مفعول الذي ألبس المقنع
والمقنعة بالكسر وهما ما تقنّع به المرأة رأسها أي : تغطّية . والقناع أوسع من
المقنعة . وإنّما لم يقل المقنّعة بالتأنيث لأنّه جرى على لفظ الغزال .
وكلّهم روى هذا الشعر لمسكين الدّارميّ وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السابع
والستين بعد المائة إلاّ الجاحظ والأعلم الشنتمريّ فإنهما نسباه إلى كعب ابن سعد
الغنويّ .
ونسبه التبريزيّ إلى عتبة بن بجير وبعض شرّاح الحماسة .
وقد انفرد ابن الشّجريّ بنسبته إلى عتبة بن مسكين الدّارميّ فإنّه قال : محادثة
الضيف من دلائل الكرم وقد مدحوا بذلك وتمدحوا به : فمن المدح قول الشمّاخ يمدح عبد
الله بن جعفر : الرجز
____________________
( إنّك يا ابن جعفر نعم
الفتى ** ونعم مأوى طارق إذا أتى ) ( وربّ ضيفٍ طرق الحيّ سرى ** صادف زاداً
وحديثاً ما اشتهى ) ومن التمدّح قول عتبة بن مسكين الدّارميّ : لحافي لحاف الضيّف
والبيت بيته . . . . . . . . . . . البيتين وقوله : وربّ ضيف هو بفتح الراء وضمّ
الباء عطف على نعم .
وقد نسب ابن الشّجريّ الدارميّ إلى البخل فإنّه قال قبل دينك البيتين .
ومن شعره الذي استدلّ به على بخله قوله يذكر ضيفاً نزل به : الطويل ) ( أتى يخبط
الظّلماء واللّيل دامسٌ ** يسائل عن غير الذي هو آمل ) ( فقلت لها قومي إليه
فيسّري ** طعاماً فإنّ الضّيف لا بدّ نازل ) ( يقول وقد ألقى مراسيه للقرى ** أبن
لي ما الحجّاج بالنّاس فاعل ) ( فقلت لعمري ما لهذا طرقتنا ** فكل ودع الحجّاج ما
أنت آكل ) ( أتانا ولم يعدله سبحان وائلٍ ** بياناً وعلماً بالذي هو قائل ) ( فما
زال عنه اللّقم حتّى كأنّه ** من العي لمّا أن تكلم باقل ) قوله : ألقى مراسيه أي
: ألقى أثقاله وثبت كلّ الثبات . وسؤاله عن الحجّاج هو الذي عناه بقوله : يسائل عن
غير الذي هو آمل . و طرقتنا : أتيتنا ليلاً .
____________________
وقوله : فما زال عنه اللّقم الخ أراد أنّه امتلأ من الطعام حتّى كسبته الكظّة
العيّ كقولهم : البطنة تذهب الفطنة . ولّما بدأه الضيف بالحديث وسأله عن الحجّاج
طلباً للاستئناس قطع عليه كلامه بقوله : ما لهذا طرقتنا فكل ودع الحجاج . وهذا منه
نهايةٌ في البخل لأنّ محادثة الضّيف من دلائل الكرم . انتهى كلام ابن الشّجريّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والتسعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الكامل
( الواهب المائة الهجان وعبدها ** عوذا تزجّي خلفها أطفالها ) على أنه قد يجعل
ضمير المعرّف باللام في التابع مثل المعرّف باللام فإنّ قوله : عبدها بالجرّ معطوف
على المائة وهو مضاف إلى ما ليس فيه أل . واغتفر هذا
____________________
لكونه تابعاً والتابع يجوز
فيه ما لا يجوز في المتبوع .
قال أبو بكر بن السرّاج في باب العطف : ومما جاء في العطف لا يجوز في الأوّل قول
العرب : كلّ شاة وسخليها بدرهم ولو جعلت السّخلة تلي كلّ لم يستقم .
ومن كلام العرب : هذا الضارب الرجل وزيدٍ ولو كان زيد يلي الضارب لم يكن جرّ .
وينشدون هذا البيت جرّاً .
الواهب المائة الهجان وعبدها وكان أبو العبّاس المبّرد يفرق بين عبدها وزيد يقول :
إنّ الضمير في عبدها هو المائة فكأنه قال : وعبد المائة ولا يستحسن ذلك في زيد ولا
يجيزه . وأجازه سيبويه والمازنيّ ولا أعلمهم قاسوه إلاّ على هذا البيت .
وقال المازنيّ : إنّه من كلام العرب . والذي قاله أبو العبّاس أولى وأحسن . انتهى
.
وقال الأعلم : قد غلط سيبويه في استشهاده بهذا لأنّ العبد مضاف إلى ضمير المائة
وضميرها بمنزلتها وهذا جائز بإجماع وليس مثل الضارب الرجل وعبد الله لأن عبد الله
علم كالفرد لم يضف إلى ضمير الأوّل فيكون بمنزلته .
وإنّما احتجّ سيبويه بهذا بعد أن صحّ عنده بالقياس جواز الجرّ في الاسم المعطوف .
وأنشد البيت ليري ضرباً من المثال في الاسم المعطوف . لأنّه حجّة له لا أنّه ليس
يجور فيه غيره . هذا كلامه .
ومعنى البيت أنّ هذا الممدوح يهب المائة من الإبل الكريمة ويهب راعيها أيضاً وهو
المراد من العبد . وخصّ الهجان لأنه أكرمها . و الهجان : البيض قال الجوهريّ : هو
من الإبل الأبيض يستوي فيه المذكر والمؤنث والجمع وقال الأصمعيّ : الهجان : الكرام
وأصل الهجان البياض وهي تكون للواحد والجمع وربّما جمع هجائن كما قالوا شمال
وشمائل . )
____________________
وقال شارح ديوان الأعشى : العوذ : الحديثات النتاج قبل أن توفى خمس عشرة ليلة ثم
هي مطفل بعده .
وقال ابن خلف : هي الحديثة النتاج كان معها ولد أو لم يكن . قال الأعلم : وسمّيت
عائذاً لأنّ ولدها يعوذ بها لصغره وبني على فاعل لأنّه على نية النسب لا على ما
يوجب التصريف كما قالوا عيشة راضية . و تزجيّ : بالزاي المعجمة والجيم أي : تسوق
والتّزجية : السّوق ومثله الإزجاء .
وروي بدله : ترشّح والترشيح : التربية يعني إذا تخلّفت أولادها وقفت وحنّت حتّى
يلحق أولادها بها فتعذّيها وكذلك التزجية . وقيل إنّما تكون التزجية من بين يديها
. وفاعل تزجّي ضمير العوذ والجملة صفة لها وأطفالها مفعول تزجيّ .
وهذا البيت من قصيدة للأعشى ميمون وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الثالث والعشرين في
أوائل الكتاب وقد استعمل هذا المعنى في شعره كثيراً منها قوله : الكامل ( الواهب
المائة الهجان وعبدها ** قطناً تشبّهها النّخيل المكرعا ) القطن والقطين : أتباع
الملك وهو حال من العبد . وتشبّهها بالخطاب . و المكرع بوزن اسم ومنها قوله :
المتقارب ( هو الواهب المائة المصطفا ** ة إمّا مخاضاً وإمّا عشارا )
____________________
وقال أيضاً في قصيدة نونية
: المتقارب ( هو الواهب المائة المصطفا ** ة كالنخل زيّنها بالرّجن ) و الرّجن
بفتح الراء المهملة وبالجيم قال في الصحاح : قال الفرّاء : رجنت الإبل ورجنت أيضاً
بالكسر وهي راجنة وقد رجنتها أنا وأرجنتها : إذا حبستها لتعلفها ولم تسرّحها .
وقد سبق الأعشى في هذا المعنى إمّا بشر بن أبي خازم وإمّا أوس بن حجر فإنهما
متعاصران وكانا قبله : قال الأوّل يمدح عمرو بن أم أناس : الكامل ( والمانح المائة
المعكاء يشفعها ** يوم النّضار بأخرى غير مجهود ) و المعكاء بكسر الميم وسكون
العين المهملة بعدها كاف قال ابن الأنباريّ في المقصود )
والممدود : يقال أعطاه مائة معكاء : إذا أعطاه مائة من الإبل سماناً غلاظاً .
وأنشد هذا البيت .
وتلك القصيدة يمدح بها الأعشى قيس بن معد يكرب الكنديّ . وهذا مطلعها : الكامل (
رحلت سميّة غدوةً أجمالها ** غضبى عليك فما تقول بدا لها ) ( هذا النّهار بدا لها
من همّها ** ما بالها باللّيل زال زوالها ) ثم قال :
____________________
( وسبيئةٍ ممّا تعتّق
بابلٌ ** كدم الذّبيح سلبتها جريالها ) ( وغريبةٍ تأتي الملوك حكيمةٍ ** قد قلتها
ليقال من ذا قالها ) ثم وصف ناقته فقال مخاطباً لها : ( ولقد نزلت بخير من وطئ
الحصى ** قيسٍ فأثبت نعلها وقبالها ) ( ما النيل أصبح زاحراً من مدّه ** جادت له
ريح الصبّا فجرى لها ) ( زيداً بمصرٍ يوم يسقي أهلها ** وغدا تفجّره النّبيط
خلالها ) ( يوماً بأغزر نائلاً منه إذا ** نفس البخيل تجهّمت سؤالها ) الواهب
المائة الهجان وعبدها . . . . . . . . . . . البيت ( والقارح الأحوى وكلّ طمرّةٍ
** ما عن تنال يد الطويل قذالها ) وقال في آخر القصيدة : ( وإذا تجيء كتيبةٌ
ملمومةٌ ** خرساء يخشى الذّائدون نهالها ) ( كنت المقدّم غير لابس جنةٍ ** بالسّيف
تضرب معلماً أبطالها ) ( وعرفت أنّ النفس تلقى حتفها ** ما شاء خالقها المليك قضى
لها ) وقوله : هذا النهار بدا لها الخ قال أبو عليّ في الإيضاح الشعريّ رواه أبو
الحسن : هذا النّهار بالنصب وكذلك رواه أبو عمرو الشّيبانيّ فأمّا من رفع النهار
فجعله وصفاً لهذا وحذف الراجع من خبر المبتدأ كأنه قال : هذا النهار
____________________
بدا لها فيه . فأمّا فاعل
بدا فيكون ضمير المصدر أي : بدا البداء وقوله : من همّها حال من هذا الفاعل ويجوز
على قول الأخفش بزيادة من في الواجب أن يكون مجرورها فاعل بدا .
ومن استجاز حذف الفاعل مّمن خالف سيبويه أجاز أن يكون من همّها صفة للفاعل المحذوف
كأنه قال : بدا لها بداءٌ من همّها . ومن نصب النهار ففيه وجهان : )
أحدهما : أن يكون على حدّ زيداً مررت به .
والآخر : أن يكون ظرفاً لبدا كأنه قال : بدا لها البداء من همّها في هذا النهار .
ويجوز أن يكون قوله : هذا فيمن نصب النهار إشارة إلى الارتحال كأنه لّما قال :
رحلت قال : هذا الارتحال بدا لها النهار فيكون في بدا ذكر يعود إلى المبتدأ الذي
هو هذا . وكان المعنى عليه لأنّ المعنى هذا الارتحال والمفارقة قد بدا لها في
النهار فما بالها بالليل يعتادنا خيالها هلاّ فارقتنا بالليل كما فارقتنا بالنهار
.
فأمّا فاعل زال فيمن نصب زوالها فجائز أن يكون الهمّ لأنّ ذكره قد تقدّم كأنه قال
: زال وقد حكي هذا القول عن أبي عمرو الشيبانيّ . ويجوز أن يكون الفاعل اسم الله
تعالى كأنه قال : زال الله زوالها . من قوله زلته فلم يزل وعلى هذا قول ذي الرّمّة
: الطويل ( وبيضاء لا تنحاش منّا وأمّها ** إذا ما رأتنا زيل منّا زويلها ) انتهى
كلام أبي عليّ وكأنه لم يطّلع على ما للعلماء بالشعر في هذا البيت .
____________________
وقد جمعه حمزة بن الحسن في كتاب التّنبيه على حدوث التصحيف قال : قوله : هذا
النهار بدا قال الأخفش : النهار ظرف أي : في هذا النهار .
وقوله : من همّها ما بالها بالليل قال بعضهم : يقول : هذا الارتحال الذي يرى لنا
من همّها في النهار فما بالها بالليل إذا نمنا ألمّ بنا خيالها .
وقال آخر : يقول : هذا الهمّ بدا لها نهاراً والهمّ ما همّت به من مفارقته وصرمه .
وقال آخر : هي بالنهار تخاف العيون وتراقب الوشاة فما بالها بالليل أيضاً بمثل تلك
الحال لا تزورني وقد زال عنها ما تحاذر .
وقال آخر : إنّما ردّه على آخر البيت الأول وهو قوله : فما تقول بدا لها ثم قال
مفسراً لذلك : بدا لها أن همّت بصرمي نهاراً فما بالها بالليل أي : ما لنا ولها
بالليل لسنا ننامه شوقاً إليها وذكراً لها .
وقوله : زال زوالها قال الأصمعي : هو دعاء على المرأة أي : هذه المرأة لا أكاد
أراها بالنهار فإذا جاء الليل إذ أتاني خيالها فما بالها ثم دعا عليها فقال : زال
زوالها ومعناه لا زال همّها يزول زوالها أي : يزول معها أراد أنّه لا يفارقها .
وقال بعضهم : هذا دعاء على الهمّ ومعناه زال الهمّ معها حيث زالت . وقال أبو عمرو
: هي كلمة يدعى بها فتركها على حالها . )
وقال بعضهم : هو دعاء على الخيال ومعناه أذهب الله خيالها عنّي كما ذهبت هي
فأستريح .
وقال الأخفش : هو دعاء على الليل ومعناه أزال الله الليل الذي نقاسي فيه منه ما
نقاسيه مع صرمها لنا نهاراً كما زالت سميّة . وهذا كما تقول : هلك فلان أي : أهلكه
الله .
وقال الأخفش : قال بعضهم : زال هنا بمعنى أزال وهي لغة قوم من العرب تقول : زلت
الرجل عن مقامه بمعنى أزلته وعليه قول ذي الرّمّة : الطويل
____________________
زيل منها زويلها فكأنه قال
: ما بال هذا الليل أزالها .
ويحكى هذا القول بعينه عن أبي عبيدة . وقال الأصمعيّ في بعض الحكايات عنه : هذا
مقلوب يجب أن يقول زالت زواله أي : زوال النهار ثمّ قلب الكلام كما قال الشاعر : (
. . . . . . . . . . . . . كما ** كان الزناء فريضة الرجم ) وقال بعضهم : هو خيرٌ
ليس بدعاء ومعناه ما بال حظّنا من سميّة بالليل قد أزل كما زالت وإنّما يريد تأخر
الخيال عنه الذي كان يقوم مقامها فيستريح إليه . وعلّة تأخرّ الخيال عنه أنه سهر
لفراقها فلم ينم فيبصره .
قال : وقد يجوز أن يكون دعاءً على الليل إذ فاته حظّه فيه منها . وقال أبو عمرو :
أنا أرويه : زال زوالها بالرفع وإن كان إقواء وعلى هذا يكون دعاءً على المرأة
بالهلاك وأن تذهب من الدّنيا والأعشى شاعر أفحل من أن يقوي .
وقال بعضهم : هو دعاءٌ منه لسميّة لا عليها زال ما تهمّ به من صرمنا في النّهار
والليل كما زالت هي أي : زال عنّا همّها بذلك .
وقال بعضهم : هو إخبار عن الليل وفيه تقدير قد أي : قد زال زوالها أي : كأنّ الليل
الذي كان لنا منها قد زال وهذا كما تقول : مالي مع فلان ليلٌ ولا نهار وإنما تعني
مالي حظّ من الليل ولا النّهار ولست تعني أنّ هناك نهاراً ولا ليلاً . انتهى ما
أورده حمزة .
وقوله : وسبيئة مّما تعتّق بابل الخ السّبيئة : الخمر فعليه بمعنى من سبأت الخمر
سّبئاً : إذا اشتريتها لتشربها والاسم السّباء بالكسر على
____________________
فعال والسّبّاء : الخمّار
وزناً ومعنى . و الجريال بكسر الجيم وبعد الراء مثنّاة تحتيّة .
قال الجواليقي في المعرّبات : هو صبغ أحمر ويقال : جريان بالنون وقيل هو ماء الذهب
)
وذهب الأصمعيّ أنّه رومي معرب وروي لي عن الأصمعي عن شعبة عن سماك بن حرب عن يونس
بن متّى راوية الأعشى قال : قلت للأعشى : ما معنى قولك : سلبتها جريالها قال :
شربتها حمراء وبلتها بيضاء فسلبتها لونها . يقول : لما شربتها نقلّت لونها إلى
وجهي فصارت حمرتها فيه . وهذا المعنى أراد أبو نواس بقوله : البسيط أجدته حمرتها
في العين والخدّ وربّما سميّت الخمر جريالاً . انتهى كلامه .
وقوله : وغريبةٍ تأتي الملوك حكيمةٍ أي : ربّ قصيدة غريبة في أسلوبها محكمة .
وقوله : ولقد نزلت الخ قال شارح الديوان ابن حبيب : يجوز ضم التاء بالتكلم وكسرها
بخطاب الناقة والمراد لقد نزلت برجلي فأثبت نعلها أي : قضى حوائجي . و تجهمت :
بمعنى استثقلت .
وقوله : والقارح الأحوى الخ هو بالجرّ عطف على المائة الهجان . و القارح : ما جاوز
خمس سنين من ذوات الحافر . و الأحوى : ما خالط لونه لون آخر إذا كان كميتاً مثل
صدأ الحديد وقيل حمزة يخالطها سواد . و الطمّرة بكسرتين وتشديد الراء : المستفز
للوثب .
وقوله : وإذا تجيء كتيبة الخ الكتيبة : الجيش و الخرساء : التي لا يسمع فيها قعقعة
سلاح من كثرة الدروع و ملمومة : مجموعة . و الجنّة
____________________
بالضم الوقاية . يريد أنه
يهجم في الحرب على الإبطال غير مكترث بلبس وقاية من السلاح . وهذا غاية في التهورّ
.
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والتسعون بعد المائتين ) البسيط ( وليس حاملني
إلاّ ابن حمّال ) على أنّه قيل النون في حاملني هو نون التنوين وقيل نون وقاية
وكلاهما شاذّ وقبل الرواية يحملني لا حاملني .
وهذا عجز وصدره : ألا فتى من بني ذبيان يحملني وهو من أبيات لم أرها إلاّ في كامل
المبّرد قال فيه : أنشدنا أبو محلّم السّعديّ : ( لطلحة بن حبيبٍ حين تسأله **
أندى وأكرم من فند بن هطّال ) ( وبيت طلحة في عزّ ومكرمةٍ ** وبيت فندٍ إلى ربقٍ
وأحمال ) ( ألا فتىً من بني ذبيان يحملني ** وليس يحملني إلاّ ابن حمّال ) ( فقلت
: طلحة أولى من عمدت له ** وجئت أمشي إليه مشي مختال ) قوله : إلى ربق وأحمال أراد
جمع حمل على القياس كما تقول في جمع باب فعل : جمل وأجمال وصنم وأصنام .
وقوله : ألا فتىً من بني ذبيان يحملني يعني ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد
بن قيس بن عيلان بن مضر .
وأنشد بعضهم :
____________________
وليس حاملني إلاّ ابن
حمّال وهذا لا يجوز في الكلام لأنّه إذا نوّن الاسم لم يتّصل به المضمر لأنّ
المضمر لا يقوم بنفسه وإنّما يقع معاقباً للتنوين . تقول : هذا ضاربٌ زيداً غداً
وهذا ضاربك غدا ولا يقع التنوين هاهنا لأنه لو وقع لا نفصل المضمر . وعلى هذا قول
الله عزّ وجلّ : إنّا منجّوك وأهلك .
وقد روى سيبويه بيتين محمولين على الضرورة وكلاهما مصنوع وليس أحد من النحويين
المتقنين يجيز مثل هذا في الضرورة لما ذكرت لك من انفصال الكناية والبيتان اللذان
رواهما سيبويه : الطويل ( هم القائلون الخير والآمرونه ** إذا ما خشوا يوماً من
الأمر معظما ) )
وأنشد : الطويل وإنّما جاز أن تبيّن الجركة إذا وقفت في نون الاثنين والجمع لأنه
لا يلتبس بالمضمر تقول : هما رجلانه وهم ضاربونه إذا وقفت لأنه لا يلتبس بالمضمر
إذ كان لا يقع هذا الموقع ولا يجوز أن تقول : ضربته وأنت تريد ضربت والهاء لبيان
الحركة لأنّ المفعول يقع في هذا الموضع فيكون لبساً .
فأمّا قواهم : ارمه واغزه فلتلحق الهاء لبيان الحركة فإنّما جاز ذلك لما حذفت من
أصل الفعل ولا يكون في غير المحذوف .
____________________
وقوله : في رأس ذياله يعني فرساً انثى أو حصاناً . و الذّيال : الطويل الذنب .
وإنّما يحمد منه طول شعر الذنب وقصر العسيب فأما الطويل العسيب فمذموم . هـ كلام
المبّرد .
قال ابن السيد فيما كتبه على الكامل : ليس ما أصّل بصحيح ولا لازم قد قالوا :
ضربتنه وهلمّه يريدون : ضربتنّ وهلمّ والمفعول يقع هاهنا . وما ذكرته مذكور في
كتاب سيبويه .
وأنشد : يا أيها الناس ألا هلمّه والمفعول يقع هذا الموقع .
وقوله لطلحة بن حبيب اللام للابتداء وطلحة مبتدأ واندى خبره . والسؤال : استدعاء
معرفةٍ فاستدعاء المعرفة جوابها باللسان وتنوب عنه اليد فاليد خليفة عنه بالكتابة
أو الإشارة .
ويتعدّى لاثنين ثانيهما بنفسه تارة وبحرف الجرّ أخرى وهو عن وتنوب عنها الباء .
واستدعاء المال جوابه باليد وتنوب عنه اللسان بوعدٍ أو ردّ ويتعدّى بنفسه أو بمن
قال تعالى : وإذا سألتموهنّ متاعاً وقال : واسئلوا الله من فضله . كذا في مفردات
القرآن للسمين . و أندى : أفعل تفضيل من النّدى وهو السّخاء . و فند بكسر الفاء
وسكون النون : اسم رجل . و الرّبق بكسر الراء وسكون الموحدة : حبل فيه عدّة يشدّ
به البهم كلّ عروةٍ ربقة بالكسر والفتح والجمع كعنب . و البهم
____________________
بفتح الموحدة وسكون الهاء
: ولد الضأن والمعز والبقر وقيل صغار الإبل . و الأحمال : جمع حمل بفتح الحاء
المهملة والميم : الخروف وقيل هو الجذع أي : الشابّ من اولاد الضّأن فما دونه .
جعل بيت طلحة مظروفاً في العزّ والمكرمة وبيت فندٍ منتهياً إلى ما ذكر وأراد أنّ
البيت الأوّل )
مملوء بالخيل وبها يكون العزّ والبيت الثاني بيت ذلّ وهوان لأنّ اقتناء الخرفان
عندهم يدلّ على الفقر والضعف وأنّ بيتهم إنّما هو مربط للبهائم .
وقوله : ألا فتى من بني ذبيان الخ ألا هنا للعرض والتخصيص و فتىً : منصوب بفعل
يفسّره يحملني أو منصوب بمحذوف أي : ألا ترونني فتى هذه صفته كما قال الخليل في
قوله : ولا يجوز أن تكون للتمني فيكون فتى مبنياً معها على الفتح لوجود الخبر وهو
يحملني فإنّ التي للتمنيّ لا خبر لها لفظاً ولا تقديراً والمعنى أيضاً لا يساعد في
جعلها للتوبيخ أو للاستفهام عن النفي فإنّه بعيد . ولا معنى لجعلها هنا للتنبيه .
و يحملني : من حمله : إذا أعطاه دابّةً تحمله . و حمّال هنا مبالغة حامل بالمعنى المذكور
. وحاملني فيمن رواه خب ليس مقدّم وما بعد إلاّ اسمها وعلى رواية ليس يحملني اسمها
ضمير الشأن .
وقوله : فقلت التاء مضمومة . وعمدت : قصدت .
وقوله : مستيقناً أنّ حبلي الخ هو حال من فاعل أمشي . و يعلقه : مضارع أعلق حبله
إذا امكنه أن يعلق حبله ويربطه به . و عسيب الذنب : منبته من الجلد والعظم .
والمعروف أنّه لا يقال ذيّال إلاّ أن يكون مع طول الذنب طويلاً في نفسه فإن كان
طويل الذنب فقط فهو ذائل .
ومخلّم السعديّ بضم الميم وفتح الحاء المهملة وكسر اللام المشدّدة .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والتسعون بعد المائتين ) وهو من أبيات س : الطويل
( هم الفاعلون الخير والآمرونه ** إذا ما خشوا من محدث الأمر معظما ) على أنّه قد
جمع في قوله الآمرونه النون والضمير ضرورة وصوابه والآمروه بحذف نون الجمع للإضافة
فإنّ حكم الضمير أن يعاقب النون والتنوين لأنّه بمنزلتها في الضعف والاتصال فهو
معاقب لهما إذ كان المظهر مع قوّته وانفصاله يعاقبهما .
قال أبو جعفر النحّاس : هذا خطأ عند المبّرد لأنّ المجرور لا يقوم بنفسه ولا ينطق
به وحده فإذا أتى بالتننوين فقد فصل ما لا ينفصل وجمع بين زائدين . وهذا لا يلزم
سيبويه منه غلط لأنّه قد قال نصّاً : وزعموا أنّه مصنوع . فهو عنده مصنوع لا يجوز
فكيف يلزمه منه غلط . انتهى .
ولا يبعد أن يكون من باب الحذف والإيصال والأصل والآمرون به فحذفت الباء واتّصل
الضمير به فإنّ أمر يتعدّى إلى المأمور بنفسه وإلى المأمور به بالباء يقال : أمرته
بكذا . والمأمور هنا محذوف أي : الآمرون الناس بالخير فيكون الضمير منصوباً لا
مجروراً .
يقول : هؤلاء يفعلون الخير ويأمرون به في وقت خشيتهم الأمر العظيم من حوادث الدّهر
فلا يمنعهم خوف الضرر عن الأمر بالمعروف .
وقد رواه المبّرد فيما سبق النقل عنه بما يقرب مما هنا .
____________________
وروي في المفصّل وغيره : ( هم الآمرون الخير والفاعلونه ** إذا ما خشوا من حادث
الدّهر معظما ) و المعظم : اسم مفعول وهو الأمر الذي يعظم دفعه . وقد روى الجوهريّ
في هاء السكت المصراع الثاني كذا : إذا ما خشوا من معظم الأمر مفظعا وهو اسم فاعل
من أفظع الأمر إفظاعاً ومثله من فظع الأمر فظاعة : إذا جاوز الحدّ في القبح . و
خشوا بضمّ الشين وأصله خشيوا بكسرها فحذفت الكسرة ونقلت ضمّة الياء إليها ثم حذفت
الياء الساكنين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والتسعون بعد المائتين ) وهو من أبيات س : الطويل
( ولم يرتفق والنّاس محتضرونه ** جميعاً وأيدي المعتفين رواهقه ) لما تقدّم قبله
وهو أنّه قد جمع النون والضمير في قوله : محتضرونه ضرورة .
والكلام فيه كما تقدّم في الذي قبله فمن جعل الهاء ضميراً جعلها ضمير الممدوح ومن
جعلها للسكت فإنّه احتاج إلى تحريكها .
وفيه أنّ حضر واحتضر إن كان معناه ضدّ غاب فهو لازم وغير هذا مردٌ هنا . وإن كان
بمعنى شهد فهو متعدّ وهذا هو المراد . يقال : حضرت القاضي أي : شهدته .
وفي القاموس : حضر كنصر وعلم حضوراً وحضارة : ضدّ غاب كاحتضر وتحضّر ويتعدى يقال
وتحضّره . انتهى .
____________________
وعلى هذا فالضمير منصوب على المفعولية لا أنّه مضاف إليه . ومحتضرون عامل النصب
فيه لوجود شرط عمل النصب وهو جمع محتضر . و الارتفاق : الاتكاء على المرفق أي : لم
يشتغل عن قضاء حوائج الناس . ويحتمل أنّ المعنى لم يرتفق بماله أي : لم يبذله
بالرفق بل جار عليه بالجود . و المعتقون : الذين يأتون يطلبون المعروف والإحسان
يقال عفوته أي : أتيته أطلب معروفه . و الرّواهق : جمع راهقة من رهقه من باب تعب
إذا غشيه وأتاه . ورهقه بمعنى أدركه وقرب منه أيضاً . والهاء يجوز أن تكون ضميراً
وأن تكون للسكت .
وهذا البيت أيضاً مصنوع .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والتسعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : المنسرح
( الحافظو عورة العشيرة ) على أنّ الضمير بعد الوصف ذي اللام المثنّى والمجموع
يحتمل عند سيبويه أن يكون مجروراً على الإضافة أو منصوباً كما ورد الظاهر منصوباً
بعده .
قال ابن السرّاج في الأصول : وقد أجازوا : رأيت الضاربي زيداً وليس ذلك بحسن
وإنّها جواز ذلك على أنّك أردت النون فحذفتها لطول الاسم كما
____________________
تقول : الذي ضربت زيد
فتحذف الهاء من ضربته وأنت تريدها . وحذف النون من الضّاربين والضّاربين مع الإعمال
قبيح قال الشاعر : ( الحافظو عورة العشيرة ل ** يأتيهم من ورائنا نطف ) ولو جرّوا
لكان الجيّد الصواب هـ .
وقال ابن خلف : الشاهد فيه أنّه حذف النون من الحافظون ونصب عورة العشيرة بما في
الصلة فكأنه قال : الذين حفظوا عورة العشيرة . ولم يحذفها للإضافة إنّما حذفها
تخفيفاً مع ما فيه الألف واللام .
وقال ابن جنّي : حذفوا النون تشبيهاً لهذه الأسماء المتمكّنة غير الموصولة
بالأسماء الموصولة لأنّها في معنى الموصولة .
قال أبو عليّ : والأكثر الجرّ وقرأ بضعهم : والمقيمي الصّلاة بنصب الصّلاة وحكى
أبو الحسن عن أبي السماك : واعلموا أنكم غير معجزي الله وليست فيه ألف لام حتّى
يشبّه بالذين .
وقرأ بعضهم أيضاً : إنّكم لذائقوا العذاب الأليم بالنصب . وقرأ عمارة بن عقيل :
ولا اللّيل سابق النّهار بنصب النهار . والأشبه في هذا أن يكون حذف التنوين
لالتقاء الساكنين .
وروي : الحافظو عورة العشيرة بجرّ العورة على أنّ الحافظو مضاف فيكون سقوط النون
للإضافة . وقوله : الحافظو صوابه والحافظو بالواو
____________________
فإنّه معطوف على خبر مبتدأ
في بيت قبله كما سيأتي . وبه يسقط قول ابن خلف : الحافظو مرفوع بالابتداء أو على
الخبر وهو مدح كأنّه قال : هم الحافطون عورة العشيرة فحذف المبتدأ أو الحافظو عورة
العشيرة هم فحذف الخبر .
هذا كلامه ولا ينبغي أن يكتب قبل أني يقف على السّياق والسّباق . ثم بعد فصل أنّ
المبتدأ )
يحذف في خمسة مواضع والخبر يحذف في اثني عشر موضعاً ثم أخذ في بيان أل الموصولة
وأل و العورة : المكان الذي يخاف منه العدوّ . وقال ثعلب : كلّ مخوف عورة . وقال
كراع : عورة الرجل في الحرب ظهره . و العشيرة : القبيلة ولا واحد لها من لفظها
والجمع عشيرات وعشائر .
كذا في المصباح .
ولا يناسبه قول العينيّ هنا : وعشيرة الرّجل : الذين يعاشرونه . و النّطف بفتح
النون والطاء المهملة قال صاحب العباب : قال الفرّاء : النطف العيب وقال الليث :
النطف : التلطّخ بالعيب .
وروي بدله الوكف بفتح لواو والكاف أيضاً قال صاحب العباب : هو العيب والإثم . انشد
هذا البيت .
وهذا المعنى الثاني أورده أبو عبيد في الغريب المصنف قال : وكف وكفاً من باب فرح .
وقد ردّه عليه أبو القاسم عليّ بن حمزة البصريّ في كتاب التنبيهات على أغلاط
الرّواة بأنّ الوكف إنّما هو العيب . وانشد هذا البيت .
وكذلك قال ابن قتيبة في أدب الكاتب وأنشد هذا البيت .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل وأبيات أدب الكاتب وتبعه ابن هشام اللّخميّ في
شرح أبيات الجمل : المعنى نحن نحفظ عورة عشيرتنا فلا يأتيهم من ورائنا شيء يعابون
به : من تضييع ثغرهم وقلة رعايته . هذا على رواية : من ورائنا .
ومن روى : من ورائهم أخرج الضمير مخرج الغيبة على لفظ الألف واللام لأنّ معنى الحافظو
عورة : نحن الذين يحفظون كما تقول أنا الذي قام
____________________
فتخرج الضمير مخرج الغيبة
وإن كنت تعني نفسك لأن معناه أنا الرجل الذي قام . وقد يقولون أنا الذي قمت . فعلى
هذا رواية من روى : من ورائنا . انتهى .
وقال ابن خلف : قوله : من ورائنا أي : من غيبنا فكنى بوراء عن ذلك فامتدح بحفظهم
عورة قومهم بظهر الغيب وأمنهم من ناحيتهم كلّ نقض وعيب . ويجوز أن يعني من وراء
حفظنا إياهم وذّبنا عن حماهم فحذف المضاف الذي هو حفظ واقام المضاف إليه مقامه .
ومن روى : من ورائهم فالمعنى فيه أوضح وحمل الضمير على العشيرة أرجح .
وهذا البيت من قصيدة لعمرو بن امرئ القيس الخزرجيّ وهي هذه : ( يا مال والسيّد
المعمّم قد ** يطرأ في بعض رأيه السّرف ) ) ( خالفت في الرأي كلّ ذي فخر ** والحقّ
يا مال غير ما تصف ) ( يا مال والحقّ قد قنعت به ** فالحقّ فيه لأمرنا نصف ) ( لا
ترفع العبد فوق سنته ** والحقّ نوفي به ونعترف ) ( إنّ بجيراً مولّى لقومكم ** يا
مال والحقّ عنده فقفوا ) ( نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راضٍ والرّأي مختلف )
____________________
( نحن المكيثون حيث نحمد
بال ** مكث ونحن المصالت الأنف ) ( والحافظو عورة العشيرة لا ** يأتيهم من ورائنا
وكف ) ( والله لا تزده كتيبتنا ** أسد عرينٍ مقيدها الغرف ) ( إذا مشينا في
الفارسين كما ** تمشي جمالٌ مصاعبٌ قطف ) ( نمشي إلى الموت من حفائظنا ** مشياً
ذريعاً وحكمنا نصف ) ( إن سميراً أبت عشيرته ** أن يعرفوا فوق ما به نصف ) ( أو
تصدر الخيل وهي جافلةٌ ** تحت هواها جماجمٌ خفف ) ( أو تجرعوا الغيظ ما بدا لكم **
فهارشوا الحرب حين تنصرف ) ( إنّي لأنمى إذا انتميت إلى ** عزٍّ منيع وقومنا شرف )
( بيضٌ جعادٌ كأنّ أعينهم ** يكحلها في الملاحم السّدف ) قوله : يا مال هو منادى
مرخّم مالك بن العجلان . والعمامة عند العرب لا يلبسها إلا الأشراف والعمائم تيجان
العرب . وطرأ الشيء يطرأ طرآنا مهموز أي : حصل بغتة . و السّرف بفتحتين : اسم
الإسراف وهو مصدر أسرف إسرافاً إذا جاوز القصد . و الفخر بفتحتين : : لغة في الفخر
بسكون الخاء وهو الافتخار وعدّ القديم . و النّصف : العدل والاستقامة . و السّنّة
: الطريقة . و بجير بضم الموحدة وفتح الجيم . و تكف : مضارع ركف وكفاً من باب فرح
: إذا جار عدل عن الحقّ .
وقوله : نحن بما عندنا الخ هذا من وشاهد النحاة والمعانيّين حذف فيه خبر نحن أي :
رضوان بدلالة خبر المبتدأ الثاني وهو أنت راض بما عندك .
وقوله : نحن المكيثون جمع مكيث فعيل من المكث وهو الانتظار واللّبث أراد به هنا
الصبّر والرّزانة يقال : رجلٌ مكيث أي : رزين . و المكث بالفتح المصدر وبالضم
والكسر الاسم . )
____________________
وقوله : والحافظو عورة الخ . هو معظوف على المصالت أي : نحن نحفظ عشيرتنا من أن
يصيبهم ما يعانون به .
وقوله : لا تزدهي كتيبتنا الخ تزدهي : تستخفّ . والكتيبة من الجيوش : ما جمع فلم
ينتشر .
وهو مفعول والفاعل أسدّ . و العرين بفتح العين وكسر الراء المهعملتين : الغابة
والأجمة وهي مسكن الأسد .
وأضاف الأسد إليها لأنّها أشدّ ما تكون وهي في الغابة ولا يقدر أحد أن يهجم عليها
. و الغرف بضمتين : جمع غريف بالغين المعجمة وهي الغابة والأجمة أيضاً .
وقوله : إذا مشينا في الفارسين أي : بينهم . و المصاعب بفتح الميم : جمع مصعب
بضمها وفتح ثالثه هو الفحل الشديد يقال : أصعبت الجيل فهو مصعب إذا تركته فلم
تركبه . و قطف بضمتين : جمع قطوف بفتح القاف : البطيء يقال : قطفت الدايّة من باب
قتل إذا مشت مع تقارب الخطو .
وقوله : من حفائظنا : جمع حفيظة وهي الحميّة والغضب . و الذّريع بالذال المعجمة :
السريع .
وقوله : أو تصدر الخيل الخ أو هنا بمعنى إلى . و خفف بضمتين : جمع خفيف . و الهراش
: مصدر هارش وهو التحريش وتحريك الفتنة .
وقوله : إنّي لأنمى إذا انتميت الأوّل بالبناء للمجهول يقال : نميت الرجل إلى أبيه
نميّاً : إذا نسبته إليه وانتهى هو : انتسب . و شرف بضمتين أي : أشراف .
وقوله : بيض جعاد الخ البيض قال ابن السيد في شرح سقط الزّند : العرب تمدح السادة
بالبياض من اللون وإنّما يريدون النقاء من العيوب وربّما أرادوا به طلاقة الوجه
لأنّ العرب
____________________
و الجعاد : جمع جعد بفتح
الجيم ويكون العين المهملة وهو الكريم من الرجال . و الملاحم : جمع ملحمة بالفتح :
القتال . و السّدف بفتح السين والدال هي الظلّمة في لغة نجد والضوء في لغة غيرهم
يقول : سواد أعينهم في الملاحم باقٍ لأنّهم أنجادٌ لا تبرق أعينهم من الفزع فيغيب
سوادها . )
وكان السبب في القصيدة : أنّه كان لمالك بن العجلان مولى يقال له بجير جلس مع نفر
من الأوس من بني عمرو بن عوف فتفاخروا فذكر بجيرٌ مالك بن العجلان ففضّله على قومه
وكان سيّد الحيّين في زمانه : الأوس والخزرج فغضب جماعةٌ من كلام بجير وعدا عليه
رجلٌ من الأوس يقال له سمير من زيد بن مالك أحد بني عمرو بن عوف فقتله فبعث مالك
إلى بني عمرو بن عوف : أن ابعثوا إليّ بسمير حتى أقتله بمولاي وإلاّ جرّ ذلك الحرب
بيننا .
فبعثوا إليه : إنّا نعطيك الرضا فخذ منا عقله . فقال : لا آخذ إلاّ دية الصّريح
وهي عشرٌ من الإبل : ضعف دية المولى وهي خمس فقالوا : إنّ هذا منك استذلالٌ لنا
وبغيٌ علينا فأبى مالكٌ إلاّ أخذ دية الصّريح فوقعت الحرب بينهم فاقتتلوا قتالاً
شديداً حتى نال بعض القوم من بعض .
ثم إنّ رجلاً من الأوس نادى : يا مالك نشدتك الله والرّحم أن تجعل بيننا حكماً من
قومك فارعوى مالكٌ وحكّموا عمرو بن امرئ القيس صاحب القصيدة التي ذكرناها فقضى
لمالك بن العجلان بدية المولى فأبى مالك وآذن بالحرب فخذلته بنو الحارث لردّة قضاء
عمرو .
وأنشد يقول : المنسرج ( إنّ سميراً أرى عشيرته ** قد حدبوا دونه وقد أنفوا )
____________________
( إن يكن الظّنّ صادقي
ببني النّ ** جّار لا يطعموا الذي علفوا ) ( لا يسلمونا لمعشر أبداً ** ما دام
منّا ببطنها شرف ) ( لكن مواليّ قد بدا لهم ** رأيٌ سوى ما لديّ أو ضعفوا ) ( بين
بني جحجبى وبين بني ** زيدٍ فأنّى لجاريّ التّلف ) ( يمشون بالبيض والدّروع كما **
تمشي جمالٌ مصاعبٌ قطف ) ( كما تمشّى الأسود في رهج ال ** موت إليه وكلّهم لهف )
وقال بعده عمرو بن امرئ القيس قصيدته التي شرحناها .
وقال درهم بن زيد أخو سمير : المنسرح ( يا قوم لا تقتلوا سميراً فإنّ ** القتل فيه
البوار والأسف ) ( لا تقتلوه ترنّ نسوتكم ** على كريمٍ ويفزع السّلف ) ( يا مال
والحقّ إن قنعت به ** فينا وفيّ لأمرنا نصف ) ) ( إنّ بجيراً عبدٌ فخذ ثمناً **
والحقّ نوفي به ونعترف ) ( ثمّ اعلمن إن أردت ظلم بني ** زيدٍ فإنّا ومن له الحلف
) ( لنصبحن داركم بذي لجبٍ ** يكون له من أمانه عزف ) ( البيض حصنٌ لهم إذا فزعوا
** وسابغاتٌ كأنّها النّطف )
____________________
( والبيض قد فللت مضاربها
** بها نفوس الكماة تختطف ) ( كأنها في الأكف إذ لمعت ** وميض برقٍ وينكشف ) وقال
قيس بن الخطيم من قصيدةٍ يجيبه ولم يحضر الوقعة ولا كان في عصرها : المنسرح ( أبلغ
بني جحجبى وقومهم ** خطمة أنّا وراءهم أنف ) ( وأنّنا دون ما يسومهم ال ** أعداء
من ضيم خطةٍ نكف ) ( نفلي بحدّ الصّفيح هامهم ** وفلينا هامهم بها عنف ) وبعد هذا
ستة أبيات : فردّ عليه حسان بن ثابت شاعر النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم وهذا من
تلك القصيدة : المنسرح ( دع ذا وعدّ القريض في نفرٍ ** يرجون مدحي ومدحي الشّرف )
( إن سميراً عبدٌ طغى سفهاً ** ساعده أعبدٌ لهم نطف ) ثم إنّهم تهيؤوا للحرب
وتقاتلوا قتالاً شديداً ومشت الحرب بين الأوس والخزرج عشرين سنة في أمر سمير .
فلما طالت الحرب وكادت العرب يأكل بعضها بعضاً أرسلوا إلى مالكٍ أن يحكموا بينهم
ثابت بن المنذر أبا حسّان فأجابهم إلى ذلك فاتوه وقالوا : قد حكّمناك بيننا . قال
: لا حاجة لي في ذلك . قالوا : ولم قال : أخاف أن تردّوا حكمي كما رددتم حكم عمرو
بن امرئ القيس .
____________________
فأعطوه عهودهم : أن لا يردّون ما حكم به فحكم أن يودى حليف مالك دية الصّريح ثم
تكون السّنّة فيهم على ما كانت به : الصّريح على ديته والحليف على ديته وأن يعدّوا
القتلى التي أصابت بعضهم من بعض فيقابل البعض بالبعض ثم تعطى الدية لمن كان له
فضلٌ في القتلى من الفريقين . فرضوا بذلك ففضلت الأوس على الخزرج بثلاثة نفر
فودتهم الأوس واصطلحوا . .
وقيل : الخمسة المكملة لدية الصّريح أعطاها ثابتٌ من عنده حين أبت عليه الأوس أن
تؤدي أكثر من خمس وأبى مالك أن يقبل أقلّ من عشر إطفاءً لنائرتهم ولمّا لشعثهم . )
وقول مالك : بين بني جحجبى الخ بحاء ساكنة بين جيمين مفتوحتين : حيّ من الأوس
وكذلك بنو بدر . والاستفهام للإنكار .
وقول قيس بن الخطيم : أبلغ بني جحجبى وقومهم إلى آخره خطمة بفتح الخاء المعجمة
وسكون الطاء وبعدها ميم هو عبد الله بن جشم بن مالك بن الأوس قيل له لأنّه ضرب
رجلاً بسيفه على خطمه أي : أنفه فسميّ خطمة .
وجحجبى وخطمة : حيّان لقبيلة قيس بن الخطيم لأنّه أوسيّ . و السّوم : التكليف . و
الخطّة بالضم : الشأن والأمر العظيم . و نكف بضمتين : جمع ناكف من نكفت من كذا أي
: استنكفه وأنفت منه .
وعرف من إيرادنا لهذه القصائد ما وقع من التخليط بين هذه القصائد كما فعل ابن
السيّد واللّخميّ في شرح أبيات الجمل وتبعهما العينيّ والعبّاسيّ في شرح أبيات
التلخيص .
فإنهم جعلوا ما نقلنا من شعر قيس بن الخطيم مطلع القصيدة ثم أوردوا فيها البيت
الشاهد وهو : الحافظو عورة العشيرة والشاهد الثاني وهو : نحن بما عندنا وأنت بما
عندك راضٍ والحال أنّ هذين البيتين من قصيدة عمرو بن امرئ القيس .
____________________
ثم اختلف الناس في نسبة البيت الشاهد أعني : الحافظو عورة العشيرة فنسبه
التّبريزيّ في شرح إصلاح المنطق والجواليقيّ في شرح أدب الكاتب وابن برّيّ في
حواشي صحاح الجوهريّ إلى عمرو من امرئ القيس كما نسبناه نحن .
ونسبه ابن السيرافيّ في شرح أبيات الإصلاح لشريح بن عمروان من بني قريظة قال : ويقال
: إنّه لمالك بن العجلان الخزرجيّ . ونسبه ابن السيد في شرح أبيات الجمل وفي شرح
أبيادت أدب الكاتب وابن هشام اللّخميّ في شرح أبيات الجمل وعلي بن حمزة في أغلاط
الرّواة والعباسيّ في شرح أبيات التلخيص لقيس بن الخطيم .
والعجب من العينيّ أنه نقل عن اللّخميّ أنّه لعمرو بن امرئ القيس . والله أعلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والتسعون بعد المائتين ) وهو من شواهد س : الوافر
( أنا ابن التّارك البكري بشراً ) هذا صدر وعجزه : عليه الطّير ترقبه وقوعا على
أنّه عند المبرد لا يتبع مجرور ذي اللام إلاّ ما يمكن وقوعه موقع متبوعه : فبشر
____________________
عنده منصوب لا غير للحمل
على محلّ البكريّ .
أنشده سيبويه بجرّ بشر على أنّه بدل أو عطف بيان للفظ البكريّ وإن لم يكن في بشر
الألف واللام . وجاز ذلك عنده لبعده عن الاسم المضاف ولأنّه تابع والتابع يجوز فيه
ما لا يجوز في المتبوع .
وغّلطه المبّرد وقال : الرواية بنصب بشر . واحتج بأنّه إنّما جاز أنا ابن التارك
البكريّ تشبيهاً بالضارب الرجل فلما جئت ببشر وجعلته بدلاً صار مثل أنا الضارب
زيداً الذي لا يجوز فيه قال الزّجّاج : الذي ذهب إليه سيبويه أن بشراً عطف البيان
الذي يقوم مقام الصفة يجوز فيها ما لا يجوز في الموصوف : تقول يا زيد الظريف ولا
يجوز يا الظريف وكذا أقول الضارب الرجل زيدٍ ولا أقول الضارب زيد .
قال النحاس : وقد قال المبّرد في الكتاب الذي سمّاه الشرح : القول في ذلك أن قوله
: أنا ابن التارك البكريّ بشرٍ عطف بيان ولا يكون بدلاً لأنّ عطف البيان يجري مجرى
النعت سواء ألاّ ترى بيان في باب النداء تقول : يا هذا زيدٌ وإن شئت زيداً على عطف
البيان فيهما . وإن أردت البدل قلت زيد . فهذا واضح جداً لأنّك أزلت هذا وجعلت
زيداً مكانه منادى .
انتهى . وهذا من المبرد رجوع إلى رواية سيبويه وإن كان خالفه في شيء آخر .
وقد أورده شرّاح ألفيّة ابن مالك بجرّ بشر على أنّه عطف بيان للبكريّ لا بدل لأنه
في حكم تنحية المبدل منه وحلوله محلّه . و التارك إن كان من التّرك الذي بمعنى
الجعل والتصيير فهو متعدّ لمفعولين : الأول قد وقع مضافاً إليه والثاني هو جملة
عليه الطّير من المبتدأ والخبر . وإن كان من الترك الذي بمعنى التخلية فهو متعدّ
لمفعول واحد وهو المضاف إليه فيكون الظرف أعني عليه حالاً من البكري )
والطير فاعل الظرف أو الطير مبتدأ وعليه الخبر والجملة حال منه وجملة ترقبه حال من
وأعربه الشارح في عطف البيان فقال : عليه الطير ثاني مفعولي التارك إن جعلناه
بمعنى المصيّر وإلاّ فهو حال .
____________________
وقوله : ترقبه حال من الطّير إن كان فاعلاً لعليه وإن كان مبتدأ فهو حال من الضمير
المستكن في عليه . انتهى .
ومعنى ترقبه أي : تنتظر انزهاق روحه لأنّ الطّير لا يقع على القتيل وبه رمق ففيه
حذف مضاف .
وقوله : وقوعاً فيه أعاريب : أجودها أنه مفعول له أي : تنتظر ازهاق روحه للوقوع
عليه .
وقال الأعلم وتبعه ابن خلف إنه حال من الضمير في ترقبه . ولو رفع على الخبر لجاز .
وقوعٌ عنده جمع واقع وهو ضدّ الطّائر . وهذه الحاليّة لا تصحّ من جهة المعنى لأنهّ
لا معنى للانتظار بعد الوقوع على الميت . ولو جعله حالاً من الطّير كما قاله بعضهم
لكان صحيحاً وكان حينئذ فيه بيانٌ لقوله عليه الطير .
وقال ابن يعيش : وقوعاً جمع واقع وهو إما من الضمير المستكنّ في عليه وإما من
المضمر المرفوع في ترقبه .
وقال ابن المستوفي في شرح أبيات المفصل : ويجوز أن يكون مصدراً في موضع الحال .
ولم يعيّن صاحب الحال . وقال بعض فضلاء العجم في إعراب أبيات المفصل : ولا يبعد أن
يجعل وقوعاً مصدراً ويكون منصوباً على البدل من الضمير الراجع إلى بشر في ترقبه
لأنّه في معنى وقوعاً عليه فيتخصص نوع اختصاص ويكون من باب بدل الاشتمال . هذا
كلامه وهو جيّد إلاّ أنّ فيه حذف الضمير .
وقال العينيّ : قوله : الطير مبتدأ والجملة أعني قوله ترقبه خبره وقد وقعت حالاً
عن البكريّ وقوله : عليه يتعلق بقوله وقوعاً . ولا يخفى ما في تعبيره من الاختلال
وكأنّه لم يبلغه منع تقدّم معمول المصدر مع هذا الفضل الكثير .
وهذا البيت للمرّار بن سعيد الفقعسيّ . وبعده : ( علاه بضربةٍ بعثت بليلٍ **
نوائحه وأرخصت البضوعا ) ( وقاد الخيل عائدةً لكلبٍ ** ترى لوجيفها رهجاً سريعاً )
____________________
) ( عجيب لقائين صهٍ لقومٍ
** علاهم يفرع الشّرف الرّفيعا ) بعثت أي : نبهت من النوم يقال : بعثه أي : أهبّه
أي : أيقظه . و النوائح : جمع نائحة من ناحت المرأة على الميت نوحاً إذا بكت عليه
مع صراخ . و البضوع إمّا جمع بضعة بفتح الموحدة وسكون الضاد المعجمة وهي القطعة من
اللحم وإمّا جمع بضع بضمّ فسكون يطلق وروي بدله : البضيعا بفتح فكسر وهي اللحم . و
الوجيف بالجيم : مصدر وجف الفرس إذا عدا وأوجفته إذا أعديته وهو العنق في السير
بفتحتين . و الرّهج : الغبار . و صهٍ أي : اسكت سكوتاً ما . و يفرع بالفاء والعين
المهملة بمعنى يعلو يقال : فرعت الجبل إذا صعدته .
قال ابن السيرافيّ في شرح شواهد س : بشر في قوله : أنا ابن التارك البكريّ بشر هو
بشر بن عمرو بن مرثد وقتله رجلٌ من بني أسد ففخر المرّار بقتله . وبشر هو من بني
بكر بن وائل .
وأرخصت البضوعا أي : أرخصت الضربة اللحم على الطير . و البضوع : جمع بضعة ويروى
البضيعا وهو اللحم .
وزعم بعض الرواة أنه يريد بالبضوع بضوع نسائه أي : نكاحهنّ يقول : لما قتلوه سبوا
نساءة فنكحوهنّ بلا مهر . والبضوع : النكاح . والتفسير الأوّل أعجب إليّ .
قال أبو محمد الأعرابيّ الأسود في فرحة الأديب وقد تقدّمت ترجمته في أوّل الكتاب :
ما أكثر ما يرجّح ابن السيرافيّ الرديء على الجيّد والزائف على الجائز وذلك أنه
مال إلى القول بأن البضوع هنا اللحم ولعمري أنّها لو كانت لحوم المعزى والإبل لجاز
أن يقع عليها الرّخص والغلاء وهذه غباوة تامة .
والصواب لّما قتلوه عرضوا نساءه للسّباء لأنه لم يبق لهنّ من يحميهنّ ويذود عنهنّ
. ثم إنّه لم يذكر قاتل بشر من أيّ قبائل بني أسد كان وإذا لم يعرف حقيقة هذا ولم
يدر لأيّ شيء افتخر المرّار بذلك .
____________________
وقاتله سبع بن الحسحاس الفقعسيّ ورئيس الجيش بني أسد ذلك اليوم خالد بن نصلة الفقعسيّ
وهذا جدّ المرّار بن سعيد بن حبيب بن خالد بن نضلة . انتهى ومن العجائب قول
العينيّ : أراد ببشر بن عمرو وكان قد جرح ولم يعلم جارحه يقول : أنا ابن الذي ترك
بشراً بحيث تنتظر الطيور أن تقع عليه إذا مات هذا كلامه .
وليت شعري كيف يفتخر الشاعر بقتيل جهل قاتله فإن قلت : فعلى قول الأسود الأعرابيّ
)
قاتله سبع بن الحسحاس كيف افتخر المرّار به مع أنه ليس بأب من آبائه ولا مّمن
ينتسب إليه قلت : افتخاره بجده خالد بن نضلة فإنه كان أمير الجيش وسبعٌ المذكور
كان من أفراد عسكره ومأموراً له والفعل لسبع والاسم لخالد .
قال أبو محمد الأعرابيّ : وكان من حديث هذا اليوم وهو يوم قلاب : أنّ حيّا من بني
الحارث بن ثعلبة بن دودان غزوا وعليهم خالدٌ جدّ المرّار المذكور فاعترض بشر بن
عمرو لآثارهم فلما وصل إليهم قال : عليكم القوم . قال ابنه : إنّ في بني الحارث بن
ثعلبة بني فقعس وإن تلقهم تلق القتال . فقال : اسكت فإنّ وجهك شبيه بوجه أمّك عند
البناء فلمّا التقوا هزم جيش بشر فاتّبعه الخيل حتّى توالى في إثره ثلاثة فوارس
فكان أوّلهم سبع بن الحسحاس وأوسطهم عميلة بن المقتبس الوالبيّ وآخرهم خالد بن
نضلة فأدركت نبل الوالبيّ الأوسط فرس بشر ابن عمرو برميّة عقرته ولحقه سبعٌ
فاعتنقه وجاء خالد وقال : يا سبع لا تقتله فإنّا لا نطلبه بدم وعنده مال كثير وهو
سيد من هو منه . وأتتهم الخيل فكلّما مرّ به رجلٌ أمره بقتله فيزجر عنه خالد .
ثمّ إنّ رجلاً همّ أن يوجّه إليه السّنان فنشر خالدٌ على ركبتيه وقال : اجتنب
أسيري فغضب سبع أن يدّعيه خالد فدفع سبعٌ ف ينحر بشر فوقع مستلقياً فأخذ
____________________
برجلة ثم أتبع السيف فرج
الدّرع حتّى خاض به كبده فقال بشر : أجيروا سراويلي فإنّي لم أستعن . وعمد إلى
فرسه فاقتاده . انتهى . و المرّار بفتح الميم وتشديد الراء المهملة الأولى ينسب
تارة إلى فقعس وهو أحد آبائه الأقربين وتارة إلى أسد بن خزيمة بن مدركة بن إلياس
بن مضر وهو جدّه الأعلى .
وهذه نسبته من المؤتلف والمختلف للآمذي : المرّار بن سعيد بن حبيب ابن خالد بن
نضلة بن الأشتر بن جحوان بتقديم الجيم المفتوحة على الحاء المهملة الساكنة بن قفعس
بن طريف الشاعر المشهور .
والمرّار بن سعيد من شعراء الدولة الأموية وقد أدرك الدولة العبّاسيّة .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان المرّار بن سعيد الأسديّ يهاجي المساور بن
هند وكان قصيراً مفرط القصر ضئيلاً . تتمة )
هذا المعنى أعني تتبّع الطّير للجيش الغازي للأعداء حتّى تتناول من القتلى متداولٌ
بين الشعراء قديماً وحديثاً وأوّل من جاء به الأفواه الأوديّ في قوله : الرمل (
وترى الطّير على آثارنا ** رأي عينٍ ثقةً أن ستمار ) أي : تأخذ الميرة من لحوم
القتلى . وأخذه النّابغة الذّيبانيّ فقال : الطويل
____________________
( إذا ما غزا بالجيش حلّق
فوقهم ** عصائب طيرٍ تهتدي بعصائب ) ( جوانح قد أيقنّ أنّ قبيله ** إذا ما التقى
الجيشان أوّل غالب ) ( لهنّ عليهم عادةٌ قد عرفنها ** إذا عرض الخطيّ فوق الكواثب
) والكاثبة من الفرس : حيث تقع يد الفارس . وأخذهالحطيئة فقال : الطويل ( ترى
عافيات الطّير قد وثقت لها ** بشبعٍ من السّخل العتاق منازله ) وأخذه مسلم بن
الوليد فقال : البسيط ثم تبعه أبو نواس وإن كان في عصره : ( تتأيّا الطّير غدوته
** ثقة بالشّبع من جزره ) ثم أخذه أبو تمام فقال : طالطويل ( وقد ظلّلت عقبان راياته
ضحىً ** بعقبان طيرٍ في الدّماء نواهل ) ( أقامت مع الرّايات حتّى كأنّها ** من
الجيش إلاّ أنّها لم تقاتل ) وكلّهم قصرّ عن النابغة لأنّه زاد في المعنى فأحسن
التركيب ودلّ على أنّ
____________________
الطير إنّما أكلت أعداء
الممدوح وكلامهم محتمل وإنّ كان أبو تمام قد زاد في المعنى . على أنّ الطّير إذا
شبعت ما تسأل : أيّ القبيلتين الغالب وقد أحسن المتنبيّ في قوله : الطويل ( له
عسكرا خيلٍ وطيرٍِإذا رمى ** بها عسكراً لم تبق إلاّ جماحمه ) وقال أبو عامر :
الطويل ( وتدري كماة الطّير أنّ كماته ** إذا لقيت صيد الكماة سباع ) ( وتطير
جياعاً فوقه وتردّها ** ظباه إلى الأوكار وهي شباع ) وقد أخذ هذا المعنى مروان بن
أبي الجنوب فقال يمدح المعتصم : البسيط ( عوارفاً أنّه في كلّ معتركٍ ** لا يغمد
السّيف حتّى يكثر الجزرا ) )
فأخذه بكر بن النّطاح فقال : مجزوء الكامل ( وترى السّباع من الجوا ** رح فوق
عسكرنا جوانح ) ( ثقةً بأنا لا نزا ** نمير ساغبها الدّبائح ) وأخذه ابن جهور فقال
: البسيط ( ترى جوارح طير الجوّ فوقهم ** بين الأسنّة والرّايات تختفق ) وأخذه آخر
فقال : الطويل ولست ترى الطّير الحوائم وقّعا من الأرض إلاّ حيث كان مواقعا ومنه
قول الكميت بن معروف : الوافر
____________________
( وقد سترت أسنّته المواضي
** حديّا الجوّ والرّخم السّغاب ) ومنه قول ابن قيس الرّقيّات : البسيط ( والطير
إن سار سارت فوق موكبه ** عوارفاً أنّه يسطو فيقريها ) وأخذه عبّاس الخياط فقال :
السريع ( يا مطعم الطّير لحوم العدا ** فكلّها تثني على بأسه ) إذا حوّمت فوق
الرّماح نسوره أطار إليها الضّرب ما تنرقّب وأبدع من هذا كلّه قول المتنبيّ :
البسيط ( يطمع الطّير فيهم طول أكلهم ** حتّى تكاد على أحيائهم تقع ) وقد جاء امرؤ
القيس بهذا المعنى بوجه آخر فقال : الطويل ( إذا ما ركبنا قال ولدان أهلنا **
تعالوا إلى أن يأتنا الصّيد نحطب ) يقول : قد وثقوا بصيد هذا الفرس فهم يهيؤون
لمجيء صيده الحطب .
وأخذه حميد بن ثور الهلاليّ الصّحابيّ فقال في صفة الذّئب : الطويل ( ينام بإحدى
مقلتيه ويتّقي ** بأخرى المنايا فهو يقظان هاجع ) ( إذا ما إذا يوماً رأيت غيابةً
** من الطّير ينظرن الذي هو صانع )
____________________
زأخذه ابن المعتز بلفظ
امرئ القيس فقال : الرجز قد وثق القوم له بما طلب فهو إذا جلّى لصيدٍ واضطرب عرّوا
سكاكينهم من القرب )
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الموفى ثلاثمائة ) وهو من شواهد سيبويه : الطويل ( أقامت
على ربعيهما جارتا صفاً ** كميتا الأعالي حونتا مصطلاهما ) على أنّ الصفة المشبهة
قد تضاف إلى ظاهرٍ مضاف إلى ضمير صاحبها .
ينبغي أن تشرح أولاً ألفاظه اللغويّة حتى يظهر ما ينبني عليه من المسألة النحوية
فنقول : هذا البيت للشمّاخ بن ضرار وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والتسعين
بعد المائة وقيل هذا بيت .
وهو مطلع القصيدة : ( أمن دمنتين عرّس الرّكب فيهما ** بحقل الرّخامى قد أنى
لبلاهما ) وقد أوردهما معاً سيبويه في كتابه وبعدهما : ( وإرث رمادٍ كالحمامة
مائلٍ ** ونؤيان في مظلومتين كداهما ) ( أقاما لليلى والرّباب وزالتا ** بذات
السّلام قد عفا طللاهما )
____________________
قوله : امن دمنتين الجار
متعلّق بمحذوف تقديره أتحزن أو أتجرع من دمنتين رأيتهما فتذكرت من كان يحلّ بهما .
والاستفهام تقريريّ والخطاب لنفسه . ذكر في هذه الأبيات أنه رأى منازل حبائبه وأنه
لم يبق فيها غير الأثافي والرماد والنؤي . و الدّمنة بالكسر : الموضع الذي أثّر
فيه الناس بنزولهم وغقامتهم فيه . و التعريس : نزول المسافرين في آخر الليل قليلاً
للاستراحة ثم يرتحلون .
وروي بدله : عرّج الرّكب والتعريج : أن يعطفوا رواحلهم في الموضع ويقفوا فيه . و
الرّكب : ركاب الإبل جمع راكب . و الحقل بفتح المهملة وسكون القاف : القراح الصّلب
وهي المزرعة التي ليس عليها بناء ولا شجر . و الرّخامى بضم الراء بعدها خاء معجمة
وآخره ألف مقصورة وهو شجر مثل الضال وهو السّدر البرّيّ . وبحقل الرّخامى حال من
الضمير في فيهما . و أنى بالنون فعل ماض بمعنى حان . و البلى بكسر الموحدة :
الفناء والذّهاب بالمرّة واللام زائدة أي : قد حان بلاهما .
وقد روى كثيرٌ بدلهما : قد عفا طللاهما وهذا غير صواب لأنه يتكررّ مع ما بعده : )
وقوله : أقامت على ربعيهما الخ أي : بعد ارتحال أهلهما . و الرّبع : الدار والمنزل
. وضمير المثنّى للدمنتين خلافاً للسيد المرتضى في أماليه فإنّه قال : يعني
بربعيهما منزلي الأمرأتين اللتين ذكرهما مع أنه لم يقدّم ذكرهما بل أخرهما كما
رأيت . و جارتا : فاعل أقامت وهو مضاف . و الصّفا بفتح الصاد المهملة والفاء :
الصخر الأملس واحدة صفاة وهو مضاف إليه .
قال السيّد المرتضى في أماليه : ويعني بجارتا صفاً الأثفيّتين لأنّهما مقطوعتان من
الصّفا الذي هو الصخر .
ويمكن في قوله : جارتا صفا وجهٌ آخر هو أحسن من هذا وهو أنّ الأثقيّتين توضعان
قريباً قريباً من الجبل لتكون حجارة الجبل ثالثة لهما وممسكةً للقدر معهما
____________________
ولهذا تقول العرب : رماه
بثالثة الأثافي أي : بالصخرة أو الجبل انتهى .
وعلى هذا الأخير اقتصر ابن السيرافيّ في شرح أبيات سيبويه وتبعه الجماعة قال :
الصّفا هو الجبل في هذا الموضع وجارتاه : صخرتان تجعلان تحت القدر وهما الأثفيّتان
اللتان تقربان من الجبل فيقوم الجبل مقام صخرة ثالثة تكون تحت القدر ومقتضى المعنى
أنّ في كلّ من الرّبعين جارتا صفا لا أنّ في مجموع الربعين جارتا صفا .
وقوله : كميتا الأعالي . . الخ هو صفة جارتا صفا وهو تركيب إضافيّ مثله وهو مثنّى
كميت بالتصغير من الكمتة وهي الحمرة الشديدة المائلة إلأى السواد . واراد بالأعالي
أعالي الجارتين قال الأعلم : يعني أنّ الأعالي من الأثفيّتين لم تسود لبعدها عن
مباشرة النار فهي على لون الجبل .
وكذلك قال السيد المرتضى : شبّه أعلاهما بلون الكميت وهو لون الحجر نفسه لأن
النّار لم تصل إليه فتسوّده .
وقال ابن السيرافيّ وتبعه من بعده : يريد أنّ أعالي الأثافي ظهر فيها لون الكمتة
من ارتفاع النّار إليها . وقوله : جونتا مصطلاهما نعتٌ ثان لقوله : جارتا صفا وهو
تركيب إضافيّ أيضاً وليس بمرادٍ هنا .
ومن الغريب قول النحّاس : إنّ الجون هنا هو الأبيض . و المصطلى : اسم مكان الصّلاء
أي : الاحتراق بالنّار فيكون المصطلى موضع إحراق النار . )
يريد أن أسافل الأثافي قد اسودّت من إيقاد النّار بينها . والضمير المثنّى في
مصطلاهما عند سيبويه لقوله جارتا صفا وعند المبّرد للأعالي كما يأتي بيانهما .
وزعم بعض فضلاء العجم في شواهد المفصّل أنّ الكمتة هنا السّواد . وهذا غير صواب .
____________________
وقوله : وإرث رماد الخ هو معطوف على فاعل أقامت . وإرث كلّ شيء : أصله وهو بالكسر
وآخره ثاء مثلثة . والحمامة هنا : القطاة . شبّه لون الرّماد بريش القطاة . و ماثل
: قال شارح الديوان : والمظلومة : الأرض الغليظة التي يحفر فيها في غير موضع حفر .
و الكدية بالضم : الأرض الغليظة التي ظلمت كداها أي : حفر فيها في غير موضع حفر .
وقوله : أقاما لليلى الخ قال شارح الديوان : أي : هذان الطللان أقاما بعد أهلهما .
أشار إلى أنّ اللام في لليلى بمعنى بعد . و ذات السلام : موضع . و عفا : تغيّر . و
الطّلل قال الأعلم : هو ما شخص من علامات الدار وأشرف كالأثفية والوتد ونحوهما وإن
لم يكن له شخص كأئر الرماد وملاعب الغلمان فهو رسم .
وقوله : كأنّها عزالي الخ هو جمع عزلاء بفتح مهملةٍ وسكون معجمة وهي فم القربة
ومصبّ الماء من المزادة . و الشّعيبان : المزادتان قال أبو عبيد : الشّعيب
والمزادة والرواية والسّطحية شيءٌ واحد . و المخلف : المستقي . و الكلى : الرّقاع
التي تكون في المزادة وأحدها كلية .
هذا . وأما محلّ الشاهد قوله : جونتا مصطلاهما فإنه أضاف جونتا إلى مصطلاهما . قال
السيرافيّ : جونتا مثنّى وهو بمنزلة حسنتا وقد أضيفا إلى مصطلاهما ومصطلاهما يعود
إلى جارتا صفا ومعنى جارتا صفا الأثافيّ والصفا هو الجبل وإنما يبنى في أصل الجبل
في موضعين ما يوضع عليه القدر ويكون الجبل هو الثالث فالبناء في موضعين هما جارتا
صفا .
وقوله : كميتا الأعاللي يعني أنّ الأعالي من موضع الأثافيّ لم تسود لأنّ الدّخان
لم يصل إليها فهي على لون الجبل وجعل الأعلى من الجبل أعالي الجارتين . وجونتا
مصطلاهما يعني مسودّتا المصطلى يعني الجارتين مسودّتا المصطلى وهو موضع الوقود .
وقد أنكر هذا على سيبويه وخرّد للبيت ما يخرج به عن : حسن وجهه وحسنة
____________________
وجهها قال : وذلك أنّه لا
خلاف بين النّحويين أنّ قولنا زيد حسن وجه الأخ جيّد بالغ وأنّه يجوز أن يكنى عن
الأخ فنقول زيد حسن وجه الأخ جميل وجهه فالهاء تعود إلى الأخ لا إلأى زيد فكأنا
قلنا زيد حسن وجه الأخ . جميل وجه الأخ . )
قال : فعلى هذا قوله كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما كأنه قال جونتا مصطلى الأعالي
فالضمير في الصطلى يعود إلى الأعالي لا إلى الجارتين فيصير بمنزلة قولك : الهندان
حسنتا الوجوه مليحتا خدودهما . فإن أردت بالضمير في خدودهما الوجوه كان كلاماً
مستقيماً كأنّك قلت حسنتا الوجوه مليحتا خدود الوجوه . فإن أردت بالضمير الهندين
فالمسألة فاسدة فكذلك جونتا مصطلاهما إن أردت بالضمير الأعالي فهو صحيح وإن أردت
بالضمير الجارتين فهو رديء لأنّه مثل قولك هند حسنة وجهها .
قال : فإن قال قائل : فإذا كان الضمير في مصطلاهما يعود إلى الأعالي فلم يثنّى
والأعالي جمع قيل له : الأعالي في معنى الأعليين فردّ الضمير إلى الأصل . ( متى ما
تلقني فردين ترجف ** روانف أليتيك وتستطارا ) فردّ تستطار إلى رانفتين لأن روانف
في معنى رانفتين . وعلى هذا يجوز أن تقول الهندان حسنتا الوجوه جميلتا خدودهنّ
لأنّ الوجوه في معنى الوجهين فكأنّك قلت : جميلتا خدود الوجهين .
قال أبو بكر بن ناهض القرطبيّ : هذا التأويل حسن في إعادة الضمير الذي في مصطلاهما
إلى الأعالي لولا ما يدخل البيتين من فساد المعنى وذلك أنّك إذا قلت : كميتا
الأعالي جونتا مصطلاهما إنّ معناه اسودّت الجارتان واصطلى أعاليهما كما أن معنى
قولك الهندان حسنتا الوجوه مليحتا خدودهما إنّما المعنى
____________________
حسنت وجوههما وملحت
خدودهما فكذلك يجب أن يكون مصطلاهما إذا أعيد الضمير إلى الأعالي أن يكون قد اصطلت
الأعالي وإذا اصطلت الأعالي فقد اسودّت وهو بخير أنّهما لم يسودّا لأنّهما لم يصل
الدّخان إليهما .
والدليل على ذلك أنّه وصف الأعالي بالكمته ولم يصفها بالسّواد كما وصف الجارتين
فلا يشبه هذا قولك الهندان حسنتا الوجه مليحتا خدودهما لأنّ كلّ واحدٍ من هذين
الضميرين قدج ارتفع بفعله وكذلك يجب أن يرفع ضمير الأعالي بفعله فيكون على هذا
الأعالي قد اصطلت بالنّار وهذا خلاف ما أراد الشاعر لأنه ذكر أنه لم يصطل منها غير
الجارتين وأنّ الأعالي لم يصل إليها الدخان . فهذا خلاف ما نظره النحويون وقاسوه .
فلا بدّ من الذهاب في معنى البيت إلى ما ذهب إليه سيبويه من أنّ الضمير في
مصطلاهما يعود على الجارتين . انتهى .
وقد ردّ ما ذهب إليه المبّرد ابن جنّي أيضاً بوجه غير هذا قال في باب الحمل على
المعنى من )
الخصائص : اعلم أنّ العرب إذا حملت على المعنى لم تكد تراجع اللفظ كقولك شكرت من
أحسنوا إليّ على فعله .
ولو قلت شكرت من أحسن إلي على فعلهم جاز ولهذا ضعف عندنا أن يكون هما من مصطلاهما
في قوله : كميتا الأعالي جونتا مصطلاهما عائداً على الأعالي في المعنى إذا كانا
فاعلين اثنين لأنّه موضع قد ترك فيه لفظ التثنية حملاً على المعنى لأنّه جعل كلّ
جهة منهما أعلى كقولهم : شابت مفارقة وهذا بعيرٌ ذو عثانين ونحو ذلك . أو لأنّ
الأعليين شيئان من شيئين فإذا كان قد انصرف عن اللفظ إلى غيره ضعفت معاودته إيّاه
لأنّه انتكاث وتراجع فجرى ذلك مجرى إدغام الملحق وتوكيد ما حذف . على أنّه قد جاء
منه شيء قال : الطويل رؤوس كبيريهنّ ينتطحان وأما قوله : البسيط
____________________
( كلاهما حين جدّ الجري
بينهما ** قد أقلعا وكلا أنفيهما رابي ) فليس من هذا الباب وإن كان قد عاد من بعد
التثنية إلى الإفراد وذلك أنه لم يقل كلاهما قد أقلعا وأنفه رابٍ فيكون ما أنكرناه
لكنه قد أعاد كلا أخرى غير الأولى فعاملها على لفظها . ولم يقبح ذلك لأنّه قد فرغ
من حديث الأولى ثم استأنف من بعدها أخرى ولم يجعل الضميرين عائدين إلى كلا واحدةٍ
.
وهذا كقولك : من يقومون أكرمهم ومن يقعد أضربه . ولا يحسن ومنهم من يستمع إليك
حتّى إذا خرجوا من عندك لما ذكرناه . وهذا واضح فاعرفه . انتهى .
وهذا مأخوذ من كلام أبي عليّ في المسائل البغداديات وقد بسط القول على هذا البيت
فلا بأس بإبراد كلامه قال : فأما قوله : جونتا مصطلاهما فقد قدّره سيبويه تقدير
حسنة وجهها وجعل قياسه كقياسه وكان حكمه عنده إن أجراد على الأصل دون الحذف أن
يقول : جارتا صفاً جونٌ مصطلاهما فيجرى جونٌ على الجارتين فيرتفع بجريه عليهما
لأنّهما مرفوعتان ثم يرتفع المصطلى بجون ويعود ضمير التثنية على الجارتين فيكون
كقولك : الهندانحسنٌ ثوبهما وهند حسنٌ وجهها .
وإن أجراه على الحذف دون الأصل أن يقول : أقامت على ربيعيهما جارتا صفاً جونتا
المصطليات فيمن قال الهندان حسنتا الوجوه وفيمن قال صفا رحليهما
____________________
جونتا المصطلين )
فيصير كقولك الهندان حسنتا الثوبين . فلم يستعمله على الإتمام والأصل ولا على
الاختصار والحذف ولكن جعله كقولك : هذه امرأة حسنة وجهها فثنّى الجونة وهما وصفا
الجارتين وأضافه مثنّى إلى المصطلى وهو هما في المعنى إلاّ أنّه وضع الواحد موضع
الجمع فيمن قال : حسان الوجوه وموضع التثنية فيمن قال : صفا رحليهما وهو المصطلى
ألا ترى أنّ لكل واحدة من الجارتين مصطلى .
وإن وجّهته على أنّ المصطلى يكون جميع ذلك وأحد لم يضع واحداً موضع جمع ثم أضاف
مصطلى إلى ضمير الجارتين كما أضاف الوجه في قوله هذه امرأة حسنة وجهها إلأى ضمير
المرأة بعد إضافة حسن الذي هو الوجه في المعنى إلى الوجه . فعلى هذا وضع سيبويه
هذا البيت .
وقد يحتمل غير ما تأوّله وهو ما ذكره بعضهم : من أنّ الشاعر إنّما ردّ الضمير
المثنّى في قوله مصطلاهما إلى الأعالي لأنه في الحقيقة اثنان .
وهذا مثل قوله : الطويل ( رأت جبلاً فوق الجبال إذا التقت ** رؤوس كبيريهنّ
ينتطحان ) ولست أعرف من قائل هذا القول إلاّ أنّه ليس بممتنع . ويخرج الكلام به من
أن يكون على قولك : هند حسنة وجهها لأنّ الضمير المثنّى على هذا في قوله مصطلاهما
ليس يرجع إلى الجارتين إنّما يرجع إلى الأعالي لأنّ الأعالي وإن كان مجموعاً في
اللفظ فهو اثنان في المعنى فحمله على ذلك فكأنه قال جونتا مصطلاهما الأعالي .
وإذا كان كذلك لم يكن على حسنة وجهها لأن الجونة لم تضف إلى اسم يتّصل به ضمير
يعود من الاسم الذي بعد الصفة في قولك هند حسنة وجهها ضميرٌ يعود إلى هند لكون
الضمير العائد إلى الجارتين محذوفاً كما أنّ الضمير من هند حسنة الوجه ودعد حسنة
وجه الأب محذوف فلذلك أنّث جونة من قوله جونتا مصطلاهما كما أنّث حسنة في قولك هند
حسنة الوجه لأنه لم يعد فيه إلى هند ضمير .
____________________
وقياس هذا إذا رفع الاسم بالصفة ولم تصف الصفة إلى ما هو فاعلها في المعنى كحسنٌ
وجهٌ حسنٌ الوجه أن يقال جارتا صفاً جونٌ مصطلاهما أعاليهما أو أعلييهما فمصطلاهما
في موضع رفع مثل قولك هاتان امرأتان حسنٌ غلام أبويهما . وعيب هذا القول الذي قاله
هذا القائل هو أنّ التثنية حملت على أنّها جمع وذلك بعيد لأنا وجدناهم يجعلون
الاثنين على لفظ )
الجمع في نحو قوله عزّ وجلّ : إذ تسوّروا المحراب و قد صغت قلوبكما وبابه ولم نرهم
يجعلون لفظ التثنية للجمع .
إلاّ أنّه لا يمتنع ذلك في هذا الموضع لأنّ المجموع الذي هو قولنا : الأعالي هنا
اثنان في الحقيقة فحمله على المعنى أو استعمل اللغتين في نحو هذا جميعاً فحمل
الأوّل على قوله : فقد صنعت قلوبكما والثاني على صفا رحليهما . وليس ذلك بحسن لأنّ
الراجع أن يكون على لفظ المرجوع إليه أحسن إلاّ أن ذلك لا يمتنع .
ففي هذا التأويل تخليص للشعر من عيب وإدخاله في عيب آخر . انتهى كلام أبي عليّ .
ومثله لابن السّرّاج في الأصول قال : وقد حكى سيبويه أنّ بعضهم يقول زيد حسن وجهه
شبهوه بحسن الوجه واحتجّ بقوله جونتا مصطلاهما فجعل المصطلى هاهنا في موضع خفض
والهاء والميم راجعة إلى الاثنين وهما جارتا صفا . وكان حقّه أن يقول جونتا
المصطلين .
وقال غيره : ليس المعنى على هذا والهاء والميم ترجع إلى الأعالي وإن كانت جمعاً
لأنّ معناهما معنى اثنين وإنّما جمعت لأنّها من اثنين كما قال : الرجز ظهراهما مثل
ظهور التّرسين .
____________________
فكان معنى الشعر مصطلى الأعالي . ونظير هذا : هند فارهة العبد حسنة وجهه . تريد
حسنة وجه العبد . ولو قلت حسنة وجهها كنت قد أضفت الشيء إلى نفسه . وسيبويه إنّما
ذكر هذا البيت على ضرورة الشاعر والغلط عندي .
ثم قال في آخر الكتاب في ذكر ما جاء كالشاذّ الذي لا يقاس عليه : وهو سبعة منه
تغيير وجه الأعراب للقافية تشبيهاً بما يجوز : قال : ومّما يقرب من هذا قوله جونتا
مصطلاهما وإنما الكلام المصطلين فردّه إلى الأصل في المعنى لأنّك إذا قلت : مررت
برجل حسن الوجه فمعناه حسن وجهه فإذا ثنيتقلت مررت برجلين حسني الوجه فإن رددته
إلى أصله قلت برجلين حسن وجوههما . فإذا قلت وجوههما لم يكن في حسن ذكرٌ مّما قبله
وإذا أتيت بالألف واللام وأضفت الصفة إليها كان في الصفة ذكر الموصوف . فكان حق
هذا الشاعر لّما قال مصطلاهما أن يوحّد الصفة فيقول : جون مصطلاهما . انتهى .
فقد بان لك مما نقلنا عنهم وهم أرباب النقد في هذا العلم أن الرادّ عى سيبويه ليس
المبّرد لا سيّما أبو عليّ فإنه قال : لا أعرف قائل هذا القول . والشارح المحقق
قال هو المبّرد . وفوق كلّ )
ذي علمك عليم . والله أعلم .
وقد تكلّم على هذا البيت في باب الصفة المشبّهة أيضاً وقال : كلام المبّرد تكلّف
والظاهر مع سيبويه .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي بعد الثلاثمائة ) الطويل ( رحيب قطاب الجيب منها
رقيقةٌ ** بجسّ النّدامى بضة المتجردّ ) على أنّ إضافة رحيب إلى قطاب في حكم إضافة
جونتا إلى مصطلاهما في القبح . قال السيرافيّ : ومما يدخل في هذا النحو قول طرفة :
رحيب قطاب الجيب البيت وهذه الإضافة رديئة بمنزلة حسنة وجهها وذلك أنّ الأصل
____________________
وهو الإنشاد الصحيح : رحيب
قطاب الجيب بتنوين رحيب فقطاب يرتفع برحيب وضمير منها يعود إلى الأوّل فإذا أضفنا
رحيب فقد خلا منه الضمير العائد فلا معنى لمنها على ما بيّنّا في حسنة الوجه وكذلك
لا يحسن أن تقول زيد حسن العين منه . انتهى .
وهذا البيت من معلقة طرفة بن العبد وقبله : ( نداماي بيضٌ كالنجوم وقينةٌ ** تروح
علينا بين بردٍ ومجسد ) رحيب قطاب الجيب منها . . . . . . . . . . . . . البيت (
إذا رجعت في صوتها خلت صوتها ** تجاوب أظآرٍ على ربعٍ ردي ) ( وما زال تشرابي
الخمور ولذّتي ** وبيعي وإنفاقي طريفي ومتلدي ) ( إلى أن تحامتني العشيرة كلّها **
وأفردت إفراد البعير المعبّد ) ( رأيت بني غبراء لا ينكرونني ** ولا أهل هذاك
الطّرف الممدّد ) قوله : نداماي بيضٌ الخ النّدامى : الأصحاب يقال : فلانٌ نديم
فلان إذا شاربه وفلانة نديمة فلان . ويقال ذلك أيضاً إذا صاحبه وحدّثه وإن لم
يكونوا على شراب .
قال أبو جعفر : سمّي النّديم نديماً لندامة جذيمة الأبرش حين قتل مالكاً وعقيلاً
____________________
ابني فارج اللذين أتيا هـ
بعمرو ابن أخته فسألاه أن يكون في سمره فوجد عليهما فقتلهما وندم فسمّي كل مشارب
نديماً . وواحدهم ندمانٌ ونديم والمرأة ندمانة ونديمة ويقال من النّدم ندمان )
وندمى .
وقوله : بيض كالنجوم أي : هم ساداتٌ مشاهير كالنجوم . وقوله : وقينة معطوف على بيض
. و القينة : المغنّية وكلّ أمة قينة وإنما قيل لها قينة لأنها تعمل بيديها مع
غنائها . والعرب تقول لكّل من يصنع بيديه شيئاً قين . ومعنى تروح علينا تجيئنا
عشيّاً .
وروى : تروح إلينا . و البرد : ثوب وشيٍ . و مجسد هو بضم الميم وسكون الجيم وفتح
السين قال الأعلم في شرح المعلّقة : المجسد : المصبوغ بالزعفران المشبع . و الجساد
بالفتح : الزعفران .
وقال ابن السكّيت في شرح ديوانه : المجسد : الثوب الذي يلي الجسد وهو الشّعار .
والمعنى على الأول تأتينا بالعشيّ تارة وعليها بردٌ ومرّةٌ وعليها ثوب مصبوغ
بالزعفران . والمعنى على الثاني تأتينا وعليها هذان الثوبان .
وقوله : رحيب قطاب الجيب الخ روي بإضافة رحيب إلى قطاب وتقدّم بيان ضعفه وروي
تنوين رحيب ورفع قطاب وهو الإنشاد الثابت الصحيح فيكون رحيب صفة سببيةً لقينة فيكون
الرحب وصفاً للقينة في اللفظ ووصفاً لقطاب الجيب في المعنى لأن المعنى رحب قطاب
جيبها أي : اتّسع . وضمير منها للقينة . وقطاب الجيب بالكسر : مجتمعه حيث قطب أي :
جمع وهو مخرج الرأس من الثوب . و الرّحيب : الواسع وإنّما وصف قطاب جيبها بالسّعة
لأنّها كانت توسّعه ليبدو صدرها فينظر إليه ويتلذّذ به . وليس المعنى أنّ عنقها
واسع فيحتاج إلأى أن يكون جيبها واسعاً كما توهمه أبو جعفر النحوي والخطيب
التّبريزيّ فإنّ هذا الوصف ذم .
وقوله : رفيقة بفاء وقاف من الرفق وهو اللين والملاءمة . وروي رقيقة بقافين من
الرّقة وهو ضدّ الغلظة . والجسّ بفتح الجيم : اللمس أي : لمس أوتار اللهو . أي :
استمرت على الجسّ فهي رفيقة به حاذقة . وقيل جسّ النّدامى ما
____________________
طلبوا من غنائها وقيل جسّ
الّدامى هو أن يجسّوا بأيديهم فيلمسوها تلذّذاً كما فسّرنا أوّلاً كما قال الأعشى
: الطويل لجسّ النّامى في يد الدّرع مفتق وكانت القينة يفتق فتيقٌ في كمّها إلى
الإبط فإذا أراد الرجل أن يلمس منها شيئاً أدخل يده فلمس . و الدّرع : قميص المرأة
و يده : كمّه . )
وروى : لجسّ النّدامى باللام موضع الباء . و البضّة بفتح الموحدة وتشديد الضاد
المعجمة : البيضاء الناعمة البدن الرقيقة الجلد . والمتجرّد على صيغة اسم المفعول
: ما سترد الثّياب من الجسد . يقول : هي بضّة الجسم على التجرّد من ثيابها والنظر
وقوله : إذا نحن قلنا الخ أسمعينا أي : غنّينا . و انبرت اعترضت وأخذت فيما طلبنا
من غنائها . و رسلها بالكسر بمعنى هينتها ورفقها ومهلها . و مطروفة بالفاء :
الفاترة الطّرف أي : كأن عينها طرفت فهي ساكنة . وقيل إنّ معناه تحدّ النظر بطرفها
. وهذا ليس بشيءٍ .
وروي : مطروقة بالقاف ومعناه كسترخية ليّنة . وهو حال من فاعل انبرت . ولم تشدّد
وقوله : إذا رجّعت في صوتها التّرجيع : ترديد الصوت . و الأظآر : جمع ظئر وهي التي
لها ولد . و ربع بضمّ الراء وفتح الموحّدة : ولد الناقة . وردي فعل ماض من الرّدى
وهو الهلاك .
يقول : إذا طرّبت في صوتها وردّدت نغماتها حسبت صوتها أصوات نوقٍ تحنّ لهلاك ولدها
.
شبّه صوتها بصوتهنّ في التحزين .
ويجوز أن يكون الأظآر النساء والربع مستعاراً لولد الإنسان فشبّه صوتها في
____________________
التحزين والترقيق بأصوات
النوادب والنّوائح على صبيّ هالك . وهذا البيت قلّما يوجد في هذه القصيدة .
وقوله : وما زال تشربي الخ التّشراب : الشرب وهو للتكثير . والطريف والطارف : ما
اكتسبه الإنسان من المال . و المتلد بصيغة اسم المفعول وكذا التالد والتليد :
المال القديم الذي ورثه عن آبائه . ومعناه المتولّد والتاء بدل الواو .
وقوله : إلى أن تحامتني الخ أي : تركتني . و العشيرة : أهل بيت الرجل والقبيلة . و
المعبّد بزنة اسم المفعول : الأجرب وقيل هو المهنوء الذي سقط وبره فأفرد عن الإبل
أي : تركت ولذّاتي .
وقوله : رأيت بني غبراء غبراء : الأرض وبنو غبراء الفقراء ويدخل فيهم الأضياف .
وأهل معطوف على الواو في ينكروني . و الطّراف بالكسر : بنا من أدم يكون للأغنياء .
و الممدّد : المنصوب . يقول : إن هجرني الأقارب وصلتني الأباعد الفقراء والأغنياء
فالفقراء لإنعامي عليهم وقد تقدّم شرح أبيات من هذه القصيدة .
وترجمة طرفة تقدّمت في الشاهد الثاني والخمسين بعد المائة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني بعد الثلاثمائة ) الطويل ( إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت
** نوازع من قلبي ظماءٌ وألبب ) على أنّ إضافة ذوي آل النبي من إضافة المسمّى إلى
الاسم أي : يا أصحاب
____________________
هذا الاسم .
أراد بهذا الردّ على من زعم أنّ ذا في مثله وكذا في الأبيات الآتية زائد .
وهذا كلّه ملخّص من كلام ابن جنّي في الخصائص وغيره وإن كان موجوداً في المفصّل
وشروحه .
وجوّزأبو عليّ في الإيضاح الشعريّ أن يكون ذو زائداً وأن يكون على جعل الاسم
المسمّى على الاتساع لمصاحبته له وكثرة الملابسة .
قال ابن جنّي في المحتسب عند قراءة ابن مسعود من سورة يوسف وفوق كلّ ذي عالمٍ
عليمٌ : تحتمل هذه القراءة ثلاثة أوجه : أحدها : أن تكون من باب إضافة المسمّى إلى
الاسم أي : فوق كل شخص يسمى عالماً أو يقال ( إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت **
نوازع من نفسي ظماءٌ وألبب ) أي : إليكم يا آل النّبيّ أي : يا أصحاب هذا الاسم
الذي هو آل النبي . وعليه قول الأعشى : البسيط ( فكذّبوها بما قالت فصبّحهم ** ذو
آل حسّان يزجي الموت والشرّعا ) أي : صبّحهم الجيش الذي يقال له آل حسّان . وهو
بابٌ واسع قد تقصّيناه في كتاب الخصائص .
والوجه الثاني : أن يكون عالم مصدراً كالفالج والباطل .
والثالث : أن يكون على مذهب من يعتقد زيادة ذي . انتهى مختصراً .
وقد ذكر ابن جنّي هذه الإضافة في أكثر قال في إعراب الحماسة عند
____________________
قول طفيل الغنويّ : الطويل
( وما أنا بالمستنكر البين إنّني ** بذي لطف الجيران قدماً مفجّع ) هذا من باب
إضافة المسمّى إلى اسمه أي : إنّني بالشيّ المسمّى بلطف الجيران . ومثله بيت
الشمّاخ : الوافر )
وأدرج درج ذي شطنٍ ومثله بيت الكميت : إليكم ذوي آل النبي . . البيت أي : يا أصحاب
هذا الاسم واصحابه هم آل النبيّ صلّى عليه وسلم فكأنه قال : إليكم يا آل النّبيّ
وأمثاله كثيرة جداً قد ذكرناها في غير موضع . ومن ذهب إلى زيادة ذي وذات في هذا
الموضع ذهب إلى زيادتها في بيت طفيل هذا أيضاً ومعناه في التأويلين جميعاً أنّني
بلطف الجيران أي : بوصلهم مفجّع .
وقال أيضاً في أواخر إعراب الحماسة عند قول الشاعر : الطويل ( فلما رآني أبصر
الشّخص أشخصاً ** قريباً وذا الشّخص البعيد أقاربه ) قريباً إن شئت ظرف أي : من
قريب وإن شئت حال أي : أبصره مقارباً أشخصاً معناه أبصره وأنا قريب منه أشخصاً .
وقوله : وذا الشّحص البعيد من باب إضافة المسمّى إلى اسمه كقول الشماخ . . وقول
الأعشى . . وقول الكميت . . وأنشد الأبيات الثلاثة ثم قال :
____________________
ومعنى أقاربه أي : أظنّه
قريباً .
ولو جرّ البعيد هنا لم يجز لأنّ الشخص في هذا البيت اسمٌ لا مسمّى . ولو قلت
سمّيته بزيد الظريف على هذا لم يجز لأنّ الظرف لا توصف به الأسماء .
ثم قال : وقد دعا خفاء هذا الموضع أقواماً إلى أن ذهبوا إلى زيادة ذي وذا في هذه
المواضع وإنّما ذلك بعدٌ عن إدراك هذا الموضع . انتهى .
وزاد في الخصائص على ما ذكرناه أنّ أبا علي حدّثه أنّ أحمد بن إبراهيم أستاذ ثعلب
روى عنهم : هذا ذو زيد أي : هذا صاحب هذا الاسم الذي هو زيد .
وقد عقد لهذا باباً في الخصائص وهو باب إضافة الاسم إلى المسمّى والمسمّي إلى
الاسم وأطال الكلام فيه وأطاب وقال : هذا موضع كان يعتاده أبو عليّ ويألفه ويرتاح
لاستعماله وهو فصلٌ من العربيّة غريب وقلّ من يعتاده أو ينظر فيه وقد ذكرته لتراه
فتتنبّه على ما هو في معناه إن شاء الله تعالى .
ثم قال : وفيه دليل يدلّ على فساد من ذهب إلى أنّ الاسم هو المسمّى ولو كان إيّاه
لم تجز إضافة واحدٍ منهما إلى صاحبه لأنّ الشيء لا يضاف إلى نفسه . قيل لأنّ الغرض
من الإضافة )
إنّما هو التعريف والتخصيص والشيء إنّما يعرّفه غيره لأنّه لو كانت نفسه تعرّفه
لما احتاج أبداً إلى أن يعرّف بغيره لأنّ نفسه في حالي تعريفه وتنكيره واحدة
وموجودة غير مفتقدة .
ولو كانت نفسه هي المعرّفة له أيضاً لما احتاج إلى اضافته إليها لأنّه ليس فيها
إلآ ما فيه فكان يلزم الاكتفاء به عن إضافته إليها فلهذا لم يأت عنهم نحو هذا
غلامه ومررت بصاحبه والمظهر هو المضمر المضاف إليه هذا مع فساده في
____________________
المعنى لأنّ الإنسان لا
يكون أخا نفسه ولا صاحبها .
فإن قلت : فقد تقول مررت بزيدٍ نفسه وهذا نفس الحقّ يعني أنّه هو الحقّ لا غيره .
قيل : ليس الثاني هو ما أضيف إليه من المظهر وإنّما النفس هنا بمعنى خالص الشيء
وحقيقته والعرب تحلّ نفس الشيء من الشيء محلّ البعض من الكلّ ولهذا حكوا عن أنفسهم
مراجعتهم إيّاها وخطابها لهم وأكثروا من ذكر التردّد بينها وبينهم .
ألا ترى إلى قوله : البسيط ( أقول للنّفس تأساءً وتعزيةً ** إحدى يديّ أصابتني ولم
ترد ) وقوله : الرجز ( قالت له النّفس تقدّم راشدا ** إنّك لا ترجع إلاّ حامدا )
وأمثال هذا كثير جداً وجميع هذا يدلّ على أنّ نفس الشيء عندهم غير الشيء .
فإن قلت : فقد تقول هذا أخو غلامه وهذه جارية بنتها فتعرّف الأول بما أضيف إلى
ضميره والذي أضيف إلى ضميره إنّما تعرّف بذلك الضمير ونفس المضاف الأول متعرّف
بالمضاف إلى ضميره وقد ترى على هذا أنّ التعريف الذي استقرّ في جارية من قولك هذه
جارية بنتها إنّما أتاها من قبل ضميرها وضميرها هو هي فقد آل الأمر إذاً إلى أنّ
الشيء قد يعرّف نفسه وهذا خلاف ما ركبته وأعطيت يدك به .
قيل : كيف تصرّفت الحال فالجارية إنّما تعرّفت بالبنت التي هي غيرها وهذا شرط
التعريف من جهة الإضافة فأما ذلك المضاف إليه أمضاف هو أم غير مضاف فغير قادح .
____________________
والتعريف الذي أفاده ضمير الأول لم يعرّف الأول وإنما عرّف ما عرّف الأوّل والذي
عرّف الأول غير الأوّل فقد استمرت الصفة وسقطت المعارضة .
ويؤكذ ذلك أيضاً أنّ الإضافة في الكلام على ضربين : )
أحدهما : ضمّ الاسم إلى اسمٍ هو غيره بمعنى اللام نحو غلام زيد . والآخر : ضمّ اسم
إلأى اسم هو بعضه بمعنى من نحو هذا ثوب خزٌ . وكلاهما ليس الثاني فيه بالأوّل .
واستمرار هذا عندهم يدلّ على أن المضاف ليس بالمضاف إليه البتة انتهى .
وقول الكميت : ذوي آل النبي هو منادى حذف منه حرف النداء أي : يا أصحاب هذا الاسم
. وفيه من التفخيم ما ليس في قولك يا آل النبي لأنه قد جعلهم تشوّفت وبه يتعلّق
قوله إليكم . وقدّمه للحصر أي : أنا مشتاق إليكم لا إلى غيركم . و نوزاع : جمع
نازعة من نزعت النفس إلى الشيء أي : اشتاقت إليه ومثله نازعت نزوعاً ونزاعاً
بالكسر . وهذا كقولهم : جنّ و الظّماء : العطاش يقال : ظمئ ظمأ بالهمز كعطش عطشاً
وزناً ومعنى فهو ظمآن وهي ظمأى مثل عطشان وعطشى والجمع ظماء كسهام . ووصف النوازع
بالظماء للمبالغة في قوّتها وشدّتها . و ألبب : جمع لبّ بضمّ وهو العقل وهو شاذّ
والقياس ألبٌّ بالإدغام وهو معطوف على نوازع .
وهذا البيت من قصيدة طويلة للكميت بن زيد وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد السادس عشر
من أوائل الكتاب مدح بها آل بيت النبي صلّى الله عليه وسلّم وهي إحدى القصائد
الهاشميّات وهي من جيّد شعره .
وقد استشهد النّحاة بأبيات من هذه القصيدة وهذا مطلعها مع جملة أبيات منها :
الطويل ( طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب ** ولا لعباً منّي وذو الشّيب يلعب )
____________________
( ولم تلهني دارٌ ولا رسم
منزل ** ولم يتطرّبني بنانٌ مخضّب ) ( ولا السّانحات البارحات عشيّةً ** أمرّ سليم
القرن أم مرّ أعضب ) ( ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى ** وخير بني حوّاء والخير
يطلب ) ( إلى النّفر البيض الذين بحبّهم ** إلى الله فيما نابني أتقرّب ) ( بني
هاشمٍ رهط النّبيّ وإنّني ** بهم ولهم أرضى مراراً وأغضب ) ( بأيّ كتابٍ أم بأيّة
سنّةٍ ** ترى حبّهم عاراً عليّ وتحسب ) ( ومالي إلاّ آل أحمد شيعةٌ ** ومالي إلاّ
مشعب الحقّ مشعب ) ( ومن غيرهم أرضى لنفسي شيعةً ** ومن بعدهم لا من أجلّ وأرحب )
( إليكم ذوي آل النّبيّ تطلّعت ** توازع من قلبي ظماءٌ وألبب ) ) ( وجدنا لكم في
آل حاميم آيةً ** تأوّلها منّا تقيٌّ ومعرب ) ( فإنّي على الأمر الذي تكرهونه **
بقولي وفعلي ما استطعت لأجنب ) ( يشيرون بالأيدي إليّ وقولهم ** ألا خاب هذا
والمشيرون خيّب ) ( فطائفةٌ قد أكفرتني بحبّهم ** وطائفة قالوا : مسيءٌ ومذنب ) (
يعيبونني من غيّهم وضلالهم ** على حبّكم بل يسخرون وأعجب ) ( وقالوا ترابيّ هواه
ودينه ** بذلك أدعى فيهم وألقّب )
____________________
( فلا زلت فيهم حيث
يتّهمونني ** ولا زلت في أشياعهم أتقلّب ) ( ألم ترني في حبّ آل محمّدٍ ** أروح
وأغدر خائفاً أترقّب ) ( كأني جانٍ محدثٌ وكأنّما ** بهم يتّقي من خشية العرّ أجرب
) ( على أيّ جرمٍ أم بأيّة سيرةٍ ** أعنّف في تقريظهم واؤنّب ) روى الأصبهانيّ في
الأغاني بسنده إلى محمد بن علي النوفلي عن أبيه أنه قال : الكميت بن زيد الشاعر
كان أوّل ما قال القصائد الهاشّميات فسترها ثم أتى الفرزدق بن غالب فقال له : يا
أبا فراس إنّك شيخ مضر وشاعرها وأنا ابن أخيك الكميت بن زيد الأسديّ . قال له :
صدقت أنت ابن أخي فما حاجتك قال : نفث على لساني فقلت شعراً فأحببت أن أعرضه عليك
فإن كان حسناً أمرتني بإذاعته وإن كان قبيحاً أمرتني بستره وكنت أولى من ستره عليّ
. فقال له الفرزدق : أمّا عقلك فحسنٌ وإنّي لأرجو أن يكون شعرك على قدر عقلك
فأنشدني ما قلت .
فأنشده : طربت وما شوقاً إلى البيض أطرب قال : فقال لي : فيما تطرب يا ابن أخي
فقال : ولا لعباً منّي وذو الشيب يلعب قال : بلى يا ابن أخي فالعب فإنّك في أوان
اللعب . فقال : ولم يلهني دارٌ ولا رسم منزلٍ البيت
____________________
قال : فما يطربك يا ابن
أخي فقال : فقال : أجل لا تتطيّر . فقال : )
ولكن إلى أهل الفضائل والنّهى البيت فقال : ومن هؤلاء ويحك فقال : إلى النّفر
البيض الذين بحبّهم البيت فقال : أرحني ويحك من هؤلاء فقال : بني هاشم رهط النّبيّ
فإنّني البيت فقال له الفرزدق : أذع أذع يا ابن أخي أنت والله أشعر من مضى وأشعر
من بقي .
وعن عكرمة الضّبي عن أبيه قال : أدركت الناس بالكوفة من لم يرو : طربت وما شوقاً
إلى البيض أطرب فليس بشيعيّ . ومن لم يرو : ذكر القلب إلفه المهجورا فليس بأمويّ .
ومن لم يرو : هلاّ عرفت منازلاً بالأبرق فليس بمهلبيّ .
قوله : طربت وما شوقاً الخ استشهد به أبو حيّان على تقديم المفعول له على عامله
ردّاً على من منع ذلك فإنّ شوقاً مفعول له مقدّم على عامله وهو أطرب . واستشهد به
ابن هشام أيضاً في المغني على أنّ همزة الاستفهام لكونها أصلاً جاز
____________________
حذفها سواء كانت مع أم لا
فإنّه أراد فإنّه أراد : أو ذو الشيب يلعب والاستفهام إنكاريّ .
وقال شارح السبع الهاشميّات : ذو الشيب خبر وليس باستفهام والمعنى لم أطرب شوقاً
إلى البيض ولا طربت لعباً منّي وأنا ذو الشيب وقد يلعب ذو الشيب ويطرب وإن كان
قبيحاً به ولكنّ طربي إلى أهل الفضائل والنّهى .
وقوله : ولا أنا مّمن يزجر الطير الخ همّه فاعل يزجر والطير مفعوله . قال ابن
الأثير في النهاية : الزجر للطير هو التّيمن والتشاؤم بها والتفاؤل بطيرانها كالسانح
والبارح وهو نوع من الكهانة والعيافة . انتهى .
وقال ابن رشيق في العمدة : الغراب أعظم ما يتطيّرون به ويتشاءمون بالثور الأعضب
وهو المكسور القرن . والسانح ما ولاّك ميامنه والبارح ما ولاّك مياسره واهل نجد
تتيمّن بالأوّل )
وتتشاءم بالثاني وأهل العالية على عكس هذا . وأنشد البيتين .
وفي السانحات جوّز الأخفش النصب للعطف على الطير .
وقوله : ترى حبّهم عاراً الخ استشهد بع ابن هشام في شرح الألفيّة على جواز حذف
مفعولي باب ظنّ للدّليل .
وقوله : ومالي إلاّ آل أحمد الخ استشهد به النّحاة منهم صاحب الجمل على تقديم المستثنى
على المستثنى منه . و المشعب : الطريق يقول : مالي مذهب إلاّ طريق الحقّ الذي هو
حبّ آل النبيّ وتفضيلهم صلّى الله عليه وسلّم .
وقوله : وجدنا لكم الخ آل حم اسم للسّور السبع التي أولها حم ويقال لها أيضاً
الحواميم وأراد الآية التي في حمعسق : قل لا أسئلكم عليه أجراً إلاّ المودّة
____________________
في القربى يقول : من تأوّل
هذه الآية لم يسعه إلاّ التشيّع في آل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وإبداء المودّة
لهم على تقيّةٍ كانت أو غير تقيّة .
وقوله : تقيٌّ ومعرب قال الجوهريّ : أعرب بحجتّه إذا أفصح بها ولم يتّق أحداً .
وأنشد هذا البيت ثم قال : يعني المفصح بالتّفضيل والساكت عنه للتّقيّة . وهذا
البيت من شواهد سيبويه أورده شاهداً لترك صرف حاميم لكونه وافق بناء ما لا ينصرف
من الأعجمية نحو قابيل وهابيل .
قال الأعلم : جعل حاميم اسماً للكلمة ثم أضاف السور إليها كإضافة النسب إلى قرابة
كما وقوله : ألم ترني في حبّ آل محمد الخ قال السيوطيّ في شرح أبيات المغني : أخرج
ابن عساكر عن محمد بن سهل قال : قال الكميت : رأيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم
في المنام وأنا مختفٍ فقال لي : ممّ خوفك فقلت : يا رسول الله من بني أميّة .
ثم أنشدته : ألم ترني من حبّ آل محمدٍ البيت فقال لي صلّى الله عليه وسلّم : أظهر
فقد أمنّك الله في الدّنيا والآخرة .
وفي الأغاني للأصبهاني بسنده إلى إبراهيم بن سعيد الأسديّ عن أبيه قال : رأيت
النّبيّ صلّى )
الله عليه وسلّم في المنام فقال لي : من أيّ الناس أنت قلت : من العرب . قال : من
أيّ العرب قلت : من بني أسد . قال : من أسد بن خزيمة قلت : نعم . قال : أهلاليٌّ
أنت قلت : نعم .
قال : أتعرف الكميت بن زيد قلت : يا رسول الله عمّي ومن قبيلتي . قال : أتحفظ من
شعره شيئاً قلت : نعم قال : أنشدني :
____________________
طربت وما شوقاً إلى البيض
أطرب فأنشدته حتى بلغت إلى قوله : فما لي إلاّ آل أحمد شيعةٌ البيت فقال لي : إذا
أصبحت فاقرأ عليه السّلام وقل له : قد غفر الله لك بهذه القصيدة .
وروى أيضاً بسنده إلى دعبل بن عليّ الخزاعيّ قال : رأيت النّبيّ صلّى الله عليه
وسلّم في النوم فقال لي : مالك وللكميت بم زيد فقلت : يا رسول الله ما بيني وبينه
إلاّ كما بين الشعراء . فقال لي : لا تفعل أليس هو القائل : ( فلا زلت فيهم حيث
يتهمونني ** ولا زلت في أشياعهم أتقلّب ) فإنّ الله قد غفر له بهذا البيت .
فانتهيت عن الكميت بعدها .
وروى أيضاً بسنده إلى نصر بن مزاحم المنقريّ أنه رأى النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
في النوم وبين يديه رجلٌ ينشده : الخفيف من لقلبٍ متيّمٍ مستهام قال : فسألت عنه
فقيل لي : هذا الكميت بن زيد الأسديّ . قال : فجعل النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم
يقول : جزاك الله خيراً . وأثنى عليه .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث بعد الثلاثمائة ) الوافر ( ألا قبح الإله بني
زيادٍ ** وحيّ أبيهم قبح الحمار ) على أنّ لفظ حيّ من حيّ زيدٍ يستعمل في التأكيد
بمعنى ذاته وعينه وإن كان ميتاً بعد أن كان بمعنى ضدّ الميّت كما شرحه الشارح .
وكأنه فهم أنّ ما بعد حيّ في البيتين ميّت فبنى كلامه هذا عليه وإلاّ فلم يقل به
أحدٌ بل صرّح ابن السكيت في كتاب المذكّر والمؤّنث بأن مثل هذا لا يقال إلاّ
والمضاف إليه حيّ موجود غير معدو م وأنشد هذين البيتين بعينهما وجعل لفظ حيّ مما
يقع على المذكّر والمؤنّث لكن إذا كان المضاف إليه مؤنّثاً فلا بدّ من تأنيث فعله
. قال : رأيت العرب قد أفردت مما يقع على المذكر والمؤنث شيئاً لا يكادون يذكرون
فعله ولفظه المذكر .
من ذلك قولك : أتيتك وحيّ فلانة شاهجة وحيّك وحيّ زيد قائم . ولم أسمع وحي فلانة
شاهدٌ أي : بتذكير شاهد وذلك أنهم إنّما قصدوا بالخبر عن فلانة إذا كانت حيّة غير
ميتة .
انتهى .
ومثله لابن جنّي في المحتسب عند إنشاده هذا البيت قال : أي وقبح أباهم الحيّ الذي
يقال له أبوهم .
ومنه قول الآخر : البسيط وحيّ بكرٍ طعنّا طعنةً بحرا أي : الإنسان الحيّ الذي
يسمّى بقولهم بكر .
وقال في الخصائص أي : والشخص المسمّى بكراً طعنا . فحيّ هاهنا مذكر حيّة أي : وشخص
بكر الحيّ طعنا .
____________________
ومثله قول الآخر : الكامل يا قرّ إنّ أباك حيّ خويلدٍ . . . . . . البيت أي : إنّ
أباك الشخص الحيّ خويلداً .
وكذلك قول الآخر : )
ألا قبح الإله بني زياد . . . . . . البيت أي : أباهم الشخص الحيّ . وقال : وليس
الحيّ هنا هو الذي يراد به القبيلة كقولك حيّ تميم وقبيلة بكر إنّما هو كقولك :
هذا رجلٌ حيٌّ وامرأة حيّة .
وجعل ابني جنّي هذه الإضافة من إضافة المسمّى إلى اسمه وبيّنها كما رأيت . وخالفه
الشارح المحقّق فجعلها من إضافة العامّ إلى الخاصّ .
ومن حكم بزيادة حيّ كصاحب اللبّ جعل الإضافة من قبيل إضافة الملغى إلى المعتبر كما
قال ابن عقيل في شرح التسهيل .
ومّمن ارتضى الزيادة الزمخشريّ في المفصّل فإنه قال : قالوا : إنّ الاسم مقحمٌ
دخوله وخروجه سواء وقد حكي عنهم حيّ فلانة شاهدٌ بدون تأنيث الخبر . وتقدّم طعن
ابن السكيت فيه لكن يرد عليه ما أنشده أبو علي في الإيضاح الشعريّ من قول الشاعر :
لو أنّ حي الغانيات وحشا ومن العجب قول شارحه المظفّري : لفظ حيّ زائد ومعناه
الشخص فكأنك قلت : هذا الشخص زيد فكما أنّ لفظ شخص زائد فكذلك لفظ حيّ . وقوله بعد
هذا : قيل ولا يضاف لفظ حيّ إلاّ بعد موت المضاف إليه صوابه إلاّ قبل موت المضاف إليه
.
____________________
ومما ورد عن العرب من إضافة حيّ إليه ما قاله الشارح قبل هذا البيت بصفحةٍ قالهنّ
حيّ قال المظفري : يعني سمع الأخفش أعرابيّاً أنشد أبياتاً فقيل له : من قال هذه
الأبيات فقال : قالهن حيّ رباح بزيادة حيّ أي : قالهنّ رباح . انتهى .
ورباح بكسر الراء بعدها باء موحدة . وهو مأخوذ من الإيضاح الشعري لأبي علي قال :
حكى أبو الحسن الأخفش في أبيات أنه سمع من يقول فيها : قالهنّ حيّ رباح .
وأنشد : الوافر ( أبو بحر أشدّ النّاس منّاً ** علينا بعد حيّ أبي المغيرة ) وقوله
: ألا قبح الإله الخ هذا البيت من جملة أبيات ليزيد بن ربيعة بن مفرّغ الحميريّ .
ألا هنا كلمة يستفتح بها الكلام ومعناها تنبيه المخاطب لسماع ما يأتي بعدها وجملة
قبح الإله دعائيّة يقال قبحه الله يقبحه بفتح الموحدة فيهما أي : نّحاه عن الخير .
وفي التنزيل : هم من المقبوحين أي : المبعدين عن الفوز . والمصدر القبح بفتح القاف
والاسم )
القبح بضمّها يقال : قبحاً له وقبحاً . والإله تقدّم أنه لا يجمع بين أل وهمزة إله
إلاّ على القلّة لكون أل في الله بدلاً من همزة إله . و زياد هو زياد بن سميّة وهي
جاريةٌ للحارث بن كلدة الطّبيب الثّقفيّ كان زوّجها بعبدٍ له روميّ اسمه عبيد
فولدت له زياداً على فراشه . وكان أبو سفيان سافر في الجاهلية إلى الطائف قبل أن
يسلم فواقعها بواسطة أبي مريم الخمّار فيقال
____________________
إنّها علقت منه بزياد . ثم
إنّ معاوية أحضر من شهد لزيادٍ بالنسب واستلحقه بأبي سفيان فقيل زياد بن أبيه أي :
ابن أبي معاوية .
ويقال له أيضاً زياد بن سميّة نسبة إلى أمه .
وهذه أول واقعة خولفت فيها الشريعة المطهّرة علانية لصريح قوله صلّى الله عليه
وسلّم : الولد للفراش وللعاهر الحجر . وأعظم الناس ذلك وأنكروه خصوصاً بني أميّة
لكونه ابن عبدٍ روميّ صار من بني أمية . وقيل فيه أشعارٌ منها قول يزيد صاحب البيت
الشاهد : الوافر ( ألآ أبلغ معاوية بن حربٍ ** مغلغلة من الرجل اليماني ) ( أتغضب
أن يقال أبوك عفٌّ ** وترضى أن يقال أبوك زاني ) ( فأشهد إنّ رحمك من زيادٍ **
كرحم الفيل من ولد الأتان ) ( وأشهد أنّها ولدت زياداً ** وصخرٌ من سميّة غير داني
) وقصة الاستلحاق مفصّلة في التواريخ .
قال أبو عبيد البكريّ في شرح أمالي القالي : كتاب المثالب لأبي عبيدة أصله لزياد
بن أبيه فإنّه لّما ادّعى أبا سفيان أباً علم أنّ العرب لا تقرّ له بذلك مع علمهم
بنسبة فعمل كتاب المثالب وألصق بالعرب كلّ عيب وعار وباطل وإفك وبهت . انتهى .
وبنو زيادٍ المشهور منهم : عبّاد ولي سجستان وما والاها ومنهم عبيد الله بن زياد
الشقيّ الخبيث قاتل الحسين بن علي رضي الله عنهما .
وقوله : وحيّ أبيهم معطوف على بني أي : وقبح الله أباهم زياداً .
____________________
وقوله : قبح الحمار هو بفتح القاف مصدر تشبيهيّ أي : قبحهم الله قبحاً مثل قبح
الحمار .
وإنّما ذكر الحمار لأنّه مثلٌ في المذلّة والاستهانة به ولأنّ صوته أنكر الأصوات
وأبشعها . و يزيد شاعر إسلاميّ من شعراء الدولة الأمويّة وهو أبو عثمان يزيد ابن
ربيعة بن مفرّغ بن ذي العشيرة بن الحارث وينتهي نسبه إلى زيد بن يحصب الحميريّ . )
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : هو يزيد بن ربيعة بن مفرغ الحميريّ حليف لقريش
ويقال إنّه كان عبداً للضحاك بن يغوث الهلاليّ فأنعم عليه . انتهى .
ومفرّغ بكسر الراء المشدّدة : لقب جده سمّي به لأنّه راهن على شرب سقاء لبن فشربه
حتّى فرّغه فسمّي مفرّغاً . وقال النوفليّ : كان حدّاداً باليمن فعمل قفلاً
لامرأةٍ وشرط عليها عند فراغه منه أن تجيئه بكرش من لبن ففعلت فشرب منه ووضعه
فقالت : ردّ عليّ الكرش فقال : ما عندي ما أفرّغه فيه . قالت : لا بدّ من ذلك .
ففرّغه في جوفه فقالت : إنّك لمفرّغ . فعرف به .
وكان السبب في هجو زياد وبينه هو ما رواه الأصبهانيّ في الأغاني أنّ سعيد بن عثمان
بن عفان لما ولي خراسان استصحب ابن مفرّغ فلم يصحبه وصحب عبّاد بن زياد فقال له
سعيد بن عثمان : أما إذ أبيت صحبتي واخترت عبّاداً عليّ فاحفظ ما أوصيك به : إنّ
عباداً رجلٌ لئيم فإيّاك والدّالة عليه وإن دعاك إليها من نفسه فإنّها خدعةٌ منه
لك عن نفسك وأقلل زيارته فإنّه طرفٌ ملول ولا تفاخره وإن فاخرك فإنّه لا يحتمل لك
ما كنت أحتمله .
____________________
ثم دعا سعيدٌ بمال فدفعه إليه وقال : استعن بهذا على سفرك فإن صلح لك مكانك من
عبّاد وإلاّ فمكانك عندي ممهّد . ثم سار سعيد من خراسان ولما بلغ عبيد الله بن
زياد صحبة ابن مفرّغ أخاه عباداً شقّ عليه فلما سار عبّاد إلى سجستان أميراً عليها
شيّعه عبيد الله وشيّعه الناس فلما أراد عبيد الله أن يودّع أخاه دعا ابن مفرّغ
فقال له : إنّك سألت أخي عباداً أن تصحبه فأجابك إلى ذلك وقد شقّ عليّ فقال ابن
مفرّغ : ولم أصلحك الله فقال : لأنّ الشاعر لا يقنعه من الناس ما يقنع بعضهم من
بعض لأنه يظن فيجعل الظنّ يقيناً ولا يعذر في بعض العذر وإنّ عبّاداً يقدم على أرض
حربٍ فيشتغل بحروبه وخراجه عنك فلا تعذره فتكسبنا عاراً وشرّاً فقال : لست كما ظنّ
الأمير وإنّ لمعروفه عندي شكراً كثيراً وإنّ عندي إن أغفل أمري عذراً ممهّداً .
قال : لا ولكن تضمن لي إن أبطأ عنك ما تحبّه ألا تعجل عليه حتّى تكتب إليّ . قال :
ثم لإنّ عبّاداً لما قدم سجستان اشتغل بحروبه فاستبطأه ابن مفرّغ ولم يكتب إلى
عبيد الله كما ضمن له ولكن بسط لسانه وهجاه وكان عبّادٌ عظيم اللحية فسارا ابن
مفرّغ يوماً مع عبّاد فدخلت الريح فيها فنفشتها فضحك ابن مفرّغ وقال لرجل من لخم
كان إلى جانبه : الوافر ( ألا ليت اللّحى كانت حشيشاً ** فنعلفها دواب المسلمينا )
)
فسعى به اللّخميّ إلى عبّاد فغضب من ذلك وقال : لا تجمل عقوبته في هذه الساعة مع
صحبته لي وما أؤخرّها إلاّ لأشفي نفسي منه فإنّه كان يقوم ويشتم أبي في عدّة مواطن
.
وبلغ الخبر ابن مفرّغ فقال : إنّي لأجد ريح الموت عند عبّاد ثم دخل عليه
____________________
فقال : أيها الأمير إني
كنت مع سعيد بن عثمان وقد بلغك رأيه فيّ ورأيت جميل أثره عليّ وإني اخترتك عليه
فلم أحظ منك بطائل وإنّي أريد أن تأذن لي في الرجوع .
فقال له : إنّي اخترتك كما اخترتني واستصحبتك حين سألتني فقد أعجلتني عن بلوغ
محبّتي فيك وقد طلبت الإذن لترجع إلى قومك فتفضحني عندهم وأنت على الإذن قادرٌ بعد
أن أقضي حقّك فأقام وبلغ عبّاداً أنّه يسبّه وينال من عرضه . وأجرى عبّادٌ الخيل
يوماً فجاء سابقاً فقال ابن مفرّغ : الرجز ( سبق عبّادٌ وصلّت لحيته ** وكان
خرّازاً تجود فربته ) قال المدائنيّ : لنا بلغ عبّاداً هذا الشعر دعا به والمجلس
حافل فقال له : أنشدني هجاء أبيك الذي هجي به . فقال : أيّها الأمير ما كلّف أحدٌ
قطٌّ مثل مما كلّفتني به فأمر غلاماً عجميّاً أن يصبّ على رأسه السوط إن لم ينشد
فأنشده أبياتاً هجى بها أبوه أوّلها : الكامل ( قبح الإله ولا أقبّح غيره ** وجه
الحمار ربيعة بن مفرّغ ) وجعل عبّاد يتضاحك به فخرج ابن مفرّغ وهو يقول : والله لا
يذهب شتم شيخي باطلاً .
فطلب عليه العلل ودسّ إلى قوم كان لهم عليه ديوان أن يقتضوا مالهم عليه ففعلوا
فحبسه وضربه وأمر ببيع سلاحه وخيله وأثاثه وقسّم ثمنها بين غرمائه ثم بعث إليه أن
بعني الأراكة وبرداً وكانت الأراكة قينة لابن المفرّغ وبردٌ غلامه ربّاهما وكان
شديد الضنّ بهما فبعث إليه ابن مفرّغ : أيبيع المرء نفسه أو لده
____________________
فأضرّ به عبّاد حتّى
أخذهما منه وقيل اشتراهما رجلٌ من أهل خراسان فلما دخلا منزلة قال له برد وكان
داهية أدبياً : أتدري ما شربت قال : نعم شريتك وهذه الجارية . قال : لا والله ما
اشتريت إلاّ العار والدّمار وفضيحة الأبد فجزع الرجل وقال : كيف ذلك ويلك قال :
نحن ليزيد بن المفرّغ وما أصاره والله إلى هذه الحال إلاّ لسانه وشرّه أفتراه يهجو
عبّاداً وهو أمير سجستان وأخاه عبيد الله وهو أمير العراقيّين وعمّه معاوية وهو
الخليفة ويمسك لسانه عنك وقد ابتعتني وأنا مثل ولده وهذه الجارية وهي نفسه فقال :
أشهد أنّكما له إن شئتما امضيا إليه وإن شئتما تكونا له عندي . قال : فاكتب إليه )
بذلك . فكتب إليه بذلك فكتب إليه ابن مفرّغ يشكر فعله ويسأله أن يكونا عنده حتّى
يفرّج الله عنه .
وفي بيعهما قال وذكر تركه سعيد بن عثمان : مجزوء الكامل ( أصرمت حبلك من أمامه **
من بعد أيّامٍ برامه ) ( ورمقتها فوجدتها ** كالضّلع ليس لها استقامه ) ( لهفي على
الرّأي الذي ** كانت عواقبه ندامه ) ( تركي سعيداً ذا النّدى ** والبيت ترفعه
الدّعامه ) ( ليثاً إذا شهد الوغى ** ترك الهوى ومضى أمامه )
____________________
( فتحت سمر قندٌ له **
فبنى بعرصتها خيامه ) ( وتبعت عبد بني علا ** ج تلك أشراط القيامه ) ( جاءت به
حبشيّةٌ ** سكّاء تحسبها نعامه ) ( من نسوة سود الوجو ** هـ ترى عليهنّ الدّمامه )
( وشريت برداً ليتني ** من بعد بردٍ كنت هامه ) ( فالرّيح تبكي شجوها ** والبرق
يلمع في الغمامه ) ( والعبد يقرع بالعصا ** والحرّ تكفيه الملامه ) وقوله : وشريت
برداً البيت استشهد به صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : الذين يشرون الحياة الدّنيا
بالآخرة على أنّ الشراء يأتي بمعنى البيع فهو من الأضداد . و الهامة : أثنى الصّدى
وهو ذكر البوم .
وفي مروج الذهب للمسعوديّ : من العرب من يزعم أنّ النّفس طائر ينبسط في الجسم فإذا
مات الإنسان أو قتل لم يزل يطيف به مستوحشاً يصدح على قبره
____________________
ويزعمون أنّ هذا الطائر
يكون صغيراً ثم يكبر حتّى يكون كضرب من البوم وهو أبداً مستوحش ويوجد في الديار
المعطلّة ومصارع القتلى والقبور وأنّها لم تزل عند ولد الميت ومخلّفه لتعلم ما
يكون بعده فنخبره .
وقال أيضاً في بيعهما : البسيط ( شريت برداً وقد ملّكت صفقته ** لما تطلّبت في
بيعي له رشدا ) ( يا برد ما مسّنا دهرٌ أضرّ بنا ** من قبل هذا ولا بعنا له ولدا )
) ( أمّا أراكه كانت من محارمنا ** عيشاً لذيذاً وكانت جنّة رغدا ) ( لولا
الدّواعي ولولا ما تعرّض لي ** من الحوادث ما فارقتها أبدا ) ثم إنّ ابن مفرّغ علم
أنه إن أقام في الحبس على ذمّ عبّاد لم يزدد إلاّ شرّاً فجعل يقول للناس إذا سئل
عن حبسه : أنا رجلٌ أدّبه أميره ليقيم من أوده . . فلما بلغ ذلك عبّاداً رقّ له
فأطلقه فهرب حتّى أتى البصرة ثم الشام وجعل يتنقل في البلاد ويهجو بني زياد
ويتأسّف على تركه صحبة سعيد فمن ذلك قوله : الخفيف ( إن تركي ندى سعيد بن عثما **
ن فتى الجود ناصري وعديدي ) ( واتّباعي أخا الضّرعة واللّؤ ** م لنقصٌ وفوت شأو
بعيد ) ( قلت واللّيل مطبق بعراه ** ليتني متّ قبل ترك سعيد ) ثم إنّه هجا بني
زياد حتّى ملأ منه البلاد وتغنّى به أهل البصرة فطلبه عبيد الله طلباً شديداً وكتب
إلى معاوية وقيل إلى يزيد إنّ ابن مفرّغ هجا زياداً وبنيه بما هتكه في قبه وفضح
بنيه طول الدهر وتعدّى ذلك إلأى أبي سفيان فقذفه بالزّنى وسبّ ولده وهرب إلى
البصرة وطلبته حتّى لفظته الأرض فلجأ إلى الشام يتمضّغ لحومنا ويهتك أعراضنا وقد
بعثت إليك بما هجانا به لتنتصف لما منه .
____________________
فهرب ابن مفرّغ من الشام إلى البصرة فأجاره المنذر بن الجارود وكانت بنت المنذر
تحت عبيد الله وكان المنذر من أكرم النّاس عليه فاغترّ بذلك فبلغ عبيد الله أن
المنذر قد أجاره فبعث عبيد الله إلى المنذر فلما دخل عليه بعث عبيد الله بالشّرط
فكبسوا داره وأتوه بابن مفرّغ فلما رآه الجارود قام إلى عبيد اللع فقال له :
أذكّرك الله أيها الأمير لا تخفر جواري فإني قد أجرته فقال عبيد الله : يمدحك
ويمدح آباءك وقد هجاني وهجا أبي ثم تجيره عليّ والله لا يكون ذلك أبداً فغضب
المنذر وخرج .
وأقبل عبيد الله على ابن مفرّغ فقال : بئسما صحبت به عبّاداً فقال : بئسما صحبني
عباد اخترته على سعيد وأنفقت على صحبته جميع ما ملكته وظننت أنّه لا يخلو من عقل
زيادٍ وحلم معاوية وسماحة قريش فعدل عن ظنّي كلّه ثم عاملني بكلّ قبيح . من حبس
وغرم وضرب وشتم فكنت كمن شام برقاً خلّباً في سحاب جهامٍ فأراق ماءً طمعاً فمات
عطشاً وما هربت من أخيك إلاّ لما خفت أن يجري فيّ ما يندم عليه وها أنا بين يديك
فاصنع فيّ ما )
شئت فأمر بحبسه وكتب إلأى معاوية أن يأذن له في قتله فكتب إليه : إيّاك وقتله ولكن
تناوله بما ينكله ويشدّ سلطانك عليه ولا تبلغ نفسه فإنّ له عشيرة هم جندي وبطانتي
ولا يرضون بقتله إلاّ بالقود منك فاحذر ذلك واعلم أنّ الجد منّي ومنهم وأنّك
مرتهنٌ بنفسه ولك في دون تلفها مندوحةٌ تشفي من الغيظ .
فلمّا ورد الكتاب أمر بابن مفرّغ فسقي نبيذاً حلواً مخلوطاً بالشبرم والتربد فأسهل
بطنه وطيف به على بعير في أزقّة البصرة وأسواقها وقرن بهرّة وخنزير وجعل يسلح
والصبيان يتبعونه ويصيحون عليه وألّح ما يخرج منه حتّى أضعفه فسقط فقيل لعبيد الله
: إنّا لا نأمن أن يموت .
فأمر به فغسل فلمّا غسل قال : الخفيف
____________________
( يغسل الماء ما فعلت
وقولي ** راسخٌ منك في العظام البوالي ) ثم ردّه إلى الحبس . وقيل لعبيد الله :
كيف اخترت له هذه العقوبة قال : لأنّه سلح علينا فأحببت أن تسلح عليه الخنزيرة
والهرّة .
ثم إن عبيد الله أرسله إلى أخيه بسجستان ووكلّ به رجالاً وكان لّما هرب من عبّاد
هجاه وكتب هجاءه على حيطان الخانات فأمر عبيد الله الموكلين به أن يلزموه بمحو ما
كتبه على الجيطان بأطافيره فكان يفعل ذلك حتّى ذهبت أظافيره فكان يمحو بعظام
أصابعه .
وأمرهم أيضاً أن لا يتركوه يصليّ إلاّ إلى قبلة النّصارى إلى أن يسلموه إلى عبّاد
فحبسه وضيّق عليه فلما طال حبسه استأجر رسولاً إلى دمشق وقال به : إذا كان يوم
الجمعة فقف على درج جامع دمشق ثم أنشد هذه الأبيات بأرفع ما يمنك من صوتٍ وهي :
البسيط ( أبلغ لديك بني قحطان قاطبةً ** عضّت بأير أبيها سادة اليمن ) ( أضحى دعيّ
زيادٍ فقع فرقرةٍ ** يا للعجائب يلهو بابن ذي يزن ) ( قومة ا فقولوا : أمير
المؤمنين لنا ** حقٌ عليك ومنٌّ ليس كالمنن ) ( فاكفف دعيّ زيادٍ عن أكارمنا **
ماذا تزيد على الأحقاد والإحن ) ففعل الرّسول ما أمر به فحميت اليمانية غضبوا له
ودخلوا إلى معاوية فسألوه فيه فدافعهم عنه فقاموا غضاباً والشرّ يلمع في وجوههم
فعرف ذلك معاوية منهم فوهبه لهم ووجّه رجلاً من بني أسد يقال له خمخام بريداً إلى
عبّاد وكتب له عهداً وأمره أن يبدأ بالحبس فيخرج ابن مفرّغٍ منه ويطلقه قبل أن
يعلم عبّاد فيم
____________________
قدم فيغتاله ففعل ذلك فلما
خرج من الحبس قرّبت )
بغلةٌ من بغال البريد فركبها فقال : الطويل ( عدس ما لعبّادعليك إمارةٌ ** أمنت
وهذا تحملين طليق ) وهو من جملة أبيات تأتي إن شاء الله تعالى في الموصول عند
إنشاد هذا البيت هناك فلما دخل على معاوية بكى وقال : ركب منّي ما لم يركب من
مسلمٍ قط على غير حدثٍ في الإسلام ولا خلع يدٍ من طاعة . فقال له : ألست القائل :
( ألا أبلغ معاوية بن حرب ** مغلغلة من الرجل اليماني ) الأبيات المتقدمة . فقال :
لا والذي عظّم حقّك ما قلتها ولقد بلغني أنّ عبد الرحمن بن الحكم قالها ونسبها
إليّ . قال : أفلم تقل كذا وكذا . . وسرد أشعاره ثم قال : اذهب فقد عفوت عن جرمك
فاسكن أيّ أرض شئت . فاختار الموصل ثم ارتاح إلأى البصرة فقدمها فدخل على عبيد
الله فاعتذر إليه وسأله الصّفح والأمان فأمنّه فأقام بها مدّة ثم دخل عليه فقال :
أصلح الله الأمير إني قد ظننت أنّ نفسك لا تطيب لي بخير أبداً ولي أعداءٌ ولا آمن
سعيهم عليّ بالباطل وقد رأيت أن أتباعد . فقال له : إلى أين شئت فقال : كرمان .
فكتب له إلى شريك بن الأعور وهو عليها بجائزة وقطيعة فشخص إليها وأقام بها إلى أن
مات في سنة تسع وستين في طاعون الجارف أيام مصعب بن الزّبير .
هذا ما لّخصته من الأغاني وهو كشذرة من عقد نحر أو قطرة من قاموس بحر .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد المفصّل : الكامل (
يا قرّ إنّ أباك حيّ خويلد ** قد كنت خائفة على الإحماق ) لما تقدّم قبله . وذهب
أبو عليّ في الإيضاح الشّعريّ عند ذكره هذه الشواهد إلى أنّ لفظ حيّ زائد لا غير
وتبعه الزمخشريّ في المفصّل والبيضاوي في اللبّ وتعقبّه شارحه الشيّد عبد الله
بأنّه غير زائد من حيث المعنى فإنّه يفيد نوعاً من تحقير ما أضيف إليه حيّ كأنّه
يقول : هذا شخصٌ ليس سوى أنّه حيّ وشبحٌ ما فيه سوى أنّه حسّاس . انتهى .
ولا يخفى أن هذه النّكتة قاصرة على هذا البيت لا تتمشّى له في غيره . و قرّ بضم
القاف : مرخّم قرّة . و حيّ خويلد : بدلٌ أو عطف بيان من أباك . وجملة قد كنت
خائفه خبر إنّ . و الإحماق : مصدر أحمق الرجل : إذا ولد له ولدٌ أحمق وكذا أحمقت
المرأة وأمّا حمق بدون ألف فهو من الحمق بالضم وهو فسادٌ في العقل وهو من باب تعب
ووصفه حمقٌ بكسر الميم وأما أحمق ففعله حمق بالضمّ والأنثى حمقى . وعلى متعلقة
بخائفه يقال : خفته والمعنى إنّني كنت أرى من أبيك مخايل تدلّ على أنّه يلد ولداً
أحمق وقد تحقّق بولادته إيّاك .
ومثل هذا أبلغ من أن يقول له : أنت أحمق لأنّ ذلك يشعر بتحقّق ذلك فيه أي : كان
معروفاً من أبيك قبل أن يلدك . فهذا أبلغ من دعوى الحمق فيه الآن .
وإدراك مثل هذه المعاني لا يكاد يحصل بالتعبير وإنما هو أمرٌ في الغالب يدرك
بالقوّة التي جعلها الله تعالى في أهل هذا اللسان . كذا فيأمالي ابن الحاجب .
____________________
وهذا البيت نسبه أبو زيد في نوادره إلى جبّار بن سلمى بن مالك قال : وهو جاهليّ .
وأورد بعده : ( وكأنّ حياً قبلكم لم يشربوا ** فيها بأقلبةٍ أجنّ زعاق ) هذا الحيّ
بمعنى القبيلة . و أقلبة جمع قليب بمعنى البئر قال الرياشيّ : هذا يدلّ على تذكير
القليب لأنّه قال أقلبة والجمع قلب ولكن جاء به على رغيف وأرغفه للجمع القليل .
انتهى .
والباء بمعنى من . وأجنّ فعلٌ ماض والنون الأخيرة فاعله تعود على أقلبة لما سكن
لها لام الفعل أدمغت فيها يقال : أجن الماء ياجن بضم الجيم وكسرها . إذا تغيّر .
وضمير فيها للمنيّة .
وضرب القليب مثلاً لها . وقد يكون القليب القبر قاله ابن برّيّ في شرح أبيات إيضاح
)
الفارسيّ . و الزّعاق بضم الزاي بعدها عين مهملة : الماء المرّ الغليظ لا يطاق
شربه من و حبّار بفتح الجيم وتشديد الموحّدة وآخره راء مهملة . وقد أورده الآمديّ
في المؤتلف والمختلف وقال : هو جبّار بن سلمى بن مالك من بني عامر بن صعصعة .
وأنشد له المفضّل في المقطّعات : الوافر ( وما للعين لا تبكي بجيراً ** إذا افترّت
عن الرّمح اليدان )
____________________
( وما للعين لا تبكي
بجيراً ** ولو أني نعيت له بكاني ) وذكر ثلاثة من الشعراء يوافقونه في اسمه أحدهم
: جبّار بن مالك بن حمار بن شمخ بن فزارة .
وثانيهم : جبّار بن عمرو الطّائي قاتل عنترة العبسيّ وهما جاهليّان أيضاً .
وثالثهم : جبّار بن جزء بن ضرار وهو ابن أخي الشّمّاخ وهذا إسلاميٌّ ابن صحابيّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس بعد الثلاثمائة ) الطويل ( إلى الحول ثمّ اسم
السّلام عليكما ** ومن يبك حولاّ كاملاً فقد اعتذر ) على أنّ لفظ اسم مقحم عند بعض
النحاة .
قال ابن جنّي في الخصائص : هذا قول أبي عبيدة وكذلك قال في بسم الله ونحن نحمل
الكلام على أنّ فيه محذوفاً . قال أبو عليّ : وإنّما هو على حدّ حذف المضاف أي :
ثم معنى السلام عليكما واسم معنى السلام هو السلام وكأنه قال : ثمّ السلام عليكما
.
فالمعنى لعمري ما قاله أبو عبيدة لكنّه من غير الطريق التي أتاه هو منها ألا
____________________
تراه هو اعتقد زيادة شيء
واعتقدنا نحن نقصان شيء . انتهى .
وقال ابن السيد البطليوسيّ في تأليف ألّفه في الاسم : تقديره ثمّ مسمّى السّلام
عليكما أي : ثم الشيء المسمّى سلاماً عليكما فالاسم هو المسمّى بعينه وهما
ينواردان على معنى واحد .
وذهب أبو عبيدة إلى أن لفظ اسم هنا مقحم . وعند أبي عليّ فيه مضاف محذوف وتقديره
وردّ عليه الإمام السّهيليّ في كتابه المعتبر فقال : هذا جوابٌ لا يقوم على ساق
ولا يكاد يفهم لما فيه من الاستغلاق . وقد تكلّف في هذا التأليف وتعسّف ومن ألّف
فقد استهدف .
والأحسن أن يقال : لم يرد الشاعر إيقاع التسليم عليها لحينه وإنّما أراده بعد
الحول . فلو قال : ثم )
السّلام عليكما لكان مسلّماً في وقته الذي نطق به في البيت فلما ذكر الاسم الذي هو
عبارة عن اللفظ أي : إنما لفظ بالتسليم بعد الحول وذلك السّلام دعاءٌ فلا يتقيّد
بالزمان المستقبل وإنّما هو لحينه فلا يقال : بعد الجمعة اللهم ارحم زيداً وإنما
يقال : اغفر لي بعد الموت وبعد ظرف للمغفرة والدعاء واقع لحينه .
فإن أردت أن تجعل الوقت ظرفاً للدّعاء صرّحت بلفظ فقلت : بعد الجمعة أدعو بكذا
وألفظه ونحوه لأنّ الظّروف إنّما تقيّد بها الأحداث الواقعة خبراً أو أمرأً أو
نهياً وأما غيرها من المعاني كالعقود والقسم والدّعاء والتمني والاستفهام فإنّها
واقعة لحين النطق بها .
فإذا قال : بعد بعد الحول والله لأخرين فقد انعقد اليمين حين ينطق به ولا ينفعه أن
يقول : أردت أن لا أوقع اليمين إلاّ بعد الحول فإنّه لو أراد ذلك قال : بعد الحول
أحلف أو ألفظ باليمين .
فأمّا الأمر والنهي والخبر فإنّما تقيّدت بالظروف لأنّ الظروف في الحقيقة إنّما
يقع فيها الفعل المأمور به أو المخبر به دون الأمر والخبر فإنّهما واقعان لحين
النطق بهما فإذا قلت : اضرب
____________________
قلو أنّ لبيداً قال : إلى
الحول ثمّ السّلام عليكما كان مسلماً لحينه وقد أراد إنيّ لا ألفظ بالتسليم
والوداع إلاّ بعد الحول ولذا ذكر الاسم الذي هو اللفظ ليكون بعد الحول ظرفاً .
انتهى كلام السهيلي .
والمراد من قوله : ثمّ اسم السّلام عليكما الكناية عن الأمر بترك ما كان أمرهما به
وهو سلام توديع . وأتى بثمّ لأنّها للتراخي والمهلة . وقد تعسّف قومٌ لإخراج الاسم
عن الزيادة بجعل السلام اسم الله تعالى ثم اختلفوا فقال بعضهم : عليكما اسم فعل أي
: الزما اسم الله واتركا ذكري .
وفيه أنّ تقديم اسم العفل لا يجوز إلاّ عند الكسائيّ على أنّ الرواية رفع اسمٍ لا
نصبه .
وقال جماعةٌ منهم شارح اللبّ : إنّ المعنى ثم حفظ الله عليكما كما يقال للشيء
المعجب : اسم الله عليك تعويذاً له من السوء . ففي ذكر الاسم تفخيم وصيانة للمسمّى
عن الذكر .
وقال الشّلوبين في حاشية المفصّل : أجاب بعضهم بأنّ السّلام هنا اسمٌ من أسماء
الله تعالى والسّلام عبارةٌ من التحية وهذا هو الذي أراد ولكنه شرّفه بأن أضافه
إلى الله تعالى لأنّه أبلغ في التحية كأنه يقول : لو وجدت سلاماً أشرف من هذا
لحيّيتكم به ولكنّي لا أجده لأنه اسم السلام . هذا كلامه .
وقال بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل : قوله ثم اسم السلام عليكما أي : حفظ
)
الله عليكما والاسم مقحم وثمّ تستعمل في معنى الترك والإعراض . هذا كلامه ولا يخفى
ما فيه من الخبط الظاهر .
وهذا البيت من أبيات للبيد بن ربيعة بن عامر الصّحابيّ وقد تقدّمت ترجمته في
الشاهد الثاني والعشرين بعد المائة .
روي أنّه لما حضرته الوفاة قال لا بنتيه : ( تمنّى ابنتاي أن يعيش أبوهما ** وها
أنا إلاّ من ربيعة أو مضر ) ( فقوما وقولا بالذي تعلمانه ** ولا تخمشا وجهاً ولا
تحلقا شعر ) ( وقولا : هو المرء الذي لا صديقه ** أضاع ولا خان الخليل ولا غدر )
____________________
إلى الحول ثمّ اسم السّلام
عليكما . . . . . . . . . . . . البيت وبعد وفاته كانتا تلبسان ثيابهما في كلّ يوم
وتأتيان مجلس جعفر بن كلاب قبيلته فترثيانه ولا تعولان فأقامتا على ذلك حولاً
كاملاً ثم انصرفنا .
وقوله : تمنّى ابنتاي هو مضارع وأصله تتمنّى بتاءين . وزعم بعضهم أنّه فعل ماض ولو
كان كما زعم لقال تمنت ولا موجب لحمله على الضرورة .
وقوله : وهل أنا الخ أي : جميع آبائي من ربيعة أو مضر قد ماتوا ولم يسلم أحدٌ منهم
من وقال بعض فضلاء العجم في أبيات المفصّل معناه : وما أنا إلاّ من الكرام الأشراف
ومن كان منهم لا يعيش طويلاً لأنّ الكرام قليلة الأعمار وهذا كلامه وليس هذا معنى
الشعر ويكذّبه أن لبيداً من المعمّرين كما تقدم في ترجمته .
وقوله : فقوما الفاء فصيحةٌ لأنّ المعنى إذا ثبت أني ربيعة أموات كما ماتوا فقوما
بعد موتي للعزاء وقولا في الرثاء ما تعلمانه من الصفات الحميدة وابكيا إن أردتما
ولا تخمشا بأظافير كما ولا تحلقا شعركما .
ويقدّر ابكيا لقوله ولا تخمشا الخ وذلك أنّ خمش الوجه وحلق الشعر لا يكون إلاّ مع
البكاء والبكاء مباح ما لم يكن فيه خمش الوجه وحلق الشعر ولطم خدّ .
وقوله : لا صديقه مفعول مقدم لقوله أضاع ومفعول غذر محذوف وهو ضمير الخليل أو أنّ
غذر منّزل منزلة اللازم أي : لم يحصل منه غدرٌ لأحد .
وقوله : إلى الحول متعلّق بقوله : قوما أي : امتثلا ما قلت لكما إلى الحول وإنّما
قال إلى الحول )
لأنّ الزمان ساعاتٌ وأيامٌ وجمعٌ وشهورٌ وسنون والسّنون هي النهاية فالحول والسنة
مدّة هي نهاية الزمان في التقسيم إلى أجزائه .
ويمكن أن يكون ذلك لما روي في بعض الآثار : أن أرواح الموتى لا تنقطع من التردّد
إلى منازلهم في الدنيا إلى سنة كاملة فكأنّه إنّما أمرهما بما ذكر من الذكر
والدّعاء وغير ذلك ليشاهد ذلك منهما ولذلك قال : ومن يبك جولاً الخ .
وقال بعضهم : إنّما وقّت بالحول لأنّه مدّة عزاء الجاهلية وهذا لا يصحّ هنا لأنه
قائله صحابيّ و اعتذر بمعنى أعذر أي : صار ذا عذر كذا في الصحاح .
____________________
والخطاب في قوله : عليكما
لابنتيه كما تقدّم ومنه يعلم غفلة بعض شرّاح المفصّل في قوله : المعنى بكيت عليكما
أيها الخليلان ثم السلام عليكما يعني تركت البكاء فإنّ من يبكي حولاً فقد مضى حقّ
الخليل .
وعجيبٌ من صاحب الكشف في سورة المؤمن قوله : إنّ لبيداً قال ذلك يرثي أخاه لأمّه
وهو أربد وابن عمه عامر بن الطفيل لما أصابهما ما أصابهما بدعوة من النبي صلّى
الله عليه وسلم . تتمة رأيت في التذكرة الحمدونية أنّ الحسن ابن الحسن بن عليّ رضي
الله عنهم لما مات قامت زوجته بنت الحسين على قبره سنة ثم رفعت الفسطاط وأنشدت :
إلى الحول ثمنّ السّلام عليكما . . . . . . . . . البيت فسمع صوتٌ من جانب القبر :
أهلٌ وجدوا ما طلبوا وسمع من الجانب الآخر : بل يئسوا فانقلبوا .
ومثل هذا ما رواه ان الزّجاجيّ في أماليه الوسطى بسنده عن إسماعيل بن يسار قال :
مات ابنٌ لأرطاة بن سهيّة المرّيّ فلزم قبره حولاً يأتيه بالغداة فيقف عليه فيقول
: أي عمرو هل أنت رائحٌ معي إن أقمت عندك إلى العشيّ ثم يأتيه بالمساء فيقول مثل
ذلك فلما كان بعد الحول أنشأ متمثّلاً : الطويل إلى الحول ثم اسم السّلام عليكما .
. . . . . . . البيت وأنشد بعد هذا أبياتاً جيّدة في هذا الباب رواها الزجّاجيّ .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس بعد الثلاثمائة ) وهو من أبيات المفصّل أيضاً :
الطويل ( تداعين باسم الشّيب في متثلّم ** جوانبه من بصرة وسلام ) لما تقدّم قبله
: من أنّ اسماً مقحمٌ . قال الشّلوبين في حاشيته على المفصّل : ردّ هذا بعض المتأخرين
وقال : لو كان البيت على إقحام الاسم لقال باسم شيب والشاعر إنّما قال باسم الشّيب
بالألف واللام ولفظهما غير موجود في صوت الإبل فإنّما أراد تداعين بصوت يشبه في
اللفظ اسم الشيب أعني جمع أشيب . انتهى .
أقول : وجود أل لا يضرّ فإنّها زيدت في الحكاية لا أنّها من المحكيّ على أنّ
الصّاغانيّ قال في العباب : الشّيب حكاية أصوات مشافر الإبل عند الشرب . وأورد هذا
البيت .
والنون في تداعين ضمير القلص أي : النوق الشوابّ . و المتثلم : بكسر اللام
المشدّدة وهو المتهدّم والمتكسّر أراد الحوض المتثلّم . وجملة جوانبه من بصرة صفة
المتثلّم . و البصرة بفتح الموحدة : حجارة رخوة فيها بياض وقيل تضرب إلى السواد .
و السّلام بكسر السين المهملة : وهذا البيت من قصيدةٍ لذي الرّمّة تقدّم شرح بعضها
مع هذا البيت في الشاهد الثامن في أوائل الكتاب . وقد وصف إبلاً وارداتٍ على حوض
متهدّم فشربن الماء فيقول : دعا بعض الإبل بعضاً إلى الشرب بصوت مشافرها عند شرب
الماء من ذلك الحوض أي : إذا سمع كلٌّ منها صوت تجرّع الماء من الآخر ازداد
رلاغبةً في الشّرب فكان ذلك كأنّه دعاءٌ إلى الشرب .
____________________
وأنشد بعد وهو ( الشاهد السابع بعد الثلاثمائة ) البسيط ( لاينعش الطّرف إلاّ ما
تخونه ** داع يناديه باسم الماء مبغوم ) على أنّ اسماً مقحم . قال ابن الحاجب في
شرح المفصّل : النداء إنّما هو باللفظ فلو حمل الاسم على اللفظ لختلّ المعنى .
والذي يجعل الاسم المسمّى في قوله ثمّ اسم السلام عليكما يجعله من باب ذات يوم
ويتأول قوله باسم الماء على أن المراد بمسمّى هذا اللفظ ويجعله دالاً على قولك ماء
وهو حكاية بغام الظّبية .
ويقوّي ذلك استعماله استعمال رجل وفرس بإدخال اللامعليه وخفضته وإضافته ولولا
تقديره اسماً لذلك لم يجرهذا المجرى . انتهى .
قال ابن جنّي في الخصائص : ذهب أبو عبيدة إلى زيادة الاسم في قوله ثم اسم السلام
عليكما وفي قوله باسم الماء مبغوم ونحن نقول إن فيه محذوفاً أي : اسم معنى السلام
. . . إلى آخر ما نقلناه عنه قبل هذا .
وزيادة الاسم هنا لا تتّجه لأنّ الدّاعي هنا هو الظبية وإنّما دعت ولدها بقولها :
ماء ماء فلو كان على إقحام الاسم لقالت باسم ماء ماء والماء بالألف واللام ليس
إلاّ الماء المشروب فكيف يريد حكاية صوتها ولكنّ الشاعر ألغز حيث أوقع الاشتراك
بين لفظ الماء وصوتها كأنه اللفظ المعبّر به عن الماء المشروب . كذا في حاشية
المفصّل للشّلوبين .
وهذا كلّه مأخوذ من كلام أبي عليّ في إيضاح الشعر قال : فإن قيل إنّ هذا من قبيل
غاق يعني الصوت فكيف ألحق لام التعريف وقال آخر : ونادى بها ماءٍ إذا ثار ثورةً
على القياس فالقول فيه أن قوله باسم الماء إن شئت قلت إنّ تقديره يناديه بالماء
والاسم دخوله وخروجه سواء كقوله : ثمّ ام السلام عليكما . وإ شئت
____________________
جعلت الاسم المسمّى على
الإتباع لمصاحبته له وكثرة الملابسة . وإن شئت قلت : إنّ التقدير يناديه باسم معنى
الماء فحذف المضاف واسم معنى الماء هو الماء فيكون التقدير باسم ماء وتكون أل فيه
زائدة لأنّها لم تلحق هذا القبيل ألا ترى أنّهم لم يلحقوه غاق وصه ونحوه . انتهى
كلامه مختصراً .
والبيت من قصيدة لذي الرّمّة تغزّل فيها بمحبوبته خرقاء ومطلعها : ) ( أأن توهّمت
من خرقاء منزلةً ** ماء الصبّابة من عينيك مسجوم ) وقبل البيت الشاهد : ( كأنّها
أمّ ساجي الطّرف أخذلها ** مستودعٌ خمر الوعساء مرخوم ) ( كأنه بالضّحى يرمى
الصّعيد به ** دبّابةٌ في عظام الرّأس خرطوم ) لا ينعش الطّرف . . . . . . . . . .
. . . . . . . . البيت وقوله : كأنها أي : كأنّ خرقاء أمّ غزال ساجٍ طرفه و
السّاجي : الساكن للحداثة . و أخذلها أي : خلّفها عن قطيعها فأقامت عليه فخذلت هي
بالبناء للمفعول وهي خاذل وهو خاذل . و المستودع فاعل أخذلها وهو اسم مفعول أراد
به الغزال يقول : استودعته أمّه خمر الوعساء خوفاً عليه . و الوعساء : الأرض
الليّنة لا يبلغ تربها أن يكون رملاً . ويقال الوعساء رابيةٌ من رمل .
____________________
و الخمر بفتح الخاء
المعجمة والميم : الشجر الساتر . و مرخوم بالخاء المعجمة أي : محبوب يقال : ألقى
عليه رخمته وإن عليه الرحمة بالتحريك أي : محبّة .
وقوله : كأنّه أي : كأنّ الغزال في وقت الضّحى سكران رماه على الصعيد الخمر . و
الصعيد : الأرض . و الدبّابة : الخمر وإنما شبّه الغزال في ضعفه وغلبة النعاس عليه
وفتور عظامه بالسّكران الذي غلبت عليه الخمر .
وقوله : لا ينعش الطّرف الخ فاعل ينعش ضمير ساجي الطرف وهو الغزال والطرف مفعوله
ونعش كرفع معنى ووزناً ومضارعهما مقتوح العين .
وروي أيضاً : لا يرفع الطّرف : يصفه بكثرة النوم لأنّه يغلب على الطفل لرطوبة
مزاجه . يقول : لا يرفع طرفه ولا جفن عينه من شدّة نعاسه إلاّ أن تأتي إليه أمّه
فيسمع حسّها أو صوتها فعند ذلك ينتعش ويقوم . و التخوّن : التعهد يقال للحمّى :
تتخوّن فلاناً أي : تتعهده وأصل التخوّن التنقصّ ويقال : تخوّنني فلانٌ حقّي إذا
تنقّصك .
قال الجوهريّ : يقول : الغزال ناعس لا يرفع طرفه إلا أن تجيء أمّه وهي المتعهدة له
ويقال : إلاّ ما تنقّصه نومه دعاء أمّه له . وتخوّنه فعل ماض فاعله داعٍ المراد به
أمّه .
وأخطأ المظفريّ في شرح المفصا حيث قال : تخوّنه فعل مضارع حذف منه التاء وداع بدل
من الضمير في تخوّنه وه يالظّبية . انتهى . )
____________________
أشار بهذا إلى أنّه صفة داعٍ بمعنى أنّه يجيبه ولده بماء ماء أيضاً . وقيل هو خير
مبتدأ محذوف أي : دعاؤه مبغوم فلم يذكره اكتفاءً بما في داع من الدعاء ومعناه دعاء
ذلك الداعي بغامٌ غير مفهوم . وقيل فاعل يناديه . وهذان القولان تعسّف . ويناديه
صفة لداع قدم الوصف الجمليّ على الوصف المفرد . وقيل يناديه حال من داعٍ وفيه نظر
لأنّه يلزم الفصل بين الصفة والموصوف .
وقد تقدّمت ترجمة ذي الرّمّة في الشاهد الثامن في اوائل الكتاب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد المفصّل : الوافر (
ذعرت به القطا ونفيت عنه ** مقام الذّئب كالرّجل اللّعين ) على أن لفظ مقام مقحم
وإليه ذهب الزمخشريّ في المفصّل والبيضاويّ في اللبّ قال شارحه السيد عبد الله :
وفيه نظر لأنّه يفيد تأكيد نفي الذئب لأنّه إذا نفى موضع قيامه فقد نفاه قطعاً .
وفي قوله تعالى : ولمن خاف مقام ربّه رعبٌ لا يفيده لو لم يذكر المقام . انتهى .
وهذا هو أجاب به الشارح المحقّق وإليه ذهب صاحب الكشّاف في حم السجدة عند قوله
تعالى : ونأى بجانبه على أنّه يوضع الجانب موضع
____________________
النفس فإنه ينزّل جانب
الشيء ومكانه وجهته منزلة وجهته منزلة نفسه فيقال : حضرة فلان ومجلسه وكتبت إلى
جانبه وجهته والمراد نفسه ومنه مقام الذئب وهو لبذئب نفسه .
وسبقهم إلى هذا ابن قتيبة في أبيات المعاني فإنه قال : مقام الذئب أراد الذئب نفسه
أي : وهذا البيت من قصيدة عدّتها أربعة وثلاثون بيتاً للشمّاخ بن ضرار وقد تقدّمت
ترجمته في الشاهد الحادي والتسعين بعد المائة مدح بها عرابة بن أوس . وليس لذي
الرمة كما زعم العلامة )
الشّيرازيّ في سورة الرحمن وتبعه الفاضل اليمني . وهذا بعد مطلعها : ( وماءٍ قد
وردت لوصل أروى ** عليه الطّير كالورق اللّجين ) ( ذعرت به القطا ونفيت عنه **
مقام الذّئب كالرّجل اللّعين ) إلى أن قال مخاطباً لناقته : ( إذا بلّغتني وحملت
رحلي ** عرابة فاشرقي بدم الوتين ) ( رأيت عرابة الأوسيّ يسمو ** إلى الخيرات
منقطع القرين ) ( أفاد سماحةً وأفاد مجداً ** فليس كجامدٍ لحزٍ ضنين ) ( إذا ما
ريةٌ رفعت لمجدٍ ** تلقّاها عرابة باليمين ) ( فنعم المرتجى ركدت إليه ** رحىً
حيزومها كرحى الطّحين )
____________________
( إذا ضربت على العلات حطت
** إليك حطاط هاديةٍ شنون ) ( توائل من مصكٍِّ أنصبته ** حوالب أسهريّه بالذّنين )
( متى ينل القطاة يرك عليها ** بحنو الرّأس معترض الجبين ) ( طوت أحشاء مرتجةٍ
لوقتٍ ** على مشجٍ سلالته مهين ) إلى أن قال : ( إليك بعثت راحلتي تشكّى ** هزالاً
بعد مقحدها السّمين ) ( إذا بركت على شرفٍ وألقت ** عسيب جرانها كعصا الهجين ) (
إذا الأرطى توسّد أبرديه ** خدود جوازئٍ بالرّمل عين ) ( كأنّ محاز لحييها حصاه **
جنابا جلد أجرب ذي غضون ) وهذا المقدار نصف القصيدة وإنّما سقناه لأن فيه شواهد .
وقوله : وماء قد وردت الخ الواو واو ربّ وجوابها قوله الآتي : ذعرت . و أروى : اسم
المرأة . و اللّجين بفتح اللام وكسر الجيم قال شارح ديوانه هنا : اللجين الذي قد
ركب بعضه بعضاً فتلجّن كما يتلجّن الخطميّ ويتلزج .
ويقال : اللجين : المبلول من الورق وغيره تقول لجنته إذا بللته . انتهى .
وقال أبو عليّ الفارسيّ في الإيضاح الشعريّ : أما الطير فيرتفع بلظرف بلا خلاف
وأما قوله : كالورق اللّجين فإنّه يحتمل ضربين : )
____________________
أحدهما : أن يكون حالاً من الطير والآخر : أن يكون وصفاً للماء تقديره : وماء
كالورق اللجين ومثل قوله : وماء كالورق اللجين في المعنى قول علقمة : الطويل (
فأوردته ماءً حماماً كأنّه ** من الأجن حنّاءٌ معاً وصبيب ) فكما شبّه خثورة الماء
لتقادم عهده بالواردة بالحنّاء كذلك شبّه الشمّاخ بالورق اللجين .
وقوله : عليه الطير على هذا قد حذف منه المضاف . ومثل ذلك قول الهذليّ : المتقارب
( تجيل الحباب بأنفاسها ** وتجلو سبيخ جفال النّسال ) السبيخ : ما نسل من ريش
الطير .
وقال الأعشى : الخفيف ( وقليب أجنٍ كأنّ من الرّ ** يش بأرجائه سقوط نصال ) وإن
جعلت كالورق اللجين حالاً للطير صار فيه ضميره ويكون معنى عليه الطير أنّ الطير
اتخذت فيه الأوكار لخلائه وكثرتها عليه وقلة من يرده فالطير لكثرتها عليه وتكابسها
فيه كالورق اللجين .
ومثل ذلك في المعنى قول الراعي : الوافر ( بدلوٍ غير مكربةٍ أصابت ** حماماً في
جوانبه فطارا ) كأنّه استقى بسقرةٍ فلذلك لم تكن مكربة والطير قد اتخذت فيه
الأوكار للخلاء . فقوله : كالورق اللجين مثل قولك صائداً به وصائد به بعد قولك :
____________________
مررت برجل معه صقر .
فجعلته مرةً حالاً من الهاء في معه وأخرى صفة لرجل . انتهى .
وقال شرّاح أبيات المفصّل : اللجين : الساقط من ورق الشجرعند الضرب بالعصا . قالوا
: المعنى اجتمعت على ذلك الطير شبيهةً بالورق الساقط من الشجر في اصفراره لأنّه في
القفر فلا يرده واردٌ من الناس .
وقوله : ذعرت به القطا الخ يريد أنّه جاء إلى متنكراً . و ذعرت : خوّفت ونفرّت . و
نفيت : طردت وأبعدت . والباء بمعنى في وخصّ الذئب والقطا لأنّ القطا أهدى الطير
والذئب أهدى السباع وهما السابقان إلى الماء .
قال شارح الديوان : أي : ذعرت القطا بذلك الماء ونفيت عن ذلك الماء مقام الذئب أي
: وردت الماء فوجدت الذئب عليه فنحّيته عنه أراد مقام الذئب كالرجل اللعين المنفيّ
المقصى . )
انتهى .
فاللعين على هذا بمعنى الطّريد وهو وصف للرجل وهو ما ذهب إليه ابن قتيبة في أبيات
المعاني قال : اللعين المطرود وهو الذي خلعه أهله لكثرة جناياته . وقال بعض فضلاء
العجم في شرح أبيات المفصّل : اللعين : المطرود الذي يلعنه كلّ أحد ولا يؤويه أي :
هذا الذئب خليعٌ لا مأوى له كالرجل اللعين . وقال صاحب الصحاح : الرجل اللّعين :
شيء ينصب في وسط الزّرع يستطرد به الوحوش . وانشد هذا البيت .
وقد أغرب أبو عبيد البكري في شرح أمالي القالي بقوله : كان الرجل في الجاهلية إذا
غدر وأخفر الذمة جعل له مثالٌ من طين ونصب وقيل : ألا إنّ فلاناً قد غدر فالعنوه
كما قال الشاعر : الكامل ( فلنقتلنّ بخالدٍ سرواتكم ** ولنجعلنّ لظالمٍ تمثالا )
فالرجل اللعين هو هذا التمثال . هذا كلامه . فلينظر على هذا ما معنى البيت .
____________________
وكذلك في قول أبي عبيدة خفاءٌ حيث قال : إنّما يريد مقام الذئب اللعين كالرجل نقله
عنه ابن قتيبة : في أبيات المعاني وأبو عليّ : في المسائل البصرية .
وقوله : إذا بلغتني وحملت رحلي البيت قال المبّرد في الكامل : قد أحسن كلّ الإحسان
في هذا البيت يقول : لست أحتاج إلى أن أرحل إلى غيره . وقد عاب بعض الرواة قوله :
فاشرقي بدم الوتين وقال : كان ينبغي أن ينظر لها مع استغنائه عنها .
وتقدّم نقل ما اعترض الناس عليه في هذا البيت بسوء مكافأته لناقته في الشاهد
الستين بعد المائة .
وقوله : أفاد سماحة الخ قال الجوهريّ : أفدت المال : أعطيته غيري و أفدته :
استفدته . و الجامد بالجيم اليابس كناية عن الشحّ . و اللّحز بفتح اللام وكسر
الحاء المهملة وآخره زاء معجمة هو البخيل الضيّق الخلق و الضّنين : البخيل .
وقوله : تلقّاها عرابة باليمين قال شارح الديوان : اليمين القوّة قال الله تعالى :
لأخذنا منه باليمين . وقال بعضهم : بيمينه لا بشماله . واليمين عندهم أحمد بن
اليسرى .
وقال المبّرد في الكامل : قال أصحاب المعاني : معنلاه بالقوة . وقالوا مثل ذلم في
قوله تعالى : والسّموات مطويّات بيمينه . قال المبّرد : وكان هذا الشعر ارتفاع
عرابة بن أوس . )
وسبب الشعر أنّ عرابة قد من سفر فجمعه والشمّاخ الطريق فتحادثا فقال له عرابة : ما
الذي أقدمك المدينة قال : قدمت لأمتار منها فملأ له عرابة
____________________
رواحله برّاً وتمراً
وأتحفه بغير ذلك فقال الشّماخ هذا الشعر .
وقال معاوية لعرابة بن أوس : بم سدت قومك قال : لست بسيّدهم ولكنّي رجلٌ منهم .
فعزم عليه فقال : أعطيت في نائبتهم وحملت عن سفيههم وشددت على يدي حليمهم فمن فعل
منهم مثل فعلي فهو مثلي ومن قصّر عنه فأنا أفضل منه ومن تجاوزني فهو أفضل منّي .
وقوله : فنعم المرتجى الخ المخصوص بالمدح محذوف أي : عرابة . وركدت إليه أي : بركت
عند عرابة ويقال دام سيرها إليه والراكد : القائم . البعير . والإبل توصف بصغر
الكركرة وشبّه رحى حيزومها برحى الطّحين في الصّلابة لا في العظم فإنه عيب .
وقوله : إذا ضربت على العلاّت الخ يقول : إذا ضربت على ما كان بها من علة حطت إليك
أي : اعتمدت عليك اعتماد هاديةٍ أي : أتان متقدمة . و الشّنون بفتح الشين المعجمة
وضمّ النون بين السمين والمهزول .
وقوله : توائل من مصكّ الخ توائل تفاعل من وأل بمعنى نجا أي : تنجو وتهرب تلك
الأتان من مصكّ أي : حمار شديد بكسر الميم وفتح الصاد المهملة والكاف مشددة . و
أنصبته : من النّصب وهو التعب . و حوالب فاعل أنصبته وهي ما تحلّب وسال من أنفه
وذكره أي : ذكره يذنّ بماء ظهره فهما حوالب أسهريه لشدّة شبقه . و الذّنين بفتح
الذال المعجمة ونونين الشيء الذي يسيل ويجري وقد ذنّ يذنّ ذنيناً إذا سال وجرى .
وقال أبو عبيدة : حوالب أسهريه هما عرقا الذكر اللذان يظهران إذا أنعظ . ويقال
الأسهران : عرقان في أصل القفا يجري فيهما الماء حتّى يبلغ الذكر . ويقال :
اللذنين : الذكر . كذا قال شارح الديوان .
____________________
وقوله : متى ينل القطاة الخ أي : متى ينل الحمار قطاة الأتان وهو موضع الرّدف يرك
ليها أي : يتورّك عليها . و حنو الرأس بكسر المهملة : جانب الرأس . وفوقه : معترض
الجبين أي : جبينه في ناحية من شدّة نشاطه .
وقوله : شجّ بالرّيق أي : غصّ ذلك الحمار بريقه إذ حرمت عليه وذلك أنّها حاملٌ وهي
)
محصنة الفرج يعني الأتان . و الواسقة : الحاملة . و الجنين : الولد في بطنها .
فليس في الأرض أنثى تحمل فتمكن الفحل ما خلا المرأة .
وقوله : طوت أحشاء الخ أي : هذه الأتان ضمّت أحشاء مرتجة أراد رحمها أي : أغلقت
رحمها على ماء الفحل . و المشج بفتح الميم وكسر الشين : ماء الفحل مع الدم وقيل
ماء الفحل والأتان جميعاً يختلطان . و سلالته أي : ماؤه وهو فاعل مشج ويقال :
السلالة الولد وهو الرقيق . و مهين : ضعيف وهو صفة مشج .
كذا قال شارح الديوان . وهذا البيت أورده صاحب الكشّاف عنه قوله تعالى : أمشاجٍ
نبتليه على أنّه يقال : مشجٌ كما يقال أمشاج وكلاهما مفرد .
قال شارح شواهد التفسيرين خضرٌ الموصليّ : يجوز أن يكون سلالته مبتدأ وخبره مهين
وإنما لم تؤنئ إمّا لأنّه فعيل بمعنى مفعول أبو بمعنى فاعل لكنه حمل عليه أو لأنّ
المراد شيء مهين .
وقد غفل عن القوافي مع أنّه أورد القصيدة فإنّها مجرورة فمهين مجرور لا مرفوع حتّى
يصح أن يقع خبر المبتدأ .
والمعنى أنّ هذه الأتان أطبقت رحمها إلى وقت الولادة على النّطفة فلا تمكّن الحمار
منها فهي تهرب منه تهرب منه بأشدّ ما يكون فناقة الشّماخ تشبه هذه الأتان في
الإسراع للتوجّه إلى هذا الممدوح .
وقوله : إليك بعثت الخ المقحد بفتح الميم وسكون القاف وكسر الحاء المهملة :
السّنام .
وقوله : إذا بركت على شرف الخ الشّرف بفتحتين : الموضع العالي . و العسيب هنا :
عظم العنق ويأتي بمعنى عظم الذنب . و الجران
____________________
بكسر الجيم : باطن العنق
وهو الذي يمسّ الأرض عند مدّ عنقه عليها . وشبّه العسيب بعضا الهجين لخفّته وطوله
. وخصّ الهجين لأنّ العبيد كانوا يرعون الإبل ويستجدون العصا . وجواب إذا هو قوله
: كأن محاز لحييها البيت الآتي .
وقوله : إذا الأرطى توسّد الخ هذا البيت من أبيات أدب الكاتب لابن قتيبة . و
الأرطى : شجرٌ من أشجار البادية تدبغ به الجلود وهو مفعول لفعل محذوف أي : إذا
توسّد الأرطى .
وأبرديه بدل اشتمال من الأرطى . ومعنى توسّد أبرديه اتخذهما كالوسادة . والأبردان
الظل والفيء سميّا بذلك لبردهما . والأبردان أيضاً : الغداة والعشي . وخدود فاعل
توسّد .
والجوازئ : الظباء . وبقر الوحش سميّت جوازئ لأنّها اجتزأت بأكل النبت الأخضر عن
الماء )
أي : اكتفت به واستغنت عن شرب الماء . و العين الواسعات العيون جمع عيناء .
والمعنى أنّ الوحوش تتخذ كناسين عن جانبي الشجر تستتر فيهما من حرّ الشّمس فترقد
قبل زوال الشمس في الكناس الغربي فإذا زالت الشمس إلى ناحية المغرب وتحول الظلّ
فصار فيئاً زالت عن الكناس الغربيّ ورقدت في الكناس الشرقيّ .
والمعنى أنه قطع الفلاة في الهاجرة حين تفرّ الوحوش من حرّ الشمس . يمدح نفسه بذلك
ويوجب على الممدوح رعاية حقّه . فقوله : إذا الأرطى ظرف لقوله بعثت في البيت
السابق وليس شرطيّة حتّى يقدّر لها جزاء خلافاً لابن السيد .
وقوله : كأن محاز لحييها الخ هذا جواب إذا الأولى . أخبر أنها تطأطئ رأسها من
الذباب فتلزقه بالحصى فتدفع الحصى بلحييها . فأخبر أنّ تلك الأرض التي دفعت الحصى
عنها كأنها جلد أجرب لم يبق عليه من الوبر إلاّ القليل .
يقول : تقع معيبةً فتمد جرانها فتفحص التراب والحصى فكأن ذلك الفحص جناباً بكسر
الجيم أي : ناحيتا جلدٍ أجرب . وضمير حصاه للرمل .
وقد ذكر أبو الفرج الأصبهانيّ في الأغاني حكايةً مستظرفة لقوله إذا الأرطى توسّد
أبرديه
____________________
عن المدائنيّ أنّ عبد
الملك بن مروان نصب الموائد يطعم الناس فجلس رجلٌ من أهل العراق على بعض الموائد
فنظر إليه خادمٌ لعبد الملك فأنكره فقال : أعراقيٌّ أنت فقال : نعم فقال : بل أنت
جاسوس قال : لا قال : بلى . قال : ويحك دعني أتهنأ طعام أمبر المؤمنين ولا تنغّصه
عليّ . ثمّ إن عبد الملك أقبل يطوف على الموائد فوقف على تلك المائدة فقال : من
القائل : إذا الأرطى توسّد أبرديه وما معناه ومن أجاب فيه أجزناه . فقال العراقيّ
للخادم : أتحبّ أن أشرح لك ذلك قال : نعم فقال هذا البيت يقوله عديّ بن زيد في صفة
البطّيخ الرمسي . فنهض الخادم مسروراً إلأى عبد الملك فأخبره فضحك عبد الملك حتّى
سقط فقال له الخادم : أخطأت يا مولاي أم أصبت فقال : بل أخطأت . فقال : هذا
العراقيّ لقّنني إياه . فقال : أيّ الرجال هو فأراه إياه .
فقال : أأنت لقنته هذا فقال : نعم . فقال : صواباً لقّنته أم خطأ فقال فقال : بل
خطأ .
فقال : ولم قال : لأني كنت متحرماً بمائدتك فقال لي كيت وكيت وأردت أن أكفّه عنّي
)
____________________
وأضحكك منه . فقال له عبد الملك : فكيف الصواب فقال : هذا البيت يقوله الشمّاخ بن
ضرار في صفة البقر الوحشيّة التي جزأت بالرّطب عن الماء فقال : صدقت وأمر له
بجائزة ثم وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع بعد الثلاثمائة ) الطويل ( فقلت انجوا
عنها نجا الجلد إنّه ** سيرضيكما منها سنامٌ وغاربه ) على أنّ الفرّاء يجيز إضافة
الشيء إلى نفسه إذا اختلف اللفظان كما في البيت فإنّ النّجاء والجلد مترادفان وقد
تضايقا .
وهو معنى قول المراديّ في شرح الألفيّة : نجا الجلد من إضافة المؤكّد إلى الكؤكد
قال صاحب الصحاح : النّجا مقصورٌ من قولك : نجوت جلد البعير عنه وأنجيته إذا سلخته
.
قال الشاعر يخاطب ضيفين طرقاة : ( فقلت انجوا عنها نجا الجلد ** إنّه . . . . . .
. . . البيت ) قال الفرّاء : أضاف النّجا إلى الجلد لأنّ العرب تضيف الشيء إلى
نفسه إذا اختلف اللفظان كقولك : عين اليقين ولدار الآخرة . والجلد نجاً مقصور
أيضاً . انتهى .
وقال القالي في المقصور والممدود : والنّجا ما سلخته عن الشاة والبعير يكتب بالألف
لأنّه من نجا ينجو . وأنشد هذا البيت عن الفرّاء عن أبي الجرّاح . فيكون أصله نجو
بالتحريك قلبت الواو ألفاً لتحرّكها وانفتاح ما قبلها .
قال الزّجاجيّ في تفسيره عند قوله تعالى : لا خير في كثير من نجواهم : معنى
النّجوى في الكلام ما تنفرد به الجماعة أو الاثنان سرّاً كان أو ظاهراً ومعنى نجوت
الشيء في اللغة خلّصته وألقيته يقال نجوت الجلد : إذا ألقيته عن البعير وغيره
وأنشد هذا البيت .
____________________
وقال أبو القاسم عليّ بن حمزة البصريّ في التنبيهات على أغلاط الرواة : لا يقال في
الإبل سلخت وإنّما يقال فيها خاصّة نجوت وجلّدت .
قال أبو زيا : نجوت جلد البعير وجلّدت البعير تجليداً ولا تقول سلخت إلاّ لعنقه
فإنهم يقولون ذلك فيه دون سائر الجسد .
وقال ابن السيرافيّ في شرح أبيات إصلاح المنطق : يريد قشّرا عنها لحمها وشحمها كما
يقشّر )
الجلد فإنها سمينة . وغاربها : ما بين السّنام والعنق .
ويؤخذ من هذا التفسير أن النجا هنا اسم مصدر بمعنى النجو منصوبٌ على أنّه مفعول
مطلق وليس اسماً للجلد . فلا يكون كما قاله الفرّاء . فتأمّل .
ورأيت في حاشية الصحاح لابن بريّ نسبة هذا البيت لعيد الرحمن بن حسّان بن ثابت
ونقل العينيّ عن العباب للصاغاني أنّه لأبي الغمر الكلابيّ وقد نزل عنده ضيفان
فنحر لهما ناقةً فقالا : إنّها مهزولة . فقال : معتذراً لهما : فقلت انجوا الخ .
قال : وقبله بيتان آخران وهما : ( وردت وأهلي بين قوّ وفردةٍ ** على مجزر تأوى
إليه ثعالبه ) ( فصادفت خيري كاهلٍ فاجآ بها ** يشفّان لحماً بان منه أطايبه ) وقد
فتشت العباب فلم أظفر فيه بشيء مما قاله والله أعلم بحقيقة الحال . وقوّ بفتح
القاف وتشديد الواو هو وادٍ بالعقيق عقيق بني عقيل . وفردة بفتح الفاء وسكون الراء
بعدها دال ماءٌ من مياه نجدٍ لجرم . كذا في معجم البكريّ . و مجزر بكسر الزاي موضع
الجزر . و كاهل : أبو قبيلة وهو كاهل بن أسد بن خزيمة . و فاجأ : أي أتى بغتة . و
يشفّان : من شفّه الهمّ يشفّه
____________________
بالضم أي : هزله أي :
اللحم الذي ظهر منه أطايبه قالا إنه مهزول .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد العاشر بعد الثلاثمائة ) : الخفيف ( ملكٌ أضلع البريّة لا
يو ** جد فيها لما لديه كفاء ) على أنّ إضافة أفعل التفضيل عند أبي بكر بن السرّاج
ومن تبعه لفظّية لا تفيد تعريفاً بدليل هذا البيت فإنّ أضلع البريّة وقع نعتاً
لملك وهو نكرة فلو كانت تفيد التعريف لما صحّ وقوعه نعتاً لنكرة .
قال أبو عليّ في التذكرة القصرّية : قال أبو بكر في أفعل الناس نحو أشرف الناس
وأفضل القوم : إنّ هذه الإضافة في تقدير الانفصال لأنّ ما تضيفه من هذا القبيل
ينبغي أن يكون بعض ما يضاف إليه بدلالة امتناع زيد أفضل الحمير فيجب أن يقدّر
الانفصال وإلاّ لم يجز لئلا تضيف الشيء إلى نفسه .
فإن قلت : فإنّ ما يقدّر فيه الانفصال نجد فيه معنى الفعل نحو ضارب وليس في أفعل
معنى الفعل قيل : هذا وإنّ قصّر عن فاعل فإن فيه معنى الفعل لنصبه الظرف في بيت
أوس : أحوج ساعةً ووصوله تارةً بالحرف وأخرى بنفسه نحو أعلم بمن و أعلم من وهذا
مما يختصّ بالفعل .
فإن قلت : إذا قدّرت فيه الانفصال اقتصرت به على النكرة كضارب زيد .
____________________
قال : فتبارك الله أحسن
الخالقين . فالجواب عندي نعم وذلك قوله : ملك أضلع البريّة البيت . وأما قوله :
أحسن الخالقين فيكون مقطوعاً أي : هو أحسن الخالقين لأنّه موضع ثناء . انتهى .
وهذا البيت من معلّقة الحارث بن حلّزة وهي سابعة المعلّقات السبعة وقد تقدّم جانب
منها مع ترجمته في الشاهد الثامن والأربعين وقطعة في الشاهد الثامن والثلاثين بعد
المائتين ونقلنا في الموضعين سبب نظمه لهذه المعلقة وفي الشاهد الثامن والثمانين
بعد المائة أيضاً .
وقبل البيت الشاهد : ( فملكنا بذلك النّاس حتّى ** ملك المنذر بن ماء السّماء ) (
وهو الرّبّ والشّهيد على يو ** م الحيارين والبلاء بلاء ) ملكٌ أضلع البريّة . . .
. . . . . . . . البيت
____________________
وقوله : فملكنا بذلك في
هذا البيت إقواء فإنّه مجرور القافية . وقيل هذا البيت منحول إليه )
ليس من القصيدة .
وقوله : بذلك يعني بالعزّ والامتناع وبالحروب التي كان الغلب لنا فيها دللّنا
الناس حتّى ملك المنذر بن ماء السماء .
وقوله : وهو الربّ الخ الربّ عنى به المنذر بن ماء السماء . و الربّ في هذا الموضع
: السيد . و الشهيد الحاضر . و الحياران : بلدٌ وهو بكسر الحاء المهملة بعدها
مثّناة تحتيّة . يخبر أنّ المنذر كان شهد يوم الحيارين . فإنّ المنذر غزا أهل
الحيارين ومعه بنو يشكر فأبلوا بلاءً حسناً وكان البلاء في ذلك اليوم بلاء عظيماً
.
وقوله : ملك أضلع الخ خبرٌ آخر لقوله هو فيكون مشاركاً للرب ف يالخبريّة فإنّ
الأخبار يجوز أن يأتي بعضها بالعطف وبعضها بدونه كما هنا . و أضلع البريّة أي :
أشدّ البرية إضطلاعا لما يحمّل أي : هو أحمل الناس لما يحمل من أمر ونهي وعطاء
وغير ذلك .
وقوله : لا يوجد فيها الخ معناه ليس في البرية أحدٌ يكافئه ولا يستطيع أن يصنع مثل
ما يصنع من الخير . و الكفاء بالكسر : المثل والنظير يقال : فلان كفاءٌ لفلان أي :
كفءٌ له ونظير .
وروي : ملك أضرع البريّة على أنّه فعل ماض أي : أذلّ البرية زقهرها فما يوجد فيهم
من يساويه في معاليه وحينئذ لا شاهد في البيت .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي عشر بعد الثلاثمائة ) الطويل
____________________
( ولم أر قوماً مثلنا خير
قومهم ** أقلّ به منّا على قومهم فخرا ) لما تقدّم قبله فإنّه وصف النكرة وهي
قوماً بخير وهو بمعنى التفضيل ولو كانت الإضافة معنوية للتعريف لما وقع صفة للنكرة
.
قال الشّلوبين في حاشية المفصّل : هذا إذا جعلت خيراً للتفضيل فإنّ جعلت خيراً
فيهما من الخير الذي هو ضدّ الشرّ لم يكن من هذا الباب .
وجوّز شرّاح الحماسة أن يكون خير قومهم بدلاً أيضاً من قوما لكن قال ابن جنّي في
إعراب الحماسة : في هذا البيت شاهدٌ لجواز : مررت برجل أكرم أصحابه على أصحابه على
الصّفة لأنّها هنا أظهر من البدل والهاء في به ضمير الخير الذي دلّ عليه قوله : خي
قومهم وليس الثاني هو الأوّل لأنّ خيراً الأوّل صفة والثاني المقدّر مصدر كقولك :
أنا أوثر الخير وأكره الشر فدلّت الصفة على المصدر . ( إذا نهي السّفيه جرى إليه
** وخالف والسّفيه إلى خلاف ) انتهى وقوله : أقل بالنصب مفعول ثان لقوله : لم أر .
وفخراً تمييز . وتقدير البيت : لم أر خير قومٍ مثلنا أقلّ بذلك فخراً منّا على
قومنا .
والمعنى إنّا لا نبغي على قومنا ولا نتكبّر عليهم بل نعدّهم أمثالنا ونظراءنا
فنباسطهم ونوازنهم قولاً بقول وفعلاً بفعل .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثةٍ مذكورة في الحماسة لكن جميع النسخ والشروح
____________________
تجتمع على إسقاط الواو من
قوله : ولم أر قوماً على أنه مخروم . والبيتان اللذان بعدهما : ( وما تزدهينا
الكبرياء عليهم ** إذا كلّمونا أن نكلّمهم نزرا ) ( ونحن بنو ماء السّماء فلا نرى
** لأنفسنا من دون مملكةٍ قصرا ) زهاه وأزهاه بمعنى تكبّر و الزّهو : الكبر والفخر
. و نزراً أي : قليلاً وهو مفعول مطلق أي : كلاماً قليلاً والمعنى لا يستخفنا
الكبر إلى أن نتعلّى عليهم ونقلّل الكلام معهم ترفعاً عن مساواتهم بل نباسطهم
ونكاشرهم في القول والسؤال إيناساً لهم وتسكيناً منهم . )
قال بعض الأنصار : الوافر ( أنا ابن مزيقيا عمرو وجدّي ** أبوه عامرٌ ماء السّماء
) وماء السماء أيضاً : لقب أمّ المنذر بن امرئ القيس بن عمرو بن عديّ بن ربيعة بن
نصر اللّخميّ . وهي ابنة عوف بن جشم من النّمر بن قاسط . وسمّيت بذلك لجمالها وقيل
لولدها بنو ماء السماء وهم ملوك العراق .
وقال زهير بن جناب : الوافر ( ولازمت الملوك من أل نصرٍ ** وبعدهم بني ماء السّماء
) انتهى
____________________
فالظاهر أنّ المراد هنا هو
الأوّل لأنّ قائل الأبيات أنصاري وهو زيادة بن زيد الحارثي من بني الحارث بن سعد
أخو عذرة .
وقال أبو رياش : هو زيادة بن زيد من سعد هذيم بن ليث بن سود بن أسلم بن الحاف بن و
زيادة شاعر إسلاميّ في الدولة الأموية قتله ابن عمه هدبة بن خشرم . ويأتي إن شاء
الله سبب قتله عند ذكر هدبة .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني عشر بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد س : الوافر (
فأيّي ما وأيّك كان شراً ** فقيد إلى المقامة لا يراها ) على أن هذا ضرورة والقياس
المستعمل : فأيّناكان شرّاً من صاحبه . و ما زائدة للتوكيد و أيّي مبتدأ و أيّك
معطوف عليه واسم كان ضمير أي : أيّنا و شرّاً خبره والجملة خبر المبتدأ و قيد
مجهول قاد الأعمى . وجيء بالفاء لأنّه دعاء فهو كالأمر .
____________________
و المقامة بضم الميم
وفتحها : المجلس وجملة لا يراها حالٌ من ضمير قيد . يدعو على الشرّ منهما أي : من
كان منّا شرّاً أعماه الله في الدّنيا فلا يبصر حتى يقاد إلى مجلسه .
وقال شارح اللباب : أي : قيد إلى مواضع إقامة الناس وجمعهم في العرصات لا يراها أي
: قيد أعمى لا يرى المقامة . انتهى .
وحمل الدّعاء على الآخرة لا على الدنيا غير جيّد . وهذا من المعاملة بالإنصاف .
وهذا البيت من جملة أبياتٍ للعبّاس بن مرداس السّلميّ قالها لخفاف بن ندبة في أمرٍ
شجر ( ألا من مبلغٌ عنّي خفافاً ** ألو كاً بيت أهلك منتهاها ) ( أنا الرّجل الذي
حدّثت عنه ** إذا الخفرت لن تستر براها ) ( أشدّ على الكتيبة لا أبالي ** أفيها
كان حتفي أم سواها ) ( فأيّي ما وأيّك كان شرّاً ** فقيد إلى المقامة لا يراها ) (
ولا ولدت له أبداً حصانٌ ** وخالف ما يريد إذا بغاها ) ( ولي نفسٌ تتوق إلى
المعالي ** ستتلف أو أبلّغها مناها ) وخفاف بضم الخاء المعجمة وتخفيف الفاء كغراب
واشتهر بالإضافة إلى أمه وهي ندبة بفتح النون وسكون الدال بعدها باء موحّدة . وهو
من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كالعبّاس بن مرداس .
____________________
وتقدّمت ترجمة العبّاس في الشاهد السابع عشر من أوائل الكتاب أما ترجمة خفاف بن
ندبة فستأتي إن شاء الله تعالى في باب اسم الإشارة . و ألوك بفتح الهمزة وضم اللام
: الرسالة ومنها الملائكة . و حدّثت بالبناء للمفعول والخطاب . و الخفرات : النساء
الحيّيات بفتح الخاء وكسر الفاء والفعل من باب تعب . و البرا : جمعه بره )
بضم الباء الموحّدة فيهما وهي كلّ حلقة من سوار وقرط وخلخال والمراد هنا الأخير .
وعدم ستر الخلاخيل للنساء إنّما يكون عند هروبهن من السبيّ والنهب . و إذا ظرف
إمّا لقوله حدّثت أو لقوله أشدّ على الكتيبة . ومثل هذا يسمى التجاذب .
وقوله : أشد على الكتيبة وقيل : لم يقل في الشجاعة أبلغ من هذا البيت . و الكتيبة
: الجيش . و الحتف : الهلاك . وقوله : فقيد إلى المقامة روي أيضاً : فسيق إلى
المقامة من السّوق .
وقوله : ولاولذت له الخ هذا دعاءٌ عليه بقطع نسله و الخصان بالفتح : المرأة
العفيفة . و تتوق تاقت نفسه إلى الشيء اشتاقته ونازعت إليه وتلف الشيء من باب فرح
إذا هلك .
وأنشده بعده وهو ( الشاهد الثالث عشر بعد الثلاثمائة ) الرجز ( أظلمي وأظلمه ) على
أنّه ضرورة والقياس أظلمنا . وهو قطعة من رجز رواه أبو علي في إيضاح الشعر عن أحمد
بن يحيى الشهير بثعلب وهو :
____________________
( يا ربّ موسى أظلمي
وأظلمه ** فاصبب عليه ملكاً لا يرحمه ) قال : معناه أظلمنا كقوله : أخزى الله
الكاذب منّي ومنه أي : منّا فالمعنى أظلمنا فاصبب عليه . وهذا يدلّ على جواز
ارتفاع زيد بالابتداء في نحو زيد فاضربه إن جعلت الفاء زائدة على ما يراه أبو الحسن
.
فإن قلت : أضمر المبتدأ كما أضمرت في قولك : خولان فانكح فتاتهم فإن ذلك لا يسهل
لأنّه للمتكلم فكما لا يتّجه : هذا أنا على إرادة إشارة المتكلم إلأى نفسه من غير
أن ينزله منزلة الغائب كذلك لا يحسن إضمار هذا هنا .
فإن قلت : إن أظلمنا على لفظ الغيبة فليس مثل هذا أنا فإنه وإن كان كذلك فالمراد
به بعض المتكلمين ولا يمنع ذلك ألا ترى أنهم قالوا يا تميم كلّهم فحملوه على
الغيبة لما كان اللفظ له وإن كان المراد به المخاطب . وإن جعلت المضمر في علمك
كأنك قلت قد أظلمنا في عهلمك كان مستقيماً . انتهى . )
ورواه ابن عقيل في شرح التسهيل هكذا : سلّط عليه ملكاً لا يرحمه و ربّ منادى مضاف
إلى موسى وضمير أظلمه الغائب راجع إلى موسى هذا وهو خصم صاحب هذا الرجز .
وكلام أبي علي مبنيّ على رفع أظلمي واظلمه بالابتداء والخبر الجملة الدهائية ويجوز
نصبهما على الاشتغال .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع عشر بعد الثلاثمائة ) الطويل
____________________
( فهل لكم فيها إليّ
فإنّني ** طبيب بما أعيا النّطاسيّ حذيما ) على أن فيه حذف مضاف أي : ابن حذيم
فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه لأنه علم أنه العالم بالطبّ والمشهور به لا
حذيم فإنّه ورد في الأمثال : أطبّ من ابن حذيم .
قال الزمخشريّ في المستقصى : هو رجلٌ كان من أطباء العرب . وأنشد هذا البيت وقال :
أراد ابن حذيم . انتهى .
قال أبو الندى : ابن حذيم رجلٌ من تيم الرّباب كان أطبّ العرب وكان أطبّ من الحارث
بن كلدة .
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن على
أنّ التسمية واقعةٌ على المضاف والمضاف إليه جميعاً .
وأمّا ما يرد من نحو قوله عليه الصلاة والسلام : من صام رمضان إيماناً واحتساباً
غفر له وتقدّم وقد خالف كلامه هنا في المفصّل فإنه قال فيه : إذا أمنوا الإلباس حذفوا
المضاف . وقد جاء اللّبس في الشعر قال ذو الرّمّة : الطويل ( عشيّة فرّ الحارثيّون
بعدما ** قضى نحبه في ملتقى القوم هوير ) وقال : بما أعيا النّطاسيّ حذيما
____________________
أي : ابن هوبر وابن حذيم .
وهو في قوله هذا تابعٌ لأبي علي في إيضاح الشعر فإنه قال : قد )
جاء في الشعر أبياتٌ فيها حذف مضاف مع أنّه يؤديّ حذفه إلى الإلباس مثل بما ذكر
وبقوله : الكامل ( أرضٌ تخيّرها لطيب مقليها ** كعب بن مامة وابن أمّ داود ) هو
أبو الشاعر واسمه جارية والتقدير ابن أمّ أبي داود فحذف الأب . والصواب ما في
الكشّاف من أنّه لا إلباس فيه فإنّ الإلباس وعدمه إنّما يكون بالنسبة إلأى المخاطب
الذي يلقي المتكلّم كلامه إليه لا بالنسبة إلى أمثالنا فإنه وإن كان عندنا من قبيل
الإلباس مفهومٌ واضح عند المخاطب به في ذلك العصر .
ويؤيّد ما ذكرنا قول ابن جنّي في الخصائص : ألا ترى أنّ الشاعر لما فهم عنه ما
أراد بقوله قال ( صبّحن من كاظمة الخصّ الخرب ** يحملن عبّاس بن عبد المطّلب )
وإنّما أراد عبد الله بن عبّاس . ولو يكن على الثقة بفهم ذلك لم يجد بدّاً من
البيان . وعلى ذلك قول الآخر : طبيبٌ بمتا أعيا النّطاسيّ حذيما أراد : ابن حذيم .
انتهى .
زحذف الصلتان العبديّ أكثر من هذا في محاكمته بين جرير والفرزدق في قوله : الطويل
أرى الخطفى بذّ الفرزدق شعره ولكنّ خيراً من كلابٍ مجاشع
____________________
فإنه أراد : أرى جرير بن
عطيّة بن الخطفى . وجاز هذا لكونه معلوماً عند المخاطب .
وقد أنكر الخوارزميّ كون هذا من باب الحذف قال : إنّما هو من باب تعدّي اللقب من
الأب إلى الابن كما في قوله : الطويل كراجي النّدى والعرف عند المذلّق أي : ابن
المذلّق . هذا وقد قال يعقوب بن السكّيت في شرح هذا البيت من ديوان أوس بن حجر :
حذيم رجلٌ من تيم الرّباب وكان متطّبباً عالماً . هذا كلامه فعنده أنّ الطبيب هو
حذيم لا ابن حذيم . وتبعه على هذا صاحب القاموس فلا حذف فيه ولا شاهد على ما وذها
البيت من أبيات لأوس بن حجر قالها لبني الحارث بن سدوس بن شيبان وهم أهل القرية
باليمامة حيث اقتسموا معزاه . وقيل اقتسمها بنو حنيفة وبنو سحيم وكان أوس بن حجر
أغرى عليهم عمرو بن المنذر بن ماء السماء ثم جاور فيهم فاقتسموه معزاه . )
وهذا مطلعها : ( فإن يأتكم منّي هجاءٌ فإنّما ** حباكم به منّي جميل بن أرقما ) ثم
بعد أربعة أبيات : فهل لكم فيها إليّ فإنّني . . . . . . . . . . . . البيت
____________________
( فأخرجكم من ثوب شمطاء
عاركٍ ** مشهّرةٍ بلّت أسافله دما ) ( ولو كان جارٌ منكم في عشيرتي ** إذاً لرأوا
للجار حقّاً ومحرما ) ( ولو كان حولي من تميم عصابةٌ ** لما كان مالي فيكم متقسّما
) ( ألا تتقون الله إذ تعلفونها ** رضيخ النّوى والعضّ حولاً مجرّما ) ( وأعجبكم
فيها أغرّ مسهّرٌ ** تلادٌ إذ نام الرّبيض تغمغما ) وهذا آخر الأبيات . قوله :
فإنّما حباكم الخ حباكم به أي : وصلكم بالهجاء .
وقوله : فهل لكم فيها الخ قال المفضّل بن سلمة في الفاخر وابن الأنباريّ في الزاهر
: وروى ابن السكّيت : فإنّني بصير بدل طبيب . و البصير : العلم وقد بصر بالضم
بصارة والتبصّر : التأمّل والتعرّف . وأعياه الشيء نتعدّي عييت بأمري إذا لم تهتد
لوجهه . و النّطاسيّ مفعوله و حذيم بدل من النطاسي . وفاعل أعيا ضمير ما الموصولة
الواقعة على الداء . أي : إنّني طبيبٌ حاذق بالداء الذي أعجز الأطباء في مداواته
وعلاجه . و النّطاسيّ بكسر النون قال ابن السكيت : العالم الشديد النظر في الأمور
.
قال أبو عبيد : ويروى : النّطاسيّ بفتح النون . قال الجوهريّ : التنطّس المبالغة
في التطّهر وكلّ من أدقّ النظر في الأمور واستقصى علمها فهو متنطّس . ومنه قيل
للمتطّبب نطّيس كفسيق ونطاسيّ بكسر النون وفتحها .
وقوله : فهل لكم بضمّ الميم وهو خبر مبتدأ محذوف أي : هل لكم ميل . وقوله : فيها
الضمير للمعزى . وفيه حذف مضاف أي : فهل لكم ميلٌ في ردّ المعزى إليّ .
وقوله : فأخرجكم من ثوب شمطاء الخ الشمطاء : المرأة التي في رأسها شمط بالتحريك
وهو بياض شعر الرأس يخالطه سواد والرجل أشمط . و العارك : الحائض . و مشّهرة : اسم
مفعول من شهّرته تشهيراً والشهّرة :
____________________
وضوح الأمر يقول : هل لكم
في ردّ معزاي فأخرجكم من سبّةٍ شنعاء تلطخ أعراضكم وتدنّسها كما تدنس الحائض ثوبها
بالدم فأغسلها عنكم . وهذا )
وقد خبط جميع من تكلم على هذا الشاهد حيث لم ير السّياق والسّباق فقال شارح شواهد
التفسيرين : المعنى هل لكم علمٌ بحالي منكم فإنّني بصيرٌ بما أعجز الطبيب المشهور
.
وقال المظفّري في شرح المفصّل : أي هل لكم طريقٌ في مداواة ما بي فإنّي أرى من
الداء ما أعيا الطبيب عن مداواته .
وقد قارب بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل بقوله : والمعنى هل لكم في هذه
الحادثة حاجةٌ إليّ لأشفيكم برأي فيها فإنّني طبيبٌ عالم بالذي عجز عنه هذا الحاذق
العالم بالطب ولم يهتد إليه .
وقوله : ألآ تتقون الله الخ يقول : لولا أنّك سرقتها لأيّ شيء تعلفها يقول :
فردّها ولا تعلفها . و الرضيح بالضاد والخاء المعجمتين : المدقوق رضحت الحصا
والنوى كسّرته . و العضّ بضم العين المهملة وتشديد الضاد المعجمة قال ابن السكيت :
هو القتّ وقال الجوهريّ : علف أهل الأمصار مثل الكسب والنّوى المرضوح . و المجرّم
بالجيم على وزن اسم المفعول : التام والكامل .
وقوله : وأعجبكم فيها أغرّ الخ قال ابن السكيت الأغرّ : الأبيض . و التلاد :
القديم من المال . و الرّبيض هاهنا الغنم . وقوله : تغمغما يعني هذا الأغر
والغمغمة هبابه أي : لا ينام تتمة قال ابن الأثير في المرصّع : ابن حذيم شاعر في
قديم الدهر يقال إنّه كان
____________________
طبيباً حاذقاً يضرب به
المثل في الطبّ فيقال : أطبّ بالكيّ من ابن حذيم وسمّاه أوسٌ حذيماً يعني أنّه حذف
لفظ ابن فقال : عليمٌ بما أعيا النطاسيّ حذيماً ويقال ابن حذام أيضاً وإنّه أوّل
من بكى من الشعراء في الديار وهو الذي سمّاه امرؤ القيس في قوله : الكامل ( عوجا
على الطّلل المحيل لعلّنا ** نبكي الدّيار كما بكى ابن حذام ) وابن خذام بالخاء
المعجمة أشهر وقيل هما اثنان . وقال في الخاء المعجمة : ابن خذام هو المذكور في
حرف الحاء على اختلاف الروايتين فمنهم من جعله إيّاه ومنهم من جعلهمااثنين .
ويقال : إن هذا البيت الذي في قصيدة امرئ القيس له وهو : الطويل ) ( كأنّي غداة
البين حين تحمّلوا ** لدى سمرات الحيّ ناقف حنظل ) ويقال : للخمّار ابن خذام .
وخذام من أسماء الخمر . هذا كلامه .
أقول : جميع من ذكر ابن حذام الشاعر لم يقل إنه هو ابن حذيم الطبيب . وقد اختلف في
ضبط اسمه فالذي رواه الآمدي ابن خذام بمعجمتين قال : من يقال له ابن خذام منهم ابن
خذام الذي ذكره امرؤ القيس في شعره وهو أحد من بكى الديار قبل امرئ القيس ودرس
شعره .
قال امرؤ القيس : ( عوجا على الطّلل المحيل لأنّنا ** نبكي الدّيار كما بكة ابن
خذام )
____________________
قوله : لأنّنا يريد لعلّنا
ذكر ذلك أبو عبيدة وقال : قال لنا أبو الوثيق مّمن ابن خذام فقلنا : ما نعرفه .
فقال : رجوت أن يكن علمه بالأمصار فقلنا : ما سمعنا به فقال : بلى قد ذكره امرؤ
القيس وبكى على الديار قبله فقال : كأنّي غداة البين يوم تحمّلوا . . . . . . . .
. البيت انتهى وقال ابن رشيق في العمدة : الذي أعرف أن ابن خذام بذال معجمة وحاء
غير معجمة كما روى الجاحظ وغيره . انتهى .
وضبطه بعضهم ابن حمام بحاء مهملو مضمومة بعدها ميم غير مشدّدة واسمه امرؤ القيس .
قال الآمدي عند ذكر المسمّين بامرئ القيس ومنهم امرؤ القيس بن حمام ثم ذكر نسبه
وقال : والذي أدركه الرواة من شعره قليل جداً . وكان امرؤ القيس هارباً فقال مهلهل
: الكامل في قصّة مذكورة في أخبار زهير بن جناب . وبهذا البيت قيل لمهلهل مهلهل .
وبعض الرواة يروي بيت امرئ القيس بن حجر : ( عوجا على الطّلل المحيل لعلّنا **
نبكي الدّيار كما بكى ابن حمام ) يعني امرأ القيس هذا ويروي ابن خذام . انتهى .
ومثله للعسكريّ في كتاب التصحيف قال : ومنهم امرؤ القيس بن حمام
____________________
ابن عبيدة بن هبل بن أخي
زهير بن جناب بن هبل . ويزعم بعضهم أنّه الذي عنى امرؤ القيس بقوله : نبكي الديار
كما بكى ابن خذام وكان يغزو مع مهلهل وإياه أراد مهلهلٌ بقوله : )
لما توغّل في الكلاب هجينهم . . . . . . . . . . البيت فالهجين هو امرؤ القيس بن
حمام . وجابر وصنبل : رجلان من بني تغلب . انتهى .
قال ابن رشيق في العمدة : ويروى : لّما توفّل في الكراع شريدهم قال السكريّ : يعني
بالهجين امرأ القيس بن حمام وكان مهلهل تبعه يوم الكلاب ففاته ابن حمام بعد أن
تناوله مهلهلٌ بالرمح وكان ابن حمام أغار على بني تغلب مع زهير بن جناب فقتل
جابراً هذا ما اطلعت عليه . وقول امرئ القيس بن حجر : عوجا على الطّلل المحيل
البيت هو من قصيدة له استشهد به صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : وما يشعركم أنّها
إذا جاءت لا يؤمنون بفتح الهمزة في قراءة أهل المدينة بمعنى لعلّ كما أنّ لأنّنا
في البيت بمعنى لعلّنا .
قال ابن رشيق في الهمدة : يروى في البيت لأنّنا بمعنى لعلّنا وهي لغة امرئ القيس
فيما زعم بعض المؤلفين والذي كنت أعرف : لعنّنا بالعين ونونين . و المحيل : الذي
أتى عليه الحول . وعوجا أمر من عجت البعير أعوجه عوجاً ومعاجاً : إذا عطفت رأسه
بالزمام .
____________________
و أوس بن حجر بفتح الحاء
المهملة والجيم شاعر من شعراء تميم في الجاهلية . وفي أسماء نسبه اختلاف فلذا
تركنا نسبه .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : كان أوسٌ فحل مضر حتّى نشأ النابغة وزهيرٌ
فأحملاه .
وقيل لعمرو بن معاذٍ وكان بصيراً بالشعر : من أشعر الناس فقال : أوس قيل : ثم من
قال : أبو ذؤيب .
وكان أوسٌ عاقلاً في شعره كثير الوصف لمكارم الأخلاق وهو من اوصفهم للحمير والسلاح
زلا سيّما للقوس وسبق إلى دقيق المعاني وإلى أمثال كثيرة . انتهى .
وقال صاحب الأغاني : كان أوس هذا من شعراء الجاهلية وفحولها وكر أبو عبيدة أنه من
الطبقة الثالثة وقرنه بالحطيئة والنابغة الجعدي . وتميم تقدم أوساً على سائر شعراء
العرب .
وقال الأصمعيّ : أوسٌ أشعر من زهير إلاّ أنّ النابغة طأطأ منه . )
وقال أبو عبيدة : كان أوس غزلاً مغرماً بالنساء فخرج في سفر حتّى إذا كان بأرض بني
أسد بين شرج وناظرة فبينما هو يسير ظلاماً إذ جالت به ناقته فصرعته فاندقّت فخذه
فبات مكانه وما زال يقاسي كلّ عظيم بالليل ويستغيث فلا يغاث حتّى إذا أصبح إذا
جواري الحيّ يجتنبن الكمأة وغيرها من نبات الأرض والناسي في ربيع : فبيناهنّ كذلك
إذ بصرن بناقته تجول وقد علق زمامها بشجرة وأبصرنه ملقىً ففرغن منه فهربن فدعا
جاريةً منهنّ فقال لها : من أنت قالت : أنا حليمة بنت فضالة بن كلدة .
وكانت أصغرهنّ فأعطاها حجراً وقال : اذهبي إلى أبيك فقولي له : ابن هذا يقرئك
السلام ويقول لك : أدركني فإنّي في حالة عظيمة فأتت أباها وقصّت عليه
____________________
القصّة وأعطته الحجر فقال
: يا بنية لقد أتيت أباك بمدح طويل أو هجاء طويل . ثمّ احتمل هو و أهله إلى الموضع
الذي فيه أوسٌ وسأله عن حاله فأخبره الخبر فأتاه بمن جبر كسره ولم يزل مقيماً عنده
وبنته تخدمه إلى أن برأ فمدحه أوس بقصائد عديدة ورثاه أيضاً بعد موته .
وكان أوسٌ إذا جلس في مجلس قومه قال : ما لأحد عليّ منّه أعظم من منّه أبي دليجة .
وكان أبو دليجة كنية فضالة بن كلدة .
وكلدة بفتح الكاف واللام وهي في اللغة الأرض الغليظة . وذكره ابن قتيبة في باب
الأسماء المنقولة من أدب الكاتب .
ومن شعر أوس قوله : الطويل ( يا راكباً إمّا عرضت فبلّغن ** يزيد بن عبد الله ما
أنا قائل ) ( بآيه أنّي لم أخنك وإنّه ** سوى الحقّ مهما ينطق النّاس باطل ) (
فقومك لا تجهل عليهم ولا تكن ** لهم هرشاً تغتابهم وتقاتل ) ( وما ينهض البازي
بغير جناحه ** ولا يحمل الماشين إلاّ الحوامل ) ( ولا سابق إلاّ بساق سليمةٍ **
ولا باطشٌ ما لم تعنه الأنامل ) ( إذا أنت لم تعرض عن الجهل والخنى ** أصبت حليماً
أو أصابك جاهل ) الهراش : أشدّ القتال مثل مهارشة الكلاب . وأراد بالحوامل الأرجل
.
وما حب الدّيار شغفن قلبي
____________________
تمامه : )
ولكن حبّ من سكن الدّيارا هو لقيسٍ مجنون بني عامر . وتقدم الكلام عليه في الشاهد
التسعين بعد المائتين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس عشر بعد الثلاثمائة ) الكامل ( يسقون من ورد
البريص عليهم ** بردى يصفّق بالرّحيق السّلسل ) على أنّه قد يقوم المضاف إليه مقام
المضاف في التذكير لأنّه أراد : ماء بردى . ولو لم يقم مقامه في التذكير لوجب أن
يقال تصفّق بالتاء للتأنيث لأنّ بردى من صيغ المؤنث وهو نهر دمشق .
قال أبو عبيد البكري : هو من البرد سمّي بذلك لبرد مائه .
وأورده صاحب الكشّاف عند قوله تعالى : يجعلون أصابعهم في آذانهم على أن الواو في
يجعلون ضمير أصحاب الصّيب وإن كان محذوفاً لبقاء معناه كما أرجع الشاعر ضمير يصفق
إلى ماء بردى مع أنّه غير مذكور ولهذا ذكّر يصفّق .
قال ابن المستوفى : لو قال قائل : إنّه أعاد الضمير مذكّراً على المعنى لأنّ بردى
نهر لوجد مساغاً .
وروى صاحب الأغاني :
____________________
وعليه لا شاهد فيه . و
البريص قال أبو عبيد البكريّ في معجم ما استعجم وتبعه الصاغاني في العباب : هو
بفتح الموحّدة وآخر صاد مهملة : موضع بأرض دمشق . وزاد الجواليقيّ في المعرّبات :
وليس بالعربيّ الصحيح وقد تكلمت به العرب وأحسبه روميّ الأصل . وأنشد هذا البيت .
ولم أر من أهل اللغة من ضبطه بالضاد المعجمة .
وقد اختلف شرّاح المفصّل في ضبطه ومعناه فقال ابن يعيش : هو بالصاد المهملة نهر
يتشعّب من بردى وهو نهر دمشق كالصّراة من الفرات . وزلدمشق أنهار أربعة كلّها من
بردى .
وقال المظفريّ : هو بالضاد المعجمة وادٍ في ديار العرب والبريص بالصاد المهملة :
اسم نهر وقيل اسم موضع بدمشق .
وقال ابن المستوفى : هو بالضاد المهملة . قال المفسّرون : هو مأخوذ من البرض أراد
الموضع )
المبيّض المجصصّ . ويروى بالضاد المعجمة : فعيل من البرص وهو الماء القليل .
ورواية المهملة أكثر وأجود . وقالوا : هو اسم نهر . وكرّر البريص في هذه القصيدة
فقال : ( فعلوت من أرض البريص عليهم ** حتّى نزلت بمنزلٍِ لم يوغل ) فدلّ على أنّه
موضع بعينه لا ما ذهب إليه من فسّره قبل . قال أبو دريد : والبريص موضع وقال بعضهم
: هو موضع فيه أنهارٌ كثيرة وهو بالمهملة . وأنشد : الوافر
____________________
( أهان العام ما عيّر
تمونا ** شواء المسمنات مه الخبيض ) ( فما لحم الغراب لنا بزادٍ ** ولا سرطان
أنهار البريص ) وفاعل يسقون وهو الواو ضمير عائدٌ على أولاد جفنة في بيت قبله كما
يأتي ومن مفعوله .
قال العصام في حاشية القاضي : وتعديه الورود بعلى لتضمّنه معنى النزول وإلاّ
قالورود المتعدّي بعلى بمعنى الوصول لا يعدّى بنفسه . والباء في قوله بالرحيق
للمصاحبة أي : ممزوجاً بالخمر الصافية السائغة .
ويصفّق بالبناء للمفعول و التصفيق : التحويل من إناء إلى إناء ليصفّى وحقيقته
التحويل من صفق إلى صفق أي : من ناحية إلى ناحية . والباء في بالرحيق متعلق بمحذوف
أي : يمزج بالرحيق وهو الصافي من الخمر .
وقال صاحب الكشّاف في المطففين : الرحيق : صفوة الخمر ولهذا فسّر بالشراب الخالص
الذي لا غشّ فيه . والسلسال : السهل الانحدار السائغ الشراب .
قال ابن حاجب في أماليه : يجوز أن يكون المراد مدح ماء بردى وتفضيله على غيره .
ومعنى يصفّق يمزج يقال صفّقته إذا مزجته . و الرحيق : الخمر . و السلسل : السهل أي
: كأنه ممزوج ويجوز أن يكون المراد مدح هؤلاء القوم بالكرم وأنّهم لا يسقون الماء
إلاّ ممزوجاً بالخمر لسعتهم وكرمهم وتعظيم من يرد عليهم . انتهى .
والظاهر أنّ المراد هو الثاني لا الأوّل للسياق والسّباق . وليس معنى التصفيق ما
ذكره والصواب ما ذكره بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل من أنه يصفهم بالجود
على من يرد عليهم فيسقونه ماء مصفّى ممزوجاً بالخمر الصافية السائغة في الحلق .
وحمل هذا الكلام على القلب أظهر يريد : يسقون من يرد عليهم الرحيق السلسل يصفّق
ببردى أي : بمائها . انتهى . )
____________________
وهذا البيت من قصيدة لحسّان بن ثابت الصّحابيّ وقد تقدّمت ترجمته فيالشاهد الحادي
والثلاثين مدح بها آل جفنة ملوك الشام . وهذه قطعة منها بعد المطلع بثلاثة أبيات :
( لله درّ عصابةٍ نادمتهم ** يوماً بجلّق في الزمان الأوّل ) ( أولاد جفنة حول قبر
أبيهم ** قبر ابن مارية الكريم المفضل ) ( يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ** لا يسألون
عن السّواد المقبل ) يسقون من ورد . . . . . . . . . . . . . . . . . البيت (
يسقون درياق الرّحيق ولم تكن ** تدعى ولائدهم لنقف الحنظل ) ( فلبثت أزماناً
طوالاً فيهم ** ثمّ ادّكرت كأنّني لم أفعل ) إلى أن قال بعد بيتين : ( ولقد شربت
الخمر في حانوتها ** صهباء صافيةٌ كطعم الفلفل ) ( يسعى عليّ بكأسها متنطّفٌ **
فيعلّني منها وإن منها وإن لم أنهل ) ( إنّ التي ناولتني فرددتها ** قتلت قتلت
فهاتها لم تقتل ) ( كلتاهما حلب العصير فعاطني ** بزجاجةٍ أرخاهما للمفصل ) (
بزجاجةٍ رقصت بمل في قعرها ** رقص القلوص براكبٍ مستعجل ) العصابة : الجماعة من
الناس . و جلّق : بكسر الجيم واللام أيضاً . قال الجواليقي في المعربات : يراد به
دمشق وقيل موضع بقرب دمشق وقيل إنه صورة امرأة كان الماء يخرج من فيها في قرية من
قرى دمشق وهو أعجميّ معرب وقد جاء في الشعر الفصيح . وأنشد هذا البيت .
____________________
وقوله : أولاد جفنة الخ بالجرّ بدل من عصابة ويجوز رفعه . و جفنة بفتح الجيم هو
أبو ملوك الشام وهو جفنة بن عمرو مزيقياء بن عامر بن حارثة بن امرئ القيس بن ثعلبة
بن مازنٍ الغسانيّ .
وأما جبلة بن الأيهم فهو ابن ماوية لأنّه ابن الأيهم بن جبلة بن الحارث الأعرج .
وأراد باولاد جفنة أولاد الحارث الأعرج بن مارية وهم : النعمان والمنذر والمنيذر
وجبلة وأبو شمر .
وهؤلاء كلّهم ملوك وهم أعمام جبلة بن الأيهم . كذا في مختصر أنساب العرب لياقوت
الحمويّ .
قال السيّد الجرجانيّ في شرح المفتاح : ترك تفضيلهم احترازاً عن تقديم بعضهم على
بعض . )
ثم قوله وعن التصريح بأسامي الإناث الداخلة فيهم فيه نظر فإن ذكر نساء الملوك لا
يعهد عند ذكر الملوك .
وقوله : إنّ مارية هي أمّ جفنة غير صواب وإنّما هي أم الحارث الأعرج . ومارية قال
جمهور النسّابين : هي مارية بنت ظالم بن وهب بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع
الكندية .
وقال أبو عبيدة وابن السكيت : هي مارية بنت أرقم بن ثعلبة بن عمرو بن جفنة فتكون
على هذا غسّانية وهي أخت هند امرأة حجر والد امرئ القيس صاحب المعلّقة وليست أمه .
ومارية هي التي تضرب المثل بقرطيها فيقال : خذه ولو بقرطيّ مارية يضرب للترغيب في
الشيء وإيجاب الحرص عليه أي : لا يقوتنّك على كلّ حال وإن كنت تحتاج في إحرازه إلى
بذل النفائس .
قال الزمخشريّ في أمثاله : هي أول عربية تقرّطت وسار ذكر قرطيها في العرب وكانا
نفيسي القيمة وقيل إنّهما قوّما بأربعين ألف دينار وقيل كان فيهما درّتان كبيض
الحمام لم ير مثلهما وقيل هي من اليمن أهدت قرطيها إلى البيت . انتهى .
____________________
وقال أبو محمد الأعرابيّ : هي ذات القرطين لدرّتين كأنّهما بيضتا نعامة أو حمامة .
وأراد بقوله : حول قبر أبيهم أنّهم ملوك ذوو حاضرةٍ ومستقرّ ليسوا أصحاب رحلة وانتجاع
.
سئل الأصمعيّ بأنّه ما أراد حسان به وأي مدح لهم في كونهم عند قبر أبيهم فقال :
إنّهم ملوك حلول في موضع واحد وهم أهل مدر وليسوا بأهل عمد . وقال غيره : معناه
أنّهم آمنون لا يبرحون ولا يخافون كما تخاف العرب وهم مخصبون لا ينتجعون .
قال السّيد المرتضى في أماليه : هذا من الاختصار الذي ليس فيه حذف . أراد أنّهم
أعزّاء مقيمون بدار مملكتهم لا ينتجعون كالأعراب . فاختصر هذاالمبسوط في قوله :
حول قبر أبيهم .
قال : والاختصار غير الحذف وقومٌ يظنون أنّهما واحد وليس كذلك لأنّ الحذف يتعلّق
بالألفاظ : وهو أن تأتي بلفظ يقتضي غيره ويتعلّق به ولا يستقلّ بنفسه ويكون في
الموجود دلالةٌ على المحذوف فيقتصر عليه طلباً للاختصار . والاختصار يرجع إلى
المعاني : وهو أن تأتي بلفظٍ مفيدٍ لمعان كثيرة لو عبّر عنها بغيره لاحتيج إلى
أكثر من ذلك اللفظ . فلا حذف إلاّ وهو اختصارٌ وليس كلّ اختصار حذفاً . انتهى
كلامه .
وأدرج ابن رشيق في العمدة هذا النوع في باب الإشارة قال : والإشارة من غرائب الشعر
)
وملحه وبلاغةٌ عجيبةٌ تدلّ على بعد المرمى وفرط القدرة وليس يأتي بها إلاّ الشاعر
المبرّز والحاذق الماهر وهي في كلّ نوعٍ من الكلام لمحةٌ دالّةٌ واختصار وتلويج
يعرف مجملاً ومعناه بعيد من ظاهر لفظه .
وقوله : يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم الخ بالبناء للمفعول أي : يتردّد إليهم من غشيه
: إذا جاءه .
وهرّ الكلب يهرّ من باب ضرب هريراً : إذا صوّت وهو دون النّباح . يعني أنّ منازلهم
لا تخلو من الأضياف والفقراء فكلابهم
____________________
لا تهرّ على من يقصد
منازلهم لاعتيادها بكثرة التردّد إليها من الأضياف وغيرهم وقوله : لا يسألون الخ
أي : هم في سعة لا يسألون كم نزل بهم من الناس ولا يهولهم الجمع الكثير وهو
السّواد إذا قصدوا نحوهم .
وهذا البيت استشهد به سيبويه وابن هشام في المغني على أنّ حتّى فيه ابتدائية ألأي
: حرف يبتدأ بعده الجملة اسميّة أو فعلية .
وقال أبو عليّ في التذكرة القصرية : اعلم أنّ يغشون للحال الماضي أعني أنّه حكاية
لما مضى من الحال لولا تقديرك له بالحال ما صحّ الرفع لأنّ الرفع لا يكون إلاّ
والفعل واقع . ويغشون لا يكون إلاّ للحال أو للآتي فلو قدّرته للآتي لم يصحّ الرفع
إذ لا يكون الرفع إلاّ وما قبله واقع من عادتهم أنّهم يغشون حتّى لا تهرّ كلابهم
أي : لا يزالون يغشون . انتهى .
وقوله : يسقون درياق الرّحيق الخ يسقون بالبناء للمفعول قال شارح الديوان السكريّ
: الدّرياق : خالص الخمر وجيّده سبّهه بالدّرياق الشافي . و الولائد : جمع وليدة
وهي الخادم . و النّقف : استخراج ما في الحنظل . يقول : هم ملوكٌ تجتني ولائدهم
الحنظل ولا تنتقفه .
وقوله : يسعى على بكأسها الخ المتنطّف : المقرّط و النّطفة بفتحات : القرط . ويروى
: متنطّق وهو الذي عليه منطقةٌ . و علّة : سقاه سقياً بعد سقي . و النّهل هنا :
العطش .
وقال السكريّ : يقول : يسقينيها على كلّ حالٍ عطشت أو لم أعطش .
وقوله : إنّ التي ناولتني فرددتها قتلت بالبناء للمفعول أي : مزجت بالماء والجملة
خبر إنّ .
وقوله : قتلت هذا أيضاً بالبناء للمفعول لكنّه مسند إلى ضميرالمتكلم والجملة
اعتراضية .
____________________
وقوله : كلتاهما الخ أراد كلتا الممزوجة والصرف حلب العنب فناولتي أشدّهما إرخاء
وهي الصّرف التي طلبها منه في قوله لم تقتل . وهاتها بكسر التاء أمرٌ من هاتى
يهاتي مهاتاة . و الحلب بفتحتين بمعنى المحلوب كالنقص بمعنى المقنوص . )
قال ابن الشجريّ في أماليه : قال أبو الفرج علي بن الحسين الأصبهاني صاحب كتاب
الأغاني حديثاً رفعه إلى أبي ظبيان الحمّاني قال : اجتمعت جماعةٌ من الحيّ على
شرابٍ فتغنّى أحدهم بقول حسّان : إنّ التي ناولتني فردتها البيت وقوله : كلتاهما
حلب العصير البيت فقال رجلٌ منهم : كيف ذكر واحدةٌ بقوله إنّ التي ناولتني فرددتها
ثم قال كلتاهما فجعلها اثنتين قال أبو ظبيان : فلم يقل أحدٌ من الجماعة جواباً
فحلف رجلٌ منهم بالطلاق ثلاثاً إن بات ولم يسأل القاضي عبد الله بن الحسن عن تفسير
____________________
هذا الشعر قال : فسقط في
أيدينا ليمينه ثم اجتمعنا على قصد عبيد الله . فحدّثنا بعض أصحابنا السعديّين قال
: فيمّمناه نتخطّى إليه الأحياء فصادفناه في مسجدٍ يصلي بين العشاءين فلمّا سمع
حسّناً أوجز في صلاته .
ثم أقبل علينا فقال : ما حاجتكم فبدر رجلٌ منا كان أحسننا بقيّة فقال : نحن أعزّ
الله القاضي قومٌ نزعنا إليك من طريق البصرة في حاجة مهمّة فيها بعض الشيء فإن
أذنت لنا قلنا . فقال : قولوا . فذكر يمين الرجل والشّعر . فقال : أمّا قوله : إنّ
التي ناولتني فإنّه يعني الخمر . وقوله : قتلت أراد مزجت بالماء .
وقوله : كلتاهما حلب العصير يعني الخمر ومزاجها فالخمر عصير العنب والماء عصير
السحاب قال الله تعالى : وأنزلنا من المعصرات ماءً تجّاجاً . انصرفوا إذا شئتم .
وأقول : إنّ هذا التأويل يمنع منه ثلاثة أشياء : أحدها : أنّه قال كلتاهما وكلتا
موضوعة لمؤنثين والماء لمذكر والمذكر أبداً يغلّب على التأنيث كتغليب القمر على
الشمس في قول الفرزدق : )
لنا قمراها والنّجوم الطّوالع .
أراد : لنا شمسها وقمرها . وليس للماء اسم مؤنث فيحمل على المعنى كما قالوا : أتته
كتابي فاحتقرها لأنّ الكتاب في المعنى صحيفة .
والثاني : أنّه قال : أرخاهما للمفصل وأفعل هذا موضوع لمشتركين في معنى
____________________
وأحدهما يزيد على الآخر في
الوصف به والماء لا يشارك في إرخاء المفصل .
والثالث : أنّه قال في الحكاية : فالخمر عصير العنب وقول حسّان حلب العصير يمنع من
هذا لأنّه إذا كان العصير الخمر والحلب هو الخمر فقد أضيت الخمر إلى نفسها والشيء
لا يضاف إلى نفسه .
والقول في هذا عندي : أنه أراد كلتا الخمرين : الصرف والممزوجة حلب العنب فناولني
أشدّهما إرخاء للمفصل .
وفرّق اللغويون بين المفصل والمفصل فقالوا : المفصل بكسر الميم وفتح الصاد اللسان
وهو بفتح الميم وكسر الصاد واحد مفاصل العظام وهو في بيت حسان يحتمل الوجهين .
انتهى كلام ابن الشجري .
وأما حديث حسان بن ثابت مع جبلة بن الأيهم وكيفية إسلام جبلة وارتداده فقد أورده
صاحب الأغاني مفصّلاً وها أنا أورده مجملاً : روى بسنده إلى يوسف بن الماجشون عن
أبيه قال : قال حسّان بن ثابت : أتيت جبلة بن الأيهم الغسّاني و قد مدحته فأذن لي
فجلست بين يديه وعن يمينه رجلٌ له ضفيرتان وعن يساره رجلٌ لا أعرفه فقال : أتعرف
هذين فقلت : أمّا هذا فأعرفه وهو النابغة الذبيانيّ وأما هذا فلا أعرفه . قال : هو
علقمة بن عبدة فإن شئت استشدتهما وسمعت منهما ثم إن شئت أن تنشد بعدهما أنشدت وإن
شئت أن تسكت سكتّ . قلت : فذاك . فأنشده النابغة : الطويل ( كليني لهمّ يا أميمة
ناصب ** وليلٍ أقاسيه بطيء الكواكب ) قال : فذهب نصفي . ثم قال لعلقمة : أنشد .
فأنشد : الطويل ( طحا بك قلبٌ في الحسان طروب ** بعيد الشّباب عصر حان مشيب ) فذهب
نصفي الآخر فقال لي : أنت أعلم الآن إن شئت سكتّ وإن شئت أنشدت . )
فتشدّدت وأنشدت :
____________________
( لله درّ عصابةٍ نادمتها
** يوماً بجلّق في الزّمان الأوّل ) ( أبناء جفنة عند قبر أبيهم ** قبر ابن مارية
الجواد المفضل ) ( يسقون من ورد البريص عليهم ** كأساً تصفّق بالرّحيق السّلسل ) (
يغشون حتّى ما تهرّ كلابهم ** لا يسألون عن السّواد المقبل ) ( بيض الوجوه كريمةٌ
أحسابهم ** شمّ الأنوف من الطّراز الأوّل ) فقال لي : ادن ادن لعمري ما انت
بدونهما . ثمّ أمر لي بثلثمائة دينار وعشرة أقمصه لها جيبٌ واحد وقال : هذا لك
عندنا في كلّ عام .
وذكر أبو عمرو الشّيبانيّ هذه القصّة لحسّان مع عمرو بن الحارث الأعرج وأتى
بالقصّة أتمّ من هذه الرواية قال أبو عمرو : قال حسّان بن ثابت : قدمت على عمرو بن
الحارث فاعتاض الوصول إليه فقلت للحاجب بعد مدّة : إن أذنت لي عليه وإلاّ هجوت
اليمن كلّها . ثم انقلبت عنكم فأذن لي فدخلت فوجدت عنده النابغة وعلقمة بن عبدة
فقال لي : يا ابن الفريعة قد عرفت نسبك في غسّان فارجع فإني باعثٌ إليك بصلة سنيّة
ولا تحتاج إلى الشعر فإني أخاف عليك هذين السبعين أن يفضحاك فضيحتك فضيحتي وأنت
والله لا تحسن أن تقول : الطويل ( رقاق النّعال طّيبٌ حجراتهم ** يحيّون بالرّيحان
يوم السّباسب ) فأبيت وقلت : لا بدّ منه فقال : ذاك إلى عمّيك . فقلت لهما : بحقّ
الملك إلاّ ما قدّمتماني عليكما فقال : قد فعلنا . فأنشأت أقول : ( أبناء جفنة عند
قبر أبيهم ** قبر ابن مارية الكريم المفضل )
____________________
الأبيات فلم يزل عمرو بن
الحارث يزحل عن مجلسه سروراً حتّى شاطر البيت وهو يقول : هذا وأبيك الشعر لا ما
يعلّلاني به منذ اليوم هذه والله البتّارة التي قد بترت المدائح أحسنت يا ابن الفريعة
هات له يا غلام ألف دينار مرجوحة . فأعطيت ذلك ثم قال : لك عليّ كلّ وقال أبو عمرو
الشّيبانيّ : لّما أسلم جبلة بن الأيهم الغسّانيّ وكان من ملوك آل جفنة كتب إلأى
عمر يستأذنه في القدوم عليه فأذن له فخرج إليه في خمسمائةٍ من أهل بيته من عكّ
وغسّان حتى إذا كان على مرحلتين كتب إلأى عمر يعلمه بقدومه فسرّ عمر رضوان الله
عليه بذلك )
وأمر الناس باستقباله وبعث إليه بأنزلٍ وأمر جبلة مائتي رجل من أصحابه فلبسوا
الديباج والحرير .
وركبوا الخيل معقودةً أذنابها وألبسوها قلائد الذهب والفضّة ولبس جبلة تاجه وفيه
قرطا مارية وهي جدّته ودخل المدينة فلم يبق بها بكر ولا عانسٌ إلاّ خرجت تنظر إليه
وإلى زيّه فلما انتهى إلى عمر رحّب به وألطفه وأدنى مجلسه ثم أراد عمر الحجّ فخرج
معه جبلة يده فهشم أنف الفرازيّ فاستعدى عليه عمر فيعث إلأى جبلة فأتاه فقال : ما
هذا قال : نعم يا أمير المؤمنين إنه تعمّد حلّ إزاري لولا حرمة الكعبة لضربت عنقه
بالسّيف قال عمر قد أقررت إمّا أن ترضي الرجل وإمّا أقدته .
قال جبلة : تصنع ماذا قال : آمر بهشم أنفك قال : وكيف ذلك هو سوقة وأنا ملك قال :
إنّ الإسلام جمعك وإياه فليس تفضله إلاّ بالتّقى والعافية قال جبلة : قد ظننت أني
أكون في الإسلام أعزّ منّي في الجاهليّة .
____________________
قال عمر : دع عنك هذا فإنّك إن لم ترض الرجل أقدته منك قال : إذن أتنصّر قال : إن
تنصّرت ضربت عنقك فلما رأى جبلة الجدّ من عمر قال : أنا ناظر في هذا ليلتي هذه .
وقد اجتمع بباب عمر من حيّ هذا و حيّ هذا خلق كثيرٌ حتّى كادت أن تكون فتنة فلما
أمسوا أذن له عمر بالانصراف حتّى إذا نام الناس تحمّل جبلة مع جماعته إلى الشام
فأصبحت مكة منهم بلاقع . فلما انتهى إلى الشام تحمّل في خمسمائةٍ من قومه حتّى أتى
القسطنطينيّة فدخل إلى هرقل فتنصّر هو وقومه فسرّ هرقل بذلك جدّاً وطنّ أنّه فتحٌ
من القتوح واقعده حيث شاء وجعله من محدّثيه وسمّاره .
ثم إنّ عمر بدا له أن يكتب إلى هرقل يدعوه إلى الإسلام ووجّه إليه رسولاً وهو
جثّامة بن مساحق الكنانيّ فلما انتهى إليه أجاب إلى كل شيء سوى الإسلام فلما أراد
الرسول الانصراف قال له هرقل : هل رأيت ابن عمّك هذا الذي جاءنا راغباً في ديننا
قلت : لا . قال : فالقه . قال : فتوجّهت إليه فلما انتهيت إلى بابه رأيت من البهجة
والحسن والستور ما لم أر مثله بباب هرقل فلما أدخلت عليه إذا هو في بهو عظيم وفيه
من التصاوير ما لا أحسن وصفه وإذا هو جالس على سريرٍ من قوارير قوائمه أربعة أسدٍ
من ذهب وقد أمر بمجلسه فاستقبل به وجه الشمس فما بين يديه من آنية الذهب والفضة
تلوح فما رأيت أحسن منه فلمّا سلّمت )
عليه ردّ السلام ورحبّ بي الطفني ولامني على تركي النزول عنده ثم أقعدني على سرير
لم ادر ما هو فتبينته فإذا هو كرسيٌّ من ذهب فانحدرت عنه فقال : مالك فقلت : إن
رسول الله صلّى الله عليه وسلّم نهى عن هذا .
فقال جبلة أيضاً مثل قولي في النبي صلّى الله عليه وسلم حين ذكرته وصلّى عليه ثم
قال : يا هذا إنّك إذا طهّرت قلبك لم يضرّك ما لبسته ولا ما جلست عليه . ثم سألني
عن الناس وألحف في السؤال عن عمر ثم جعل يفكّر حتّى عرفت الحزن في وجهه فقلت له :
ما يمنعك من الرجوع إلى قومك والإسلام . فقال : أبعد الذي قد كان قلت : قد ارتدّ
الأشعث بن قيس عن الإسلام زمنعهم الزّكاة
____________________
وضربهم بالسيف ثم رجع إلى
الإسلام .
فتحدّثنا مليّاً ثم أومأ إلى غلام على رأسه فولّى يحضر فما كان إلاّ هينهة حتى
أقبلت الأخونة فوصعت وجيء بخوان من ذهب فوضع أمامي فاستعفيت فوضع أمامي خوان من
خلنج وجامات قوارير وأديرت الخمر فاستعفيت منها فلما فرغنا دعا بكأس من ذهب فشرب
منه خمساً ثم أومأ إلى غلام فولّى يحضر فما شعرت إلاّ بعشر جوارٍ يتكسّرن في الحلي
والحلل فقعد خمسٌ عن يمينه وخمس عن شماله ثم سمعت وسوسةٍ من ورائي فإذا أنا بعشرٍ
أفضل من الأول عليهنّ الوشي والحلي فقعد خمسٌ عن يمينه وخمس عن شماله .
ثم أقبلت جاريةٌ على رأسها طائر أبيض كأنه لؤلؤة مؤدّب وفي يدها اليمنى جام فيه
مسك وعنبر قد خلطا وفي اليسرى جام فيه ماء ورد فألقت الطائر في ماء الورد فتمعّك
فيه بين جناحيه وظهره وبطنه ثم أخرجته فألقته في جام المسك والعنبر فتمعّك فيهما
حتى لم يدع فيه شيئاً ثم نفّرته فطار فسقط على رأس جبلة ثم رفرف ونفض ريشه فما بقي
عليه شيء إلاّ سقط على جبلة ثم قال للجواري : أطربني فخفقن بعيدانهنّ يعنيّن : (
لله درّ عصابةٍ نادمتهم ** يوماً بجلّق في الزّمان الأوّل ) الأبيات فاستهلّ
واستبشر وطرب ثم قال : زدنني . فاندفعن يغنّين : الخفيف ( لمن الدّار أقفرن بمعان
** بين شاطي اليرموك فالصّمّان ) إلى آخر القصيدة .
فقال : أتعرف هذه المنازل قلت : لا . قال : هذه منازلنا في ملكنا بأكناف
____________________
دمشق وهذا شعر ابن الفريعة
حسّان بن ثابت شاعر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم . قلت : أما إنّه مضرور )
البصر كبير السنّ قال : يا جارية هاتي . فأتته بخمسمائة دينار وخمسة أثواب ديباج
فقال : ادفع هذه إلى حسّان . ثم روادني على مثلها فأبيت فبكى ثم قال لجواريه :
أبكينني . فعوضن عيدانهنّ ثم أنشأن يقلن : الطويل ( تكنّفني فيها لجاجٌ ونخوةٌ **
وكنت كمن باع الصّحيحة بالعور . ) ( فيا ليت أمّي لم تلدني وليتني ** رجعت إلى
القول الذي قاله عمر ) ( ويا ليتني أرعى المخاض بفقرةٍ ** وكنت أسيراً في ربيعة أو
مضر ) ( ويا ليت لي بالشّام أدنى معيشةٍ ** أجالس قومي ذاهب السّمع و البصر ) ثم
بكى وبكيت معه حتّى نظرت إلى دموعه تجول على لحيته كأنها اللؤلؤ ثم سلّمت عليه
وانصرفت فلما قدمت على عمر سألني عن هرقل وعن جبلة فقصصت عليه القصّة فقال : أبعده
الله تعجّل فانيةً اشتراها بباقية فهل سرّح معك شيئاً قلت : سرّح إلى حسان خمسمائة
دينار وخمسة أثواب ديباج . فقال : هاتها .
وبعث إلى حسان فأقبل يقوده قائده حتّى دنا فسلّم وقال : يا أمير المؤمنين إنّي
لأجد أرواح آل جفنة فقال عمر رضي الله عنه : قد نزع الله تعالى لك منه على رغم
أنفه طوأتاك بمعونته .
فأخذها وانصرف وهو يقول : الكامل ( إنّ ابن جفنة من بقيّة معشرٍ ** لم يغذهم
آباؤهم باللّوم ) ( لم ينسني بالشّام إذ هو ربّها ** كلاّ ولا منتصّراً بالرّوم )
( يعطي الجزيل ولا يراه عنده ** إلاّ كبعض عطيّة المذموم ) ثم قال للرسول : ما لك
جبلة قال : قال لي : إن وجدته حيّاً فادفعها إليه وإن وجدته ميتاً فاطرح الثّياب
على قبره وابتع بهذه الدنانير بدناً فانحرها على قبره .
____________________
فقال حسّان : ليتك والله
وجدتني ميتاً ففعلت ذلك بي انتهى كلام الأغاني .
وروى هذه القصة ابن عبد ربه في العقد على هذا النمط وزاد فيها عند قوله : قد ارتدّ
الأشعث بن قيس عن الإسلام ثم رجع وقبل منه .
قال جبلة : ذرني من هذا إن كنت تضمين لي ان يزوّجني عمر بنته ويولّيني بعده الأمر
رجعت إلى الإسلام . قال : فضمنت له التزويج ولم أضمن الإمرة .
وقال في آخر القصة : فلما قدمت على عمر أخبرته خبر جبلة وما دعوته إليه من الإسلام
)
والشرط الذي اشترطته فقال لي عمر : هلاّ ضمنت له الإمرة أيضاً فإذا أفاء الله به
إلى الإسلام قضى عليه بحكمه عز وجلّ . قال : ثم جهّزني عمر إلى قيصر وأمرني أن
أضمن لجبلة ما اشترط به . فلما قدمت القسطنطينية وجدت الناس منصوفين من جنازته
فعلمت أن الشّقاء غلب عليه في أمّ الكتاب . انتهى .
وروى صاحب الأغاني عن ابن الكلبي : أنّ الفزاريّ لما وطئ إزار جبلة فلطم الفزاريّ
جبلة كما لطمه جبلة وثب عليه غسّان فهشّموا أنفه وأتوا به عمر . ثم ذكر باقي الخبر
كما ذكر .
وروى الزّبير بن بكّار : أنّ جبلة قدم على عمر في ألفٍ من أهل بيته فأسلم وجرى
بينه وبين رجل من أهل المدينة كلام فسبّ المدنيّ فردّ عليه فلطمه جبلة فلطمه المدنيّ
فوثب عليه أصحاب جبلة فقال : دعوه حتّى أسأل صاحبه وأنظر ما عنده . فجاء إلى عمر
فأخبر فقال : إنّك فعلت به فعلاً ففعل بك مثله . قال :
____________________
أو ليس عندك من الأمر إلاّ
ما أرى قال : لا فما عندك من الأمر يا جبلة قال : من سبّنا ضربناه ومن ضربنا قتلناه
قال : إنّما أنزل القرآن بالقصاص فعضب وخرج بمن معه ودخل أرض الروم فتنصّر ثم ندم
فقال : تنصّرت الأشراف من عار لطمةٍ وذكر الأبيات الماضية .
ثم روى صاحب الأغاني بسنده عن عبد الله بن مسعدة الفزاريّ قال : وجّهني معاوية إلى
ملك الروم فدخلت عليه وعنده رجل على سرير من ذهب فكلّمني بالعربية فقلت : من أنت
يا عبد الله قال أنا رجل غلب الشقاء أنا جبلة بن الأيهم الغسّاني إذا صرت إلى
منزلي فالقني .
فلمّا انصرف أتينه فألقينه على شرابه وعنده فينتان تغّنيانه بشعر حسّان بن ثابت
فلمّا فرغتا من غنائهما أقبل عليّ فقال : ما فعل حسان بن ثابت قلت : شيخ كبير قد
عمي فدعا بألف دينار فقال : ادفعها إلى حسان . ثم قال : أترى صاحبك يفي لي إن خرجت
إليه قلت : قل ما شئت أعرضه عليه . قال : يعطيني الثنيّة فإنّها كانت منازلنا
وعشرين قرية من الغوطة منها داريّا وسكّاء ويفرض لجماعتنا ويحسن جوائزنا . فقلت :
أبلّغه . فلمّا قدمت على معاوية أخبرته الخبر فقال : وددت أنّك أجبته إلى ما سأل .
وكتب إليه بعطاء ذلك فوجده قد مات .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس عشر بعد الثلاثمائة ) وهو من أبيات المفصّل وغيره
: الطويل
____________________
( وقد جعلتني من حزيمة
إصبعا ) على أنّ فيه حذف ثلاث كلمات متضايفات أي : ذا مقدار مسافة أصبع الأولى
تقدير مضافين أي : ذا مسافة إصبع فإنّ المسافة معناها البعد . و المقدار لا حاجة
إليه . كذا قد رجماعةٌ منهم أبو عليّ في الإيضاح الشعري ومنهم ابن هشام في المغني
.
وهذا عجر وصدره : فأدرك إبقاء العرادة ظلعها وهو من جملة أبياتٍ للكلحبة العريني
تقدّم شرحها وترجمته في الشاهد الحادي والستين .
وأوّل الأبيات : ( فإن تنج منها يا حزيم بن طارقٍ ** فقد تركت ما خلف ظهرك بلقعا )
يقول : إن تنج يا حزيمة من فرسي فلم تفلت إلاّ نفسك وقد استبيح مالك وكا كنت حويته
وعنمته فلم تدع لك هذه الفرس شيئاً .
وسبب هذه الأبيات : أنّ بني تغلب وكان رئيسهم خزيمة بن طارق أغار على بني مالك بن
حنظلة من بني يربوع فاستاق حريمة بن طارق إبل بني يربوع ولما أتى الصّريخ إلى بني
يربوع ركبوا في إثره فهزموه واستنقذوا منه ما كان أخذه واسر حريمة .
____________________
وهذا البيت يشهد بانفلات حزيمة وشعر جريرٍ يشهد بأسره وهو قوله : قدنا حزيمة قد
علمتم عنوةً ويجمع بينهما بأنّ حزيمة بعد أن نجا من الكلحبة أسره غيره . وضمير
منها راجع إلأى فرس الكلحبة . و حزيم بفتح الحاء المهملة وكسر الزاء المعجمة :
مرخمٌ حزيمة كما في البيت الآخر . و البلقع : الفقر الخالي . و الإبقاء : ما تبقيه
الفرس من العدو إذ من عتاق الخيل ما لا تعطي ما عندها من العدو بل وقوله : فأدرك
إبقاء العرادة بفتح العين والراء والدال المهملات : اسم فرس الكلحبة . تبقي منه
شيئاً إلى وقت الحاجة يريد أنها شربت الماء فقطعها عن غبقائها ففاته حزيمة وظلعها
: )
فاعل أدرك وإبقاء : مفعوله . والظّلع في الإبل بمنزلة العرج اليسير ولا يكون في ذي
الحافر إلاّ يقول : تبعت حزيمة في هربه فلما قربت منه أصاب فرسي عرجٌ فتخلفت عنه
ولولا عرجها لما أسره غيري . وجملة وقد جعلتني الخ حالية .
وأخطأ المظفريّ في شرح المفصّل حيث لم يقف على منشأ البيت فزعم أنّ حزيمة اسم
قبيلة وقال في معناه : أدرك الظّلع غبقاء هذا الفرس أي : بقاءها وثباتها في السير
يعني كانت ثابتة في السير فعرجت في حالةٍ لم يبق بيني وبين قبيلتي إلاّ قدر إصبع .
هذا كلامه وكان السكوت أجمل به لو كان يعقل وقال العيني : كانت فرس الكلحبة مجروحة
فقصّرت لما قرب من حزيمة ففاته . وهذا لم يقله أحد وإنّما اعتذر الكلحبة لعرج فرسه
وانفلات حزيمة بقوله : ( ونادى منادي الحيّ أن قد أتيتم ** وقد شربت ماء المزادة أجمعا
) يقول : أتى الصّريخ وقد شربت فرسي ملء الحوض ماء . وخيل العرب إذا علمت أنه يغار
عليها وكانت عطاشاً فمنها ما يشرب بعض الشرب وبعضها لا
____________________
يشرب ألبتة لما قد جرّبت
من الشدّة التي تلقى إذا شربت الماء وحورب عليها . وجملة وقد شربت حال أي : أتيتم
في هذه الحال . كذا قال ابن الأنباريّ في شرح المفضّليات .
فعلم من هذا أنّ سبب عرج فرسه من إفراط شرب الماء لا من الجرح . والله أعلم . ( يا
من رأى عارضاً أسر به ** بين ذراعي وجبهة الأسد ) على أنّ أصله : بين ذراعي الأسد
وجبهة الأسد . فحذف المضاف إليه الأوّل على نيّة لفظه .
ولهذا لم بين المضاف ولم ينوّن . و من : منادى وقيل المنادى محذوف ومن استفهامية .
والرؤية بصريّة . و العارض : السّحاب الذي يعترض الأفق . وجملة أسرّ به بالبناء
للمفعول صفة لعارض . و الذراعان و الجبهة : من منازل القمر . وعند العرب أن السحاب
الذي ينشأ بنوء من منازل الأسد يكون مطره غزيراً فلذلك يسرّ به .
قال الأعلم في شرح شواهد سيبويه : وصف عارض سحابٍ اعترض بين نوء الذراع ونوء
الجبهة وهما من أنواء الأسد وأواؤه أحمد الأنواء . وذكر الذراعين والنوء إنّما هو
للذراع المقبوضة منهما لاشتراكهما في اعضاء الأسد . )
____________________
وتقدّم شرح هذا البيت وهو للفرزدق بأبسط من هذا في الشاهد السادس والثلاثين بعد
المائة .
وأنشد بعده : مجزوء الكامل ( إلاّ علالة أو بدا ** هة سابحٍ نهد الجزارة ) قال أبو
علي في التذكرة القصريّة : ليس من اعترض في قوله : إلاّ علالة أو بداهة قارح بأنّ
المضاف إليه محذوف بدافع أن يكون بمنزلة ما شبّهه به من قوله : لله درّ اليوم من
لامها لأنه قد ولي المضاف إليه وإذا وليه غيره في اللفظ فقد وقع الفصل به بينهما
كما وقع الفصل بينهما في اللفظ في قوله : لله درّ اليوم . وإذا كان كذلك فقد ساواه
في القبح للفصل الواقع بينهما وزاد عليه فيه أنّ المضاف هنا محذوف ولله درّ اليوم
مذكور فلا يخلو الأمر من أن يكون أراد المضاف إليه فحذفه لدلالة الثاني عليه أو
أراد غضافته إلى المذكور في اللفظ وفصل بينهما بالمعطوف . وكيف كانت القصّة فالفصل
حاصلٌ بين المضاف والمضاف إليه .
واعترض بأن قال : لو كان على تقدير الإضافة إلى قارح الظاهر لكان إلاّ علالة أو
بداهة قارحٍ . و لا يلزم لأنه يجوز أن يكون : إلاّ علالة قارح أو
____________________
بداهة قارح فيظهر المضاف
إليه موضع الإضمار فتحذفه من اللفظ كما جاز عند خالف سيبويه بأن يدكر علالة وهو
يريد الإضافة فيحذف المضاف .
وله أن يقول : إنّ تقديري الحذف أسوغ ولأنيّ أحذفه بعد أن قد جرى ذكره وحذف ما جرى
ذكره أسوغ لتقدّم الدلالة عليه . انتهى كلام أبي علي .
وقبله : وهناك يكذب ظنكم أن لا اجتماع ولا زياره يقول : إذا غزوناكم علمتم أن
ظنّكم بأنّنا لا نغزوكم كذب وهو زعمكم أننا لا نجتمع ولا نزوركم بالخيل غازين .
وقوله : إلاّ علالة استثناء منقطع من قوله لا اجتماع أي : لكن نزوركم بالخيل . و
العلالة : بضم المهملة : بقيّة جري الفرس . و البداهة بضم الموحدة : أول جري الفرس
و أو للإضراب .
وروي بتقديم بداهة على علالة فأو على هذا لأحد الشيئين . و السابح : الفرس الذي )
يدحو الأرض بيديه في العدو . و النّهد : المرتفع . و الجزارة بضم الجيم : الرأس
واليدان والرجلان . يريد أن في عنقه وقوائمه طولً وارتفاعاً . وهذا مدحٌ في الخيل
.
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع عشر بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
السريع
____________________
( لمّا رأت ساتيدما
استعبرتلله درّاليوممن لامها ** قد سألتني بنت عمرو عن ال ) لمّا رأت ساتيدما
استعبرت . . . . . . . . . . . . البيت ( تذكرت أرضاً بها أهلها ** أخوالها فيها
وأعمامها ) قال أبو محمد الأسود الأعرابيّ في فرحة الأديب : قال أبو النّدى : سبب
بكائها أنها لما فارقت بلاد قومها إلأى بلاد الروم بكت و ندمت على ذلك . وإنّما
أراد عمرو بن قميئة بهذه الأبيات نفسه لا بنته فكنّى عن نفسه بها . و ساتيدما :
جبل بين ميّا فارقين وسعرت . وكان عمرو بن قميئة قال هذا لما خرج
____________________
مع امرئ القيس إلى ملك
الروم . انتهى . و تنكر : تجهل أنكرته إنكاراً : خلاف عرفته ونكرته مثال تعبت كذلك
غير أنّه لا يتصرف .
كذا في المصباح . و الأعلام : الجبال ويجوز أن يريد بها المنار المنصوبة على
الطريق ليستدلّ بها من يسلك الطريق . يريد : أنها سألته عن المكان الذي صارت فيه
وهي لا تعرفه لما انكرته )
استخبرته عن اسمه . و استعيرت : بكت من وحشة الغربة ولبعدها من أراضي أهلها .
والعرب تقول : لله درّ فلان إذا دعوا له وقيل : إنّهم يريدون لله عمله أي : جعل
الله عنله في الأشياء الحسنة اليت يرضاها .
وإنّما دعا للائمها بالخير نكايةً بها لأنّها فارقت أهلها بحسن اختيارها فيكون هذا
تسفيهاً لها وقال الأعلم : وصف امرأةً نظرت إلى ساتيدما وهو جبلٌ بعيدٌ من ديارها
فتذكرت بلادها فاستعبرت شرقاً إليها ثم قال : لله درّ من لامها اليوم على
استعبارها وشوقها إنكاراً على لائمها لأنّها استعبرت بحقّ فلا ينبغي أن تلام . هذا
كلامه . وليس هذا معنى الشعر فتأمّل .
وذكلك لم يصب بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل في قوله : قد سألتني هذه
المرأة عن الأرضين التي كان بها أهلها إذ أنكرت جبالها أو أعلامها المنصوبة فيها
ولم تعرفها لتقادم العهد بها أو لتغيّرها لّما رأت هذا الجبل بكت لأنه كان منزل
أهلها . ثم قال : لله درّ من لامها على البكاء وقبّحه عندها لتمتنع عنه . انتهى
كلامه . وهذا كلام من لم يصل إلى العنقود .
وقوله : تذكّرت أرضاً بها أهلها قد استشهد سيبويه بهذا البيت أيضاً على أنّ قوله :
أخوالها فيها وأعمامها منصوب بفعل مضمر وهو تذكّرت . وهذا جائز عنهم بإجماع لأنّ
الكلام قد تمّ في قوله : تذكّرت أرضاً بها أهلها ثم حمل ما بعده على معنى التذكّر
.
وأجاز بعض فضلاء العجم في شرح أبيات المفصّل أن يكون قوله : أخوالها بدلاً من
أرضاً بدل الاشتمال .
____________________
وقوله : بها أهلها الظرف لقوله أرضاً وأهلها فاعل الظرف ويجوز أن يكون مبتدأ
والظرف قبله خبره والجملة هـ يالصفة .
والكلام على ساتيدما قد أجاد فيه ياقوت الحموي في معجم البلدان قال : ساتيدما بعد
الألف تاء مثناة من فوق مكسورة وياء مثنّاة من تحت ودال مهملة مفتوحة وميم وألف
مقصورة أصله مهمل في الاستعمال في كلام العرب فإمّا أن يكون مرتجلاً عربياً لأنّهم
قد اكثروا من ذكره في شعرهم وإمّا أن يكون أعدجمياً . قال العمرانيّ : هو جبلٌ
بالهند لا يعدم ثلجه أبداً .
وأنشدوا : المتقارب ( أبرد من ثلج ساتيدما ** وأكثر ماءً من العكرش ) وقال غيره :
سمّي بذلك لأنه ليس من يوم إلاّ ويسفك فيه دم كأنّه اسمان جعلا واحداً : ساتي )
دما . وسادي وساتي بمعنى وهو من سدى الثّوب فكأن الدماء تسدى فيه كما يسدى الثوب .
وقد مدّه البحتريّ فقال : الطويل ( ولمّا أسفرت في جلولى ديارهم ** فلا الظّهر من
ساتيدماء ولا اللّحف ) قال أبوعبيد البكريّ في معجم ما استعجم : رأيت البحتريّ قد
مدّه فلا أعلم أضرورة أم لغة والبحتريّ شديد التوقيّ في شعره من اللحن والضّرورة .
ثم قال ياقوت : وقد حذف يزيد بن مفرّغ ميمه فقال : الوافر فدير سوى فساتيدا فبصرى
قلت : وهذا يدل على أن هذا الجبل ليس بالهند وإنّما العمرانيّ وهم . وذكر غيره أنّ
ساتيدما هو الجبل المحيط بالأرض منه جبل بارمّا وهو الجبل المعروف
____________________
بجبل حمرين وما يتّصل به قرب
الموصل والجزيرة وتلك النواحي . وهو أقرب إلى الصحة . والله أعلم .
وقال أبو بكر الصّوليّ في شرح قول أبي نواس : المنسرح ( ويوم ساتيدما ضربنا بني ال
** أصفر والموت في كتائبها ) قال : ساتيدما : نره أقرب أرزن وكان كسرى وجّه إياس
بن قبيصة الطائي لقتال الروم بساتيدما فهزمهم فافتخر بذلك وهذا هو الصحيح . وقوله
: في بلاد الهند خطأ فاحش .
وقد ذكر الكسرويّ فيما أورد في خبر دجلة عن المرزباني عنه فذكر نهراً بين آمد
وميّاً فارقين ثم قال : ينصبّ إليه وادي ساتيدما وهو خارج من درب الكلاب بعد أن
ينصبّ إلى وادي ساتيدما وادي الزور الآخذ من الكلك وهو موضع ابن بقراط البطريق من
ظاهر أرمينيا . قال : وينصبّ أيضاً من وادي ساتيدما نهر ميّا فارقين وهذا كله
مخرجه من بلاد الروم فأين هو الهند ياللعجب وقول عمروبن قميئة : لّما رأت ساتيدما
استعبرت يدل على ذلك لأنه قاله في طريقه إلى ملك الروم حيث سار مع امرئ القيس .
انتهى كلام وقال البكريّ في معجم ما استعجم : ساتيدما : جبل متّصل من بحر الرّوم
إلى بحر الهند وليس يأتي يومٌ من الدهر إلاّ سفك عليه دم فلذلك سمّي ساتيدما .
وكان قيصر قد غزا كسرى وأتى بلاده على غرّة فاحتال له حتّى انصرف عنه واتبعه كسرى
في جنوده فأدركه بساتيدما فانهزموا مرعوبين من غير قتال فقتلهم قتل الكلاب ونجا
قيصر ولم يكد . وفي شعر )
أبي النجم ساتيدما : قصر من قصور السواد قال أبو النجم يذكر سكر خالدٍ القسريّ
لدجلة : الزجر
____________________
( فلم يجئها المرء حتى
أحكما ** سكراً لها أعظم من ساتيدما ) انتهى . ولا يخفى أنه ليس في قول أبي النجم
ما يعيّن كونه قصراً ولا مانع من أن يحمل على معنى الجبل . ومّما يرد به على
العمرانيّ في قوله : إنه جبل بالهند لا يعدم ثلجه أن الهند بلاد حارّة لا يوجد
فيها الثلج . والله أعلم . و عمرو بن قميئة على وزن فعيلة مؤنّث قميء على وزن فعيل
مهموز اللام من قمؤ الرجل بضم الميم قمأ بسكونها وقماءة بفتحها والمد أي : صار
قميئاً وهو الصغير الذليل .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : عمرو بن قميئة من قيس بن ثعلبة بن مالك رهط طرفة
بن العبد وهو قديمٌ جاهليّ كان مع حجر أبي امرئ القيس فلما خرج امرؤ القيس إلى
الروم ( بكى صاحبي لّما رأى الدّرب دونه ** وأيقن أّا لا حقان بقيصرا ) ( فقلت له
: لا تبك عينك إنّما ** نحاول ملكاً أو نموت فنعذوا ) ثم قال ابن قتيبة : وفي عبد
القيس عمرو بن قميئة الضبعي .
وأورد الآمدي في المؤتلف والمختلف ثلاثةً من الشعراء يقال لهم ابن قميئة أوّلهم
هذا قال : هوعمرو بن قميئة بن ذريح بن سعد بن مالك بن ضبيعة بن قيس بن ثعلبة
الشاعر
____________________
المشهور دخل بلاد الروم مع
امرئ القيس بن حجر فهلك فقيل له عمروٌ الضائع .
والثاني هو جميل بن عبد الله بن قميئة الشاعر العذريّ أحد بني ظبيان بن حنّ وحنّ
ابن عذرة ولم يكن جميل يعرف إلاّ بابن قميئة .
والثالث ربيعة بن قميئة الصّعبي أحد بني صعب بن تيم بن أنمار بن ميسر بن عميرة بن
أسد بن ربيعة بن نزار شاعر له في كتاب عبد القيس القصيدة التي أولها : الطويل (
لمن دمنٌ قفرٌ كأنّ رسومها ** على الحول جفن الفارسيّ المزخرف ) وأنشد بعده البسيط
( كأنّ أصوات من إيغالهنّ بنا ** أواخر الميس إنقاض الفراريج ) على أنّ الظرف قد
فصل بين المتضايقين لضرورة الشعر والأصل : كأنّ أصوات أواخر الميس . و الإيغال :
الإبعاد يقال أوغل في الأرض : إذا أبعد فيها . والضمير للإبل . و الأواخر : جمع )
آخرة الرحل بوزن فاعلة وهو العود الذي في آخر الرحل يستند إليه الراكب . و الميس :
بفتح الميم : شجرٌ يتخذ منه الرحال والأقتاب . وإضافة الأواخر إليه كإضافة خاتم
فضّة . و الإنقاض مصدر أنقضت الدجاجة : إذا صوّتت وهو بالنون والقاف والضاد
المعجمة . و الفراريج : جمع فرّوج وهي صغار الدّجاج .
يريد أنّ رحالهم جديدةٌ وقد طال سيرهم فبعض الرحل يحكّ بعضاً فيحصل مثل أصوات
الفراريج من اضطراب الرّحال لشدة السير .
____________________
وهذا البيت من قصيدة لذي الرمّة تقدم الكلام عليه في الشاهد التاسع والستين بعد
المائتين .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن عشر بعد الثلاثمائة ) الطويل ( تمرّ على ما تستمرّ
وقد شفت ** غلائل عبد القيس منها صدروها ) على أنّ الفصل بين المتضايقين بغير
الظرف نادر كما هنا والأصل : وقد شفت غلائل صدروها عبد القيس منها ففصل بين المضاف
والمضاف إليه بالفاعل وبالجارّ والمجرور .
والفاعل وهو عبد القيس في نية التقديم على المفعول وهو غلائل صدروها لأنّ فيه ضمير
الفاعل . و عبد القيس : قبيلة . و الغلائل : جمع غليلة وهو الضغن والحقد . و شفت :
مجاز من شفى الله المريض . إذا أذهب عنه ما يشكو . و تمر : من المرور . و تستمر :
من الاستمرار .
وهذا البيت مصنوع وقائله مجهول كذا في كتاب الإنصاف في مسائل الخلاف لأبي البركات
عبد الرحمن بن محمد الشهير بابن الأنباريّ .
وقال ابن السيد في أبيات المعاني : هذا البيت أنشده الأخفش وتوجيه إعرابه أنه فصل
بين المضاف والمضاف إليه بما ليس بظرف وهو أفحش ما جاء في الشعر ودعت إليه ضرورة
وتقدير الكلام : وقد شفت غلائل صدورها . و الغلائل : جمع غليلة مثل عظيمة وعظائم
وكريمة وكرائم .
وقال أبو الحسن الأخفش : إن كان الشعر لم يوثق بعربيّته فيجوز أن يكون أخرج غلائل
غير مضافة وقدّر فيها التنوين لأنّها لا تنصرف ثم جاء بالصدرو مجرورة
____________________
على نيّة إعادتها كما قال
)
الآخر : الخفيف ( رحم الله أعظما دفنوها ** بسجستان طلحة الطّلحات ) أي : أعظم
طلحة الطّلحات . فكذلك هنا يريد غلائل عبد القيس منها غلائل صدورها وقد حذف الثاني
اجتزاءً بالأوّل . وهذا التأويل حسن لأنّه مخرج الكلام وفيه ضعف من حيث إضمار
الجار . انتهى .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع عشر بعد الثلاثمائة ) مجزوء الكامل ( فزججتها
بمزجّة ** زجّ القلوص أبي مزاده ) على أنّه فصل بين المضاف وهو زجّ وبين المضاف
إليه وهو أبي مزاده بالمفعول وهو القلوص .
يقال زججته زجّاً : إذا طعنته بالزّجّ بضم الزاء وهي الحديدة التي في أسفل الرمح .
و زجّ القلوص مفعول مطلق أي : زجّاً مثل زجّ . و القلوص بفتح القاف : الناقة
الشابة . و أبو مزاده : كنية رجل قال صاحب الصحاح المزجّ بكسر الميم : رمح قصير
كالمزراق قال ابن خلف : هذا البيت يروى لبعض المدنيّين المولّدين وقيل هو لبعض
المؤنّثين ممن لا يحتج بشعره . و مزجّه يروى بفتح الميم وهو موضع الزّجّ يعني
____________________
أنّه زجّ راحلته لتسرع كما
يفعل أبو مزادة بالقلوص .
ويجوز أن تكون الميم مكسورة فيكون المعنى فزّججتها يعني الناقة أو غيرها أي :
رميتها بشيء في طرفه زجّ كالحربة والمزجة ما يزجّ به . وأراد كزجّ أبي مزادة
بالقلوص أي : كما يزجّها .
انتهى .
وقول العينيّ : الأظهر أن الضمير ف يزججتها يرجع إلى المرأة لأنّه يخبر أنه زجّ
امرأته بالمزجّة كما زجّ أبو مزادة القلوص كلام يحتاج في تصديقه إلى وحي . وقد
انعكس عليه الضبط في مزجّه فقال : هي بكسر الميم والناس يلحنون فيها فيفتحون ميمها
. وقد أنشد ثعلب في أماليه الثالثة هذا البيت كذا : ( فزججتها متمكّناً ** زجّ
الصّعاب أبو مزاده ) )
وأنشد بعضهم : زجّ الصّعاب أبي مزاده أراد : زجّ أبي مزادة الصّعاب ثم اعترض
بالصّعاب اه .
فلا شاهد في البيت على روايته الأولى . و الصّعاب : جمع صعب وهو نقيض الذلّول .
وهذا البيت لم يعتمد عليه متقنو كتاب سيبويه حتى قال السيرافيّ : لم يثبته أحدٌ من
أهل الرواية وهو من زيادات أبي الحسن الأخفش في حواشي كتاب سيبويه فأدخله بعض
النّسّاخ في بعض النسخ حتّى شرحه الأعلم وابن خلف في جملة أبياته .
والأخفش هذا هو أبو الحسن سعيد بن مسعدة صاحب سيبويه لا الأخفش أبو الخطّاب فإنّه
شيخ سيبويه . قال الزمخشريّ في مفصّله وما يقع في بعض نسخ الكتاب من قوله :
فزججتها بمزجة البيت : فسيبويه بريء من عهدته .
____________________
أراد أن سيبويه لم يورد هذا البيت في كتابه بل زاده غيره في كتابه . وإنّما برّأ
سيبويه من هذا لأنّ سيبويه لا يرى الفصل بغير الظرف وإذا كان هذا مذهبه فكيف يورد
بيتاً على خلاف مذهبه . ومنه يظهر لك سقوط قول الجعبريّ في شرح الشاطبيّة فإنه بعد
أن زعم أن البيت من أبيات الكتاب قال : فإن قلت : فما معنى قول المفصّل : بريء من
عهدته قلت : معناه من عهدة هذه الرواية لأنّه يرويه : زجّ القلوص أبو مزاده بجرّ
القلوص بالإضافة ورفع أبو مزاده فاعل المصدر . هذا كلامه .
ثم قوله : إن هذا البيت أنشده الأخفش والفرّاء أقول : نقل الفرّاء لهذا البيت ليس
لتأييد قراءة ابن عامر الآتية وإنما نقله للطعن فيه بأنه كلام من لا يوثق به كما
يظره لك من كلام الفرّاء الآتي .
قال ابن جنّي في الخصائص : قد فصل بالمفعول به مع قدرته أن يقول : زجّ القلوص أبو
مزاده .
وفيه عندي دليل على قوّة إضافة المصدر إلى الفاعل عندهم وأنه في نفوسهم أقوى من
إضافته إلى المفعول . ألا تراه ارتكب هاهنا الضرورة مع تمكنّه من ترك ارتكابها لا
لشيء غير الرغبة في إضافة المصدر إلى الفاعل دون المفعول . وهذا في النثر وحال
السّعة صعبٌ جدّاً لا سيّما والمفصول به مفعول لا ظرف اه . )
وبقوله : لا لشيء غير الرغبة الخ يعلم أنّ قول العينيّ : إنّ قائله ليس له عذر في
هذا لاّ مسّ الضرورة لإقامة الوزن صادرٌ من غير رويّة وفكر .
ونقل جماعة عن ابن جنّي في توجيهه : أنّه يقدّر في الأول مضاف إليه وفي الثاني
مضاف والتقدير : زجّ أبي مزاده القلوص قلوص أبي مزادة على أن يكون قلوص بدلاً من
القوص وتعسّفه ظاهر . ونقل ابن المستوفى عن الزمخشريّ في حواشيه أنّه قال : الوجه
أن يجرّ القلوص ويجعل أبي مزادة بعده مجروراً بمضاف محذوف تقديره : قلوص أبي مزادة
كما في : المتقارب
____________________
ونارٍ توقّد باللّيل نارا
اه .
وقد نقل الخلاف ابن الأنباريّ في هذه المسألة في كتابه الإنصاف في مسائل الخلاف
فقال : ذهب الكوفيّون إلى أنّه يجوز الفصل بين المضاف والمضاف إليه بغير الظرف
وحرف الخفض لضرورة الشعر وذهب البصريّون إلى أنّه لا يجوز ذلك بغيرهما . أما
الكوفيّون فاحتجوا بأن فزججتها بمزجةٍ . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر :
تمرّ على ما تستمرّ وقد شفت . . . . . . . . . . البيت وقال الآخر : الطويل ( يطفن
بحوزيّ المراتع لم يرع ** بواديه من قرع القسيّ الكنائن ) والتقدير من قرع الكنائن
القسيّ . وقال : المنسرح ( وأصبحت بعد خطّ بهجتها ** كأنّ قفراً رسومها قلما )
والتقدير بعد بهجتها ففصل بين المضاف الذي هو بعد والمضاف إليه الذي هو بهجتها
بالفعل الذي هو خطّ . وتقدير البيت : فأصبحت قفراً بعد بهجتها كأن
____________________
قلماً خطّ رسومها . وقد
حكى الكسائيّ عن العرب : هذا غلام والله زيدٍ . وحكى أبو عبيدة سماعاً عن العرب :
إنّ الشاة لتجترّ فتسمع صوت والله ربّها . وإذا جاء هذا في الكلام ففي الشعر أولى
.
وأمّا البصريون فاحتجوا بأن قالوا إنّما قلنا لا يحوز ذلك لأنّالمضاف والمضاف إليه
بمنزلة شيء واحد فلا يجوز أن يفصل بينهما . وإنّما جاز الفصل بالظرف وحرف الجرّ
كما قال ابن قميئة : وقال أبو حيّة النميريّ : الوافر ) ( كما خطّ الكتاب بكفّ
يوماً ** يهوديّ يقارب أو يزيل ) وقال ذو الرمّة : كأن أصوات من إيغالهنّ بنا لآنّ
الظرف وحرف الجر يتّسع فيهما ما لا يتسع في غيرهما .
وأمّا الجواب عن كلمات الكوفيّين : أما قوله : فزججته بمزجّة البيت فيروى لبض
المدنيّين المولّدين فلا يكون فيه حجّة . وأما سائر ما أنشدوه فهو مع قلّته لا
يعرف قائله فلا يجوز الاحتجاج به .
وأما ما حكاه الكسائيّ وأبو عبيدة فإنّما جاء في اليمين لأنها تدخل في أحبارهم
للتوكيد فكأنهم لما جازوا بها موضعها استدركوا ذلك بوضع اليمين حيث أدركوا من
الكلام .
____________________
والذي يدلّ على صحّة هذا أنا أجمعنا وإيّاكم على أنّه لم يجيء الفصل بغير اليمين
في اختيار الكلام . وأما قراءة ابن عامر فلا يسوغ لكم الاحتجاج بها لأنّكم لا
تقولون بموجبها لأنّ الإجماع واقعٌ على امتناع الفصل بالمفعول في غير ضرورة الشعر
والقرآن ليس فيه ضرورة . وإذا وقع الغجماع على امتناع الفصل بينهما في حالة
الاختيار سقط الاحتجاج بها على حالة والبصريون يذهبون إلى أن هذه القراءة وهم من
القارئ . إذ لو كانت صحيحة لكان من أفصح الكلام وفي وقوع الإجماع على خلافه دليلٌ
على أنّه وهمٌ في القراءة . وإنّما دعا ابن عامر إلى هذه القراءة أنّه رأى في
مصاحف أهل الشام شركائهم مكتوباً بالياء ووجه إثبات الياء جرّ شركائهم على البدل
من أولادهم وجعل الأولاد هم الشركاء لأنّ أولاد الناس شركاء آبائهم في احوالهم
وأموالهم . وهذا تخريج خطّ مصحف أهل الشام . فأمّا قراءة ابن عامر فلا وجه لها في
القياس ومصاحف أهل الحجاز والعراق شركاؤهم بالواو فدلّ على صحّ ما ذهبنا إليه
والله أعلم . انتهى كلام ابن الأنباريّ .
وفيه أمران : الأول : أنّ نسبه جواز الفصل في الشعر بنحو المفعول إلى الكوفيّين لم
يعترف به الفرّاء وهو من أجلّ أئمة الكوفيّين قال في تفسيره المعروف بعاني القرآن
: في سورة الأانعام عند قفراءة ابن عامر ما نصه : وفي بعض مصاحف أهل الشام شركائهم
فإن تكن مثبتة عن الأوّلين فينبغي أن يقرأ زيّن أي : بالبناء للمفعول ويكون
اللشركاء هم الأولاد لأنّهم منهم في النسب والميراث . )
فإن كانوا يقرؤون زيّن أي : بالبناء للفاعل فلست أعرف جهتها إلاّ أن يكونوا آخذين
بلغة قومٍ يقولون : أتيتها عشاياً ثم يقولون في تثنية الحمراء حمريان . فهذا وجه
أن يكونوا قالوا : زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركايهم . وإن شئت جعلت
زيّن إذا فتحته فعلاً لإبليس ثم تخفض الشركاء بإتباع الأولاد . وليس قول من قال
إنّما أرادوا مثل قول الشاعر : ( فزججتها متمكّناً ** زجّ القلوص أبي مزاده )
____________________
بشيء . وهذا مما كان يقوله
نحويّو أهل الحجاز ولم نجد مثله في العربية . انتهى .
وقال أيضاً في سورة إبراهيم عليه السلام : وليس قول من قال : مخلف وعده رسله بشيء
ولا : زيّن لكثير من المشركين قتل أولادهم شركائهم بشيء . قال الفرّاء : هذا باطل
ونحويّو أهل المدينة ينشدون قوله : زجّ القلوص أبي يمزاده والصواب : زجّ القلوص
أبو مزاده انتهى الأمر الثاني : أنّ ابن خلف في شرح أبيات الكتاب وأبا شامة في شرح
الشاطبيّة وتبعه في شرحها بعده الجعبريّ والسمين في إعراب القرآن نقلوا عن الإنصاف
لابن الأنباريّ ما يؤيد قراءة ابن عامر .
قال ابن خلف : قد احتجّ ابن الأنباريّ في كتاب الإنصاف عن الكسائيّ عن العرب : هو
غلام إن شاء الله أخيك ففصل بالجملة الشرطيّة .
وقال السّمين : قال ابن الأنباريّ : هذه قراءة صحيحة وإذا كانت العرب قد فصلت بيت
المتضايفين بالجملة في قولهم : هو غلام إن شاء الله أخيك فأن تفصل بالمفرد أسهل .
هذا كلامهم أنت ترى هذا النقل لا أصل له وإنّما نقل ابن الأنباريّ عن
____________________
الكسائيّ عن العرب هو
قولهم : هذا غلام والله زيد . وليس في كلامه أيضاً ما يؤيد القراءة وإنّما هو
طاعنّ فيها تبعاً للزمخشريّ وغيره .
وكنت أظن أنّ صاحب الكشّاف مسبوق بابن الأنباريّ فراجعت ترجمتهما فرأيت الأمر
بالعكس فإنّ الزمخشريّ توفيّ يوم عرفة سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة وابن الأنباريّ
مات ليلة )
الجمعة تاسع شعبان سنة سبع وسبعين وخمسمائة وهو تلميذ الجواليقي صاحب المعرّبات
وابن الشجريّ صاحب الأمالي والزمخشريّ من أقران ابن الشجريّ فابن الأنباريّ متأخر
عن الزمخشريّ بأربع طبقات . والزمخشريّ في طعنه على هذه القراءة مسبوقٌ ايضاً
بالفرّاء فكان ينبغي الردّ على الفرّاء فإنّه هو الذي فتح ابتداء باب القدح على
قراءة ابن عامر .
قال السّمين : قراءة ابن عامر متواترة صحيحة وقد تجرأ كثير من الناس على قارئها
بما لا ينبغي وهو أعلى القرّء السبعة سنداً واقدمهم هجرة وإنّما ذكرنا هذا تنبيهاً
على خطأ من ردّ قراءته ونسبه إلى لحن أو اتباع مجرّد المرسوم .
وقال أبو عليّ الفارسيّ : هذا قبيح قليل الاستعمال ولو عدل عنها كان أولى لأنهم لم
يفصلوا بين المتضايقين بالظرف في الكلام مع اتساعهم في الظروف وإنما أجازوه في
الشعر .
وقال أبو عبيد : لا أحب قراءة ابن عامر لما فيها من الاستكراه والقراءة عندنا هي
الأولى لصحتها في العربية مع إجماع أهل المصرين بالعراق عليها . وقال الزمخشريّ
وأساء في عبارته : وأما قراءة ابن عامر فشيءٌ لو كان في مكان الضرورة لكان سمجاً
مردوداً كما سمج وردّ : زجّ القلوص أبي مزده فكيف به في الكلام المنثور فكيف به في
القرآن المعجمز بحسن نطمه وجزالته . والذي حمله على ذلك أنّه رأى في بعض المصاحف
شركائهم مكتوباُ بالياء . ولو قرأ بجرّ الأولاد والشركاء لأن الأولاد شركاؤهم في
أموالهم لوجد في ذلك مندوحة عن هذا الارتكاب . وهذه الأقوال كلّها لا ينبغي أن
يلتفت إليها لأنّها طعنٌ في المتواتر وإن كانت صادرة عن ائمة أكابر . وأيضاً فقد
انتصر لها من يقابلهم وجاء في الحديث : هل أنتم تاركو لي صاحبي .
____________________
وقال ابن جنّي في الخصائص باب ما يرد عن العربيّ مخالفاً للجمهور : إذا اتفق شيء
من ذلك العربيّ وفيما جاء به فإن كان فصيحاً وكان ما جاء به يقبله القياس فيحسن الظن
به لأنّه يمكن أن يكون قد وقع إليه ذلك من لغة قديمة قد طال عهدها وروي عن عمر بن
الخطاب أنه قال : كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه في الإسلام .
فجاء الإسلام فتشاغلت عنه العرب بالجهاد ولهت عن الشعر وروايته فلما كثر الإسلام
وجاءت الفتوح واطمأنت العرب بالأمصار راجعوا رواية الشعر فلم يؤولوا إلى ديوان
مدوّن ط لا كتاب مكتوب وألفو ذلك وقد هلك من هلك فحفظوا أقلّ ذلك وذهب عنهم كثيره
. )
فإذا كان الأمر كذلك لم يقطع على الفصيح يسمع منه ما يخالف الجمهور بالخطأ إذا كان
القياس يعضده .
وقال ابن ذكوان : سألني الكسائيّ عن هذا الحرف وما بلغه من قراءتنا فرأيته كأنه
أعجبه ونزع بهذا البيت : نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف بنصب الدراهيم وجرّ تنقاد
. وأمّا ورد في النظم من الفصل بين المتضايقين بالظرف وبغيره فكثير . ثم بعد أن
سرد غالب ما ورد في الشعر قال : وإذا قد عرفت هذا قراءة ابن عامر صحيحةٌ من حيث
اللغة كما هي صحيحة من حيث النقل فلا التفات إلأى قول من قال : إنّه اعتمد على
الرسم لأنّه لم يوجد فيه إلاّ كتابة شركائهم بالياء وهذا وإن كان كافياً في
الدلالة على جر شركائهم فليس فيه ما يدلّ على نصب أولادهم إذ المصحف مهمل من شكل
ونقط فلم يبق
____________________
به حجّة في نصب الأولاد
إلاّ النقل المحض .
وقال أبو شامة : ولا بعد فيما استبعده أهل النحو من جهة المعنى وذلك أنّه قد عهد
تقدّم المفعول على الفاعل المرفوع لفظاً فاستمرّت له هذه المرتبة مع الفاعل
تقديراً فإن المصدر لو كان منوّناً لجاز تقديم المفعول على فاعله نحو أعجبني ضرب
عمراً زيد فكذا في الإضافة .
وقد ثبت جواز الفصل بين حرف الجرّ ومجروره مع شدة الاتصال بينهما أكثر من شدته بين
المتضايفين كقوله تعالى : فبما نقضهم ميثاقهم فبما رحمةٍ والمفعول المقدّم هو في
غير موضعه معنى فكأنه مؤخر لفظاً . ولا التفات إلى قول من زعم أنه لم يأت في
الكلام المنثور مثله . لأنّه نافٍ ومن أسند هذه القراءة مثبتٌ والإثبات مرجّح على
النفي بإجماع . ولو نقل إلى هذا الزاعم عن بعض العرب أنه استعمله في النثر لرجع
إليه فماباله لا يكتفي بناقل القراءة من التابعين عن الصحابة هذا زبدة ما أورده
السّمين ومثله كلام الجعبريّ في شرح الشاطبيّة والله أعلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد العشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من أبيات سيبويه : البسيط
____________________
( تنفي يداها الحصى في كلّ
هاجرة ** نفي الدّراهيم تنقاد الصّياريف ) على أنّفيه الفصل بالمفعول أيضاً بين
المتضايفين فإن أصله : نفي تنقاد الصياريف الدراهيم ففصل بالمفعول وهو الدراهيم
بين المتضايفين .
وإضافة نفي إلى تنقاد من إضافة المصدر إلى فاعله . وروي أيضاً بغضافة نفي إلى
الدراهيم ورفع تنقاد فيكون من إضافة المصدر . وعلى هذه الرواية أنشده ابن الناظم
وابن عقيل في شرح الألفيّة .
قال العينيّ : وفي شرح الكتاب : ويجوز نصب التّنقاد ورفع الدراهيم في العمل على
القلب من حيث أمن اللبس يعني أنّه روي بجرّ الدراهيم بإضافة نفي إليه ونصب تنقاد
فيكون من قبيل إضافة المصدر إلى فاعله على تقدير القلب بجعل الفاعل مفعولاً
والمفعول فاعلاً .
وأورده سيبويه في اوائل كتابه في باب ما يحتمل الشعر قال : وربّما مدّوا فقالوا :
مساجيد نفي الدنانير تنقاد الصّياريف وينشد : نفي الدراهيم . انتهى كلامه ومحلّ
الشاهد فيه عند أبي جعفر النحاس الدنانير والدراهيم قال : من روى الدنابير فلا
ضرورة عنده فيه لأنّ الأصل في دينار دنّار فلما جمعت رددته إلى أصله فقلت دنانير .
ومن روى الدراهيم فذكر أبو الحسن بن كيسان أنه قد قيل في بعض اللغات درهام قال :
فيكون هذا على تصحيح الجمع . قال : أو يكون على أنه زاده للمد .
قال : ويكون على الوجه الذي قال سيبويه أنّه بنى الجمع على غير لفظ الواحد كما أّ
قولهم : مذاكير ليس على لفظ ذكر إنما هو على لفظ مذكار وهو جمع لذكر على غير بناء
واحده .
قال : ولم ينكر أن يكون الجمع على غير بناء الواحد فلذلك زاد الياء في دراهيم .
وقال لي علي بن سليمان : واحد الصياريف صيرف وكان يجب أن يقول صيارف انتهى كلامه .
____________________
وعند الشنتمري الشاهد في الصياريف قال : زاد الياء في الصياريف صرورة تشبيهاً لها
بما جمع في الكلام على غير واحد نحو ذكر ومذاكير وسمح ومساميح . ولم يتعرض
للدراهيم والدنانير . )
وقد جمع ابن خلف بينهما فقال : الشاهد فيه على زيادة الياء في جمع الدراهم
والصيارف .
أقول : الظاهر كلام الأعلم لا غير وروي الدراهم بلا ياء وجميعهم لم يتعرضوا إعراب
الدراهيم والتنقاد . و النفي بالنون والفاء قال صاحب المحكم : كلّ ما رددته فقد
نفيته ونفيت الدراهم : أثرتها للانتقاد . وأنشد هذا البيت . و يداها : فاعل تنفي
والضمير لناقة الفرزدق . و الحصى : مفعول . و الهاجرة : وقت اشتداد الحرّ في وقت
الظهر . و نفي الدراهيم : مفعول مطلق تشبيهي والأصل تنفي يداها الحصى نفياً كنفي
الدراهيم . و التنقاد : بالفتح من نقد الدراهم وهو التمييز بين جيّدها ورديئها . و
الصّيارف : مجرور لفظاً بالإضافة مرفوع محلاّ لأنّه فاعل تنقاد .
قال الأعلم : وصف الفرزدق ناقته بسرعة السّير في الهواجر فيقول : إن يديها لشدّة
وقعها يف الحصى ينفيانه فيقرع بعضه بعضاً ويسمع له صليل كصليل الدنانير إذا
انتقدها الصّيرفيّ فنفى رديئها عن جيّدها وخصّ الهاجرة لتعذّر السير فيها .
وقال ابن خلف : وصف راحلته بالنشاط وسرعة السّير في الهواجر حين تكلّ المطيّة
وتضعف القوى منها تكون هـ يينشيطة قويّة إذا أصابت مناسمها الحصى انتقى من تحت
مناسمها كما تنتقي الدراهم من يد الصيرفيّ إذا نقدها باصابعه . شبّه خروج الحصى من
تحت مناسمها وترجمة الفرزدق في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الحادي والعشرون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( يا ابن الزّبير
طالما عصيكا ** وطالما عنّيتنا إليكا ) لنضربن بسيفنا قفيكا على أنّه جاء في الشعر
قلب الألف ياء مع الإضافة إلى كاف الضمير في قوله : فقيكا والأصل قفاكا فأبدلت
الألف ياء . وإنما كان سبيل هذا الشعر لأنه ليس مع ياء المتكلم فإنها تقلب معه ياء
نثراً ونظماً عند هذيل .
وإنّما قيد بكاف الضمير لأنّ السماع جاء معه .
وظاهر كلام أبي علي في المسائل العسكرية لا يختصّ هذا بالشعر فإنه قال : وأمّا
إبدال الياء من الألف في قفا في الإضافة فإنّما أبدل كما أبدلت الألف منها فيمن
قال : رأيت هذان أي : للتقارض . وقالوا أيضاً : عليك وإليك وقد اطّرد هذا في بعض
اللغات نحو : هويّ ونويّ وقفيّ فأبدلت الياء من ألف هواي ونواي وقفاي كما أبدلت
الألف منها في : حاحيت وعاعيت حيث أريد إزالة التضعيف فيه . كما أريد من نظيره من
الواو وهو : ضوضيت وقوقيت . هذا كلامه .
وأما عصيكا فأصله عصيت قال ابن جنّي في سرّ الصناعة : أبدل الكاف من التاء لأنها
أختها في الهمس وكان سحيم إذا أنشد شعراً قال : أحسنك والله يريد أحسنت . انتهى .
وقد تقدّم الكلام في هذا الكتاب في ترجمته سحيم أنّه كان حبشيّاً وكان في لسانه
لكنة .
____________________
وقال أبو علي في المسائل العسكرية : قال أبو الحسن الأخفش : إن شئت قلت أبدل من
التاء الكاف لاجتماعها معها في الهمس وإن شئت قلت أوقع الكاف موقعها وإن كان في
أكثر الاستعمال للمفعول لا للفاعل لإقامة القافية ألا تراهم يقولون : رأيتك أنت
ومررت به هو فيجعل علامات الضمير المختصّ بها بعض الأنواع في أكثر الأمر موقع
الآخر . ومن ثمّ جاء : لولاك . وإنّما ذلك لأّ الاسم لا يصاغ معرباً وإنّما يستحق
الإعراب بالعامل . انتهى .
قال ابن هشام في المعني : ليس هذا من استعارة ضمير النصب مكان ضمير الرفع كما زعم
الأخفش وابن مالك وإنّما الكاف بدل من التاء بدلاً تصريفيّاً .
وهذا الشعر من مشطور السريع هكذا أورده أبو زيد في نوادره ونسبه لراجز من حمير . )
وتبعه صاحب الصحاح في مادة السين المهملة .
وأمّا الزّجاجيّ فإنّه رواه يف آخر أماليه الكبرى على خلاف هذه الرواية فقال : باب
التاء والكاف في المكنّي يقال : ما فعلت وما فعلك قال الراجز : ( ياابن الزّبير
طالما عصيكا ** وطالما عنّيكنا إليكا ) لنضربن بسيفنا قفيكا يريد عصيتنا وعنيتنا .
فروى : عنيكنا بدل التاء كافاً مثل عصيكا . وعنينا إليك بمعنى أتعبتنا بالمسير
إليك . والنون الخفيفة في قوله : لنضربن نون التوكيد . وأراد بابن الزّبير عبد
الله بن الزّبير حواريّ رسول الله صلّى اله عليه وسلم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثاني والعشرون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( قال لها : هل
لك ياتا فيّ )
____________________
على أنّ كسر ياء المتكلم
من نحو فيّ لغة بني يربوع لكنّه عند النحاة ضعيف كقراءة حمزة : ما أنتم بمصرخي .
وهذا الشعر من أرجوزة للأغلب العجليّ وهو شاعر حاهليٌّ أسلاميّ أسلم وهاجر ثم
استشهد في وقعة نهاوند .
وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين بعد المائة .
وأوّل هذه الأرجوزة : ( أقبل في ثوبٍ معافريّ ** بين اختلاط اللّيل والعشيّ ) إلى
أن قال : ( ماضٍ إذا همّ بالمضيّ ** قال لها هل تلك ياتا فيّ ) قال في الصحاح :
معافر بفتح الميم : حيّ من همدان وإليهم تنسب الثياب المعافريّة وهو باللعين
المهملة . و الماضي : الذي لا يتوانى ولا يكسل في أمرٍ همّ به .
وقوله : قال لها الخ الضمير عائد على امرأة تقدّم ذكرها . و يا حرف نداء و تا
بالثناة الفوقيّة منادى وهو اسم إشارة يشار به إلى المؤنث . و لك بكسر الكاف
والجارّ والمجرور )
خبر مبتدأ محذوف وهو متعلق قوله فيّ . يقول : قال لها ذلك الرجل الماضي : يا هذه
المرأة : هل لك رغبةٌ فيّ قالت له : لست بالمرضيّ فيكون لي رغبة فيك .
واعلم أنّ الفرّاء والزجّاج وغيرهما قد أنكروا هذه القراءة والشعر . أمّا الفرّاء
فقد قال : في تفسيره : الياء من مضرخيّ منصوبةٌ لأنّ الياء من المتكلّم
____________________
تسكن إذا تحرّك ما قبلها
وتنصب إرادة الهاء كما قرئ : لكم دينكم ولي دين بنصب الياء وجزمها . فإذا سكن ما
قبلها ردّت إلى الفتح الذي كان لها فالياء من مصرخيّ ساكنة والياء بعدها من
المتكلّم ساكنة فحركت إلى حركةٍ قد كانت لها . فهذا مطّرد في الكلام .
وقد خفض الياء من مصرخيّ الأعمش ويحيى بن وثاب جميعاً حدّثني القاسم ابن معن عن
الأعمش عن يحيى أنه خفض الياء ولعلها من وهم القرّاء طبقة يحيى لإإنه قلّ من سلم
منهم من الوهم ولعلّه ظنّ الباء من بمصرخيّ خافضة للحرف كله والياء من المتكلم
خارجة من ذلك .
ومّما نرى أنّهم وهموا فيه قولهم : نولة ما تولّى ونصله جهنّم وظّنوا والله أعلم
أنّ الجزم في الهاء والهاء في موضع نصب وقد انجزم الفعل بسقوط الياء منه . ومّما
وهموا فيه قوله : وما تنزلت به الشياطون حدثني مندل بن علي العنزيّ عن الأعمش قال
: كنت عند إبراهيم وطلحة بن مصرّف يقرأ : قال لمن حوله ألا تستعمون بنصب اللام من
حوله فقال لي إبراهيم : ما تزال تأتينا بحرف أشنع إنما هي : لمن حوله بخفض اللام .
قال : قلت : لا إنّما هي حوله فقال إبراهيم : يا طلحة كيف تقول قال : كما قلت .
قال الأعمش قلت : لحنتما لا أجالسكما اليوم . قال الفرّاء : وقد سمعت بعض العرب
ينشد : ( قال لها : هل لك ياتا فيّ ** قالت له : ما أنت بالمرضيّ )
____________________
فخفض الياء من فيّ : فإن
يك ذلك صحيحاً فهو مما يلتقي من الساكنين فيخفض الآخر منهما وإن كان له أصل في
الفتح ألا ترى أنهم يقولون : لم أره مذ اليوم والرفع في الذال هو الوجه لأنه أصل
حركة منذ والخفض جائز . فكذلك الياء من مصرخيّ خفضت ولها أصلٌ في النصب .
انتهى كلام الفرّاء .
وأما الزّجاج فقد قال في تفسيره : قرأ حمزة والأعمش بمصرخيّ بكسر الياء وهذه عند
جميع النحويين رديئة مرذولة ولا وجه لها إلاّ وجيه ضعيف ذكره بعض النحويّين وذلك
أنّ ياء ومن أجاز بمصرخيّ بالكسر لزمه أن يقول : هذه عصاي أتؤكأ عليها . وأجاز
الفرّاء على )
وجهٍ ضعيف الكسر لأن أصل التقاء الساكنين بالكسر وأنشد : قال لها هل لك ياتا فيّ
الخ وهذا الشعر مّما لا يلتفت إليه وعمل مثل هذا أسهل وليس يعرف قائل هذا الشعر من
العرب ولا هو مّما يحتج به في كتاب الله تعالى . انتهى كلام الزجّاج .
ونقل أبو شامة في شرح الشاطبيّة عن ابن النحاس : أنّ الأخفش سعيداً قال : ما سمعت
هذا من أحد من العرب ولا من أحد من النحويين . قال أبو جعفر : قد صار هذا بإجماع
ولا يجوز ولا ينبغي أن يحمل كتاب الله على الشذوذ .
قال أبو نصر بن القشيريّ في تفسيره : ما ثبت بالتواتر عن النبي صلّى الله عليه
وسلم فلا يجوز أن يقال هو خطأ أو قبيح ورديء بل في القرآن فصيح وفيه ما هو أفصح
فلعل هؤلاء أرادوا أنّ غير هذا الذي قرأ حمزة أفصح .
____________________
قال أبو شامة : قلت : يستفاد من كلام أهل اللغة أنّ هذه لغة وإن شذّت وقلّ
استعمالها .
قال أبو عليّ : قال الفرّاء في كتابه التصريف : زعم القاسم بن معن أنّه صواب قال :
وكان ثقة بصيراً وزعم أنّه لغة بني يربوع . ثمّ بعد أن نقل أبو شامة بعضاً من كلام
الفرّاء والزّجاج قال : قلت : ليس بمجهول فقد نسبه غيره إلى الأغلب العجليّ الراجز
ورأيته أنا في أوّلأ ديوانه . وانظر إلى الفرّاء كيف يتوقف في صحة ما أسنده وهذه
اللغة باقيةٌ في أفواه الناس إلى اليوم يقول القائل : ما فيّ أفعل كذا .
وفي شرح الشيخ : قال حسين الجعفيّ : سألت أبا عمرو بن العلاء بن كسر الياء فأجازه
. وهذه الحكاية تروى على وجود ذكرها ابن مجاهد في كتاب الياءات من طرق قال : قال
خلاد حدّثنا حسين الجعفيّ قال : وقلت لأبي عمرو بن العلاء : إن أصحاب النحو
يلحّنوننا فيها . فقال : هي جائزة أيضاً لا نبالي إلى اسفل حركتها أو إلى فوق . ثم
ذكر بقية الطرق .
واعلم أن علماء العربيّة قد وجّهوا قراءة حمزة بوجوه : أحدها : ما ذكره الشارح
المحقّق وهو أن ياء الإضافة سشبّهت بهاء الضمير التي توصل بواوٍ إذا كانت مضمومة
وبياء إذا كانت مكسورة وتكسر بعد الكسر والياء الساكنة . ووجه المشابهة : أنّ
الياء ضمير كالهاء كلاهما على حرف واحد يشترك في لفظه النصب والجر . وقد وقع قبل
الياء هنا ياء ساكنة فكسرت كما تكسر الهاء في عليه . وبنو يربوع يصلونها بياء كما
)
يصل ابن كثير نحو عليه بياء وحمزة كسر هذه الياء من غير صلة لأنّ الصلة ليست من
مذهبه .
وهذا التوجيه هو الذي اعتمد عليه أبو عليّ في الحجّة قال : وجه ذلك من القياس أن
الياء ليست تخلو من أن تكون في موضع نصب أو جر فالياء في النصب والجرّ كالهاء
فيهما وكالكاف في أكرمتك وهذا لك فكما أن الهاء قد لحقتها الزيادة في هذا له وضربه
ولحق الكاف أيضاً الزيادة في قول من قال : أعطيتكاه
____________________
وأعطيتكيه فيما حكاه
سيبويه وهما أخنا الياء كذلك ألحقوا الياء كذلك ألحقوا الياء الزيادة من المدّ
فقالوا : فيّ ثم حذفت الياء الزائدة على الياء كما حذفت الزيادة من الهاء في قول
من قال : له أرقان وزعم أبو الحسن أنّها لغة .
قلت : نقل الواحديّ في تفسيره الوسيط عن قطرب أنه زعم أن هذا لغة في بني يربوع
يزيدون على ياء الإضافة ياء نحو : هل لك ياتا فيّ وكان الأصل بمصرخيّ ثمّ حذفت
الياء الزائدة وأقرّت الكسرة على ما كانت عليه . انتهى .
وقول أبي علي : له أرقان هو قطعة من بيت وهو : الطويل فبتّ لدى البيت العتيق أربغه
ومطواي مشتاقان له أرقان ويأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب الضمائر .
وقال أبو شامة : ليس التمثيل بقوله : له أرقان مطابقاً لمقصوده فإنّ الهاء ساكنة
حذفت حركتها مع حذف طلتها وليس مراده إلاّ حذف الصلة فقط . فالأولى لو كان مثل
بنحو : عليه وفيه .
ثم قال أبو علي : وكما حذفت الزيادةٌ من الكاف فقيل أعطيتكه كذلك حذفت الياء
اللاحقة للياء على هذه اللغة وإن كان غيرها أفشى منها وعضدة من القياس ما ذكرنا .
لم يجز لقائل أن يقول إن القراءة بذلك لحنٌ لاستقامة ذلك في السماع والقياس وما
كان كذلك لا يكون لحناً .
الوجه الثاني أن يكون الكسر في بمصرخيّ لأجل التقاء الساكنين وهذا هو الوجه الذي
نبّه عليه الفرّاء أوّلاً وتبعه فيه الناس قال الزمخشريّ : كأنه قدّر ياء الإضافة
ساكنة ولكنّه غير صحيح لأن ياء الإضافة لا تكون إلاّ مفتوحة حيث قبلها ألف في عصاي
فما بالها وقبلها ياء .
____________________
ومّمن تبع الفرّاء ابن جنّي في المحتسب في سورة طه قال : قرأ الحسن وأبو عمرو
بخلافٍ عنهما : هي عصاي بكسر الياء وكسرها في نحو هذا ضعيف استقالاً للكسرة فيها
وهرباً )
إلى الفتحة كهداي وبشراي إلاّ أنّ للكسر وجهاً ما وذلك أنه قد قرأ حمزة وما أنتم
بمصرخيّ وكسر الياء لالتقاء الساكنين مع أنّ قبلها كسرة وياء والفتحة والألف في
عصاي أخفّ من الكسرة والياء في مصرخيّ . وروينا عن قطرب وجماعةٍ من أصحابنا : قال
لها هل لك ياتا فيّ أراد : فيّ ثم أشبع الكسرة للإطلاق وأنشأ عنها ياء نحو منزلي
وحوملي . وروينا عنه أيضاً : ( عليّ لعمرو نعمةٌ بعد نعمةٍ ** لوالده ليست بذات
عقارب ) وروينا عنه أيضاً : الرجز ( إنّ بنيّ صبيةٌ صيفيّون ** أفلح من كان له
ربعيون اه . ) الوجه الثالث : أنّ الكسر في بمصرخيّ للإتباع للكسرة التي بعدها وهي
كسر همزة إنّي كما قرأ بعضهم : الحمد لله بكسر الدال اتباعاً لكسر اللام بعدها .
قال أبو شامة : وهذه الأوجه الثلاثة كلها ضعيفة . والله أعلم .
وأنشد بعده :
____________________
خالط من سلمى خياشم وفا
تقدّم شرحه في الشاهد الثالث والأربعين بعد المائتين من باب الاستثناء .
وما وجه به الشارح هنا من الوجهين هما لأبي عليّ في الإيضاح الشعريّ وتقدّم نقلهما
عنه هناك بأبسط مّما هنا فليرجع إليه .
وقال في البغداديّات أجرى الشاعر في فم الإفراد مجرى الإضافة في الضرورة وذلك قوله
: خاشيم وفا فحكم ألأف فا أن تكون بدلاً من التنوين والمنقلبة من العين سقطت
لالتقاء الساكنين لأنه الساكن الأوّل وبقي الاسم على حرف واحد . وجاز هذا في الشعر
للضرورة قال المبّرد : وقد لّحن كثيرٌ من الناس العجّاج في قوله : خياشيم وفا .
قال : وليس هو عندي بلاحن لأنه حيث اضطر أتى به في قافيةٍ غير ملحقة معها التنوين
. والقول عندي فيه ما قدّمته : من أنّه أجراه في الإفراد مجراه في الإضافة فلا
يصلح تلحينه ونحن نجد مساغاً إلى تجويزه ونحن نرى في كلامهم نظيره من استعمالهم في
الشعر ما لايجوز مع سواه كقولهم : ولضفادي جمّه نقانق أي : لضفادع جمّه فكذلك يجوز
فيه استعمال الاسم على حرف واحد وإن لم يسغ في الكلام . )
فأمّا قول المبّرد : ومن كان يرى تنوين القوافي لم ينوّن هذا فليس في هذا عنده
شيءٌ منع من تنوينه عند من ينوّن . ويفسد ما ذكره من أنّ من نوّن القوافي لم ينوّن
هذا أنّ من ينوّن القافية يلزمه تنوين هذا الاسم لكونه في موضع النصب وقد أجاز
المبّرد في غير هذا الموع أن يكون الاسم المظهر على حرف مفرد . هذا كلامه ومنه
تعلم أنّ نقل الشارح المحقّق عن أبي عليّ خلاف مذهبه .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثالث والعشرون بعد الثلاثمائة ) الوافر ( كفي بالنّأي
من أسماء كافي ) على أنّ الوقف على المنصوب بالسكون لغة فإن كافياً مفعول مطلق وهو
مصدر مؤكّد لقوله كفى وكان القياس أن يقول كافياً بالنصب لكنّه حذف تنوينه ووقف
عليه بالسكون والمنصوب حقّه أن يبدل تنوينه ألفاً . و كاف من المصادر التي جاءت
على وزن اسم الفاعل قال المرزوقيّ في شرح الفصيح : يريد كفى النأي من أسماء كفايةُ
وهو اسم فاعل وضع موضع المصدر كقولهم : قم قائماً وعوفي عافية وفلج فالجاً . وكان
يجب أن يقول كافياً لكنّه حذف الفتحة كما تحذف الضمّة والكسرة . انتهى .
وكذلك الزمخشريّ أورده في المفصّل في المصادر التي جاءت على صيغة اسم الفاعل . و
النأي : البعد وهو فاعل كفى والباء زائدة في الفاعل كقوله تعالى : كفى بالله
شهيداً .
وهذا صدر وعجزه : وليس لنأيها إذ طال شافي وهذا البيت مطلع قصيدةٍ لبشر بن أبي
خازم مدح بها أوس بن حارثة بن لأم لّما خلّى سبيله من الأسر والقتل . و شاف : اسم
ليس . و لنأيها : متعلّق به والخبر محذوف أي : عندي أو موجود . وفاعل طال ضمير
النأي . و إذ تعليليّة متعلّقة بشاف . وجملة وليس لنأيها الخ معطوفة على ما قبلها
أي : يكفيني بعدها بلاءً فلا حاجة إلى بلاءٍ آخر إذ هو الغاية ولا شفاء لي من مرض
بعدها مع
____________________
طوله . ويجوز أن تكون
الواو للحال . )
وقال معمر بن المثنّى شارح ديوان بشر وهو عندي بخطّه وهو خطٌّ كوفيٌّ : المعنى لا
يصيبني بعد هذا شيءٌ الناشئ من بعدها .
ويروى أيضاً : وليس لسقمها أي : السّقم الذي حصل لي منها . هذا كلامه وليس وراء
عبّادان قرية .
وروى شرّاح المفصّل المصراع الثاني كذا : وليس لحبّها إذ طال شافي قال شارح أبياته
وهو بعض فضلاء العجم : قوله : لحبّها مفعول شافي والخبر محذوف أي : ورواه
المظفّريّ في شرحه : و ليس بحبّها بالموحّدة وقال : أي ليس حبّها شافياً إذ طال
يعني يحصل الشفاء من وصلها لا بحبّها . و بشر بن أبي خازم بكسر الموحّدة وسكون
الشين المعجمة وخازم بالخاء والزاي المعجمتين .
قال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : بشر بن أبي خازم هو من بني أسد جاهليّ قديم وشهد
حرب أسد وطيّئ وشهد هو وابنه نوفلٌ الحلف بينهما .
قال أبو عمرو بن العلاء : فحلان من فحول الجاهليّة كانا يقويان : بشر بن أبي خازم
والنابغة الذبيانيّ : فأمّا النابغة فدخل يثرب فغنّي بشعره ففطن فلم يعد للإقواء .
وأما بشر فقال له أخوه سوادة : إنّك لتقوي قال : وما الإقواء قال : قولك : الوافر
____________________
( ألم تر أنّ طول الدّهر
يسلي ** وينسي مثل ما نسيت جذام ) ثم قلت : ( وكانوا قومنا فبغوا علينا ** فسقناهم
إلى البلد الشّآم ) فلم يعد للإقواء . اه .
وأورده محمّد بن حبيب في كتاب أسماء من قتل من الشعراء فقال : ومنهم بشر بن أبي
خازم الأسديّ وكان أغار في مقنبٍ من قومه على الأبناء من بني صعصعة بن معاوية وكلّ
بني صعصعة إلاّ عامر بن صعصعة يدعون الأبناء وهم : وائله ومازن وسلول فلما جالت
الخيل مرّ بشرٌ بغلامٍ من بني وائلة فقال له بشر : استأسر .
فقال له الوائلي : لتذهبن أو لأرشقنك بسهمٍ من كنانتي : فأبى بشرٌ إلاّ أسره فرماه
بسهم على ثندوته فاعتنق بشرٌ فرسه وأخذ الغلام فأوثقه فلمّا كان في الليل أطلقه
بشرٌ من وثاقه وخلّى )
سبيله وقال : أعلم قومك أنّك قتلت بشراً . وهو قوله : الوافر ( وإنّ الوائليّ أصاب
قلبي ** بسهمٍ لم يكن نكساً لغابا ) في شعر طويل اه .
وكان بشر أوّلاً يهجو أوس بن حارثة بن لأم وكان أوسٌ نذر لئن ظفر به ليحرّقنه فلما
تمكّن أطلقه وأحسن إليه فمدحه . وهذه القصيدة الفائيّة أول القصائد التي مدحه بها
. ولما لم يكن فيها شيء من الشواهد سوى المطلع اكتفينا به وما زدنا عليه شيئاً .
وعدّتها اربعة وعشرون بيتاً .
____________________
وأوسٌ هذا مّمن يضرب به المثل في الكرم والجود يقال له ابن سعدى قال جرير : الوافر
( وما كعب بن مامة وابن سعدى ** بأجود منك يا عمر الجودا ) وسبب هجاء بش لأوس هو
ما حكاه أبو العباس المبّرد في الكامل قال : أوس بن حارثة بن لأم الظائيّ كان
سيداً مقدّماً وفد ههو وحاتم بن عبد الله الطائي على عمرو بن هندٍ وأبوه المنذر بن
المنذر بن ماء السماء فدعا أوساً فقال : أأنت أفضل أم حاتم فقال : أبيت اللّعن لو
ملكني حاتمٌ وولدي ولحمتي لوهبنا في غذاةٍ واحدة ثم دعا حاتماً فقال : أأنت أفضل
أم أوس فقال : أبيت اللّعن إنّما ذكرت بأوس ولأحد ولده أفضل منّي .
وكان النعمان بن المنذر دعا بحلّةٍ وعنده وفود العرب من كلّ حيّ فقال : احضروا في
غدٍ فإي ملبسٌ هذه الحلّة أكرمكم . فحضر القوم جميعاً إلاّ أوساً فقيل له : لم
تتخلّف فقال : إن كان المراد غيري فأجمل الأشياء ألا أكون حاضراً وإ كنت المراد
فسأطلب ويعرف مكاني فلما جلس النعمان لم ير أوساً فقال : اذهبوا إلى أوس فقولوا له
: احضر آمناً مما خفت . فحضر فألبسه الحلّة فحسده قومٌ من أهله فقالوا للحطيئة :
اهجه ولك ثلثمائة ناقة . فقال الحطيئة : كيف أهجو رجلاً لا أرى في بيتي أثاثاً ولا
مالاً إلاّ من عنده ثم قال : البسيط ( كيف الهجاء وما تنفكّ صالحةٌ ** من آلأ لأم
بظهر الغيب تأتيني ) فقال له بشر بن أبي خازم أحد بني أسد بن خزيمة : أنا أهجو لكم
. فأخذ الأغبل وفعل فأغار أوس عليها فاكتسحها فجعل لا يستجير حيّاً إلاّ قال قد
أجرتك إلآّ من أوس .
وكان في هجائه قد ذكر أمّه فأتي به فدخل أوسٌ على أمّه فقال : قد أتينا ببشرٍ
____________________
الهاجي لك ولي فما ترين
فيه قالت : أو تطيعني فيه قال : نعم . قالت : أرى أن تردّ عليه ماله وتعفو عنه
وتحبوه وأفعل مثل ذلك فإنه لا يغسل هجاءه إلاّ مدحه فخرج فقال : إنّ أمّي سعدى
التي )
كنت تهجوها قد أمرت فيك بكذا وكذا فقال : لا جرم والله لا مدحت حتّى أموت أحداً
غيرك . ففيه يقول : الوافر ( إلى أوس بن حارثة بن لأمٍ ** ليقضي حاجتي فيمن قضاها
) ( فما وطئ الثّرى مثل ابن سعدى ** ولا لبس النّعال ولا احتذاها ) هذا ما أروده
المبّرد ولم يذكر كيف تمكّن منه أوس .
وقد حكاه معمر بن المثنّى في شرحه قال : إنّ بشر بن أبي خازم غزا طيئاً ثم بني
نبهان فجرح فأثقل جراحه وهو يومئذ بحمى أحدٍ أصحابه وإنّما كان في بني والبة
فأسرته بنو نبهان فخبؤوه كراهية أن يبلغ أوساً فسمع أوسٌ أنه عندهم فقال : والله
لا يكون بيني وبينهم خير أبداً أو يدفعوه ثم أعطاهم مائتي بعير وأخذه منهم فجاء به
وأوقد له ناراً ليحرّقه وقال بعض بني أسد : لم تكن نار ولكنّه أدخله في جلد بعير
حين سلخه ويقال جلد كبش ثم تركه حتّى جفّ عليه فصار فيه كأنه العصفور فبلغ ذلك
سعدى بنت حصين الطائيّة وهي سيّدة فخرجت إليه فقالت : ما تريد أن تصنع فقال : أحرق
هذا الي شتمنا . فقالت : قبح الله قوماً يسوّدونك أو يقبسون من رأيك والله لكأنّما
أخذت به أما تعلم منزلته في قومه خلّ سبيله وأكرمه فإنه لا يغسل عنك ما صنع غيره .
فحبسه عنده وداوى جرحه وكتمه ما يريد أن يصنع به وقال : ابعث إلى قومك يفدونك فإني
قد اشتريتك بمائتي بعير . فأرسل بشرٌ إلى قومه فهيّؤوا له الفداء وبادرهم أوسٌ
فأحسن كسوته وحمله على نجيبه الذي كان يركبه وسار
____________________
معه حتّى إذا بلغ أدنى أرض
غطفان جعل بشرٌ يمدح أوساً وأهل بيته . بمكان كلّ قصيدة هجاهم بها قصيدة فهجاهم
بخمسٍ ومدحهم بخمس . وقد قيل : إن بني نبهان لم تأسر بشراً قط إنّما أسره النعمان
بن جبلة بن واثل بن جلاح الكلبي وكان عند جبلة بنت عبيد بن لأم فولدت منه عوف بن
جبلة فبعث إليه أوس بن حارثة يتقرّب بهذه القرابة فبعث ببشر إليه فكان من أمره ما
كان .
هذه حكايته وقد نقلتها من خطّه الكوفيّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الرابع والعشرون بعد الثلاثمائة ) المتقارب ( وآخذ من كلّ
حيّ عصم ) هذا عجزه وصدره : إلى المرء قيسٍ أطيل السّرى على أنه وقف على المنصوب
المنوّن بالسكون ولم يبدل تنوينه ألفاً كالذي قبله .
والاستشهاد بهذا البيت كثيرٌ في مؤلفات أبي عليّ وتلميذه ابن جنّي . وكان القياس
أن يقول : عصماً لأنه مفعول آخذ وهو جمع عصام ككتب جمع كتاب .
قال ابن جنّي في المبهج وهو شرح أسماء شعراء الحماسة لأبي تمام : عصام القربة :
وكاؤها وعصامها أيضاً : عروتها . وأنشد هذا البيت وقال : هو جمع عصام يعني عهداً
يبلغ به ويعزّ به . فقضيته أنّه بضمتين .
واستشهد به ابن هشام صاحب السيرة النبوية على أن عصماً فيه بكسرة
____________________
ففتحة جمع عصمة فإنه قال
عند تفسير قوله تعالى : ولا تمسّكوا بعصن الكوافر : واحدة العصم عصمة وهي الحبل
والسبب . ثم أنشد هذا البيت .
وهو من قصيدة للأعشى ميمون مدح بها قيس بن معد يكرب مطلعها : ( أتهجر غانيةً أم
تلم ** أم الحبل واهٍ بها منجدم ) ( أم الصّبر أحجى فإنّ أمراً ** سينفعه علمه إن
علم ) إلى أن قال : ( ويهماء تعزف جناحها ** مناهلها آجنات سدم ) ( قطعت برسامةٍ
جسرةٍ ** عذافرةٍ كالفنيق القطم ) ( تفرّج للمرء من همّه ** ويشفى عليا الفؤاد
السّقم ) ( إلى المرء قيسٍ أطيل السّرى ** وآخذ من كلّ حيّ عصم ) ( فكم دون بابك
من معشرٍ ** خفاف الحلوم عداةٍ غشم ) ( إذا أنا حيّيت لم يرجعوا ** تحيّتهم وهم
غير صم ) إلى أن قال : ) ( ولم يود من كنت تسعى له ** كما قيل في الحرب أودى درم )
( تقول ابنتي حين جدّ الرّحيل ** أرانا سواءً ومن قد يتم ) ( فيا أبتا لا تزل
عندنا ** فإنّا نخاف بأن نخترم ) ( فلا رمت يا أبتا عندنا ** فإنّا بخير إذا لم
ترم )
____________________
( نرانا إذا أضمرتك البلا
** د نجفى ويقطع منّا الرّحم ) الغانية : الجارية التي استغنت بزوجها وقد تكون
التي استغنت بحسنها . و الإلمام : النزول وأراد به هنا الزيارة والمواصلة . و
الحبل : الوصل . و وهى الحبل ونحوه : تشقّق واسترخى . و الانجذام بالجيم والذال
المعجمة : الانقطاع . و أحجى : أليق من الحجا وهو العقل . و اليهماء بفتح المثناة
التحتيّة : الفلاة التي لا يهتدى إلى الطريق فيها . وتعزف : تصوّت وهو بالعين
المهملة والزاي المعجمة . و الجنّان بكسر الجيم : جمع جانٌ وهو أبو الجنّ . و
المنهل : المورد وهو عين ماء ترده الإبل . و الآجن : الماء المتغيّر الطعم واللون
. و السّدم بضم السين والدال المهملتين في الصحاح : ركيّة سدم وسدم مثل عسر وعسر :
إذا ادّفنت .
وقوله : قطعت جواب ربّ المقدّرة في قوله : ويهماء وهو العامل في محله . و الرسّامة
: الناقة التي تؤثر في الأرض من شدّة الوطء . و الجسرة بفتح الجيم : الناقة القوية
الشديدة ومثلها العذافرة بضم العين المهملة . و الفنيق بفتح الفاء وكسر النون :
الفحل العظيم الخلق . و القطم بفتح القاف وكسر الطاء : وصفٌ من قطم الفحل بالكسر
أي : اهتاج وأراد الضراب وهو في هذه الحالة أقوى ما يكون . و الهمّ : الغمّ .
والفؤاد فاعل يشقى . و السّقم بفتحتين مفعوله .
وقوله : إلى المرء قيس الخ أل في المرء لاستغراق خصائص الأفراد نحو زيد الرجل أي :
الكامل في هذه الصّفة . وقيس بدل من المرء . و السّرى بالضم : جمع سرية يقال :
سرينا سرية من الليل وسرية بالضم والفتح . قال أبو زيد : ويكون السّرى أول الليل
وأوسطه وآخره .
وهذه طريقة المتقدّمين في التخلص إلى المديح وهو أنهم يصفون الفياقي وقطعها بسير
النوق وحكاية ما يعانون في أسفارهم إلى ممدوحهم .
وقوله : وآخذ من كلّ الخ معطوف على أطيل السرى . وإنما كان يأخذ
____________________
من كلّ قبيلةٍ عهداً إلى
قبيلةٍ أخرى لأن له في كلّ حيّ أعداء ممن هجاهم أو ممن يكره ممدوحه فيخشى القتل أو
غيره )
فيأخذ عهداً ليصل بالسّلامة إلى ممدوحه فذكر له ما تجشّمه من المشاق في المسير
إليه ليجزل له العطايا . وقد ذكر الأعداء بقوله : فكم دون بابك من معشر . . . الخ
و خفاف : جمع خفيف ككرام جمع كريم . و الحلوم : جمع حلم بالكسر وهو الأناة أراد
وقوله : ولم يود من كنت الخ أودى فلان أي : هلك فهو مودٍ . و درم بفتح الدال وكسر
الراء قال في الصحاح : اسم رجل من بني شيبان قتل فلم يدرك بثأره وقال المؤرخ : فقد
كما فقد الفارظ العنزيّ .
وفي ديوان الأعشى : إنه درم من دبّ بن مرّة بن ذهل بن شيبان كان النعمان يطلبه
فظفروا به فمات في أيديهم قبل أن يصلوا به إلى النعمان فقيل أودى درم فذهبت مثلاً
.
وروي : كما قيل في الحيّ أودى درم قال العسكريّ في التصحيف : اجتمع رواة بغداد على
أنّ درم مفتوح الدال مكسور الراء إلآّ ابن الروميّ الشاعر فإنّه ذكر أن روايته درم
بكسر الدال وفتح الراء وكان يغزوه إلى محمّد بن حبيب . وإنّما احتاج إلى أن يجعله
هكذا في
____________________
شعر له هرباً من التوجيه
فقد كان ابتداء قصيدته : أفيضا دماً إنّ الرّزايا لها قيم فبناها على فتح ما قبل
الرويّ ثم قال : فطاحت جباراً مثل صاحبها درم وأنشدها عليّ هكذا فأنكر ذلك عليه
أبو العباس ثعلب . ودرمٌ هذا مشهور عند النسّابين وهو درم دبّ بن مرّة بن ذهل بن
شيبان . إنما قالوا : أودى درم لأنه قتل فلم يود ولم يثأر به وقال قائل : أودى درم
فضرب مثلاً .
وقوله : أرانا سواءً الخ أي : نرى أنسفنا مثل الأيتام سواء . وقد يتم بالكسر ييتم
بالفتح يتماً بالضم والفتح وسكون التاء فيهما . واخترتهم الدهر وتخرمهم : أي
اقتطعهم واستأصلهم .
ونخترم بضم النون .
وقوله : فلا رمت الخ رام من مكانه يريم : إذا برح وزال . و نرانا بضم النون من
الرؤية بمعنى الظنّ . و نجفى بضم النون من الجفوة أي : نعامل بها . )
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الخامس والعشرون بعد الثلاثمائة ) الراجز ( كالحوت لا
يرويه شيءٌ يلقمه ** يصبح ظمآن وفي البحر فمه ) على أنه قد يقال في غير الأفصح فمي
وفم زيد في جميع حالات الإضافة . وهذا ظاهر فإثبات الميم عند الإضافة فصيح ويدلّ
له الحديث : لخلوف فم الصّائم .
ولا التفات إلى قول أبي علي في البغداديات : قد اضطر الشاعر فأبدل من العين الميم
في الإضافة كما أبدلها منها في الإفراد فقال : وفي البحر فمه . وهذا الإبدال في
الكلام إنما هو في الإفراد دون الإضافة فأجرى الإضافة مجرى المفرد في الشعر
للضرورة . هذا كلامه . و يلقمه : مضارع لقمت اللّقمة لقماً من باب طرب : إذا
بلغتها وكذلك التقمتها وتلقّمتها : إذا ابتلعتها . وروي بدله : يلهمه وهو بمعناه
يقال : لهمه لهماً من باب طرب أيضاً . إذا ابتلعته . و ظمآن بالنصب خبر يصبح .
وجملة : وفي البحر فمه حال من الضمير المستتر يف ظمآن .
قال حمزة الأصبهاني في الدرّة الفاخرة : أظمأ من حوت مثلٌ يزعمون دعوى بلا بينةٍ
أنه يعطش وفي البحر فمه واحتجّوا بقول الشاعر : كالحوت لا يرويه شيء الخ . وينقضون
هذا بقولهم : أروى من حوت فإذا سئلوا عن علّة قولهم قالوا : لأنّه لا يفارق الماء
. انتهى .
ولم يزد الزمخشريّ في المستقصى في شرح هذا المثل على قوله : يزعمون أنه يعطش في
البحر قال : كالحوت لا يرويه شيء الخ .
____________________
وقد نقل الكرمانيّ كلام الدرّة في شرح شواهد الخبيصيّ ثم قال : يمكن تصحيح المثلين
حقيقةً وهو أن الحوت لا يشرب ماء البحر ما أمكنه لملوحته فهو إذن ظمآن . ولكثرة
صبره على العطش مع وجود الماء كأنه ريّان إذ لولا أنه كذلك لشرب الماء . وجاز أن
يكون قلّة شربه لخوف غرقه بوصول الماء إلى جوفه متجاوز الحدّ .
هذا كلامه ولا ينبغي له تسطير مثل هذا . والوجه أن يقال : لوجوده في الماء إنما
ضرب المثل بربّه ولعدم طاقته على مفارقة الماء قيل : أظمأ من حوت . كأنّ ملازمته
للماء إنما هي لشدّة ظمئه .
وقال صاحب حياة الحيوان : هذا البيت مثل يضرب لمن عاش بخيلاً شرهاً . )
وهو من رجز طويل لرؤبة بن العجّاج عدّته أربعمائة وخمسة وثلاثون بيتاً مدح به أبا
العبّاس السفّاح أول الخلفاء العباسيّة .
قلت لزيرٍ لم تصله مريمه وذكر في أواخر فقره وشدّة حاجته إليه . وهذه قطعة منه :
جاءك عودٌ خندقيٌّ قشعمه العود بالفتح : المسنّ القديم وأصله في الإبل عنى به نفسه
. و خندف : امرأة الياس بن مضر . وأراد بكونه خندقياً أنه عدنانيٌّ لا قحطاني . و
القشعم : الكبير .
عليه من لبد الزّمان هلدمه لبد الزّمان بكسر اللام وسكون الموحدة : جفونه ووسخه .
و هلدمه : ما تراكم بعضه على بعض وقال بعضهم : خلقانه . وهو بكسر الهاء والدال
وسكون اللام بينهما .
____________________
موجّب عاري الضّلوع حرضمه الموجّب بكسر الجيم وروي بفتحها : الذي يأكل في اليوم
والليلة مرّةً يقال : فلان يأكل وحبةً وقد وجبّ نفسه توجيباً : إذا عوّدها ذلك :
أراد : إنني لا أصيب من القوت في اليوم والليلة إلاّ مرّة . و الحرضم بكسر المهملة
والضاد المعجمة بينهما راء مهملة : المهزول كذا في شرح ديوانه .
لم يلق للجشب إداماً يأدمه الجشب بفتح الجيم وسكون الشين المعجمة : ضيق العيش . في
الصحاح : طعام جشب ما زال يرجوك لحقّ يزعمه على التنّائي ويراك حلمه التمّائي :
التباعد . و الحلم بضمتين : ما يراه النائم . والأاسناد مجازيّ أي : يراك في حلمه
.
قد طالما جنّ إليك أهيمه أهيمه : عقله وفؤاده .
إيّاك لم يخطئ به ترسّمه الترسّم بالراء : التفرّس من افراسة .
كالحوت لا يرويه شيءٌ يلهمه شبّه نفسه بالحوت أي : هو كالحوت . )
يصبح ظمآن وغي البحر فمه من عطشٍ لوّحه مسلهمه
____________________
لوحه : غيره من لوّحته أي
: غيّرته ومن لوّحت الشيء بالنار : أحميته . و المسلهم : المغيّر .
أطال ظمئاً وجباك مقدمه الجبا بكسر الجيم بعدها موحدة : الماء المجموع للإبل وهو
بالقصر . و مقدمه : مورده . الرّواء بالفتح والمدّ : الماء العذب . و أطغمه أي :
أكثره وهو بالغين المعجمة .
قد كان جمّاً شاؤه ونعمه أخبر عن نفسه بأنّه قبل اليوم كثير الغنم والإبل .
فعضّه دهرٌ مذفٌ محطمه والدّهر أحبى لا يزال ألمه الأحبى : الشديد الحابي الضلوع
أي : المشرف المنتفخ الجنبين من الغيظ .
أفنى القرون وهو باق أونمه أي : حوادثه وهو بالزاء المعجمة والنون .
بذاك بادت عاده وإرمه بادت : هلكت . و عاد وإرم : فبيلتان .
وهذا آخر الرجز . وترجمة رؤبة قد تقدّمت في الشاهد الخامس من أوائل الكتاب .
وقد خطي الأصمعيّ عند هارون الرشيد بروايته لهذا الرجز .
____________________
روى السيّد المرتضى في أماليه : الدّرر والغرر بسنده إلى الأصمعيّ أنه قال :
تصرّفت بي الأسباب على باب الرشيد مؤمّلاً للظفر به والوصول إليه حتى إنّي صرت
لبعض حرسه خديناً فإنّي في بعض ليلةٍ قد نثرت السعادة والتوفيق فيها الأرق بين
أجفان الرشيد إذ خرج خادمٌ فقال : أما بالحضرة أحدٌ يحسن الشعر فقلت : الله أكبر
ربّ قيدٍ مضيّق قد حلّه التيسير فقال لي الخادم : ادخل فلعلّها أن تكون ليلةً يغرس
في صباحها الغنى إن فزت بالخطوة عند أمير المؤمنين .
فدخلت فواجهت الرّشيد في مجلسه والفضل بن يحيى إلى جانبه فوقف بي الخادم حيث يسمع
التسليم فسلمت فردّ عليّ السلام ثم قال : يا غلام أرحه ليفرح روعه إن كان وجد )
للرّوعة حسّاً فدنوت قليلاً ثمّ قلت : يا أمير المؤمنين إضاءة مجدك وبهاء كرمك
مجيران لمن نظر إليك من اعتراض أذيّة فقال : ادن . فدنوت فقال : أشاعرٌ أم راوية
لكلّ ذي جدّ وهزل بعد أن يكون محسناً فقال : تا لله ما رأيت ادّعاء أعظم من هذا
فقلت : أنا على الميدان فأطلق من عناني يا أمير المؤمنين فقال : قد أنصف القارة من
راماها ثم قال : ما المعنى في هذه الكلمة بديئاً فقلت : فيها قولان : القارة هي
الحرّة من الأرض وزعمت الرّواة أنّ القارة كانت رماةً للتبابعة والملك إذ ذاك أبو
حسّان فواقف عسكره وعسكر السّغد فخرج فارسٌ من السّغد ثد وضع سهمه في كبد قوسه
فقال : أين رماة العرب فقالت العرب : وقد أنصف القارة من راماها .
____________________
ثم قال : أرتوي لرؤية بن العجّاج والعجّاج شيئاً فقلت : هما شاهدان لم بالقوافي
وإن غيّبا عن بصرك بالأشخاص . فأخرج من ثني فرشه رقعة ثم قال : أنشدني : الراجز
أرّقني طارق همّ أرّقا فمضيت فيها مضيّ الجواد في سنن ميدانه تهدر بها أشداقي
فلمّا صرت إلى مديحه لبني أمية ثنيت لساني إلى امتداحه لأبي العباس في قوله : قلت
لزيرٍ لم تصله مريمه فلما رآني قد عدلت من أرجوزة إلى غيرها قال : أعن حيرةٍ أم عن
عمد قلت : عن عمد تركت كذبه إلى صدقه فيما وصف به جدّك من مجده فقال الفضل : أحسنت
بارك الله فيك مثلك يؤهلّ لمثل هذا المجلس فلما أتيت على آخرها قال لي الرشيد : أتروي
كلمة عديّ بن الرّقاع : عرف الدّيار توهّماً فاعتادها قلت : نعم . قال : هات .
فمضيت فيها حتّى إذا صرت إلى وصف الجمل قال لي الفضل : ناشدتك الله أن تقطع علينا
ما أمتعنا به من السهر في ليلتنا هذه بصفة جمل أجرب فقال له الرشيد : اسكت فالإبل
هي التي أخرجتك من دارك واستلب تاج ملكك ثم ماتت وعملت جلودها سياطاً ضربت بها أنت
وقومك فقال الفضل : لقد عوقبت على غير ذنب والحمد لله فقال الرشيد : أخطأت
____________________
الحمد لله على النّعم ولو
قلت : وأستغفر الله كنتمصيباً . ثم قال لي : امض في أمرك . فأنشدته حتّى إذا بلغت
إلى قوله : )
تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه استوى جالساً ثم قال : أتحفظ في هذا ذكراً قلت : نعم
ذكرت الرواة أنّ الفرزدق قال : كنت في المجلس وجرير إلى جانبي فلما ابتدأ عديّ في
قصيدته قلت لجرير مسيراً إليه هلم نسخر من هذا الشاميّ . فلما ذقنا كلامه يئسنا
منه فلمّأ قال : تزجى أغنّ كأنّ إبرة روقه وعديّ كالمستريح قال جرير : أما تراه
يستلب بها مثلاً فقال الفرزدق : يا لكع إنّه يقول : قلم أصاب من الدّواة مدادها
فقال عديّ : قلم أصاب من الدّواة مدادها فقال جرر : أكان سمعك مخبوءاً في صدره
فقال له : اسكت شغلني سبّك عن جيّد الكلام فلمّا بلغ إلى قوله : الكامل قال الرشيد
: ما تراه قال حين أنشده هذا البيت قلت : قال : كذاك أراد الله . فقال الرشيد : ما
كان في جلالته ليقول هذا أحسبه قال : ما شاء قلت : وكذا جاءت الرواية .
فلما أتيت على آخرها قال : أتروي لذي الرمّة شيئاً قلت الأكثر . قال : فما أراد
بقوله : الطويل ( ممرٌّ أمرّت فتله أسديّةٌ ** ذراعيّة حلاّلةٌ بالمصانع )
____________________
قلت : وصف حمار وحش أسمنه
بقل روضةٍ تواشجت أصوله وتشابكت فروعه من مطر سحابةٍ كانت بنوء الأسد ثم في الذراع
من ذلك . فقال الرشيد : أرح فقد وجدناك ممتعاً وعرفناك محسناً . ثم قال : أجد
ملالة ونهض فأخذ الخادم يصلح عقب النّعل في رجله وكانت عربيّة فقال الرشيد :
عقرتني يا غلام فقال الفضل : قاتل الله الأعاجم أما إنّها لو كانت سنديّةً لما
احتجت إلى هذه الكلمة .
فقال الرشيد : هذه نعلي ونعل آبائي كم تعارض فلا تترك من جوابٍ ممضّ ثم قال : يا
غلام يؤمر صالحٌ الخادم بتعجيل ثلاثين ألف درهم على هذا الرجل في ليلته هذه ولا
يجب في المستأنف .
فقال الفضل : لولا أنّه مجلس أمير المؤمنين ولا يأمر فيه غيره لأمرت لك بمثل ما
أمر لك وقد )
أمرت لك به إلاّ ألف درهم فتلّقى الخادم صباحاً . قال الأصمعيّ : فما صلّيت من غدٍ
إلاّ وفي منزلي تسعةٌ وخمسون ألف درهم .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السادس والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد س :
الطويل ( هما نفثا في فيّ من فمويهما ** على النّابح العاوي أشدّ رجام ) على أنّه
جمع بين البدل والمبدل منه وهما الميم والواو .
____________________
وتكلف بعضهم معتذراً بأن قال : الميم بدل من الهاء التي هي اللام قدّمت على العين
.
وتقدير القول الأول كما في البغدادّيات لأبي علي أ هـ أضاف الفم مبدلاً من عينها
الميم للضرورة كقول الآخر : وفي البحر فمه ثم أتى بالواو التي هي عين والميم عوض
منه فيكون جمعاً بين البدل والمبدل منه للضرورة .
وقد وجدنا هذا الجمع في مذاهبهم قال الشاعر : أقول يا اللهمّ يا اللّهمّا فجمع بين
حرف التبيه وبين الميمين اللتين هما هوضان منه فيكون قد اجتمع فيه على هذا الوجه
ضرورتان : إحداهما إضافة فم بالميم وحكمه أن لا يضاف بها وثانيهما جمعه بين البدل
والمبدل منه .
أقول : إضافة فم بالميم فصيح وليس بضروروة وتقدّم الردّ عليه بحديث : لخلوف فم
الصّائم .
وأما القول الثاني فهو يشبه أن يكون مذهب سيبويه فإنّه قال في باب النسبة واسمه
عند باب الإضافة ما نصّه : وأما فم فقد ذهب من أصله حرفان لأنّه كان أصله فوه
فأبدلوا الميم مكان الواو فهذه الميم بمنزلة العين نحو ميم ذم ثبتت في الاسم فمن
ترك دم على حاله إذا أضيف ترك فم على حاله ومن ردّ إلى دم اللام ردّ إلى فم العين
فجعلها مكان اللام كما جعلوا الميم مكان العين في فم .
قال الشاعر : )
هما نفثا في فيّ من فمويهما
____________________
وقالوا : فموان . قال فمان
فهو بالخيار إن شاء قال : فمويّ وإن شاء قال : فميّ . ومن قال : فموان قال : فمويّ
على كل حال .
هذا كلام سيبويه وبه يظهر خطأ الأعلم في شرح شواهده حيث قال : الشاهد في قوله
فمويه ما وجمعه بين الواو والميم التي هي بدل منها في فمّ . ومثل هذا لا يعرف لأنّ
الميم إذا كانت بدلاً من الواو فلا ينبغي أن يجمع بينهما .
وقد غلط الفرزدق في هذا وجعل من قوله إذ أسنّ واختلط عقله . ويحتمل أن يكون لّما
رأى فما على حرفين توهّمه مما حذفت لمه من ذوات الاعتلال كيد ودم فردّ ما توهّمه
محذوفاُ منه . انتهى كلامه .
وقوله : ومثل هذا لا يعرف تقدم عن أبي عليّ أنه معروف في قولهم : يا اللهمّ .
وقوله : وقد غلط الفرزدق في هذا الخ فيه أنّه لا يجوز أن يتوهمّ في البدويّ أنه
يغلط ف ينطقه ويلحن فإنه لا يطاوعه لسانه وإن تعمّده كما قيل فالعرب معصومون عن
لحن اللسان .
نعم يجوز أن يغلطوا في المعاني .
وقوله : ويحتمل أن يكون لّما رأى فما على حرفين الخ كأنه حين كتب هذا الكلام لم
ينظر إلى كلام سيبويه .
وقد نقل أبو علي في البغداديّات وجهاً آخر في توجيه فمويهما مع أنه لم ينقل فيها
مذهب سيبويه قال : وأمّا الفرزدق فمويهما فإنه قيل إنّه أبدل من العين الذي هو
واوٌ الميم كما تبدل منه في الإفراد ثم أبدل من الهاء التي هي لالمٌ الواو . وبدل
الواو من الهاء غير بعيد ويدل على سوغ ذلك أنهما يعتقبان الكلمة الواحدة كقولك عضة
فإنّ لمه قد يحكم عليها بأنها هاء لقولهم عضاه وقد يحكم عليها أنها واو لقولهم
عضوات .
وذهب ابن جنّي في سرّ الصناعة إلى أنّ فمويهما مثنّى فماً بالقصر قال في قول
الشاعر :
____________________
يا حبّذا عينا سليمى
والفما يجوز أن يكون الفما في موضع رفع وهو اسمٌ مقصور بمنزلة عصا وعليه جاء بيت
الفرزدق : هما نفثا في فيّ من فمويهما )
فاعرفه . انتهى .
وقوله : هما نفثا ضمير التثنية راجعٌ إلى إبليس وابنه كما يأتي . و نفثا : أي :
ألقيا على لساني من نفث الله الشيء في القلب : ألقاهز وأصل نفث بمعنى بزق ومنهم من
يقول : إذا بزق ولا ريق معه . ونفث في العقدة عند الرّقية وهو البزاق اليسير .
ونفثه نفثاً أيضاً : إذا سحره .
وروي أيضاً : هما تفلا من تفل تفلاً من بابي ضرب وقتل من البزاق يقال : بزق ثم تفل
. و النابح : أراد به من يتعرّض للهجو والسبّ من الشعراء وأصله في الكلب . ومثله
العاوي بالعين المهملة . و الرّجام : مصدر راجمه بالحجارة أي : راماه . وراجم
فلانٌ عن قومه : إذا دافع عنهم جعل الهجاء كالمراجمة لجعله الهاجي كالكلب النابح .
وكأنّ الأعلم لم يقف على ما قبل هذا البيت ولهذا ظنّ أنّ ضمير التثنية لشاعرين من
قومه نزع في الشعر إليهما .
وهذا البيت آخر قصيدةٍ للفرزدق قالها آخر عمره تائباً إلى الله عز وجلّ ممّا فرط
منه من مهاجاته الناس وقذف المحصنات وذمّ فيها إبليس لا غوائه إيّاه في شبابه .
وهذه أبيات منها : الطويل ( أم ترني عاهدت ربّي وإنّني ** لبين رتاجٍ قائماً ومقام
)
____________________
( على حلفةٍ لا أشتم
الدّهر مسلماً ** ولا خارجاً من فيّ زور كلام ) ( وأصبحت أسعى في فكاك قلادةٍ **
رهينة أوزارٍ عليّ عظام ) ( ولم انتبه حتّى أحاطت خطيئتي ** ورائي ودقّت للأمور
عظامي ) ( أطعتك يا إبليس سبعين حجّةً ** فلمّا انتهى شيبي وتمّ تمامي ) ( فزعت
إلى ربّي وأيقنت أنّني ** ملاقٍ لأيّام المنون حمامي ) ( ألا طالما قد بتّ يوضع
ناقتي ** أبو الجنّ إبليسٌ بغير خطام ) ( يظلّ يمنّيني على الرّحل واركاً ** يكون
ورائي مرّةً وأمامي ) ( يبشّرني أن لا أموت وأنّه ** سيخلدني في جنّةٍ وسلام ) (
فلمّا تلاقى فوقه الموج طامياً ** نكصت ولم تحتل له بمرام ) ( ألم تأت أهل الحجر
والحجر أهله ** بأنعم عيشٍ في بيوت رخام ) ( وآدم قد أخرجته وهو ساكنٌ ** وزوجته
من خير دار مقام ) ( وأقسمت يا إبليس أنّك ناصحٌ ** له ولها إقسام غير أثام ) ) (
وكم من قرون قد أطاعوك أصبحوا ** أحاديث كانوا في ظلال غمام ) ( وما أنت يا إبليس
بالمرء ابتغي ** رضاه ولا يقتادني بزمام ) ( سأجريك من سوءات ما كنت سقتني ** إليه
جروحاً فيك ذات كلام ) ( تعيّرها في النّار والنّار تلتقي ** عليك بزقّومٍ لها
وضرام )
____________________
( وإنّ ابن إبليس وإبليس
ألبنا ** لهم بعذاب الناس كلّ غلام ) هما نفثا في فيّ من فمويهما . . . . . . . .
. . . . . . . البيت وقوله : ألم ترني عاهدت ربي البيتين هما من شواهد الكشاف
ومغني اللبيب ويأتي إن شاء الله شرحهما في محلّه .
وقوله : وإن ابن إبليس الخ ألبنا : سقيا اللبن يريد أن إبليس وابنه سقيا كلّ غلام
من الشعراء هجاءً وكلاماً خبيثاً . ثم إنّ الفرزدق سامحه الله وغفر ذنبه بعد هذا
نقض توبته ورجع إلى وكان السبب في نقض التوبة هو ما حكاه شارح النقائض : أن
الفرزدق لما حجّ عاهد الله بين الباب والمقام أن لا يهجو أحداًِ أبداً . وأن يقيّد
نفسه حتى يحفظ القرآن فلما قدم البصرة قيّد نفسه وقال : ( ألم ترني عاهدت ربّي
وإنّني ** لبين رتاجٍ قائماً ومقام ) الأبيات . ثم إن جريراً والبعيث هجواه وبلغ
نساء بني مجاشع فحش جرير بهنّ فأيتن الفرزدق وهو مقيد فقلن : قبح الله قيدك وقد
هتك جريرٌ عورات نسائك فلحيت شاعر قوم فأغضبه ففك قيده وقال وهو من قصيدة : الطويل
( لعمري لئن قيّدت نفسي لطالما ** سعيت وأوضعت المطيّة في الجهل ) ( ثلاثين عاماً
ما أرى من عمايةٍ ** إذا برقت أن لا أشدّ لها رحلي ) ( أتتني أحاديث البعيث ودونه
** زرود فشامات الشّقيق من الرّمل ) ( فقلت أظنّ ابن الخبيثة أنني ** شغلت عن
الرّامي الكنانة بالنّبل ) ( فإن يك قيدي كان نذراً نذرته ** فما بي عن أحساب قومي
من شغل ) ( أنا الضّامن الرّأعي عليهم وإنّما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي )
____________________
قوله : أوضعت المطيّة أي :
دفعتها في السير . و العماية بالفتح : الجهل والصبا .
يقول : إنما أراد جريرٌ بهجاء البعيث غيره كما صنع رامي الكنانة بصاحبها : وذلك أن
رجلاً )
من بني فزارة ورجلاً من بني أسد كانا راميين فالتقيا ومع الفزاريّ كنانةٌ ومع
الأسديّ كنانة رثّةٌ فقال الأسديّ للفزاريّ : أنا أرمى أو أنت فقال الفزاريّ : أنا
أرمى منك فقال له الأسديّ : فإنّي أنصبت كنانتي وتنصب كنانتك حتّى نرمي فيهما فنصب
الأسديّ كنانته فجعل الفزاريّ يرميها فيقرطس حتّى أنفذ سهامه كلّها كلّ ذلك يصيبها
ولا يخطئها فلما رأى الأسديّ أنّ سهام الفزاريّ نفذت قال : انصب لي كنانتك حتّى
أرميها . فرمى فسدّد السهم نحوه حتّى قتله فضربه الفرزدق مثلاً يعني أنّ جريراً
يهجو البعيث وهو يعرّض بالفرزدق .
وقوله : أنا الضامن الراعي عليهم عليهم الخ هذا البيت من شواهد النحاة والبيانيّين
وروي صدره بغير هذا أيضاً .
وترجمة الفرزدق قد تقدّمت في الشاهد الثلاثين .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد السابع والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد المفصّل
وغيره : الكامل وأبيّ مالك ذو المجاز بدار هذا عجزٌ وصدره : قدرٌ حلّك ذا المجاز
وقد أرى على أنّ أبيّ عند المبّرد مفردٌ ردّ لامه في الإضافة إلى الياء كما ردّت
في الإضافة إلى غيرها فيكون أصله أبوي قلبت الواو ياء وأدغمت فيها عملاً بالقاعدة
حيث اجتمعا وكان أوّلهما ساكناً وأبدلت الضمّة كسرة لئلاّ تعود الواو .
وكلام المبّرد وإن كان موافقاً للقياس إلاّ أنّه لم يقم عليه دليل قاطع . قال
الزمخشريّ في المفصّل : وقد أجاز المبّرد أبي وأخيّ وأنشد : وأبيّ مالك ذو المجاز
بدار وصحّة محمله على الجمع في قوله : تدفع ذلك . يريد أن أبيّ جاء على لفظ الجمع
ولا قرينة مخلّصة لللإفراد فتعارض الاحتمالان فحمل على لفظ الجمع وسقط الاحتجاج به
في محلّ الخلاف فيكون أصله على هذا أبين حذفت )
النون عند الإضافة فأدغمت الياء التي هي ياء الجمع في ياء المتكلّم . فوزن أبي فعي
لا فعلي .
____________________
وعلى هذا حمل ابن جنّي وغيره قراءة من قرأ : نعبد إلهك وإله أبيك إبراهيم وإسمعيل
وإسحق ليكون في مقابلة آبائك في القراءة الآخرى .
قال أبو علي في الإيضاح الشعريّ : ومن زعم أن قول الشاعر : وأبيّ مالك ذو المجاز
بدار إنّما ردّ الواو التي هي لام الغعل في الإضافة إلى الياء كما ردّه مع الكاف
والهاء في نحو أبوك وأبوه فليس بمصيب وذلك أنّ هذا الموضع لّما كان يلزمه الإعلال
بالقلب وقد استمرّ فيه القلب وأمضي ذلك فيه فلم يرد فيه ما كان يلزمه الإعلال وإنّ
أبيّ مثل عشريّ . انتهى .
واحتجّ ابن الشجريّ في أماليه بمثل هذا .
وقد عزا ثعلب في أماليه العاشرة إلى الفراء ما عزاه الزمخشريّ وابن الشّجريّ إلى
المبّرد من كون أبي مفرداً رد إليه لام فعله . وهذه عبارة ثعلب : الفراء يقول : من
أتمّ الأب فقال : هذا أبوك أبيّ فاعلم ثقيلٌ وهو الاختيار .
وأنشد : الوافر فلا وأبيّ لا آتيك حتّى ينسّى الواله الصّبّ الحنينا وقال : أنشد
الكسائيّ برنبويه قرية من قرى الجبل قبل أن يموت :
____________________
( قدرٌ أحلك ذا النّجيل
وقد أرى ** وأبيّ مالك ذو النّجيل بدار ) ( إلاّ كداركم بذي بقر الحمى ** هيهات ذو
بقرٍ من المزدار ) انتهى .
وقوله : قدرٌ مبتدأ وجملة أحلّك الخ خبره . وهو كقولهم : شرٌّ أهرّ ذا ناب أي : ما
أحلّك ذا المجاز إلاّ قدر .
وأورده ابن هشام في مسوّغات الابتداء بالنكرة من الباب الرابع من المغني على أنّ
المسوّغ للابتداء به صفة محذوفة كقولهم : شرّ أهرّ ذا ناب أي : قدرٌ لا يغالب وشرّ
أيّ شر . و القدر : قضاء الله وحكمه . و أحلك بمعنى أنزلك متعديّ حلّ بالمكان
حلولاً : إذا نزل وهو متعدّ إلى مفعولين أولهما الكاف وثانيهما ذا المجاز والهمزة
للتصيير أي : صيّرك حالاً بذي المجاز . )
وعند الأزرقيّ من طريق هشام بن الكلبيّ أنّها كانت لهذيل على فرسخ من عرفة . ووقع
في شرح الكرمانيّ أنّها كانت بمنىً . وليس بشيء لما رواه الطّبرانيّ عن مجاهد .
أنهم كانوا لا يبيعون ولا يبتاعون في الجاهلية بعرفة ولا بمنى . انتهى .
والكرمانيّ في هذا تابع لصاحب الصحاح فإنّه قال فيه : ذو المجاز موضع بمنى كان به
سوقٌ في الجاهلية . وتبعه أيضاً و ذو النجيل في رواية ثعلب بضمّ النون وفتح الجيم
كذا رأيته مضبوطاً في نشخة صحيحة قديمة من أماليه عليها خطوط الأئمّة . قال ابن الأثير
في المرصّع : ذو الّجيل بضم النون وفتح الجيم : موضع من أعراض المدينة وينبع اه .
____________________
وروي أيضاً : ذو النّجيل بضم النون وفتح الخاء المعجمة وهو مناسبٌ أيضاً قال ابن
الأثير في المرصّع : هو عين قرب المدينة وأخرى قرب مكّة وموضع دوين حضوموت . وكلا
هذين اللفظين غير موجود في معجم ما استعجم للبكريّ .
وقوله : وقد أرى قد للتحقيق و أرى بمعنى أعلم معلّق عن العمل بما النافية والجملة
بعدها سادّة مسدٌ المفعولين . وقوله : وأبيّ الواو للقسم وجملة القسم معترضة بين
أرى وحرّفه بعضهم فرواه : ولا أرى بلا النافية موضع قد وزعم أنّ الجملة المنفيّة
جواب القسم وأنّ مفعولي أرى محذوفان تقديره : لا أراك أهلاً لذي المجاز . وقيل :
لا دعائيّة . هذا كلامه .
ولم يرو هذه الرواية أحدٌ والثابت في رواية ثعلب وغيره من شروح المفصّل هو ما
قدّمناه وليس المعنى أيضاً على ما أعربه فتأمّل .
وقال بعضهم : ارى بالمبنيّ للمفعول بمعنى أظنّ وبكسر الكاف من أحلك و لك وكلاهما
لا أصل له .
وقوله : ما لك ذو المجاز الخ وذو المجاز : فاعل لك لاعتماده على النفي أو هو مبتدأ
ولك خبره وعليهما فقوله بدار حالٌ صاحبها ذو المجاز على الأوّل وضميره المستتر في
لك على الثاني أو قوله بدار خبر المبتدأ ولك كان في الأصل صفة لدار فلمّا قدّم صار
حالاً . خاطب نفسه وقال : قدر الله وقضاؤه أحلّك هذا الموضع وقد أعلم أنّه ليس لك
هذا الموضع بمنزلٍ تقيم )
فيه بل ترتحل عنه وأقسم على ذلك بأبي .
وقوله : إلاّ كداركم صفة لموصوف محذوف أي : إلاّ دار كداركم أو الكاف زائدة .
____________________
و ذو بقر بفتح الموحدة
والقاف قريةٌ في ديار بني أسد وقال أبو حاتم عن الأصمعيّ : هو قاعٌ يقري الماء
وقال يعقوب : هو وادٍ فوق الرّبدة انتهى .
والمراد هو الأخير بدليل إضافته إلى الحمى فإنّ الرّبذة كانت حمىً خارج المدينة
المنّورة . قال أبو عبيد : الرّبذة بفتح أوّله والموحّدة وبالذال المعجمة هي التي
جعلها عمر حمىً لإبل الصدقة وكان حماه الذي أحماه بريداً في بريد ثم زادت الولاة
في الحمى أضعافاً ثم أبيحت الأحماء في أيّام المهديّ العباسيّ فلم يحمها أحدٌ بعد
ذلك .
إلى أن قال : ثمّ الجبال التي تلي القهب عن يمين المصعد إلى مكّة جبلٌ أسود يدعى
أسود البرم بينه وبين الرّبذة عشرون ميلاً وهو في أرض بني سليم وأقرب المياه من
أسود البرم حفائر حفرها المهديّ على ميلين منه تدعى ذا بقر وقد ذكرها مؤرخ
السّلميّ فقال : قدرٌ أحلّك ذا النّجيل وقد أرى . . . . . . . . . . . البيتين
وأنشدهما على رواية ثعلب في أماليه . و المزدار : اسم فاعل من ازدار : افتعل من
الزيارة . وأراد الشاعر به نفسه استبعد أن يزور أرضه .
وروى أبو عبيد في المعجم الزّوّار جمع زائر .
وقائل هذين البيتين مؤرخ السّلميّ كما قال أبو عبيد في المعجم وهو شاعرٌ إسلاميّ
من شعراء الدولة الأمويّة : و مؤرج بضم الميم وفتح الهمزة وتشديد الراء المكسورة
وآخره جيم وهو اسم فاعل من أرّجت بين القوم تأريجاً : إذا هيّجت الشرّ بينهم . و
السّلميّ بضم السين وفتح اللام نسبة إلى سليم بن منصوزر مصغّراً وهو أبو قبيلة .
____________________
تتمة قال ابن حجر في شرح
البخاريّ : أسواق العرب في الجاهليّة أربعة : ذو المجاز وعطاظ ومجنّة وحباشة .
أما ذو المجاز فقد تقدّم نقله عنه .
وأمّا عكاظ بضم أوله فعن ابن إسحاق : أنّها فيما بين نخلة والطائف إلى بلد يقال
لها الفتق )
بضمّ الفاء والمثنّاة بعدها قاف . وعن ابن الكلبيّ : كانت بأسفل مكّة على بريدٍ
منها غربيّ البيضاء وكانت لكنانة .
وأما حباشة بضم الحاء المهملة وتخفيف الموحّدة وبعد الألفشين معجمة فكانت في ديار
بارق نحو قنونا بفتح القاف وبضمّ النون الخفيفة وبعد النون ألف مقصورة من مكّة إلى
جهة اليمن على ستّ مراحل . وقد ذكر في الحديث الثلاث الأول وإنّما لم تذكر حباشة
في الحديث لأنّها لم تكن من مواسم الحجّ . وإنّما كانت تقام في شهر رجب .
قال الفاكهيّ : ولم تزل هذه الأسواق قائمة في الإسلام إلى أن كان أول ما ترك منها
سوق عكاظ في زمن الخوارج سنة تسع وعشرين ومائة وآخر ما ترك منها سوق حباشة في زمن
داود بن عيسى بن وسى العبّاسيّ في سنة سبع وتسعين ومائة ثم أسند عن ابن الكلبيّ :
أنّ كلّ شريفٍ إنّما كان يحضر سوق بلدة إلاّ سوق عكاظ فإنّهم كانوا ينتوافون بها
من كلّ جهة فكانت أعظم تلك الأسواق . وقد ذكرها في أحاديث منها حديث ابن عبّاس رضي
الله عنهما : انطلق النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في طائفةٍ من أصحابه عامدين إلى
سوق عكاظ الحديث في قصّة الجنّ .
وروى الزّبير بن بكّار في كتاب النسب أنها كانت تقام صبح هلتال ذي القعدة إلى أن
تمضي عشرون يوماً . قال : ثم تقوم سوق مجنّة عشرة أيام إلى هلال ذي الحجّة ثم تقوم
سوق ذي المجاز ثمانية أيام ثم يتوجهون إلى منى بالحج . وفي حديث جابر : أنّ
النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم لبث عشر سنين يتبع الناس في منازلهم في الموسم
بمجنّة وعكاظ يبلّغ رسالات ربه . انتهى ما أورده ابن حجر .
____________________
وفيه : أنّ أسواق أكثر من العرب أكثر من هذا جمعها صاحب قبائل العرب قال : دومة
الجندل كانت تقوم أوّل يوم من ربيع الأول إلى النصف منه وكانت المبايعة في إلقاء
الحجارة على السّلعة فمن أعجبته ألقى حجراً فتركت له . و المشّقر تقوم من أوّل يوم
من جمادى الآخرة وكان بيعهم بالملامسة والإيماء والهمهمة خوف الحلف والكذب . ثم
صحار بضم الصاد المهملة تقوم لعشر يمضين من رجب خمسة أيام ثم الشّحر بالكسر يقوم
في النصف من شعبان وكان بيعهم فيه بالحجارة أيضاً . ثم صنعاء في النصف من شهر
ومضان إلى آخره . )
ثم سوق حضرموت في النصف من ذي القعدة . ثم عكاظ في هذا اليوم بأعلى نجد قريب من
عرفات . وعكاظ من أعظم أسواق العرب وكان يأتيها قريشٌ بأعلى نجد قريب من عرفات .
وعكاظ من اعظم أسواق العرب وكان يأتيها قريشٌ وهوازن وغطفان وسليم الأحابيش وعقيل
والمصطلق وطوائف من العرب إلى آخر ذي القعدة فإذا أهلّ ذو الحجّة أتوا ذا المجاز
وهو قريب من عكاظ فتقوم سوقه إلى التروية ثم يصيرون إلى منى وتقوم سوق نطاة بخيبر
وسوق حجر بفتح المهملة وسكون الجيم يوم عاشوراء إلى آخر المحرم . هذا ما أورده
صاحب قبائل العرب .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثامن والعشرون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد سيبويه :
المتقارب ( فلمّا تبيّنّ أصواتنا ** بكين وفدّيننا بالأبينا )
____________________
على أن الأب يجمع على
الأبين علة حدّ جمع المذكر السالم كما في هذا البيت .
قال سيبويه : وسألته يعني الخليل عن أب فقال : إن ألحقت فيه النون والزيادة التي
قبلها قلت أبون وكذلك أخ تقول أخون لا تغيّر البناء إلاّ أن تحدث اللعرب شيئاً كما
يقولون دمون ولا تغيّر بناء الأب عن حال الحرفين لأنّه بني عليه إلاّ أن تحدث
العرب شيئاً كما بنوه على غير بناء الحرفين . وقال الشاعر : فلمّا تبيّنّ أصواتنا
. . . . . . . . . البيت أنشدناه من نثق به وزعم أنه جاهليّ . وإن شئت كسّرت فقلت
: آباء وآخاء . انتهى نصّ سيبويه .
وأورد ابن جنّي في المحتسب بعد هذا البيت عند قراءة ابن عبّا والحسن : و إله أبيك
على ( ألم تر أنّي بعد همّ هممته ** لفرقة حرّ من أبين كرام ) وقول آخر : فهو
يفدّى بالأبين والخال قال الأعلم : جمع أب جمع صسلامة غريبٌ إذ حقّه للأعلام
والصفات الجارية على فعلها كمسلمين . )
وقوله : تبّينّ بمعنى تعرّفن وبه روي أيضاً . أي : لّما عرفن اصواتنا معرفةً
____________________
بيّنه ووزنه تفعّلن .
أدغمت النون الأصلية في نون جماعة النساء . وقوله : فدّيننا الخ أي قلن : جعل الله
آباءنا فداءً لكم .
قال ابن السيرافيّ في شرح أبيات الكتاب وتبعه من بعده من شرّاح الشواهد : البيت
لزياد بن واصل . لّما عرفن أصواتهم ركبن إليهم حتّى يستنقدوهنّ وفدّينهنّ بآبائهنّ
.
ويروى : فلمّا تبيّنّ أشباحنا جمع شبح .
وقال أبو محمد الأعرابيّ الغندجانيّ في فرحة الأديب : كذب ابن السيرافيّ في تفسير
هذا وإنّما معنى البيت أنّ زياداً افتخر في أبياتٍ بآباء قومه وبأمهاتهم من بني
عامر وأنّهم قد أبلوا في حروبهم ومعاونتهم فلما عادوا إلى حللهم وعند نسائهم وعرفن
أصواتهم فدّينهم لأجل أنّهم أبلوا في الحروب . والأبيات تدلّ على صحّة هذا المعنى
. وأولها وهي لزياد بن واصل السّلميّ : ( هزتنا نساء بني عامرٍ ** فسمنا الرّجال
هواناً مبينا ) ( ونحن بنوهنّ يوم الصّفا ** ق إذ نقبل القوم وعثاً حزوناً ) (
بضربٍ كولغ ذكور الذّئا ** ب تسمع للهام فيه رنينا )
____________________
( ورميٍ على كلّ عزّافةٍ
** تردّ الشّمال وتعطي اليمينا ) ( وكنّا مع الخيل حتّى استوت ** شباب الرّجال
وسرّوا العيونا ) ( لمّا تبيّنّ أصواتنا ** رئمن وفدّيننا بالأبينا ) انتهى ما
أورده أبو محمد . و رئمن بمعنى عطفن وحننّ من الحنين ومعناه على رواية بكين أنّهنّ
بكين فرحاً بسلامتهم وفدّينهم بآبائهنّ إشفاقاً عليهم .
وقولهه : عزتنا من عزوته إلى أبيه : إذا نسبته إليه . أراد : نسبت نساء بني عامر
إلينا وقلن نحن منكم .
وقوله : بضرب الخ وهو متعلّق بسمنا يقال : ولغ في الإناء ولغاً وولوغاً إذا شرب ما
فيه بأطراف لسانه . وقوله : تسمع صفة ضرب والهامة الرأس وضمير فيه للضرب . )
وقوله : ورمي الخ هو بالجرّ عطف على ضربٍ . و الشّجاع الجهير الصوت وهو صيغة
مبالغة من العزف بالعين المهملة والزاي المعجمة والفاء وهو الصّوت . أي : ورميٍ
على كلّ شجاع صيّت يردّ الضرب عن شماله ويعطيه عن يمينه . و زياد بن واصل من شعراء
بني سليم وهو جاهليّ كما قال سيبويه . والله أعلم .
____________________
وأنشد بعده وهو ( الشاهد التاسع والعشرون بعد الثلاثمائة ) الوافر ( وكنت له كشرّ
بني الأخينا ) على أن أخا يجمع على أخين جمع مذكر سالم كما يجمع أب على أبين .
وهذا عجر وصدره : وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ وهذا البيت أورده أبو زيد مفرداً في
نوادره ونسبه إلى عقيل بن علّفة المرّيّ وقال : أراد الإخوة .
قال ابن الشجريّ في أماليه : وأما قول الآخر وهو من أبيات الكتاب : الوافر ( فقلنا
أسلموا إنّا أخوكم ** فقد برئت من الإحن الصّدور ) فقيل : إنه وضع الواحد موضع
الجمع وقيل : إنّه جمع أخ كجمع أب على أبين وحذف النون من أخون للإضافة . ومن قال
الأبون والأخون قال في التثنية الأبان والأخان فلم يردّ اللام في التثنية أقول هذا
البيت ليس من شواهد الكتاب وأورد الجاحظ في البيان والتبيين ما قبل البين الشاهد
قال : وقال الآخر في إنجاب الأمّهات وهو يخاطب
____________________
بني إخوته : الوافر (
عفاريتاً عليّ وأخذ مالي ** وعجزاً عن أناسٍ آخرينا ) ( فهلاّ غير عمّكم ظلمتم **
إذا ما كنتم متظلّمينا ) ( ولو كنتم لمكسيةٍ أكاست ** وكيس الأمّ كيس للبنينا ) (
ولكن أمّكم حمقت فجئتم ** غثاثاً ما نرى فيكم سمينا ) ( وكان لنا فزارة عمّ سوءٍ
** وكنت له كشرّ بني الأخينا ) وقوله : متظلّمينا في الصحاح : تظلّمني فلان أي :
ظلمني مالي . وقوله : ولو كنتم لمكسية الخ )
هو بضم الميم وسكون الكاف وكسر التحتيّة هي المراة التي تلد أولاداً أكياساً .
وأكاست المرأة : ولدت ولداً كيّساً .
قال اصاحب الصحاح : الكيس : خلاف الحمق والرجل كيّس مكّيس باسم المفعول أي : ظريف
و الكيسى بالكسر : نعت المرأة الكيّسة وهو تأنيث الأكيس وكذلك الكوسى بالضم وقد
كاس الولد يكيس كيساً . وأكيس الرجل وأكاس إذا ولد له أولاد أكياس وأنشد هذا البيت
مع ما بعده . وروى المصراع الثاني هكذا : وكذا أنشدهما الصاغانيّ في العباب ونسبه
إلى رافع بن هريم . وقد رجعت إلى ديوان رافع بن هريم فلم أجد إلا البيتين الأوّلين
وهما : عفاريت عليّ وأخذ مالي . . . . . . . . . . . البيت والبيت الذي بعده .
وليس فه البيتان اللذان أوردهما صاحب الصحاح والعباب منسوبين إليه .
وقوله : ولكنّ أمّكم حمقت بضم الميم أي : صارت حمقاء . و الغثاث : بكسر المعجمة
بعدها مثلّثة : جمع عثيث بمعنى المهزول ككرام جمع كريم . و فزارة بفتح الفاء
والزاي المعجمة : أبو حيّ من غطفان هو فزارة
____________________
ابن ذبيان بن بغيض بن ريث
بن غطفان . و السّوء بالفتح هو المؤذي . في المصباح وغيره : هو رجل سوء بالفتح
والإضافة وعمل سوء فإن عرّفت الأول قلت : الرجل السّوء والعمل السّوء على النعت .
وقوله : وكنت له الخ في أكثر نسخ الشرح وكنت لهم بضمير الجمع وهو خطأ والصواب
الإفراد وهو بالتكلّم لا بالخطاب . وإنّما قال : كشرّ بالكاف لا بدونها لأنه اراد
مثل أشرّ بني إخوةٍ في الدنيا ولم يرد أنه مثل أشرّ بني إخوة فزارة .
والظاهر أن هذا البيت وحده لعقيل بن علّفة وهو غير مرتبط بالأبيات التي أوردها
الجاحظ قبله . وتلك الأبيات البيتان الأوّلان منها رأيتهما في ديوان رافع بن هريم
من رواية أبي عمرو . و رافع هو رافع بن هريم بن عبد الله بن الحارث بن عاصم بن
عبيد بن ثعلبة بن يربوع . قال أبو زيد في نموادره : هو شاعر قديم أدرك الإسلام
وأسلم وديوانه صغير وهو عندي وعليه خطّ أبي العبّاس ثعلب إمام الكوفيّين وخطّ
الحسن بن الخشّاب البغدادي وليس فيه من شواهد هذا الشرح شيء . وهريم بضم الهاء
وفتح الراء المهملة .
وأما عقيل بن علّفة فهو شاعر فصيح مجيد من شعراء الدولة الأمويّة . وعقيل بفتح
العين )
وكسر القاف . و علّفة بضمّ العين المهملة وتشديج اللام المفتوحة بعدها فاء وهو علم
منقول من واحد العلّف وهو ثمر الطلّح .
وهو عقيل بن علّفة بن الحارث بن معاوية بن ضباب بن جابر بن يربوع بن غيظ ابن مرّة
بن سعد بن ذبيان بن بغيض بن ريث بن غطفان بن سعد بن قيس عيلان
____________________
بن مضر . وأمّه عمرة بنت
الحارث بن عوف المرّيّ . وأمّها بنت بدر بن حصن بن حذيفة .
قال صاحب الأغاني كان عقيلٌ هذا جافياً أهوج شديد الغيرة والعجرفيّة وهو في بيت
شرفٍ في قومه من كلا طرفيه . وكان لا يرى أنّ له كفئاً وكانت قريش ترغب في مصاهرته
وتزوّج إليه من خلفائها وأشرافها وخطب إليه عبد الملك بن مروان بعض بناته لبعض
ولده فأطرق ساعة ثم قال : إن كان ولا بدّ فجنبني هجناءك فضحك عبد الملك وعجب من
كبر ودخل عثمان بن حيّان وهو أمير المدينة فقال له عثمان : زوّجني بعض بناتك .
فقال : أبكرةً من إبلي تعني فقال له عثمان : أمجنونٌ أنت قال : أيّ شيءٍ قلت لي
قال : قلت لك : زوّجني ابنتك . فقال : إن كنت تريد بكررةً من إبلي فنعم . فأمر به
فوجئت عنقه فخرج وهو يقول : الطويل ( لحا الله دهراً ذعذع المال كلّه ** وسوّد
أبناء الإماء العوارك ) وكان له جار جهنيّ وقيل سلامانيّ فخطب إليه ابنته فغضب
عقيل وأخذه فكتّفه ودهن اسنه بشحم أو زيت وأدناه من قرية النمل فأكل خصيتيه حتى
ورم جسده ثم حلّه وقال : يخطب إليّ عبد الملك فأردّه وتجترئ أنت عليّ فتخطب ابنتي
وروى أنّ عمر بن عبد العزيز عاتب رجلاً من قريش أمّه أخت عقيل بن علّفة
____________________
فقال له : قبحك الله لقد
أشبهت خالك في الجفاء فبلغت عقيلاً فرحل من البادية حتّى دخل على عمر فقال له :
أما وجدت لابن عمّك شيئاً تعيّره به إلاّ خؤولتي قبح الله شرّكما خالا فقال عمر :
إنك لأعرابيّ جافٍ أما لو كنت تقدّمت إليك لأدّبتك والله ما أراك تقرأ شيئاً من
كتاب الله .
فقال : بلى إني لأقرأ . ثم قرأ : إنا بعثنا نوحاً إلى قومه فقال له عمر : ألم أقل
إنّك لا تقرأ فقال : ألم اقرأ فقال : إن الله قال : إنا أرسلنا نوحاً . فقال عقيل
: الطويل فجعل القوم يضحكون من عجرفته ويعجبون .
وروي أنّه قرأ إذا زلزلت الأرض حتّى بلغ آخرها فقدّم ومن يعمل مثقال ذرة شرّاً يره
)
على : فمن يعمل مثقال ذرّة خيراُ يره فقال له عمر : إنّ الله تعالى قدّم الخير
وأنت قدّمت الشرّ فأنشد البيت .
وأورده صاحب الكشّاف في إذا زلزلت لهذه الحكاية . و هرشى بالفتح والقصر : ثنيّة في
طريق مكّة حرسهاالله قريبة من الجحفة يرى منها البحر .
وهذا مثلٌ في التخيير . لاهرشى طريقان من سلك أيّهما شاء أصاب . وضمير لهنّ للإبل
.
والمعنى يا صاحبيّ سيرا في بطن هذه الثنيّة أو قفاها أي : أمامها أو خلفها فإنّ
كلا جانيها طريقٌ للإبل . كأنه ظنّ أن التقديم والتأخير في هذا المقام لا يضرّ وهو
غفلّةٌ عن المزايا القرآنية .
وقدم عقيلٌ المدينة فدخل المسجد وعليه خفّان غليظان فجعل يضرب برجله فضحكوا منه
فقال : ما يضحككم فقال له يحيى بن الحكم وكانت
____________________
ابنة عقيل عنده وكان
أميراً على المدينة إنهم يضحكون من خفيّك وضربك برجليك وجفائك . فقال : لا ولكنّهم
يضحكون من إمارتك فإنّها أعجب من خفيّ .
وأنشد بعده وهو ( الشاهد الثلاثون بعد الثلاثمائة ) وهو من شواهد س : السريع ( رحت
وفي رجليك ما فيهما ** وقد بدا هنك من المئزر ) على ان تسكين هن في الإضافة
للضرورة وليس بلغة .
وأورده سيبويه في باب الإشباع في الجرّ والرفع وغير الإشباع قال : وقد يجوز أن
يسكنوا الحرف المجرور والمرفوع في الشعر شبّهوا ذلك بكسر فخذ حيث حذفوا فقالوا فخذ
وبضمّة عضدٍ حيث حذفوا فقالوا : عضد لأنّ الرفعة ضمة والجرة كسرة ثم أنشد هذا
البيت .
ومثله في الضرورة قول جرير : البسيط ( سيروا بني العمّ فالأهوار منزلكم ** ونهر
تيرى ولا تعرفكم العرب ) ومن أبيات الكتاب أيضاً : السريع
____________________
( فاليوم اشرب غير مستحقبٍ
** إثماً من الله ولا واغل ) قال ابن جنّي في المحتسب : وأما اعتراض أبي العباس
المبرد هنا على الكتاب فإنّما هو على وقول أبي العباس : إنّما الرواية فاليوم
فاشرب فكأنه قال لسيبويه : كذبت على العرب ولم تسمع )
ما حكيته عنهم . وإذا بلغ الأمر هذا الحدّ من السرف فقد سقطت كلفة القول معه وكذلك
إنكاره عليه أيضاً قول الشاعر : وقد بدا هنك من المئزر فقال : أنما الرواية : وقد
بدا ذاك من المئزر وما أطيب العروس لولا النّفقة . انتهى .
وهذا البيت ثالث أبياتٍ للأقيشر الأسدي .
وقال صاحب الأغاني وغيره : سكر الأقيشر يوماً فسقط فبدت عورته وامرأته تنظر إليه
فضحكت منه وأقبلت عليه تلومه وتقول له : أما تستحي يا شيخ من أن تبلغ بنفسك هذه
الحالة فرفع رأسه إليها وأنشأ يقول : السريع ( تقول : يا شيخ أما تستحي ** من شربك
الخمر على المكبر ) ( فقلت : لو باكرت مشمولةً ** صبها كلون الفرس الأشقر ) ( رحت
وف يرجليك عقّالةٌ ** وقد بدا هنك من المئزر )
____________________
انتهى . وقال بعض من كتب
على شواهد سيبويه : مرّ سكران بسكّة بني فزارة فجلس يريق الماء ومرّ به نسوةٌ
فقالت امرأة منهنّ : هذا نشوان قليل الحياء أما تستحي يا شيخ من شربك الخمر فقال
ذلك .
وقال ابن الشّجريّ في أماليه : مرّ الفرزدق بامرأةٍ وهو سكران يتواقع فسخرت منه
فقال هذه الأبيات . انتهى والصواب الأول .
وقوله : أما تستحي هو شاهدٌ على أنّه يقال استحى أن يضرب مثلاً بياء واحدة ورويت
عن ابن كثير أيضاً وهي لغة تميم .
قال ابن هشام في شرح بانت سعاد : والأصل بياءين فنقلت حركة العين إلى الفاء فالتقى
ساكنان : فقيل حذفت اللام فالوزن يستفع وقيل حذفت العين فالوزن يستفل .
وروي بدل الخمر الراح وهي بمعناها . وقوله : على المكبر بفتح الميم وكسر الموحّدة
مصدر كبر يكبر من باب علم أي : أسنّ والمصدر الكبر بكسر ففتح والمكبر أيضاً .
قال صحاح الصحاح : يقال علاه المكبر بكسر الياء والاسم الكبرة بفتح الكاف وسكون
الباء )
أي : السن . و باكرت بمعنى سارعت في البكرة . و المشمولة : الخمر الباردة تالطعم
والأصل في المشمولة التي ضربتها ريح الشمال حتّى بردت يقال : غدير مشمول ونحوه .
ويقال للخمر شمول أيضاً لأنها تشتمل على عقل صاحبها وقيل لأنّ لها عصفة كعصفة
الريح الشمال . و الصّهبة : الشّقرة وسميت الخمر الصّبهاء للونها وهي ممدودوة وقد
قصرها للضرورة وفيه ردّ على الفرّاء إذ زعم أنه لا يقصر للضرورة إلاّ ما مأخذه
السماع ولا يجوز قصر الممدود القياسي .
____________________
وقوله : وفي رجليك ما فيهما يريد أن فيهما اضطراباً واختلافاً . ورويّ : وفي رجليك
عقالة وهو بضمّ العين وتشديد القاف : ظلع يأخذ في القوائم . و بدا بمعنى ظهر . و
الهن : كناية عن كلّ ما يقبح ذكره وأراد به هنا الفرج . و المئزر هو الإزار كقولهم
ملحف ولحاف . و الأقشير : مصغر أقشر قال صاحب الصحاح : رجل أقشر بيّن القشر
بالتحريك أي : شديد الحمرة .
قال صاحب الأغاني : الأقشير لقبٌ به لأنه كان أحمر الوجه أقشر . واسمه المغيرة بن
عبد الله بن معرض بن عمرو بن أسد بن خزيمة ويكنى أبا معرض بضم الميم وكسر الراء
الخفيفة .
وقال ابن قتيبة في كتاب الشعراء : اسمه المغيرة بن الأسود بن وهب أحد بني أسد بن
خزيمة .
قال صاحب الأغاني : وعمّر الأقيشر عمراً طويلاً . ولد في الجاهليّة وكان كوفيّاً
خليعاً ماجنا ( يا أيّها المبتغي حشّاً لحاجته ** وجه الأقيشر حشّ غير ممنوع )
والحشّ بضم الحاء المهملة وتشديد الشين المعجمة : بيت الخلاء .
____________________
قال ابن قتيبة : وكان يغضب إذا قيل له أقيشر فمرّ يوماً بقوم بني عبس فقال رجل
منهم : يا أقيشر فسكت ساعة ثم قال : الوافر ( أتدعوني الأقيشر ذاك اسمي ** وأدعوك
ابن مطفئة السراج ) ( تنادي خدنها بالليل سرّاً ** وربّ الناس يعلم ما تناجي )
فسمّي الرّجل ابن مطفئة السرّاج وولده ينسبون إلى ذلك إلى اليوم .
قال صاحب الأغاني : وله حكاياتٌ في شرب الخمر والافتراء على الخمّارين ولم يسلم من
هجوه أحد . )
وقد أطنب صاحب الأغاني في قبائحه : منها أنه كان له ابن عمّ موسر فكان يسأله
فيعطيه حتّى كثر ذلك عليه فمنعه فقال : إلى كم أعطيك وأنت تنفقه في شرب الخمر لا
والله لا أعطيك شيئاً فتركه حتّى اجتمع قومه في ناديهم وهو فيهم ثم جاء فوقف عليهم
ثم شكاه إليهم وذمّه فوثب إليه ابن عمّه فلطمه فأنشأ يقول : الطويل ( سريعٌ إلى
ابن العمّ يلطم وجهه ** وليس إلى داعي النّدى بسريع ) والبيت الأول أورده صاحب
تلخيص المفتاح شاهداً لردّ العجز على الصدر .
ومنها أنّه كان عنّيناً لا يأتي النساء وكان يصف ضدّ ذلك من نفسه فجلس إليه يوماً
رجلٌ من قيس فأنشده الأقيشر : الكامل ( ولقد أروح بمشرفٍ ذي ميعةٍ ** عسر المكرّة
ماؤه يتفصّد ) ( مرحٍ يطير من المرح لعابه ** ويكاد جلد إهابه يتقدّد ) ثم قال
للرجل : أتعرف الشعر قال : نعم . قال : ما وصفت قال : فرساً .
____________________
قال : أفكنت لو رأيته
ركبته قال : إي والله وأمال عطفه فكشف الأقيشر عن أيره وقال : هذا وصفت فقم واركبه
. فوثب الرجل عن مجلسه وهو يقول : قبحك الله من جليس وذكره ابن حجر في قسم
المخضرمين من الإصابة وأورد له هذين البيتين .
ومنها : أنّ عمّه الأقيشر قالت له يوماً : اتق الله وقم فصلّ فقال : لا أصلّي
فأكثرت عليه فقال : قد أبرمتني فاختاري خصلةً من خصلتين . إما أن أصليّ ولا أتطهّر
أو أتطّهر ولا أصلّي قالت : قبحك الله فإن لم يكن غير هذا فصلّ بلا وضوء . فصلى
بلا وضوء .
ومنها أنه أتى إلى قيس بن محمد بن الأشعث وكان ضريراً وناسكاً فسأله فأعطاه
ثلثمائة درهم فقال : لا أريدها جملة ولكن مر القمرهان أن يعطيني في كلّ يومٍ ثلاثة
دراهم حتّى تنفذ . فأمر بذلكن فكان يأخذها فجعل درهماً لطعامه ودرهماً لشرابه
ودرهما لدابّة تحمله إلى بيوت الخمّارين فلما نفدت الدّراهم أتاه الثانية فسأله
فأعطاه كالأولى وعمل بها مثل ذلك .
ثم أتاه الثالثة فأعطاه وفعل مثل ذلك . وأتاه الرابعة فسأله فقال قيس : لا أبا لك
كأنّك قد جعلته خراجاً علينا .
فانصرف وهو يقول : الطويل ) ( ألم تر قيس الأكمة ابن محمدٍ ** يقول ولا تلقاه
للخير يفعل ) ( رأيتك أعمى العين والقلب ممسكاً ** وما خير أعمى العين والقلب يبخل
) ( فلو صمّ تمّت لعنة الله كلّها ** عليه وما فيه من الشّرّ أفضل ) فقال قيس لو
نجا من الأقيشر لنجوت منه ومنها : أنّه تزوج بابنة عم له يقال لها الرّباب على
أربعة آلاف درهم فأتى قومه وسألهم فلم يعطوه شيئاً فأتى ابن رأس البغل وهو دهقان
الصّين
____________________
وكان مجوسيّاً فسأله
فأعطاه الصداق كاملاً فقال : المتقارب ( كفاني المجوسيّ مهر الرّباب ** فدىً
للمجوسيّ خالي وعم ) ( وإنّك سيد أهل الجحيم ** إذا ما تردّيت فيمن ظلم ) ( تجاور
هامان في قعرها ** وفرعون والمكتني بالحكم ) فقال المجوسيّ : ويحك . سألت قومك فلم
يعطوك شيئاً وجئتني فأعطيك فجزيتني هذا القول فقال : أوما ترضى أن جعلتك مع الملوك
وفوق أبي جهل ومن شعره : السريع ( يا أيها السائل عمّا مضى ** من علم هذا الزّمن
الذّاهب ) ( إن كنت تبغي العلم وأهله ** أو شاهداً يخبر عن غائب ) ( فاعتبر الأرض
بأسمائها ** واعتبر الصّاحب بالصّاحب ) ومن قصيدة له : البسيط ( لا تشربن أبداً
راحاً مشارقةً ** إلاّ مع الغرّ أبناء البطاريق ) ( أفنى تلادي وما جمّعت من نشبٍ
** قرع القواقيز أفواه الأباريق )
____________________
وهذا البيت من أبيات مغني
اللبيب في الباب الخامس .
ومن هذه القصيدة : ( عليك كلّ فتىً سمحٍ خلائقه ** محض العروق كريم غير ممذوق )
وكان اللأقيشر مولعاً بهجاء عبد الله بن إسحاق ومدح أخيه زكريّا فقال عبد الله
لغلمانه : ألا تريجونا منه فانطلقوا فجمعوا بعراً وقصباً بظهر الكوفة وجعلوه في
حقرة وأقبل الأقيشر وهو سكران من الحيرة على بغل رجلٍ مكار فأنزله عن البغل وعاد
فأخذوا الأقيشر فشدّوه ثم )
وضعوه فيتلك الحفرة وألهبوا النّار في القصب والبعر وجعلت الريح تلفح وجهه وجسمه
بتلك النار فأصبح ميّتاً ولم يدر من قتله . وكان ذلك في حدود الثمانين من الهجرة .
تتمة ذكر الى مدي في المؤتلف والمختلف من اسمه الأقيشر ومنه اسمه الأقيسر من
الشعراء .
فالأقيشر هو المغيرة بن عبد الله الأسديّ الشاعر المشهور وصاحب الشراب .
والأقيسر هو صاحب لواء بني أسد حاهليّ . قال ابن حبيب : اسمه عامر بن طريف بن مالك
بن نصر وأنهى نسبه إلى دودان ابم اسد بنم خزيمة .
____________________
وأنشد بعده وهو الشاهد ( الحادي والثلاثون بعد الثلاثمائة ) الرجز ( حتى إذا ما
خرجت من فمّه ) على أنّ تشديد الميم مع ضمّ الفاء وفتحها ضرورة وليس بلغة ابن جنّي
أقول : قاله ابن جنّي في سرّ الصناعة في حرف الميم وهذه عبارته : اعلم أنّ الميم
حرف مجهور يكون أصلاً وبدلاً وزائداً .
فالأصل نحو مرس وسمر ورسم .
وأما البدل فقد أبدلت من الواو والنون والباء واللام . أما إبدالها من الواو
فقولهم فم وأصله فوه بوزن سوط فحذفت الهاء تخفيفاً فلما بقي على حرفين ثانيهما حرف
لين كرهوا حذفه للتنوين فيجحفوا به فأبدلوا من الواو ميماً للقرب لأنّهما شفهيّان
وفي الميم هواءفي الفم يضارع امتداد الواو .
ويدلّ أنّ فم مفتوح الفاء وجودك إياها مفتوحةً في هذا اللفظ وهو مشهور . وأمّا ما
حكى فيها أبو زيد وغيره من كسر الفاء وضمّها فضربٌ من التغيير لحق الكلمة لإعلالها
بحذف لامها وإبدال عينها .
وأمّا قول الآخر : الرجز ( يا ليتها قد خرجت من فمّه ** حتّى يعود الملك في أسطمّه
) يروى بضمّ الفاء وفتحها فالقول في تشديد الميم عندي أنه ليس ذاك بلغة . ألا ترى
أنّك لا تجد )
لهذه المشدّدة الميم تصرّفاً . إنما التصرّف كلّه على : ف و هـ من ذلك قوله تعالى
: يقولون بأفواههم .
____________________
وقال الآخر : الوافر ( فلا لغوٌ ولا تأثيم فيها ** وما فاهوا بد أبداً مقيم )
وقالوا : رجل مفوّه : إذ أجاد القول لأنه يخرج من فيه . وقالوا : ما تفوّهت به وهو
تفعّلت .
وقالوا في جمع أفوه وهو الكبير الفم : فوهٌ . ولم نسمعهم قالوا : أفمام ولا رجل
أفمّ كما قالوا أصم . فدلّ اجتماعهم على تصريف الكلمة بالفاء والواو والهاء على
أنّ التشيديد لا أصل له وإنما هوعارضٌ لحق الكلمة .
فإن قال قائل : فإذ ثبت بما ذكرته أن التشديد ليس من أصل الكلمة فمن أين أتاها وما
وجه دخوله إياها فالجواب : أن أصل ذلك أنهم ثقّلوا الميم في الوقف فقالوا : هذا فم
كما يقولون هذا خالد وهو يجعل ثم إنّهم أجروا الوصل مجرى الوقف فيما حكاه سيبويه
عنهم من قولهم ثلاثهر بعة وكقوله : الرجز ببازلٍ وجناء أو عيهلّ فهذا وجه تشديد
الميم عندي
____________________
فإن قلت : إذا كان أصل فم
عندك فوه فما تقول في قول الفرزدق : هما نفثا في فيّ من فمويهما وإذا كانت الميم
بدلاً من الواو فكيف جاز له الجمع بينهما فالجواب : أن أيا عليّ حكى لنا عن أبي
بكر وأبي إسحاق أنهما ذهبا إلى أنّ الشاعر جمع بين العوض والمعوّ منه لأنّالكلمة
مجهورة منقوصة .
وأجاز أبو عليّ أيضاً فيه وجهاً آخر وهو أن تكون الواو في فمويهما لا ما في موضع
الهاء من الإفواه وتكون الكلمة يعتقب عليها لامان : هاء مرة وواو أخرى فيجرى هذا
مجرى سنة وعضة .
ألا نراهما في قول من قال سنوات وأسنتوا ومساناة وعضوات واويّين وتجدهما في قول من
قال سنة سنهاء وبعير عاضه عائيّين . وإذا ثبت بما قدّمناه أن عين فم في الأصل واو
فينبغي أن يقضى بسكونها لأنّ السكون هو الأصل . )
فإن قلت : فهلاّ قضيت بحركة العين بجمعك إيّاه على أفواه نحو بطل وابطال وقدم وأقدام
ورسن وأرسان فالجواب : أن فعلاً مما عينه واوٌ بابه أيضاً أفعال كسوط وحوض وأحواض
ففوهٌ لأنّ عينه واوٌ بسوط أشبه منه بقدم ورسن . فاعرف ذلك . انتهى كلام ابن جنّي
باختصار قدر النصف .
وقول الشارح : والجمع أفمام . يوهم أنه مسموع وقد نصّ ابن جنّي وصاحب الصحاح على
أنه لا يقال ذلك .
والبيت من أجوزة للعجّاج وقد تقدّمت ترجمته في الشاهد الحادي والعشرين من أوائل
الكتاب .
ورواية الشارح للبيت غير جيدة والصواب : يا ليتها قد خرجت من فمّه
____________________
كما هو في ديوانه . وكذا
رواه ابن السكيت في إصلاح المنطق ز يقول : يا ليتها قد خرجت من فمّه حتّى يعود
الملك إلى أهله . ويجوز أن يكون أراد كلمة يتكلّم بها . وأسطمّ الشيء : وسطه وقال
صاحب الصحاح : يقال فلانٌ في أسطمّة قومه أي : في وسطهم وأشرافهم . وأسطمّه الحسب
: وسطه ومجتمعه والأطسمّة مثله على القلب . وأنشد بيت العجّاج وقال : أي في أهله
وحقّه والجمع الأساطم . وتميم تقول : اساتم تعاقب بين الطاء والتاء فيه وأورد
البيت في مادة الفاء والميم أيضاً وأنشد بعده : ( فلا أعني بذلك أسفليكم ** ولكنّي
أريد به الذّوينا ) على أنّ قوله الذّوين : فيه شذوذان : أحدهما قطعه عن الإضافة وثانيهما
إدخال اللام عليه .
وهذا البيت للكميت بن زيد من قصيدةٍ هجا بها أهل اليمن تعصّباً لمضر . يقول : لا
أعني بهجوي إيّاكم اراذلكم وإنّما أعني ملوككم كذي يزن ذي جدن وذي نواس وهم
التبابعة . و الأسفلون : جمع أسفل خلاف الأعلى . واراد بالذّوين : الأذواء .
وقد تقدم شرح هذا البيت في الشاهد السادس عشر من أوائل الكتاب .
تم بعون الله تعالى وحسن تيسيره الجزء الرابع من خزانة الأدب
____________________
( التوابع ) ( النعت )
أنشد فيه : وهو الشاهد الثاني والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات إيضاح أبي
علي الفارسي : البسيط ( ربّاء شمّاء لا يأوي لقلّتها ** إلاّ السّحاب وإلاّ الأوب
والسّبل ) على أن الموصوف قد يحذف في الأغلب مع قرينة دالة عليه كما في البيت .
والتقدير : هو رجل رباء هضبة شماء . فحذف الموصوف وأقيم الوصف مقامه في الموضعين
فإن رباء فعال وهو وصف مبالغة من قولهم : هو رباء لأصحابه بالهمز ربأ يربأ من باب
منع إذا صار ربيئة لهم أي : ديدباناً .
في الصحاح : المربأة : المرقبة وكذلك المربأ والمرتبأ . وربأت القوم ربئاً
وارتبأتهم أي : رقبتهم وذلك إذا كنت لهم طليعة فوق شرف أي : موضع
____________________
مرتفع . يقال : ربأ لنا
فلان وارتبأ إذا وهو فعيل وفعيلة . فالرباء وصف مبالغة والوصف لا بد له من موصوف .
ومن المعلوم أن الذي يرقب الأعداء لأصحابه إنما هو الرجل في الغالب .
وقيل : إنه من ربأت الجبل إذا صعدته وعلوته فيكون رباء شماء كقولهم : طلاع أنجد .
وهو مضاف إلى شماء والشماء مجرور بالفتحة وهو مؤنث أشم من الشمم وهو الارتفاع .
أراد هضبة شماء فحذف الموصوف بدليل القلة وهي رأس الجبل . والهضبة : الجبل المنبسط
على وجه الأرض .
ومن المعلوم أيضاً أن التي لا يأوي إلى قلتها إلا السحاب والمطر لا تكون إلا هضبة
. وإضافة رباء إلى شماء لفظية .
وقال السكري في شرح أشعار هذيل : إن رباء من ربأت الجبل إذا صعدته وعلوته فيكون
مثل قولهم : طلاع أنجد لمن هو ركاب للصعاب من الأمور .
وقال ابن يعيش في شرح المفصل : الشاهد في قوله رباء شماء والمراد رجل رباء ربوة
شماء أو رابية شماء . وهو فعال من قولك : ربوت الرابية إذا علوتها . وضعف العين
للتكثير . والهمزة في )
آخره بدل من واو هي لام الكلمة كهمزة كساء ولم ينونه لأنه مضاف إلى شماء . وشماء
فعلاء من الشمم يقال : جبل أشم ورابية شماء أي : مرتفعة .
أقول : ليس في هذا كثير فائدة وهو مع تكلفه يدفعه قوله : لا يأوي لقلتها إلا
السحاب إلخ .
فتأمله .
وحكى الأندلسي في شرح المفصل عن الخوارزمي : قلة رباء وهضبة شماء لأن الرباء هي
العالية واشتقاقها من الرب لعلوه على المربوب .
____________________
أقول : لا وجه لما ذهب إليه الخوارزمي فإن رباء من وصف الربيء لا القلة كما يأتي وهو
فعال لا فعلاء .
وقال أبو البقاء في شرح الإيضاح لأبي علي : أنث رباء لما أراد به الربيئة وهو
الحافظ لأصحابه في الأمكنة العالية .
أقول : هذا خطأ فإن رباء فعال لا فعلاء .
ورواه بعضهم : زناء شماء بالزاي المعجمة والنون من زنأ في الجبل يزناً زنئاً
وزنوءاً بمعنى صعد . وهو مهموز .
وقال بعضهم : إن شماء اسم هضبة وهو منقول من الصفة إلى العلمية مثل حسن فلا شاهد
فيه .
أقول : كون شماء اسم هضبة ذكره أبو عبيد البكري في معجم ما استعجم قال : شماء على
لفظ ( بعد عهدٍ لنا ببرقة شمّا ** ء فأدنى ديارها الخلصاء ) لكن الظاهر هنا أن
المراد بشماء اسم جنس بدليل وصفه بقوله : لا يأوي لقلتها الخ .
فإن قلت : أجعل الجملة حالاً من شماء لتعريفها .
قلت : صاحب البيت هذلي وشماء الهضبة المعروفة في بلاد بني يشكر مع أن مقام المدح
يقتضي أنه يربأ كل جبل موصوف بهذا الوصف وليس في جعلها علماً كثير مدح .
وقوله : لا يأوي لقلتها الخ هو من أوى إلى منزله يأوي من باب ضرب أوياً بمعنى أقام
. والمراد لا يصل إلى قلتها . وروى السكري : لا يدنو لقلتها .
____________________
وضمير قلتها لشماء . وقلة
الجبل : وروى : لقنتها بالنون . والقنة هي القلة .
وقوله : إلا السحاب هو استثناء مفرغ أي : لا يقرب إلى قلتها شيء إلا السحاب . وكر
إلا في )
قوله وإلا الأوب للتوكيد . والأوب قال السكري : هو النحل حين تؤوب : ترجع .
ويؤيده أنه روى وإلا النوب بضم النون وهو النحل وهو جمع نائب لأنها ترعى وتؤوب إلى
مكانها أي : ترجع وقيل : هو الريح ذكره الصاغاني في العباب .
وقال الخوارزمي : هو المطر لأنه بخار ارتفع من الأرض ثم آب إليها أي : رجع ولذلك
سمي رجعاً فسموه أوباً ورجعاً تفاؤلاً ليرجع ويؤوب . وقيل لأن الله تعالى يرجعه
وقتاً فوقتاً .
وإليه ذهب صاحب الكشاف عند قوله تعالى : والسَّماءِ ذاتِ الرَّجْع وأنشد هذا البيت
على أن المطر تسمى رجعاً كما في الآية وأوباً كما في البيت تسمية بمصدري رجع وآب .
وذلك أن العرب كانت تزعم أن السحاب يحمل الماء من البحر ثم يرجعه إليه .
قال صاحب الكشف : جعل صاحب الكشاف الأوب والسبل بمعنى المطر والأولى ما قيل أن
الأوب النحل لأنها تؤوب إلى محالها بعدما خرجت للنجعة والسبل . بفتحتين : المطر
المنسبل أي : النازل .
قال ابن خلف في شرح أبيات الكتاب : السحاب اسم عام للغيم والماء ينسحب في الأفق أي
: ينجر نازلاً ماؤه وغير نازل . والسبل : المطر النازل فهو إذن أخص من السحاب
ولذلك جاء قوله تعالى : فترى الودق يخرج من
____________________
خلاله لما كان الودق الماء
النازل نفسه .
وهذا البيت آخر قصيدة عدتها عشرون بيتاً للمتنخل الهذلي تقدمت ترجمته في الشاهد
السادس والسبعين بعد المائتين رثى بها ابنه أثيلة بضم الهمزة وفتح المثلثة . وهذان
البيتان قبله : ( أقول لمّا أتاني النّاعيان به ** لا يبعد الرّمح ذو النّصلين
والرّجل ) ( رمحٌ لنا كان لم يفلل ننوء به ** توفى به الحرب والعزّاء والجلل )
ربّاء شمّاء لا يدنو لقلّتها . . . . . . . . . . . . . . . . البيت قوله :
الناعيان به في الصحاح : الناعي الذي يأتي بخبر الموت . قال الأصمعي : كانت العرب
إذا مات فيهم ميت له قدر ركب راكب فرساً وجعل يسير في الناس ويقول : نعاء فلاناً
أي : انعه واظهر خبر وفاته . وهي مبنية على الكسر مثل نزال .
وقوله : به أي : بنعيه حذف المصدر لدلالة الناعيات عليه . والمصدر جاء على نعي
بفتح فسكون ونعي على وزن فعيل ونعيان بضم النون . والضمير راجع إلى أثيلة المقتول
وهو ابن المتنخل . )
وذلك أنه كان خرج مع ابن عم له يقال ربيعة بن الجحدر غازيين فأغارا على طوائف من
فهم بن عمرو بن قيس عيلان فقتل أثيلة وأفلت ربيعة فقال المتنخل هذه القصيدة في
رثاء ابنه .
وقوله : لا يبعد الرمح فاعل يبعد يقال : بعد بعداً من باب فرح
____________________
فرحاً إذا هلك . وعادة
العرب أن تقول عند ذكر الميت : لا يبعد فلان إما استعظاماً لموته وإما رجاء بقاء
ذكره . ويأتي شرح هذا مبسوطاً إن شاء الله بعد أبيات . والنصل : حديدة الرمح الذي
يطعن به وهو السنان ويقال لحديدة السهم والسيف والسكين أيضاً .
والحديدة التي يركز بها الرمح في الأرض من الطرف الأسفل يقال لها الزج بضم الزاي
المعجمة وتشديد الجيم . وسمي الزج نصلاً بالتغليب فقال : النصلين وإنما غلب على
الزج لأن العمل وقوله : والرجل أراد الرجل الكامل في الشجاعة والفعل وهو ابنه وقيل
: أراد بالرمح ابنه شبهه بالرمح الذي له نصل وزج ويؤيده قوله رمح لنا أي : هو رمح
لنا . وضمير كان راجع إليه وجملة لم يغلل خبرها أي : لم يكسر ولم يثلم من الفل
بفتح الفاء وهو واحد الفلول وهي كسور في الشيء .
وقوله : ننوء به أي : ننهض به . يقال : ناء بكذا أي : نهض به مثقلاً .
وقوله : توفى به الحرب أي : تعلى به وتقهر . وهو بالفاء وروي بالقاف أيضاً من
الوقاية .
والعزاء بفتح العين وتشديد الزاء المعجمة : السنة الشديدة . والجلل بضم الجيم وفتح
اللام : جمع جلى وهو الأمر الجليل العظيم مثل كبرى وكبر وصغرى وصغر .
وفي هذا القصيدة أبيات من الشواهد فينبغي أن نورد بقيتها مشروحة إجمالاً . وهذا
مطلع القصيدة : ( ما بال عينك أمست دمعها خضل ** كما وهى سرب الأخراب منبزل )
____________________
هذا خطاب مع نفسه . وخضل :
ندي . ووهى السقاء إذا تخرق وانشق . والأخراب : جمع خربة بالضم وهي عروة المزادة
وكل ثقب مستدير . وسرب بفتح فكسر : السائل يقال : سربت المزادة من باب فرح إذا
سالت . ومنبزل : منشق . وقد أخذ ذو الرمة مطلع قصيدته من هذا ( ما بال عينك منها
الماء ينسكب ** كأنه من كلى مفريّة سرب ) والكلى : جمع كلية بالضم وهي جليدة
مستديرة تحت عروة المزادة تخرز مع الأديم . ( لا تفتأ الليل مع دمعٍ بأربعةٍ **
كأنّ إنسانها بالصّاب مكتحل ) )
لا تفتأ : لا تزال يقال : جاءنا وعيناه بأربعة أي : بأربعة مدامع أو مسايل أي :
تسيل من نواحيها من المأقين واللحاظين . والصاب : شجر له لبن مر إذا أصاب لبنه
العين حلبها . ( تبكي على رجلٍ لم تبل جدّته ** خلّى عليك فجاجاً بينها خلل ) لم
تبل جدته : لم تستمتع بشبابه من الإبلاء . وروي لم تبل جدته من البلى وجدته فاعل .
وفجاجاً أي : طرقاً . بينها خلل أي : فرجة أي : كان يسدها . ومعنى خلى تركها .
يريد أنه لم يمتع منه كما قال ابن أحمر : الطويل
____________________
( لبست أبي حتّى تملّيت
برهةً ** وبلّيت أعمامي وبلّيت خاليا ) ( فقد عجبت وما بالدّهر من عجبٍ ** أنى
قتلت وأنت الحازم البطل ) أي : كيف قتلت مع كونك شجاعاً حازماً . يقول : لا تعجب
من الدهر فإن البطل يقتل فيه والضعيف ينجو فيه وفيه أمور مختلفة . ( ويلمّه رجلاً
تأبى به غيناً ** إذا تجرّد لا خالٌ ولا بخل ) هذا البيت من شواهد أدب الكاتب لابن
قتيبة . قوله : ويلمه رجلاً هذا مدح خرج بلفظ الذم يروى بكسر اللام وضمها . ورجلاً
تمييز للضمير . وقد تقدم الكلام على هذا مستوفى في باب التمييز . وتأبى مضارع أبى
بمعنى تكره والجملة صفة رجلاً .
والغبن بفتح الباء : الخديعة في الرأي وفعله من باب فرح . وبسكونها : الخديعة في
الشراء والبيع وفعله من باب ضرب . يقول : تأبى أنت أن تقبل به نقصاناً .
ومعنى التجرد ها هنا التشمر للأمر والتأهب له . وأصل ذلك أن الإنسان يتجرد من
ثيابه .
يقول : إذا حاول فعل أمر أو الدخول في حرب فصار مثلاً لكل من جد في الشيء وإن لم
يتجرد من ثيابه .
يقول : إذا أتيته قام معك وتجرد وجد . وقوله : لا خال ولا بخل فيه وجهان : أحدهما
: الخال الاختيال والتكبر فخال مبتدأ محذوف الخبر أي : لا فيه تكبر ولا بخل أو هو
خبر بتقدير مضاف لمبتدأ محذوف أي : لا هو ذو خال .
وثانيهما : الخال المتكبر ذكر المصدر وأريد الوصف مبالغة أو هو وصف وأصله خول
فانقلبت الواو المكسورة ألفاً كقولهم رجل مال ويوم راح وأصلهما مول وروح .
____________________
ويؤيده أنه روي ولا بخل بكسر الخاء . فخال خبر مبتدأ محذوف اي : لا هو خال ولا ذو
بخل ) ( السّالك الثغرة اليقظان كالئها ** مشي الهلوك عليها الخيعل الفضل ) أي :
هو السالك . ويجوز نصبه على المدح أي : أعني السالك والثغرة بالضم والثغر بمعنى
واحد وهو موضع يخاف دخول العدو منه . وكالئها : حافظها . والهلوك من النساء : التي
تتهالك في مشيتها أي : تتبختر وتتكسر وقيل : هي الفاجرة التي تتواقع على الرجال .
والخيعل بفتح الخاء المعجمة .
قال السكري : هو ثوب يخاط أحد شقيه ويترك الآخر . والفضل هو الخيعل ليس تحته إزار
.
وقال ابن الشجري : الخيعل القميص الذي ليس له كمان وقيل : ولا دخاريص له . ويقال :
امرأة فضل بضمتين إذا كان عليها قميص ورداء وليس عليها إزار ولا سروايل .
وفي العباب : المفضل والفضل بضمتين . وفي هذا عن الفراء كالخيعل تلبسها المرأة في
بيتها والمرأة فضل بضمتين إذا لبسته .
قال الأعشى : البسيط ( ومستجيبٍ تخال الصّنج يسمعه ** إذا ترجّع فيه القينة الفضل
) المستجيب : العود شبه صوته بصوت الصنج فكأن الصنج دعاه . يقول : هو الذي من شأنه
سلوك موضع المخافة يمشي متمكناً غير فروق ولا هيوب
____________________
كمشي المرأة المتبخترة
الفضل .
قال ابن الشجري في أماليه : الوجه نصب الثغرة بالسالك كقولك : الضارب الرجل ويجوز
خفضها على التشبيه بالحسن الوجه . واليقظان صفة الثغرة نصبتها أو خفضتها وارتفع به
كالئها وجاز ذلك لعود الضمير على الموصوف .
وقوله : مشي الهلوك منصوب بتقدير : تمشي مشي الهلوك وإن شئت نصبته بالسالك لأن
السالك يقطع الأرض بالمشي . انتهى .
وقال العيني : لا يجوز نصبه بالسالك لأنه موصوف باليقظان ولا تعمل الصفة بعد وصفها
.
أقول : هذا سهو منه فإنه قال اليقظان صفة الثغرة كما نقلنا .
والفضل نعت للهلوك على الموضع لأنها فاعلة للمصدر الذي أضيف إليها والتقدير تمشي
كما يمشي الهلوك الفضل .
وبه أنشد ابن الناظم في شرح الألفية . وزعم جماعة أنه مرفوع على المجاورة للمرفوع
الذي هو الخيعل . وهذا شيء لم يقل به أحد من المحققين . وسيأتي الكلام عليه إن شاء
الله تعالى بأوسع )
من هذا في آخر هذا الباب .
وعلى تفسير الفراء والسكري للفضل بكون صفة للخيعل .
وقد تكلم أبو علي في الإيضاح الشعري على المصراع الأول بغير ما ذكرنا تمريناً
للطالب أحببنا ذكره هنا قال : إن نصبت كالئها لم يجز أن تجعلها حالاً من السالك
وأنت قد وصفته باليقظان لأن حينئذ تفصل بين الصلة والموصول ولكن يجوز أن تنصبه
حالاً عما في يقظان كأنه يتيقظ في حال حفظه إياها . ويجوز إذا نصبت كالئها أيضاً
أن تجعله بدلاً من اليقظان .
فإن قلت : أفيجوز إذا نصبت كالئها أن أجعل الكالئ حالاً من الموصول الذي هو السالك
على أن لا أجعل اليقظان صفة للألف واللام ولكن أجعله صفة للثغرة فلا يلزم حينئذ
إذا جعلته حالاً أن أكون قد فصلت بين الصلة والموصول .
____________________
فالجواب أن وصف الثغرة باليقظان ليس بالسهل لأن اليقظان من صفة الرجل دون الثغرة وهو
مع ذلك مذكر والثغرة مؤنث .
فإن قلت : فهل يجوز أن أحمل على الاتساع فأقول : ثغرة يقظان وأنا أريد يتيقظ فيها
لشدة خوف السالك لها كما أقول : ليل نائم أريد أنه ينام فيه وأحمل التذكير على
المعنى لأن الثغرة والثغر والموضع واحد في المعنى فالجواب : أنك إن حملته على هذا
لم يمتنع أن يكون كالئها حالاً من اللام التي في السالك المنتصب .
وإن جعلت اليقظان على هذا الذي ذكرته من الاتساع جاز أيضاً في الكالئ أن تجعله
حالاً مما ألا ترى أنك إذا جعلت اليقظان وصفاً للثغرة ولم تجعله صفة للام لم تتم
الصلة وإذا لم تتم ولم يكن في الكلام شيء يؤذن بتمامها من صفة لها أو عطف عليها أو
تأكيد يتبعها لم يمتنع أن تجعل كالئها حالاً من الضمير كما وصفنا . فإن رفعت
كالئها ورفعت السالك جاز أن يكون السالك ابتداء مثل الضارب هنداً حافظها .
فإن نصبت السالك ورفعت كالئها كان ارتفاع كالئها باليقظان كأنه قال : السالك
الثغرة المتيقظ كالئها كأنه ثغر مخوف يحتاج حافظه أن يكون متيقظاً حذراً لا يغفل
ولا يدع التحرز من شدة الخوف فيها .
ويجوز أن ترفع اليقظان وتنصب السالك وكالئها فيكون اليقظان بدلاً من الذكر العائد
إلى )
الألف واللام في السالك فيكون كالئها حالاً من السالك . انتهى كلام أبي علي .
وبعد خمسة أبيات قال : ( فاذهب فأيّ فتىً في النّاس أحرزه ** من حتفه ظلمٌ دعجٌ
ولا جبل ) هذا الاستفهام معناه النفي ولذلك عطف عليه قوله ولا جبل .
____________________
وبهذا المعنى استشهد العلماء بهذا البيت منهم الفراء في تفسيره عند قوله تعالى :
وما لنَا أنْ لا نُقاتِل وقال : هذا البيت مما حمل على معنى هو مخالف لصاحبه في
اللفظ أي : ليس يحرز ومثله قول الشاعر : الطويل ألا هل أخو عيشٍ لذيذٍ بدائم أي :
ما أخو عيش . ومثله في قراءة عبد الله : كيف يكون للمشركين عهد عند الله ولا ذمة
أي : ليس للمشركين .
وقال الكسائي : سمعت العرب تقول : أين كنت لتنجو مني أي : ما كنت لتنجو مني . وذكر
له نظائر كثيرة .
ولهذا أيضاً أورده ابن هشام في مغني اللبيب في الواو العاطفة . وأحرزه بمعنى جعله
في حرز يمنع من الوصول إليه . ومن حتفه متعلق به . والحتف : الهلاك . والظلم بضم
ففتحة : جمع ظلماء وهي الليالي السود . والدعج : جمع دعجاء وهي الشديدة السواد .
____________________
والعرب تسمي الليلة الأولى من ليالي المحاق الثلاثة في آخر الشهر دعجاء وهي ليلة
ثمانية وعشرين والثانية السرار بالكسر والثالثة الفلتة بالفاء وهي ليلة الثلاثين .
والجبل بالجيم والموحدة وروي الحيل بكسر المهملة جمع حيلة .
وأنشد بعده
الشاهد الثالث والثلاثون بعد الثلاثمائة ( وذبيانيّةٍ أوصت بنيها ** بأن كذب
القراطف والقروف ) على أن الكذب مستهجنٌ عندهم بحيث إذا قصدوا الإغراء بشيء قالوا
: كذب عليك . أي : عليكم بهما فاغتنموهما .
وقد بينه الشارح المحقق في باب اسم الفعل بأوضح من هذا ونزيد هناك ما قيل فيه إن
شاء الله .
قال الزمخشري في الفائق عن أبي علي : هذه كلمةٌ جرت مجرى المثل في كلامهم ولذلك لم
تصرف ولزمت طريقةً واحدة في كونها فعلاً ماضياً معلقاً بالمخاطب ليس إلا وهي في
معنى الأمر كقولهم في الدعاء : رحمك الله .
والمراد بالكذب الترغيب والبعث من قول العرب : كذبته نفسه إذا منته الأماني وخيلت
إليه الآمال مما لا يكاد يكون . وذلك ما يرغب الرجل في الأمور
____________________
ويبعثه على التعرض لها .
انتهى .
ومضر تنصب بكذب وأهل اليمن ترفع به . قال ابن السكيت : يرفعون المغري به ومن نصب
فعلى الأمر والإغراء .
وأورد صاحب الكشاف هذا البيت عند قوله تعالى : وَوَصيَّنَا الإنسانَ بِوَالديه
حسْناً على أن وصى يجرى مجرى أمر معنىً وتصرفاً .
والقراطف : جمع قرطفٍ كجعفر وهو القطيفة أي : كساء مخمل . والقروف : جمع قرف بفتح
فسكون وهو وعاءٌ من جلد يدبغ بالقرفة بالكسر وهو قشور الرمان ويجعل فيه الخلع
ويطبخ بتوابل فيفرغ فيه . والخلع بفتح الخاء المعجمة وسكون اللام : لحم يطبخ
بالتوابل ثم يجعل في القرف ويتزود به في الأسفار . والواو واو رب .
يقول : رب امرأة ذبيانية أمرت بنيها أن يستكثروا من نهب هذين الشيئين إن ظفروا
بعدوهم وغنموا وذلك لحاجتهم وقلة مالهم . كذا في أبيات المعاني لابن قتيبة وفي
نوادر ابن الأعرابي .
وهذا البيت من قصيدةٍ لمعقر البارقي مدح بها بني نمير وذكر ما فعلوا ببني ذبيان
بشعب جبلة وهو يوم كانت فيه وقعة بين بني ذبيان وبين بني عامر فظهرت بنو عامر على
بني ذبيان في ذلك اليوم .
وبعد هذا البيت : ) ( تجهّزهم بما اسطاعت وقالت ** بنيّ فكلّكم بطلٌ مسيف ) (
فأخلفنا مودّتها فقاظت ** ومأقي عينها حذلٌ نطوف )
____________________
وبني : منادى أي : يا بني
والفاء في فكلكم فصيحة أي : إن تغزوا فكلكم الخ .
قال ابن قتيبة وابن الأعرابي : المسيف الذي ذهب ماله ووقع في إبله السواف . يقال :
أساف الرجل أي : هلك ماله . والسواف بالفتح وقيل بالضم : مرض المال وهلاكه . يقال
: وقع في المال سواف أي : موت . تعني أن أولادها فقراء . تحرضهم على الغنيمة .
وقوله : فأخلفنا مودتها الخ أي : أخلفنا هواها وخيبنا مأمولها . وقاظت أي : أقامت
في القيظ وهو الصيف . والحذل بفتح الحاء المهملة وكسر الذال المعجمة : الموق الذي
فيه بثر وحمرة . والمأقي : لغة في الموق وهو طرف العين ناحية الأنف . ونطوف أي :
سائل . يقال : نطف الماء ينطف بالضم والكسر إذا سال .
ومعقر بضم الميم وفتح العين وتشديد القاف المكسورة وهو معقر بن أوس ابن حمار على
لفظ واحد الحمير ابن الحارث بن حمار بن شجنة بن مازن بن ثعلبة بن كنانة بن بارق
وهو لقب واسمه سعد .
قال صاحب العباب : وبارق أبو قبيلة من اليمن واسم بارق سعد بن عدي بن حارثة بن
عمرو مزيقيا بن عامر ماء السماء الأزدي . قيل : بارق في الأصل جبل باليمن نزله بنو
عدي بن حارثة فسموا به .
وكان قوم معقر قد حالفوا بني نمير بن عامر في الجاهلية لدمٍ أصابوه منهم وشهدوا
يوم جبلة وكان معقر قد كف بصره وكان قبل ذلك من فرسان قومه وشعرائهم المشهورين يوم
جبلة وكان قبل الإسلام بتسع وخمسين سنة قبل
____________________
المولد الشريف النبوي بتسع
عشرة سنة . كذا في الأغاني للأصبهاني .
وأنشد بعده
الشاهد الرابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل ( وليلٍ يقول النّاس من ظلماته **
سواءٌ صحيحات العيون وعورها ) ( كأنّ لنا منه بيوتاً حصينةً ** مسوحاً أعاليها
وساجاً كسورها ) على أن مسوحاً وساجاً نعتان لقوله : بيوتاً . وصح النعت بهما مع
أن كلاً منهما اسم جوهر أي : جسم لتأويلهما بالمشتق . فالأول يؤول بسوداً والثاني
بكثيفاً .
قال ابن مالك : رفع الأعالي والكسور بمسوح وساج لإقامتهما مقام سود .
وقال السيرافي : ذهب بمسوح إلى سود وبساج إلى كثيف . انتهى .
وأورد ابن جني هذا البيت في إعراب الحماسة مع نظائر له ثم قال : وهذا يدلك من
مذهبها على أنها إذا نقلت شيئاً من موضعه إلى موضع آخر مكنته في الثاني . ألا ترى
أن هذه الأشياء كلها أسماء في أصولها ولما نقلتها إلى أن وصفت بها مكنتها وثبتت
أقسامها فيه حتى رفعت بها الظاهر وحتى أنثتها تأنيث الصفة
____________________
وأجرتها على ما قبلها
جريان الصفات على موصوفاتها .
وعكس ذلك ما أخرج من الصفة إلى الاسم فمكن فيه نحو صاحب ووالد . ألا تراهم حموا
كلامهم أن يقولوا فيه : مررت بإنسان صاحب حتى صار صاحب بمنزلة جار وغلام . انتهى
باختصار .
والمسوح : جمع مسح بالكسر وهو البلاس بكسر الموحدة وفتحها وهو فارسي معرب أورده
الجواليقي في المعربات وهو ينسج من الشعر الأسود .
قال صاحب الصحاح : وأهل المدينة يسمون المسح بلاساً . ومن دعائهم : أرانيك الله
على البلس وهي غرائر كبار من مسوح يجعل فيها التبن فيشهر عليها من ينكل به وينادى
عليه .
والساج بالجيم : ضرب من الشجر لا ينبت إلا بالهند والزنج يجلب خشبه وهو أسود .
وإليه يشير تفسير الشارح له بالكثيف . والساج أيضاً : الطيلسان الأخضر وهو ألوان
متقاربة يطلق كل منها على الآخر . وبهذا المعنى فسر الساج ها هنا .
قال غلام ثعلب في كتاب اليوم والليلة : يقال : إن أشعر ما قيل في الظلمة قول مضرس
. وأنشد هذين البيتين . ثم قال : يريد الطيلسان . )
وكذلك قال الشريف ضياء الدين هبة الله علي بن محمد بن حمزة الحسيني في الحماسة
التي صنفها كحماسة أبي تمام وزاد عليه أبواباً كثيرة وأورد فيها أشعاراً جيدة وقد
أجاد في الاختيار والنقد عندما أورد هذا الشعر فيها . وعلى هذا يؤول الأول بسوداً
كثيفة والثاني بأسود لطيف .
وإلى هذا أشار الحصري في زهر الآداب بعدما أورد البيتين بقوله : أراد أن أعلاه أشد
ظلاما من جوانبه . وهذا معلومٌ حساً فإن الإنسان إذا كان قائماً في
____________________
الظلام لا يكاد يرى شيئاً
وإذا لطئ بالأرض فربما رأى شيئاً .
والكسور : جمع كسر بكسر الكاف وهو أسفل شقة البيت التي تلي الأرض من حيث يكسر
جانباه من يمينك ويسارك . وفي جميع نسخ الشرح ستورها بدل كسورها والظاهر أنه تحريف
من الكتاب .
والبيوت : جمع بيت قال ابن الأنباري في شرح المفضليات : البيت عند العرب هو ما
يكون من صوف أو شعر والخيمة لا تكون إلا من شجر .
وضمير أعاليها وكسورها راجع للبيوت . شبه الليل بالبيوت الحصينة للتحصين بهول
الظلام فإنه لا يقدر أحد أن يهجم على أحد .
وقوله : وليل يقول الناس الخ من التعليل سواء خبر مقدم وصحيحات مبتدأ مؤخر والجملة
مقول القول أي : العيون الصحيحة والعيون العور سواء في عدم رؤية شيء لتكاثف الظلام
.
وروي : بصيرات العيون والواو في وليل هي واو رب وجوابها : تجاوزته في بيتٍ بعدهما
وهو : ( تجاوزته في ليلةٍ مدلهمّةٍ ** ينادي صداها ناقتي يستجيرها ) كأنه أراد
بليلة قطعة منها . والمدلهمة : الشديدة السواد .
وروي : تجاوزته في همّة مشمعلّة أي : سريعة . والصدى من طيور الليل وهو ذكر البوم
وإنما استجار بناقته لتفاقم هول الليل فأراد أن يصحبها ليأمن . والأصل يستجير بها
فحذف ووصل .
قال الشريف صاحب الحماسة : من أحسن ما وصف به سواد الليل هذه الأبيات .
____________________
وقبلها بيتان في وصف اليوم وهما : ) ( ويومٍ من الشعري كأنّ ظباءه ** كواعب مقصورٌ
عليها ستورها ) ( نصبت له وجهي وكلّفت حميه ** أفانين حرجوجٍ بطيءٍ فتورها ) أي :
رب يوم من أيام طلوع الشعري وهو الكوكب الذي يطلع بعد الجوزاء وطلوعه في شدة الحر
. والكواعب : جمع كاعب وهي الجارية التي يبدو ثديها للنهود . وقصرت الستر : أرخيته
.
شبه الظباء الكانسة من شدة الحر بعذارى أرخي عليهن الستر لئلا يراهن أحد .
ونصبت له أي : لذلك اليوم . ونصب الشيء : أقامه وهو جواب رب . وكلف يتعدى لمفعولين
أولهما حميه أي : حمي ذلك اليوم وهو مصدر حميت الشمس والنار مثلاً إذا اشتد حرهما
.
وثانيهما أفانين وهو جمع أفنون بالضم وهو الجري المختلط من جري الفرس والناقة .
كذا في القاموس .
والحرجوج بضم الحاء المهملة وجيمين أولهما مضمومة وهي الناقة السمينة وقيل الشديدة
وقيل الضامرة الوقادة القلب . وبطيء بالجر صفة سببية لحرجوج وفتورها فاعل بطيء
والضمير لحرجوج . والفتور : مصدر فتر من باب دخل إذا ضعف وتعب .
وهذه الأبيات لمضرس بن ربعي وهو بكسر الراء وسكون الموحدة الأسدي . وهو شاعر جاهلي
وهو بضم الميم وكسر الراء المشددة في اللغة الأسد الذي يمضغ لحم فريسته ولا يبتلعه
.
وقد ضرس فريسته تضريساً إذا فعل بها ذلك .
وقال أبو عمرو : المضرس الذي قد جرب الأمور وقيل : مشتق من الضرس أي : قد نبت له
ضرس الحلم .
وهذا نسبه من المؤتلف والمختلف للآمدي : مضرس بن ربعي بكسر
____________________
الراء وسكون الموحدة
وتشديد الياء المكسور ما قبلها ابن لقيط بفتح اللام بن خالد بن نضلة بفتح النون
وسكون الضاد المعجمة ابن الأشتر بن جحوان بفتح الجيم وسكون الحاء المهملة ابن فقعس
بن طريف بن عمرو بن قعين بضم القاف ابن الحارث بن ثعلبة بن دودان بضم الدال ابن
أسد بن خزيمة .
وهو شاعر محسن متمكن وهو القائل : الطويل ( فلا تهلكنّ النّفس لوماً وحسرةً ** على
الشيء سدّاه لغيرك قادره ) ( ولا تيأسن من صالحٍ أن تناله ** وإن كان بؤساً بين
أيدٍ تبادره ) ( وما فات فاتركه إذا عزّ واصطبر ** على الدّهر إن دارت عليك دوائره
) ) ( فإنّك لا تعطي امرأً حظّ غيره ** ولا تعرف الشّقّ الذي الغيث ماطره ) وربعي
: منسوب إلى الربيع . وأربع الرجل إذا ولد له ولد وهو شاب .
وولده ربعي . وأصاف فهو مصيف إذا ولد له بعدما كبر . وولده صيفي .
قال الراجز : الرجز ( إنّ بنيّ صبيةٌ صيفيّون ** أفلح من كان له ربعيّون ) وذكر
الآمدي شاعر آخر اسمه مضرس وهو مضرس بن قرطة بن الحارث أحد بني صبيح بن
____________________
( وأقسم لولا أن تقول
عشيرتي ** صبا بسليمى وهو أشمط راجف ) ( لخفّت إليها من بعيدٍ مطيّتي ** ولو ضاع
من مالي تليدٌ وطارف ) ( ذكرت سليمى ذكرةً فكأنّما ** أصاب بها إنسان عيني طارف )
( ألا إنّما العينان للقلب رائدٌ ** فما تألف العينان فالقلب آلف ) وليس في
الصحابة من اسمه مضرس إلا مضرس بن سفيان بن خفاجة . كذا في الإصابة .
وأنشد بعده : ولقد أمرّ على اللّئيم يسبّني وتمامه : فمضيت ثمّت قلت لا يعنيني وقد
تقدم شرحه مستوفىً في الشاهد الخامس والخمسين .
وأنشد بعده : جاؤوا بمذقٍ هل رأيت الذّئب قطّ وهذا أيضاً تقدم شرحه مفصلاً في
الشاهد السادس والتسعين .
____________________
وأنشد بعده وهو من شواهد س : الكامل ( ونظرن من خلل السّتور بأعينٍ ** مرضى مخالطها
السّقام صحاح ) على أن مخالطها بالجر صفة لأعين . قال سيبويه : سمعنا العرب تنشد
هذا البيت جراً . ومراده الرد على يونس في زعمه أن الوصف إذا كان للاستقبال يجب
رفعه على الابتداء ولا يجوز إتباعه لما قبله فلو كان كما زعم لرفع الوصف فدل رواية
الجر على جواز ما زعمه . )
ونص سيبويه : وبعضهم يجعله نصباً إذا كان واقعاً ويجعله على كل حال رفعاً إذا كان
غير واقع . هذا قول يونس .
وكلام سيبويه هنا فيه غموض وقد لخصه الشارح المحقق وبين المذاهب الثلاثة بألطف
عبارة وأظهر بيان فلله دره ما أحسن استنباطه وأجود تقريره .
وهذا البيت من قصيدة لابن ميادة وقبله : ( وارتشن حين أردن أن يرميننا ** نبلاً
بلا ريشٍ ولا بقداح ) وقوله : وارتشن أي : اتخذن ريشاً لسهامهن . وهذا على طريق
المثل جعل أعينهن إذا نظرن بمنزلة السهام التي يرمى بها . ونبلاً إما منصوب بارتشن
بمعنى رشن وإما منصوب بإضمار رشن كأنه قال : ارتشن فرشن نبلاً تقديره اتخذن ريشاً
فرشن به نبلاً .
والقداح : جمع قدح بكسر القاف وسكون الدال وهو عود السهم قبل أن يوضع فيه النصل
والريش .
____________________
وروى : نبلاً مقذذةً بغير
قداح والمقذذة : السهام التي لها قذة بضم القاف وتشديد الذال المعجمة وهي ريش
السهم . يريد أن السهام التي أصلحنها ورمين بها ليست بسهام من خشب وإنما هي أعينهن
إذا نظرن بها إلى إنسان . وخلل الستور بفتح الخاء المعجمة : الفرج التي فيها .
وأورده الزجاج في معاني القرآن عند قوله تعالى : واتخذ الله إبراهيم خليلاً قال : والخلل
: كل فرجة تقع في شيء فإن معناه نظرن من الفرج التي تقع في الستور . انتهى .
وروي : من خلل الخدور جمع خدر بالكسر وهو الستر . وجارية مخدرة إذا ألزمت الستر .
أشار إلى أنهن مصونات لا ينظرن إلا من وراء حجاب . والعيون المرضى : التي في طرفها
فتور وجعل ذلك الفتور والضعف الذي في نظرها بمنزلة السقام فيها وهي صحاح في أنفسها
لا علة فيها . وإنما يفتر النظر من رطوبة الجسم والنعمة والترفه .
وصف نساءً يصبن القلوب بفتور أعينهن وحسنهن فجعل نظرهن كالسهام ووصف عيونهن بالمرض
لفتور جفونهن ثم بين أن فتورها من غير علة . فقوله : ونظرن معطوف على قوله وارتشن
ومن والباء متعلقان به وذكر لأجل وصفها المذكور وإلا فالنظر لا يكون إلا بالعين .
)
ومرضى : جمع مريض وصف الجمع بالجمع أو جمع مريضة . والسقام فاعل مخالط . والصحاح
بالكسر : جمع صحيحة وهو وصف ثالث .
____________________
وابن ميادة شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد التاسع عشر من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد السادس والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الطويل (
حمين العراقيب العصا وتركنه ** به نفسٌ عالٍ مخالطه بهر ) على أن مخالطه بالرفع
صفة لنفس وبهر فاعله والإضافة لفظية والتنوين مقدر لنية الانفصال كالبيت السابق .
قال سيبويه : وإن ألغيت التنوين وأنت تريد معناه جرى مثله منوناً . ويدل على ذلك
أنك تقول مررت برجل ملازمك فتجر ويكون صفة للنكرة بمنزلته إذا كان منوناً .
وتقول : مررت برجل مخالطٍ بدنه أو جسده داء فإن ألغيت التنوين جرى مجرى الأول إذا
أردت فإن قلت مررت برجل مخالط داء وأردت معنى الأول جرى على الأول كأنك قلت : مررت
برجل مخالط غياه داء . فهذا تمثيل وإن كان يقبح في الكلام . فإذا كان يجري عليه
إذا التبس بغيره فهو إذا التبس به أحرى أن يجري عليه . انتهى .
____________________
وفي البيت رد على يونس في زعمه أن الصفة إذا كانت للحال وجب نصبها على الحال فإن
الرواية برفع مخالطه على الإتباع مع أنه للحال لا للاستقبال .
قال سيبويه : وأنشد غيره أي : غير ابن ميادة من العرب بيتاً آخر فأجروه هذا المجرى
وهو قوله : ( حمين العراقيب العصا وتركنه ) والعمل الذي لم يقع والواقع الثابت في
هذا الباب سواء وهو القياس وقول العرب . انتهى .
وظهر من هذا أن قول الشارح المحقق : وأنشد غيره داخل تحت مقول قول سيبويه وإن كان
ظاهر العبارة يوهم أن المنشد غير سيبويه .
وقوله أيضاً : وليونس أن يحمل رفعه على الابتداء هو تخريج الأعلم في شرح أبيات
الكتاب .
قال : ويجوز أن يكون رفعهما على الابتداء والخبر . )
وقول ابن خلف ولم ينصب مخالطه على الحال لأن المخالطة فاعلها البهر ساقط وما
المانع من كونه حينئذ حالاً سببية والعراقيب والعصا مفعولان لحمين وتركنه معطوف
على حمين بمعنى فارقنه . وجملة به نفس عال الخ حال من الهاء . والبهر بالضم :
تتابع النفس من التعب .
يعني أنهن سرن سيراً شديداً ففتن الحادي فحمين عراقيبهن من ضربه بالعصا فأخذه
البهر لشدة عدوه خلفهن . وقوله : حمين العراقيب جواب إذا في بيت قبله وهو : ( إذا
اتزر الحادي الكميش وقوّمت ** سوالفها الرّكبان والحلق الصّفر ) واتزر بمعنى لبس
الإزار . والحادي : سائق الإبل . والكميش : السريع الماضي . وقد كمش بالضم كماشة
فهو كمش وكميش . وقومت : عدلت . والسوالف : جمع سالفة وهي الإبل والخيل : الهادية
أي : ما تقدم من العنق وهو مفعول مقدم والركبان فاعل مؤخر والحلق معطوف على
____________________
الركبان وهو جمع حلقة
بالتحريك أيضاً وأراد بها البرة وهي حلقة من نحاس تجعل في أنف الإبل لتذليلها .
والصفر : النحاس بضم الصاد وكسرها : وصف في هذين البيتين سرعة الإبل .
وهما من قصيدة للأخطل وهو شاعر نصراني من شعراء الدولة الأموية ومادحيهم .
وقد تقدمت ترجمته في الشاهد الثامن والسبعين .
الشاهد السابع والثلاثون بعد الثلاثمائة الطويل ( قولوا لهذا المرء ذو جاء ساعياً
** هلمّ فإنّ المشرفيّ الفرائض ) على أن ذو الطائية إنما وقعت وصفاً وإن كانت على
حرفين لمشابهتها لذو الموضوعة للوصف بأسماء الأجناس .
وهذا البيت أول أبيات ثلاثة لقوال الطائي أوردها أبو تمام في الحماسة .
والساعي : الوالي على صدقة الزكاة . يقال : سعى الرجل على الصدقة يسعى سعياً : عمل
في أخذها من أربابها . وهلم : أقبل وتعال . المشرفي : بفتح الميم والراء هو السيف
نسب إلى المشارف وهي قرى كانت السيوف تصنع فيها . الفرائض جمع فريضة وهي الأسنان
التي تصلح أن تؤخذ في الصدقات .
____________________
قال صاحب الصحاح : الفريضة ما فرض في السائمة من الصدقة يقال : أفرضت الماشية أي :
وجبت فيها الفريضة وذلك إذا بلغت نصاباً . يقول : أبلغا هذا الرجل الذي جاء لأخذ
الصدقات تعال فإن لك عندنا السيف بدلاً من الفرائض .
قال التبريزي : وهذا مأخوذ من المثل السائر : خذ من جذع ما أعطاك . وجذع : رجل
أتاه ( وإنّ لنا حمضاً من الموت منقعاً ** وإنّك مختلّ فهل أنت حامض ) أي : وقولا
له : إن لنا حمضاً بفتح المهملة وهو من النبات ما له ملوحة ومرارة . والخلة بضم
المعجمة : ما كان حلواً من النبات .
تقول العرب : الخلة خبز الإبل والحمض فاكهتها ويقال : لحمها . ومنه قولهم للرجل
إذا جاء متهدداً : أنت مختل فتحمض المختل : الذي يرعى الخلة .
قال التبريزي : وما في البيت مثل يقول : قد مللت العافية والسلامة فهلم إلى الشر .
والخلة مثل ضربه للحياة والحمض مثل ضربه للموت . يقول : إن ضاق صدرك من الحياة
فأتين مصدقاً فإني أقتلك . والمنقع بزنة اسم المفعول : الثابت . يقال : انقع له
الشر حتى يسأم أي : أدمه . ( أظنّك دون المال ذو جئت تبتغي ** ستلقاك بيضٌ للنّفوس
قوابض )
____________________
المال : الماشية ودون
متعلق بأظنك لا بجئت ولا بتبتغي لأن معمول الصلة لا يتقدم على الموصول وذو هو
المفعول الثاني للظن بمعنى الذي والبيض : السيوف . أراد التهكم وقد خلط )
به التوعد والاستهانة ولذلك قال : أظنك . وتبتغي جملة حالية ومفعوله محذوف .
والمعنى أحسبك الذي جاء دون المال تبتغي صدقاته سترى ما أهيئ لك من سويف تنتزع
الأرواح .
وقوال الطائي بفتح القاف وتشديد الواو : شاعر إسلامي في آخر الدولة الأموية وقد
أدرك الدولة العباسية .
وقال هذه الأبيات في مصدق جاء يطلب منهم إبل الصدقة . وسببها هو ما رواه أبو رياش
في شرح الحماسة .
وقال : كان من خبر هذه الأبيات أن معدان بن عبيد بن عدي بن عبد الله حدث أنه تزوج
امرأة من بني بدر بن فزارة قال : وكان شباب من بني بدر يزوروننا فأدرك الثمار
فاجتمعوا على نبيذ لهم مع شباب منا فأسرع فيهم الشراب فوقع بينهم كلام فوثب غلام
منا فضرب شاباً من بني بدر فشجه فمات منها فقلت للبدريين : لكم دية صاحبكم .
فأبوا إلا أن يدفع الطائي إليهم وأبيت أن أفعل فأتوا صاحب المدينة في ذلك وكنا قد
منعنا الصدقة حين وقعت الفتنة فكتب أمية بن عبد الله بن عمرو بن عثمان ابن عفان
عامل صدقة الحليفين : طيئ وأسد إلى مروان الحمار آخر ملوك بني أمية يخبره بمنعنا
الصدقة وقتلنا الرجل فكتب إليه : أن سير إليهم جيشاً . وكتب إلي : أن مكن البدريين
من صاحبهم وأد الصدقة وإلا فقد أمرت رسولي أن يأتيني بك وإن أبيت أتاني برأسك ثم
والله لأبيلن الخيل في عرصاتك فأمرت بضرب عنق الرسول .
فقال الرسول : إن الرسول لا يقتل وإني لأسير فيكم يا معشر طيئ استحياء
____________________
فقلت : قد صدقت وخليت
سبيله وقلت له : قل لمروان : آليت تبيل الخيل في عرصاتي وبيني وبينك رمل عالج
وعديد طيئ حولي والجبلان خلف ظهري فاجهد جهدك فلا أبقى الله عليك إن أبقيت .
وكتب إليه : الوافر ( ألا من مبلغٌ مروان عنّي ** على ما كان من نأي المزار ) (
ألم تر للخلافة كيف ضاعت ** إذا كانت بأبناء السّراري ) ( إذا كانت بذي حمقٍ تراه
** إذا ما ناب أمرٌ كالحمار ) )
وكتب إليه غالب بن الحر الطائي : الطويل ( لقد قلت للرّكبان من آل هاشم ** ومن عبد
شمس والقبائل تسمع ) ( قفوا أيّها الرّكبان حتّى تبيّنوا ** ويأتيكم الأمر الذي
ليس يدفع ) ( وحتّى تروا أين الإمام وتشعبوا ** عصا الملك إذ أمسى وبالملك مضيع )
( أرى ضيعةً للمال أن لا يضمّه ** إمامٌ ولا في أهله المال يودع ) فكتب إلى عبد
الواحد بن منيع السعدي من سعد بن بكر وإلى أمية بن عبد الله ابن عمرو بن عثمان :
أن سر بأهل الشام وأهل المدينة وأهل البوادي وقيس وغيرهم إلى معدان حتى تأخذوا منه
الصدقة وتقيدوا البدريين من صاحبهم وأوطئوا الخيل بلاد طيئ وائتوني بمعدان فسار
أمية في ثلاثين ألفاً من أهل المدينة والشام والبوادي من قيس وأسد وبعث إلى كل
صاحب ذحل ودمنة يطلبها في طيئ وقدم على مقدمته رجلاً يقال له : الحريز بن يزيد بن
حمل من الضباب وثارت قيس تطلب الثأر من طيئ .
قال معدان : وكنت في اثني عشر ألفاً فلما انتهيت إلى عسكر أمية إذا جبال
____________________
الحديد وعسكر لا يرى طرفاه
فرفع طيئ النار على أجأ فاجتمعوا فنحروا الجزر وعملوا من جلودها درقاً وطعموا من
لحومها .
فقلت : يا بني خيبري ويا معشر طيئ هو والله يومكم لبقاء الدهر أو لهلاك فإذا وقع
النبل عندكم فقبح الله أجزع الفريقين فصاففناهم فرموا بالنبل ثم شددنا عليهم شدة
رجل واحد فما كان إلا سيف أو سيفان حتى قتل الحريز وسرحان مولى قيس .
واستحر القتل في قيس لأنهم حاموا عن الحريز وكان يلي المعادن فقتل من قيس ثلثمائة وانهزموا
أقبح هزيمة وأسوأها فأتيت بأمية أسيراً فخليت سبيله وأتيت بجارية له فأحلقتها به
إلى المدينة وناديت أن لا يتبعوا مدبراً ولا يجهزوا على جريح وإن الكتاب الذي كتبه
مروان لفي أيدينا ما نحسن أن نقرأه وجدناه في متاعه حتى قرأه بعض فتياني فإذا فيه
: اقتل واسب .
وبالله لو كنت علمت ما في الكتاب ما أفلت منهم صبي فكتب صاحب المدينة إلى مروان
يخبره بما صنعت طيئ من قتل الحريز وسرحان وأسر أمية وقتل ابنه وما لقيت قيس ومن
أجاب دعوته . فوجه مروان من عنده ابن رباح الغساني في عشرة آلاف فكتب ابن هبيرة
إلى مروان بقتل ابن ضبارة وفصول قحطبة متوجهاً من الري . )
فقال : ما تصنع بشغل عشرة آلاف في قتال أعراب طيئ فصرفهم إلى ابن هبيرة .
قال معدان : وكتبت إلى قحطبة وبعثت رسولاً فوافقه بهمذان والجيش بنهاوند فكتب إلي
يسدد رايي ويصوب أمري ويخبر أنه لو قدم الكوفة بعث إلي جنداً .
ثم كان من أمر قحطبة ما كان وقال أبو العباس السفاح فقدمت إليه في مائتي
____________________
رجل من طيئ فأمر لي بعشرين
ألف درهم وخلعة وأمر لأصحابي بثلاثمائة ثلاثمائة وخص قوماً نحواً من ثلاثين رجلاً
بخمسمائة درهم لكل رجل ولعشرة منهم بألف لكل رجل فوالله ما رزأنا مروان ولا جنده
ولا عماله شاة ولا بعيراً وإنا لأول من نقم عليه ونصر آل محمد حتى انتهى إلينا
صاحبنا قحطبة بن شبيب بن خالد بن معدان ولجأ إلي يومئذ فراراً من الحرب عبد العزيز
بن أبي دهبل الجعفري وكنا أخواله فقال عبد العزيز يمدح معدان في قطعة : الطويل
وقيلت أشعاراً كثيرة في تلك الوقعة أورد بعضها أبو تمام في الحماسة . وأنشد بعده
الشاهد الثامن والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه : الطويل ( ولا تجعلي
ضيفيّ ضيفٌ مقرّبٌ ** وآخر معزولٌ عن البيت جانب ) على أنه يجوز القطع إلى الرفع
في خبر نواسخ المبتدأ فإن جعل هنا بمعنى صير من نواسخ المبتدأ والخبر ينصبهما على
المفعولية وضيفي المفعول الأول وهو في الأصل مبتدأ وهو مثنى مضاف إلى ياء المتكلم
وضيف مقرب وآخر بتقدير وضيف آخر كانا في الأصل منصوبين على أنهما مفعول ثان لجعل
وفرق بينهما
____________________
بالعطف لأجل وصف كل منهما
بصفة تغاير الآخر فقطعا من المفعولية إلى المبتدأ فيكون الخبر محذوفاً أي : منها
ضيف مقرب ومنهما ضيف آخر الخ . أو هما خبران لمحذوف أي : أحدهما ضيف مقرب وثانيهما
ضيف آخر الخ . وجملة المبتدأ والخبر في محل نصب على أنهما المفعول الثاني لجعل .
قال سيبويه بعد إنشاده هذا البيت : والنصب جيد كما قال الجعدي : الطويل ( وكانت
قشيرٌ شامتاً بصديقها ** وآخر مزرياً عليه وزاريا ) قال الأخفش : يعني النصب في
ضيف على البدل ورفع جانب بتقدير : هو جانب .
أقول : صوابه النصب على أنه مفعول ثان لا على البدل وشامتاً في البيت نصب على أنه
خبر كان . ولم يجعل الكلام تبعيضاً ولو رفع شامتاً لكان التقدير : منهم شامت
والجملة حينئذ )
خبر كان .
هجا قشيراً وهي قبيلة من بني عامر وكانت بينه وبينها مهاجاة فجعل منهم من يشمت
بصديقه إذ نكب وجعل بعضهم يرزأ بعضاً للؤمهم واستطالة قويهم على ضعيفهم . وبنى
مزرياً على تخفيف الهمزة ولو بناه على الأصل لقال : مرزوءاً . وجانب بمعنى المجانب
والمتنحي .
والبيت للعجير السلولي خاطب به امرأته . يقول لها : سوي بين ضيفي في التقريب
والإكرام ولا تكرمي بعضاً وتهيني بعضاً .
والعجير بضم العين المهملة وفتح الجيم كنيته أبو الفرزدق : وقال الآمدي في المؤتلف
والمختلف هو مولى لبني هلال . ويقال : هو العجير بن
____________________
عبد الله بن عبيدة بفتح
العين وكسر الموحدة ابن كعب . وأنهى نسبه إلى مرة بن صعصعة . قال : وهو سلول .
انتهى .
وفي الأغاني : العجير بن عبد الله بن عبيدة بن كعب ويقال ابن عبيدة بضم العين
واسمه عمير من بني سلول بن مرة بن صعصعة أخي عامر بن صعصعة . وأم بني مرة سلول بنت
ذهل بن شيبان بن ثعلبة غلبت عليهم وبها يعرفون . ويكنى العجير أبا الفرزدق وأبا
الفيل . شاعر من شعراء الدولة الأموية مقل إسلامي . انتهى .
قال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : عجير : اسم منقول ويحتمل أن يكون مصغر عجر من
قولهم : عجر عنقه إذا لواها ويحتمل أن يكون مصغراً مرخماً من أعجر وهو الناتئ
السرة .
وأما سلول فاسم مرتجل غير منقول . انتهى .
وله خبر مع بنت عمه يأتي إن شاء الله تعالى في باب الجوازم .
وأنشد بعده
الشاهد التاسع والثلاثون بعد الثلاثمائة وهو من أبيات سيبويه : الطويل ( فأصبح في
حيث التقينا شريدهم ** طليقٌ ومكتوف اليدين ومزعف )
____________________
لما تقدم في البيت الذي
قبله من أنه يجوز القطع في الرفع في خبر النواسخ فإن أصبح هنا من أخوات كان
وشريدهم اسمها وما بعده كان في الأصل منصوباً على أنه خبر أصبح فقطع عن الخبرية
ورفع على أنه مبتدأ وخبره محذوف أي : منهم طليق ومنهم مكتوف الخ أو خبر لمبتدأ
محذوف أي : بعض الشريد طليق الخ . والجملة في محل نصب على أنها خبر أصبح ويجوز
أيضاً فإن قلت : أيجوز أن يكون طليق مقطوعاً عن الحالية ويكون خبر أصبح قوله : في
حيث التقينا قلت : لا يجوز معنى فإن المقصود تقسيم الشريد وتبيين أنواعه بما ذكر
لا أنه ذكر في موضع الالتقاء .
والشريد واحد يؤدي معنى الجمع لأنه واقع على كل من شردته الحرب فهو يعم ما ذكر .
قال الأخفش : يريد أصبحوا منهم قتيل ومنهم مكتوف لا أن الشريد وحده اجتمع فيه ما
ذكره .
وقال ابن خلف : لا يصح أن يكون في حيث التقينا خبر أصبح . لأن ظرف الزمان لا يصح
أن يكون خبراً عن الجثة .
وهذا سهو لأن حيث للمكان لا للزمان . والشريد : الطريد . والطليق : الأسير الذي
أطلق عنه إساره . والإسار بالكسر : القد ومنه سمي الأسير لأنهم كانوا يشدونه بالقد
ثم سمي كل أخيذ أسيراً وإن لم يشد به . والمكتوف : من كتفت الرجل إذا شددت يديه
إلى خلف بالكتاف .
قال ابن دريد : الكتاف بالكسر : حبل يشد به وظيف البعير إلى كتفيه . والمزعف بالزاي
قال الأصمعي : أزعفته وأزدعفته إذا أقعصته . يقال : ضربه فأقعصه أي : قتله مكانه .
وقال الخارزنجي : أزعفت عليه إذا أجهزت عليه وتممت قتله .
وقال الأعلم : رواه حملة الكتاب مزعف بكسر العين ومعناه ذو زعاف أي : ذو صرع وقتل
وليس بجار على الفعل . )
____________________
وقال ابن خلف : ورواه غيرهم بفتح العين من أزعفه الموت إذا قاربه وهو مأخوذ من
قولهم : موت زعاف وذعاف اي : معجل . انتهى .
وإلى هذا ذهب الشارح المحقق . قال الصاغاني في العباب : زعفه يزعفه زعفاً من باب
منع أي : قتله مكانه . وسم زعاف وذعاف بضم المعجمتين أي : قاتل .
وهذا البيت من قصيدة طويلة عدتها مائة وخمسة وعشرون بيتاً للفرزدق وقد تقدمت
ترجمته في الشاهد الثلاثين من أوائل الكتاب . وهي قصيدة افتخارية هجا في آخرها .
ومنها وهو قبل البيت : ( وأضياف ليلٍ قد نقلنا قراهم ** إلينا فأتلفنا المنايا
وأتلفوا ) ( قريناهم المأثورة البيض قبلها ** يثجُ العروق الأزانيّ المثقّف )
فأصبح في حيث التقينا شريدهم . . . . . . . . . . . . . . . البيت قال الصاغاني في
مادة تلف وقد أورد هذا البيت : هؤلاء غزي غزوهم . يقول : فجعلناهم تلفاً للمنايا .
وجعلونا كذلك أي : وقعنا بهم فقتلناهم أي : صادفنا المنايا متلفة وصادفوها كذلك
كما تقول : أتينا فلاناً فأبخلناه وأجبناه أي : صادفناه كذلك . انتهى .
فالهمزة في أتلفنا للوجدان . وغزي في كلامه : جمع غاز مثل قاطن وقطين وحاج وحجيج .
أو هو بضم الغين وتشديد الزاي المفتوحة : جمع غاز أيضاً كسابق وسبق .
وقوله : قريناهم المأثورة الخ يقال : قريت الضيف قرى أي : أحسنت
____________________
إليه . وهذا من قبيل
الاستعارة التهكمية . قال صاحب الصحاح : المأثور : السيف الذي يقال : إنه من عمل
الجن .
قال الأصمعي : وليس من الأثر الذي هو الفرند . والبيض : السيوف أي : البيض
المأثورة .
ونجعت الماء والدم بالجيم إذا سيلته فالعروق مفعول بتقدير مضاف أي : دم العروق .
الأزاني فاعل .
قال صاحب الصحاح : ذو يزن ملك من ملوك حمير تنسب إليه الرماح اليزنية يقال : رمح
يزني وأزني ويزأني وأزأني . والمثقف : المعدل . والتثقيف : التعديل .
وقوله : قبلها أي : قبل المأثورة البيض . يقول : طاعناهم بالرماح قبل أن جالدناهم
بالسيوف .
وفي هذه القصيدة شاهد آخر يأتي شرحه إن شاء الله تعالى في باب العطف .
الشاهد الأربعون بعد الثلاثمائة الوافر ( كأنّ حمولهم لمّا استقلّت ** ثلاثة أكلبٍ
متطاردان ) على أن بعضهم أجاز وصف البعض دون بعض محتجّاً بهذا البيت .
لم أر هذا البيت إلا في كتاب المعاياة للأخفش وهو على طريقة أبيات المعاني . ونصه
: قال بعضهم : إن هذا شعر وضع على الخطأ ليعلم الذي يسأل عنه كيف فهم من يسأله .
وقال بعضهم : لا ولكنه وصف اثنين منها وأخبر عنهما بتطارد وأجاز مررت برجلين صالح
وصف أحد الرجلين وكف عن الآخر ومررت بثلاثة رجال صالحين . ولا يقول هذا كل أحد .
وقد يحتمله القياس . انتهى كلامه .
____________________
ويجوز أن يقرأ متطاردان باسم الفاعل وأن يقرأ يتطاردان بالمضارع . وعلى كل منهما
هو وصف ثلاثة لكن بإلغاء واحد منها . ويشبه هذا قول جرير : البسيط ( صارت حنيفة
أثلاثاً فثلثهم ** من العبيد وثلثٌ من مواليها ) قال ابن السيد في شرح كامل المبرد
: هذا مما عيب عليه لأنه لم يذكر الثالث .
قال الآمدي : لما قال جرير هذا البيت قيل لرجل من بني حنيفة : من أي الأثلاث أنت
قال : وأراد جرير بالثلث المتروك أشرافهم وترك الثالث عمداً لأنه في مقام الذم لا
يثبت لهم أشرافاً صراحة . والحمول بضم الحاء المهملة والميم هي الإبل التي عليها
الهوادج كذا في العباب .
واستقلت : ارتفعت . واستقل القوم : ارتحلوا ومضوا . والتطارد والمطاردة أن يحمل
بعضهم على بعض في الحرب . وأكلب : جمع كلب جمع قلة .
وفي هذا البيت مبالغة من الهجو فإن الإبل التي يعدونها عندهم كثيرةً عدتها ثلاثة
لا غير وإنها صغيرة في الجثة جداً حتى إنها مع ما عليها في مقدار جرم الكلاب وإنها
ليس عليها ما يثقلها من الأثاث والمتاع ولذلك تطاردت لخفة ما عليها وإن بعضها هزيل
جداً لا يقدر على الطراد .
هذا ما سنح لي والله أعلم .
وأنشد بعده : المتقارب
____________________
( ويأوي إلى نسوةٍ عطّلٍ
** وشعثاً مراضيع مثل السّعالي ) على أن الأعرف مجيء نعت النكرة المقطوع بالواو . )
وتقدم عن الشارح في الشاهد الثالث والخمسين بعد المائة أن شعثاً منصوب على الترحم
. قال سيبويه : كأنه حيث قال نسوة عطل صرن عنده ممن علم أنهن شعث ولكنه ذكر ذلك
تشنيعاً لهن وتشويهاً .
قال الخليل رحمه الله : كأنه قال : وأذكرهن شعثاً إلا أن هذا فعل لا يستعمل إظهاره
وإن شئت جررت على الصفة . وزعم يونس أن ذلك أكثر كقولك : مررت بزيد أخيك وصاحبك .
انتهى .
وفاعل يأوي ضمير الصياد أي : يأتي مأواه ومنزله إلى نسوةٍ بعد أن ذهب إلى الصيد
فيجدهن في أسوأ الحال . وعطل : جمع عاطل أي : لا شيء عندها . والشعث : جمع شعثاء
وهي المتغيرة من الجوع ونحوه .
وتقدم شرحه هناك مفصلاً فليرجع إليه .
وأنشد بعده الشاهد الحادي والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد س : الكامل
____________________
( لا يبعدن قومي الذين هم
** سمّ العداة وآفة الجزر ) ( النّازلين بكلّ معتركٍ ** والطّيّبون معاقد الأزر )
على أنه يجوز قطع نعت المعرفة بالواو كما يجوز قطع نعت النكرة بها . فقولها :
والطيبون نعت مقطوع بالواو من قومي للمدح والتعظيم بجعله خبر مبتدأ محذوف أي : هم
الطيبون .
وإنما حكم بالقطع مع أنه مرفوع كالمنعوت وهو قومي لقطع النازلين قبله لما ذكرنا
أيضاً بجعله منصوباً بفعل محذوف تقديره أعني أو أمدح ونحوهما . والعرب إذا رجعت عن
شيء لم تعد إليه .
وقال ابن السكيت في أبيات المعاني : قال ابن الأعرابي : النازلين تابع لقومي على
المعنى لأن معناه النصب كأنه قال : لا يبعد الله قومي .
قال سيبويه : في باب ما ينتصب على التعظيم والمدح : وإن شئت جعلته صفةً فجرى على
الأول وإن شئت قطعته فابتدأته وذلك قول الله عز وجل : لكِن الرَّاسخون في العِلْمِ
مِنهُمْ والُمؤْمنونَ يُؤْمِنُون بما أُنزل إليك وما أُنزِلَ مِنْ قبْلِكَ
والمُقِيمينَ الصَّلاةَ والمُؤْتونَ الزّكاة . فلو كان كله )
رفعاً كان جيداً . فأما المؤتون فمحمول على الابتداء .
وقال تعالى : ولكنّ البرّ مَنْ آمَنَ باللَّهِ واليَوْمِ الآخِر والمَلائِكَةِ
والكِتَابِ والنَّبِيِّينَ وآتى المالَ على حُبِّه ذَوِي القُرْبَى واليَتَامَى
والمَسَاكين إلى قوله : وحينَ البأس فلو رفع الصابرين على أول الكلام كان جيداً
ولو ابتدأ فرفعه على الابتداء كان جيداً كما ابتدأت : والمؤتون الزّكاة .
____________________
ونظير هذا من الشعر قول الخرنق : لا يبعدن قومي الذي هم البيتين ( وكلّ قومٍ
أطاعوا أمر مرشدهم ** إلاّ نميراً أطاعت أمر غاويها ) ( الظّاعنين ولمّا يظعنوا
أحداً ** والقائلون لمن دارٌ نخلّيها ) وزعم يونس أن من العرب من يقول : النازلون
بكل معترك والطيبين . ومن العرب من يقول : الظاعنون والقائلين فنصبه كنصب الطيبن
إلا أن هذا شتم لهم وذم كما أن الطيبين مدح لهم وتعظيم .
وإن شئت أجريت هذا كله على الاسم الأول وإن شئت ابتدأته جميعاً فكان مرفوعاً على
الابتداء . كل هذا جائز في هذين البيتين وما أشبههما . انتهى كلام سيبويه .
وقال الزجاج : اختلف الناس في إعراب المقيمين فقال بعضهم : هو نسق على ما المعنى :
يؤمنون بما أنزل إليك وبالمقيمين الصلاة أي : يؤمنون بالنبيين المقيمين الصلاة .
وقال بعضهم : نسق على الهاء والميم المعنى : لكن الراسخون في العلم منهم ومن
المقيمين الصلاة يؤمنون بما أنزل إليك . وهذا عند النحويين رديء لا ينسق بالظاهر
على المضمر إلا في شعر .
وذهب بعضهم إلى أن هذا وهم من الكاتب . وقال بعضهم : في كتاب الله أشياء ستصلحها
العرب بألسنتها . وهذا القول عند أهل اللغة بعيد جداً لأن الذين جمعوا القرآن
أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل اللغة وهم القدوة وهم الذين أخذوه عن
رسول الله صلى
____________________
وهذا ساقط عمن لا يعلم
بعدهم وساقط عمن يعلم لأنهم يقتدى بهم فهذا مما لا ينبغي أن ينسب إليهم .
والقرآن محكم لا لحن فيه حتى يتكلم العرب بأجود منه في الإعراب . ولسيبويه والخليل
وجميع النحويين في هذا باب يسمونه باب المدح قد بينوا صحة هذا وجودته .
قال النحويون : إذا قلت مررت بزيد الكريم وأنت تريد أن تخلص زيداً من غيره فالخفض
هو )
الكلام حتى تعرف زيداً الكريم من زيد غير الكريم . وإذا أردت المدح والثناء فإن
شئت نصبت وإن شئت رفعت وجاءني قومك المطعمين في المحل والمغيثون في الشدائد على
معنى أذكر المطعمين وهم المغيثون .
وعلى هذا الآية لأنه لما قال : بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك علم أنهم يقيمون
الصلاة ويؤتون الزكاة فقال : والمقيمين الصلاة والمؤتون الزكاة على معنى أذكر
المقيمين وهم المؤتون .
وأنشدوا بيت خرنق بنت هفان : لا يبعدن قومي الذين هم البيتين على معنى أذكر
النازلين وهم الطيبون رفعه ونصبه على المدح . وبعضهم يرفع النازلين وينصب الطيبين
وكله واحد جائز حسن . انتهى .
وقال ابن جني في المحتسب : القطع لكونه بتقدير الجملة أبلغ من الإتباع لكونه
مفرداً . قال في سورة فاطر : قرأ الضحاك : الحمد للَّهِ فَطَرَ السّموات . وهذا
على الثناء على الله سبحانه وذكر النعمة التي استحق بها الحمد . وأفرد ذلك في
الجملة التي هي جعل بما فيها من الضمير فكان أذهب في معنى الثناء لأنه جملة بعد
جملة وكلما زاد الإسهاب في الثناء أو الذم كان أبلغ .
____________________
ألا ترى إلى قول خرنق : لا يبعدن قومي الذين هم البيتين ويروى : النازلون والطيبون
والنازلين والطيبون والنازلون والطيبين . والرفع على هم والنصب على أعني فلما
اختلفت الجمل كان الكلام أفانين وضروباً فكان أبلغ منه إذا ألزم شرحاً واحداً .
فقولك : أثني على الله أعطانا فأغنى أبلغ من قولك : أثني على الله المعطينا
والمغنينا لأن معك هنا جملةً واحدة وهناك ثلاث جمل .
ويدلك على صحة هذا المعنى قراءة الحسن : جاعل الملائكة بالرفع . فهذا على قولك :
هو جاعل الملائكة . ويشهد به أيضاً قراءة خليد بن نشيط : جعل الملائكة .
قال أبو عبيدة : إذا طال الكلام خرجوا من الرفع إلى النصب ومن النصب إلى الرفع .
يريد ما نحن عليه لتختلف ضروبه وتتباين تراكيبه . هذا كلامه . )
وقد أورده سيبويه في باب الصفة المشبهة أيضاً على أن معاقد منصوب بقوله الطيبون
على التشبيه بالمفعول به وليس مفعولاً به لأن عامله غير متعدٍ ولا تمييزاً كما زعم
الكوفيون لأنه معرفة .
فإن قيل : يكون تمييزاً من باب حسن الوجه المنوي به الانفصال فيكون نكرة .
أجيب بأنه ليس منه في شيء إنما إضافته من باب إضافة المصادر أو الأمكنة إلى ما
بعدها كقيام زيد ومقام عمرو فإن إضافتهما معنوية .
وقولها : لا يبعدن معناه لا يهلكن وهو دعاء جاء بلفظ النهي . ويبعدن : فعل مستقبل
مبني مع نون التوكيد الخفيفة وموضعه جزم بلا الدعائية
____________________
وقومي فاعله يقال : بعد
يبعد من باب فرح إذا هلك . وإما الذي هو ضد القرب فهو بعد يبعد بضم العين فيهما
ومصدره البعد وقد يستعمل في الهلاك أيضاً لتداخل معنييهما كقوله تعالى : ألا
بُعداً لمدين كما بَعدتْ ثَمودُ .
قال اللخمي في شرح أبيات الجمل : واسم الفاعل منهما جميعاً بعيد استويا فيه كما
استويا في المصدر تقول بعد وبعد بعداً وبعداً .
وقال ابن السيد في شرح أبيات الجمل : فإن قيل : كيف دعت لقومها بأن لا يهلكوا وهم
قد هلكوا فالجواب أن العرب قد جرت عادتهم باستعمال هذه اللفظة في الدعاء للميت
ولهم في ذلك غرضان : أحدهما : أنهم يريدون به استعظام موت الرجل الجليل وكأنهم لا
يصدقون بموته . وقد بين هذا المعنى النابغة الذبياني بقوله : الطويل ( يقولون حصنٌ
ثمّ تأبى نفوسهم ** وكيف بحصنٍ والجبال جنوح ) ( ولم تلفظ الموتى القبور ولم تزل
** نجوم السّماء والأديم صحيح ) يريد أنهم يقولون : مات حصن ثم يستعظمون أن ينطقوا
بذلك ويقولون : كيف يجوز أن يموت والجبال لم تنسف والنجوم لم تنكدر والقبور لم
تخرج موتاها وجرم العالم صحيح لم يحدث فيه حادث .
والغرض الثاني أنهم يريدون الدعاء له بأن يبقى ذكره ولا يذهب لأن بقاء ذكر الإنسان
بعد موته بمنزلة حياته . ألا ترى إلى قول الشاعر : الطويل ( فأثنوا علينا لا أبا
لأبيكم ** بأفعالنا إنّ الثّناء هو الخلد )
____________________
)
وقال آخر يرثي يزيد بن مزيد الشيباني : الطويل وقال المتنبي وأحسن : البسيط ( ذكر
الفتى عمره الثّاني وحاجته ** ما فاته وفضول العيش أشغال ) وقد بين مالك بن الريب
المزني ما في هذا من المحال من قصيدة تقدمت : الطويل ( يقولون لا تبعد وهم
يدفنونني ** وأين مكان البعد إلاّ مكانيا ) وقال الفرار السلمي : الكامل ( ما كان
ينفعني مقال نسائهم ** وقتلت دون رجالهم لا تبعد ) وقولها : سم العداة الخ السم
معروف وسينه مثلثة . والعداة : الأعداء جمع عاد كقضاة جمع قاض حكى أبو زيد : أشمت
الله عاديك أي : عدوك . ولا يكون العداة جمع عدو لأن عدو فعول وفعول لا يجمع على
فعلة إنما يجمع عليه فاعل المعتل اللام . والأعداء جمع عدو أجروا فعولاً مجرى فعيل
كشريف وأشراف . وقد جمعوا أعداءً على أعادي . والآفة : العلة . والجزر بضم فسكون :
جمع جزور والأصل بضمتين كرسول ورسل فسكن الثاني تخفيفاً . والجزور هي الناقة التي
تنحر .
فإن كانت من الغنم فهي جزرة بفتحتين . وصفتهم أولاً بالشجاعة والنجدة وأنهم يقتلون
أعداءهم كما يقتلهم السم .
____________________
قال ابن السيد : فإن قيل : كيف قالت الذين هم وإنما يليق هذا بمن هو موجود وإنما
كان ينبغي أن تقول كانوا كما قال الآخر : الكامل ( كانوا على الأعداء نار محرّقٍ
** ولقومهم حرماً من الأحرام ) فالجواب عنه من وجهين : أحدهما أن العرب كانت تضمن
كان اتكالاً على فهم السامع كقوله تعالى : واتَّبعُوا ما تتلُوا الشّياطينُ على
مُلْكِ سليمان قال الكسائي : أراد ما كانت تتلو .
وثانيهما : أنها إذا دعت ببقاء الذكر بعد موتهم صاروا كالموجودين وكانوا موصوفين
بما كانوا يفعلونه .
وقولها النازلين الخ قال ابن خلف : يجوز في النازلين والطيبين أربعة أوجه : رفعهما
ونصبهما ورفع أحدهما مع نصب الآخر مقدماً ومؤخراً على القطع غير أنك إن رفعتهما
جاز أن يكونا نعتين لقومي فيكون الرافع لهما رافع قومي بعينه والكلام جملة واحدة
وجاز أن يكونا )
مقطوعين في التقدير بإضمار مبتدأ فيكونا جملتين والرافع والناصب المقدران لا يجوز
أن يظهر واحد منهما لفظاً إنما يكون مقدراً أبداً منوياً وامتناع إظهاره إشعار
باتصاله بما قبله وتشبيه به فلو ظهر أمكن أن يكون جملةً قائمة بنفسها مستقلة وليس
الغرض ذلك .
ويجوز أن يكون الطيبون معطوفاً على سم العداة وآفة الجزر وأن يكون على الضمير في
النازلين . ويجوز الرفع على إضمار مبتدأ كما ذكر في الكتاب . ولا يجوز أن يكون
النازلون رفعاً صفة لمجموع قومي وسم العداة لاختلاف العاملين .
فإن قيل : هل الأقيس أن يكون نعتاً لقومي أو لسم العداة فالجواب : لقومي
____________________
لأنه محض الاسم فهو أولى
بالوصف من الصفة . انتهى .
وإنما كان سم صفة لتأويله بالقاتل .
ثم قوله : وفي نصب النازلين اختلاف فالزجاجي يذهب إلى أنه نصب على إضمار أعني وعلى
قياس قول سيبويه نصب على المدح ساقط إذ لا اختلاف معنى فإن هذا ونحوه منصوب على
المدح سواء قدر أمدح أو أعني أو نحوهما .
والباء في بكل ظرفية متعلقة بالنازلين والمعترك وكذلك المعرك كجعفر والمعركة :
موضع القتال .
وهذا مشتق من عركت الرحا الحب إذا طحنته .
أرادوا أن موضع القتال يطحن كما تطحن الرحا ما يحصل فيها ولذلك سموه رحاً .
قال عنترة : دارت على القوم رحاً طحون وقد بين ذلك زهير بن أبي سلمى بقوله :
الطويل وقولها : النازلين بكل معترك يعني أنهم ينزلون عن الخيل عند ضيق المعترك
فيقاتلون على أقدامهم وفي ذلك الوقت يتداعون : نزال كما قال ربيعة بن مقرومٍ الضبي
: الكامل ( ولقد شهدت الخيل يوم طرادها ** بسليم أوظفة القوائم هيكل )
____________________
( فدعوا نزال فكنت أوّل
نازلٍ ** وعلام أركبه إذا لم أنزل ) وقال ابن السيد : النزول في الحرب على ضربين :
أحدهما ما ذكر والثاني في أول الحرب وهو أن ينزلوا عن إبلهم ويركبوا خيلهم .
قال اللخمي : وإنما ينزلون عن الإبل إلى الخيل في الغارات يقودون خيولهم ليريحوها
ويركبون )
إبلهم فإذا قربوا من عدوهم وأغاروا نزلوا عن إبلهم إلى خيلهم مخافة أن يتبعوا
فيدركوا .
وزعم ابن سيده في نزولهم إنما هو من الإبل إلى الخيل . وليس كذلك .
وفي قولها : النازلين الخ إشارة إلى أن حالهم في القتال على الخيل كحالهم في
القتال على الأقدام وأنهم لا يكعون عن النزول إذ أحوال الناس في ذلك مختلفة ولا
ينزل في ذلك الموضع إلا أهل البأس والشدة ولذلك قال مهلهل : الخفيف ( لم يطيقوا أن
ينزلوا فنزلنا ** وأخو الحرب من أطاق النّزولا ) وقولها : والطيبون أرادت أنهم
أعفاء في فروجهم لأن العرب تكني بالشيء عما يحويه أو يشتمل تقول : لا يحلون أزرهم
على ما ليس لهم . قال اللخمي : وقال ابن خلف : إذا وصفوا الرجل بطهارة الإزار
وطيبه فهو إشارة وكناية عن عفة الفرج يراد أنه لا يعقد إزاره على فرج زانية .
وكذلك طهارة الذيل . وإذا وصف بطهارة الكم أو الردن وهم الكم بعينه أرادوا أنه لا
يسرق ولا يخون .
____________________
وإذا وصفوه بطهارة الجيب أرادوا أن قلبه لا ينطوي على غش ولا مكر . وقد يكنون عن
عفة الفرج بطيب الحجزة كما قال النابغة : الطويل رقاق النّعال طيّبٌ حجزاتهم
والمعاقد إما جمع معقد بكسر القاف وهو موضع العقد وإما جمع معقد بفتحها وهو مصدر
ميمي .
قال اللخمي : المعاقد الحجز . والحجزة بضم المهملة وسكون الجيم بعدها زاي معجمة
وهي حيث يثنى طرف الإزار في لوث الإزار أي : طيبه .
وحكى ابن الأعرابي حزة بضم المهملة وتشديد الزاء كما ينطق بها العامة . وقيل :
المعاقد للأزر والحجز للسراويلات . والحجز للعجم وملوك العرب كما قال النابغة
والمعاقد للعرب لأنها لا تكاد تلبس إلا الأزر وهو جمع إزار وسكن الزاء أيضاً
تخفيفاً والأصل ضمها والإزار ولبس السراويل عند العرب نادر . يروى أن أعرابياً مر
بسراويل ملقاةٍ فظنها قميصاً فأدخل يديه في ساقيها وأدخل رأسه فلم يجد منفذاً فقال
: ما أظن هذا إلا من قمص الشياطين ثم رماها .
وهذان البيتان من قصيدة لخرنق بنت هفان رثت بها زوجها بشر بن عمرو ابن مرثد الضبعي
)
وابنها علقمة بن بشر وأخوه حسان وشرحبيل ومن قتل معه من قومه وكان بشر غزا بني أسد
بن خزيمة هو وعمرو بن عبد الله بن الأشل وكانا متساندين : بشر على بني مالك وبني
عتاب بن ضبيعة وعمرو على بني مالك وبني رهم .
____________________
ومعنى التساند والمساندة أن يخرج كل رجل على حدته وانفراده ليس لهم أمير يجمعهم .
فأغار على بني أسد فتقدمتهم بنو أسد إلى عقبة يقال لها : قلاب فقتل بشر بن عمرو
وبنوه وفر عمرو بن عبد الله بن الأشل فسمي ذلك اليوم يوم قلاب . كذا قال ابن السيد
واللخمي .
وبعد البيتين : ( قومٌ إذا ركبوا سمعت لهم ** لغطاً من التّأييه والزّجر ) ( في
غير ما فحشٍ يجاء به ** بمنائح المهرات والمهر ) ( إن يشربوا يهبوا وإن يذروا **
يتواعظوا عن منطق الهجر ) ( هذا ثنائي ما بقيت عليهم ** فإذا هلكت أجنّني قبري )
واستدل بعضهم بهذه الأبيات على أن ما تقدم دعاء لمن بقي من قومها أي : لا أبعد
الله من قومي كبعد من مضى منهم .
ويرد عليه قولها في القصيدة : ( لاقوا غداة قلاب حتفهم ** سوق العتير يساق للعتر )
واللغط بفتح المعجمة وسكونها : الأصوات المختلطة . والتأييه : الدعاء . يقال :
أيهت بالرجل إذا دعوته وأيهت بالفرس . وفي الحديث : أن ملك الموت سئل : كيف تقبض
الأرواح فقال : أؤيه بها كما يؤيه بالخيل فتجيء إلي .
وقولها : في غير ما فحش الخ ما زائدة . قال ابن السكيت : تقول :
____________________
يزجرونها بعفاف من ألسنتهم
لا يذكرون الفحش في الزجر .
وقولها : إن يشربوا يهبوا ليس بمدح تام لأنها جعلت العلة في كرمهم شرب الخمر .
وقد عيب على طرفة قوله : الرمل ( فإذا ما شربوها وانتشوا ** وهبوا كلّ أمونٍ وطمر
) وعيب على حسان قوله : الوافر وقد قال البحتري في هذا فأحسن : الطويل ) ( تكرّمت
من قبل الكؤوس عليهم ** فما اسطعن أن يحدثن فيك تكرّما ) وأول من نطق بهذا امرؤ
القيس في قوله : الطويل ( سماحة ذا وبرّ ذا ووفاء ذا ** ونائل ذا إذا صحا وإذا سكر
) فأخبر أنه جواد في الحالين جميعاً : في حال الصحو وفي حال السكر . وهذا هو المدح
التام . ثم اتبعه زهير فقال : الطويل ( أخو ثقةٍ لا تتلف الخمر ماله ** ولكنّه قد
يهلك المال نائله ) والهجر بالضم : الكلام القبيح .
وقولها : والخالطين نحيتهم الخ النحيت بفتح النون وكسر المهملة : الخامل الساقط
الذكر .
والنضار بضم النون بعدها ضاد معجمة : الخالص النسب العزيز الشهير .
يقول : إنهم خلطوا خاملهم برفيعهم وفقيرهم بغنيهم فاكتسبوا منهم الغنى والخصال
الحميدة فليس فيهم خامل ولا فقير .
____________________
ومثله قول زهير : الطويل ( على مكثريهم حق من يعتريهم ** وعند المقلّين السّماحة
والبذل ) والعروض في هذا البيت على متفاعلن تامة وهي في جميع الأبيات على فعلن
حذاء ولا يجوز ذلك . والشعر من الضرب الرابع من الكامل .
وقولها : فإذا هلكت الخ : أجنني : سترني . قال ابن السيد : كلام لا فائدة فيه على
ظاهره والمعنى فإذا هلكت قام عذري في تركي الثناء عليهم لهلاكي فهو مما وضع السبب
فيه موضع المسبب .
وقولها : لاقوا غداة الخ الحتف : الهلاك . وسوق مفعول مطلق أي : سيقوا إلى الحتف
سوقاً كسوق العتير وهو بفتح العين المهملة وكسر المثناة الفوقية : ما يذبح للأصنام
في رجب في الجاهلية تعظيماً لأصنامهم . والعتر بفتح العين المهملة : ذبح العتيرة
فهو مصدر .
وقلاب بضم القاف وتخفيف اللام وآخره باء موحدة قال أبو عبيد البكري في معجم ما
استعجم : هو جبل من محلة بني أسد على ليلة . وفي عقبة قلاب قتلت بنو أسد بشر بن
عمرو زوج خرنق وابنها منه علقمة بن بشر فقالت : الوافر
____________________
( منت لهم بوائلة المنايا
** بحرف قلاب للحين المسوق ) )
ثم إن بني ضبيعة أصابوا بني أسد بهرشى وأدركوا بثأرهم فقال وائل بن شرحبيل بن عمرو
بن مرثد : الطويل انتهى .
ومنت أصله منيت أي : قدرت المنايا لهم فحذفت الباء .
وهو آخر بيت من أبيات وهي : ( لا وأبيك آسى بعد بشرٍ ** على حيّ يموت ولا صديق ) (
وبعد الخير علقمة بن بشرٍ ** إذا ما الموت كان لدى الحلوق ) ( ومال بنو ضبيعة بعد
بشرٍ ** كما مال الجذوع من الحريق ) ( فكم بقلاب من أوصال خرقٍ ** أخي ثقةٍ
وجمجمةٍ فليق ) وآسى : أحزن . ولا محذوفة أي : وأبيك لا أحزن بعد بشر . والحلوق
جمع حلق وهو مجرى الطعام . ومال بنو ضبيعة أي : تساقطوا بعد بشر . والخرق بكسر
المعجمة من الفتيان : الظريف في سماحة ونجدة .
وخرنق بكسر الخاء المعجمة وسكون الراء المهملة وكسر النون بعدها قاف هي امرأة
شاعرة جاهلية .
قال أبو عبيدة : هي خرنق بنت بدر بن هفان من بني سعد بن ضبيعة رهط الأعشى . كذا في
العباب للصاغاني .
وفي كتاب التصحيف للعسكري وشروح أبيات الكتاب والجمل : خرنق بنت هفان القيسية من
بني قيس بن ثعلبة بن عكابة بن صعب بن علي بن بكر بن
____________________
وائل بحذف بدر . وقالوا :
هي أخت طرفة بن العبد لأمه .
وقال يعقوب ابن السكيت في أبيات المعاني : هي عمة طرفة بن العبد . والله أعلم .
وقيس هو رهط الأعشى أيضاً وإليه ينسب فيقال أعشى قيس .
وخرنق من الأسماء المنقولة لأن الخرنق في اللغة ولد الأرنب . والخرنق أيضاً :
مصنعة الماء وهو نحو الصهريج والنون أصلية .
وأما هفان بفتح الهاء وكسرها وتشديد الفاء فهو اسم مرتجل غير منقول مشتق من الهفيف
وهو سرعة السير . )
وأنشد بعده الشاهد الثاني والأربعون بعد الثلاثمائة وهو من شواهد سيبويه : الطويل
( وما الدّهر إلاّ تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) على أن الموصوف
محذوف أي : منهما تارة أموت . هكذا قدر سيبويه وأورده في باب حذف قال : وسمعنا بعض
العرب الموثوق بهم يقول : ما منهما مات حتى رأيته في حال كذا وإنما يريد : ما
منهما واحد مات . انتهى .
وأورده الفراء أيضاً في تفسيره عند قوله تعالى : ومن آياتهِ يُرِيكم قال :
____________________
من أظهر أن فهي في موضع
اسم مرفوع كما قال : ومن آياته منامكم بالليل فإذا حذفت أن جعلت مؤدية عن اسم
متروك يكون الفعل صلةً له كقول الشاعر : وما الدهر إلاّ تارتان . . . . . . . . .
. . . . . . . . . . . . . . . . البيت كأنه أراد : فمنهما ساعة أموتها وساعة
أعيشها وكذلك : ومن آياته آية للبرق وآية لكذا . وإن شئت يريكم من آياته البرق فلا
تضمر أن ولا غيره . انتهى .
وكذلك أنشده الزجاج في تفسيره عند قوله تعالى : مِنَ الذين هَادُوا يُحرِّفونَ
الكلمَ أي : قوم يحرفون كهذا البيت .
والمعنى منهما تارة أموت فيها فحذف تارة وأقام الجملة التي هي صفتها نائبة عنها
فصار : أموت فيها فحذف حرف الجر فصار التقدير : أموتها ثم حذف الضمير فصار أموت .
ومثله في الحذف من هذا الضرب بل هو أطول منه : الرجز ( تروّحي يا خيرة الفسيل **
تروّحي أجدر أن تقيلي ) أصله : ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه فحذف الفعل الذي هو
ائتي لدلالة تروحي عليه فصار مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه ثم حذف الموصوف الذي هو
مكاناً فصار تقديره أجدر بأن تقيلي فيه ثم حذف الباء أيضاً تخفيفاً فصار أجدر أن
تقيلي فيه .
ففيه إذن خمسة أعمال وهي حذف الفعل الناصب ثم حذف الموصوف ثم
____________________
حذف الباء ثم حذف في ثم
حذف الهاء . وهنا عمد سادس وهو أن أصله ائتي مكاناً أجدر بأن تقيلي فيه من غيره
كما تقول : مررت برجل أحسن من فلان وأنت أكرم علي من غيرك . انتهى . )
وهذا البيت من قصيدة لتميم بن أبي بن مقبل وهو شاعر إسلامي تقدمت ترجمته في الشاهد
الثاني والثلاثين من أوائل الكتاب .
وقبله يصف القحط : ( ألم تعلمي أن لا يذمّ فجاءتي ** دخيلي إذا اغبرّ العضاه
المجلّح ) ( وأن لا ألوم النّفس فيما أصابني ** وأن لا أكاد بالذي كنت أفرح ) (
وما العيش إلاّ تارتان فمنهما ** أموت وأخرى أبتغي العيش أكدح ) ( وكلتاهما قد خطّ
لي في صحيفةٍ ** فلا العيش أهوى لي ولا الموت أروح ) أن في المواضع الثلاثة مخففة
من الثقيلة والفعل بعدها مرفوع وفجاءتي مفعول مقدم .
والفجاءة بضم الفاء والمد : مصدر فجأه الأمر كضربه وفجئه كعلمه إذا أتاه بغتة .
ويقال أيضاً فاجأه المر مفاجأة وفجاءً . ودخيلي أي : ضيفي فاعل مؤخر والدخيل :
الضيف إذا حل بالقوم فأدخلوه .
يقول : إذا جاءني بغتةً ضيف في أيام القحط فلا بد من إطعامه وإكرامه ولا أدعه
يذمني .
واغبر : صار بلون الغبرة . والعضاه بكسر العين المهملة بعدها ضاد معجمة وآخره هاء
: شجر عظيم شائك تأكل الماشية ورقه . والمجلح بالجيم قال صاحب الصحاح : المأكول
ومنه قول ابن مقبل : إذا اغبرّ العضاه المجلّح وهو الذي قد أكل حتى لم يترك منه
شيء .
____________________
والكدح : الكسب والسعي وجملة أكدح حال مؤكدة لعاملها وهو أبتغي وتارة المحذوفة
مبتدأ وجملة أموت صفتها والعائد إلى الموصوف محذوف أي : فيها . ومنهما خبر مقدم
وأخرى صفة مبتدأ محذوف أي : تارة آخرى . وليس في هذا شاهد . وجملة أبتغي العيش خبر
المبتدأ والعائد محذوف أيضاً أي : فيها . يقول : لا راحة في الدنيا لأن وقتها
قسمان : إما موت وهو مكروه عند النفس وإما حياة وكلها سعي في المعيشة .
الشاهد الثالث والأربعون بعد الثلاثمائة الطويل ( وكلّمتها ثنتين كالماء منهما **
وأخرى على لوح أحرّ من الجمر ) لما تقدم قبله أعني أن الموصوف محذوف إذا كان بعضاً
من مجرور بمن سواء تقدم المجرور كما مضى أو تأخر كما هنا ولهذا كرر الشاهد فإن التقدير
: كلمتها كلمتين منهما كلمة كالماء وكلمة أخرى أحر من الجمر . وتقدم المجرور أكثري
.
وهذا ثالث أبيات ثلاثة أوردها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين وهي : ( لقيت البنة
السّهميّ زينب عن عفر ** ونحن حرامٌ مسي عاشرة العشر ) ( وإنّي وإيّاها لحتمٌ
مبيتنا ** جميعاً وسيرانا مغذٌّ وذو فتر ) ( فكلمتها ثنتين كالثّلج منهما ** على
اللّوح والأخرى أحرّ من الجمر ) السهمي : نسبة إلى سهم بفتح السن المهملة : قبيلة
من قريش وقبيلة في باهلة أيضاً . وزينب بدل من ابنة وعفر بضم العين المهملة وسكون
الفاء وبضم الفاء أيضاً .
____________________
قال الجاحظ : يقال ما يلقانا إلا عن عفر أي : بعد مدة . وكذلك قال القالي في
أماليه : قوله عن عفر : عن بعد أي : بعد حين يقال : ما ألقاه إلا عن عفر أي : بعد
حين .
وقال الزمخشري في مستقصى الأمثال : لقيته عن عفر أي : بعد شهر ونحوه والأصل قلة
الزيارة من تعفير الظبية ولدها وهو أن ترضعه ثم تدعه ثم ترضعه ثم تدعه وذلك إذا
أرادت أن تفطمه .
وعكس المأخذ صاحب الصحاح فقال : والتعفير في الفطام أن تمسح المرأة ثديها بشيء من
التراب تنفيراً للصبي .
ويقال هو من قولهم : لقيت فلاناً من عفر بالضم أي : بعد شهر ونحوه لأنها ترضعه بعد
اليوم واليومين تبلو بذلك صبره .
وقوله : ونحن حرام قال القالي : أي : محرومون . قال صاحب الصحاح : ورجل حرام
بالفتح أي : محرم والجمع حرم مثل قذال وقذل . انتهى .
وإنما لم يجمعه هنا لأنه في الأصل مصدر يستوي فيه الجمع والتثنية والمفرد . وجملة
ونحن حرام حال من الفاعل والمفعول . وقوله : مسي عاشرة الخ مسي بضم الميم وسكون
السين وكسر الميم )
لغة : اسم للمساء كالصبح اسم للصباح ولهذا قال الجاحظ أي : وقت المساء . وهو ظرف
لقوله لقيت . وعاشرة العشر هو اليوم العاشر من ذي الحجة يريد أنه لقيها بعرفات عشية
عرفة وهي مسي عاشرة العشر .
وقوله : لحتم مبيتنا الحتم بفتح الحاء المهملة : اللازم . يريد إن مبيت الناس
بالمدلفة حتم لا يتجاوزها أحد . وجميعاً حال من المضاف إليه وهو ضمير المتكلم مع
الغير .
____________________
وقوله وسيرانا الخ سيرا : مثنى سير حذفت نونه للإضافة ونا ضمير المتكلم مع الغير .
وروي : مسرانا بالإفراد .
قال صاحب الصحاح : وسريت سرى ومسرى وأسريت بمعنى إذا سرت ليلاً . وأما السير فلا
يختص بالليل . قال صاحب الصحاح : سار يسير سيراً ومسيراً يكون بالليل وبالنهار
ويستعمل لازماً ومتعدياً . ومغذ بالغين والذال المعجمتين اسم فاعل من أغذ في السير
إغذاذاً . أي : أسرع فيه وجد . والفتر بفتح الفاء بمعنى الفترة والفتور أي :
الانكسار والضعف .
قال القالي : أي سير أنا مسرع وسيرها ذو فتور وسكون لأنها يرفق بها . ولم يرو
القالي في أماليه إلا هذين البيتين عن أبي بكر بن دريد .
وقوله : فكلمتها ثنتين الخ الصواب رواية الجاحظ وهي كالثلج بدل كالماء .
والمصراع الثاني كذا : على اللوح والأخرى أحرّ من الجمر وكذا رواه الزمخشري في
المستقصى : واللوح بفتح اللام وآخره حاء مهملة : العطش . قال وعلى بمعنى مع . يريد
: إني كلمتها كلمتين كانت إحداهما كالثلج مع العطش زال بها ما أجد من الحرارة
وكانت الكلمة الأخرى أحر من الجمر فالتهب قلبي من حرارتها .
قال الحريري في درة الغواص : أراد بالكلمة الأولى تحية القدوم وبالأخرى سلام
الوداع .
وجعل الزمخشري : أحر من الجمر من الأمثال وأنشد له هذا البيت مع
____________________
البيت الأول عن الجاحظ لكن
روى المصراع الأول هكذا : فقالت لنا ثنتين كالثلج منهما وهذا أنسب بما قاله
الحريري .
وقوله : ثنتين منصوب على المفعول المطلق أي : تكليمتين والأخرى مبتدأ بتقدير موصوف
أي : )
والكلمة الأخرى وأحر من الجمر خبر المبتدأ .
وهذه الأبيات نسبها الجاحظ والقالي والحريري إلى أبي العميثل عبد الله بن خالد .
والعميثل بفتح العين المهملة والميم وسكون المثناة التحتية وفتح الثاء المثلثة .
والعميثل في اللغة يأتي لمعان منها الأسد الضخم والسيد الكريم .
وأنشد بعده الشاهد الرابع والأربعون بعد الثلاثمائة ( لو قلت ما في قومها لم تيثم
** يفضلها في حسب وميسم ) على أن جملة يفضلها صفة لموصوف محذوف هو بعض المجرور بفي
. قال سيبويه : يريد ما في قومها أحد يفضلها كما قالوا لو أن زيداً ها هنا وإنما
يريدون لكان كذا . انتهى .
وأنشده الفراء في تفسيره عند قوله تعالى : من الذين هادوا يحرفون الكلم على أحد
وجهين وذلك من كلام العرب أن يضمروا من في مبتدأ الكلام
____________________
بمن فيقولون منا يقول ذاك
ومنا لا يقوله وذلك أن من بعض لما هي منه فلذلك أدت عن المعنى المتروك . قال الله
تعالى : وما مِنَّا إلاَّ له مَقَامٌ مَعْلوم وقال : وإنْ مِنْكُم إلاَّ وَارِدُها
. ولا يجوز إضمار من في شيء من الصفات إلا على هذا الذي نبأنك به .
وقد قالها الشاعر في فِي ولست أشتهيها قال : ( لو قلت ما في قومها لم تأثم **
يفضلها في حسبٍ وميسم ) ويروى أيضاً : تيثم لغة . وإنما جاز ذلك في فِي لأنك تجد
معنى من أنه بعض ما أضيفت إليه .
ألا ترى أنك تقول فينا الصالحون وفينا دون ذلك فكأنك : قلت منا . ولا يجوز أن تقول
في الدار يقول ذاك وأنت تريد في الدار من يقول إنما يجوز إذا أضيفت في إلى جنس
المتروك .
انتهى كلامه .
وأراد بمن المضمرة النكرة الموصوفة لا الموصولة فإنها لا تحذف وتبقى صلتها أو أنها
هي المرادة عنده فإنه كوفي والكوفيون يجوزون حذف الموصول .
وقد بين الضابط في حذف الموصوف مع المجرور بمن وفي إلا أنه جعل الثاني دون الأول
ووافقه السيرافي فقال : أكثر ما يأتي الحذف مع من لأن من تدل على التبعيض . وقد
جاء مثله مع في وليس مثل من الكثرة . انتهى . )
وقوله : لم تيثم جواب لو الشرطية أي : لم تكذب فتأثم وأصله تأثم فكسر التاء على
لغة من يكسر حروف المضارعة إلا الياء للكراهة وهم بنو أسد .
قال ابن يعيش : وذلك إذا كان الفعل على فعل نحو يعلم ويسلم . انتهى .
وقبل كسر التاء قلبت الهمزة ألفاً وبعد كسر التاء قلبت الألف ياء لانكسار ما قبلها
.
وقوله : ما في قولها خبر لمبتدأ محذوف وهو الموصوف بقوله يفضلها . وقدره ابن يعيش
بإنسان يفضلها والجملة المنفية مقول القول .
____________________
وقوله : في حسب متعلق بيفضلها . والحسب : ما يعده الإنسان من مفاخره وأراد به
الشرف النسبي وهو شرف الآباء وأراد بالميسم الشرف الذاتي فإن الميسم الحسن والجمال
من الوسم وهو الحسن .
وهذا البيت من رجز لحكيم بن معية الربعي . من بني ربيعة بن مالك بن زيد مناة بن
تميم .
وهو راجز إسلامي كان في زمن العجاج وحميد الأرقط . نسبه إليه سيبويه في موضع آخر
من كتابه .
وبعده : ( عفيفة الجيب حرام المحرم ** من آل قيس في النّصاب الأكرم ) والنصاب وكذا
المنصب : الأصل . وكان يفضل الفرزدق على جرير فهجاه جرير لذلك .
ونسب ابن يعيش البيت الشاهد للأسود الحماني . والله أعلم .
ومعية بضم الميم وفتح العين وتشديد التحتية : مصغر معاوية . والحماني بكسر الحاء
المهملة وتشديد الميم : نسبة إلى حمان .
وأنشد بعده : الوافر
____________________
( أنا ابن جلا وطلاّع
الثّنايا ** متى أضع العمامة تعرفوني ) على أن الاسم الموصوف بالجملة لا يحذف بدون
من أو في إلا في الشعر كما هنا فإن أصله أنا ابن رجل جلا . فجلا فعل ماض بمعنى كشف
الأمور أو بمعنى انكشف أمره . وفيه ضمير يعود على الموصوف المحذوف لضرورة الشعر .
وهذا على أحد التخريجين المشهورين في هذا البيت . والتخريج الثاني لسيبويه وهو أن
جلا مع ضميره المستتر جملة محكية جعلت علماً ولا شاهد فيه على هذا . ولنا عليه
كلام أسلفناه في )
الشاهد الثامن والثلاثين من أوائل الكتاب .
وأنشد بعده الشاهد الخامس والأربعون بعد الثلاثمائة الرجز ( مالك عندي غير سهم
وحجر ** وغير كبداء شديدة الوتر ) جادت بكفي كان من أرمى البشر على أن جملة كان مع
ضميره المستتر صفة لموصوف محذوف ضرورة أي : بكفي رجل أو إنسان كان . والأولى بكفي
رام للقرينة .
قال ثعلب في أماليه : لم أسمع من في موضع الاسم إلا في ثلاثة مواضع قوله : جادت
بكفي كان من أرمى البشر
____________________
وقوله : ألا ربّ منهم من
يقوم بمالكا ألا ربّ منهم دارعٌ وهو أشوس انتهى .
وإنما قال لم أسمع لأن كان فعل ورب حرف ولا يليهما إلا الأسماء . وبهذا يستدل على
حرفية من التبعيضية لأن رب لا تجر إلا النكرة .
وأقول : لولا وقوع هذا الموصوف مضافاً إليه هنا لجاز أن يكون من قبيل : وكلمتها
ثنتين كالماء منهما وقال ابن جني في الخصائص : روي أيضاً بفتح ميم من أي : بكفي من
هو أرمى البشر وكان على هذا زائدة . انتهى .
أقول : جعل من على هذه الرواية نكرة موصوفة أولى من جعلها موصولة .
وقوله : مالك عندي الخ لك : ظرف مستقر وغير : فاعله وعندي : متعلق بلك . وكبداء أي
: قوس كبداء وهي التي يملأ الكف مقبضها . وجادت أي : أحسنت .
وهذه رواية ثعلب وابن جني وغيرهما ووقع في رواية ابن هشام في المغني : ترمي بدل
جدل جادت ويروى في بعض نسخ هذا الشرح كانت وهذا لا يناسب المعنى . )
وقوله : بكفي متعلق بمحذوف على أنه حال وهو مثنى كف وحذفت النون للإضافة .
____________________
وأنشد بعده الشاهد السادس والأربعون بعد الثلاثمائة من شواهد سيبويه : الوافر (
كأنّك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف رجليه بشنّ ) على أن حذف الموصوف هنا بدون أن
يكون بعضاً من مجرور بمن أو في لضروة الشعر والتقدير : كأنك جمل بني أقيش . وهذا
مثال لقيام الظروف مقام الموصوف لضرورة الشعر والبيتان قبله لقيام الجملة مقامه
كذلك .
وقد أورده ابن الناظم والمرادي في شرح الألفية كما أورده الشارح المحقق . وفيه أن
البيت من القسم الأول وهو أن الموصوف بالجملة أو الظرف إذا كان بعضاً من مجرور بمن
أو في يجوز حذفه كثيراً .
وبيانه أن الموصوف يقدر هنا قبل يقعقع والجملة صفة له أي : كأنك جمل يقعقع وهو بعض
من المجرور بمن ويكون قوله من جمال بني أقيش حالاً من ضمير يقعقع الراجع إلى جمل
المحذوف .
وقد أورده الزمخشري في المفصل وصاحب اللباب فيما يجوز حذف الموصوف منه إلا أنهما
جعلاه خبراً لكان كالشارح المحقق . وهما في ذلك تابعان لسيبويه فإنه قال في باب
حذف المستثنى استخفافاً قال : وذلك قولك ليس غير وليس إلا كأنه قال : ليس إلا ذاك
وليس غير ذاك ولكنه حذفوا ذلك تخفيفاً واكتفاءً بعلم المخاطب ما يعنى .
وسمعنا بعض العرب الموثوق بهم يقول : ما منهما مات حتى رأيته فيي حال كذا وإنما
يريد ما منهما واحد مات .
____________________
ومثل ذلك قوله تعالى جده : وإنْ من أهلِ الكِتاب إلاَّ لِيُؤْمِنَنَّ بهِ قَبْلَ
موته ومثل ذلك من الشعر : كأنّك من جمال بني أقيش أي : كأنك جمل من جمال بني أقيش
.
ومثل ذلك قوله أيضاً : لو قلت ما في قومها لم تيثم )
البيت . انتهى .
وليس في كلامهم ما يشعر كونه من قبل الضرورة بل جعله الزمخشري وصاحب اللباب من قبل
ما إذا ظهر أمر الموصوف ظهوراً يستغنى معه عن ذكره فحينئذ يجوز تركه وإقامة الصفة
مقامه . ولم يذكر ما ذكره الشارح المحقق من جواز حذفه كثيراً إذا كان بعضاً من
مجرور بمن أو وقوله : بني أقيش بضم الهمزة وفتح القاف وآخره شين معجمة . قال أبو
عمرو : هو حي من عكل وجمالهم ضعاف تنفر من كل شيء تراه .
وقال ابن الكلبي : بنو أقيش : حي من الجن وإنما أراد إنك نفور وليس لك معقود رأي .
وقال الأصمعي : جمال بني أقيش حوشية ليست ينتفع بها فيضرب بنفارها المثل .
ورأيت في جمهرة الأنساب : أقيش بن منقر بن عبيد بن مقاعس بن عمرو ابن كعب . وأنشد
هذا البيت . وقيل : بنو أقيش فخذ من أشجع وقيل : حي من اليمن .
ويقعقع بالبناء للمفعول . والقعقعة : تحريك الشيء اليابس الصلب . والشن بالفتح :
القربة البالية وجمعها شنان وتقعقعها يكون بوضع الحصا فيها
____________________
وتحريكها فيسمع منها صوت
وهذا مما يزيدها نفوراً . وقع مثله في شعر صخر بن حبناء يخاطب أخاه المغيرة :
الوافر ( تجنّيت الذّنوب عليّ جهلاً ** لقد أولعت ويحك بالتّجنّي ) ( كأنّك إذ
جمعت المال عيرٌ ** يقعقع خلف رجليه بشنّ ) ومنه المثل : فلان ما يقعقع له بالشنان
يضرب لمن لا يتضع لما ينزل به من حوادث الدهر ولا يروعه ما لا حقيقة له .
وقال الزمخشري في المستقصى : يضرب للرجل الشرس الصعب أي : لا يهدد ولا ينزع .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني . قال ابن السيرافي في شرح أبيات سيبويه :
سبب هذا الشعر أن بني عبس قتلوا رجلاً من بني أسد فقتلت بنو أسد رجلين من بني عبس
فأراد عيينة بن حصن الفرزاري أن يعين بني عبس عليهم وينقض الحلف الذي بين بني
ذبيان وبين بني أسد فقال له النابغة : أتخذل بني أسد وهم حلفاؤنا وناصرونا وتعين
بني عبس عليهم . انتهى .
وهذه أبيات من القصيدة بعد ثمانية أبيات من أولها : الوافر ( أتخذل ناصري
وتعزّعبساً ** أيربوع بن غيظِ للمعنّ ) ( كأنّك من جمال بني أقيش ** يقعقع خلف
رجليه بشنّ ) ) ( تكون نعامةً طوراً وطوراً ** هويّ الرّيح تنسج كلّ فنّ )
____________________
( إذا حاولت في أسد فجوراً
** فإنّي لست منك ولست منّي ) ( هم درعي التي استلأمت فيها ** إلى يوم النّسار وهم
مجنّي ) ( وهم وردوا الجفار على تميمٍ ** وهم أصحاب يوم عكاظ إنّي ) ( شهدت لهم
مواطن صادقتٍ ** أتيتهم بنصح الصّدر منّي ) ( بكلّ مجرّبٍ كاللّيث يسمو ** على
أوصال ذيّال رفنّ ) ( ولو أنّي أطعتك في أمور ** قرعت ندامةً من ذاك سنّي ) وقوله
: أتخذل ناصري وتعزّ عبساً هذا خطاب لعيينة بن حصن وأراد بناصره بني أسد .
وقوله : أيربوع بن غيظ للمعنّ هذا خطاب آخر ليربوع بن غيظ بن مرة بن عوف بن سعد بن
ذبيان وهو من قوم النابغة والمعن بكسر الميم وفتح العين المهملة : المعترض في
الأمور وعنى به عيينة بن حصن يقال : عن يعن وإنك لتعن في هذا الأمر أي : تعرض فيه
. واللام في المعن متعلقة بمحذوف أي : تعجب يا يربوع من هذا المتعرض .
وقوله : كأنك من جمال الخ هذا خطاب لعيينة أيضاً . يقول : أنت سريع الغضب والنفور
تنفر مما لا ينبغي لعاقل أن ينفر منه . وقيل معناه إنك جبان في
____________________
الحرب لا تقدر على الطعان
والضراب بل تنفر عنها كما ينفر الجمل عن صوت الشن وقعقعته .
وقوله : تكون نعامة قال أبو عمرو : يقول : تتخيل مرة كذا ومرة كذا .
وقوله : هوي الريح يريد طوراً تهوي هوي الريح . والفن : اللون والجمع الفنون .
وقال الأصمعي : وقوله : إذا حاولت في أسد فجوراً استشهد به الزمخشري عند قوله
تعالى : وربائبك اللاَّتي في جُحورِكُمْ مِنْ نِسَائكم .
وقوله : درعي التي الخ اللأمة بالهمزة : الدرع واستلأمتها : تحصنت فيها . والمجن :
الترس .
والنسار بكسر النون : اسم مء لبني عامر من بني تميم وفهي وقعة كانت لأسد وغطفان
على )
تميم .
وقوله : وردوا الجفار البيتين في البيت التضمين وهو عيب وهو أن يتوقف على البيت
الثاني فأن خبر إن هو أول البيت الثاني الجفار بكسر الجيم : اسم ماء لبني تميم
بنجد .
وقوله : بكل مجرب كالليث الخ أي : بكل بشجاع مجرب في الحروب . ورفن بكسر الراء
المهملة بعدها فاء قال أبو عمرو : هو السريع . والذيال : الطويل الذنب . والأوصال
: المفاصل أي : على أوصال فرس يذيل في مشيته سابغ الذنب .
والنابغة الذبياني شاعر جاهلي قد تقدمت ترجمته في الشاهد الرابع بعد المائة .
____________________
( والمؤمن العائذات الطّير
يمسحها ** ركبان مكّة بين الغيل والسّند ) على أن العائذات كان في الأصل نعتاً
لطير فلما تقدم وكان صالحاً لمباشرة العامل أعرب بمقتضى العامل وصار المنعوت بدلاً
منه فالطير بدل من العائذات وهو منصوب إن كان العائذات منصوباً بالكسرة على أنه
مفعول به للمؤمن ومجرور إن كان العائذات مجروراً بإضافة المؤمن إليه .
والأصل على الأول : والمؤمن الطير العائذات بنصب الأول بالفتحة والثاني بالكسرة .
وعلى الثاني : والمؤمن الطير العائذات بجرهما بالكسر فلما قدم النعت أعرب بحسب
العامل وصر المنعوت بدلاً منه .
هذا محصل كلام الشارح المحقق وهو في هذا تابع لأبي علي في الإيضاح الشعري وهذه
عبارته : من كانت الكسرة عنده جرة على هذا الحسن الوجه جر الطير لأن العائذات
مجرورة .
ومن كانت الكسرة عنده في موضع نصب على قولك : الضارب الرجل نصب الطير والطير في
هذا الموضع بدل أو عطف وإنما كان حده .
والمؤمن الطير العائذات أو الطير العائذات فقدم العائذات وأخر الطير . والمؤمن هو
الله سبحانه وهو اسم فاعل من آمن كما قال : الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف أي :
آمنهم من الخوف لكونهم في الحرم وحلولهم فيه . انتهى .
ولم يرض الزمخشري هذا في المفصل في باب الإضافة أن العائذات كان في الأصل الطير
العائذات فحذف الموصوف وجعل العائذات اسماً لا صفة فلما جعلت اسماً احتاجت إلى
تبيين ولا يخفى أن هذا تكلف ولهذا أعرض عنه الشارح . )
____________________
وزعم بعضهم أن الطير بدل بعض من العائذات لأن العائذات عام يقع على الطير والوحش
وغيرهما .
وهذا البيت من قصيدة للنابغة الذبياني وهو أحسن شعره ولهذا ألحقوها بالقصائد
المعلقات مدح بها النعمان بن المنذر ملك الحيرة وتبرأ فيها مما اتهم به عند
النعمان .
وتقدم أبيات منها في باب الاستثناء وفي خبر كان وفي غيرهما .
وهذه أبيات منها : ( فلا لعمر الذي قد زرته حججاً ** وما هريق على الأنصاب من جسد
) والمؤمن العائذات الطّير . . . . . . . . . . . . . . . . البيت ( ما إن أتيت
بشيءٍ أنت تكرهه ** إذن فلا رفعت سوطي إليّ يدي ) ( إذن فعاقبني ربّي معاقبةً **
قرّت بها عين من يأتيك بالحسد ) ( هذا لأبرأ من قولٍ قذفت به ** طارت نوافذه حرّى
على كبدي ) قوله : فلا لعمر الذي الخ لا الداخلة على القسم قيل نافية منفيّها
محذوف أي : ليس الأمر كما زعموا وقيل : زائدة توطئة لنفي جواب القسم وعمر مبتدأ
محذوف الخبر وجوباً أي : قسمي .
وحججاً : جمع حجة بكسر المهملة فيهما وبعدها جيم وهي السنة . أقسم بالبيت الذي
زاره في سنين متعددة وهو البيت الحرام .
____________________
وقوله : وما هريق على الأنصاب هريق بمعنى أريق والهاء بدل من الهمزة . والأنصاب :
حجارة كانت العرب في الجاهلية تنصبها وتذبح عندها . والجسد بفتح الجيم هو الدم .
وما معطوف على الذي وكذا قوله والمؤمن .
وزعم من لم يطلع على البيت الأول أن الواو واو القسم . والعائذات : ما عاذ بالبيت
من الطير قال ثعلب : أراد بالعائذات الحمام لما عاذت بمكة والتجأت إليها حرم قتلها
وآمنها من أن تضام .
وقد أغرب بعضهم بقوله العائذات جمع عائذ وهي الحديثة النتاج من الطيور والبهائم
وهو من عذت بالشيء التجأت إليه لأن الحامل إذا ضربها المخاض عاذت . وهو في الأصل
من باب الكناية . انتهى .
وفيه أن العائذ المعنى المذكور خاص بالناقة . )
والطير : جمع طائر مثل صحب وصاحب وقد يقع على الطير الواحد وجمعه طيور وأطيار .
وركبان : جمع ركب وجملة : يمسحها ركبان مكة حال من الطير . والسند بفتحتين : ما
قابلك ورى أبو عبيدة الغيل بكسر الغين المعجمة وقال : هي والسند أجمتان كانتا بين
مكة ومنى .
وأنكرها الأصمعي وقال : إنما الغيل بالفتح وهو ماء وإنما يعني النابغة ماء كان
يخرج من أبي قبيس .
كذا في شرح ديوان النابغة . ولم يذكر أبو عبيد هذا في معجم ما استعجم .
وقوله : ما إن أتيت بشيء الخ هذا هو جواب القسم . واستشهد به ابن هشام في المغني
على أن إن تزاد بعد ما النافية . يقول : ما فعلت شيئاً تكرهه
____________________
أنت وإلا فلا رفعت يدي إلي
سوطي اي : شلت يدي ولم تقدر على رفع السوط .
وقوله : إذن فعاقبني ربي الخ هذا دعاء آخر على نفسه .
وقوله : هذا لأبرأ الخ أي : هذا القسم لأجل أن أتبرأ مما اتهمت به . والنوافذ
تمثيل من قولهم : جرح نافذ . أي : قالوا قولاً صار حره على كبدي وشقيت به .
وأنشد بعده : وليلٍ أقاسه بطيء الكواكب على أنه يجوز أن توصف النكرة بالجملة قبل
وصفها بالمفرد إذا اجتمعا كما هنا فإن ليلاً قد وصف بجملة أقاسيه قبل وصفه بقوله
بطيء وليس مجروراً بالعطف على هم في صدر البيت كليني لهم يا أميمة ناصب يقول :
دعيني واتركيني لهذا الهم المتعب ومقاساة الليل البطيء الكواكب .
وهذا البيت مطلع قصيدة للنابغة الذبياني أيضاً تقدم الكلام عليه مفصلاً في الشاهد
السابع والثلاثين بعد المائة .
وأنشد بعده
الشاهد الثامن والأربعون بعد الثلاثمائة : الطويل
____________________
( ألا أيّها الطّير
المربّة بالضّحى ** على خالد لقد وقعت على لحم ) على أن الصفة ربما تنوى ولم تذكر
للعلم بها كما هنا . فإن التقدير على لحم أي : لحم .
وأورده في باب اسم الفعل أيضاً على أن التنكير في لحم للابهام أن التفخيم .
وكذا أورده في التفسيرين عند قوله تعالى : أولئكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهم على
تنكير هدى للتعظيم أي : هدى عظيم كتنكير لحم في هذا البيت أي : لحم عظيم .
والفرق بينهما أن الأول مفهوم من اللفظ المحذوف والثاني من الفحوى والمحوج إلى هذا
استقامة المعنى ولولاه لكان لغواً لا يفيد شيئاً ولهذا اعتبر سواء كان بالطريق
الأولى أم الثانية .
ولجوازهما قدر الشارح المحقق هنا الوصف واعتبره هناك من التنكير لما فيه من
الإبهام المقتضى للتفخيم والتعظيم .
ونقل عن الزمخشري أنه كان إذا أنشد هذا البيت يقول : ما أفصحك من بيت وصدر البيت
لم أره كذا إلا في رواية الشارح المحقق . والبيت من شعر مذكور في أشعار هذيل ذكر
في موضعين منها ذكر في الموضع الأول ستة أبيات وفي الموضع الثاني اثنين وثلاثين
بيتاً . أما الرواية الأولى والشعر منسوب لأبي خراش فهي هذه : ( إنّك لو أبصرت
مصبر خالدٍ ** بجنب السّتار بين أظلم فالحزم ) ( لأيقنت أنّ البكر ليس رزيّةً ** و
النّاب لااضطمّت يداك على غنم )
____________________
( تذكّرت شجواً ضافني بعد
هجعةٍ ** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم ) ( لعمر أبي الطّير المربّة بالضّحى **
على خالد لقد وقعت على لحم ) ( كليه وربّي لا تجيئين مثله ** غداة أصابته المنيّة
بالرّدم ) ( ولا وأبي لا تأكل الطير مثله ** طويل النّجاد غير هار ولا هشم ) قوله
: إنك لو أبصرت هذا خطاب لعشيقة خالد بن زهير الهذلي قتل بسببها كما يأتي بيان
قتله . وخالد هو ابن أخت أبي ذؤيب الهذلي . والستار بكسر السين المهملة بعدها
مثناة فوقية وآخره راء مهملة قال البكري في معجم ما استعجم : هو جبل معروف بالحجاز
. وأنشد هذا البيت . )
وأظلم على وزن أفعل التفضيل من الظلم قال البكري : هو موضع قريب من الستار .
والحزم بفتح المهملة وسكون الزاي المعجمة هو موضع يقال له : حزم بني عوال . ووقوع
هذه الفاء بعد بين قد شرحه الشارح المحقق في الفاء العاطفة .
وقوله : لأيقنت أن البكر هو بالفتح الجمل الشاب . والناب : الناقة المسنة . يقول :
لو رأيت هلاك خالد لعلمت أن ذهاب البكر والناب ليسا بمصيبة واستخففت مصابهما .
وقوله : لا اضطمت الخ هو دعاء عليها وهو افتعلت من الضم أي : لا غنمت يداك بل خيبك
الله إذ صرت تحزنين على هذا البكر .
وقوله : تذكرت شجواً هو بضم التاء . والشجو : الحزن . وضافني : نزل بي كالضيف .
والهجعة : النومة . والسجم : السكب .
وقوله : لعمر أبي الطير قال السكري في شرح أشعار هذيل : قوله لقد وقعت على لحم :
كان ممنوعاً . والطير مضبوط بالكسرة في نسختي وهذه نسخة قديمة صحيحة تاريخ كتابتها
في سنة مائتين بعد الهجرة وعليها خطوط العلماء منهم ابن فارس صاحب المجمل في اللغة
كتب
____________________
لعمر مبتدأ محذوف الخبر أي
: قسمي وقوله : لقد وقعت جواب القسم وهو خطاب للطير على الالتفات .
وروى لقد عكفن بدله من العكوف بالغيبة والنون ضمير الطير وعليه لا التفات .
وأراد بأبي الطير الواقعة على لحمه واستعظمها بالقسم بها لاستعظام لحم خالد العظيم
ففيه تعظيم للإقسام عليه بنفسه كما قال أبو تمام : وثناياك إنّها إغريض والمربة :
اسم فاعل صفة للطير من أرب بالمكان إذا أقام به . وروي في التفسيرين : فلا وأبي
الطير المربة بالضحى فلا رد لما يتوهم من تحقيره بأكل الطير له وقيل زائدة . وزعم
بعضهم أن أبي بياء المتكلم والطير بالرفع . وبعض آخر لأن أبي أصله أبين بالجمع
حذفت نونه للإضافة . ولا يخفى ركاكته .
وقال السعد في حاشية الكشاف : وروي برفع الطير على أنه فاعل فعل يفسره لقد عكفن .
وقوله : كليه وربي أمر للطير بالأكل يرغبها في أكلها إياه فإنها لا تجيء إلى مثله
ولا تظفر به .
وقوله : ولا وأبي لا تأكل الطير الخ هار أصله هائر أي : ضعيف ساقط فقلب وحذف )
بالإعلال مثل شاكي السلاح أصله شائك . والهشم :
____________________
الرخو الضعيف .
وأما الرواية الثانية بعد ثماني أوراق بعد هذا ونسبها الأخفش لخراش بن المذكور .
والقصيدة هذه : ( أرقت لهمّ ضافني بعد هجعةٍ ** على خالدٍ فالعين دائمة السّجم ) (
إذا ذكرته العين أغرفها البكا ** وتشرق من تهمالها العين بالدمّ ) ( فباتت تراعي
النّجم عين مريضةٌ ** لما عالها واعتادها الحزن بالسّقم ) عالها : أثقلها وشق
عليها . ( وما بعد أن قد هدّني الحزن هدّةً ** تضال لها جسم ورقّ لها عظمي ) ( وأن
قد أصاب العظم منّي مخامرٌ ** من الدّاء داءٌ مستكنٌّ على كلم ) تضال بمعنى صغر
وضعف وأصله بالهمزة بعد الألف فحذفها للضرورة . ومخامر : مخالط وملازم . والكلم
بالفتح : الجرح . ( وأن قد بدا منّي لما قد أصابني ** من الحزن أنّي ساهم الوجه ذو
همّ ) ( شديد الأسى بادي الشّحوب كأنّني ** أخو جنّةٍ يعتاده الخبل في الجسم )
الساهم : المتغير . الأسى : الحزن . والشحوب : التغير . وجنة بالجيم هو الجن .
____________________
وروي حية بمهملة ومثناة تحتية يعني ملسوعاً . والخبل بفتح المعجمة : فساد الجسم
والعقل . ( يعود على ذي الجهل بالحلم والنّهى ** ولم يك فحّاشاً على الجار ذا عذم
) لا يجتوي بالجيم أي : لا يكره . والعذم بفتح العين المهملة وسكون الذال المعجمة
. العض والوقيعة . ( ولم يك فظّاً قاطعاً لقرابةٍ ** ولكن وصولاً للقرابة ذا رحم )
( وكنت إذا ساجرت منهم مساجراً ** صفحت بفضلٍ في المروءة والعلم ) هذا خطاب لخالد
. وساجرت بالجيم بمعنى عاشرت . والسجير : العشير والصاحب . ( وكنت إذا ما قلت
شيئاً فعلته ** وفتّ بذاك النّاس مجتمع الحزم ) ( وإن تك غالتك المنايا وصرفها **
فقد عشت محمود الخلائق والحلم ) ( كريم سجيّات الأمور محبّباً ** كثير فضول الكفّ
ليس بذي وصم ) ( أشمّ كنصل السّيف يرتاح للنّدى ** بعيداً من الآفات والخلق الوّخم
) ) ( جمعت أموراً ينفذ المرء بعضها ** من الحلم والمعروف والحسن الضّخم ) المرء :
مفعول ينفذ وبعضها فاعله .
يقول : بعض هذه الأمور التي فيك تجعل المرء نافذاً فائقاً لا يقدر على كسبها
____________________
فكيف كلها وقد اجتمعت فيك
. والمرء بكسر الميم في لغة هذيل .
رواية هذا البيت هنا كذا وقعت وقال السكري هنا : أراد التعجب أي : أي لحم وقعت
عليه .
ويروى : ( لقد قلت للطّير المربّة غدوةً ** على خالدٍ لقد وقعت على لحم ) والمربة
: المقيمة . انتهى . ( ولحم امرئٍ لم تطعم الطّير مثله ** عشية أمسى لا يبين من
البكم ) أراد البكم بفتحتين فخفف . ( فكلاّ وربّي لا تعودي لمثله ** عشية لاقته
المنيّة بالرّدم ) ( فلا وأبي لا تأكل الطّير مثله ** طويل النّجاد غير هارٍ ولا
هشم ) ( أبعدك أرجو هالكاً لحياته ** لقد كنت أرجوه وما عشت بالرّغم ) ( فوا اللّه
لا أنساك ما عشت ليلةً ** ضفيٌّ من الإخوان والولد الحتم ) الضفي : فعول من ضفا
يضفو إذا كثر . والحتم : الحق . ( تطيف عليه الطّير وهو ملحّبٌ ** خلاف البيوت وهو
محتمل الصّرم ) الملحب : بفتح الحاء المهملة : المقطع . والصرم بالكسر : الحي . (
لأيقنت أنّ النّاب ليست رزيّةً ** ولا البكر لا التفتّ يداك على غنم ) هذا خطاب مع
المرأة يقول : إن المصيبة قتل ذاك ليس المصيبة ناباً تصابين بها .
____________________
ثم دعا عليها : لا رزق
الله يديك خيراً تلتلف عليه . ( وأيقنت أنّ الجود منه سجيّةٌ ** وما عشت عيشاً مثل
عيشك بالكرم ) ( أتته المنايا وهو غضٌّ شبابه ** وما للمنايا عن حمى النّفس من عزم
) ما : نافية . والكرم بالضم : العزة . والعزم هنا : الصبر . ( وكل امرئٍ يوماً
إلى الموت صائرٌ ** قضاءٌ إذا ما حان يؤخذ بالكظم ) ) ( وما أحدٌ حيٌّ تأخّر يومه
** بأخلد ممّن صار قبل إلى الرّجم ) والكظم بالفتح : الحلق وقيل الفم وقيل مخرج
النفس وأصله بفتحتين فسكن ضرورة . والرجم بالفتح : القبر وأصله أيضاً بفتح الجيم
فسكن . ( سيأتي على الباقين يومٌ كما أتى ** على من مضى حتمٌ عليه من الحتم ) (
جزى اللّه خيراً خالداً من مكافئٍ ** على كلّ حالٍ من رخاءٍ ومن أزم ) ( فلست
بناسيه وإن طال عهده ** وما بعده للعيش عندي من طعم ) وهذا آخر القصيدة . والأزم :
الشدة . وإنما سقتها بتمامها لحسنها وانسجامها ولأن شراح وروى قصة قتله قال :
زعموا أن رجلاً من هذيل كان يقال له : وهب بن جابر هوي امرأة من هذيل كان يقال لها
أم عمرو فاصطاد يوماً ظبية فقال يخاطبها : الوافر ( فما لك يا شبيهة أمّ عمرو **
إذا عاينتنا لا تأمنينا ) ( فعينك عينها إذ قمت وسنى ** وجيدك جيدها لو تنطقينا )
============
=
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق